أبحاث قرآنية مستلة من مجلات عامة غير متخصصة بالقرآن الكريم وعلومه
تدوينات حديثة
  • الفروق الحركيّــة فيما اتّحدتْ حروفها من القراءات الفرْشيّة وأثرها في المعنى والتدبر - دراسةٌ تطبيقيّةٌ
    إعداد : د. محمد عبدالكريم بيغام

    بحث تم نشره في مجلة: (تدبر) العدد: (١٢)
    الفروق الحركيّــة فيما اتّحدتْ حروفها من القراءات الفرْشيّة وأثرها في المعنى والتدبر - دراسةٌ تطبيقيّةٌ إعداد : د. محمد عبدالكريم بيغام بحث تم نشره في مجلة: (تدبر) العدد: (١٢)
    الفروق الحركيّــة فيما اتّحدتْ حروفها من القراءات الفرْشيّة وأثرها في المعنى والتدبر - دراسةٌ تطبيقيّةٌ).pdf
    1
  • النسخ في القرآن الكريم
    إعداد : الشيخ عبد الله بن حمد بن عبد الله الشبانة
    الأمين العام المساعد لهيئة كبار العلماء

    (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد التاسع والعشرون - الإصدار : من ذو القعدة إلى صفر لسنة 1410هـ 1411هــ)

    مقدمة
    الحمد لله الملك الحق المبين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد : فإن خير الكلام كلام الله جل جلاله ، وأحسن الحديث حديثه عز وجل ، فلا غرو إذًا أن يكون الاشتغال به تَعَلُّما وتعليما ودراسة وتَفَهُّما أشرف ما عمرت به الأوقات ، وأعظم ما اشتغل به الأفراد والجماعات ؛ ذلك أنه الدليل إلى كل خير ، والعاصم من كل شر ؛ لأنه حبل الله المتين الذي من تمسك به نجا وسعد في الدارين ، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكا ، ويحشر يوم القيامة أعمى ، فيكون نصيبه والعياذ بالله خسارة الحال وخسارة المآل . وقد اشتغل بكتاب الله الكريم وتفسيره وسائر علومه نفر غير قليل من العلماء قديما وحديثا فألَّفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة ، وكتبوا البحوث المستفيضة في تفسير كلام الله تبارك وتعالى ، وإيضاح مبهمه وتفصيل مجمله ، وشرح ألفاظه وبيان معانيه ، واستنباط الأحكام من آياته وبيان ناسخه ومنسوخه ومكيه ومدنيه ، وغير ذلك مما يندرج تحت ما يسمى بعلوم القرآن الكريم .
    وقد عدَّ الدكتور حاتم صالح الضامن محقق كتاب ( الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى ) لقتادة بن دعامة السدوسي واحدا وسبعين مؤلَّفا في هذا الباب مما يدل على عظم شأن هذا العلم من علوم كتاب الله العزيز ، وأنه مدخل من أهم مداخل تفسيره ، والبحث في لجته والغوص في أعماقه .
    يدل على ذلك ما ذكره العلماء اتفاقا من أن معرفة هذا العلم واجبة على كل من تصدى لتفسير القرآن الكريم ، أو استنباط الأحكام منه ، أو تصدى للإفتاء أو للقضاء بين الناس ؛ لئلا يوجب على خلق الله ما لم يوجبه الله عليهم ، أو يسقط عنهم أمرا أوجبه عليهم . فقد روى ابن عبد البر بسنده عن يحيى بن أكثم قال : ( ليس من العلوم كلها علم هو واجب على العلماء وعلى المتعلمين وعلى كافة المسلمين من علم ناسخ القرآن ومنسوخه ؛ لأن الأخذ بناسخه واجب فرضا ، والعمل به واجب ديانة ، والمنسوخ لا يعمل به ولا ينتهى إليه ، فالواجب على كل عالم علم ذلك ؛ لئلا يوجب على نفسه وعلى عباد الله أمرا لم يوجبه الله ، أو يضع عنهم فرضا أوجبه الله ) اهـ .
    وقال الإمام العلامة مكي بن أبي طالب القيسي في كتابه ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) ص 45 ( نشر دار المنارة ) : ( وإن من آكد ما عني أهل العلم والقرآن بفهمه وحفظه والنظر فيه من علوم القرآن ، وسارعوا إلى البحث عن فهمه وعلمه وأصوله علم ناسخ القرآن ومنسوخه ، فهو علم لا يسع كل من تعلق بأدنى علم من علوم الديانة جهله ) . اهـ .
    وقد قال علي رضي الله عنه : ( لا يفتي الناس إلا من عرف الناسخ والمنسوخ ) . وروي عنه رضي الله عنه أنه دخل المسجد فرأى رجلا يُذكّر الناس فقال له : أتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا . قال : فاخرج من مسجدنا ولا تُذكّر فيه . وفي لفظ آخر أنه قال له : من أنت ؟ قال : أنا أبو يحيى قال : بل أنت أبو اعرفوني وجاء عنه في خبر آخر أنه رضي الله عنه مر بقاضٍ فقال له : أتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالحكمة في قوله تعالى : يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ هو معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره ونحو ذلك وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي ( ابن راهويه ) رحمه الله : ( من لم يعرف الصحيح والسقيم من الحديث والناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة لم يكن عالما ) وقال أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله فيمن يتصدر لمهمة الإفتاء : ( لا يحل له أن يفتي حتى يعرف أحكام الكتاب والسنة والناسخ والمنسوخ وأقاويل الصحابة والمتشابه ووجوه الكلام ) .
    فمن ذلك تظهر لنا قيمة هذا العلم وأهميته البالغة لعموم المسلمين ، ولمن تصدى منهم لتفسير كتاب الله أو للقضاء ، أو لفتيا على وجه الخصوص ؛ إذ حاجة هؤلاء إليه أمس ، وضرورة إحاطتهم به أشد .
    وسأحاول في هذه العجالة المتمثلة في هذا البحث المتواضع عن ( النسخ في القرآن الكريم ) أن ألم بكامل الموضوع إلمامة عجلى ، فأوضح معنى النسخ في اللغة وفي الاصطلاح ، ثم أذكر الفرق بينه وبين التخصيص . ثم أشير إلى شروط النسخ التي ذكرها العلماء ، ثم أعرج على بيان آراء العلماء في حكم النسخ ووقوعه أصلا من عدمه ، مع مناقشتها وترجيح ما يترجح لدي منهما . بعد ذلك سأورد تفسيرا تحليليا للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم . ثم أبين ما يقع فيه النسخ في القرآن ، ثم أتحدث عن أنواع النسخ في القرآن الكريم ، مختتما ذلك بإيراد أمثلة للنسخ في القرآن ، وأمثلة لما قيل أنه نسخ وليس كذلك ، جاعلا الحديث عن كل قسم من ذلك في فصل مستقل إيضاحا له ، وتركيزا عليه ، وفي نهاية البحث سأورد خاتمة له تتضمن نتائج البحث وخلاصة له .
    وأرجو من الله سبحانه العون وأستمد التوفيق . وهو المسئول سبحانه أن يعلمنا ما ينفعنا ، وأن ينفعنا بما علمنا ، وأن يزيدنا من لدنه علما .
    سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

    الفصل الأول
    النسخ لغة واصطلاحا
    قال الجوهري في الصحاح : نسخت الشمس الظل وانتسخته : أزالته ونسخت الريح آثار الدار : غيرتها ونسختُ الكتاب وانتسختُه واستنسختُه كله بمعنى . والنسخة بالضم : اسم المنتسخ منه ، ونسخ الآية بالآية إزالة مثل حكمها ، فالثانية ناسخة والأولى منسوخة ، والتناسخ في الميراث : أن يموت ورثة بعد ورثة ، وأصل الميراث قائم لم يقسم اهـ .
    وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة : النون والسين والخاء أصل واحد إلا أنه مختلف في قياسه . قال قوم : قياسه رفع شيء وإثبات غيره مكانه وقال آخرون : قياسه تحويل شيء إلى شيء : قالوا : النسخ : نسخ الكتاب والنسخ : أمر كان يعمل به من قبل ثم ينسخ بحادث غيره كالآية ينزل فيها أمر ثم تنسخ بآية أخرى . وكل شيء خلف شيئا فقد انتسخه وانتسخت الشمس الظل والشيب الشباب . وتناسخ الورثة : أن يموت ورثة بعد ورثة وأصل الإرث قائم لم يقسم ، ومنه تناسخ الأزمنة والقرون .
    قال السجستاني : النسخ : أن تحول ما في الخلية من العسل والنحل في أخرى قال ومنه نسخ الكتاب اهـ .
    وجاء في المعجم الوسيط الذي وضعه مجمع اللغة العربية بالقاهرة في مادة نسخ : نسخ الشيء نسخا أزاله يقال : نسخت الريح آثار الديار ونسخت الشمس الظل ونسخ الشيب الشباب . ويقال : نسخ الله الآية : أزال حكمها وفي التنزيل العزيز مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ويقال : نسخ الحاكم الحكم أو القانون : أبطله . والكتاب : نقله وكتبه حرفا بحرف .
    انتسخ الشيء : نسخه والكتاب نسخه وتناسخ الشيئان : نسخ أحدهما الآخر يقال : أبلاه تناسخ الملوين . وتناسخت الأشياء : تداولت فكان بعضها مكان بعض . . . إلى آخر ما قال في ذلك مما لا يعنينا إيراده هنا .
    وجاء في المصباح المنير للمقري الفيومي في مادة نسخ . قوله : نسخت الكتاب نسخا من باب نفع : نقلته ، وانتسخته كذلك ، ثم نقل عن ابن فارس قوله المتقدم : إن كل شيء خلف شيئا فقد انتسخه . إلى أن قال المقري : و( النسخ ) الشرعي إزالة ما كان ثابتا بنص شرعي ، ويكون في اللفظ والحكم وفي أحدهما ، سواء فُعل كما في أكثر الأحكام أو لم يُفعل كنسخ ذبح إسماعيل بالفداء ؛ لأن الخليل عليه السلام أمر بذبحه ثم ( نسخ ) قبل وقوع الفعل . إلى آخر ما أورده مما مر ذكره فيما قدمنا .
    وعلى هذا فيكون معنى النسخ في اللغة دائرا حول ثلاثة أوجه :
    أولها : أن يكون بمعنى النقل ( نسخت الكتاب ) أي نقلت ما فيه إلى كتاب آخر فهذا لم يغير المنسوخ منه وإنما صار نظيرا له أي نسخة ثانية منه ، وهو بهذا المعنى لا يدخل في النسخ الذي هو موضوع بحثنا .
    وثانيها : أن يكون بمعنى الإزالة وحلول المزيل محل المزال كقولهم ( نسخت الشمس الظل ) إذا أزالته وحلت محله ، وهذا المعنى هو الذي يدخل في موضوع ناسخ القرآن ومنسوخه الذي هو مدار بحثنا .
    وثالثها : أن يكون بمعنى الإزالة مع عدم حلول المزيل محل المزال فكأنه بمعنى المحو كقولهم ( نسخت الريح الآثار ) إذا أزالتها فلم يبق منها عوض ولا حلت الريح محل الآثار فهذا هو معنى النسخ في اللغة وأما في الاصطلاح فإن معناه ( رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ) ، فالحكم المرفوع يسمى ( المنسوخ ) والدليل الرافع له يسمى ( الناسخ ) ، ويسمى الرفع ( النسخ ) ، فالنسخ إذا يقتضي ( منسوخا ) وهو الحكم الذي كان مقررا سابقا وهو الدليل اللاحق .
    وعرف الإمام العلامة مكي بن أبي طالب النسخ في الاصطلاح بأنه ( إزالة حكم المنسوخ كله بغير حرف متوسط ببدل حكم آخر أو بغير بدل في وقت معين فهو بيان الأزمان التي انتهى إليها العمل بالفرض الأول ، ومنها ابتدأ الفرض الثاني الناسخ للأول ) وعرفه العلامة عبد القاهر البغدادي بقوله ( وقال أصحابنا : إن النسخ بيان انتهاء مدة التعبد ) وعرفه ابن حزم في الإحكام بأنه بيان انتهاء
    ( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 213)
    زمان الأمر الأول فيما لا يتكرر . وهو قريب من تعريف البغدادي . وإليه ذهب الجصاص وأبو إسحاق الإسفرائيني وغيرهم وتابعهم القرافي حيث عرفوه بأنه ( بيان لانتهاء مدة الحكم ) زاد الجصاص ( والتلاوة ) وهناك تعريفات أخرى كثيرة غير ما أوردنا تقترب مما أوردناه حينا وتبتعد عنه أحيانا ، ولا نرى المجال يتسع لسردها جميعا وفيما ذكرناه غنية وكفاية

    الفصل الثاني
    الفرق بين النسخ والتخصيص
    سبق أن عرفنا النسخ في الاصطلاح بأنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي في حين أنهم يعرفون التخصيص بأنه ( قصر العام على بعض أفراده ) أو أنه ( إزالة بعض الحكم بغير حرف متوسط فهو بيان الأعيان ) وأنه إنما يجوز على قول من أجاز تأخير البيان ، وهو أن يأتي لفظ ظاهره العموم لما وقع تحته ، ثم يأتي لفظ نص آخر أو دليل أو قرينة أو إجماع يدل على أن ذلك اللفظ الذي ظاهره عام ليس بعام ، والتخصيص إنما هو بيان اللفظ الأول أنه ليس بعام في كل ما تضمنه ظاهر اللفظ ، فهو بيان الأعيان ، فهذا هو الأصل الذي يعتمد عليه في الفرق بين النسخ والتخصيص . فالنسخ بيان الأزمان التي انتهى إليها العمل بالفرض الأول ، وابتدأ منها الفرض الثاني ، والتخصيص بيان الأعيان الذين عمهم اللفظ أن بعضهم غير داخل تحت ذلك اللفظ ، فالنسخ لا يكون إلا منفصلا من المنسوخ ، والتخصيص يكون منفصلا ومتصلا بالمخصص وقد ذكر العلماء عددا من الفروق بين النسخ والتخصيص يجعلها بعضهم خمسة ويوصلها آخرون إلى سبعة فروق نجملها فيما يلي :
    الأول : إن العام بعد تخصيصه خاص ، لأن مدلوله وقتئذ بعض أفراده مع أن لفظه موضوع للكل والقرينة هي المخصص ، وكل ما كان كذلك فهو خاص . أما النص المنسوخ فما زال كما كان مستعملا فيما وضع له ، غايته أن الناسخ دل على أن إرادة الله تعلقت أزلا باستمرار هذا الحكم إلى وقت معين ، وإن كان النص المنسوخ متناولا جميع الأزمان ، ويظهر ذلك جليا فيما إذا قال الشارع مثلا : افعلوا كذا أبدا ، ثم نسخه بعد زمن قصير ، فإنه لا يعقل أن يكون مدلوله ذلك الزمن القصير دون غيره ، بل هو ما زال كما كان مستعملا في جميع الأزمان نصا بديل قوله ( أبدا ) غير أن العمل بهذا النص الشامل لجميع الأزمان لفظا قد أبطله الناسخ ؛ لأن استمرار العمل بالنص مشروط بعدم ورود ناسخ ينسخه أيا كان ذلك النص وأيا كان ناسخه . فإن سأل سائل ما حكمة تأبيد النص لفظا بينما هو مؤقت في علم الله أزلا ؟ أجبناه بأن حكمته ابتلاء الله لعباده أيخضعون لحكمه مع تأبيده عليهم هذا التأبيد الظاهري أم لا ؟ فإذا ماز الله الخبيث من الطيب والمطمئن لحكمه من المتمرد عليه ، جاء النسخ لحكمة أخرى من التخفيف ونحوه .
    الثاني : إن حكم ما خرج بالتخصيص لم يك مرادا من العام أصلا ، بخلاف ما خرج بالنسخ ، فإنه كان مرادا من المنسوخ لفظا .
    الثالث : إن التخصيص لا يتأتى أن يأتي على الأمر لمأمور واحد ، ولا على النهي لمنهي واحد ، أما النسخ فيمكن أن يعرض لهذا كما يعرض لغيره ، ومن ذلك نسخ بعض الأحكام الخاصة به صلى الله عليه وسلم .
    الرابع : إن النسخ يبطل حجية المنسوخ ، إذا كان رافعا للحكم بالنسبة إلى جميع أفراد العام ، ويبقى على شيء من حجيته إذا كان رافعا للحكم عن بعض أفراد العام دون بعض ، أما التخصيص فلا يبطل حجية العام أبدا ، بل العمل به قائم فيما بقي من أفراده بعد تخصيصه .
    الخامس : إن النسخ لا يكون إلا بالكتاب والسنة بخلاف التخصيص ، فإنه يكون بهما وبغيرهما كدليل الحس والعقل فقول الله سبحانه : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا قد خصصه قوله صلى الله عليه وسلم لا قطع إلا في ربع دينار . وهذا قوله سبحانه : تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا قد خصصه ما شهد به الحس من سلامة السماء والأرض وعدم تدمير الريح لهما .
    السادس : إن النسخ لا يكون إلا بدليل متراخ عن المنسوخ أما التخصيص فيكون بالسابق واللاحق والمقارن ، وقال قوم : لا يكون التخصيص إلا بمقارن فلو تأخر عن وقت العمل بالعام كان هذا المخصص ناسخا للعام بالنسبة لما تعارضا فيه ، كما إذا قال الشارع : ( اقتلوا المشركين ) وبعد وقت العمل به قال : ( ولا تقتلوا أهل الذمة ) ، ووجهة نظر هؤلاء أن المقصود بالمخصص بيان المراد بالعام ، فلو تأخر وقت العمل به لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وذلك لا يجوز ، فلم يبق إلا اعتباره ناسخا .
    السابع : إن النسخ لا يقع في الأخبار بخلاف التخصيص فإنه يكون في الأخبار وفي غيرها .
    وقد نقل الشيخ محمد حمزة في كتابه (دراسات في الإحكام والنسخ ) عن الإمام الغزالي أنه حصر الفرق بين التخصيص والنسخ في خمسة أمور . ولا نجد فيها غير ما أورده غيره من الفروق التي أجملناها آنفا إلا ما كان من قوله الخامس : إن تخصيص العام المقطوع بأصله جائز بالقياس وبخبر الواحد وسائر الأدلة ، ونسخ القاطع لا يجوز إلا بقاطع ( وقد علق الشيخ محمد حمزة على ذلك بقوله : أقول تفريق ممتاز على ما في ذلك من الخلاف ، فإن الأحناف اشترطوا المقارنة في المخصص للعام ، فإذا تراخى عنه فهو نسخ لا تخصيص ، كما تقدم ولا يجوز عند الأحناف تخصيص الكتاب بخبر الواحد ؛ لأن دلالة العام على عمومه قطعية عندهم وخبر الآحاد ظني ، أما الحديث المشهور فهو عندهم قطعي الثبوت كالمتواتر ، فيجوز تخصيص الكتاب به وتقييد مطلقه ) اهـ .

    الفصل الثالث
    شروط النسخ
    للنسخ شروط لا بد من توافرها لكي يعتبر من قبيل النسخ لا من قبيل غيره كتخصيص العام أو تقييد المطلق أو الاستثناء . . . إلخ . وكل ما لم تتوافر فيه هذه الشروط التي سنذكرها هنا أُرجع إلى نوع من تلك الأنواع التي ذكرناها أو إلى غيرها .
    وما توافرت فيه تلك الشروط اعتبر نسخا . وشروط النسخ نوعان :
    أحدهما : شروط متفق عليها والنوع الثاني : شروط مختلف فيها .
    فأما الشروط المتفق عليها فمنها :
    1 - أن يكون المنسوخ حكما شرعيا؛ لأن الأمور العقلية التي مستندها البراءة الأصلية لم تنسخ وإنما ارتفعت بإيجاب العبادات .
    2 - أن يكون النسخ بخطاب شرعي لا بموت المكلف؛ لأن الموت مزيل للحكم لا ناسخ له .
    3 - ألا يكون الحكم السابق مقيدا بزمان مخصوص نحو قوله عليه الصلاة والسلام لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس .
    فإن الوقت الذي يجوز فيه أداء النوافل التي لا سبب لها مؤقت ، فلا يكون نهيه عن هذه النوافل في الوقت المخصوص نسخا لما قبل ذلك من الجواز؛ لأن التوقيت يمنع النسخ .
    4 - أن يكون الناسخ متراخيا عن المنسوخ .
    وأما الشروط المختلف فيها فمنها :
    1 - أن يكون الناسخ مثل المنسوخ في القوة أو أقوى منه لا دونه؛ لأن الضعيف لا ينسخ القوي .
    2 - أن يكون ناسخ القرآن قرآنا وناسخ السنة سنة .
    3 - أن يكون قد ورد الخطاب الدال على بيان انتهاء الحكم بعد التمكن من الفعل .
    4 - أن يكون الناسخ مقابلا للمنسوخ مقابلة الأمر للنهي والمضيق للموسع .
    5 - أن يكون الناسخ والمنسوخ نصين قاطعين .
    6 - أن يكون النسخ ببدل مساو أو مما هو أخف منه .
    7 - أن يكون الخطاب المنسوخ حكمه مما لا يدخله الاستثناء أو التخصيص .
    وقد نقل صاحب كتاب ( نظرية النسخ في الشرائع السماوية ) عن الآمدي في الإحكام والزرقاني في مناهل العرفان أن الراجح كونه لا داعي لهذه الشروط السبعة .
    وقد عد صاحب ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) من شروط الناسخ أن يكون منفصلا من المنسوخ منقطعا منه ، فإن كان متصلا به غير منقطع عنه لم يكن ناسخا لما قبله مما هو متصل به ، نحو قوله تعالى : وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فليس قوله فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ ناسخا لقوله حَتَّى يَطْهُرْنَ في قراءة من خفف يَطْهُرْنَ ؛ لأنه متصل به ، فالأول يراد به ارتفاع الدم والثاني التطهير بالماء .
    كما عد من شروط المنسوخ أن يكون غير متعلق بوقت معلوم لا يعلم انتهاء وقت فرضه إلا بنص ثان يبين أن فرض الأول إلى الوقت الذي فرض فيه الثاني ولذلك قيل في قوله تعالى فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ : إنه غير منسوخ بالأمر بالقتال في (براءة) ؛ لأن الله جعل له أجلا ووقتا وهو إتيان أمره بالقتال وترك الصفح والعفو ، وإنما كان يكون منسوخا بالقتال لو قال : فاعفوا واصفحوا أمرا غير مؤقت ، كما قال : فاعف عنهم واصفح . فهذا منسوخ بالقتال وقيل : إنه منسوخ بالقتال؛ لأن الأجل غير معلوم ، ولو قال : فاعفوا واصفحوا إلى وقت كذا . وذكر الأمر لكان النسخ غير جائز فيه ، ولكنه أبهم الوقت ولم يحده ، فالنسخ فيه جائز وعلى ذلك أكثر العلماء .
    ومضى صاحب الإيضاح يعدد شروطا للنسخ فقال : ومن شروط الناسخ أن يكون موجبا للعلم والعمل كالمنسوخ ومن هاهنا منع نسخ القرآن بخبر الآحاد؛ لأن أخبار الآحاد توجب العمل ولا توجب العلم والقرآن يوجبهما جميعا . وإنما وقع الاختلاف في جواز نسخ القرآن بالأخبار المتواترة التي توجب العلم والعمل كالقرآن .
    وقد عد الإمام العلامة مكي بن أبي طالب جواز نسخ الأثقل بالأخف من شروط الناسخ ، ومثل لذلك بتخفيف قوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ بقوله سبحانه : فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وأنه لذلك قال تعالى : نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أي بأخف منها عليكم أو مثلها في الثقل وأعظم في الأجر .
    وكذلك نسخ الأخف بالأثقل نحو نسخ صيام يوم عاشوراء أو صيام ثلاثة أيام من كل شهر بصوم شهر رمضان وقال بعد أن ساق أمثلة أخرى لهذا الوجه ( وقد ذهب بعض المؤلفين للناسخ والمنسوخ إلى أنه لا يجوز أن ينسخ الأخف بالأثقل وتأول فيما ذكرنا تأويلات تخرجه من النسخ ، والعمل عند أكثرهم على ما بيناه ) كما عد الإمام العلامة أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) من شرط الناسخ والمنسوخ أن يكونا شرعيين يجوز في العقل ورود الأمر بكل واحد منهما على البدل ، فأما الذي لا يجوز ورود الشرع بخلافه ؛ كاعتقاد توحيد الصانع واعتقاد صفاته وعدله وحكمته ، واعتقاد فساد الكفر فلا يجري في هذا النوع نسخ ولا تبديل ، وكذلك كل ما دل العقل على كونه على وجه مخصوص ، فلا يجوز أن يكون الناسخ والمنسوخ كلاهما منصوصا عليه أو مدلولا عليه بدليل الخطاب أو مفهومه ، ‌‌‌فأما الذي ثبت بالإجماع فلا يجوز نسخه؛ لأن الإجماع إنما يستقر بعد انقضاء زمان النسخ ، فإذا اجتمعت الأمة على حكم ووجد خبر بخلافه استدللنا بالإجماع على سقوط الخبر أو نسخه ، أو تأويله على غير ظاهره .

    الفصل الرابع
    الآراء في حكم النسخ ومناقشتها
    هنالك إجماع من علماء المسلمين بل أجمعت الأمة كلها على جواز النسخ عقلا ووقوعه سمعا ، كما أن جميع الملل تكاد تتفق على ذلك ، إلا من بعض الطوائف التي أنكرت ذلك وأوردت شبها كثيرة لمنعه ، واستدلت بأدلة لا تقوى على الصمود عند مناقشتها ، وسنفصل القول في بيان ذلك في ثنايا هذا الفصل إن شاء الله تعالى ، وقد عني كثير من العلماء ببيان وجه الحق في ذلك وقرروا إمكان وقوع النسخ في شريعة الإسلام ، وكذلك في الشرائع السابقة ، وقاموا بتفنيد شبه المنكرين للنسخ والرد عليها وإبطالها .
    فقد استدلوا على جواز وقوع النسخ في القرآن بقوله تعالى يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ قال ابن عباس وغيره : معناه يمحو ما يشاء من أحكام كتابه ، فينسخه ببدل أو بغير بدل ، ويثبت ما يشاء فلا يمحوه ولا ينسخه ، ثم قال : وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ قال ابن عباس : معناه عنده ما ينسخ ويبدل من الآية والأحكام ، وعنده ما لا ينسخ ولا يبدل ، كل في أم الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ ، ومثل هذا المعنى قال قتادة وابن زيد وابن جريج وغيرهم في هذه الآية ، وقد قيل غير ذلك . فهذا يدل على جواز النسخ بنص القرآن .
    وقد اعترض مكي بن أبي طالب على استدلال جماعة على جواز النسخ في القرآن بقوله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ قائلا : إن هذا إنما يدل على جواز النسخ فيما يزيد الشيطان في تلاوة النبي أو الرسول من الباطل ، خاصة وليس يدل علي جواز النسخ فيما ينزله الله ويأمر به ، فلا حجة فيه لمن استدل به على جواز نسخ ما هو من عند الله من الحق .
    ومضى مكي يستعرض الأدلة القرآنية على جواز النسخ في القرآن فقال :
    ( ويدل على جواز النسخ للقرآن أيضا قوله تعالى : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ( 101 ) النحل فهذا نص ظاهر في جواز زوال حكم آية ووضع أخرى موضعها . إلى أن قال : ويدل على جواز النسخ للقرآن أيضا قوله تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ( 106 ) البقرة . فهذا نص ظاهر في جواز النسخ للقرآن بالقرآن . إلى أن قال : ويدل على جواز النسخ أيضا قوله تعالى : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ( 48 ) المائدة . فمعلوم أن شريعة كل رسول نسخت شريعة من كان قبله .
    ورد مكي كذلك استدلال من استدل بقوله تعالى : وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ( 86 ) الإسراء على جواز النسخ بقوله : فهذا إنما يراد به إذهاب ما لا يجوز نسخه من الأخبار وغيرها . وما لا يجوز نسخه لو شاء الله لأذهب حفظه كله من القلوب بغير عوض وما تقدم واقع في دائرة الاستدلال القرآني بيد أن هناك استدلالات عقلية أوردها المثبتون للنسخ القائلون بجوازه وقد أجملها صاحب ( مناهل العرفان ) في الأدلة الأربعة التالية :
    أولا : إن النسخ لا محظور فيه عقلا وكل ما كان كذلك جائز عقلا . أما الكبرى فمسلمة وأما الصغرى فيختلف دليلها عند أهل السنة عن دليلها عند المعتزلة تبعا لاختلاف الفرقتين في أن أحكام الله تعالى يجب أن تتبع المصلحة لعباده أو لا يجب أن تتبعها ، فأهل السنة يقولون : إنه لا يجب على الله تعالى لعباده شيء بل هو سبحانه الفاعل المختار والكبير المتعال ، وله بناء على اختياره ومشيئته وكبريائه وعظمته أن يأمر عباده بما شاء وينهاهم عما شاء ، وأن يبقي من أحكامه على ما شاء وأن ينسخ منها ما شاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ، ولا ملزم يلزمه برعاية مصالح عباده ، ولكن ليس معنى هذا أنه عابث أو مستبد أو ظالم ، بل إن أحكامه وأفعاله كلها جل جلاله لا تخلو عن حكمة بالغة وعلم واسع وتنزه عن البغي والظلم وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ( 46 فصلت ) . وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ( 49 ) الكهف .
    إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 83 ) و( 128 ) الأنعام . والمعتزلة يقولون : إنه تعالى يجب أن يتبع في أحكامه مصالح عباده فما كان فيه مصلحة لهم أمرهم به وما كان فيه مضرة عليهم نهاهم عنه . وما دار بين المصلحة تارة والمفسدة تارة أمرهم به تارة ، ونهاهم عنه أخرى . وإذا تقرر هذا فإن صغرى ذلك الدليل نستدل عليها من مذهب أهل السنة هكذا : النسخ تصرف في التشريع من الفاعل المختار الكبير المتعال ، الذي لا يجب عليه رعاية مصالح عباده في تشريعه ، وإن كان تشريعه لا يخلو من حكمه ، وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا .
    وأما على مذهب الاعتزال فننظم الدليل هكذا : النسخ مبني على أن الله تعالى يعلم مصلحة عباده في نوع من أفعالهم وقتا ما ، فيأمرهم به في ذلك الوقت ويعلم ضرر عباده في هذا النوع نفسه من أفعالهم ولكن في وقت آخر ، فينهاهم عنه في ذلك الوقت الآخر ، وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا . وكيف يكون محظورا عقلا ونحن نشاهد أن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال . إلى أن قال : وإلى هذا الدليل تشير الآية الكريمة مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ( 106 ) البقرة . . . إلخ .
    ثانيا وهو دليل إلزامي للمنكرين : إن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما جوزوا أن يأمر الشارع عباده بأمر مؤقت ينتهي بانتهاء وقته ، لكنهم يجوزون هذا عقلا ، ويقولون بوقوعه سمعا ، فليجوزوا هذا ؛ لأنه لا معنى للنسخ إلا انتهاء الحكم الأول لميقات معلوم عند الله ، بيد أنه لم يكن معلوما لنا من قبل ثم أعلمنا الله إياه بالنسخ ، وهذا ليس بفارق مؤثر ، فقول الشارع مثلا أول يوم من رمضان : ( صوموا إلى نهاية هذا الشهر ) مساو لأن يقول أول يوم من رمضان : ( صوموا ) من غير تقييد بغاية حتى إذا ما انتهى شهر رمضان ، قال أول يوم شوال : ( أفطروا ) ، وهذا الأخير نسخ لا ريب فيه وقد جوز منكروه المثال الأول فليجوزوا هذا المثال الثاني لأنه مساويه والمتساويان يجب أن يتحد حكمهما وإلا لما كانا متساويين .
    ثالثا : إن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما ثبتت رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ، لكن رسالته العامة للناس ثابتة بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي يطول شرحها . إذن فالشرائع السابقة ليست باقية بل هي منسوخة بهذه الشريعة الختامية . وإذن فالنسخ جائز وواقع . أما ملازمة هذا الدليل فنبرهن عليها بأن النسخ لو لم يكن جائزا وواقعا ، لكانت الشرائع الأولى باقية ، ولو كانت باقية ما ثبتت رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة .
    رابعا : ما يأتي من أدلة الوقوع السمعي؛ لأن الوقوع يستلزم الجواز وزيادة ، والأدلة السمعية على وقوع النسخ نوعان : أحدهما : تقوم به الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى من غير توقف على إثبات نبوة الرسول لهم . والثاني : تقوم به الحجة على من آمن بنبوته صلى الله عليه وسلم كأبي مسلم الأصفهاني من المسلمين ، وكالعيسوية من اليهود ، فإنهم يعترفون برسالته عليه الصلاة والسلام ، ولكن يقولون : إلى العرب خاصة ، وهؤلاء تلزمهم بأنهم متى سلموا برسالته وجب أن يصدقوه في كل ما جاء به ، ومن ذلك عموم دعوته ، والنسخ الوارد في الكتاب والسنة .
    فأمثلة النوع الأول كثيرة منها :
    1 - ما جاء في السفر الأول من التوراة أن الله تعالى قال لنوح عند خروجه من السفينة : ( إني جعلت كل دابة حية مأكلا لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ) ثم اعترفوا بعد ذلك بأن الله حرم كثيرا من الدواب على أصحاب الشرائع من بعد نوح ومنهم موسى نفسه كما جاء في السفر الثالث من توراتهم .
    2 - جاء في التوراة أن الله تعالى أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه وورد أنه كان يولد في كل بطن من البطون ذكر وأنثى فكان يزوج توأمة هذا للآخر ويزوج توأمة الآخر لهذا ، وهكذا إقامةً لاختلاف البطون مقام اختلاف الآباء والأمهات والأنساب ، ثم حرم الله ذلك بإجماع المتدينين من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم .
    3 - إن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده - عليهما السلام - ثم قال الله له لا تذبحه وقد اعترف منكرو النسخ بذلك .
    4 - إن عمل الدنيا كان مباحا يوم السبت لليهود ومنه الاصطياد ثم حرم الله الاصطياد على اليهود باعترافهم .
    5 - إن الله أمر بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم أمرهم برفع السيف عنهم إلى غير ذلك من الأدلة السمعية التي تقوم بها الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى .
    وأما أمثلة النوع الثاني وهو الذي تقوم به الحجة على منكري النسخ من المسلمين ومن يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم كالعيسوية من اليهود فهي كثيرة أيضا ، وأوردنا طرفا منها في مستهل هذا الفصل نقلا عن الإمام العلامة مكي بن أبي طالب القيسي في كتابه ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) .
    ويتبين مما ذكرناه أن أهل الأديان على مذاهب ثلاثة في النسخ :
    أولها : إنه جائز عقلا وواقع سمعا . وعليه إجماع المسلمين من قبل أن يظهر أبو مسلم الأصفهاني ومن شايعه ، وعليه أيضا إجماع النصارى من قبل معاصريهم الذين خرقوا الإجماع وركبوا رءوسهم فأنكروا النسخ ؛ ليصلوا من هذا الإنكار إلى بقاء ديانتهم بجانب الديانة الإسلامية بدعوى أن الشريعة لا تنسخ الشريعة قبلها ، وهو رأي العيسوية إحدى طوائف اليهود الثلاث .
    ثانيها : إن النسخ ممتنع عقلا وسمعا وهو ما جنح إليه نصارى هذا العصر وتقول به أيضا الشمعونية ، وهم طائفة ثانية من طوائف اليهود .
    ثالثها : إن النسخ جائز عقلا ممتنع سمعا وبه تقول العنانية وهي الطائفة الثالثة من طوائف اليهود . كما يعزى هذا الرأي إلى أبي مسلم الأصفهاني من المسلمين ، ولكن على اضطراب في النقل عنه وعلى تأويل يجعل خلافه لجمهور المسلمين أشبه بالخلاف اللفظي إن لم يكن كذلك فعلا .
    كما يتبين أيضا أن النسخ مجمع على جوازه عقلا ولم يخرج عن هذا الإجماع إلا " الشمعونية " إحدى فرق اليهود وبعض نصارى هذا الزمان ، ولا شك أن مذهب هؤلاء المنكرين هو أخطر المذاهب وأشنعها في هذا الباب وأبعدها عن الحق وأكثرها مجانبة للصواب وولوغا في الباطل . إذ إن مجرد إنكار الجواز العقلي إنكار للوقوع الشرعي بالضرورة ؛ إذ لا يمكن أن يقع في الوجود ما أحاله العقل .

    شبهات المنكرين للجواز العقلي وإبطالها
    وسنستعرض فيما يلي أبرز شبهات أولئك المنكرين مع تفنيدها وإبطالها فنقول وبالله التوفيق :
    1 - الشبهة الأولى التي يسوقونها لتمسكهم بمنع النسخ أن النسخ إما لحكمة ظهرت بعد أن لم تكن فيكون بداء ، وإما أن يكون لغير حكمة فيكون عبثا ، وكلا البداء والعبث على الله تعالى مستحيل . والرد عليهم إنما هو من خلال ما أثبتناه في بداية هذا المبحث من أدلة عقلية وسمعية على جواز النسخ عقلا ، وأنه لا يترتب على النسخ محال عقلي ؛ إذ هو فعل من أفعال الله الذي يفعل ما يشاء سبحانه ، وليس النسخ من قبيل البداء ، بل الفرق بينهما ظاهر ، فالبداء تبديل في العلم بينما النسخ تبديل في المعلوم .
    وبعد أن أورد الشيخ محمد حمزة في كتابه ( دراسات في الإحكام والنسخ في القرآن الكريم ) رأي كل من اليهود والمعتزلة والماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي ومن أخذ برأيه من جمهور الأحناف ومن تبعهم ، قال : وبعد ما تقدم نجيب بجواب محكم على فرية اليهود وشبهة المستشبهين فنقول : إنما يكون كل من العبث والبداء من لوازم النسخ إن ورد النسخ على حسن لا يقبل حسنه القبح ، أو قبيح لا يقبل قبحه الحسن ، كالإيمان والكفر ، أما في الأفعال التي حسنها وقبحها باعتبار ما يترتب عليها من المصالح المختلفة باختلاف الأزمان والأمم ، فإن الله تعالى يبدل ما شاء من الأحكام ؛ رعاية لتلك المصالح التي يعلمها ، ولا يلزم من ذلك بداء ولا عبث ، وعلى ضوء ما تقدم أيضا يبطل قول المنكرين أن ما طلبه الله لحسنه ، فلو نهى عنه لأدى إلى أن ينقلب الحسن قبيحا وهو محال ، فنقول : إن الإحالة إنما تكون إذا اجتمع الأمر والنهي في فعل واحد من مأمور واحد في زمن واحد ، وفرض المسألة غير ذلك فإن المصالح تختلف باختلاف الأوقات ، كشرب الدواء فإنه قد يكون نافعا في وقت دون وقت ، فيختلف حسن الشيء وقبحه باختلاف الأوقات ، وباختلاف الأشخاص أيضا ، فالشرع للأديان كالطب للأبدان .
    2 - ويثيرون شبهة أخرى فيقولون لو جاز على الله تعالى أن ينسخ حكما بحكم للزم على ذلك أحد باطلين : جهله جل وعلا ، وتحصيل الحاصل .
    وبيان ذلك أن الله تعالى إما أن يكون قد علم الحكم الأول المنسوخ على أنه مؤبد ، وإما يكون قد علمه على أنه مؤقت . فإن كان قد علمه على أنه مستمر إلى الأبد ثم نسخه وصيره غير مستمر انقلب علمه جهلا والجهل عليه تعالى محال ، وإن كان علمه على أنه مؤقت بوقت معين ثم نسخه عند ذلك الوقت ، ورد عليه أن المؤقت ينتهي بمجرد انتهاء وقته فإنهاؤه بالنسخ تحصيل للحاصل وهو باطل ، وتُدفع هذه الشبهة بأن الله تعالى قد سبق في علمه أن الحكم المنسوخ مؤقت لا مؤبد ، ولكنه علم بجانب ذلك أن توقيته إنما هو بورود الناسخ ، لا بشيء آخر كالتقييد بغاية في دليل الحكم الأول ، وإذن فعلمه بانتهائه بالناسخ لا يمنع النسخ بل يوجبه . وورود الناسخ محقق لما في علمه لا مخالف له شأنه تعالى في الأسباب ومسبباتها ، وقد تعلق علمه بها كلها مع ملاحظة أن النسخ بيان بالنسبة إلى الله تعالى ورفع بالنسبة إلينا .
    3 - والشبهة الثالثة التي يثيرونها هي قولهم لو جاز النسخ للزم أحد باطلين وما هو في معناه .
    وبيان ذلك أن الحكم المنسوخ إما أن يكون دليله قد غياه بغاية ينتهي عندها أو يكون قد أبد نصا ، فإن كان قد غياه بغاية ، فإنه ينتهي بمجرد وجود هذه الغاية ، وإذن لا سبيل إلى إنهائه بالنسخ وإلا لزم تحصيل الحاصل . وإن كان دليل الحكم الأول قد نص على تأبيده ، ثم جاء الناسخ على رغم هذا التأبيد لزم المحال من وجوه ثلاثة :
    أ- التناقض؛ لأن التأبيد يقتضي بقاء الحكم ولا ريب أن النسخ ينافيه .
    ب- تعذر إفادة التأبيد من الله للناس؛ لأن كل نص يمكن أن يفيده تبطل إفادته باحتمال نسخه ، وذلك يفضي إلى القول بعجز الله وعيه عن بيان التأبيد لعباده فيما أبده لهم تعالى الله عن ذلك .
    ج- استلزام ذلك لجواز نسخ الشريعة الإسلامية مع أنها باقية إلى يوم القيامة عند القائلين بالنسخ ويمكن دفع هذه الشبهة بما يلي :
    أولا : بأن حصر الحكم المنسوخ في هذين الوجهين اللذين ذكرهما المانع غير صحيح؛ لأن الحكم المنسوخ يجوز ألا يكون مؤقتا ولا مؤبدا ، بل يجيء مطلقا عن التوقيت والتأبيد كليهما ، وعليه فلا يستلزم طروء النسخ عليه شيئا من المحالات التي ذكروها ، وإطلاق هذا الحكم كاف في صحة نسخه ؛ لأنه يدل على الاستمرار بحسب الظاهر وإن لم يعرض له النص .
    ثانيا : إن ما ذكروه من امتناع نسخ الحكم المؤبد غير صحيح أيضا وما استندوا إليه منقوض لوجوه ثلاثة :
    الأول منها : إن استدلالهم بأنه يؤدي إلى التناقض مدفوع بأن الخطابات الشرعية مقيدة من أول الأمر بألا يرد ناسخ ، كما أنها مقيدة بأهلية المكلف للتكليف ، وألا يطرأ عليه جنون أو غفلة أو موت ، وإذن فمجيء الناسخ لا يفضي إلى تناقض بينه وبين المنسوخ بحال .
    والثاني : إن استدلالهم بأنه يؤدي إلى أن يتعذر على الله بيان التأبيد لعباده مدفوع بأن التأبيد يفهمه الناس بسهولة من مجرد خطابات الله الشرعية المشتملة على التأبيد ، وهو ما يشعر به كل واحد منا ؛ ذلك لأن الأصل بقاء الحكم الأول وما اتصل به من توقيت أو تأبيد ، وطرد الناسخ احتمال مرجوح ، واستصحاب الأصل أمر يميل إليه الطبع كما يؤيده العقل والشرع .
    والثالث : إن جواز نسخ الشريعة الإسلامية إن لزمنا معاشر القائلين بالنسخ ، فإنه يلزمنا على اعتبار أنه احتمال عقلي لا شرعي بدليل أننا نتكلم في الجواز العقلي لا الشرعي . أما نسخ الشريعة الإسلامية بغيرها من الشرائع فهو من المحالات الظاهرة بتضافر الأدلة على أن الإسلام دين خالد عام ، ولا يضير المحال في حكم الشرع أن يكون من قبيل الجائز في حكم العقل .
    4 - وشبهتهم الرابعة هي قولهم :
    إن النسخ يستلزم اجتماع الضدين واجتماعهما محال ، وبيان ذلك أن الأمر بالشيء يقتضي أنه حسن وطاعة ومحبوب لله ، والنهي عنه يقتضي أنه قبيح ومعصية ومكروه له تعالى فلو أمر الله بالشيء ثم نهى عنه ، أو نهى عن الشيء ثم أمر به لاجتمعت هذه الصفات المتضادة في الفعل الواحد الذي تعلق به الأمر والنهي .
    وندفع هذه الشبهة بأن الحسن والقبح وما اتصل بهما ليست من صفات الفعل الذاتية حتى تكون ثابتة فيها لا تتغير بل هي تابعة لتعلق أمر الله ونهيه بالفعل وعلى هذا يكون الفعل حسنا وطاعة ومحبوبا لله ما دام مأمورا به من الله ، ثم يكون هذا الفعل نفسه قبيحا ومعصية ومكروها له تعالى ما دام منهيا عنه منه سبحانه ، وحتى القائلون بالحسن والقبح العقليين من المعتزلة يقرون بأنهما يختلفان باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال ، وبهذا التوجيه ينتفي اجتماع الضدين لاختلاف الوقت الذي يكون فيه الفعل حسنا عن الوقت الذي يكون فيه الفعل نفسه قبيحا ، فلم يجتمع الحسن والقبح في وقت واحد على فعل واحد .
    وقريب من هذا ما نقلناه فيما تقدم من كلام الشيخ محمد حمزة في كتابه ( دراسات في الإحكام والنسخ ) من جوابه المحكم على فرية اليهود وشبهة المستشبهين وما انتهى إليه من أن قول المنكرين : إن ما طلبه الله لحسنه ، فلو نهى عنه لأدى ذلك إلى أن ينقلب الحسن قبحا ، وهو محال مردود - بأن الإحالة إنما تكون إذا اجتمع الأمر والنهي في فعل واحد من مأمور واحد في زمن واحد ، وفرض المسألة غير ذلك ، فإن المصالح تختلف باختلاف الأوقات . . . إلخ .
    شبهات المنكرين للنسخ سمعا
    1 - شبهة العنانية والشمعونية :
    وتتمثل شبهتهم في قولهم : إن التوراة التي أنزلها الله على موسى لم تزل محفوظة لدينا منقولة بالتواتر فيما بيننا وقد جاء فيها ( هذه شريعة مؤبدة ما دامت السماوات والأرض ) وجاء فيها أيضا ( الزموا يوم السبت أبدا ) وذلك يفيد امتناع النسخ؛ لأن النسخ لشيء من أحكام التوراة - لا سيما تعظيم يوم السبت - إبطال لما هو من عنده تعالى وتدفع هذه الشبهة بوجوه خمسة :
    أولها : إن شبهتهم هذه أقصر من مدَّعاهم قصورا بينا؛ لأن قصارى ما تقتضيه - إن سلمت - هو امتناع نسخ شريعة موسى عليه السلام لشريعة أخرى . أما تناسخ شرائع سواها فلا تدل هذه الشبهة على امتناعه ، بل يبعد أن ينكر اليهود انتساخ شرائع الإسرائيليين قبل اليهودية بشريعة موسى . فكان المنظور أن تجيء دعواهم أقصر مما هو محكي عنهم بحيث تتكافأ ودليلهم الذي زعموه ، أو أن يجيء دليلهم الذي زعموه أعم من هذا حتى يتكافأ ودعواهم التي ادعوها .
    ثانيها : إنا لا نسلم لهم ما زعموه من أن التوراة لم تزل محفوظة في أيديهم حتى يصح استدلالهم بها بل الأدلة متضافرة على أن التوراة الصحيحة لم يعد لها وجود ، وأنه أصابها من التغيير والتبديل والتحريف ما جعلها في خبر كان .
    من تلك الأدلة أن نسخة التوراة التي بأيدي السامريين تزيد في عمر الدنيا نحوا من ألف سنة على ما جاء في نسخة العنانيين ، وأن نسخة النصارى تزيد ألفا وثلاثمائة سنة . ومنها أن نسخ التوراة التي بأيديهم تحكي عن الله وعن أنبيائه وملائكته أمورا ينكرها العقل ويمجها الطبع ويتأذى بها السمع مما يستحيل معه كونها صادرة عن مؤمن ، فضلا عن ولي ، فضلا عن نبي ، فضلا عن نسبتها إلى الله رب العالمين . من مثل ندم الله على إرسال الطوفان إلى العالم ، وأنه بكى حتى رمدت عيناه ، وأن يعقوب صارعه فصرعه ، تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا . وأن لوطا سكر فثمل فزنى بابنتيه ، وأن هارون هو الذي اتخذ العجل لبني إسرائيل ودعاهم لعبادته من دون الله .
    ومن الأدلة أيضا على فساد دعوى بقاء التوراة وحفظها ما ثبت بالتواتر عند المؤرخين ، بل عند اليهود أنفسهم من أن بني إسرائيل - وهم حملة التوراة وحفاظها - قد ارتدوا عن الدين مرات كثيرة ، وعبدوا الأصنام ، وقتلوا أنبياءهم شر تقتيل ، ولا ريب أن هذه مطاعن شنيعة جارحة لا تبقي لأي منهم أي نصيب من عدالة أو ثقة ، ولا تحمل لهذه النسخ التي زعموا أنها التوراة أقل شيء من القيمة أو الصحة .
    ثالثها : إن التواتر الذي خلعوه على التوراة لا يسلم لهم أيضا ؛ لأنها لو كانت متواترة لحاجوا بها أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم ، ولعارضوا دعواه عموم رسالته بقول التوراة التي يؤمن بها ولا يجحدها ، بل يجهر بأنه جاء مصدقا لها ، ولكن ذلك لم يكن ولو كان لنقل واشتهر ، بل إن الذي نقل واشتهر هو إسلام كثير من أحبار اليهود وعلمائهم ، كعبد الله بن سلام وغيره واعترافهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الرسول الذي بشرت به التوراة والإنجيل .
    رابعها : إن لفظ التأبيد الذي اعتمدوا عليه فيما نقلوه لا يصح حجة لهم ؛ لأنه يستعمل كثيرا عند اليهود معدولا به عن حقيقته ، من ذلك ما جاء في البقرة التي أمروا بذبحها : ( هذه سنة لكم أبدا ) وما جاء في القربان : ( قربوا كل يوم خروفين قربانا دائما ) مع أن هذين الحكمين منسوخان باعتراف اليهود أنفسهم رغم التصريح فيهما بما يفيد التأبيد .
    خامسها : إن نسخ الحكم المؤبد لفظا جائز على الصحيح ، فلتكن هاتان العبارتان اللتان اعتمدوا عليهما منسوختين أيضا ، وشبهة التناقض تندفع بأن التأبيد مشروط بعدم ورود ناسخ ، فإذا ورد الناسخ انتفى ذلك التأبيد .
    2 - شبهة النصارى :
    يقولون إن المسيح عليه السلام قال : ( السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول ) وهذا يدل على امتناع النسخ سمعا وندفع هذه الشبهة أولا : بأنا لا نسلم أن الكتاب الذي بأيديهم هو الإنجيل الذي أنزل على عيسى ، وإنما هو قصة تاريخية وضعها بعض المسيحيين يبين فيها حياة المسيح وولادته ونشأته ودعوته . . . إلخ . ورغم أنها قصة فقد عجزوا عن إقامة الدليل على صحتها وعدالة كاتبها وأمانته وضبطه ، كما أعياهم اتصال السند وسلامته من الشذوذ والعلة . بل ثبت علميا تناقض نسخ هذه القصة التي أسموها الإنجيل ، مما يدل على أنها ليست من عند الله ، وصدق الله في قوله في القرآن الكريم : وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا
    ثانيا : إن سياق هذه الكلمة في إنجيلهم يدل على أن مراده بها تأييد تنبؤاته ، وتأكيد أنها ستقع لا محالة ، أما النسخ فلا صلة لها به نفيا ولا إثباتا .
    ثالثا : إن هذه الجملة على التسليم بصحتها وصحة رواتها وكتابها الذي جاءت فيه لا تدل على امتناع النسخ مطلقا ، وإنما تدل على امتناع نسخ شيء من شريعة المسيح فقط فشبهتهم على ما فيه قاصرة قصورا بينا عن مُدَّعاهم .
    3 - شبهة العيسوية :
    يقول هؤلاء اليهود أتباع ‌‌‌أبي عيسى الأصفهاني : لا سبيل إلى إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى قد أيده بالمعجزات الكثيرة القاهرة ولأن التوراة قد بشرت بمجيئه ولا سبيل أيضا إلى القول بعموم رسالته؛ لأن ذلك يؤدي إلى انتساخ شريعة إسرائيل بشريعته . وشريعة إسرائيل مؤبدة بدليل ما جاء في التوراة من مثل . " هذه شريعة مؤبدة عليكم ما دامت السماوات والأرض " وإنما هو رسول إلى العرب خاصة . وعلى هذا فالخلاف بينهم وبين من سبقهم أن دعواهم مقصورة على منع انتساخ شريعة موسى بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وشبهتهم التي ساقوها متكافئة مع دعواهم هذه ، ويفهم من اقتصارهم على هذا أنهم يجوزون تناسخ الشرائع سمعا فيما عدا هذه الصورة . وندفع شبهتهم هذه بأمرين :
    أولهما : إن دليلهم الذي زعموه هو دليل العنانية والشمعونية من قبلهم وقد أشبعناه تزييفا وتوهينا بالوجوه التي أسلفناها آنفا فالدفع هنا هو عين الدفع هناك فيما عدا الوجه الأول .
    ثانيهما : إن اعترافهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول أيده الله بالمعجزات وجاءت البشارة به في التوراة يقضي عليهم لا محالة أن يصدقوه في كل ما جاء به ، ومن ذلك أن رسالته عامة وأنها ناسخة للشرائع قبله حتى شريعة موسى نفسه الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي أما أن يؤمنوا برسالته ثم لا يصدقوه في عموم دعوته ، فذلك تناقض منهم لأنفسهم ومكابرة للحجة الظاهرة لهم .
    4 - شبهة أبي مسلم :
    النقل عن أبي مسلم مضطرب : فمِن قائل : إنه يمنع وقوع النسخ سمعا على الإطلاق ، ومِن قائل : إنه ينكر وقوعه في شريعة واحدة ، ومن قائل : إنه ينكر وقوعه في القرآن خاصة ، ورجحت هذه الرواية الأخيرة بأنها أصح الروايات ، وبأن التأويلات المنقولة عنه لم تخرج عن حدود ما نسخ من القرآن ، وأبعد الروايات عن الرجل هي الرواية الأولى ؛ لأنه لا يعقل أن مسلما فضلا عن عالم كأبي مسلم ينكر وقوع النسخ جملة ، إلا إذا كانت المسألة ترجع إلى التسمية فقط ، فإنها تهون حينئذ على معنى أن ما نسميه نحن نسخا يسميه هو تخصيصا بالزمان مثلا ، وإلى ذلك ذهب بعض المحققين . قال التاج السبكي : ( إن أبا مسلم لا ينكر وقوع المعنى الذي نسميه نحن نسخا ، ولكنه يتحاشى أن يسميه باسمه ، ويسميه تخصيصا ) اهـ .
    وقد احتج أبو مسلم بقوله سبحانه : لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْـزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ وشبهته في الاستدلال أن هذه الآية تفيد أن أحكام القرآن لا تبطل أبدا ، والنسخ فيه إبطال لحكم سابق . وندفع مذهب أبي مسلم وشبهته بأمور أربعة . . .
    أولها : أنه لو كان معنى الباطل في الآية هو متروك العمل به مع بقاء قرآنيته ، لكان دليله قاصرا عن مدعاه؛ لأن الآية لا تفيد حينئذ إلا امتناع نوع خاص من النسخ ، وهو نسخ الحكم دون التلاوة ، فإنه وحده هو الذي يترتب عليه وجود متروك العمل في القرآن ، أما نسخ التلاوة مع الحكم ، أو مع بقائه ، فلا تدل الآية على امتناعه بهذا التأويل .
    ثانيها : إن معنى الباطل في الآية ما خالف الحق ، والنسخ حق ، ومعنى الآية أن عقائد القرآن موافقة للعقل ، وأحكامه مسايرة للحكمة ، وأخباره مطابقة للواقع ، وألفاظه محفوظة من التغيير والتبديل ، ولا يمكن أن يتطرق إلى ساحته الخطأ بأي حال : إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وَبِالْحَقِّ أَنْـزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَـزَلَ وتفسير الآية بهذا المعنى يجعلها أقرب إلى إثبات النسخ ووقوعه منها إلى نفيه وامتناعه؛ لأن النسخ كما تقرر تصرف إلهي حكيم تقتضيه الحكمة وترتبط به المصلحة .
    ثالثها : إن أبا مسلم على فرض أن خلافه مع الجمهور لفظي لا يعدو حدود التسمية نأخذ عليه أنه أساء مع الله في تحمسه لرأي قائم على تحاشي لفظ اختاره جلت حكمته ، ودفع عن معناه بمثل قوله : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا وهل بعد اختيار الله اختيار؟ وهل بعد تعبير الله تعبير؟ .
    رابعا : إن هناك فروقا بين النسخ والتخصيص وقد فصلناها فيما سبق .

    الفصل الخامس
    تفسير تحليلي للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم .
    يستدل المجيزون للنسخ عقلا القائلون بوقوعه سمعا ببعض الآيات التي وردت فيها الإشارة إلى ذلك إما صراحة أو ضمنا .
    فمما أشار إلى النسخ صراحة قوله تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ( البقرة : 106 ) وما أشار إليه ضمنا قوله تعالى : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ( المائدة : 48 ) . وقوله تعالى : يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ( الرعد : 39 ) ، وقوله تعالى : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ( النحل : 101 ) فهذه أربع آيات دلت إحداها دلالة صريحة على النسخ بمعنى أنها اشتملت على لفظه ودلت الثلاث الباقية عليه دلالة ضمنية .
    وسنستعرض -تتميما للفائدة- ما قاله في تفسيرها بعض المفسرين لزيادة إيضاح المقصود من الاستدلال بها على جواز وقوع النسخ فنبدأ بالآية الأولى وهي آية البقرة ( 106 ) حيث يقول تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فنبين أنهم اختلفوا في قراءتها في موضعين:
    أحدهما : في قوله مَا نَنْسَخْ فإنهم اختلفوا فيه على وجهين فقرأ عبد الله بن عامر الشامي وحده ( ما ننسخ ) بضم النون وكسر السين . وقرأ الباقون مَا نَنْسَخْ بفتح النون والسين .
    والموضع الثاني : قوله تعالى أَوْ نُنْسِهَا وقد اختلفوا في قراءته على خمسة أوجه بعضها معروف وبعضها شاذ . فقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( أو ننساها ) . بألف وكذلك قرأ النخعي ومجاهد وعبيد بن عمير وعبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء وقرأها علي رضي الله عنه أَوْ نُنْسِهَا بنون مضمون من غير ألف ومن غير همزة وبه قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب الحضرمي وهي أيضا قراءة الحسن وسعيد بن المسيب وقتادة .
    وقرأ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ( تنساها ) بالتاء لقوله عز وجل : سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى وقوله تعالى : وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ، وكذلك رواه شبابة عن أبي عمرو بن العلاء البصري وقرأها أبي بن كعب رضي الله عنه ( أو ننسك ) وحده . وقرأها عطاء بن أبي رباح ( أو ننسئها ) بياء مهموزة مكان الألف واختلاف هذه القراءة كلها معروفها وشاذها إن صحت الروايات فيها لاختلاف الغرض فتكون هذه الآية نازلة على هذه الوجوه كلها ويكون حكم ما اختلف لفظه واتفق معناه منها كقوله تعالى فَانْفَجَرَتْ و" انْبَجَسَتْ " وما اختلف لفظه ومعناه منها كقوله تعالى وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ بالضاد واتفق معناه : البخيل . و( بظنين ) بالظاء ومعناه المتهم ومعنى هذه الآية على قراءة الجماعة أن الله جل ذكره يخبر عن نفسه يقول ما نرفع من حكم آية ونبق تلاوتها أو ننسكها يا محمد لا تحفظ تلاوتها نأت بخير منها لكم أي نأت بآية أخرى هي أصلح لكم وأسهل في التعبد أو نأت بمثلها في العمل وأعظم في الأجر فهذا قول صحيح معروف وقد قيل : إن معناها : ما نرفع من حكم آية وتلاوتها نأت بخير منها أي أصلح لكم منها : وقال ابن زيد : إنساؤها محوها وتركها .
    فأما قراءة من قرأ ( أو ننساها ) بالألف والنون فمعناه نؤخرها ويقال نسأت إذا أخرت ومنه قوله تعالى إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ وإنما أراد به تأخيرهم الوقوف بعرفة عن ذي الحجة في كل عام بعشرة أيام ليقع حجهم أبدا في الربيع ويقال : أنسأت الشيء أنسأ ، والنسيء اسم وضع موضع المصدر ، ونسأ الله في أجله ، وأنسأ الله أجله ، أي أخره ، وفي الحديث من أحب أن ينسأ الله في أجله فليصل رحمه والنسأ التأخير وفي حديث عمر ( ارموا فإن الرمي عدة ، فإذا رميتم فانتسئوا عن البيوت ) أي تأخروا عن البيوت . والمنسأة العصا لأنه يوخز بها الدابة يقال : نسأت الدابة إذا ضربتها بالمنسأة . قلت : ومنه قوله تعالى في عصا سليمان عليه السلام فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ونسأت اللبن إذا جعلت فيه الماء ليكثر وهو النسوء وامرأة نسوء إذا كان مظنونا بها الحمل ونسوة نساء وإنما قيل لها نسوء؛ لأن الحمل زيادة فيها وإنما قيل نسأت اللبن؛ لأن الماء زيادة فيه .
    والتأخير زيادة في أجل الشيء ومدته فقوله ( ننسأها ) معناها نؤخرها كما بينا ومن قرأ نُنْسِهَا بضم النون وكسر السين فمعناه ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن ابن عباس رضي الله عنهما ( كان القرآن ينزل فيثبت الله منه ما يشاء وينسخ منه ما يشاء وعنده أم الكتاب ) .
    ومن قرأ ( أو تنساها ) بالتاء أو قرأ ( أو ننسك ) أراد به نسيان النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن النسيان جائز عليه في صفته وغير جائز في صفة الله تعالى ، ومن قرأها بياء مهموزة بدل الألف أراد به التأخير أيضا لأنه قرأها بالإمالة .
    وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ما نبدل من آية . وقال ابن جريج عن مجاهد : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أي ما نمحو من آية . وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ قال : نثبت خطها ونبدل حكمها . حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم . وقال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي العالية محمد بن كعب القرظي نحو ذلك . وقال الضحاك مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ما ننسك . وقال عطاء أما مَا نَنْسَخْ فما نترك من القرآن . وقال ابن أبي حاتم يعني ترك فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم وقال السدي مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ نسخها قبضها وقال ابن أبي حاتم : يعني قبضها رفعها مثل قوله ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) وقوله لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا وقال ابن جرير مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره وذلك أن يحول الحلال حراما والحرام حلالا والمباح محظورا والمحظور مباحا ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها وكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها وسواء نسخ حكمها أو خطها إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة . وأما علماء الأصول فاختلفت عبارتهم في حد النسخ ، والأمر في ذلك قريب؛ لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولحظ بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه والنسخ لا إلى بدله ولم يشأ رحمه الله أن يتوسع في تفصيل ذلك فقال وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة في أصول الفقه . ثم قال : وقوله تعالى مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا يقول ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها وقال عطية العوفي : أو ننسأها نؤخرها فلا ننسخها . وقال السدي مثله أيضا ، وكذا الربيع بن أنس وقال الضحاك : ( ما ننسخ من آية أو ننسأها ) يعني الناسخ من المنسوخ . وقال أبو العالية : ( ما ننسخ من آية أو ننسأها) نؤخرها عندنا . وروى ابن جرير عن الحسن أنه قال في قوله أَوْ نُنْسِهَا إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قرأ قرآنا ثم نسيه وعن قتادة أيضا أنه قال : كان الله عز وجل ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء وينسخ ما يشاء .
    وقوله تعالى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا يقول : خير لكم في المنفعة وأرفق بكم . وقال أبو العالية : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ فلا نعمل بها ( أو ننساها ) أي نرجئها عندنا نأت بها أو نظيرها . وقال السدي نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا يقول : نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه . وقال قتادة نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا يقول آية فيها رخصة فيها أمر فيها نهي اهـ .
    وقال الإمام أبو الفرج بن الجوزي في تفسيره ( زاد المسير ) : قوله تعالى مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ سبب نزولها أن اليهود قالت لما نسخت القبلة : إن محمدا يحل لأصحابه إذا شاء ويحرم عليهم إذا شاء فنزلت هذه الآية . قال الزجاج : النسخ في اللغة إبطال شيء وإقامة آخر مقامه تقول العرب : نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله وفي المراد بهذا النسخ ثلاثة أقوال : أحدها : رفع اللفظ والثاني : تبديل الآية بغيرها رويا عن ابن عباس ، والأول قول السدي والثاني قول مقاتل ، والثالث : رفع الحكم مع بقاء اللفظ رواه مجاهد عن أصحاب ابن مسعود وقال أبو العالية : وقرأ ابن عامر ( ما ننسخ ) بضم النون وكسر السين . قال أبو علي : أي ما نجده منسوخا كقولك : أحمدت فلانا أي وجدته محمودا وإنما يجده منسوخا بنسخه إياه . قوله تعالى أَوْ نُنْسِهَا قرأ ابن كثير وأبو عمرو ( ننسأها ) بفتح النون مع الهمزة والمعنى نؤخرها . قال أبو زيد : نسأت الإبل عن الحوض فأنا أنسأها إذا أخرتها ، ومنه النسيئة في البيع وفي معنى نؤخرها ثلاثة أقوال : أحدها : نؤخرها عن النسخ فلا ننسخها قاله الفراء . والثاني : نؤخر إنزالها فلا ننزلها ألبتة . والثالث : نؤخرها عن العمل بها بنسخنا إياها حكاهما أبو علي الفارسي . وقرأ سعد بن أبي وقاص ( تَنسها ) بتاء مفتوحة ونون وقرأ سعيد بن المسيب والضحاك ( تُنسها ) بضم التاء وقرأ نافع ( أَوْ نُنْسِهَا ) بنونين الأولى مضمومة والثانية ساكنة أراد ( أو ننسكها ) من النسيان . قوله تعالى : نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا قال ابن عباس بألْيَنَ مِنها وأيسر على الناس . قوله تعالى أَوْ مِثْلِهَا أي في الثواب والمنفعة فتكون الحكمة في تبديلها بمثلها الاختبار . اهـ وجاء في تفسير العلامة أبي السعود ( إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ) في تفسير هذه الآية قوله رحمه الله : ما ننسخ من آية أو ننسها . كلام مستأنف مسوق لبيان سر النسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي وإبطال مقالة الطاغين فيه إثر تحقيق حقيقة الوحي ورد كلام الكارهين له رأسا ، قيل : نزلت حين قال المشركون أو اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه . والنسخ في اللغة الإزالة والنقل يقال : نسخت الريح الأثر أي أزالته ، ونسخت الكتاب أي نقلته ، ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها أو بالحكم المستفاد منها أو بِهِما جميعا .
    وإنساؤها إذهابها من القلوب و( ما ) شرطية جازمة ( لننسخ ) منتصبة به على المفعولية ، وقرئ ( ننسخ من انسخ ) أي : نأمرك أو جبريل بنسخها أو تجدها منسوخة ، وننسأها من النسيء أي نؤخرها ، وننسّها بالتشديد وتَنسَها وتُنسَها على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم مبنيا للفاعل وللمفعول ، وقرئ ( ما ننسخ من آية أو ننسكها ) وقرئ ( ما نُنْسِك من آية أو ننسخها ) والمعنى : عن كل آية نذهب بها على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معا إلى بدل أو إلى غير بدل .
    نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أي نوع آخر هو خير للعباد ، وبحسب الحال في النفع والثواب من الذاهبة ، وقرئ بقلب الهمزة ألفا أَوْ مِثْلِهَا أي فيما ذكر من النفع والثواب وهذا الحكم غير مختص بنسخ الآية التامة فما فوقها بل جار فيما دونها أيضا ، وتخصيصها بالذكر باعتبار الغالب . والنص كما ترى دال على جواز النسخ ، كيف لا وتنزيل الآيات التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية إنما هو بحسب ما يقتضيه من الحكم والمصالح ، وذلك يختلف باختلاف الأحوال ويتبدل حسب تبدل الأشخاص والأبصار كأحوال المعاش فرب حكم تقتضيه الحكمة في حال تقتضي في حال أخرى نقيضه ، فلو لم يجز النسخ لاختل ما بين الحكمة والأحكام من النظام . اهـ وقال العلامة الشوكاني في تفسيره ( فتح القدير ) في معرض تفسيره لهذه الآية بعد أن عدد وجوه القراءات في نُنْسِهَا وقرأ الباقون نُنْسِهَا بضم النون من النسيان الذي بمعنى الترك أي نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها ومنه قوله تعالى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ أي تركوا عبادته فتركهم في العذاب ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم ، وحكى الأزهري أن معناه نأمر بتركها ، يقال : أنسيته الشيء أي أمرته بتركه ونسيته تركته ومنه قول الشاعر :

    إن علــــــــي عقبــــــــة أقضيهـــــــا لســــــت بناســــــيها ولا منســـــيها

    أي ولا آمر بتركها . وقال الزجاج : إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك . لا يقال أُنسي بمعنى ترك ، قال : وما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أَوْ نُنْسِهَا قال : نتركها لا نبدلها فلا يصح . والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى أَوْ نُنْسِهَا نبح لكم تركها ، من نسي إذا ترك ثم تعديه ، ومعنى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا نأت بما هو أنفع للناس منها في العاجل والآجل أو في أحدهما أو بما هو مماثل لها من غير زيادة ، ومرجع ذلك إلى إعمال النظر في المنسوخ والناسخ ، فقد يكون الناسخ أخف فيكون أنفع لهم في العاجل ، وقد يكون أثقل وثوابه أكثر فيكون أنفع لهم في الآجل ، وقد يستويان فتحصل المماثلة . وقوله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يفيد أن النسخ من مقدوراته وأن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية . وهكذا قوله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أي له التصرف في السماوات والأرض بالإيجاد والاختراع ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته فهو أعلم بمصالح عباده وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها وشرعها لهم ، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص ، وهذا صنع من لا ولي لهم غيره ولا نصير سواه ، فعليهم أن يتلقوه بالقبول والامتثال والتعظيم والإجلال . ثم قال رحمه الله في آخر تفسيره لهذه الآية : وقد ثبت في البخاري وغيره عن أنس : أن الله أنزل في الذين قتلوا في بئر معونة ( أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم نسخ . وهكذا ثبت في مسلم وغيره ، عن أبي موسى قال : كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها ( ولو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثا ولا يملأ جوفه إلا التراب ) وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات أولها ( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ) فأنسيناها غير أني حفظت منها ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألوا عنها يوم القيامة ) وقد روي مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة ومنه آية الرجم كما رواه عبد الرزاق وأحمد وابن حبان عن عمر اهـ .
    وقال العلامة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تفسيره الموسوم ( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ) عند تفسيره لهذه الآية : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ النسخ هو النقل ، فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع إلى حكم آخر أو إلى إسقاطه وكان اليهود ينكرون النسخ ويزعمون أنه لا يجوز ، وهو مذكور عندهم في التوراة ، فإنكارهم له كفر وهوى محض ، فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ فقال : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا أي ننسها العباد فنزيلها من قلوبهم ، نأت بخير منها وأنفع لكم أَوْ مِثْلِهَا فدل على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول ؛ لأن فضله تعالى يزداد خصوصا على هذه الأمة التي سهل عليها دينها غاية التسهيل ، وأخبر أن من قدح في النسخ قدح في ملكه وقدرته ، فقال : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فإذا كان مالكا لكم متصرفا فيكم تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه ، فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير ، كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام ، فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية فما له والاعتراض ، وهو أيضا ولي عباده فيتولاهم في تحصيل منافعهم وينصرهم في دفع مضارهم ، فمن ولايته لهم أن يشرع لهم من الأحكام ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم . ومن تأمل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ عرف بذلك حكمة الله ورحمتَه عباده وإيصالهم إلى مصالحهم من حيث لا يشعرون بلطفه اهـ .
    2 - والآية الثانية التي سنذكر ما قاله بعض المفسرين في تفسيرها مما استدلوا به على جواز وقوع النسخ هي قوله تعالى : وَأَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا الآية .
    وشاهدنا منها قوله عز وجل : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا قال ابن الجوزي رحمه الله في تفسيره عند كلامه على هذه الآية وللمفسرين في معنى الكلام قولان : أحدهما : لكل ملة جعلنا شرعة ومنهاجا فلأهل التوراة شريعة ولأهل الإنجيل شريعة ولأهل القرآن شريعة . هذا قول الأكثرين . قال قتادة : الخطاب للأمم الثلاث أمة موسى وعيسى وأمة محمد فللتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللفرقان شريعة يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء بلاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل . والقول الثاني : إن المعنى لكل من دخل في دين محمد جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا . هذا قول مجاهد .
    وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وقال ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سبيلا وعنه أيضا " مِنْهَاجًا " قال سُنّة . وكذا رواه العوفي عن ابن عباس شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا سبيلا وسنة وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وقتادة والضحاك والسدي وأبي إسحاق السبيعي أنهم قالوا في قوله : شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أي سبيلا وسنة . إلى أن قال رحمه الله بعد أن نقل قولا حكاه ابن جرير عن مجاهد : إن المخاطب بهذه الآية هذه الأمة ، ومعناه لكل جعلنا القرآن منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجا أي هو لكم كلكم تقتدون به . . . إلخ . قال : ( والصحيح القول الأول ) ويعني به ما قاله قبل ذلك من أن هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد ، ويدل على ذلك قوله تعالى بعده : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً فلو كان هذا الخطاب لهذه الأمة لما صح أن يقول وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وهم أمة واحدة ولكن هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ شيء منها ، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعةً على حدة ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة وجعله خاتم الأنبياء كلهم اهـ .
    وقال العلامة الشوكاني في تفسير هذه الآية : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا الشرعة والشريعة في الأصل : الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء ثم استعملت فيما شرعه الله لعباده من الدين . والمنهاج : الطريقة الواضحة البينة . وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد . الشريعة ابتداء الطريق ، والمنهاج الطريق المستمر ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها والإنجيل لأهله والقرآن لأهله وهذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن وأما بعده فلا شرعة ولا منهاج إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم اهـ .
    وقال العلامة ابن سعدي في تفسيره لهذه الآية لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ أيها الأمم شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أي سبيلا وسنة وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها وأما الأصول الكبار التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان فإنها لا تختلف فتشرع في جميع الشرائع اهـ .
    وقال صاحب تفسير المنار محمد رشيد رضا رحمه الله في تفسيره عند كلامه على هذه الآية لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا فهذه الجملة بيان لتعليل الأمر والنهي قبلها أي لكل رسول أو كل أمة منكم أيها المسلمون والكتابيون أو أيها الناس جعلنا شريعة أوجبنا عليهم إقامة أحكامها وطريقا للهداية فرضنا عليهم سلوكه لتزكية أنفسهم وإصلاحها؛ لأن الشرائع العملية وطرق التزكية الأدبية تختلف باختلاف أحوال الاجتماع واستعداد البشر ، وإنما اتفق جميع الرسل في أصل الدين وهو توحيد الله وإسلام الوجه له بالإخلاص والإحسان . ثم استعرض معاني الشرعة والمنهاج في اللغة واستعرض ما أخرجه غير واحد من رواة التفسير المأثور في تفسير الآية إلى أن قال رحمه الله : وظاهرٌ من قول قتادة أن الشريعة أخص من الدين إن لم تكن مباينة له وأنها الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل وينسخ لاحقها سابقها وأن الدين هو الأصول الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأنبياء اهـ .
    3 - الآية الثالثة التي نريد استعراض أقوال بعض المفسرين في تفسيرها مما استدلوا به على جواز وقوع النسخ هي قوله تعالى في سورة الرعد آية 39 يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ فقد قال أبو الفرج بن الجوزي عند تفسيره لهذه الآية : قوله تعالى : يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وَيُثْبِتُ ساكنة الثاء خفيفة الباء . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ( ويثبت ) مشددة الباء مفتوحة الثاء قال أبو علي : المعنى ويثبته فاستغنى بتعدية الأول من الفعلين عن تعدية الثاني .
    واختلف المفسرون في المراد بالذي يمحو ويثبت على ثمانية أقوال ، ثم مضى رحمه الله يعدد تلك الأقوال الثمانية وكلها لا صلة لها بمبحثنا إلا الثاني منها فهو المتعلق بموضوعنا حيث قال : والثاني أنه الناسخ والمنسوخ فيمحو المنسوخ ويثبت الناسخ روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والقرظي وابن زيد وقال ابن قتيبة يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ أي ينسخ من القرآن ما يشاء ويثبت أي يدعه ثابتا لا ينسخه وهو المحكم اهـ .
    وقال الحافظ أبو الفداء بن كثير في تفسيره عند كلامه على هذه الآية يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ منها ، أي من الكتب المنزلة من السماء من عند الله حيث نقل في تفسيره للآية التي قبلها وهي قوله تعالى : لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ قول الضحاك بن مزاحم : أي لكل كتاب أجل يعني لكل كتاب أنزله من السماء مدة مضروبة عند الله ومقدار معين فلهذا يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ منها ويثبت يعني حتى نسخت بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه ، ثم أورد رحمه الله اختلافات المفسرين في تفسير الآية التي نحن بصددها إلى أن قال : ومعنى هذه الأقوال أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء . ثم مضى بعد ذلك إلى أن قال : وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ يقول يبدل ما يشاء فينسخه ويثبت ما يشاء فلا يبدله وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ وما يبدل وما يثبت كل ذلك في كتاب .
    وقال قتادة في قوله يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ كقوله مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا الآية اهـ .
    وقال أبو السعود في تفسيره لهذه الآية يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ أي ينسخ ما يشاء نسخه من الأحكام لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت ويثبت بدله المصلحة أو يبقيه على حاله غير منسوخ اهـ .
    وكذلك أورد الشوكاني في ( فتح القدير ) ما أورد الحافظ ابن كثير في تفسيره الذي نقلناه آنفا عن ابن عباس للآية من أن المراد : يبدل ما يشاء فينسخه . . . إلخ . وقد قال في إسناده : وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في المدخل عن ابن عباس ثم حكاه اهـ .
    4 - والآية الرابعة والأخيرة من الآيات التي استدلوا بها على جواز النسخ هي قوله سبحانه وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ النحل ( 101 ) والمعنى وإذا نسخنا آية بآية إما نسخ الحكم والتلاوة أو نسخ الحكم مع بقاء التلاوة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ من ناسخ ومنسوخ وتشديد وتخفيف فهو عليم بالمصلحة في ذلك قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ أي كاذب بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ فيه قولان : أحدهما : لا يعلمون أن الله أنزله . والثاني : لا يعلمون فائدة النسخ اهـ .
    وقال الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية : يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم وأنه لا يتصور منهم الإيمان وقد كتبت عليهم الشقاوة وذلك أنهم إذا رأوا تغير الأحكام ناسخها بمنسوخها قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ أي كذاب وإنما هو الرب تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . وقال مجاهد : بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ أي رفعناها وأثبتنا غيرها . وقال قتادة هو كقوله تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا الآية وقال العلامة أبو السعود بن محمد العمادي الحنفي في تفسيره عند هذه الآية وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ أي إذا أنزلنا آية من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلا منها بأن نسخناها بها وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ أولا وآخِرًا وبأن كلا من ذلك ما نزلت حيثما نزلت إلا حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن كل وقت له مقتضى غير مقتضى الآخر فكم من مصلحة في وقت تنقلب في وقت آخر مفسدة وبالعكس لانقلاب الأمور الداعية إلى ذلك وما الشرائع إلا مصلحة للعباد في المعاش والمعاد تدور حسبما تدور المصالح . والجملة إما معترضة لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم . وفي الالتفات إلى الغيبة مع إسناد الخبر إلى الاسم الجليل المستجمع للصفات ما لا يخفى من تربية المهابة وتحقيق معنى الاعتراض أو حالية وقرئ بالتخفيف من الإنزال قَالُوا أي الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ أي متقول على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه وحكاية هذا القول عنهم هاهنا للإيذان بأن ذلك كفرة ناشئة من نزغات الشيطان وأنه وليهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون شيئا أصلا أو لا يعلمون أن في النسخ حكما بالغة وإسناد هذا الحكم إلى الأكثر لما أن منهم من يعلم ذلك وإنما ينكره عنادا اهـ .
    وقال العلامة الشوكاني في تناوله لتفسير هذه الآية وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ هذا شروع منه سبحانه في حكاية شبه كفرية ودفعها ومعنى التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه . وتبديل الآية رفعها بأخرى غيرها وهي نسخها بآية سواها . وقد تقدم الكلام في النسخ في البقرة قَالُوا أي كفار قريش الجاهلون للحكمة في النسخ : إِنَّمَا أَنْتَ يا محمد مُفْتَرٍ أي كاذب مختلق على الله متقول عليه بما لم يقل حيث تزعم أنه أمرك بشيء ثم تزعم أنه أمرك بخلافه فرد الله سبحانه عليهم بما يفيد جهلهم فقال بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شيئا من العلم أصلا أو لا يعلمون الحكمة في النسخ فإنه مبني على المصالح التي يعلمها الله سبحانه ، فقد يكون في شرع هذا الشيء مصلحة مؤقتة بوقت ثم تكون المصلحة بعد ذلك الوقت في شرع غيره . لو انكشف الغطاء لهؤلاء الكفرة لعرفوا أن ذلك وجه الصواب ومنهج العدل والرفق واللطف ثم بين سبحانه لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله وأن رسوله صلى الله عليه وسلم افتراه فقال قُلْ نَـزَّلَهُ أي القرآن المدلول عليه بذكر الآية رُوحُ الْقُدُسِ أي جبريل والقدس التطهير والمعنى : نزله الروح المطهر من أدناس البشرية فهو من إضاف الموصوف إلى الصفة مِنْ رَبِّكَ أي ابتداء تنزيله من عنده سبحانه و بِالْحَقِّ في محل نصب على الحال أي متلبسا بكونه حقا ثابتا لحكمة بالغة لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا على الإيمان فيقولون : كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا ولأنهم أيضا إذا عرفوا ما في النسخ من المصالح ثبتت أقدامهم على الإيمان ورسخت عقائدهم اهـ .
    وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ الآية . يذكر تعالى أن المكذبين بهذا القرآن يتتبعون ما يرونه حجة لهم وهو أن الله تعالى هو الحاكم الحكيم الذي يشرع الأحكام ويبدل حكما مكان آخر لحكمته ورحمته فإذا رأوه كذلك قدحوا في الرسول وبما جاء به و قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ قال الله تعالى : بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ منهم جهال لا علم لهم بربهم ولا بشرعه . إلى أن قال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى بعد ذلك لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا عند نزول آياته وتواردها عليهم وقتا بعد وقت فلا يزال الحق يصل إلى قلوبهم شيئا فشيئا حتى يكون إيمانهم أثبت من الجبال الرواسي وأيضا فإنهم يعلمون أنه الحق وإذا شرع حكما من الأحكام ثم نسخه علموا أنه أبدله بما هو مثله أو خير منه لهم وأن نسخه هو المناسب للحكمة الربانية والمناسبة العقلية

    الفصل السادس
    ما يقع فيه النسخ في القرآن
    قال بدر الدين الزركشي في ( البرهان ) : الجمهور على أنه لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي وزاد بعضهم الأخبار وأطلق وقيدها آخرون بالتي يراد بها الأمر والنهي .
    وقال أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي في ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) اعلم أنه جائز أن ينسخ الله جل ذكره جميع القرآن بأن يرفعه من صدور عباده ويرفع حكمه بغير عوض وقد جاءت في ذلك أخبار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم دليله قوله تعالى وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ . وقد كان من ذلك بعضه على ما روي من سورة الأحزاب ، وإنما يؤخذ ما كان من ذلك من طريق الأخبار والله أعلم بصحته ومنه ما رفع لفظه أن يتلى وبقي حفظه غير متلو على أنه قرآن وثبت حكمه بالإجماع كآية الرجم فالرواية المشهورة أنه كان فيما يتلى ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) فرفع رسم ذلك من المصحف المجمع عليه ولم تثبت تلاوته وبقي حكمه ولم ينس لفظه .
    والذي هو عمدة هذا الباب هو ما يزيل الله جل ذكره حكمه ويبدله بغيره من حكم متلو ويبقى المنسوخ متلوا غير معمول به وقد ذكرنا مثاله ، أو يزيل حكمه ولفظه بحكم آخر متلو ، وهذا كله إنما يجوز في الأحكام والفرائض والأوامر والنواهي والحدود والعقوبات من أحكام الدنيا فهذا قول عامة العلماء وعليه العمل عند فقهاء الأمصار وهو الذي لا يجوز في النظر غيره ، فأما ما لا يجوز نسخه فهو كل ما أخبرنا الله تعالى عنه أنه سيكون أو أنه كان أو وعدنا به أو قص علينا من أخبار الأمم الماضيـة وما قـص علينا مـن أخبار الجنة والنار والحساب والعقاب والبعث والحشر وخلق السماوات والأرضين وتخليد الكفار في النار والمؤمنين في الجنة هذا كله وشبهه من الأخبار لا يجوز نسخه ؛ لأنه يتعالى أن يخبر عن الشيء على غير ما هو به . وكذلك ما أعلمنا به من صفاته لا يجوز في ذلك كله أن ينسخ ببدل منه فأما جواز أن ينسخ ذلك كله بإزالة حفظه من الصدور -ونعوذ بالله من ذلك- فذلك جائز في قدرته تعالى يفعل ما يشاء وقال الزرقاني في مناهل العرفان : إن تعريف النسخ بأنه ( رفع حكم شرعي بدليل شرعي ) يفيد في وضوح أن النسخ لا يكون إلا في الأحكام وذلك موضع اتفاق بين القائلين بالنسخ لكن في خصوص ما كان من فروع العبادات والمعاملات أما غير هذه الفروع من العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات . . . ومدلولات الأخبار المحضة فلا نسخ فيها على الرأي السديد الذي عليه جمهور العلماء .
    أما العقائد فلأنها حقائق صحيحة ثابتة لا تقبل التغير والتبديل فبدهي ألا يتعلق بها نسخ ، وأما أمهات الأخلاق فلأن حكمة الله في شرعها ومصلحة الناس في التخلق بها أمر ظاهر لا يتأثر بمرور الزمن ولا يختلف باختلاف الأشخاص والأمم حتى يتناولها النسخ بالتبديل والتغيير . وأما أصول العبادات والمعاملات فلوضوح حاجة الخلق إليها باستمرار لتزكية النفوس وتطهيرها ولتنظيم علاقة المخلوق بالخالق والخلق على أساسهما فلا يظهر وجه من وجوه الحكمة في رفعها بالنسخ .
    وأما مدلولات الأخبار المحضة فلأن نسخها يؤدي إلى كذب الشارع في أحد خبرية الناسخ أو المنسوخ وهو محال عقلا ونقلا . أما عقلا فلأن الكذب نقص والنقص عليه تعالى محال . وأما نقلا فلمثل قوله سبحانه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا . وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا .
    نعم إن نسخ لفظ الخبر دون مدلوله جائز بإجماع من قالوا بالنسخ ولذلك صورتان : إحداهما : أن تنزل الآية مخبرة عن شيء ثم تنسخ تلاوتها فقط .
    والأخرى : إن يأمرنا الشارع بالتحدث عن شيء ثم ينهانا أن نتحدث به .
    وأما الخبر الذي ليس محضا بأن كان في معنى الإنشاء ودل على أمر ونهي متصلين بأحكام فرعية عملية فلا نزاع في جواز نسخه والنسخ به؛ لأن العبرة بالمعنى لا باللفظ ، مثال الخبر بمعنى الأمر تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فإن معناه ازرعوا . ومثال الخبر بمعنى النهي قوله سبحانه : الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ فإن معناه لا تنكحوا مشركة ولا زانية ( بفتح التاء ) ولا تنكحوا زانيا ولا مشركا ( بضم التاء ) لكن على بعض وجوه الاحتمالات دون بعض والفرق بين أصول العبادات والمعاملات وبين فروعها أن فروعها هي ما تتعلق بالهيئات والأشكال والأمكنة والأزمنة والعدد أو هي كمياتها وكيفياتها وأما أصولها فهي ذوات العبادات والمعاملات بقطع النظر عن الكم والكيف .
    واعلم أن ما قررناه هنا من قصر النسخ على ما كان من قبيل الأحكام الفرعية العلمية دون سواها هو الرأي السائد الذي ترتاح إليه النفس ويؤيده الدليل وقد نازع في ذلك قوم لا وجه لهم فلنضرب عن كلامهم صفحا .
    ويتصل بما ذكرنا أن الأديان الإلهية لا تناسخ بينها فيما بيناه من الأمور التي لا يتناولها النسخ بل هي متحدة في العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات وفي صدق الأخبار المحضة فيها صدقا لا يقبل النسخ والنقض اهـ . فالذي يقع عليه النسخ إذا هو الحكم الشرعي العملي الذي لم يلحقه تأبيد ولا توقيت كالأحكام التكليفية من وجوب وندب وإباحة وتحريم وكراهة .
    وقال صاحب التقرير والتحبير : ( محل النسخ عند الحنفية حكم شرعي فرعي يحتمل في نفسه الوجود والعدم وعند طائفة منهم غير مقيد بتأبيد ولا توقيت قبل مضيه خلافا للآخرين ) وقد اتفقت كلمة القائلين بالنسخ المجيزين لوقوعه على عدم وقوعه في الأحكام العقلية كلمة القائلين بالنسخ المجيزين لوقوعه على عدم وقوعه في الأحكام العقلية وهي الأحكام التي يدركها العقل بنور البصيرة ويأتي الشرع مؤيدا لها كالإيمان بواحدانية الله تعالى وحسن الصدق والوفاء بالعهد وقبح الكفر والكذب وإخلاف الوعد .
    وفي معرض حديثه عن نسخ الأخبار يقول الآمدي في الإحكام : ( إن الخبر إما أن تنسخ تلاوته أو تكليفنا بأن نكون قد كلفنا أن نخبر بشيء فينسخ عنا التكليف بذلك الإخبار ) ويقول البدخشي في ذلك أيضا ( لا خلاف في أن التكليف بالأخبار بشيء من عقلي أو عادي أو شرعي ثم نسخه بعد ذلك جائز ) .
    وقد ذهب ابن حزم رحمه الله إلى أن النسخ لا يقع إلا في الأوامر والنواهي فأما الأخبار فلا يقع فيها النسخ إطلاقا ولا يصح أن يقع في مدلول الخبر إلا إن كان المراد من الخبر والأخبار الأمر والنهي . وقد قسم حين تكلم عن نسخ الأخبار الكلام إلى أربعة أقسام أمر ورغبة وخبر واستفهام وبين أن
    ( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 255)
    القسم الأول هو الذي يقع فيه النسخ أما ما سواه فلا يقع فيها . وقد سمى الرجوع عن الأمر بإحداث أمر غيره نسخا وإذا ورد لفظ الكلام كلفظ الخبر ومعناه معنى الأمر جاز النسخ فيه مثل قوله تعالى : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ وقوله تعالى : فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا .
    وإذا كان مضمون الخبر مما يتغير جاز نسخه مطلقا وإليه يذهب أبو عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري وهو المختار عند الآمدي ، سواء كان ماضيا أو مستقبلا وقد علل هذا الاختيار بقوله : ( وذلك لأنه إذا ما دل عليه كان الإخبار متكررا والخبر عام فيه فأمكن أن يكون الناسخ مبينا لإخراج بعض ما تناوله اللفظ وأن المراد بعض ذلك المذكور كما في الأوامر والنواهي ) واختار هذا القول ابن تيمية أيضا وذهب فخر الدين الرازي إلى جواز النسخ في مدلول الخبر الذي يتغير . أما أبو الحسين البصري فيجيز نسخ تلاوة الخبر كنسخ تلاوة أخبار التوراة كما يجيز نسخ الابتداء بالخبر نحو أن يأمرنا الله سبحانه أن نخبر عن شيء فيجوز أن ينسخ عنا وجوب الإخبار عنه سواء كان الخبر مما يجوز أن يتغير أو مما لا يجوز أن يتغير كالإخبار عن صفات الله سبحانه ؛ لأنه لا يمتنع أن يكون في الإخبار عن ذلك مفسدة كما كان في تلاوة الجنب والحائض للقرآن مفسدة أما ابن أمير الحاج صاحب ( التقرير والتحبير على تحرير الكمال بن الهمام ) فيقسم مدلول الخبر إلي قسمين :
    الأول : إن ترتب على جواز نسخه الكذب والخلف في حق من لا يجوز عليه ذلك فلا يجوز نسخه ويلحق هذا القسم بالأخبار التي يوجبها العقل في عدم جواز نسخها .
    الثاني : أنه إن لم يترتب على نسخه الكذب فلا يكون خبرا ويجوز نسخه .
    ولقد لخص ابن أمير الحاج موقف العلماء من وقوع النسخ في الأخبار بقوله :
    قال الجمهور : لا يجري النسخ في الأخبار سواء كانت ماضية أو مستقبلة؛ لأن النسخ فيها هو الكذب والشارع منزه عنه والحد فيه أن النسخ لا يجري في واجبات العقل بل في جائزاتها وتحقق المخبر به في خبر من لا يجوز عليه الكذب والخلف من الواجبات والنسخ فيه يؤدي إلى الكذب فلا يجوز . ثم ذكر أن هناك من العلماء من قال بجواز نسخ الأخبار مطلقا سواء كانت ماضية أو مستقبلة وعدا أو وعيدا ونسب هذه القول إلى الإمام الرازي والآمدي إذا كان مدلول الخبر مما يتغير . كما ذكر أن صاحب ( كشف الأسرار ) قد أسند هذا القول إلى بعض المعتزلة والأشعرية إذا كان مدلوله متكررا والإخبار عنه عاما . وهناك من العلماء من فرق بين أخبار الوعد وأخبار الوعيد فمنع النسخ في خبر الوعد؛ لأن فيه إخلافا في الإنعام والخلف في الإنعام محال على الله تبارك وتعالى . وأما الوعيد ففي جواز وقوع النسخ فيه حكمة بالغة وهو دليل على عفو الله وكرمه لا على خلفه وخلاصة القول فيما يقع فيه النسخ في القرآن الكريم أنه يقع في الأحكام والفرائض والأوامر والنواهي والحدود والعقوبات من أحكام الدنيا باتفاق عامة العلماء وهو الذي عليه العمل عند فقهاء الأمصار وأما الأخبار فإن لعلماء الأصول في وقوع النسخ فيها من عدمه ثلاثة مذاهب :
    1 - منع نسخها مطلقا .
    2 - جواز نسخها مطلقا .
    3 - التفصيل في ذلك على الوجه الذي أسلفناه مجملا . .

    الفصل السابع
    أنواع النسخ في القرآن
    يقرر الباحثون في علوم القرآن باتفاق أن أنواع النسخ في القرآن الكريم ثلاثة هي :
    الأول : ما نسخ رسمه وبقي حكمه كآية الرجم ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لولا أن يقول الناس زاد ابن الخطاب في كتاب الله لكتبت في حاشيته ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) رواه أحمد ومالك في الموطأ وأبو داود . وكذلك آية الرضاع في قول أصحاب الشافعي رحمه الله وقد قالت عائشة رضي الله عنها : ( كان فيما أنزل الله تعالى عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخن بخمس معلومات ) . رواه مالك في الموطأ ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي . فالخمس منها منسوخ الرسم ثابت الحكم عند الشافعي وأصحابه . وقال مالك وأصحاب الرأي بنسخها بالرضعة الواحدة .
    والقسم الثاني : ما نسخ حكمه ورسمه معا كالعشر من الرضعات عند الشافعي وأصحابه .
    والقسم الثالث : ما نسخ حكمه وبقي رسمه كالآيات المنسوخة أحكامها مع بقاء نظمها في القرآن وقال الزركشي في البرهان حين كر القسم الأول : ( فيعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول ) فجعل شرط العمل به أن يكون مجمعا عليه . ثم قال بعد أن أورد خبر عمر رضي الله عنه الذي ذكر أن البخاري رواه في صحيحه معلقا : ( وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بن كعب : كانت سورة الأحزاب توازي سورة النور فكان فيها ( الشيخ والشيخة ) . . . إلخ . إلى أن قال : وذكر الإمام المحدث أبو الحسين أحمد بن جعفر المنادي في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) مما رفع رسمه من القرآن ولم يرفع من القلوب حفظه سورتا القنوت في الوتر قال : ولا خلاف بين الماضين والغابرين أنهما مكتوبتان في المصاحف المنسوبة إلى أبي بن كعب وأنه ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقرأه إياهما وتسمى سورتي الخلع والحفد . . . ) اهـ .
    ثم افترض سؤالا هو : ما الحكمة في رفعه التلاوة مع بقاء الحكم وهلا أبقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟ وذكر أن أبا الفرج بن الجوزي قد أجاب على هذا السؤال المفترض في كتابه ( فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن ) بقوله : إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام والمنام أدنى طرق الوحي .
    وقد ذكر الزركشي أن النوع الثاني من الأنواع الثلاثة ورد في ثلاث وستين سورة ثم عاد إلى الأسئلة الافتراضية فقال بعد إيراده بعض الأمثلة على نسخ الحكم وبقاء التلاوة والجواب من وجهين :
    أحدهما : إن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه والعمل به فيتلى لكونه كلام الله تعالى فيثاب عليه فتركت التلاوة لهذه الحكمة .
    وثانيهما : إن النسخ غالبا يكون للتخفيف فأبقيت التلاوة تذكيرا بالنعمة ورفع المشقة وأما حكمة النسخ قبل العمل كالصدقة عند النجوى فيثاب على الإيمان به وعلى نية طاعة الأمر . وعند كلامه على نسخ الحكم والتلاوة معا قال رحمه الله تعليقا على قول عائشة رضي الله عنها في حديث الرضعات : فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مما يقرأ من القرآن حسب رواية مسلم رحمه الله وقد تكلموا في قولها (وهي مما يقرأ) فإن ظاهره بقاء التلاوة وليس كذلك . فمنهم من أجاب بأن المراد قارب الوفاة . والأظهر أن التلاوة نسخت أيضا ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي وبعض الناس يقرؤها .
    وقال أبو موسى الأشعري : نزلت ثم رفعت اهـ وعلق على خبر عائشة أيضا مكي بن أبي طالب بقوله : ( فهذا قول عائشة غريب في الناسخ والمنسوخ ، والناسخ غير متلو والمنسوخ غير متلو وحكم الناسخ قائم ) .
    وهذه الأنواع الثلاثة التي ذكرناها إنما هي للنسخ في القرآن الكريم من حيث هو بيد أن مكي بن أبي طالب رحمه الله تعالى قد ذكر في ( الإيضاح ) تقسيما آخر للنسخ باعتبار المنسوخ فأثبت ستة أقسام للمنسوخ من القرآن فيما يلي بيانها :
    الأول : ما رفع جل ذكره رسمه من كتابه بغير بدل منه وبقي حفظه في الصدور ومنه الإجماع على ما في المصحف من تلاوته على أنه قرآن وبقي حكمه مجمعا عليه نحو آية الرجم التي تقدم ذكرها .
    الثاني : ما رفع الله حكمه من الآي بحكم آية أخرى وكلاهما ثابت في المصحف المجمع عليه متلو وهذا هو الأكثر في المنسوخ ولا يكون في الأخبار على ما قدمنا وقد مضى تمثيله في آية الزواني المنسوخة بالجلد المجمع عليه في سورة النور كلاهما باق متلو كله .
    الثالث : ما فرض العمل به لعلة ثم زال العمل به لزوال تلك العلة وبقي متلوا ثابتا في المصحف نحو قوله وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ الآية وقوله تعالى : وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا وقوله : فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا أمروا بذلك كله وفرض عليهم بسبب المهادنة التي كانت بين النبي - عليه الصلاة والسلام- وبين قريش في سنة ست في غزاة الحديبية إذ صدوه عن البيت فلما ذهبت المهادنة وزال وقتها سقط العمل بذلك كله وبقي اللفظ متلوا وثابتا في المصحف الرابع : ما رفع الله رسمه وحكمه وزال حفظه من القلوب . وهذا النوع إنما يؤخذ بأخبار الآحاد وذلك نحو ما روى عاصم ابن بهدلة المقري - وكان ثقة مأمونا- عن زر أنه قال : قال لي أبي : يا زر إن كانت سورة الأحزاب لتعدل سورة البقرة . ومنه ما روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال : نزلت سورة نحو سورة براءة ثم رفعت وذكر أنه حُفظ منها شيء . يقول مكي : أضربت أنا عن ذكره؛ لأن القرآن لا يؤخذ بالأخبار وقد ذكر من نحو هذا أشياء كثيرة اخترت أنا الإضراب عن نصها إشفاقا والله أعلم بذلك كله .
    الخامس : ما رفع الله -جل ذكره- رسمه من كتابه فلا يتلى وأزال حكمه ولم يرفع حفظه من القلوب ومنع الإجماع من تلاوته على أنه قرآن . وهذا أيضا إنما يؤخذ من طريق الأخبار نحو ما ذكرنا من حديث عائشة رضي الله عنها في العشر الرضعات والخمس فالأمة مجمعة على أن حكم العشر غير لازم ولا معمول به عند أحد . وإنما وقع الاختلاف في التحريم برضعة على نص القرآن في قوله : وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ أو بخمس رضعات على قول عائشة أنها نسخت العشر وكانت مما يتلى وقد ذكرنا هذا .
    السادس : ما حصل من مفهوم الخطاب فنسخ بقرآن متلو وبقي المفهوم ذلك منه متلوا نحو قوله لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى فهم من هذا الخطاب أن السكر في غير وقت الصلاة جائز فنسخ ذلك المفهوم قوله فَاجْتَنِبُوهُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فحرم الخمر والسكر مثل الخمر وبقي المفهوم ذلك منه متلوا قد نسخ أيضا بما نسخ ما فهم منه فيكون فيه نسخان : نسخ حكم ظاهر متلو ونسخ حكم ما فهم من متلوه . وكما قسم مكي رحمه الله النسخ باعتبار المنسوخ فقد قسمه أيضا من حيث الناسخ إلى ثلاثة أقسام هي :
    الأول : أن يكون الناسخ فرضا نسخ ما كان فرضا ولا يجوز فعل المنسوخ نحو قوله تعالى وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فرض الله فيها حبس الزانية حتى تموت أو يجعل الله لها سبيلا ثم جعل السبيل بالحدود في سورة النور بقوله فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ فكان الأول فرضا فنسخه فرض آخر ولا يجوز فعل الأول المنسوخ وكلاهما متلو مدني .
    الثاني : أن يكون الناسخ فرضا ونحن مخيرون في فعل الأول وتركه وكلاهما متلو وذلك نحو قوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا ففرض الله على الواحد المؤمن ألا ينهزم لعشرة من المشركين ثم نسخ ذلك بقوله الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ ففرض على الواحد المؤمن ألا ينهزم لاثنين من المشركين فنسخ فرض فرضا وكلاهما متلو ولو وقف الواحد لعشرة من المشركين فأكثر لجاز فنحن مخيرون في فعل المنسوخ وتركه .
    الثالث : أن يكون الناسخ أمر بترك العمل بالمنسوخ الذي كان فرضا من غير بدل ونحن مخيرون في فعل المنسوخ وتركه وفعله أفضل وذلك كنسخ الله-جل ذكره- قيام الليل وقد كان فرضا فنسخه بالأمر بالترك تخفيفا ورفقا بعباده ونحن مخيرون في قيام الليل وتركه وفعله أفضل وأشرف وأعظم أجرا . ثم ذكر مكي أن قوما قد زادوا في أقسام الناسخ قسما رابعا وهو أن يكون الناسخ فرضا نسخ ما كان ندبا غير فرض كالقتال كان ندبا ثم صار فرضا
    آراء العلماء في أنواع النسخ
    أما نسخ التلاوة والحكم معا فمما اتفق عليه سائر مجيزي النسخ . وأما نسخ الحكم وبقاء التلاوة فهو رأي الجمهور ومنعه بعض المعتزلة لعدم إدراكهم الحكمة في ذلك . وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فهو رأي الجمهور أيضا مع خلاف بعض المعتزلة . كما خالف رأي الجمهور أيضا في هذا النوع الشيخ محمد الخضري في كتابه ( الأصول ) حيث يقول : أنا لا أفهم معنى آية أنزلها الله لتفيد حكما ثم يرفعها مع بقاء حكمها فما هي المصلحة في رفع آية مع بقاء حكمها؟ إن ذلك غير مفهوم . وفي رأيي ليس هناك ما يلجئني إلى القول به ثم قال (وحجة الجمهور أخبار آحاد لا يقوم برهانا على ذلك) وقد رد صاحب كتاب ( دراسات في الإحكام والنسخ في القرآن الكريم ) الشيخ محمد حمزة على استشكال الخضري بعد إيراده له بقوله : حجة الجمهور أحاديث صحيحة مشهورة لا يبعد أن يدعى تواترها . كما قال شارح مسلم الثبوت وهي تكفي حجة في كل حكم شرعي بل إن آية الرجم ثابتة بالتواتر؛ لأن الإجماع ظاهرها وليس بعد ذلك قول لقائل؛ لأن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعلن ذلك على المنبر على مسمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخالفه أحد ، وعدم مخالفة أحد من الصحابة يعد إجماعا سكوتيا كما اختلفوا في الاحتجاج بحديث الرضعات الخمس الذي روته عائشة رضي الله عنها ومثلنا به لما نسخ حكمه وتلاوته معا حيث إنه آحاد وإذا كان كذلك فإنه لا يثبت به قرآن ناسخا أو منسوخا . وإذا لم يثبت به قرآن فهل يجوز الاحتجاج به أم لا؟ قولان . فالشافعية قالوا نعم والأحناف قالوا : لا وقال الذين يرون الاحتجاج به أنه قد عمل به من الصحابة ابن مسعود وابن الزبير رضي الله عنهما وعمل به من الأئمة الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى .

    الفصل الثامن
    أمثلة للنسخ وما قيل إنه نسخ وليس بنسخ
    أولا : أمثلة للنسخ :
    1 - قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ منسوخة قيل بآية المواريث وقيل بحديث ألا لا وصية لوارث وقيل بالإجماع حكاه ابن العربي .
    2 - قوله تعالى يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ منسوخة بقوله تعالى وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً أخرجه ابن جرير عن عطاء بن ميسر .
    3 - قوله تعالى وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ منسوخة بقوله بعده لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا .
    4 - قوله تعالى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ منسوخة بقوله سبحانه وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ .
    5 - قوله تعالى وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ
    ( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 265)
    الآية منسوخة بآية النور الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ الآية.
    6 - قوله تعالى وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ في آية المائدة منسوخة بإباحة القتال فيه .
    7 - قوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ الآية منسوخة بالآية بعدها .
    8 - قوله تعالى فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ منسوخة بقولة تعالى وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ الآية .
    9 - قوله تعالى أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ منسوخ بقوله وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ .
    10 - قوله تعالى انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا منسوخة بآيات العذر كقوله تعالى لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ الآية . وقوله لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ومنسوخة كذلك بقوله تعالى وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً .
    11 - قوله تعالى لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ منسوخة بقوله سبحانه يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ الآية .
    12 - قوله تعالى إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً منسوخة بقوله تعالى بعدها أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الآية .
    13 - قوله تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ منسوخة بقوله فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ على رأي ابن عباس ثانيا : ما توهم أنه نسخ وليس كذلك .
    هناك آيات ذكرها بعض من ألفوا في علم الناسخ والمنسوخ على سبيل التوهم منهم إذ لا يصح أن تكون منسوخة ولا علاقة لها بالنسخ يوجه من الوجوه وسنذكر فيما يلي أمثلة لما توهم أنه نسخ وليس كذلك :
    1 - قوله تعالى وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وقوله سبحانه أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ونحو ذلك . قالوا : إنه منسوخ بآية الزكاة وليس كذلك بل هو باق .
    أما الأولى فإنها خبر في معرض الثناء عليهم بالإنفاق وذلك يصلح أن يفسر بالزكاة وبالإنفاق على الأهل وبالإنفاق في الأمور المندوبة كالإعانة والإضافة وليس في الآية ما يدل على أنها نفقة واجبة غير الزكاة والآية الثانية يصح حملها على الزكاة وقد فسرت بذلك .
    2 - قوله تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ . قيل : إنها مما نسخ بآية السيف وليس كذلك لأنه تعالى أحكم الحاكمين أبدا لا يقبل هذا الكلام النسخ وإن كان معناه الأمر بالتفويض وترك المعاقبة .
    3 - قوله تعالى وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا عده بعضهم من المنسوخ بآية السيف وقد غلطه ابن الحصار بأن الآية حكاية عما أخذه على بني إسرائيل من الميثاق فهو خبر لا نسخ فيه .
    4 - قوله تعالى إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا الآية . وكذلك قوله تعالى وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا الآية وكذلك قوله تعالى فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وهذه الآيات ليس فيها نسخ وليست من بابه وإنما هي من قبيل التخصيص باستثناء أو غاية . وقد أخطأ من أدخلها في المنسوخ .
    5 - وكذلك قوله تعالى وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ . قيل : إنه نسخ بقوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ . وليس كذلك وإنما هو مخصوص به .
    ( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 268)
    6 - قوله تعالى فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ . الآية . توهم قوم أن هذا منسوخ بقوله تعالى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ . وليس الأمر كذلك وإنما هو على أحد وجهين :
    الأول : أن يكون تحريم وطء الحائض نزل قبل إباحة الوطء ليلة الصيام فنزل ذلك وقد استقر في أنفسهم تحريم وطء الحائض فصارت المباشرة المباحة مخصوصة ليل الصوم في غير الحائض من زوجة وأمة .
    الثاني : أن يكون تحريم وطء الحائض نزل بعد هذه الآية فتكون مبينة لها ومخصصة أنها في غير ذوات الحيض فلا يجب أن يدخل هذا في الناسخ والمنسوخ وممن وهم في هذا الباب ابن خزيمة في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) فقد اشتبه عليه التخصيص بالنسخ فعد كثيرا منه نسخا كاعتباره آية إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْـزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ . الآية منسوخة بالاستثناء كلها؛ لأن الله تعالى حرم جميع ذلك ثم أباحها للمضطر بقوله فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وهذا تخصيص لا نسخ كما عد الاستثناء في مواضع كثيرة نسخا أيضا مثل ما جاء في قوله تعالى : أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (159) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا وهو كسابقه من قبيل التخصيص لا النسخ وقد عقد ابن خزيمة بابا خاصا في كتابه المومى إليه لذكر المنسوخ بالاستثناء فحصر الآيات من هذا القبيل بثلاث وعشرين آية .
    كما عقد بابين في كتابه المذكور أحدهما لذكر الآيات المنسوخة بآية السيف وهي قوله تعالى فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فعد في هذا مائة وثلاثا وعشرين آية لا تصح دعوى النسخ في واحدة منها .
    قال الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير : وأكثر المفسرين يقولون إن كل ما في القرآن من قوله فَأَعْرِضْ منسوخ بآية القتال . وهو باطل؛ لأن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ بها ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم في الأول كان مأمورا بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أمر بإزالة شبههم والجواب عنها فقيل له وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ثم لما لم ينفع ذلك فيهم قيل له أعرض عنهم ولا تقابلهم بالدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به وقاتلهم . والإعراض عن المناظرة شرط لجواز المقاتلة فكيف يكون منسوخا بها . والباب الثاني الذي عقده ابن خزيمة في كتابه هو باب ما نسخ من القرآن بآية القتال وذكر فيه تسع آيات لا تصح دعوى النسخ في أي منها كذلك .
    ولعل من المناسب بعد أن ذكرنا بعض الأمثلة لما توهم أنه نسخ وليس بنسخ أن نشير بإيجاز إلى أبرز أسباب توهم النسخ فيما توهموه فيه فنقول :
    أولا : اشتباه التخصيص بالنسخ عليهم وقد تقدم مثاله .
    ثانيا : ظنهم أن ما شرع لسبب ثم زال لزوال سببه من المنسوخ فعدوا الآيات التي وردت في الحث والصبر وتحمل أذى الكفار أيام ضعف المسلمين منسوخة بآيات القتال وليس الأمر كذلك تحقيقا .
    ثالثا : اعتبروا كل قيد لآية من قبيل النسخ كقوله تعالى وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ . فعده ابن خزيمة وغيره ناسخا لعموم المشركين في قوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ مع أنه تخصيص بالقيد .
    رابعا : إدخال كثير من الآيات الخبرية في باب المنسوخ مع أنه لا يجوز نسخ الخبر إلا إذا تضمن حكما شرعيا أما إذا كان خبرا محضا فلا ، كما تقدم في موضعه من هذا البحث ومثاله ما قدمناه من اعتبارهم قوله تعالى وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ و أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ منسوخا بآية الزكاة وليس كذلك ومثله أيضا قوله تعالى وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ حيث عدها هبة الدين بن سلامة منسوخة بقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وليس كذلك إذ هما خبران محضان لا يجري النسخ فيهما .
    خامسا : اشتباه البيان بالنسخ عليهم كقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا حيث عدها هبة الله بن سلامة منسوخة بقوله تعالى وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ الآية . ثم اعتبر هذه أيضا منسوخة بقوله : وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ حيث قال : فصارت هذه ناسخة لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا الآية . وليس هذا بنسخ وإنما هو بيان لما ليس بظلم ، وببيان ما ليس بظلم يتبين الظلم .
    سادسا : توهم وجود تعارض بين نصين ولا تعارض بينهما في الحقيقة كتوهم التعارض بين آية الزكاة وآيات الصدقات الواردة في القرآن الكريم مما حدا بابن سلامة في الناسخ والمنسوخ وابن الجوزي في نواسخه أن يقولا : قال أبو جعفر يزيد بن القعقاع : ( نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن فصارت آية الزكاة ناسخة لكل صدقة ) . مع أنه لا يوجد في الواقع تعارض ولا تناف بين هذه وتلك حيث يصح حمل الإنفاق في آيات الصدقات على ما يشمل الزكاة وصدقة التطوع ونفقة الأهل والأقربين ونحو ذلك وتكون آيات الزكاة من قبيل ذكر فرد من أفراد العام بحكم العام وهذا لا يخصص العام ولا ينسخه وذلك لعدم وجود تعارض حقيقي لا بالنسبة إلى كل فرد من أفراد العام حتى يكون ناسخا ولا بالنسبة إلى بعضها حتى يكون مخصصا .
    هذه أبرز أسباب توهم من توهم ما ليس بنسخ نسخا وإلا فإن هناك أسبابا أخرى لا يتسع المجال لذكرها .

    خاتمة البحث
    وهكذا يتبين لنا بعد التجوال في ميدان هذا العلم من علوم القرآن الكريم أعني ( الناسخ والمنسوخ ) أنه علم من آكد العلوم وأوجبها تعلما وحفظا وبحثا وفهما وخاصة لمن أراد أن يخوض غمار تفسير كتاب الله تعالى وأن يغوص في لجته لاستخراج الدرر الثمينة والجواهر النفيسة . بل إنه علم لا يسع كل من تعلق بأدنى علم من علوم الديانة جهله كما قال ذلك مكي بن أبي طالب القيسي رحمه الله تعالى .
    وإن مما يدل على عظم شأن هذا العلم وجليل خطره أن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه عداه شرطا لكون الإنسان عالما . وأن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة اعتبره شرطا للإفتاء بل قال : إنه لا يحل لأحد أن يفتي حتى يعرفه .
    وتبين لنا من خلال بحثنا أن النسخ في اللغة معناه الإزالة والتغيير تقول ( نسخت الشمس الظل ) أي أزالته ( ونسخت الريح آثار الدار ) أي غيرتها كما يأتي بمعنى النقل كقولك ( نسخت الكتاب ) إذا نقلت ما فيه . وهو بهذا دائر في ثلاثة أوجه هي : النقل ، والإزالة مع حلول المزيل محل المزال ، والإزالة مع عدم حلول المزيل محل المزال فكأنه بمعنى المحو .
    وأنه في الاصطلاح ( رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ) كما هو عند جمهور المحققين .
    وهنالك تعريفات اصطلاحية أخرى للنسخ أثبتناها في موضعها لا تخرج في جملتها عن مضمون هذا التعريف .
    كما بينا في ثنايا هذا البحث الفرق بين النسخ والتخصيص وقلنا : إن هنالك فروقا سبعة بينهما ذكرناها في موضوعها بالتفصيل مع أمثلتها التي توضحها .
    ثم عرجنا على ما يتعلق بشروط النسخ فبينا في الفصل الثالث أن شروط النسخ نوعان : نوع متفق عليه . ونوع مختلف فيه وذكرنا أربعة من الشروط المتفق عليها وسبعة من الشروط المختلف فيها وذكرنا أن صاحب ( نظرية النسخ في الشرائع السماوية ) قد نقل عن الآمدي في ( الأحكام ) والزرقاني في ( مناهل العرفان ) أن الراجح كونه لا داعي لهذه الشروط السبعة المختلف فيها .
    ونقلنا عن كل من مكي بن أبي طالب وعبد القاهر بن طاهر البغدادي عددا من الشروط التي يشترطانها لتحقيق النسخ .
    ثم انتقلنا إلى استعراض آراء العلماء أفرادا وطوائف في حكم النسخ مع مناقشة تلك الآراء وتفنيد ما تستدعي الحال تفنيده منها وبيان وجه الحق في ذلك مستعرضين أدلة وحجج المجيزين والمانعين له على السواء وقد رأينا أن أدلة المجيزين له هي الأظهر وأن حجتهم هي الأبلغ والأقوى لانطلاقها من كون الله تعالى هو الفعال لما يريد يأمر عباده بما شاء وينهاهم عما يشاء يبقي من أحكامه على ما يشاء وينسخ منها ما يشاء بناء على اختياره ومشيئته وكبريائه وعظمته سبحانه إذ لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا ملزم يلزمه جل وعلا .
    وقلنا : إن مذهب هؤلاء المنكرين للنسخ هو أخطر المذاهب وأشنعها في هذا الباب وأبعدها عن الحق وأكثرها مجانبة للصواب وولوغا في الباطل .
    واتضح لنا أن هنالك إجماعا على جواز النسخ عقلا ووقوعه سمعا لم يخرج عليه سوى من لا يعتد به كالشمعونية إحدى فرق اليهود الثلاث وبعض نصارى هذا الزمان وأبي مسلم الأصفهاني ومن شايعه الذي يرى أن النسخ جائز عقلا ممتنع سمعا في حين يرى بعض النصارى المعاصرين وكذلك الشمعونيون من اليهود استحالة النسخ وامتناعه عقلا وسمعا .
    ورأينا كيف يثير المانعون شبها كثيرة تولى العلماء المختصون رحمهم الله ردها وتفنيدها وإبطالها بكل جلد وقوة وعلم .
    أما في الفصل الخامس فقد قمنا بتفسير تحليلي للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم معتمدين في ذلك على النقل عن بعض التفاسير المعتمدة والمعتبرة مشيرين إلى الاختلاف الواقع في قراءة الآية إن وجد موضحين دلالة كل آية منها على النسخ مشيرين إلى الأوجه اللغوية وما حكاه أئمة اللغة وأئمة التفسير معا في إيضاح وبيان معاني تلك الآيات بتفصيل واف لكافة وجوهها وناقشنا بعد ذلك ما يقع فيه النسخ في القرآن الكريم فخلصنا إلى أنه لا يقع إلا في الأوامر والنواهي والأحكام والفرائض والحدود والعقوبات من أحكام الدنيا وهو قول عامة العلماء والذي عليه العمل عند فقهاء الأمصار . وأما الأخبار المحضة وما قص الله علينا من أخبار الجنة والنار والحساب والعقاب والبعث والحشر ونحو ذلك من الأخبار فلا يجوز نسخه ؛ لأن الله سبحانه يتعالى أن يخبر عن الشيء على غير ما هو به .
    وقد أطلنا في بيان عدم وقوع النسخ في الأخبار المحضة وذكرنا آراء من شذ عن الإجماع فأجاز النسخ في الأخبار سواء من قيد ذلك بما إذا كان مدلول الخبر مما يتغير كالرازي والآمدي . أو من لم يقيد ذلك بشيء بل أجاز وقوعه فيها مطلقا كأبي الحسين البصري .
    وفي الفصل السابع من هذا المبحث تناولنا أنواع النسخ في القرآن وتقرر أنها ثلاثة هي :
    ما - نسخ تلاوة وبقي حكما .
    ما - نسخ تلاوة وحكما .
    ما - نسخ حكما وبقي تلاوة .
    كما استعرضنا تقسيما للنسخ باعتبار آخر هو اعتبار المنسوخ فرأينا أن مكي بن أبي طالب قد عد بهذا الاعتبار ستة أقسام .
    وكذلك قسم رحمه الله النسخ باعتبار الناسخ إلى ثلاثة أقسام :
    وختمنا هذا الفصل ببيان أراء العلماء في أنواع النسخ حيث اتفق سائر مجيزي النسخ على نسخ التلاوة والحكم معا بينما منع بعض المعتزلة نسخ الحكم وبقاء التلاوة وهو النوع الذي يراه الجمهور وكذلك يرى الجمهور أيضا نسخ التلاوة مع بقاء الحكم في الوقت الذي نجد الشيخ محمد الخضري في كتابه ( الأصول ) يخالف رأي الجمهور في ذلك قائلا : ( إن ذلك غير مفهوم وفي رأيي ليس هناك ما يلجئني إلى القول به ) ورد حجة الجمهور في إثبات ذلك النوع بأنها أخبار آحاد لا تقوم برهانا على ذلك .
    وقد نقلنا رد الشيخ محمد حمزة في كتابه ( دراسات في الإحكام والنسخ ) على ما أورده الشيخ الخضري .
    وأخيرا ختمنا هذا البحث بإيراد أمثلة للنسخ في كتاب الله تعالى وكذلك لما توهم أنه نسخ وليس بنسخ فذكرنا للنسخ ثلاثة عشر مثالا ولما توهموه نسخا وليس كذلك ستة أمثلة .
    وأشرنا إلى أن ابن خزيمة ممن وهم في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) فأورد شيئا كثيرا مما عده نسخا وليس به لاشتباه التخصيص والاستثناء لديه بالنسخ .
    وأنهينا الفصل الثامن والأخير الذي اشتمل على الأمثلة للنسخ الصحيح والنسخ المتوهم بذكر أبرز أسباب توهم النسخ وقد عددنا منها ستة أسباب رئيسة وأشرنا إلى أن الحيز يضيق عن استقصاء جميع أسباب ذلك التوهم .
    والخلاصة أن علم الناسخ والمنسوخ أحد علوم القرآن الكريم التي ينبغي العناية بها وأنه غير التخصيص وأن له شروطا وأنواعا وأن الناس قد اختلفوا حوله بين مجيز ومانع وأن ما عليه جمهور العلماء المحقيقين أنه لا يقع إلا في
    ( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 276)
    الأمر والنهي لا في الخبر المحض وأن من توهم في النسخ ما ليس منه إنما توهم ذلك بسبب من أسباب عديدة بينها أهل الاختصاص . . .
    وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .

    المراجع
    1 - كتاب الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى لقتادة بن دعامة السدوسي تحقيق د \ حاتم صالح الضامن ، الطبعة االثانية 1406هـ الناشر مؤسسة الرسالة .
    2 - الناسخ والمنسوخ من كتاب الله عز وجل لهبة الله بن سلامة بن نصر المقري تحقيق زهير الشاويش ومحمد كنعان الطبعة الثانية 1406هـ الناشر المكتب الإسلامي .
    3 - الناسخ والمنسوخ للإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي تحقيق د \ حلمي كامل أسعد عبد الهادي . الطبعة الأولى سنة 1407هـ الناشر دار العدوي عمان الأردن .
    1 - الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي بن أبي طالب . الطبعة الأولى سنة 1406هـ تحقيق الدكتور أحمد حسن فرحات . الناشر دار المنارة بجدة .
    2 - ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه لابن البارزي . تحقيق د \ حاتم الضامن . الطبعة الثالثة 1405 هـ مؤسسة الرسالة .
    3 - الموافقات للشاطبي . نشر المكتبة التجارية الكبرى بمصر .
    4 - البرهان في علوم القرآن للزركشي . الطبعة الثالثة . نشر وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد .
    5 - الإتقان في علوم القرآن للسيوطي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم . الطبعة الثالثة 1405 هـ . نشر وتوزيع دار التراث بالقاهرة .
    6 - مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني . الطبعة الثالثة مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه .
    10 - مباحث العرفان في علوم القرآن للشيخ مناع القطان . الطبعة التاسعة عشرة 1406 هـ مؤسسة الرسالة .
    11 - نظرية النسخ في الشرائع السماوية لشعبان إسماعيل . مطابع الدجوي القاهرة . عابدين .
    12 - دراسات في الإحكام والنسخ لمحمد حمزة . الطبعة الأولى . نشر دار قتيبة .
    13 - تفسير ابن الجوزي ( زاد المسير ) الطبعة الثالثة 1404هـ . المكتب الإسلامي .
    14 - تفسير القرآن العظيم لابن كثير نشر دار المعرفة . بيروت . لبنان سنة 1401هـ .
    15 - تفسير أبي السعود . الناشر مكتبة الرياض الحديثة سنة 1401هـ نشر وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد .
    16 - فتح القدير للشوكاني . الناشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع سنة 1401هـ .
    17 - تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار لمحمد رشيد رضا . الطبعة الثانية . الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر . بيروت . لبنان .
    18 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لابن سعدي . طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد . الرياض سنة 1404هـ .
    19 - معجم مقاييس اللغة لابن فارس . تحقيق وضبط عبد السلام محمد هارون . الناشر دار الفكر سنة 1399هـ .
    20 - الصحاح للجوهري . الطبعة الثانية 1399هـ . الناشر دار العلم للملايين بيروت .
    21 - المصباح المنير للمقري الفيومي . نشر المكتبة العلمية . بيروت . لبنان .
    22 - المعجم الوسيط من وضع وإعداد مجمع اللغة العربية بالقاهرة الطبعة الثانية . مطابع دار المعارف بمصر 1393 هـ . توزيع دار الباز بمكة .
    23 - التقرير والتحبير على تحرير الكمال بن الهمام .
    24 - شرح البدخشي على شرح الإسنوي على منهاج الأصول للبيضاوي . مطبعة محمد علي صبح بمصر .
    25 - الإحكام للآمدي . الطبعة الأولى 1378هـ .
    26 - الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم . تحقيق أحمد شاكر . مطبعة العاصمة بالقاهرة .
    27 - المسودة لابن تيمية . مطبعة المدني بالقاهرة 1384 هـ تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد .
    28 - المعتمد لأبي الحسين البصري تحقيق محمد حميد الله طبع دمشق 1384 هـ .
    29 - النسخ في دراسات الأصوليين . الطبعة الأولى 1405هـ الناشر مؤسسة الرسالة .

    عبد الله بن حمد بن عبد الله الشبانة .
    - من مواليد مدينة المجمعة عام 1367 هـ .
    - حصل على شهادة الابتدائية في الرياض عام 1379 هـ .
    - تخرج من معهد الرياض العلمي عام 1384 هـ .
    - تخرج من كلية اللغة العربية عام 1389هـ .
    - عمل بالتدريس في المعاهد العلمية مدة ثلاث سنوات ، ثم التحق بديوان الموظفين العام ( ديوان الخدمة المدنية - حاليا - عام 1393هـ ، ثم التحق بوزارة الإعلام عام 1394هـ ، ثم التحق للعمل في مجال الدعوة بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، مديرا لمركز الدعوة والإرشاد بظفار في المنطقة الجنوبية لسلطنة عمان عام 1399هـ ثم مديرا لمركز الدعوة والإرشاد بالفجيرة بدولة الإمارات العربية المتحدة عام 1401هـ ، ثم رشح مديرا عاما للرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عام 1403هـ ، ثم عين أمينا عاما مساعدا لهيئة كبار العلماء عام 1406هـ وهو عمله الحالي .
    له من المؤلفات :
    1- كتاب : موجز القول .
    2- كتاب : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء .
    3- كتاب : خطرات ونظرات .
    4- كتاب : المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية .
    5- الزفرات الحرى " ديوان شعر " .
    6- تحية للوطن " ديوان شعر " .
    كما أن له بعض البحوث والمقالات المنشورة في الصحف والمجلات المحلية والإسلامية .
    النسخ في القرآن الكريم إعداد : الشيخ عبد الله بن حمد بن عبد الله الشبانة الأمين العام المساعد لهيئة كبار العلماء (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد التاسع والعشرون - الإصدار : من ذو القعدة إلى صفر لسنة 1410هـ 1411هــ) مقدمة الحمد لله الملك الحق المبين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد : فإن خير الكلام كلام الله جل جلاله ، وأحسن الحديث حديثه عز وجل ، فلا غرو إذًا أن يكون الاشتغال به تَعَلُّما وتعليما ودراسة وتَفَهُّما أشرف ما عمرت به الأوقات ، وأعظم ما اشتغل به الأفراد والجماعات ؛ ذلك أنه الدليل إلى كل خير ، والعاصم من كل شر ؛ لأنه حبل الله المتين الذي من تمسك به نجا وسعد في الدارين ، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكا ، ويحشر يوم القيامة أعمى ، فيكون نصيبه والعياذ بالله خسارة الحال وخسارة المآل . وقد اشتغل بكتاب الله الكريم وتفسيره وسائر علومه نفر غير قليل من العلماء قديما وحديثا فألَّفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة ، وكتبوا البحوث المستفيضة في تفسير كلام الله تبارك وتعالى ، وإيضاح مبهمه وتفصيل مجمله ، وشرح ألفاظه وبيان معانيه ، واستنباط الأحكام من آياته وبيان ناسخه ومنسوخه ومكيه ومدنيه ، وغير ذلك مما يندرج تحت ما يسمى بعلوم القرآن الكريم . وقد عدَّ الدكتور حاتم صالح الضامن محقق كتاب ( الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى ) لقتادة بن دعامة السدوسي واحدا وسبعين مؤلَّفا في هذا الباب مما يدل على عظم شأن هذا العلم من علوم كتاب الله العزيز ، وأنه مدخل من أهم مداخل تفسيره ، والبحث في لجته والغوص في أعماقه . يدل على ذلك ما ذكره العلماء اتفاقا من أن معرفة هذا العلم واجبة على كل من تصدى لتفسير القرآن الكريم ، أو استنباط الأحكام منه ، أو تصدى للإفتاء أو للقضاء بين الناس ؛ لئلا يوجب على خلق الله ما لم يوجبه الله عليهم ، أو يسقط عنهم أمرا أوجبه عليهم . فقد روى ابن عبد البر بسنده عن يحيى بن أكثم قال : ( ليس من العلوم كلها علم هو واجب على العلماء وعلى المتعلمين وعلى كافة المسلمين من علم ناسخ القرآن ومنسوخه ؛ لأن الأخذ بناسخه واجب فرضا ، والعمل به واجب ديانة ، والمنسوخ لا يعمل به ولا ينتهى إليه ، فالواجب على كل عالم علم ذلك ؛ لئلا يوجب على نفسه وعلى عباد الله أمرا لم يوجبه الله ، أو يضع عنهم فرضا أوجبه الله ) اهـ . وقال الإمام العلامة مكي بن أبي طالب القيسي في كتابه ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) ص 45 ( نشر دار المنارة ) : ( وإن من آكد ما عني أهل العلم والقرآن بفهمه وحفظه والنظر فيه من علوم القرآن ، وسارعوا إلى البحث عن فهمه وعلمه وأصوله علم ناسخ القرآن ومنسوخه ، فهو علم لا يسع كل من تعلق بأدنى علم من علوم الديانة جهله ) . اهـ . وقد قال علي رضي الله عنه : ( لا يفتي الناس إلا من عرف الناسخ والمنسوخ ) . وروي عنه رضي الله عنه أنه دخل المسجد فرأى رجلا يُذكّر الناس فقال له : أتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا . قال : فاخرج من مسجدنا ولا تُذكّر فيه . وفي لفظ آخر أنه قال له : من أنت ؟ قال : أنا أبو يحيى قال : بل أنت أبو اعرفوني وجاء عنه في خبر آخر أنه رضي الله عنه مر بقاضٍ فقال له : أتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالحكمة في قوله تعالى : يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ هو معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره ونحو ذلك وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي ( ابن راهويه ) رحمه الله : ( من لم يعرف الصحيح والسقيم من الحديث والناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة لم يكن عالما ) وقال أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله فيمن يتصدر لمهمة الإفتاء : ( لا يحل له أن يفتي حتى يعرف أحكام الكتاب والسنة والناسخ والمنسوخ وأقاويل الصحابة والمتشابه ووجوه الكلام ) . فمن ذلك تظهر لنا قيمة هذا العلم وأهميته البالغة لعموم المسلمين ، ولمن تصدى منهم لتفسير كتاب الله أو للقضاء ، أو لفتيا على وجه الخصوص ؛ إذ حاجة هؤلاء إليه أمس ، وضرورة إحاطتهم به أشد . وسأحاول في هذه العجالة المتمثلة في هذا البحث المتواضع عن ( النسخ في القرآن الكريم ) أن ألم بكامل الموضوع إلمامة عجلى ، فأوضح معنى النسخ في اللغة وفي الاصطلاح ، ثم أذكر الفرق بينه وبين التخصيص . ثم أشير إلى شروط النسخ التي ذكرها العلماء ، ثم أعرج على بيان آراء العلماء في حكم النسخ ووقوعه أصلا من عدمه ، مع مناقشتها وترجيح ما يترجح لدي منهما . بعد ذلك سأورد تفسيرا تحليليا للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم . ثم أبين ما يقع فيه النسخ في القرآن ، ثم أتحدث عن أنواع النسخ في القرآن الكريم ، مختتما ذلك بإيراد أمثلة للنسخ في القرآن ، وأمثلة لما قيل أنه نسخ وليس كذلك ، جاعلا الحديث عن كل قسم من ذلك في فصل مستقل إيضاحا له ، وتركيزا عليه ، وفي نهاية البحث سأورد خاتمة له تتضمن نتائج البحث وخلاصة له . وأرجو من الله سبحانه العون وأستمد التوفيق . وهو المسئول سبحانه أن يعلمنا ما ينفعنا ، وأن ينفعنا بما علمنا ، وأن يزيدنا من لدنه علما . سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . الفصل الأول النسخ لغة واصطلاحا قال الجوهري في الصحاح : نسخت الشمس الظل وانتسخته : أزالته ونسخت الريح آثار الدار : غيرتها ونسختُ الكتاب وانتسختُه واستنسختُه كله بمعنى . والنسخة بالضم : اسم المنتسخ منه ، ونسخ الآية بالآية إزالة مثل حكمها ، فالثانية ناسخة والأولى منسوخة ، والتناسخ في الميراث : أن يموت ورثة بعد ورثة ، وأصل الميراث قائم لم يقسم اهـ . وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة : النون والسين والخاء أصل واحد إلا أنه مختلف في قياسه . قال قوم : قياسه رفع شيء وإثبات غيره مكانه وقال آخرون : قياسه تحويل شيء إلى شيء : قالوا : النسخ : نسخ الكتاب والنسخ : أمر كان يعمل به من قبل ثم ينسخ بحادث غيره كالآية ينزل فيها أمر ثم تنسخ بآية أخرى . وكل شيء خلف شيئا فقد انتسخه وانتسخت الشمس الظل والشيب الشباب . وتناسخ الورثة : أن يموت ورثة بعد ورثة وأصل الإرث قائم لم يقسم ، ومنه تناسخ الأزمنة والقرون . قال السجستاني : النسخ : أن تحول ما في الخلية من العسل والنحل في أخرى قال ومنه نسخ الكتاب اهـ . وجاء في المعجم الوسيط الذي وضعه مجمع اللغة العربية بالقاهرة في مادة نسخ : نسخ الشيء نسخا أزاله يقال : نسخت الريح آثار الديار ونسخت الشمس الظل ونسخ الشيب الشباب . ويقال : نسخ الله الآية : أزال حكمها وفي التنزيل العزيز مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ويقال : نسخ الحاكم الحكم أو القانون : أبطله . والكتاب : نقله وكتبه حرفا بحرف . انتسخ الشيء : نسخه والكتاب نسخه وتناسخ الشيئان : نسخ أحدهما الآخر يقال : أبلاه تناسخ الملوين . وتناسخت الأشياء : تداولت فكان بعضها مكان بعض . . . إلى آخر ما قال في ذلك مما لا يعنينا إيراده هنا . وجاء في المصباح المنير للمقري الفيومي في مادة نسخ . قوله : نسخت الكتاب نسخا من باب نفع : نقلته ، وانتسخته كذلك ، ثم نقل عن ابن فارس قوله المتقدم : إن كل شيء خلف شيئا فقد انتسخه . إلى أن قال المقري : و( النسخ ) الشرعي إزالة ما كان ثابتا بنص شرعي ، ويكون في اللفظ والحكم وفي أحدهما ، سواء فُعل كما في أكثر الأحكام أو لم يُفعل كنسخ ذبح إسماعيل بالفداء ؛ لأن الخليل عليه السلام أمر بذبحه ثم ( نسخ ) قبل وقوع الفعل . إلى آخر ما أورده مما مر ذكره فيما قدمنا . وعلى هذا فيكون معنى النسخ في اللغة دائرا حول ثلاثة أوجه : أولها : أن يكون بمعنى النقل ( نسخت الكتاب ) أي نقلت ما فيه إلى كتاب آخر فهذا لم يغير المنسوخ منه وإنما صار نظيرا له أي نسخة ثانية منه ، وهو بهذا المعنى لا يدخل في النسخ الذي هو موضوع بحثنا . وثانيها : أن يكون بمعنى الإزالة وحلول المزيل محل المزال كقولهم ( نسخت الشمس الظل ) إذا أزالته وحلت محله ، وهذا المعنى هو الذي يدخل في موضوع ناسخ القرآن ومنسوخه الذي هو مدار بحثنا . وثالثها : أن يكون بمعنى الإزالة مع عدم حلول المزيل محل المزال فكأنه بمعنى المحو كقولهم ( نسخت الريح الآثار ) إذا أزالتها فلم يبق منها عوض ولا حلت الريح محل الآثار فهذا هو معنى النسخ في اللغة وأما في الاصطلاح فإن معناه ( رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ) ، فالحكم المرفوع يسمى ( المنسوخ ) والدليل الرافع له يسمى ( الناسخ ) ، ويسمى الرفع ( النسخ ) ، فالنسخ إذا يقتضي ( منسوخا ) وهو الحكم الذي كان مقررا سابقا وهو الدليل اللاحق . وعرف الإمام العلامة مكي بن أبي طالب النسخ في الاصطلاح بأنه ( إزالة حكم المنسوخ كله بغير حرف متوسط ببدل حكم آخر أو بغير بدل في وقت معين فهو بيان الأزمان التي انتهى إليها العمل بالفرض الأول ، ومنها ابتدأ الفرض الثاني الناسخ للأول ) وعرفه العلامة عبد القاهر البغدادي بقوله ( وقال أصحابنا : إن النسخ بيان انتهاء مدة التعبد ) وعرفه ابن حزم في الإحكام بأنه بيان انتهاء ( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 213) زمان الأمر الأول فيما لا يتكرر . وهو قريب من تعريف البغدادي . وإليه ذهب الجصاص وأبو إسحاق الإسفرائيني وغيرهم وتابعهم القرافي حيث عرفوه بأنه ( بيان لانتهاء مدة الحكم ) زاد الجصاص ( والتلاوة ) وهناك تعريفات أخرى كثيرة غير ما أوردنا تقترب مما أوردناه حينا وتبتعد عنه أحيانا ، ولا نرى المجال يتسع لسردها جميعا وفيما ذكرناه غنية وكفاية الفصل الثاني الفرق بين النسخ والتخصيص سبق أن عرفنا النسخ في الاصطلاح بأنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي في حين أنهم يعرفون التخصيص بأنه ( قصر العام على بعض أفراده ) أو أنه ( إزالة بعض الحكم بغير حرف متوسط فهو بيان الأعيان ) وأنه إنما يجوز على قول من أجاز تأخير البيان ، وهو أن يأتي لفظ ظاهره العموم لما وقع تحته ، ثم يأتي لفظ نص آخر أو دليل أو قرينة أو إجماع يدل على أن ذلك اللفظ الذي ظاهره عام ليس بعام ، والتخصيص إنما هو بيان اللفظ الأول أنه ليس بعام في كل ما تضمنه ظاهر اللفظ ، فهو بيان الأعيان ، فهذا هو الأصل الذي يعتمد عليه في الفرق بين النسخ والتخصيص . فالنسخ بيان الأزمان التي انتهى إليها العمل بالفرض الأول ، وابتدأ منها الفرض الثاني ، والتخصيص بيان الأعيان الذين عمهم اللفظ أن بعضهم غير داخل تحت ذلك اللفظ ، فالنسخ لا يكون إلا منفصلا من المنسوخ ، والتخصيص يكون منفصلا ومتصلا بالمخصص وقد ذكر العلماء عددا من الفروق بين النسخ والتخصيص يجعلها بعضهم خمسة ويوصلها آخرون إلى سبعة فروق نجملها فيما يلي : الأول : إن العام بعد تخصيصه خاص ، لأن مدلوله وقتئذ بعض أفراده مع أن لفظه موضوع للكل والقرينة هي المخصص ، وكل ما كان كذلك فهو خاص . أما النص المنسوخ فما زال كما كان مستعملا فيما وضع له ، غايته أن الناسخ دل على أن إرادة الله تعلقت أزلا باستمرار هذا الحكم إلى وقت معين ، وإن كان النص المنسوخ متناولا جميع الأزمان ، ويظهر ذلك جليا فيما إذا قال الشارع مثلا : افعلوا كذا أبدا ، ثم نسخه بعد زمن قصير ، فإنه لا يعقل أن يكون مدلوله ذلك الزمن القصير دون غيره ، بل هو ما زال كما كان مستعملا في جميع الأزمان نصا بديل قوله ( أبدا ) غير أن العمل بهذا النص الشامل لجميع الأزمان لفظا قد أبطله الناسخ ؛ لأن استمرار العمل بالنص مشروط بعدم ورود ناسخ ينسخه أيا كان ذلك النص وأيا كان ناسخه . فإن سأل سائل ما حكمة تأبيد النص لفظا بينما هو مؤقت في علم الله أزلا ؟ أجبناه بأن حكمته ابتلاء الله لعباده أيخضعون لحكمه مع تأبيده عليهم هذا التأبيد الظاهري أم لا ؟ فإذا ماز الله الخبيث من الطيب والمطمئن لحكمه من المتمرد عليه ، جاء النسخ لحكمة أخرى من التخفيف ونحوه . الثاني : إن حكم ما خرج بالتخصيص لم يك مرادا من العام أصلا ، بخلاف ما خرج بالنسخ ، فإنه كان مرادا من المنسوخ لفظا . الثالث : إن التخصيص لا يتأتى أن يأتي على الأمر لمأمور واحد ، ولا على النهي لمنهي واحد ، أما النسخ فيمكن أن يعرض لهذا كما يعرض لغيره ، ومن ذلك نسخ بعض الأحكام الخاصة به صلى الله عليه وسلم . الرابع : إن النسخ يبطل حجية المنسوخ ، إذا كان رافعا للحكم بالنسبة إلى جميع أفراد العام ، ويبقى على شيء من حجيته إذا كان رافعا للحكم عن بعض أفراد العام دون بعض ، أما التخصيص فلا يبطل حجية العام أبدا ، بل العمل به قائم فيما بقي من أفراده بعد تخصيصه . الخامس : إن النسخ لا يكون إلا بالكتاب والسنة بخلاف التخصيص ، فإنه يكون بهما وبغيرهما كدليل الحس والعقل فقول الله سبحانه : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا قد خصصه قوله صلى الله عليه وسلم لا قطع إلا في ربع دينار . وهذا قوله سبحانه : تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا قد خصصه ما شهد به الحس من سلامة السماء والأرض وعدم تدمير الريح لهما . السادس : إن النسخ لا يكون إلا بدليل متراخ عن المنسوخ أما التخصيص فيكون بالسابق واللاحق والمقارن ، وقال قوم : لا يكون التخصيص إلا بمقارن فلو تأخر عن وقت العمل بالعام كان هذا المخصص ناسخا للعام بالنسبة لما تعارضا فيه ، كما إذا قال الشارع : ( اقتلوا المشركين ) وبعد وقت العمل به قال : ( ولا تقتلوا أهل الذمة ) ، ووجهة نظر هؤلاء أن المقصود بالمخصص بيان المراد بالعام ، فلو تأخر وقت العمل به لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وذلك لا يجوز ، فلم يبق إلا اعتباره ناسخا . السابع : إن النسخ لا يقع في الأخبار بخلاف التخصيص فإنه يكون في الأخبار وفي غيرها . وقد نقل الشيخ محمد حمزة في كتابه (دراسات في الإحكام والنسخ ) عن الإمام الغزالي أنه حصر الفرق بين التخصيص والنسخ في خمسة أمور . ولا نجد فيها غير ما أورده غيره من الفروق التي أجملناها آنفا إلا ما كان من قوله الخامس : إن تخصيص العام المقطوع بأصله جائز بالقياس وبخبر الواحد وسائر الأدلة ، ونسخ القاطع لا يجوز إلا بقاطع ( وقد علق الشيخ محمد حمزة على ذلك بقوله : أقول تفريق ممتاز على ما في ذلك من الخلاف ، فإن الأحناف اشترطوا المقارنة في المخصص للعام ، فإذا تراخى عنه فهو نسخ لا تخصيص ، كما تقدم ولا يجوز عند الأحناف تخصيص الكتاب بخبر الواحد ؛ لأن دلالة العام على عمومه قطعية عندهم وخبر الآحاد ظني ، أما الحديث المشهور فهو عندهم قطعي الثبوت كالمتواتر ، فيجوز تخصيص الكتاب به وتقييد مطلقه ) اهـ . الفصل الثالث شروط النسخ للنسخ شروط لا بد من توافرها لكي يعتبر من قبيل النسخ لا من قبيل غيره كتخصيص العام أو تقييد المطلق أو الاستثناء . . . إلخ . وكل ما لم تتوافر فيه هذه الشروط التي سنذكرها هنا أُرجع إلى نوع من تلك الأنواع التي ذكرناها أو إلى غيرها . وما توافرت فيه تلك الشروط اعتبر نسخا . وشروط النسخ نوعان : أحدهما : شروط متفق عليها والنوع الثاني : شروط مختلف فيها . فأما الشروط المتفق عليها فمنها : 1 - أن يكون المنسوخ حكما شرعيا؛ لأن الأمور العقلية التي مستندها البراءة الأصلية لم تنسخ وإنما ارتفعت بإيجاب العبادات . 2 - أن يكون النسخ بخطاب شرعي لا بموت المكلف؛ لأن الموت مزيل للحكم لا ناسخ له . 3 - ألا يكون الحكم السابق مقيدا بزمان مخصوص نحو قوله عليه الصلاة والسلام لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس . فإن الوقت الذي يجوز فيه أداء النوافل التي لا سبب لها مؤقت ، فلا يكون نهيه عن هذه النوافل في الوقت المخصوص نسخا لما قبل ذلك من الجواز؛ لأن التوقيت يمنع النسخ . 4 - أن يكون الناسخ متراخيا عن المنسوخ . وأما الشروط المختلف فيها فمنها : 1 - أن يكون الناسخ مثل المنسوخ في القوة أو أقوى منه لا دونه؛ لأن الضعيف لا ينسخ القوي . 2 - أن يكون ناسخ القرآن قرآنا وناسخ السنة سنة . 3 - أن يكون قد ورد الخطاب الدال على بيان انتهاء الحكم بعد التمكن من الفعل . 4 - أن يكون الناسخ مقابلا للمنسوخ مقابلة الأمر للنهي والمضيق للموسع . 5 - أن يكون الناسخ والمنسوخ نصين قاطعين . 6 - أن يكون النسخ ببدل مساو أو مما هو أخف منه . 7 - أن يكون الخطاب المنسوخ حكمه مما لا يدخله الاستثناء أو التخصيص . وقد نقل صاحب كتاب ( نظرية النسخ في الشرائع السماوية ) عن الآمدي في الإحكام والزرقاني في مناهل العرفان أن الراجح كونه لا داعي لهذه الشروط السبعة . وقد عد صاحب ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) من شروط الناسخ أن يكون منفصلا من المنسوخ منقطعا منه ، فإن كان متصلا به غير منقطع عنه لم يكن ناسخا لما قبله مما هو متصل به ، نحو قوله تعالى : وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فليس قوله فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ ناسخا لقوله حَتَّى يَطْهُرْنَ في قراءة من خفف يَطْهُرْنَ ؛ لأنه متصل به ، فالأول يراد به ارتفاع الدم والثاني التطهير بالماء . كما عد من شروط المنسوخ أن يكون غير متعلق بوقت معلوم لا يعلم انتهاء وقت فرضه إلا بنص ثان يبين أن فرض الأول إلى الوقت الذي فرض فيه الثاني ولذلك قيل في قوله تعالى فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ : إنه غير منسوخ بالأمر بالقتال في (براءة) ؛ لأن الله جعل له أجلا ووقتا وهو إتيان أمره بالقتال وترك الصفح والعفو ، وإنما كان يكون منسوخا بالقتال لو قال : فاعفوا واصفحوا أمرا غير مؤقت ، كما قال : فاعف عنهم واصفح . فهذا منسوخ بالقتال وقيل : إنه منسوخ بالقتال؛ لأن الأجل غير معلوم ، ولو قال : فاعفوا واصفحوا إلى وقت كذا . وذكر الأمر لكان النسخ غير جائز فيه ، ولكنه أبهم الوقت ولم يحده ، فالنسخ فيه جائز وعلى ذلك أكثر العلماء . ومضى صاحب الإيضاح يعدد شروطا للنسخ فقال : ومن شروط الناسخ أن يكون موجبا للعلم والعمل كالمنسوخ ومن هاهنا منع نسخ القرآن بخبر الآحاد؛ لأن أخبار الآحاد توجب العمل ولا توجب العلم والقرآن يوجبهما جميعا . وإنما وقع الاختلاف في جواز نسخ القرآن بالأخبار المتواترة التي توجب العلم والعمل كالقرآن . وقد عد الإمام العلامة مكي بن أبي طالب جواز نسخ الأثقل بالأخف من شروط الناسخ ، ومثل لذلك بتخفيف قوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ بقوله سبحانه : فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وأنه لذلك قال تعالى : نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أي بأخف منها عليكم أو مثلها في الثقل وأعظم في الأجر . وكذلك نسخ الأخف بالأثقل نحو نسخ صيام يوم عاشوراء أو صيام ثلاثة أيام من كل شهر بصوم شهر رمضان وقال بعد أن ساق أمثلة أخرى لهذا الوجه ( وقد ذهب بعض المؤلفين للناسخ والمنسوخ إلى أنه لا يجوز أن ينسخ الأخف بالأثقل وتأول فيما ذكرنا تأويلات تخرجه من النسخ ، والعمل عند أكثرهم على ما بيناه ) كما عد الإمام العلامة أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) من شرط الناسخ والمنسوخ أن يكونا شرعيين يجوز في العقل ورود الأمر بكل واحد منهما على البدل ، فأما الذي لا يجوز ورود الشرع بخلافه ؛ كاعتقاد توحيد الصانع واعتقاد صفاته وعدله وحكمته ، واعتقاد فساد الكفر فلا يجري في هذا النوع نسخ ولا تبديل ، وكذلك كل ما دل العقل على كونه على وجه مخصوص ، فلا يجوز أن يكون الناسخ والمنسوخ كلاهما منصوصا عليه أو مدلولا عليه بدليل الخطاب أو مفهومه ، ‌‌‌فأما الذي ثبت بالإجماع فلا يجوز نسخه؛ لأن الإجماع إنما يستقر بعد انقضاء زمان النسخ ، فإذا اجتمعت الأمة على حكم ووجد خبر بخلافه استدللنا بالإجماع على سقوط الخبر أو نسخه ، أو تأويله على غير ظاهره . الفصل الرابع الآراء في حكم النسخ ومناقشتها هنالك إجماع من علماء المسلمين بل أجمعت الأمة كلها على جواز النسخ عقلا ووقوعه سمعا ، كما أن جميع الملل تكاد تتفق على ذلك ، إلا من بعض الطوائف التي أنكرت ذلك وأوردت شبها كثيرة لمنعه ، واستدلت بأدلة لا تقوى على الصمود عند مناقشتها ، وسنفصل القول في بيان ذلك في ثنايا هذا الفصل إن شاء الله تعالى ، وقد عني كثير من العلماء ببيان وجه الحق في ذلك وقرروا إمكان وقوع النسخ في شريعة الإسلام ، وكذلك في الشرائع السابقة ، وقاموا بتفنيد شبه المنكرين للنسخ والرد عليها وإبطالها . فقد استدلوا على جواز وقوع النسخ في القرآن بقوله تعالى يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ قال ابن عباس وغيره : معناه يمحو ما يشاء من أحكام كتابه ، فينسخه ببدل أو بغير بدل ، ويثبت ما يشاء فلا يمحوه ولا ينسخه ، ثم قال : وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ قال ابن عباس : معناه عنده ما ينسخ ويبدل من الآية والأحكام ، وعنده ما لا ينسخ ولا يبدل ، كل في أم الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ ، ومثل هذا المعنى قال قتادة وابن زيد وابن جريج وغيرهم في هذه الآية ، وقد قيل غير ذلك . فهذا يدل على جواز النسخ بنص القرآن . وقد اعترض مكي بن أبي طالب على استدلال جماعة على جواز النسخ في القرآن بقوله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ قائلا : إن هذا إنما يدل على جواز النسخ فيما يزيد الشيطان في تلاوة النبي أو الرسول من الباطل ، خاصة وليس يدل علي جواز النسخ فيما ينزله الله ويأمر به ، فلا حجة فيه لمن استدل به على جواز نسخ ما هو من عند الله من الحق . ومضى مكي يستعرض الأدلة القرآنية على جواز النسخ في القرآن فقال : ( ويدل على جواز النسخ للقرآن أيضا قوله تعالى : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ( 101 ) النحل فهذا نص ظاهر في جواز زوال حكم آية ووضع أخرى موضعها . إلى أن قال : ويدل على جواز النسخ للقرآن أيضا قوله تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ( 106 ) البقرة . فهذا نص ظاهر في جواز النسخ للقرآن بالقرآن . إلى أن قال : ويدل على جواز النسخ أيضا قوله تعالى : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ( 48 ) المائدة . فمعلوم أن شريعة كل رسول نسخت شريعة من كان قبله . ورد مكي كذلك استدلال من استدل بقوله تعالى : وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ( 86 ) الإسراء على جواز النسخ بقوله : فهذا إنما يراد به إذهاب ما لا يجوز نسخه من الأخبار وغيرها . وما لا يجوز نسخه لو شاء الله لأذهب حفظه كله من القلوب بغير عوض وما تقدم واقع في دائرة الاستدلال القرآني بيد أن هناك استدلالات عقلية أوردها المثبتون للنسخ القائلون بجوازه وقد أجملها صاحب ( مناهل العرفان ) في الأدلة الأربعة التالية : أولا : إن النسخ لا محظور فيه عقلا وكل ما كان كذلك جائز عقلا . أما الكبرى فمسلمة وأما الصغرى فيختلف دليلها عند أهل السنة عن دليلها عند المعتزلة تبعا لاختلاف الفرقتين في أن أحكام الله تعالى يجب أن تتبع المصلحة لعباده أو لا يجب أن تتبعها ، فأهل السنة يقولون : إنه لا يجب على الله تعالى لعباده شيء بل هو سبحانه الفاعل المختار والكبير المتعال ، وله بناء على اختياره ومشيئته وكبريائه وعظمته أن يأمر عباده بما شاء وينهاهم عما شاء ، وأن يبقي من أحكامه على ما شاء وأن ينسخ منها ما شاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ، ولا ملزم يلزمه برعاية مصالح عباده ، ولكن ليس معنى هذا أنه عابث أو مستبد أو ظالم ، بل إن أحكامه وأفعاله كلها جل جلاله لا تخلو عن حكمة بالغة وعلم واسع وتنزه عن البغي والظلم وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ( 46 فصلت ) . وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ( 49 ) الكهف . إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 83 ) و( 128 ) الأنعام . والمعتزلة يقولون : إنه تعالى يجب أن يتبع في أحكامه مصالح عباده فما كان فيه مصلحة لهم أمرهم به وما كان فيه مضرة عليهم نهاهم عنه . وما دار بين المصلحة تارة والمفسدة تارة أمرهم به تارة ، ونهاهم عنه أخرى . وإذا تقرر هذا فإن صغرى ذلك الدليل نستدل عليها من مذهب أهل السنة هكذا : النسخ تصرف في التشريع من الفاعل المختار الكبير المتعال ، الذي لا يجب عليه رعاية مصالح عباده في تشريعه ، وإن كان تشريعه لا يخلو من حكمه ، وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا . وأما على مذهب الاعتزال فننظم الدليل هكذا : النسخ مبني على أن الله تعالى يعلم مصلحة عباده في نوع من أفعالهم وقتا ما ، فيأمرهم به في ذلك الوقت ويعلم ضرر عباده في هذا النوع نفسه من أفعالهم ولكن في وقت آخر ، فينهاهم عنه في ذلك الوقت الآخر ، وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا . وكيف يكون محظورا عقلا ونحن نشاهد أن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال . إلى أن قال : وإلى هذا الدليل تشير الآية الكريمة مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ( 106 ) البقرة . . . إلخ . ثانيا وهو دليل إلزامي للمنكرين : إن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما جوزوا أن يأمر الشارع عباده بأمر مؤقت ينتهي بانتهاء وقته ، لكنهم يجوزون هذا عقلا ، ويقولون بوقوعه سمعا ، فليجوزوا هذا ؛ لأنه لا معنى للنسخ إلا انتهاء الحكم الأول لميقات معلوم عند الله ، بيد أنه لم يكن معلوما لنا من قبل ثم أعلمنا الله إياه بالنسخ ، وهذا ليس بفارق مؤثر ، فقول الشارع مثلا أول يوم من رمضان : ( صوموا إلى نهاية هذا الشهر ) مساو لأن يقول أول يوم من رمضان : ( صوموا ) من غير تقييد بغاية حتى إذا ما انتهى شهر رمضان ، قال أول يوم شوال : ( أفطروا ) ، وهذا الأخير نسخ لا ريب فيه وقد جوز منكروه المثال الأول فليجوزوا هذا المثال الثاني لأنه مساويه والمتساويان يجب أن يتحد حكمهما وإلا لما كانا متساويين . ثالثا : إن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما ثبتت رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ، لكن رسالته العامة للناس ثابتة بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي يطول شرحها . إذن فالشرائع السابقة ليست باقية بل هي منسوخة بهذه الشريعة الختامية . وإذن فالنسخ جائز وواقع . أما ملازمة هذا الدليل فنبرهن عليها بأن النسخ لو لم يكن جائزا وواقعا ، لكانت الشرائع الأولى باقية ، ولو كانت باقية ما ثبتت رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة . رابعا : ما يأتي من أدلة الوقوع السمعي؛ لأن الوقوع يستلزم الجواز وزيادة ، والأدلة السمعية على وقوع النسخ نوعان : أحدهما : تقوم به الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى من غير توقف على إثبات نبوة الرسول لهم . والثاني : تقوم به الحجة على من آمن بنبوته صلى الله عليه وسلم كأبي مسلم الأصفهاني من المسلمين ، وكالعيسوية من اليهود ، فإنهم يعترفون برسالته عليه الصلاة والسلام ، ولكن يقولون : إلى العرب خاصة ، وهؤلاء تلزمهم بأنهم متى سلموا برسالته وجب أن يصدقوه في كل ما جاء به ، ومن ذلك عموم دعوته ، والنسخ الوارد في الكتاب والسنة . فأمثلة النوع الأول كثيرة منها : 1 - ما جاء في السفر الأول من التوراة أن الله تعالى قال لنوح عند خروجه من السفينة : ( إني جعلت كل دابة حية مأكلا لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ) ثم اعترفوا بعد ذلك بأن الله حرم كثيرا من الدواب على أصحاب الشرائع من بعد نوح ومنهم موسى نفسه كما جاء في السفر الثالث من توراتهم . 2 - جاء في التوراة أن الله تعالى أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه وورد أنه كان يولد في كل بطن من البطون ذكر وأنثى فكان يزوج توأمة هذا للآخر ويزوج توأمة الآخر لهذا ، وهكذا إقامةً لاختلاف البطون مقام اختلاف الآباء والأمهات والأنساب ، ثم حرم الله ذلك بإجماع المتدينين من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم . 3 - إن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده - عليهما السلام - ثم قال الله له لا تذبحه وقد اعترف منكرو النسخ بذلك . 4 - إن عمل الدنيا كان مباحا يوم السبت لليهود ومنه الاصطياد ثم حرم الله الاصطياد على اليهود باعترافهم . 5 - إن الله أمر بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم أمرهم برفع السيف عنهم إلى غير ذلك من الأدلة السمعية التي تقوم بها الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى . وأما أمثلة النوع الثاني وهو الذي تقوم به الحجة على منكري النسخ من المسلمين ومن يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم كالعيسوية من اليهود فهي كثيرة أيضا ، وأوردنا طرفا منها في مستهل هذا الفصل نقلا عن الإمام العلامة مكي بن أبي طالب القيسي في كتابه ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) . ويتبين مما ذكرناه أن أهل الأديان على مذاهب ثلاثة في النسخ : أولها : إنه جائز عقلا وواقع سمعا . وعليه إجماع المسلمين من قبل أن يظهر أبو مسلم الأصفهاني ومن شايعه ، وعليه أيضا إجماع النصارى من قبل معاصريهم الذين خرقوا الإجماع وركبوا رءوسهم فأنكروا النسخ ؛ ليصلوا من هذا الإنكار إلى بقاء ديانتهم بجانب الديانة الإسلامية بدعوى أن الشريعة لا تنسخ الشريعة قبلها ، وهو رأي العيسوية إحدى طوائف اليهود الثلاث . ثانيها : إن النسخ ممتنع عقلا وسمعا وهو ما جنح إليه نصارى هذا العصر وتقول به أيضا الشمعونية ، وهم طائفة ثانية من طوائف اليهود . ثالثها : إن النسخ جائز عقلا ممتنع سمعا وبه تقول العنانية وهي الطائفة الثالثة من طوائف اليهود . كما يعزى هذا الرأي إلى أبي مسلم الأصفهاني من المسلمين ، ولكن على اضطراب في النقل عنه وعلى تأويل يجعل خلافه لجمهور المسلمين أشبه بالخلاف اللفظي إن لم يكن كذلك فعلا . كما يتبين أيضا أن النسخ مجمع على جوازه عقلا ولم يخرج عن هذا الإجماع إلا " الشمعونية " إحدى فرق اليهود وبعض نصارى هذا الزمان ، ولا شك أن مذهب هؤلاء المنكرين هو أخطر المذاهب وأشنعها في هذا الباب وأبعدها عن الحق وأكثرها مجانبة للصواب وولوغا في الباطل . إذ إن مجرد إنكار الجواز العقلي إنكار للوقوع الشرعي بالضرورة ؛ إذ لا يمكن أن يقع في الوجود ما أحاله العقل . شبهات المنكرين للجواز العقلي وإبطالها وسنستعرض فيما يلي أبرز شبهات أولئك المنكرين مع تفنيدها وإبطالها فنقول وبالله التوفيق : 1 - الشبهة الأولى التي يسوقونها لتمسكهم بمنع النسخ أن النسخ إما لحكمة ظهرت بعد أن لم تكن فيكون بداء ، وإما أن يكون لغير حكمة فيكون عبثا ، وكلا البداء والعبث على الله تعالى مستحيل . والرد عليهم إنما هو من خلال ما أثبتناه في بداية هذا المبحث من أدلة عقلية وسمعية على جواز النسخ عقلا ، وأنه لا يترتب على النسخ محال عقلي ؛ إذ هو فعل من أفعال الله الذي يفعل ما يشاء سبحانه ، وليس النسخ من قبيل البداء ، بل الفرق بينهما ظاهر ، فالبداء تبديل في العلم بينما النسخ تبديل في المعلوم . وبعد أن أورد الشيخ محمد حمزة في كتابه ( دراسات في الإحكام والنسخ في القرآن الكريم ) رأي كل من اليهود والمعتزلة والماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي ومن أخذ برأيه من جمهور الأحناف ومن تبعهم ، قال : وبعد ما تقدم نجيب بجواب محكم على فرية اليهود وشبهة المستشبهين فنقول : إنما يكون كل من العبث والبداء من لوازم النسخ إن ورد النسخ على حسن لا يقبل حسنه القبح ، أو قبيح لا يقبل قبحه الحسن ، كالإيمان والكفر ، أما في الأفعال التي حسنها وقبحها باعتبار ما يترتب عليها من المصالح المختلفة باختلاف الأزمان والأمم ، فإن الله تعالى يبدل ما شاء من الأحكام ؛ رعاية لتلك المصالح التي يعلمها ، ولا يلزم من ذلك بداء ولا عبث ، وعلى ضوء ما تقدم أيضا يبطل قول المنكرين أن ما طلبه الله لحسنه ، فلو نهى عنه لأدى إلى أن ينقلب الحسن قبيحا وهو محال ، فنقول : إن الإحالة إنما تكون إذا اجتمع الأمر والنهي في فعل واحد من مأمور واحد في زمن واحد ، وفرض المسألة غير ذلك فإن المصالح تختلف باختلاف الأوقات ، كشرب الدواء فإنه قد يكون نافعا في وقت دون وقت ، فيختلف حسن الشيء وقبحه باختلاف الأوقات ، وباختلاف الأشخاص أيضا ، فالشرع للأديان كالطب للأبدان . 2 - ويثيرون شبهة أخرى فيقولون لو جاز على الله تعالى أن ينسخ حكما بحكم للزم على ذلك أحد باطلين : جهله جل وعلا ، وتحصيل الحاصل . وبيان ذلك أن الله تعالى إما أن يكون قد علم الحكم الأول المنسوخ على أنه مؤبد ، وإما يكون قد علمه على أنه مؤقت . فإن كان قد علمه على أنه مستمر إلى الأبد ثم نسخه وصيره غير مستمر انقلب علمه جهلا والجهل عليه تعالى محال ، وإن كان علمه على أنه مؤقت بوقت معين ثم نسخه عند ذلك الوقت ، ورد عليه أن المؤقت ينتهي بمجرد انتهاء وقته فإنهاؤه بالنسخ تحصيل للحاصل وهو باطل ، وتُدفع هذه الشبهة بأن الله تعالى قد سبق في علمه أن الحكم المنسوخ مؤقت لا مؤبد ، ولكنه علم بجانب ذلك أن توقيته إنما هو بورود الناسخ ، لا بشيء آخر كالتقييد بغاية في دليل الحكم الأول ، وإذن فعلمه بانتهائه بالناسخ لا يمنع النسخ بل يوجبه . وورود الناسخ محقق لما في علمه لا مخالف له شأنه تعالى في الأسباب ومسبباتها ، وقد تعلق علمه بها كلها مع ملاحظة أن النسخ بيان بالنسبة إلى الله تعالى ورفع بالنسبة إلينا . 3 - والشبهة الثالثة التي يثيرونها هي قولهم لو جاز النسخ للزم أحد باطلين وما هو في معناه . وبيان ذلك أن الحكم المنسوخ إما أن يكون دليله قد غياه بغاية ينتهي عندها أو يكون قد أبد نصا ، فإن كان قد غياه بغاية ، فإنه ينتهي بمجرد وجود هذه الغاية ، وإذن لا سبيل إلى إنهائه بالنسخ وإلا لزم تحصيل الحاصل . وإن كان دليل الحكم الأول قد نص على تأبيده ، ثم جاء الناسخ على رغم هذا التأبيد لزم المحال من وجوه ثلاثة : أ- التناقض؛ لأن التأبيد يقتضي بقاء الحكم ولا ريب أن النسخ ينافيه . ب- تعذر إفادة التأبيد من الله للناس؛ لأن كل نص يمكن أن يفيده تبطل إفادته باحتمال نسخه ، وذلك يفضي إلى القول بعجز الله وعيه عن بيان التأبيد لعباده فيما أبده لهم تعالى الله عن ذلك . ج- استلزام ذلك لجواز نسخ الشريعة الإسلامية مع أنها باقية إلى يوم القيامة عند القائلين بالنسخ ويمكن دفع هذه الشبهة بما يلي : أولا : بأن حصر الحكم المنسوخ في هذين الوجهين اللذين ذكرهما المانع غير صحيح؛ لأن الحكم المنسوخ يجوز ألا يكون مؤقتا ولا مؤبدا ، بل يجيء مطلقا عن التوقيت والتأبيد كليهما ، وعليه فلا يستلزم طروء النسخ عليه شيئا من المحالات التي ذكروها ، وإطلاق هذا الحكم كاف في صحة نسخه ؛ لأنه يدل على الاستمرار بحسب الظاهر وإن لم يعرض له النص . ثانيا : إن ما ذكروه من امتناع نسخ الحكم المؤبد غير صحيح أيضا وما استندوا إليه منقوض لوجوه ثلاثة : الأول منها : إن استدلالهم بأنه يؤدي إلى التناقض مدفوع بأن الخطابات الشرعية مقيدة من أول الأمر بألا يرد ناسخ ، كما أنها مقيدة بأهلية المكلف للتكليف ، وألا يطرأ عليه جنون أو غفلة أو موت ، وإذن فمجيء الناسخ لا يفضي إلى تناقض بينه وبين المنسوخ بحال . والثاني : إن استدلالهم بأنه يؤدي إلى أن يتعذر على الله بيان التأبيد لعباده مدفوع بأن التأبيد يفهمه الناس بسهولة من مجرد خطابات الله الشرعية المشتملة على التأبيد ، وهو ما يشعر به كل واحد منا ؛ ذلك لأن الأصل بقاء الحكم الأول وما اتصل به من توقيت أو تأبيد ، وطرد الناسخ احتمال مرجوح ، واستصحاب الأصل أمر يميل إليه الطبع كما يؤيده العقل والشرع . والثالث : إن جواز نسخ الشريعة الإسلامية إن لزمنا معاشر القائلين بالنسخ ، فإنه يلزمنا على اعتبار أنه احتمال عقلي لا شرعي بدليل أننا نتكلم في الجواز العقلي لا الشرعي . أما نسخ الشريعة الإسلامية بغيرها من الشرائع فهو من المحالات الظاهرة بتضافر الأدلة على أن الإسلام دين خالد عام ، ولا يضير المحال في حكم الشرع أن يكون من قبيل الجائز في حكم العقل . 4 - وشبهتهم الرابعة هي قولهم : إن النسخ يستلزم اجتماع الضدين واجتماعهما محال ، وبيان ذلك أن الأمر بالشيء يقتضي أنه حسن وطاعة ومحبوب لله ، والنهي عنه يقتضي أنه قبيح ومعصية ومكروه له تعالى فلو أمر الله بالشيء ثم نهى عنه ، أو نهى عن الشيء ثم أمر به لاجتمعت هذه الصفات المتضادة في الفعل الواحد الذي تعلق به الأمر والنهي . وندفع هذه الشبهة بأن الحسن والقبح وما اتصل بهما ليست من صفات الفعل الذاتية حتى تكون ثابتة فيها لا تتغير بل هي تابعة لتعلق أمر الله ونهيه بالفعل وعلى هذا يكون الفعل حسنا وطاعة ومحبوبا لله ما دام مأمورا به من الله ، ثم يكون هذا الفعل نفسه قبيحا ومعصية ومكروها له تعالى ما دام منهيا عنه منه سبحانه ، وحتى القائلون بالحسن والقبح العقليين من المعتزلة يقرون بأنهما يختلفان باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال ، وبهذا التوجيه ينتفي اجتماع الضدين لاختلاف الوقت الذي يكون فيه الفعل حسنا عن الوقت الذي يكون فيه الفعل نفسه قبيحا ، فلم يجتمع الحسن والقبح في وقت واحد على فعل واحد . وقريب من هذا ما نقلناه فيما تقدم من كلام الشيخ محمد حمزة في كتابه ( دراسات في الإحكام والنسخ ) من جوابه المحكم على فرية اليهود وشبهة المستشبهين وما انتهى إليه من أن قول المنكرين : إن ما طلبه الله لحسنه ، فلو نهى عنه لأدى ذلك إلى أن ينقلب الحسن قبحا ، وهو محال مردود - بأن الإحالة إنما تكون إذا اجتمع الأمر والنهي في فعل واحد من مأمور واحد في زمن واحد ، وفرض المسألة غير ذلك ، فإن المصالح تختلف باختلاف الأوقات . . . إلخ . شبهات المنكرين للنسخ سمعا 1 - شبهة العنانية والشمعونية : وتتمثل شبهتهم في قولهم : إن التوراة التي أنزلها الله على موسى لم تزل محفوظة لدينا منقولة بالتواتر فيما بيننا وقد جاء فيها ( هذه شريعة مؤبدة ما دامت السماوات والأرض ) وجاء فيها أيضا ( الزموا يوم السبت أبدا ) وذلك يفيد امتناع النسخ؛ لأن النسخ لشيء من أحكام التوراة - لا سيما تعظيم يوم السبت - إبطال لما هو من عنده تعالى وتدفع هذه الشبهة بوجوه خمسة : أولها : إن شبهتهم هذه أقصر من مدَّعاهم قصورا بينا؛ لأن قصارى ما تقتضيه - إن سلمت - هو امتناع نسخ شريعة موسى عليه السلام لشريعة أخرى . أما تناسخ شرائع سواها فلا تدل هذه الشبهة على امتناعه ، بل يبعد أن ينكر اليهود انتساخ شرائع الإسرائيليين قبل اليهودية بشريعة موسى . فكان المنظور أن تجيء دعواهم أقصر مما هو محكي عنهم بحيث تتكافأ ودليلهم الذي زعموه ، أو أن يجيء دليلهم الذي زعموه أعم من هذا حتى يتكافأ ودعواهم التي ادعوها . ثانيها : إنا لا نسلم لهم ما زعموه من أن التوراة لم تزل محفوظة في أيديهم حتى يصح استدلالهم بها بل الأدلة متضافرة على أن التوراة الصحيحة لم يعد لها وجود ، وأنه أصابها من التغيير والتبديل والتحريف ما جعلها في خبر كان . من تلك الأدلة أن نسخة التوراة التي بأيدي السامريين تزيد في عمر الدنيا نحوا من ألف سنة على ما جاء في نسخة العنانيين ، وأن نسخة النصارى تزيد ألفا وثلاثمائة سنة . ومنها أن نسخ التوراة التي بأيديهم تحكي عن الله وعن أنبيائه وملائكته أمورا ينكرها العقل ويمجها الطبع ويتأذى بها السمع مما يستحيل معه كونها صادرة عن مؤمن ، فضلا عن ولي ، فضلا عن نبي ، فضلا عن نسبتها إلى الله رب العالمين . من مثل ندم الله على إرسال الطوفان إلى العالم ، وأنه بكى حتى رمدت عيناه ، وأن يعقوب صارعه فصرعه ، تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا . وأن لوطا سكر فثمل فزنى بابنتيه ، وأن هارون هو الذي اتخذ العجل لبني إسرائيل ودعاهم لعبادته من دون الله . ومن الأدلة أيضا على فساد دعوى بقاء التوراة وحفظها ما ثبت بالتواتر عند المؤرخين ، بل عند اليهود أنفسهم من أن بني إسرائيل - وهم حملة التوراة وحفاظها - قد ارتدوا عن الدين مرات كثيرة ، وعبدوا الأصنام ، وقتلوا أنبياءهم شر تقتيل ، ولا ريب أن هذه مطاعن شنيعة جارحة لا تبقي لأي منهم أي نصيب من عدالة أو ثقة ، ولا تحمل لهذه النسخ التي زعموا أنها التوراة أقل شيء من القيمة أو الصحة . ثالثها : إن التواتر الذي خلعوه على التوراة لا يسلم لهم أيضا ؛ لأنها لو كانت متواترة لحاجوا بها أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم ، ولعارضوا دعواه عموم رسالته بقول التوراة التي يؤمن بها ولا يجحدها ، بل يجهر بأنه جاء مصدقا لها ، ولكن ذلك لم يكن ولو كان لنقل واشتهر ، بل إن الذي نقل واشتهر هو إسلام كثير من أحبار اليهود وعلمائهم ، كعبد الله بن سلام وغيره واعترافهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الرسول الذي بشرت به التوراة والإنجيل . رابعها : إن لفظ التأبيد الذي اعتمدوا عليه فيما نقلوه لا يصح حجة لهم ؛ لأنه يستعمل كثيرا عند اليهود معدولا به عن حقيقته ، من ذلك ما جاء في البقرة التي أمروا بذبحها : ( هذه سنة لكم أبدا ) وما جاء في القربان : ( قربوا كل يوم خروفين قربانا دائما ) مع أن هذين الحكمين منسوخان باعتراف اليهود أنفسهم رغم التصريح فيهما بما يفيد التأبيد . خامسها : إن نسخ الحكم المؤبد لفظا جائز على الصحيح ، فلتكن هاتان العبارتان اللتان اعتمدوا عليهما منسوختين أيضا ، وشبهة التناقض تندفع بأن التأبيد مشروط بعدم ورود ناسخ ، فإذا ورد الناسخ انتفى ذلك التأبيد . 2 - شبهة النصارى : يقولون إن المسيح عليه السلام قال : ( السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول ) وهذا يدل على امتناع النسخ سمعا وندفع هذه الشبهة أولا : بأنا لا نسلم أن الكتاب الذي بأيديهم هو الإنجيل الذي أنزل على عيسى ، وإنما هو قصة تاريخية وضعها بعض المسيحيين يبين فيها حياة المسيح وولادته ونشأته ودعوته . . . إلخ . ورغم أنها قصة فقد عجزوا عن إقامة الدليل على صحتها وعدالة كاتبها وأمانته وضبطه ، كما أعياهم اتصال السند وسلامته من الشذوذ والعلة . بل ثبت علميا تناقض نسخ هذه القصة التي أسموها الإنجيل ، مما يدل على أنها ليست من عند الله ، وصدق الله في قوله في القرآن الكريم : وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ثانيا : إن سياق هذه الكلمة في إنجيلهم يدل على أن مراده بها تأييد تنبؤاته ، وتأكيد أنها ستقع لا محالة ، أما النسخ فلا صلة لها به نفيا ولا إثباتا . ثالثا : إن هذه الجملة على التسليم بصحتها وصحة رواتها وكتابها الذي جاءت فيه لا تدل على امتناع النسخ مطلقا ، وإنما تدل على امتناع نسخ شيء من شريعة المسيح فقط فشبهتهم على ما فيه قاصرة قصورا بينا عن مُدَّعاهم . 3 - شبهة العيسوية : يقول هؤلاء اليهود أتباع ‌‌‌أبي عيسى الأصفهاني : لا سبيل إلى إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى قد أيده بالمعجزات الكثيرة القاهرة ولأن التوراة قد بشرت بمجيئه ولا سبيل أيضا إلى القول بعموم رسالته؛ لأن ذلك يؤدي إلى انتساخ شريعة إسرائيل بشريعته . وشريعة إسرائيل مؤبدة بدليل ما جاء في التوراة من مثل . " هذه شريعة مؤبدة عليكم ما دامت السماوات والأرض " وإنما هو رسول إلى العرب خاصة . وعلى هذا فالخلاف بينهم وبين من سبقهم أن دعواهم مقصورة على منع انتساخ شريعة موسى بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وشبهتهم التي ساقوها متكافئة مع دعواهم هذه ، ويفهم من اقتصارهم على هذا أنهم يجوزون تناسخ الشرائع سمعا فيما عدا هذه الصورة . وندفع شبهتهم هذه بأمرين : أولهما : إن دليلهم الذي زعموه هو دليل العنانية والشمعونية من قبلهم وقد أشبعناه تزييفا وتوهينا بالوجوه التي أسلفناها آنفا فالدفع هنا هو عين الدفع هناك فيما عدا الوجه الأول . ثانيهما : إن اعترافهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول أيده الله بالمعجزات وجاءت البشارة به في التوراة يقضي عليهم لا محالة أن يصدقوه في كل ما جاء به ، ومن ذلك أن رسالته عامة وأنها ناسخة للشرائع قبله حتى شريعة موسى نفسه الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي أما أن يؤمنوا برسالته ثم لا يصدقوه في عموم دعوته ، فذلك تناقض منهم لأنفسهم ومكابرة للحجة الظاهرة لهم . 4 - شبهة أبي مسلم : النقل عن أبي مسلم مضطرب : فمِن قائل : إنه يمنع وقوع النسخ سمعا على الإطلاق ، ومِن قائل : إنه ينكر وقوعه في شريعة واحدة ، ومن قائل : إنه ينكر وقوعه في القرآن خاصة ، ورجحت هذه الرواية الأخيرة بأنها أصح الروايات ، وبأن التأويلات المنقولة عنه لم تخرج عن حدود ما نسخ من القرآن ، وأبعد الروايات عن الرجل هي الرواية الأولى ؛ لأنه لا يعقل أن مسلما فضلا عن عالم كأبي مسلم ينكر وقوع النسخ جملة ، إلا إذا كانت المسألة ترجع إلى التسمية فقط ، فإنها تهون حينئذ على معنى أن ما نسميه نحن نسخا يسميه هو تخصيصا بالزمان مثلا ، وإلى ذلك ذهب بعض المحققين . قال التاج السبكي : ( إن أبا مسلم لا ينكر وقوع المعنى الذي نسميه نحن نسخا ، ولكنه يتحاشى أن يسميه باسمه ، ويسميه تخصيصا ) اهـ . وقد احتج أبو مسلم بقوله سبحانه : لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْـزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ وشبهته في الاستدلال أن هذه الآية تفيد أن أحكام القرآن لا تبطل أبدا ، والنسخ فيه إبطال لحكم سابق . وندفع مذهب أبي مسلم وشبهته بأمور أربعة . . . أولها : أنه لو كان معنى الباطل في الآية هو متروك العمل به مع بقاء قرآنيته ، لكان دليله قاصرا عن مدعاه؛ لأن الآية لا تفيد حينئذ إلا امتناع نوع خاص من النسخ ، وهو نسخ الحكم دون التلاوة ، فإنه وحده هو الذي يترتب عليه وجود متروك العمل في القرآن ، أما نسخ التلاوة مع الحكم ، أو مع بقائه ، فلا تدل الآية على امتناعه بهذا التأويل . ثانيها : إن معنى الباطل في الآية ما خالف الحق ، والنسخ حق ، ومعنى الآية أن عقائد القرآن موافقة للعقل ، وأحكامه مسايرة للحكمة ، وأخباره مطابقة للواقع ، وألفاظه محفوظة من التغيير والتبديل ، ولا يمكن أن يتطرق إلى ساحته الخطأ بأي حال : إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وَبِالْحَقِّ أَنْـزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَـزَلَ وتفسير الآية بهذا المعنى يجعلها أقرب إلى إثبات النسخ ووقوعه منها إلى نفيه وامتناعه؛ لأن النسخ كما تقرر تصرف إلهي حكيم تقتضيه الحكمة وترتبط به المصلحة . ثالثها : إن أبا مسلم على فرض أن خلافه مع الجمهور لفظي لا يعدو حدود التسمية نأخذ عليه أنه أساء مع الله في تحمسه لرأي قائم على تحاشي لفظ اختاره جلت حكمته ، ودفع عن معناه بمثل قوله : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا وهل بعد اختيار الله اختيار؟ وهل بعد تعبير الله تعبير؟ . رابعا : إن هناك فروقا بين النسخ والتخصيص وقد فصلناها فيما سبق . الفصل الخامس تفسير تحليلي للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم . يستدل المجيزون للنسخ عقلا القائلون بوقوعه سمعا ببعض الآيات التي وردت فيها الإشارة إلى ذلك إما صراحة أو ضمنا . فمما أشار إلى النسخ صراحة قوله تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ( البقرة : 106 ) وما أشار إليه ضمنا قوله تعالى : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ( المائدة : 48 ) . وقوله تعالى : يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ( الرعد : 39 ) ، وقوله تعالى : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ( النحل : 101 ) فهذه أربع آيات دلت إحداها دلالة صريحة على النسخ بمعنى أنها اشتملت على لفظه ودلت الثلاث الباقية عليه دلالة ضمنية . وسنستعرض -تتميما للفائدة- ما قاله في تفسيرها بعض المفسرين لزيادة إيضاح المقصود من الاستدلال بها على جواز وقوع النسخ فنبدأ بالآية الأولى وهي آية البقرة ( 106 ) حيث يقول تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فنبين أنهم اختلفوا في قراءتها في موضعين: أحدهما : في قوله مَا نَنْسَخْ فإنهم اختلفوا فيه على وجهين فقرأ عبد الله بن عامر الشامي وحده ( ما ننسخ ) بضم النون وكسر السين . وقرأ الباقون مَا نَنْسَخْ بفتح النون والسين . والموضع الثاني : قوله تعالى أَوْ نُنْسِهَا وقد اختلفوا في قراءته على خمسة أوجه بعضها معروف وبعضها شاذ . فقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( أو ننساها ) . بألف وكذلك قرأ النخعي ومجاهد وعبيد بن عمير وعبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء وقرأها علي رضي الله عنه أَوْ نُنْسِهَا بنون مضمون من غير ألف ومن غير همزة وبه قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب الحضرمي وهي أيضا قراءة الحسن وسعيد بن المسيب وقتادة . وقرأ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ( تنساها ) بالتاء لقوله عز وجل : سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى وقوله تعالى : وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ، وكذلك رواه شبابة عن أبي عمرو بن العلاء البصري وقرأها أبي بن كعب رضي الله عنه ( أو ننسك ) وحده . وقرأها عطاء بن أبي رباح ( أو ننسئها ) بياء مهموزة مكان الألف واختلاف هذه القراءة كلها معروفها وشاذها إن صحت الروايات فيها لاختلاف الغرض فتكون هذه الآية نازلة على هذه الوجوه كلها ويكون حكم ما اختلف لفظه واتفق معناه منها كقوله تعالى فَانْفَجَرَتْ و" انْبَجَسَتْ " وما اختلف لفظه ومعناه منها كقوله تعالى وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ بالضاد واتفق معناه : البخيل . و( بظنين ) بالظاء ومعناه المتهم ومعنى هذه الآية على قراءة الجماعة أن الله جل ذكره يخبر عن نفسه يقول ما نرفع من حكم آية ونبق تلاوتها أو ننسكها يا محمد لا تحفظ تلاوتها نأت بخير منها لكم أي نأت بآية أخرى هي أصلح لكم وأسهل في التعبد أو نأت بمثلها في العمل وأعظم في الأجر فهذا قول صحيح معروف وقد قيل : إن معناها : ما نرفع من حكم آية وتلاوتها نأت بخير منها أي أصلح لكم منها : وقال ابن زيد : إنساؤها محوها وتركها . فأما قراءة من قرأ ( أو ننساها ) بالألف والنون فمعناه نؤخرها ويقال نسأت إذا أخرت ومنه قوله تعالى إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ وإنما أراد به تأخيرهم الوقوف بعرفة عن ذي الحجة في كل عام بعشرة أيام ليقع حجهم أبدا في الربيع ويقال : أنسأت الشيء أنسأ ، والنسيء اسم وضع موضع المصدر ، ونسأ الله في أجله ، وأنسأ الله أجله ، أي أخره ، وفي الحديث من أحب أن ينسأ الله في أجله فليصل رحمه والنسأ التأخير وفي حديث عمر ( ارموا فإن الرمي عدة ، فإذا رميتم فانتسئوا عن البيوت ) أي تأخروا عن البيوت . والمنسأة العصا لأنه يوخز بها الدابة يقال : نسأت الدابة إذا ضربتها بالمنسأة . قلت : ومنه قوله تعالى في عصا سليمان عليه السلام فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ونسأت اللبن إذا جعلت فيه الماء ليكثر وهو النسوء وامرأة نسوء إذا كان مظنونا بها الحمل ونسوة نساء وإنما قيل لها نسوء؛ لأن الحمل زيادة فيها وإنما قيل نسأت اللبن؛ لأن الماء زيادة فيه . والتأخير زيادة في أجل الشيء ومدته فقوله ( ننسأها ) معناها نؤخرها كما بينا ومن قرأ نُنْسِهَا بضم النون وكسر السين فمعناه ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن ابن عباس رضي الله عنهما ( كان القرآن ينزل فيثبت الله منه ما يشاء وينسخ منه ما يشاء وعنده أم الكتاب ) . ومن قرأ ( أو تنساها ) بالتاء أو قرأ ( أو ننسك ) أراد به نسيان النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن النسيان جائز عليه في صفته وغير جائز في صفة الله تعالى ، ومن قرأها بياء مهموزة بدل الألف أراد به التأخير أيضا لأنه قرأها بالإمالة . وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ما نبدل من آية . وقال ابن جريج عن مجاهد : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أي ما نمحو من آية . وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ قال : نثبت خطها ونبدل حكمها . حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم . وقال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي العالية محمد بن كعب القرظي نحو ذلك . وقال الضحاك مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ما ننسك . وقال عطاء أما مَا نَنْسَخْ فما نترك من القرآن . وقال ابن أبي حاتم يعني ترك فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم وقال السدي مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ نسخها قبضها وقال ابن أبي حاتم : يعني قبضها رفعها مثل قوله ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) وقوله لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا وقال ابن جرير مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره وذلك أن يحول الحلال حراما والحرام حلالا والمباح محظورا والمحظور مباحا ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها وكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها وسواء نسخ حكمها أو خطها إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة . وأما علماء الأصول فاختلفت عبارتهم في حد النسخ ، والأمر في ذلك قريب؛ لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولحظ بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه والنسخ لا إلى بدله ولم يشأ رحمه الله أن يتوسع في تفصيل ذلك فقال وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة في أصول الفقه . ثم قال : وقوله تعالى مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا يقول ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها وقال عطية العوفي : أو ننسأها نؤخرها فلا ننسخها . وقال السدي مثله أيضا ، وكذا الربيع بن أنس وقال الضحاك : ( ما ننسخ من آية أو ننسأها ) يعني الناسخ من المنسوخ . وقال أبو العالية : ( ما ننسخ من آية أو ننسأها) نؤخرها عندنا . وروى ابن جرير عن الحسن أنه قال في قوله أَوْ نُنْسِهَا إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قرأ قرآنا ثم نسيه وعن قتادة أيضا أنه قال : كان الله عز وجل ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء وينسخ ما يشاء . وقوله تعالى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا يقول : خير لكم في المنفعة وأرفق بكم . وقال أبو العالية : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ فلا نعمل بها ( أو ننساها ) أي نرجئها عندنا نأت بها أو نظيرها . وقال السدي نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا يقول : نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه . وقال قتادة نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا يقول آية فيها رخصة فيها أمر فيها نهي اهـ . وقال الإمام أبو الفرج بن الجوزي في تفسيره ( زاد المسير ) : قوله تعالى مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ سبب نزولها أن اليهود قالت لما نسخت القبلة : إن محمدا يحل لأصحابه إذا شاء ويحرم عليهم إذا شاء فنزلت هذه الآية . قال الزجاج : النسخ في اللغة إبطال شيء وإقامة آخر مقامه تقول العرب : نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله وفي المراد بهذا النسخ ثلاثة أقوال : أحدها : رفع اللفظ والثاني : تبديل الآية بغيرها رويا عن ابن عباس ، والأول قول السدي والثاني قول مقاتل ، والثالث : رفع الحكم مع بقاء اللفظ رواه مجاهد عن أصحاب ابن مسعود وقال أبو العالية : وقرأ ابن عامر ( ما ننسخ ) بضم النون وكسر السين . قال أبو علي : أي ما نجده منسوخا كقولك : أحمدت فلانا أي وجدته محمودا وإنما يجده منسوخا بنسخه إياه . قوله تعالى أَوْ نُنْسِهَا قرأ ابن كثير وأبو عمرو ( ننسأها ) بفتح النون مع الهمزة والمعنى نؤخرها . قال أبو زيد : نسأت الإبل عن الحوض فأنا أنسأها إذا أخرتها ، ومنه النسيئة في البيع وفي معنى نؤخرها ثلاثة أقوال : أحدها : نؤخرها عن النسخ فلا ننسخها قاله الفراء . والثاني : نؤخر إنزالها فلا ننزلها ألبتة . والثالث : نؤخرها عن العمل بها بنسخنا إياها حكاهما أبو علي الفارسي . وقرأ سعد بن أبي وقاص ( تَنسها ) بتاء مفتوحة ونون وقرأ سعيد بن المسيب والضحاك ( تُنسها ) بضم التاء وقرأ نافع ( أَوْ نُنْسِهَا ) بنونين الأولى مضمومة والثانية ساكنة أراد ( أو ننسكها ) من النسيان . قوله تعالى : نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا قال ابن عباس بألْيَنَ مِنها وأيسر على الناس . قوله تعالى أَوْ مِثْلِهَا أي في الثواب والمنفعة فتكون الحكمة في تبديلها بمثلها الاختبار . اهـ وجاء في تفسير العلامة أبي السعود ( إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ) في تفسير هذه الآية قوله رحمه الله : ما ننسخ من آية أو ننسها . كلام مستأنف مسوق لبيان سر النسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي وإبطال مقالة الطاغين فيه إثر تحقيق حقيقة الوحي ورد كلام الكارهين له رأسا ، قيل : نزلت حين قال المشركون أو اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه . والنسخ في اللغة الإزالة والنقل يقال : نسخت الريح الأثر أي أزالته ، ونسخت الكتاب أي نقلته ، ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها أو بالحكم المستفاد منها أو بِهِما جميعا . وإنساؤها إذهابها من القلوب و( ما ) شرطية جازمة ( لننسخ ) منتصبة به على المفعولية ، وقرئ ( ننسخ من انسخ ) أي : نأمرك أو جبريل بنسخها أو تجدها منسوخة ، وننسأها من النسيء أي نؤخرها ، وننسّها بالتشديد وتَنسَها وتُنسَها على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم مبنيا للفاعل وللمفعول ، وقرئ ( ما ننسخ من آية أو ننسكها ) وقرئ ( ما نُنْسِك من آية أو ننسخها ) والمعنى : عن كل آية نذهب بها على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معا إلى بدل أو إلى غير بدل . نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أي نوع آخر هو خير للعباد ، وبحسب الحال في النفع والثواب من الذاهبة ، وقرئ بقلب الهمزة ألفا أَوْ مِثْلِهَا أي فيما ذكر من النفع والثواب وهذا الحكم غير مختص بنسخ الآية التامة فما فوقها بل جار فيما دونها أيضا ، وتخصيصها بالذكر باعتبار الغالب . والنص كما ترى دال على جواز النسخ ، كيف لا وتنزيل الآيات التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية إنما هو بحسب ما يقتضيه من الحكم والمصالح ، وذلك يختلف باختلاف الأحوال ويتبدل حسب تبدل الأشخاص والأبصار كأحوال المعاش فرب حكم تقتضيه الحكمة في حال تقتضي في حال أخرى نقيضه ، فلو لم يجز النسخ لاختل ما بين الحكمة والأحكام من النظام . اهـ وقال العلامة الشوكاني في تفسيره ( فتح القدير ) في معرض تفسيره لهذه الآية بعد أن عدد وجوه القراءات في نُنْسِهَا وقرأ الباقون نُنْسِهَا بضم النون من النسيان الذي بمعنى الترك أي نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها ومنه قوله تعالى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ أي تركوا عبادته فتركهم في العذاب ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم ، وحكى الأزهري أن معناه نأمر بتركها ، يقال : أنسيته الشيء أي أمرته بتركه ونسيته تركته ومنه قول الشاعر : إن علــــــــي عقبــــــــة أقضيهـــــــا لســــــت بناســــــيها ولا منســـــيها أي ولا آمر بتركها . وقال الزجاج : إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك . لا يقال أُنسي بمعنى ترك ، قال : وما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أَوْ نُنْسِهَا قال : نتركها لا نبدلها فلا يصح . والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى أَوْ نُنْسِهَا نبح لكم تركها ، من نسي إذا ترك ثم تعديه ، ومعنى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا نأت بما هو أنفع للناس منها في العاجل والآجل أو في أحدهما أو بما هو مماثل لها من غير زيادة ، ومرجع ذلك إلى إعمال النظر في المنسوخ والناسخ ، فقد يكون الناسخ أخف فيكون أنفع لهم في العاجل ، وقد يكون أثقل وثوابه أكثر فيكون أنفع لهم في الآجل ، وقد يستويان فتحصل المماثلة . وقوله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يفيد أن النسخ من مقدوراته وأن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية . وهكذا قوله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أي له التصرف في السماوات والأرض بالإيجاد والاختراع ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته فهو أعلم بمصالح عباده وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها وشرعها لهم ، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص ، وهذا صنع من لا ولي لهم غيره ولا نصير سواه ، فعليهم أن يتلقوه بالقبول والامتثال والتعظيم والإجلال . ثم قال رحمه الله في آخر تفسيره لهذه الآية : وقد ثبت في البخاري وغيره عن أنس : أن الله أنزل في الذين قتلوا في بئر معونة ( أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم نسخ . وهكذا ثبت في مسلم وغيره ، عن أبي موسى قال : كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها ( ولو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثا ولا يملأ جوفه إلا التراب ) وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات أولها ( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ) فأنسيناها غير أني حفظت منها ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألوا عنها يوم القيامة ) وقد روي مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة ومنه آية الرجم كما رواه عبد الرزاق وأحمد وابن حبان عن عمر اهـ . وقال العلامة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تفسيره الموسوم ( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ) عند تفسيره لهذه الآية : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ النسخ هو النقل ، فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع إلى حكم آخر أو إلى إسقاطه وكان اليهود ينكرون النسخ ويزعمون أنه لا يجوز ، وهو مذكور عندهم في التوراة ، فإنكارهم له كفر وهوى محض ، فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ فقال : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا أي ننسها العباد فنزيلها من قلوبهم ، نأت بخير منها وأنفع لكم أَوْ مِثْلِهَا فدل على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول ؛ لأن فضله تعالى يزداد خصوصا على هذه الأمة التي سهل عليها دينها غاية التسهيل ، وأخبر أن من قدح في النسخ قدح في ملكه وقدرته ، فقال : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فإذا كان مالكا لكم متصرفا فيكم تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه ، فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير ، كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام ، فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية فما له والاعتراض ، وهو أيضا ولي عباده فيتولاهم في تحصيل منافعهم وينصرهم في دفع مضارهم ، فمن ولايته لهم أن يشرع لهم من الأحكام ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم . ومن تأمل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ عرف بذلك حكمة الله ورحمتَه عباده وإيصالهم إلى مصالحهم من حيث لا يشعرون بلطفه اهـ . 2 - والآية الثانية التي سنذكر ما قاله بعض المفسرين في تفسيرها مما استدلوا به على جواز وقوع النسخ هي قوله تعالى : وَأَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا الآية . وشاهدنا منها قوله عز وجل : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا قال ابن الجوزي رحمه الله في تفسيره عند كلامه على هذه الآية وللمفسرين في معنى الكلام قولان : أحدهما : لكل ملة جعلنا شرعة ومنهاجا فلأهل التوراة شريعة ولأهل الإنجيل شريعة ولأهل القرآن شريعة . هذا قول الأكثرين . قال قتادة : الخطاب للأمم الثلاث أمة موسى وعيسى وأمة محمد فللتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللفرقان شريعة يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء بلاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل . والقول الثاني : إن المعنى لكل من دخل في دين محمد جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا . هذا قول مجاهد . وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وقال ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سبيلا وعنه أيضا " مِنْهَاجًا " قال سُنّة . وكذا رواه العوفي عن ابن عباس شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا سبيلا وسنة وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وقتادة والضحاك والسدي وأبي إسحاق السبيعي أنهم قالوا في قوله : شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أي سبيلا وسنة . إلى أن قال رحمه الله بعد أن نقل قولا حكاه ابن جرير عن مجاهد : إن المخاطب بهذه الآية هذه الأمة ، ومعناه لكل جعلنا القرآن منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجا أي هو لكم كلكم تقتدون به . . . إلخ . قال : ( والصحيح القول الأول ) ويعني به ما قاله قبل ذلك من أن هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد ، ويدل على ذلك قوله تعالى بعده : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً فلو كان هذا الخطاب لهذه الأمة لما صح أن يقول وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وهم أمة واحدة ولكن هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ شيء منها ، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعةً على حدة ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة وجعله خاتم الأنبياء كلهم اهـ . وقال العلامة الشوكاني في تفسير هذه الآية : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا الشرعة والشريعة في الأصل : الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء ثم استعملت فيما شرعه الله لعباده من الدين . والمنهاج : الطريقة الواضحة البينة . وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد . الشريعة ابتداء الطريق ، والمنهاج الطريق المستمر ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها والإنجيل لأهله والقرآن لأهله وهذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن وأما بعده فلا شرعة ولا منهاج إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم اهـ . وقال العلامة ابن سعدي في تفسيره لهذه الآية لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ أيها الأمم شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أي سبيلا وسنة وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها وأما الأصول الكبار التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان فإنها لا تختلف فتشرع في جميع الشرائع اهـ . وقال صاحب تفسير المنار محمد رشيد رضا رحمه الله في تفسيره عند كلامه على هذه الآية لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا فهذه الجملة بيان لتعليل الأمر والنهي قبلها أي لكل رسول أو كل أمة منكم أيها المسلمون والكتابيون أو أيها الناس جعلنا شريعة أوجبنا عليهم إقامة أحكامها وطريقا للهداية فرضنا عليهم سلوكه لتزكية أنفسهم وإصلاحها؛ لأن الشرائع العملية وطرق التزكية الأدبية تختلف باختلاف أحوال الاجتماع واستعداد البشر ، وإنما اتفق جميع الرسل في أصل الدين وهو توحيد الله وإسلام الوجه له بالإخلاص والإحسان . ثم استعرض معاني الشرعة والمنهاج في اللغة واستعرض ما أخرجه غير واحد من رواة التفسير المأثور في تفسير الآية إلى أن قال رحمه الله : وظاهرٌ من قول قتادة أن الشريعة أخص من الدين إن لم تكن مباينة له وأنها الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل وينسخ لاحقها سابقها وأن الدين هو الأصول الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأنبياء اهـ . 3 - الآية الثالثة التي نريد استعراض أقوال بعض المفسرين في تفسيرها مما استدلوا به على جواز وقوع النسخ هي قوله تعالى في سورة الرعد آية 39 يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ فقد قال أبو الفرج بن الجوزي عند تفسيره لهذه الآية : قوله تعالى : يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وَيُثْبِتُ ساكنة الثاء خفيفة الباء . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ( ويثبت ) مشددة الباء مفتوحة الثاء قال أبو علي : المعنى ويثبته فاستغنى بتعدية الأول من الفعلين عن تعدية الثاني . واختلف المفسرون في المراد بالذي يمحو ويثبت على ثمانية أقوال ، ثم مضى رحمه الله يعدد تلك الأقوال الثمانية وكلها لا صلة لها بمبحثنا إلا الثاني منها فهو المتعلق بموضوعنا حيث قال : والثاني أنه الناسخ والمنسوخ فيمحو المنسوخ ويثبت الناسخ روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والقرظي وابن زيد وقال ابن قتيبة يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ أي ينسخ من القرآن ما يشاء ويثبت أي يدعه ثابتا لا ينسخه وهو المحكم اهـ . وقال الحافظ أبو الفداء بن كثير في تفسيره عند كلامه على هذه الآية يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ منها ، أي من الكتب المنزلة من السماء من عند الله حيث نقل في تفسيره للآية التي قبلها وهي قوله تعالى : لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ قول الضحاك بن مزاحم : أي لكل كتاب أجل يعني لكل كتاب أنزله من السماء مدة مضروبة عند الله ومقدار معين فلهذا يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ منها ويثبت يعني حتى نسخت بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه ، ثم أورد رحمه الله اختلافات المفسرين في تفسير الآية التي نحن بصددها إلى أن قال : ومعنى هذه الأقوال أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء . ثم مضى بعد ذلك إلى أن قال : وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ يقول يبدل ما يشاء فينسخه ويثبت ما يشاء فلا يبدله وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ وما يبدل وما يثبت كل ذلك في كتاب . وقال قتادة في قوله يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ كقوله مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا الآية اهـ . وقال أبو السعود في تفسيره لهذه الآية يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ أي ينسخ ما يشاء نسخه من الأحكام لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت ويثبت بدله المصلحة أو يبقيه على حاله غير منسوخ اهـ . وكذلك أورد الشوكاني في ( فتح القدير ) ما أورد الحافظ ابن كثير في تفسيره الذي نقلناه آنفا عن ابن عباس للآية من أن المراد : يبدل ما يشاء فينسخه . . . إلخ . وقد قال في إسناده : وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في المدخل عن ابن عباس ثم حكاه اهـ . 4 - والآية الرابعة والأخيرة من الآيات التي استدلوا بها على جواز النسخ هي قوله سبحانه وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ النحل ( 101 ) والمعنى وإذا نسخنا آية بآية إما نسخ الحكم والتلاوة أو نسخ الحكم مع بقاء التلاوة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ من ناسخ ومنسوخ وتشديد وتخفيف فهو عليم بالمصلحة في ذلك قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ أي كاذب بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ فيه قولان : أحدهما : لا يعلمون أن الله أنزله . والثاني : لا يعلمون فائدة النسخ اهـ . وقال الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية : يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم وأنه لا يتصور منهم الإيمان وقد كتبت عليهم الشقاوة وذلك أنهم إذا رأوا تغير الأحكام ناسخها بمنسوخها قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ أي كذاب وإنما هو الرب تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . وقال مجاهد : بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ أي رفعناها وأثبتنا غيرها . وقال قتادة هو كقوله تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا الآية وقال العلامة أبو السعود بن محمد العمادي الحنفي في تفسيره عند هذه الآية وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ أي إذا أنزلنا آية من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلا منها بأن نسخناها بها وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ أولا وآخِرًا وبأن كلا من ذلك ما نزلت حيثما نزلت إلا حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن كل وقت له مقتضى غير مقتضى الآخر فكم من مصلحة في وقت تنقلب في وقت آخر مفسدة وبالعكس لانقلاب الأمور الداعية إلى ذلك وما الشرائع إلا مصلحة للعباد في المعاش والمعاد تدور حسبما تدور المصالح . والجملة إما معترضة لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم . وفي الالتفات إلى الغيبة مع إسناد الخبر إلى الاسم الجليل المستجمع للصفات ما لا يخفى من تربية المهابة وتحقيق معنى الاعتراض أو حالية وقرئ بالتخفيف من الإنزال قَالُوا أي الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ أي متقول على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه وحكاية هذا القول عنهم هاهنا للإيذان بأن ذلك كفرة ناشئة من نزغات الشيطان وأنه وليهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون شيئا أصلا أو لا يعلمون أن في النسخ حكما بالغة وإسناد هذا الحكم إلى الأكثر لما أن منهم من يعلم ذلك وإنما ينكره عنادا اهـ . وقال العلامة الشوكاني في تناوله لتفسير هذه الآية وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ هذا شروع منه سبحانه في حكاية شبه كفرية ودفعها ومعنى التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه . وتبديل الآية رفعها بأخرى غيرها وهي نسخها بآية سواها . وقد تقدم الكلام في النسخ في البقرة قَالُوا أي كفار قريش الجاهلون للحكمة في النسخ : إِنَّمَا أَنْتَ يا محمد مُفْتَرٍ أي كاذب مختلق على الله متقول عليه بما لم يقل حيث تزعم أنه أمرك بشيء ثم تزعم أنه أمرك بخلافه فرد الله سبحانه عليهم بما يفيد جهلهم فقال بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شيئا من العلم أصلا أو لا يعلمون الحكمة في النسخ فإنه مبني على المصالح التي يعلمها الله سبحانه ، فقد يكون في شرع هذا الشيء مصلحة مؤقتة بوقت ثم تكون المصلحة بعد ذلك الوقت في شرع غيره . لو انكشف الغطاء لهؤلاء الكفرة لعرفوا أن ذلك وجه الصواب ومنهج العدل والرفق واللطف ثم بين سبحانه لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله وأن رسوله صلى الله عليه وسلم افتراه فقال قُلْ نَـزَّلَهُ أي القرآن المدلول عليه بذكر الآية رُوحُ الْقُدُسِ أي جبريل والقدس التطهير والمعنى : نزله الروح المطهر من أدناس البشرية فهو من إضاف الموصوف إلى الصفة مِنْ رَبِّكَ أي ابتداء تنزيله من عنده سبحانه و بِالْحَقِّ في محل نصب على الحال أي متلبسا بكونه حقا ثابتا لحكمة بالغة لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا على الإيمان فيقولون : كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا ولأنهم أيضا إذا عرفوا ما في النسخ من المصالح ثبتت أقدامهم على الإيمان ورسخت عقائدهم اهـ . وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ الآية . يذكر تعالى أن المكذبين بهذا القرآن يتتبعون ما يرونه حجة لهم وهو أن الله تعالى هو الحاكم الحكيم الذي يشرع الأحكام ويبدل حكما مكان آخر لحكمته ورحمته فإذا رأوه كذلك قدحوا في الرسول وبما جاء به و قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ قال الله تعالى : بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ منهم جهال لا علم لهم بربهم ولا بشرعه . إلى أن قال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى بعد ذلك لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا عند نزول آياته وتواردها عليهم وقتا بعد وقت فلا يزال الحق يصل إلى قلوبهم شيئا فشيئا حتى يكون إيمانهم أثبت من الجبال الرواسي وأيضا فإنهم يعلمون أنه الحق وإذا شرع حكما من الأحكام ثم نسخه علموا أنه أبدله بما هو مثله أو خير منه لهم وأن نسخه هو المناسب للحكمة الربانية والمناسبة العقلية الفصل السادس ما يقع فيه النسخ في القرآن قال بدر الدين الزركشي في ( البرهان ) : الجمهور على أنه لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي وزاد بعضهم الأخبار وأطلق وقيدها آخرون بالتي يراد بها الأمر والنهي . وقال أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي في ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) اعلم أنه جائز أن ينسخ الله جل ذكره جميع القرآن بأن يرفعه من صدور عباده ويرفع حكمه بغير عوض وقد جاءت في ذلك أخبار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم دليله قوله تعالى وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ . وقد كان من ذلك بعضه على ما روي من سورة الأحزاب ، وإنما يؤخذ ما كان من ذلك من طريق الأخبار والله أعلم بصحته ومنه ما رفع لفظه أن يتلى وبقي حفظه غير متلو على أنه قرآن وثبت حكمه بالإجماع كآية الرجم فالرواية المشهورة أنه كان فيما يتلى ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) فرفع رسم ذلك من المصحف المجمع عليه ولم تثبت تلاوته وبقي حكمه ولم ينس لفظه . والذي هو عمدة هذا الباب هو ما يزيل الله جل ذكره حكمه ويبدله بغيره من حكم متلو ويبقى المنسوخ متلوا غير معمول به وقد ذكرنا مثاله ، أو يزيل حكمه ولفظه بحكم آخر متلو ، وهذا كله إنما يجوز في الأحكام والفرائض والأوامر والنواهي والحدود والعقوبات من أحكام الدنيا فهذا قول عامة العلماء وعليه العمل عند فقهاء الأمصار وهو الذي لا يجوز في النظر غيره ، فأما ما لا يجوز نسخه فهو كل ما أخبرنا الله تعالى عنه أنه سيكون أو أنه كان أو وعدنا به أو قص علينا من أخبار الأمم الماضيـة وما قـص علينا مـن أخبار الجنة والنار والحساب والعقاب والبعث والحشر وخلق السماوات والأرضين وتخليد الكفار في النار والمؤمنين في الجنة هذا كله وشبهه من الأخبار لا يجوز نسخه ؛ لأنه يتعالى أن يخبر عن الشيء على غير ما هو به . وكذلك ما أعلمنا به من صفاته لا يجوز في ذلك كله أن ينسخ ببدل منه فأما جواز أن ينسخ ذلك كله بإزالة حفظه من الصدور -ونعوذ بالله من ذلك- فذلك جائز في قدرته تعالى يفعل ما يشاء وقال الزرقاني في مناهل العرفان : إن تعريف النسخ بأنه ( رفع حكم شرعي بدليل شرعي ) يفيد في وضوح أن النسخ لا يكون إلا في الأحكام وذلك موضع اتفاق بين القائلين بالنسخ لكن في خصوص ما كان من فروع العبادات والمعاملات أما غير هذه الفروع من العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات . . . ومدلولات الأخبار المحضة فلا نسخ فيها على الرأي السديد الذي عليه جمهور العلماء . أما العقائد فلأنها حقائق صحيحة ثابتة لا تقبل التغير والتبديل فبدهي ألا يتعلق بها نسخ ، وأما أمهات الأخلاق فلأن حكمة الله في شرعها ومصلحة الناس في التخلق بها أمر ظاهر لا يتأثر بمرور الزمن ولا يختلف باختلاف الأشخاص والأمم حتى يتناولها النسخ بالتبديل والتغيير . وأما أصول العبادات والمعاملات فلوضوح حاجة الخلق إليها باستمرار لتزكية النفوس وتطهيرها ولتنظيم علاقة المخلوق بالخالق والخلق على أساسهما فلا يظهر وجه من وجوه الحكمة في رفعها بالنسخ . وأما مدلولات الأخبار المحضة فلأن نسخها يؤدي إلى كذب الشارع في أحد خبرية الناسخ أو المنسوخ وهو محال عقلا ونقلا . أما عقلا فلأن الكذب نقص والنقص عليه تعالى محال . وأما نقلا فلمثل قوله سبحانه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا . وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا . نعم إن نسخ لفظ الخبر دون مدلوله جائز بإجماع من قالوا بالنسخ ولذلك صورتان : إحداهما : أن تنزل الآية مخبرة عن شيء ثم تنسخ تلاوتها فقط . والأخرى : إن يأمرنا الشارع بالتحدث عن شيء ثم ينهانا أن نتحدث به . وأما الخبر الذي ليس محضا بأن كان في معنى الإنشاء ودل على أمر ونهي متصلين بأحكام فرعية عملية فلا نزاع في جواز نسخه والنسخ به؛ لأن العبرة بالمعنى لا باللفظ ، مثال الخبر بمعنى الأمر تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فإن معناه ازرعوا . ومثال الخبر بمعنى النهي قوله سبحانه : الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ فإن معناه لا تنكحوا مشركة ولا زانية ( بفتح التاء ) ولا تنكحوا زانيا ولا مشركا ( بضم التاء ) لكن على بعض وجوه الاحتمالات دون بعض والفرق بين أصول العبادات والمعاملات وبين فروعها أن فروعها هي ما تتعلق بالهيئات والأشكال والأمكنة والأزمنة والعدد أو هي كمياتها وكيفياتها وأما أصولها فهي ذوات العبادات والمعاملات بقطع النظر عن الكم والكيف . واعلم أن ما قررناه هنا من قصر النسخ على ما كان من قبيل الأحكام الفرعية العلمية دون سواها هو الرأي السائد الذي ترتاح إليه النفس ويؤيده الدليل وقد نازع في ذلك قوم لا وجه لهم فلنضرب عن كلامهم صفحا . ويتصل بما ذكرنا أن الأديان الإلهية لا تناسخ بينها فيما بيناه من الأمور التي لا يتناولها النسخ بل هي متحدة في العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات وفي صدق الأخبار المحضة فيها صدقا لا يقبل النسخ والنقض اهـ . فالذي يقع عليه النسخ إذا هو الحكم الشرعي العملي الذي لم يلحقه تأبيد ولا توقيت كالأحكام التكليفية من وجوب وندب وإباحة وتحريم وكراهة . وقال صاحب التقرير والتحبير : ( محل النسخ عند الحنفية حكم شرعي فرعي يحتمل في نفسه الوجود والعدم وعند طائفة منهم غير مقيد بتأبيد ولا توقيت قبل مضيه خلافا للآخرين ) وقد اتفقت كلمة القائلين بالنسخ المجيزين لوقوعه على عدم وقوعه في الأحكام العقلية كلمة القائلين بالنسخ المجيزين لوقوعه على عدم وقوعه في الأحكام العقلية وهي الأحكام التي يدركها العقل بنور البصيرة ويأتي الشرع مؤيدا لها كالإيمان بواحدانية الله تعالى وحسن الصدق والوفاء بالعهد وقبح الكفر والكذب وإخلاف الوعد . وفي معرض حديثه عن نسخ الأخبار يقول الآمدي في الإحكام : ( إن الخبر إما أن تنسخ تلاوته أو تكليفنا بأن نكون قد كلفنا أن نخبر بشيء فينسخ عنا التكليف بذلك الإخبار ) ويقول البدخشي في ذلك أيضا ( لا خلاف في أن التكليف بالأخبار بشيء من عقلي أو عادي أو شرعي ثم نسخه بعد ذلك جائز ) . وقد ذهب ابن حزم رحمه الله إلى أن النسخ لا يقع إلا في الأوامر والنواهي فأما الأخبار فلا يقع فيها النسخ إطلاقا ولا يصح أن يقع في مدلول الخبر إلا إن كان المراد من الخبر والأخبار الأمر والنهي . وقد قسم حين تكلم عن نسخ الأخبار الكلام إلى أربعة أقسام أمر ورغبة وخبر واستفهام وبين أن ( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 255) القسم الأول هو الذي يقع فيه النسخ أما ما سواه فلا يقع فيها . وقد سمى الرجوع عن الأمر بإحداث أمر غيره نسخا وإذا ورد لفظ الكلام كلفظ الخبر ومعناه معنى الأمر جاز النسخ فيه مثل قوله تعالى : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ وقوله تعالى : فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا . وإذا كان مضمون الخبر مما يتغير جاز نسخه مطلقا وإليه يذهب أبو عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري وهو المختار عند الآمدي ، سواء كان ماضيا أو مستقبلا وقد علل هذا الاختيار بقوله : ( وذلك لأنه إذا ما دل عليه كان الإخبار متكررا والخبر عام فيه فأمكن أن يكون الناسخ مبينا لإخراج بعض ما تناوله اللفظ وأن المراد بعض ذلك المذكور كما في الأوامر والنواهي ) واختار هذا القول ابن تيمية أيضا وذهب فخر الدين الرازي إلى جواز النسخ في مدلول الخبر الذي يتغير . أما أبو الحسين البصري فيجيز نسخ تلاوة الخبر كنسخ تلاوة أخبار التوراة كما يجيز نسخ الابتداء بالخبر نحو أن يأمرنا الله سبحانه أن نخبر عن شيء فيجوز أن ينسخ عنا وجوب الإخبار عنه سواء كان الخبر مما يجوز أن يتغير أو مما لا يجوز أن يتغير كالإخبار عن صفات الله سبحانه ؛ لأنه لا يمتنع أن يكون في الإخبار عن ذلك مفسدة كما كان في تلاوة الجنب والحائض للقرآن مفسدة أما ابن أمير الحاج صاحب ( التقرير والتحبير على تحرير الكمال بن الهمام ) فيقسم مدلول الخبر إلي قسمين : الأول : إن ترتب على جواز نسخه الكذب والخلف في حق من لا يجوز عليه ذلك فلا يجوز نسخه ويلحق هذا القسم بالأخبار التي يوجبها العقل في عدم جواز نسخها . الثاني : أنه إن لم يترتب على نسخه الكذب فلا يكون خبرا ويجوز نسخه . ولقد لخص ابن أمير الحاج موقف العلماء من وقوع النسخ في الأخبار بقوله : قال الجمهور : لا يجري النسخ في الأخبار سواء كانت ماضية أو مستقبلة؛ لأن النسخ فيها هو الكذب والشارع منزه عنه والحد فيه أن النسخ لا يجري في واجبات العقل بل في جائزاتها وتحقق المخبر به في خبر من لا يجوز عليه الكذب والخلف من الواجبات والنسخ فيه يؤدي إلى الكذب فلا يجوز . ثم ذكر أن هناك من العلماء من قال بجواز نسخ الأخبار مطلقا سواء كانت ماضية أو مستقبلة وعدا أو وعيدا ونسب هذه القول إلى الإمام الرازي والآمدي إذا كان مدلول الخبر مما يتغير . كما ذكر أن صاحب ( كشف الأسرار ) قد أسند هذا القول إلى بعض المعتزلة والأشعرية إذا كان مدلوله متكررا والإخبار عنه عاما . وهناك من العلماء من فرق بين أخبار الوعد وأخبار الوعيد فمنع النسخ في خبر الوعد؛ لأن فيه إخلافا في الإنعام والخلف في الإنعام محال على الله تبارك وتعالى . وأما الوعيد ففي جواز وقوع النسخ فيه حكمة بالغة وهو دليل على عفو الله وكرمه لا على خلفه وخلاصة القول فيما يقع فيه النسخ في القرآن الكريم أنه يقع في الأحكام والفرائض والأوامر والنواهي والحدود والعقوبات من أحكام الدنيا باتفاق عامة العلماء وهو الذي عليه العمل عند فقهاء الأمصار وأما الأخبار فإن لعلماء الأصول في وقوع النسخ فيها من عدمه ثلاثة مذاهب : 1 - منع نسخها مطلقا . 2 - جواز نسخها مطلقا . 3 - التفصيل في ذلك على الوجه الذي أسلفناه مجملا . . الفصل السابع أنواع النسخ في القرآن يقرر الباحثون في علوم القرآن باتفاق أن أنواع النسخ في القرآن الكريم ثلاثة هي : الأول : ما نسخ رسمه وبقي حكمه كآية الرجم ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لولا أن يقول الناس زاد ابن الخطاب في كتاب الله لكتبت في حاشيته ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) رواه أحمد ومالك في الموطأ وأبو داود . وكذلك آية الرضاع في قول أصحاب الشافعي رحمه الله وقد قالت عائشة رضي الله عنها : ( كان فيما أنزل الله تعالى عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخن بخمس معلومات ) . رواه مالك في الموطأ ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي . فالخمس منها منسوخ الرسم ثابت الحكم عند الشافعي وأصحابه . وقال مالك وأصحاب الرأي بنسخها بالرضعة الواحدة . والقسم الثاني : ما نسخ حكمه ورسمه معا كالعشر من الرضعات عند الشافعي وأصحابه . والقسم الثالث : ما نسخ حكمه وبقي رسمه كالآيات المنسوخة أحكامها مع بقاء نظمها في القرآن وقال الزركشي في البرهان حين كر القسم الأول : ( فيعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول ) فجعل شرط العمل به أن يكون مجمعا عليه . ثم قال بعد أن أورد خبر عمر رضي الله عنه الذي ذكر أن البخاري رواه في صحيحه معلقا : ( وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بن كعب : كانت سورة الأحزاب توازي سورة النور فكان فيها ( الشيخ والشيخة ) . . . إلخ . إلى أن قال : وذكر الإمام المحدث أبو الحسين أحمد بن جعفر المنادي في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) مما رفع رسمه من القرآن ولم يرفع من القلوب حفظه سورتا القنوت في الوتر قال : ولا خلاف بين الماضين والغابرين أنهما مكتوبتان في المصاحف المنسوبة إلى أبي بن كعب وأنه ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقرأه إياهما وتسمى سورتي الخلع والحفد . . . ) اهـ . ثم افترض سؤالا هو : ما الحكمة في رفعه التلاوة مع بقاء الحكم وهلا أبقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟ وذكر أن أبا الفرج بن الجوزي قد أجاب على هذا السؤال المفترض في كتابه ( فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن ) بقوله : إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام والمنام أدنى طرق الوحي . وقد ذكر الزركشي أن النوع الثاني من الأنواع الثلاثة ورد في ثلاث وستين سورة ثم عاد إلى الأسئلة الافتراضية فقال بعد إيراده بعض الأمثلة على نسخ الحكم وبقاء التلاوة والجواب من وجهين : أحدهما : إن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه والعمل به فيتلى لكونه كلام الله تعالى فيثاب عليه فتركت التلاوة لهذه الحكمة . وثانيهما : إن النسخ غالبا يكون للتخفيف فأبقيت التلاوة تذكيرا بالنعمة ورفع المشقة وأما حكمة النسخ قبل العمل كالصدقة عند النجوى فيثاب على الإيمان به وعلى نية طاعة الأمر . وعند كلامه على نسخ الحكم والتلاوة معا قال رحمه الله تعليقا على قول عائشة رضي الله عنها في حديث الرضعات : فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مما يقرأ من القرآن حسب رواية مسلم رحمه الله وقد تكلموا في قولها (وهي مما يقرأ) فإن ظاهره بقاء التلاوة وليس كذلك . فمنهم من أجاب بأن المراد قارب الوفاة . والأظهر أن التلاوة نسخت أيضا ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي وبعض الناس يقرؤها . وقال أبو موسى الأشعري : نزلت ثم رفعت اهـ وعلق على خبر عائشة أيضا مكي بن أبي طالب بقوله : ( فهذا قول عائشة غريب في الناسخ والمنسوخ ، والناسخ غير متلو والمنسوخ غير متلو وحكم الناسخ قائم ) . وهذه الأنواع الثلاثة التي ذكرناها إنما هي للنسخ في القرآن الكريم من حيث هو بيد أن مكي بن أبي طالب رحمه الله تعالى قد ذكر في ( الإيضاح ) تقسيما آخر للنسخ باعتبار المنسوخ فأثبت ستة أقسام للمنسوخ من القرآن فيما يلي بيانها : الأول : ما رفع جل ذكره رسمه من كتابه بغير بدل منه وبقي حفظه في الصدور ومنه الإجماع على ما في المصحف من تلاوته على أنه قرآن وبقي حكمه مجمعا عليه نحو آية الرجم التي تقدم ذكرها . الثاني : ما رفع الله حكمه من الآي بحكم آية أخرى وكلاهما ثابت في المصحف المجمع عليه متلو وهذا هو الأكثر في المنسوخ ولا يكون في الأخبار على ما قدمنا وقد مضى تمثيله في آية الزواني المنسوخة بالجلد المجمع عليه في سورة النور كلاهما باق متلو كله . الثالث : ما فرض العمل به لعلة ثم زال العمل به لزوال تلك العلة وبقي متلوا ثابتا في المصحف نحو قوله وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ الآية وقوله تعالى : وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا وقوله : فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا أمروا بذلك كله وفرض عليهم بسبب المهادنة التي كانت بين النبي - عليه الصلاة والسلام- وبين قريش في سنة ست في غزاة الحديبية إذ صدوه عن البيت فلما ذهبت المهادنة وزال وقتها سقط العمل بذلك كله وبقي اللفظ متلوا وثابتا في المصحف الرابع : ما رفع الله رسمه وحكمه وزال حفظه من القلوب . وهذا النوع إنما يؤخذ بأخبار الآحاد وذلك نحو ما روى عاصم ابن بهدلة المقري - وكان ثقة مأمونا- عن زر أنه قال : قال لي أبي : يا زر إن كانت سورة الأحزاب لتعدل سورة البقرة . ومنه ما روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال : نزلت سورة نحو سورة براءة ثم رفعت وذكر أنه حُفظ منها شيء . يقول مكي : أضربت أنا عن ذكره؛ لأن القرآن لا يؤخذ بالأخبار وقد ذكر من نحو هذا أشياء كثيرة اخترت أنا الإضراب عن نصها إشفاقا والله أعلم بذلك كله . الخامس : ما رفع الله -جل ذكره- رسمه من كتابه فلا يتلى وأزال حكمه ولم يرفع حفظه من القلوب ومنع الإجماع من تلاوته على أنه قرآن . وهذا أيضا إنما يؤخذ من طريق الأخبار نحو ما ذكرنا من حديث عائشة رضي الله عنها في العشر الرضعات والخمس فالأمة مجمعة على أن حكم العشر غير لازم ولا معمول به عند أحد . وإنما وقع الاختلاف في التحريم برضعة على نص القرآن في قوله : وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ أو بخمس رضعات على قول عائشة أنها نسخت العشر وكانت مما يتلى وقد ذكرنا هذا . السادس : ما حصل من مفهوم الخطاب فنسخ بقرآن متلو وبقي المفهوم ذلك منه متلوا نحو قوله لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى فهم من هذا الخطاب أن السكر في غير وقت الصلاة جائز فنسخ ذلك المفهوم قوله فَاجْتَنِبُوهُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فحرم الخمر والسكر مثل الخمر وبقي المفهوم ذلك منه متلوا قد نسخ أيضا بما نسخ ما فهم منه فيكون فيه نسخان : نسخ حكم ظاهر متلو ونسخ حكم ما فهم من متلوه . وكما قسم مكي رحمه الله النسخ باعتبار المنسوخ فقد قسمه أيضا من حيث الناسخ إلى ثلاثة أقسام هي : الأول : أن يكون الناسخ فرضا نسخ ما كان فرضا ولا يجوز فعل المنسوخ نحو قوله تعالى وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فرض الله فيها حبس الزانية حتى تموت أو يجعل الله لها سبيلا ثم جعل السبيل بالحدود في سورة النور بقوله فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ فكان الأول فرضا فنسخه فرض آخر ولا يجوز فعل الأول المنسوخ وكلاهما متلو مدني . الثاني : أن يكون الناسخ فرضا ونحن مخيرون في فعل الأول وتركه وكلاهما متلو وذلك نحو قوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا ففرض الله على الواحد المؤمن ألا ينهزم لعشرة من المشركين ثم نسخ ذلك بقوله الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ ففرض على الواحد المؤمن ألا ينهزم لاثنين من المشركين فنسخ فرض فرضا وكلاهما متلو ولو وقف الواحد لعشرة من المشركين فأكثر لجاز فنحن مخيرون في فعل المنسوخ وتركه . الثالث : أن يكون الناسخ أمر بترك العمل بالمنسوخ الذي كان فرضا من غير بدل ونحن مخيرون في فعل المنسوخ وتركه وفعله أفضل وذلك كنسخ الله-جل ذكره- قيام الليل وقد كان فرضا فنسخه بالأمر بالترك تخفيفا ورفقا بعباده ونحن مخيرون في قيام الليل وتركه وفعله أفضل وأشرف وأعظم أجرا . ثم ذكر مكي أن قوما قد زادوا في أقسام الناسخ قسما رابعا وهو أن يكون الناسخ فرضا نسخ ما كان ندبا غير فرض كالقتال كان ندبا ثم صار فرضا آراء العلماء في أنواع النسخ أما نسخ التلاوة والحكم معا فمما اتفق عليه سائر مجيزي النسخ . وأما نسخ الحكم وبقاء التلاوة فهو رأي الجمهور ومنعه بعض المعتزلة لعدم إدراكهم الحكمة في ذلك . وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فهو رأي الجمهور أيضا مع خلاف بعض المعتزلة . كما خالف رأي الجمهور أيضا في هذا النوع الشيخ محمد الخضري في كتابه ( الأصول ) حيث يقول : أنا لا أفهم معنى آية أنزلها الله لتفيد حكما ثم يرفعها مع بقاء حكمها فما هي المصلحة في رفع آية مع بقاء حكمها؟ إن ذلك غير مفهوم . وفي رأيي ليس هناك ما يلجئني إلى القول به ثم قال (وحجة الجمهور أخبار آحاد لا يقوم برهانا على ذلك) وقد رد صاحب كتاب ( دراسات في الإحكام والنسخ في القرآن الكريم ) الشيخ محمد حمزة على استشكال الخضري بعد إيراده له بقوله : حجة الجمهور أحاديث صحيحة مشهورة لا يبعد أن يدعى تواترها . كما قال شارح مسلم الثبوت وهي تكفي حجة في كل حكم شرعي بل إن آية الرجم ثابتة بالتواتر؛ لأن الإجماع ظاهرها وليس بعد ذلك قول لقائل؛ لأن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعلن ذلك على المنبر على مسمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخالفه أحد ، وعدم مخالفة أحد من الصحابة يعد إجماعا سكوتيا كما اختلفوا في الاحتجاج بحديث الرضعات الخمس الذي روته عائشة رضي الله عنها ومثلنا به لما نسخ حكمه وتلاوته معا حيث إنه آحاد وإذا كان كذلك فإنه لا يثبت به قرآن ناسخا أو منسوخا . وإذا لم يثبت به قرآن فهل يجوز الاحتجاج به أم لا؟ قولان . فالشافعية قالوا نعم والأحناف قالوا : لا وقال الذين يرون الاحتجاج به أنه قد عمل به من الصحابة ابن مسعود وابن الزبير رضي الله عنهما وعمل به من الأئمة الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى . الفصل الثامن أمثلة للنسخ وما قيل إنه نسخ وليس بنسخ أولا : أمثلة للنسخ : 1 - قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ منسوخة قيل بآية المواريث وقيل بحديث ألا لا وصية لوارث وقيل بالإجماع حكاه ابن العربي . 2 - قوله تعالى يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ منسوخة بقوله تعالى وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً أخرجه ابن جرير عن عطاء بن ميسر . 3 - قوله تعالى وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ منسوخة بقوله بعده لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا . 4 - قوله تعالى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ منسوخة بقوله سبحانه وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ . 5 - قوله تعالى وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 265) الآية منسوخة بآية النور الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ الآية. 6 - قوله تعالى وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ في آية المائدة منسوخة بإباحة القتال فيه . 7 - قوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ الآية منسوخة بالآية بعدها . 8 - قوله تعالى فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ منسوخة بقولة تعالى وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ الآية . 9 - قوله تعالى أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ منسوخ بقوله وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ . 10 - قوله تعالى انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا منسوخة بآيات العذر كقوله تعالى لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ الآية . وقوله لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ومنسوخة كذلك بقوله تعالى وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً . 11 - قوله تعالى لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ منسوخة بقوله سبحانه يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ الآية . 12 - قوله تعالى إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً منسوخة بقوله تعالى بعدها أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الآية . 13 - قوله تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ منسوخة بقوله فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ على رأي ابن عباس ثانيا : ما توهم أنه نسخ وليس كذلك . هناك آيات ذكرها بعض من ألفوا في علم الناسخ والمنسوخ على سبيل التوهم منهم إذ لا يصح أن تكون منسوخة ولا علاقة لها بالنسخ يوجه من الوجوه وسنذكر فيما يلي أمثلة لما توهم أنه نسخ وليس كذلك : 1 - قوله تعالى وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وقوله سبحانه أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ونحو ذلك . قالوا : إنه منسوخ بآية الزكاة وليس كذلك بل هو باق . أما الأولى فإنها خبر في معرض الثناء عليهم بالإنفاق وذلك يصلح أن يفسر بالزكاة وبالإنفاق على الأهل وبالإنفاق في الأمور المندوبة كالإعانة والإضافة وليس في الآية ما يدل على أنها نفقة واجبة غير الزكاة والآية الثانية يصح حملها على الزكاة وقد فسرت بذلك . 2 - قوله تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ . قيل : إنها مما نسخ بآية السيف وليس كذلك لأنه تعالى أحكم الحاكمين أبدا لا يقبل هذا الكلام النسخ وإن كان معناه الأمر بالتفويض وترك المعاقبة . 3 - قوله تعالى وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا عده بعضهم من المنسوخ بآية السيف وقد غلطه ابن الحصار بأن الآية حكاية عما أخذه على بني إسرائيل من الميثاق فهو خبر لا نسخ فيه . 4 - قوله تعالى إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا الآية . وكذلك قوله تعالى وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا الآية وكذلك قوله تعالى فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وهذه الآيات ليس فيها نسخ وليست من بابه وإنما هي من قبيل التخصيص باستثناء أو غاية . وقد أخطأ من أدخلها في المنسوخ . 5 - وكذلك قوله تعالى وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ . قيل : إنه نسخ بقوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ . وليس كذلك وإنما هو مخصوص به . ( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 268) 6 - قوله تعالى فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ . الآية . توهم قوم أن هذا منسوخ بقوله تعالى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ . وليس الأمر كذلك وإنما هو على أحد وجهين : الأول : أن يكون تحريم وطء الحائض نزل قبل إباحة الوطء ليلة الصيام فنزل ذلك وقد استقر في أنفسهم تحريم وطء الحائض فصارت المباشرة المباحة مخصوصة ليل الصوم في غير الحائض من زوجة وأمة . الثاني : أن يكون تحريم وطء الحائض نزل بعد هذه الآية فتكون مبينة لها ومخصصة أنها في غير ذوات الحيض فلا يجب أن يدخل هذا في الناسخ والمنسوخ وممن وهم في هذا الباب ابن خزيمة في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) فقد اشتبه عليه التخصيص بالنسخ فعد كثيرا منه نسخا كاعتباره آية إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْـزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ . الآية منسوخة بالاستثناء كلها؛ لأن الله تعالى حرم جميع ذلك ثم أباحها للمضطر بقوله فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وهذا تخصيص لا نسخ كما عد الاستثناء في مواضع كثيرة نسخا أيضا مثل ما جاء في قوله تعالى : أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (159) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا وهو كسابقه من قبيل التخصيص لا النسخ وقد عقد ابن خزيمة بابا خاصا في كتابه المومى إليه لذكر المنسوخ بالاستثناء فحصر الآيات من هذا القبيل بثلاث وعشرين آية . كما عقد بابين في كتابه المذكور أحدهما لذكر الآيات المنسوخة بآية السيف وهي قوله تعالى فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فعد في هذا مائة وثلاثا وعشرين آية لا تصح دعوى النسخ في واحدة منها . قال الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير : وأكثر المفسرين يقولون إن كل ما في القرآن من قوله فَأَعْرِضْ منسوخ بآية القتال . وهو باطل؛ لأن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ بها ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم في الأول كان مأمورا بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أمر بإزالة شبههم والجواب عنها فقيل له وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ثم لما لم ينفع ذلك فيهم قيل له أعرض عنهم ولا تقابلهم بالدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به وقاتلهم . والإعراض عن المناظرة شرط لجواز المقاتلة فكيف يكون منسوخا بها . والباب الثاني الذي عقده ابن خزيمة في كتابه هو باب ما نسخ من القرآن بآية القتال وذكر فيه تسع آيات لا تصح دعوى النسخ في أي منها كذلك . ولعل من المناسب بعد أن ذكرنا بعض الأمثلة لما توهم أنه نسخ وليس بنسخ أن نشير بإيجاز إلى أبرز أسباب توهم النسخ فيما توهموه فيه فنقول : أولا : اشتباه التخصيص بالنسخ عليهم وقد تقدم مثاله . ثانيا : ظنهم أن ما شرع لسبب ثم زال لزوال سببه من المنسوخ فعدوا الآيات التي وردت في الحث والصبر وتحمل أذى الكفار أيام ضعف المسلمين منسوخة بآيات القتال وليس الأمر كذلك تحقيقا . ثالثا : اعتبروا كل قيد لآية من قبيل النسخ كقوله تعالى وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ . فعده ابن خزيمة وغيره ناسخا لعموم المشركين في قوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ مع أنه تخصيص بالقيد . رابعا : إدخال كثير من الآيات الخبرية في باب المنسوخ مع أنه لا يجوز نسخ الخبر إلا إذا تضمن حكما شرعيا أما إذا كان خبرا محضا فلا ، كما تقدم في موضعه من هذا البحث ومثاله ما قدمناه من اعتبارهم قوله تعالى وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ و أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ منسوخا بآية الزكاة وليس كذلك ومثله أيضا قوله تعالى وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ حيث عدها هبة الدين بن سلامة منسوخة بقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وليس كذلك إذ هما خبران محضان لا يجري النسخ فيهما . خامسا : اشتباه البيان بالنسخ عليهم كقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا حيث عدها هبة الله بن سلامة منسوخة بقوله تعالى وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ الآية . ثم اعتبر هذه أيضا منسوخة بقوله : وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ حيث قال : فصارت هذه ناسخة لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا الآية . وليس هذا بنسخ وإنما هو بيان لما ليس بظلم ، وببيان ما ليس بظلم يتبين الظلم . سادسا : توهم وجود تعارض بين نصين ولا تعارض بينهما في الحقيقة كتوهم التعارض بين آية الزكاة وآيات الصدقات الواردة في القرآن الكريم مما حدا بابن سلامة في الناسخ والمنسوخ وابن الجوزي في نواسخه أن يقولا : قال أبو جعفر يزيد بن القعقاع : ( نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن فصارت آية الزكاة ناسخة لكل صدقة ) . مع أنه لا يوجد في الواقع تعارض ولا تناف بين هذه وتلك حيث يصح حمل الإنفاق في آيات الصدقات على ما يشمل الزكاة وصدقة التطوع ونفقة الأهل والأقربين ونحو ذلك وتكون آيات الزكاة من قبيل ذكر فرد من أفراد العام بحكم العام وهذا لا يخصص العام ولا ينسخه وذلك لعدم وجود تعارض حقيقي لا بالنسبة إلى كل فرد من أفراد العام حتى يكون ناسخا ولا بالنسبة إلى بعضها حتى يكون مخصصا . هذه أبرز أسباب توهم من توهم ما ليس بنسخ نسخا وإلا فإن هناك أسبابا أخرى لا يتسع المجال لذكرها . خاتمة البحث وهكذا يتبين لنا بعد التجوال في ميدان هذا العلم من علوم القرآن الكريم أعني ( الناسخ والمنسوخ ) أنه علم من آكد العلوم وأوجبها تعلما وحفظا وبحثا وفهما وخاصة لمن أراد أن يخوض غمار تفسير كتاب الله تعالى وأن يغوص في لجته لاستخراج الدرر الثمينة والجواهر النفيسة . بل إنه علم لا يسع كل من تعلق بأدنى علم من علوم الديانة جهله كما قال ذلك مكي بن أبي طالب القيسي رحمه الله تعالى . وإن مما يدل على عظم شأن هذا العلم وجليل خطره أن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه عداه شرطا لكون الإنسان عالما . وأن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة اعتبره شرطا للإفتاء بل قال : إنه لا يحل لأحد أن يفتي حتى يعرفه . وتبين لنا من خلال بحثنا أن النسخ في اللغة معناه الإزالة والتغيير تقول ( نسخت الشمس الظل ) أي أزالته ( ونسخت الريح آثار الدار ) أي غيرتها كما يأتي بمعنى النقل كقولك ( نسخت الكتاب ) إذا نقلت ما فيه . وهو بهذا دائر في ثلاثة أوجه هي : النقل ، والإزالة مع حلول المزيل محل المزال ، والإزالة مع عدم حلول المزيل محل المزال فكأنه بمعنى المحو . وأنه في الاصطلاح ( رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ) كما هو عند جمهور المحققين . وهنالك تعريفات اصطلاحية أخرى للنسخ أثبتناها في موضعها لا تخرج في جملتها عن مضمون هذا التعريف . كما بينا في ثنايا هذا البحث الفرق بين النسخ والتخصيص وقلنا : إن هنالك فروقا سبعة بينهما ذكرناها في موضوعها بالتفصيل مع أمثلتها التي توضحها . ثم عرجنا على ما يتعلق بشروط النسخ فبينا في الفصل الثالث أن شروط النسخ نوعان : نوع متفق عليه . ونوع مختلف فيه وذكرنا أربعة من الشروط المتفق عليها وسبعة من الشروط المختلف فيها وذكرنا أن صاحب ( نظرية النسخ في الشرائع السماوية ) قد نقل عن الآمدي في ( الأحكام ) والزرقاني في ( مناهل العرفان ) أن الراجح كونه لا داعي لهذه الشروط السبعة المختلف فيها . ونقلنا عن كل من مكي بن أبي طالب وعبد القاهر بن طاهر البغدادي عددا من الشروط التي يشترطانها لتحقيق النسخ . ثم انتقلنا إلى استعراض آراء العلماء أفرادا وطوائف في حكم النسخ مع مناقشة تلك الآراء وتفنيد ما تستدعي الحال تفنيده منها وبيان وجه الحق في ذلك مستعرضين أدلة وحجج المجيزين والمانعين له على السواء وقد رأينا أن أدلة المجيزين له هي الأظهر وأن حجتهم هي الأبلغ والأقوى لانطلاقها من كون الله تعالى هو الفعال لما يريد يأمر عباده بما شاء وينهاهم عما يشاء يبقي من أحكامه على ما يشاء وينسخ منها ما يشاء بناء على اختياره ومشيئته وكبريائه وعظمته سبحانه إذ لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا ملزم يلزمه جل وعلا . وقلنا : إن مذهب هؤلاء المنكرين للنسخ هو أخطر المذاهب وأشنعها في هذا الباب وأبعدها عن الحق وأكثرها مجانبة للصواب وولوغا في الباطل . واتضح لنا أن هنالك إجماعا على جواز النسخ عقلا ووقوعه سمعا لم يخرج عليه سوى من لا يعتد به كالشمعونية إحدى فرق اليهود الثلاث وبعض نصارى هذا الزمان وأبي مسلم الأصفهاني ومن شايعه الذي يرى أن النسخ جائز عقلا ممتنع سمعا في حين يرى بعض النصارى المعاصرين وكذلك الشمعونيون من اليهود استحالة النسخ وامتناعه عقلا وسمعا . ورأينا كيف يثير المانعون شبها كثيرة تولى العلماء المختصون رحمهم الله ردها وتفنيدها وإبطالها بكل جلد وقوة وعلم . أما في الفصل الخامس فقد قمنا بتفسير تحليلي للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم معتمدين في ذلك على النقل عن بعض التفاسير المعتمدة والمعتبرة مشيرين إلى الاختلاف الواقع في قراءة الآية إن وجد موضحين دلالة كل آية منها على النسخ مشيرين إلى الأوجه اللغوية وما حكاه أئمة اللغة وأئمة التفسير معا في إيضاح وبيان معاني تلك الآيات بتفصيل واف لكافة وجوهها وناقشنا بعد ذلك ما يقع فيه النسخ في القرآن الكريم فخلصنا إلى أنه لا يقع إلا في الأوامر والنواهي والأحكام والفرائض والحدود والعقوبات من أحكام الدنيا وهو قول عامة العلماء والذي عليه العمل عند فقهاء الأمصار . وأما الأخبار المحضة وما قص الله علينا من أخبار الجنة والنار والحساب والعقاب والبعث والحشر ونحو ذلك من الأخبار فلا يجوز نسخه ؛ لأن الله سبحانه يتعالى أن يخبر عن الشيء على غير ما هو به . وقد أطلنا في بيان عدم وقوع النسخ في الأخبار المحضة وذكرنا آراء من شذ عن الإجماع فأجاز النسخ في الأخبار سواء من قيد ذلك بما إذا كان مدلول الخبر مما يتغير كالرازي والآمدي . أو من لم يقيد ذلك بشيء بل أجاز وقوعه فيها مطلقا كأبي الحسين البصري . وفي الفصل السابع من هذا المبحث تناولنا أنواع النسخ في القرآن وتقرر أنها ثلاثة هي : ما - نسخ تلاوة وبقي حكما . ما - نسخ تلاوة وحكما . ما - نسخ حكما وبقي تلاوة . كما استعرضنا تقسيما للنسخ باعتبار آخر هو اعتبار المنسوخ فرأينا أن مكي بن أبي طالب قد عد بهذا الاعتبار ستة أقسام . وكذلك قسم رحمه الله النسخ باعتبار الناسخ إلى ثلاثة أقسام : وختمنا هذا الفصل ببيان أراء العلماء في أنواع النسخ حيث اتفق سائر مجيزي النسخ على نسخ التلاوة والحكم معا بينما منع بعض المعتزلة نسخ الحكم وبقاء التلاوة وهو النوع الذي يراه الجمهور وكذلك يرى الجمهور أيضا نسخ التلاوة مع بقاء الحكم في الوقت الذي نجد الشيخ محمد الخضري في كتابه ( الأصول ) يخالف رأي الجمهور في ذلك قائلا : ( إن ذلك غير مفهوم وفي رأيي ليس هناك ما يلجئني إلى القول به ) ورد حجة الجمهور في إثبات ذلك النوع بأنها أخبار آحاد لا تقوم برهانا على ذلك . وقد نقلنا رد الشيخ محمد حمزة في كتابه ( دراسات في الإحكام والنسخ ) على ما أورده الشيخ الخضري . وأخيرا ختمنا هذا البحث بإيراد أمثلة للنسخ في كتاب الله تعالى وكذلك لما توهم أنه نسخ وليس بنسخ فذكرنا للنسخ ثلاثة عشر مثالا ولما توهموه نسخا وليس كذلك ستة أمثلة . وأشرنا إلى أن ابن خزيمة ممن وهم في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) فأورد شيئا كثيرا مما عده نسخا وليس به لاشتباه التخصيص والاستثناء لديه بالنسخ . وأنهينا الفصل الثامن والأخير الذي اشتمل على الأمثلة للنسخ الصحيح والنسخ المتوهم بذكر أبرز أسباب توهم النسخ وقد عددنا منها ستة أسباب رئيسة وأشرنا إلى أن الحيز يضيق عن استقصاء جميع أسباب ذلك التوهم . والخلاصة أن علم الناسخ والمنسوخ أحد علوم القرآن الكريم التي ينبغي العناية بها وأنه غير التخصيص وأن له شروطا وأنواعا وأن الناس قد اختلفوا حوله بين مجيز ومانع وأن ما عليه جمهور العلماء المحقيقين أنه لا يقع إلا في ( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 276) الأمر والنهي لا في الخبر المحض وأن من توهم في النسخ ما ليس منه إنما توهم ذلك بسبب من أسباب عديدة بينها أهل الاختصاص . . . وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين . المراجع 1 - كتاب الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى لقتادة بن دعامة السدوسي تحقيق د \ حاتم صالح الضامن ، الطبعة االثانية 1406هـ الناشر مؤسسة الرسالة . 2 - الناسخ والمنسوخ من كتاب الله عز وجل لهبة الله بن سلامة بن نصر المقري تحقيق زهير الشاويش ومحمد كنعان الطبعة الثانية 1406هـ الناشر المكتب الإسلامي . 3 - الناسخ والمنسوخ للإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي تحقيق د \ حلمي كامل أسعد عبد الهادي . الطبعة الأولى سنة 1407هـ الناشر دار العدوي عمان الأردن . 1 - الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي بن أبي طالب . الطبعة الأولى سنة 1406هـ تحقيق الدكتور أحمد حسن فرحات . الناشر دار المنارة بجدة . 2 - ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه لابن البارزي . تحقيق د \ حاتم الضامن . الطبعة الثالثة 1405 هـ مؤسسة الرسالة . 3 - الموافقات للشاطبي . نشر المكتبة التجارية الكبرى بمصر . 4 - البرهان في علوم القرآن للزركشي . الطبعة الثالثة . نشر وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد . 5 - الإتقان في علوم القرآن للسيوطي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم . الطبعة الثالثة 1405 هـ . نشر وتوزيع دار التراث بالقاهرة . 6 - مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني . الطبعة الثالثة مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه . 10 - مباحث العرفان في علوم القرآن للشيخ مناع القطان . الطبعة التاسعة عشرة 1406 هـ مؤسسة الرسالة . 11 - نظرية النسخ في الشرائع السماوية لشعبان إسماعيل . مطابع الدجوي القاهرة . عابدين . 12 - دراسات في الإحكام والنسخ لمحمد حمزة . الطبعة الأولى . نشر دار قتيبة . 13 - تفسير ابن الجوزي ( زاد المسير ) الطبعة الثالثة 1404هـ . المكتب الإسلامي . 14 - تفسير القرآن العظيم لابن كثير نشر دار المعرفة . بيروت . لبنان سنة 1401هـ . 15 - تفسير أبي السعود . الناشر مكتبة الرياض الحديثة سنة 1401هـ نشر وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد . 16 - فتح القدير للشوكاني . الناشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع سنة 1401هـ . 17 - تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار لمحمد رشيد رضا . الطبعة الثانية . الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر . بيروت . لبنان . 18 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لابن سعدي . طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد . الرياض سنة 1404هـ . 19 - معجم مقاييس اللغة لابن فارس . تحقيق وضبط عبد السلام محمد هارون . الناشر دار الفكر سنة 1399هـ . 20 - الصحاح للجوهري . الطبعة الثانية 1399هـ . الناشر دار العلم للملايين بيروت . 21 - المصباح المنير للمقري الفيومي . نشر المكتبة العلمية . بيروت . لبنان . 22 - المعجم الوسيط من وضع وإعداد مجمع اللغة العربية بالقاهرة الطبعة الثانية . مطابع دار المعارف بمصر 1393 هـ . توزيع دار الباز بمكة . 23 - التقرير والتحبير على تحرير الكمال بن الهمام . 24 - شرح البدخشي على شرح الإسنوي على منهاج الأصول للبيضاوي . مطبعة محمد علي صبح بمصر . 25 - الإحكام للآمدي . الطبعة الأولى 1378هـ . 26 - الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم . تحقيق أحمد شاكر . مطبعة العاصمة بالقاهرة . 27 - المسودة لابن تيمية . مطبعة المدني بالقاهرة 1384 هـ تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد . 28 - المعتمد لأبي الحسين البصري تحقيق محمد حميد الله طبع دمشق 1384 هـ . 29 - النسخ في دراسات الأصوليين . الطبعة الأولى 1405هـ الناشر مؤسسة الرسالة . عبد الله بن حمد بن عبد الله الشبانة . - من مواليد مدينة المجمعة عام 1367 هـ . - حصل على شهادة الابتدائية في الرياض عام 1379 هـ . - تخرج من معهد الرياض العلمي عام 1384 هـ . - تخرج من كلية اللغة العربية عام 1389هـ . - عمل بالتدريس في المعاهد العلمية مدة ثلاث سنوات ، ثم التحق بديوان الموظفين العام ( ديوان الخدمة المدنية - حاليا - عام 1393هـ ، ثم التحق بوزارة الإعلام عام 1394هـ ، ثم التحق للعمل في مجال الدعوة بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، مديرا لمركز الدعوة والإرشاد بظفار في المنطقة الجنوبية لسلطنة عمان عام 1399هـ ثم مديرا لمركز الدعوة والإرشاد بالفجيرة بدولة الإمارات العربية المتحدة عام 1401هـ ، ثم رشح مديرا عاما للرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عام 1403هـ ، ثم عين أمينا عاما مساعدا لهيئة كبار العلماء عام 1406هـ وهو عمله الحالي . له من المؤلفات : 1- كتاب : موجز القول . 2- كتاب : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء . 3- كتاب : خطرات ونظرات . 4- كتاب : المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية . 5- الزفرات الحرى " ديوان شعر " . 6- تحية للوطن " ديوان شعر " . كما أن له بعض البحوث والمقالات المنشورة في الصحف والمجلات المحلية والإسلامية .
    0

  • انتشار ترجمات معاني القرآن الكريم في مشرق العالم ومغربه
    بقلم : السيد أحمد أبو الفضل عوض الله

    (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثلاثون - الإصدار : من ربيع الأول إلى جمادى الثانية لسنة 1411هـ)

    لقد كان ظهور الإسلام حدثا عالميا أوجد حركة إنسانية كبرى ، ترتبت عليها نتائج ضخمة لم تقف عند الحدود الجغرافية للبلاد التي شهدت بوادره الأولى ، بل لقد تجاوزت هذه الحدود إلى ما وراءها . واستمرت تفاعلاتها الفكرية تنتقل من بلد إلى آخر ، ومن زمن إلى زمن ، حتى فرضت نفسها على تطور الحضارة العالمية ، وأصبحت إحدى الظواهر الأساسية لتطلع الإنسان إلى حياة أفضل ، وبذلك لم يجد أهل العلم من رجال الفكر على تباين لغاتهم ومذاهبهم بدا من العودة إلى الكتاب الذي ضم بين دفتيه شعائر هذا الدين وأركانه ، للاطلاع عليه ودراسته وتدبره وتمحيصه . ومن ثم أصبحت ترجمة معاني القرآن ، هذا الكتاب الخالد الذي لا يشبع منه العلماء ولا يبلى من كثرة الترداد ، هكذا أصبحت ترجمة معاني القرآن الكريم هدفا لمحاولات جادة قام بها العلماء في مشرق العالم ومغربه ، ولا تزال هذه المحاولات قائمة حتى الآن ، وكلها تسعى إلى ترجمة النص العربي لمعاني القرآن الكريم ونقله إلى لغات العالم الحية بقدر الإمكان .
    ولسنا هنا بصدد تحليل هذه الترجمات ومناقشتها في قربها أو بعدها عن الغرض الذي تسامت إليه ، وإنما نريد أن نعطي القارئ عرضا تاريخيا لهذا الموضوع الخطير ، ونضع بين يدي المهتمين بالدراسات القرآنية تعريفا بهؤلاء الأشخاص الذين ندبوا أنفسهم للتصدي لهذا العمل الجليل . ولا نزاع أن الترجمة الحرفية للقرآن الكريم ستبقى الضالة المنشودة ، كما أنها ستبقى الغاية التي لن تدرك ؛ لأن ترجمة الوحي الإلهي الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين ليست بالأمر الهين ، وفي ذلك يقول المستشرق الألماني " فيشر " : " لا يداخل الذين تعمقوا في أسرار العربية شك في أنه لا يوجد بين تراجم القرآن ، سواء أكانت كاملة أم قاصرة على بعض آيات منه - ترجمة تفي بالمطالب اللغوية الدقيقة " .

    القرآن الكريم في أوروبا :
    إن التواتر الدائم الذي كانت تتميز به العلاقات بين الإسلام والنصرانية لا سيما في أثناء الحروب الصليبية وبعدها ، كان يقف حجر عثرة يحول دون اطلاع الأوربيين على القرآن الكريم ، سواء بغلته العربية الأصيلة أو مترجما إلى إحدى اللغات الأوربية السائدة .
    وعندما أقدم العالم الإيطالي " باكانين " على طبع القرآن الكريم في مدينة البندقية سنة 1530 ميلادية ، بادر البابا بولس الثالث [ 1534 - 1537 م ] إلى إصدار الأمر المشدد بإتلاف كافة النسخ المطبوعة في الحالة . غير أن البابا الكسندر السابع [ 1555 -1567 ] عاد فألغى أمر الباب السابق وسمح بطبع القرآن الكريم لمن شاء كما سمح بترجمته والقيام بدراسته .

    أول ترجمة للقرآن الكريم في أوربا .
    إن أول ترجمة للقرآن الكريم في أوربا كانت بإشارة من بطرس المحترم abbot GLUG ny petrus venerabilis رئيس دير كلوني المتوفى سنة 1157 ميلادية فبعد قيامه برحلة إلى إسبانيا بين سنتي 1141 - 1143 م وبمساعدة ريمون الطليطلي كما هو مظنون ، ألف لجنة رأسها روبرت الراتيني ( إنجليزي ) Robert of Ratina الذي كان يشغل منصب رئيس الشمامسة بمدينة بمبلونا يساعده راهب ألماني يدعى هرمان Hermann ورجل آخر اسمه بطرس الطيطلي ويرجح أن هذا الأخير هو المترجم الحقيقي لمعاني القرآن الكريم إذ كان يتقن العربية اتقانا تاما .
    وتمت هذه الترجمة حوالي سنة 1143 م ، وأرسلت بعد إنجازها إلى رئيس دير كلوني العام برندوس الذي وضعها تحت تصرف رجال الكنيسة ليستفيدوا منها في استكمال دراساتهم اللاهوتية أو القيام بأعمال التبشير وكان ظهور هذه الترجمة بعد الحملة الصليبية بأربع سنوات .
    وقد ذكر هذه الترجمة المفهرس الألماني شتور في الصفحة ( 421 : 427 ) من الفهرس الذي وضعه بعنوان " المكتبة العربية " وكذلك أشار إليها مفهرس ألماني آخر هو " بيفان مولر " في الصفحة ( 213 ) والجدير بالذكر أن هذه الترجمة بالذات هي التي طبعها تيودور بيبلنياندر Theodor Bibilander : في بازل سنة 1543 ونقلت بعد ذلك إلى الإيطالية والألمانية والهولندية .
    وقد ظهرت فيما بعد طبعات أخرى لترجمة بيبلياندر وذلك سنة 1550م م سسنة 1721م في مدينة ليبزج EBZIG كما طبع في هذه المدينة أيضا ترجمة لاتينية لمعاني القرآن الكريم مع أصله العربي سنة 1768 قام بها جوستاس فريد ريكوس فورياب justas وثمة اعتقاد بأن الكتاب الذي نشره العالم الإيطالي " أندريا اريفايانيه سنة 1547م بعنوان : " قرآن محمد L ، alcorno de Macometto " لم يكن في الواقع سوى الترجمة الإيطالية من الأصل اللاتيني الذي وضعه كما ذكرنا من قبل روبرت الراتيني ، وهذه الترجمة بالذات هي التي نقلت فيما بعد إلى الألمانية وطبعت سنة 1616م ، وإلى الهولندية سنة 1647م وطبعت في هامبورج .
    ولقد ترجمت معاني القرآن الكريم مرة أخرى إلى اللاتينة على يد الأب بولس لويس مراكشي owis Marracciوذلك سنة 1698م وقد تضمنت هذه الترجمة الأصل العربي والترجمة اللاتينية والألفاظ المصححة .
    ومن الطريف أن رجال الدين النصارى في أوربا حاربوا القرآن الكريم ، عن طريق إطلاق الشائعات بأن من يطبعه أو يحاول طبعه فإنه يلاقي الموت الزؤام قبل أن يحل أجله الطبيعي .

    القرآن الكريم في ألمانيا :
    على أنه على الرغم من حرب الأعصاب التي شنتها الكنيسة على أتباعها ، لكي تصرفهم عن الاهتمام بطبع القرآن الكريم ، فإنه ما إن حل القرن السابع عشر للميلاد حتى ظهر هذا الكتاب المقدس في ألمانيا نفسها على يد المستشرق " هيابل " الذي نقله إلى الألمانية عن الترجمة الإيطالية للنسخة الأصلية التي وضعت في الأساس باللغة اللاتينية .
    محاولات ألمانية لتعميم طبع القرآن الكريم في ألمانيا .
    ولقد جرت في ذلك الزمن عدة محاولات جادة لتعميم طبع القرآن الكريم في ألمانيا ، يقول المؤرخ الألماني المعروف " ولهلم ايرنست تينتزل من مدينة جونا " في أحد أعداد مجلته الشهرية " مكالمات شهرية يا أصدقاء " الصادرسنة 1662م : " علمنا من البروفسور يوهان أندرياس دانتز ، أستاذ اللغات الشرقية أنه مزمع على طبع القرآن باللغة العربية . . وقد ذكر " فون أوست " بفايفر من لوبيك بألمانيا عن طبعات القرآن وذلك في مقدمة كتابه " علوم الدين في اليهودية والإسلام " الذي ظهر سنة 1687م ، في هذا الوقت الذي يسعى فيه كثيرون من الذين يدرسون اللغات الشرقية وعلومها للحصول على نسخ مطبوعة للقرآن ، تقرر طباعة مجموعة جديدة للقرآن . . . ولكن هذا الحلم لم يتحقق آنذاك لصعوبات وقفت في وجه كل من الرجلين ا . هـ " .

    أول طبعة للقرآن الكريم في ألمانيا :
    كانت أول طبعة لترجمة معاني القرآن الكريم في ألمانيا باللاتينية ، ثم تلتها ترجمات أخرى إحداها لسكويجر ( schweigger ) وكانت عن الإيطالية طبعت في نورنبرج سنة 1616م ، وفي سنة 1693 م ، سنحت الفرصة للناشر هينكلمان في ألمانيا فتم له طبع القرآن الكريم سفر 1694م . وتقع هذه الطبعة في 560 صفحة بحجم 17 . 5 X 21 . 5 سم ، ولقد لقي هينكلمان الاحترام من الجميع ، وفي مقدمة هذه الطبعة التي بلغ عدد صفحاتها 80 صفحة ضمن هينكلمان آراءه الشخصية في الآداب والعلوم الشرقية بالعربية ، وفي نهاية هذه المقدمة أبدى أسفه لقلة ما يعرفه الأوربيون بصورة عامة عن العرب واللغة العربية . ولا تزال نسختان من طبعة هينكلمان للقرآن الكريم موجودتين في ألمانيا إحداهما في المكتبة العامة بمدينة هامبورج والأخرى بمكتبة جامعتها .

    طبعات قديمة للقرآن الكريم في ألمانيا :
    ثم توالت طبعات القرآن الكريم في ألمانيا ، ومن ذلك طبعة لفردريك مجرلين ( Fredrick Megrerlin ) التي صدرت في فرانكفورت سنة 1772م وطبعة ترجمة سيل ( Sale ) الإنجليزية التي نقلها إلى الألمانية ثيو أرنولد ( Theo Arnold ) التي طبعت في لمجو ( Lemgo ) سنة 1746 م . على أن أحسن الترجمات الألمانية هي التي قام بها بويسون ( Beyson ) سنة 1773 م ، وهي التي نقحها فيما بعد وهل ( G . Wahl ) سنة 1828م ، وهناك طبعة أولمان ( ( Uilmannسنة 1953م والتي أعيد طبعها عدة مرات .
    عرض سريع للترجمات الأوربية والشرقية لمعاني القرآن الكريم :
    الفرنسية ترجم معاني القرآن الكريم إلى الفرنسية أندرو راير ( Andreo Du Ryer ) الذي كان يعمل قنصلا عاما لفرنسا في مصر ، وكانت له معرفة طيبة باللغتين التركية والعربية ، وطبعت ترجمة عام 1647م وفي سنة 1783 طبعت ترجمة سفاري Savaryثم تلا ذلك ترجمة كازيميرسكي KASIMIRSKIالتي طبعت مرتين سنة1840 م ، 1841م ثم طبعة ثالثة سنة 1875م .
    وفي سنة 1852 طبعت ترجمة يونية .
    السويدية : في سنة 1874م تولى تورنبرج ( G . G . Tomberg ) ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة السويدية .
    الأسبانية : في القرن الثالث عشر الميلادي طلب الفونس العاشر أن تترجم معاني سورة الإسراء إلى اللغة الإسبانية ، فقام بهذا العمل طبيبه الخاص الدون إبراهيم ، وقد نقلت هذه الترجمة إلى الفرنسية بواسطة بونا فنتورا دي سيف Bonna Ventura A save .
    الهولندية : وأول ترجمة هولندية نقلت عن ترجمة سكويجر ( Schweigger ) طبعت في هامبورج سنة1641م ، ثم ترجمة جلاماكر ( J . H . Glasemaker ) الذي اعتمد فيها على ترجمة راير الفرنسية وقد طبعت في ليدن ( Leyden ) سنة 1658م ثم طبعت هذه الترجمة مرتين إحداهما في سنة 1698 م وأخرى سنة 1734م .
    وفي سنة 1806 م قام بترجمة معاني القرآن الكريم الدكتور كيزر ( Keyser ) الذي كان يتولى تدريس الشريعة الإسلامية بجامعة دلفت ( Deleft ) وطبعت هذه الترجمة باللغة الهولندية في مدينة هارلم .
    الروسية : وفي سنة 1776م . ظهرت ترجمة روسية لمعاني القرآن الكريم في مدينة بتراجراد ( لينينجراد اليوم ) .
    الإيطالية : وفي سنة 1547م قام أندر أريفابين ( Ander Arivaben ) بنقل ترجمة بيبلياندر اللاتينية إلى الإيطالية . ومن الترجمات الإيطالية ترجمة أكيلو فاراكسي ( ( Aquilio Fracassiأحد أساتذة الفنون الملكية بميلانو سنة 1914م ، وقدم لها بمقدمة عن التراجم الإيطالية القديمة مع ملخص للسور وشرح أسمائها .
    الإنجليزية : كانت أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية هي التي قام بها الكسندر روس ( Alexander Ross ) التي نقلها عن ترجمة راير الفرنسية ثم ترجمة الدكتور سيل ( Sale ) وهذا الأخير نقلها عن العربية مباشرة سنة 1734 م ؛ وقد طبعت هذه الترجمة عدة مرات مع مقدمة مسهبة تحت عنوان " مقالة في الإسلام " وقد وضع المترجم على هامش ترجمته بعض التفاسير عن البيضاوي وكذلك ترجم معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية القسيس رودويل ( Rodwell ) وهو إنجليزي وجعل ترجمته وفقا لترتيب نزول الآيات تاريخيا ، وقد طبعت هذه الترجمة على الحجر على هامش القرآن الكريم سنة 1833م .
    وقد حاول ريتشارد برتن مع آخرين ترجمة معاني القرآن الكريم بالسجع الشعري ونشرت أجزاء من هذه الترجمة في مجلة أدنبرج سنة 1866م .
    بلغة الاسبرانتو العالمية : وقد قام بهذه الترجمة خالد شلدريك ( Khalid Sheldrake ) وظهر بعضها في مجلة إسلاميك ريفيوا وفيما يلي سورة الفاتحة بهذه اللغة .
    AL FATHA PRO LA SURA NOMO de dio la indugema and IMALSEVSRA Laudo esto al dio la majstro de la mondoj Plena de kompato Rego en la Tago de lajogo Al vi Servu ni Kaj al vi ni prgu Konduleo nin en la gusta vojo Ne de Tiujj Kiu Koleras Kontrau via vola Ne de tiujj eraras Amin

    الترجمات الشرقية لمعاني القرآن الكريم .
    الفارسية : إن هذه اللغة هي أول ما ترجمت إليه معاني القرآن الكريم من اللغات ، وقد ذكر الفقيه الكبير شمس الأئمة السرخسي في كتابه المبسوط ( ص73 ) أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله روى أن الفرس كتبوا إلى مواطنهم سلمان رضي الله عنه أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية . فكانوا يقرأون ذلك في الصلاة حتى لانت ألسنتهم العربية ، وبذلك تكون هذه الترجمة أقدم ما عرف على الإطلاق من ترجمات معاني القرآن الكريم .
    وذكر الجاحظ في " البيان والتبيين " أن موسى بن سيار الأسواري المتوفى سنة 255 هجرية كان يدرس تفسير القرآن الكريم بالفارسية . ووصل إلينا ترجمة معاني القرآن الكريم على أيدي علماء ما وراء النهر سنة 345هجرية للملك منصور بن نوح الساماني وأضافوا إلى الترجمات تفسير الطبري المتوفى سنة 310 هجرية .
    وفي العصور الحديثة ظهرت نسخة فارسية وعربية وجزءان طبع كل منهما سنة 1831م وأشار برونيه ( BRUNET ) إلى ترجمة فارسية أخرى في أصفهان ، وقد طبعت خصيصا للشاه رافع الدين ترجمة فارسية وعلى هامشها تفسير باللغتين الفرنسية والأوردية ( لغة الهند ) وباكستان .
    السريانية : وأول ما ترجم القرآن الكريم من غير المسلمين هم السريان ؛ فقد عثر على كتاب جدل ، فيه ترجمة لمعاني آيات القرآن بالسريانية ، وهو مخطوط على رق ، لا تزال محفوظة في مكتبة منشستر بإنجلترا ، ويقول الأستاذ مانكانا : إن " هذه الترجمة هي من وضع بارصليبي المعاصر للحجاج بن يوسف ، أي في الثلث الثالث من القرن الأول للهجرة " .
    العبرية : ذكرت دائرة المعارف اليهودية أنه توجد بعض ترجمات لمعاني القرآن الكريم باللغة العبرية وأن بعض أجزاء من هذه الترجمات توجد في المكتبة البودلية ( BODELLIAN ( بأكسفورد بإنجلترا تحت رقم 1221 . وفي فهرست تلك المكتبة ، عنوان لكتاب عبراني يشتمل في آن واحد على التوراة والترجوم والقرآن الكريم .
    وقد ترجم معاني القرآن الكريم من اللاتينية إلى العبرانية يعقوب بن إسرائيل حاخام زنتى سنة1634م ، ثم ترجمه هرمان ريكندوف ( HERMANN REEKENDORF ) وطبع في ليبزج سنة 1857م .
    الأوردية ( الهندية ) أقدم الترجمات الأوردية قام بها الشيخ عبد القادر بن الشاه ولي الله ، طبعت في دلهي سنة 1790م ، وظهرت في طبعات مختلفة مع الأصل العربي ، وترجم معاني القرآن الكريم إلى الأوردية كذلك الدكتور عماد الدين أمرتسار ( AMRITSAR ) : وقد طبعت ترجمته في " الله أباد " وهي أول طبعة بحروف أوردية أفرنجية . وهناك طبعة 1315 هـ اسمها : ( القرآن الكريم ) وفيها الأصل العربي وترجمته بالفارسية والأوردية .

    البنجالية ( الهند ) : في سنة 1908م بدأ القس ( وليم جلود ساك ) ترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغة بنجالي في الهند .
    الجاوية : ترجمت معاني القرآن الكريم إلى لغة مالي بجاوة مع تفسير البيضاوي ، وظهرت ترجمته باللغة الجاوية سنة 1913م لرجل كان يسمي نفسه خادم سلطان تركيا .
    التركية : كان السلطان عبد الحميد الثاني يمنع منعا باتا ترجمة معاني القرآن إلى اللغة التركية ، وبعد إعلان الدستور سنة 1908م بدأ بعض الكتاب الأتراك في ترجمته إلى اللغة التركية وسط مقاومة بعض المتمسكين من المحافظين على القديم ، وأول ترجمة من هذا النوع ظهرت لإبراهيم حلمي ، كما ظهرت كذلك ترجمة أخرى في المجلة التركية ( إسلام مجموعة س ) لمحررها سليم ثابت بقلم رجل كان يوقع اسمه : خ . ن .
    ولا بد من الملاحظة بأن هذه الترجمات الشرقية لم تكن في الواقع ترجمة بالمعنى المفهوم من هذه الكلمة بل هي عبارة عن تفسير لآيات القرآن الكريم ومن هذا القبيل ما وضع كل من فرجنيل ( M . F Fargenal ) وبوفات ( M . BOUVAT ) من شرح للقرآن الكريم باللغة الصينية في مجلة ريفودي موند مسلمان ( ( Reveue de Monde Musulman ( جزء 4 ص540 ) .

    قائمة باللغة التي ترجمت إليها معاني القرآن وعدد كل منها

    عددها
    1 - أرغونية 1
    2 - أسوجية 6
    3 - أفريقانية ( لهجة من الونديزية بالحرف العربي ) 4
    4 - ألبانية 2
    5 - الخميادو ( إسبانية بالحرف العربي ) 35
    6 - ألمانية 42
    7 - إنجليزية 57
    8 - أوكرانية 1
    9 - ايسبرانتو 1
    10 - برتغالية 4
    11 - بلغارية 2
    12 - بشنافية ( يوغسلافية بالحرف العرب ) 2
    13 - بولونية لاتيني بالعربي 7
    14 - بوهيمية من تشيكوسلافاكية 3
    15 - تركية - باللاتيني بالإيفور القديم 3 قطعات بالعربي ( في فهرست د . يشاء ) 60 تقريبا
    16 - دانماركية 3
    17 - روسية 11
    18 - رومانية 1
    19 - إيطالية 11
    20 - فرنسية 33
    21 - فنلندية 1
    22 - لاتينية 42
    23 - مجرية ( هنجارية ) 6
    24 - نوريجية 1
    25 - ولنديزية 7
    26 - أسبانية ( باللاتيني ) 18
    27 - اليونانية 3

    بعد هذا العرض التاريخي لترجمات معاني القرآن الكريم في اللغات المختلفة . فإني أهيب بعلماء المسلمين في أنحاء العالم العربي والإسلامي كافة وبخاصة في المملكة العربية السعودية إلى جمع ترجمات معاني القرآن الكريم من مظانها ودراستها ومراجعتها وتمحيصها بالاستعانة بنخبة مصطفاة من المترجمين المسلمين النابهين في اللغتين العربية واللغات المترجم إليها ، وذلك لتدارك ما قد يكون قد وقع سهوا أو لعدم قدرة المترجم وتمكنه من النقل عن العربية من أخطاء طباعية أو نتيجة لعدم قدرة المترجم على فهم أسرار اللغة العربية وسبر أغوارها التي قد تخفى أحيانا على أهلها والناطقين بها . وهذه دعوة أرجو أن تجد سبيلها إلى أسماع قادة المسلمين والمحافظين على كتابها الأعظم والله من وراء القصد .
    انتشار ترجمات معاني القرآن الكريم في مشرق العالم ومغربه بقلم : السيد أحمد أبو الفضل عوض الله (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثلاثون - الإصدار : من ربيع الأول إلى جمادى الثانية لسنة 1411هـ) لقد كان ظهور الإسلام حدثا عالميا أوجد حركة إنسانية كبرى ، ترتبت عليها نتائج ضخمة لم تقف عند الحدود الجغرافية للبلاد التي شهدت بوادره الأولى ، بل لقد تجاوزت هذه الحدود إلى ما وراءها . واستمرت تفاعلاتها الفكرية تنتقل من بلد إلى آخر ، ومن زمن إلى زمن ، حتى فرضت نفسها على تطور الحضارة العالمية ، وأصبحت إحدى الظواهر الأساسية لتطلع الإنسان إلى حياة أفضل ، وبذلك لم يجد أهل العلم من رجال الفكر على تباين لغاتهم ومذاهبهم بدا من العودة إلى الكتاب الذي ضم بين دفتيه شعائر هذا الدين وأركانه ، للاطلاع عليه ودراسته وتدبره وتمحيصه . ومن ثم أصبحت ترجمة معاني القرآن ، هذا الكتاب الخالد الذي لا يشبع منه العلماء ولا يبلى من كثرة الترداد ، هكذا أصبحت ترجمة معاني القرآن الكريم هدفا لمحاولات جادة قام بها العلماء في مشرق العالم ومغربه ، ولا تزال هذه المحاولات قائمة حتى الآن ، وكلها تسعى إلى ترجمة النص العربي لمعاني القرآن الكريم ونقله إلى لغات العالم الحية بقدر الإمكان . ولسنا هنا بصدد تحليل هذه الترجمات ومناقشتها في قربها أو بعدها عن الغرض الذي تسامت إليه ، وإنما نريد أن نعطي القارئ عرضا تاريخيا لهذا الموضوع الخطير ، ونضع بين يدي المهتمين بالدراسات القرآنية تعريفا بهؤلاء الأشخاص الذين ندبوا أنفسهم للتصدي لهذا العمل الجليل . ولا نزاع أن الترجمة الحرفية للقرآن الكريم ستبقى الضالة المنشودة ، كما أنها ستبقى الغاية التي لن تدرك ؛ لأن ترجمة الوحي الإلهي الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين ليست بالأمر الهين ، وفي ذلك يقول المستشرق الألماني " فيشر " : " لا يداخل الذين تعمقوا في أسرار العربية شك في أنه لا يوجد بين تراجم القرآن ، سواء أكانت كاملة أم قاصرة على بعض آيات منه - ترجمة تفي بالمطالب اللغوية الدقيقة " . القرآن الكريم في أوروبا : إن التواتر الدائم الذي كانت تتميز به العلاقات بين الإسلام والنصرانية لا سيما في أثناء الحروب الصليبية وبعدها ، كان يقف حجر عثرة يحول دون اطلاع الأوربيين على القرآن الكريم ، سواء بغلته العربية الأصيلة أو مترجما إلى إحدى اللغات الأوربية السائدة . وعندما أقدم العالم الإيطالي " باكانين " على طبع القرآن الكريم في مدينة البندقية سنة 1530 ميلادية ، بادر البابا بولس الثالث [ 1534 - 1537 م ] إلى إصدار الأمر المشدد بإتلاف كافة النسخ المطبوعة في الحالة . غير أن البابا الكسندر السابع [ 1555 -1567 ] عاد فألغى أمر الباب السابق وسمح بطبع القرآن الكريم لمن شاء كما سمح بترجمته والقيام بدراسته . أول ترجمة للقرآن الكريم في أوربا . إن أول ترجمة للقرآن الكريم في أوربا كانت بإشارة من بطرس المحترم abbot GLUG ny petrus venerabilis رئيس دير كلوني المتوفى سنة 1157 ميلادية فبعد قيامه برحلة إلى إسبانيا بين سنتي 1141 - 1143 م وبمساعدة ريمون الطليطلي كما هو مظنون ، ألف لجنة رأسها روبرت الراتيني ( إنجليزي ) Robert of Ratina الذي كان يشغل منصب رئيس الشمامسة بمدينة بمبلونا يساعده راهب ألماني يدعى هرمان Hermann ورجل آخر اسمه بطرس الطيطلي ويرجح أن هذا الأخير هو المترجم الحقيقي لمعاني القرآن الكريم إذ كان يتقن العربية اتقانا تاما . وتمت هذه الترجمة حوالي سنة 1143 م ، وأرسلت بعد إنجازها إلى رئيس دير كلوني العام برندوس الذي وضعها تحت تصرف رجال الكنيسة ليستفيدوا منها في استكمال دراساتهم اللاهوتية أو القيام بأعمال التبشير وكان ظهور هذه الترجمة بعد الحملة الصليبية بأربع سنوات . وقد ذكر هذه الترجمة المفهرس الألماني شتور في الصفحة ( 421 : 427 ) من الفهرس الذي وضعه بعنوان " المكتبة العربية " وكذلك أشار إليها مفهرس ألماني آخر هو " بيفان مولر " في الصفحة ( 213 ) والجدير بالذكر أن هذه الترجمة بالذات هي التي طبعها تيودور بيبلنياندر Theodor Bibilander : في بازل سنة 1543 ونقلت بعد ذلك إلى الإيطالية والألمانية والهولندية . وقد ظهرت فيما بعد طبعات أخرى لترجمة بيبلياندر وذلك سنة 1550م م سسنة 1721م في مدينة ليبزج EBZIG كما طبع في هذه المدينة أيضا ترجمة لاتينية لمعاني القرآن الكريم مع أصله العربي سنة 1768 قام بها جوستاس فريد ريكوس فورياب justas وثمة اعتقاد بأن الكتاب الذي نشره العالم الإيطالي " أندريا اريفايانيه سنة 1547م بعنوان : " قرآن محمد L ، alcorno de Macometto " لم يكن في الواقع سوى الترجمة الإيطالية من الأصل اللاتيني الذي وضعه كما ذكرنا من قبل روبرت الراتيني ، وهذه الترجمة بالذات هي التي نقلت فيما بعد إلى الألمانية وطبعت سنة 1616م ، وإلى الهولندية سنة 1647م وطبعت في هامبورج . ولقد ترجمت معاني القرآن الكريم مرة أخرى إلى اللاتينة على يد الأب بولس لويس مراكشي owis Marracciوذلك سنة 1698م وقد تضمنت هذه الترجمة الأصل العربي والترجمة اللاتينية والألفاظ المصححة . ومن الطريف أن رجال الدين النصارى في أوربا حاربوا القرآن الكريم ، عن طريق إطلاق الشائعات بأن من يطبعه أو يحاول طبعه فإنه يلاقي الموت الزؤام قبل أن يحل أجله الطبيعي . القرآن الكريم في ألمانيا : على أنه على الرغم من حرب الأعصاب التي شنتها الكنيسة على أتباعها ، لكي تصرفهم عن الاهتمام بطبع القرآن الكريم ، فإنه ما إن حل القرن السابع عشر للميلاد حتى ظهر هذا الكتاب المقدس في ألمانيا نفسها على يد المستشرق " هيابل " الذي نقله إلى الألمانية عن الترجمة الإيطالية للنسخة الأصلية التي وضعت في الأساس باللغة اللاتينية . محاولات ألمانية لتعميم طبع القرآن الكريم في ألمانيا . ولقد جرت في ذلك الزمن عدة محاولات جادة لتعميم طبع القرآن الكريم في ألمانيا ، يقول المؤرخ الألماني المعروف " ولهلم ايرنست تينتزل من مدينة جونا " في أحد أعداد مجلته الشهرية " مكالمات شهرية يا أصدقاء " الصادرسنة 1662م : " علمنا من البروفسور يوهان أندرياس دانتز ، أستاذ اللغات الشرقية أنه مزمع على طبع القرآن باللغة العربية . . وقد ذكر " فون أوست " بفايفر من لوبيك بألمانيا عن طبعات القرآن وذلك في مقدمة كتابه " علوم الدين في اليهودية والإسلام " الذي ظهر سنة 1687م ، في هذا الوقت الذي يسعى فيه كثيرون من الذين يدرسون اللغات الشرقية وعلومها للحصول على نسخ مطبوعة للقرآن ، تقرر طباعة مجموعة جديدة للقرآن . . . ولكن هذا الحلم لم يتحقق آنذاك لصعوبات وقفت في وجه كل من الرجلين ا . هـ " . أول طبعة للقرآن الكريم في ألمانيا : كانت أول طبعة لترجمة معاني القرآن الكريم في ألمانيا باللاتينية ، ثم تلتها ترجمات أخرى إحداها لسكويجر ( schweigger ) وكانت عن الإيطالية طبعت في نورنبرج سنة 1616م ، وفي سنة 1693 م ، سنحت الفرصة للناشر هينكلمان في ألمانيا فتم له طبع القرآن الكريم سفر 1694م . وتقع هذه الطبعة في 560 صفحة بحجم 17 . 5 X 21 . 5 سم ، ولقد لقي هينكلمان الاحترام من الجميع ، وفي مقدمة هذه الطبعة التي بلغ عدد صفحاتها 80 صفحة ضمن هينكلمان آراءه الشخصية في الآداب والعلوم الشرقية بالعربية ، وفي نهاية هذه المقدمة أبدى أسفه لقلة ما يعرفه الأوربيون بصورة عامة عن العرب واللغة العربية . ولا تزال نسختان من طبعة هينكلمان للقرآن الكريم موجودتين في ألمانيا إحداهما في المكتبة العامة بمدينة هامبورج والأخرى بمكتبة جامعتها . طبعات قديمة للقرآن الكريم في ألمانيا : ثم توالت طبعات القرآن الكريم في ألمانيا ، ومن ذلك طبعة لفردريك مجرلين ( Fredrick Megrerlin ) التي صدرت في فرانكفورت سنة 1772م وطبعة ترجمة سيل ( Sale ) الإنجليزية التي نقلها إلى الألمانية ثيو أرنولد ( Theo Arnold ) التي طبعت في لمجو ( Lemgo ) سنة 1746 م . على أن أحسن الترجمات الألمانية هي التي قام بها بويسون ( Beyson ) سنة 1773 م ، وهي التي نقحها فيما بعد وهل ( G . Wahl ) سنة 1828م ، وهناك طبعة أولمان ( ( Uilmannسنة 1953م والتي أعيد طبعها عدة مرات . عرض سريع للترجمات الأوربية والشرقية لمعاني القرآن الكريم : الفرنسية ترجم معاني القرآن الكريم إلى الفرنسية أندرو راير ( Andreo Du Ryer ) الذي كان يعمل قنصلا عاما لفرنسا في مصر ، وكانت له معرفة طيبة باللغتين التركية والعربية ، وطبعت ترجمة عام 1647م وفي سنة 1783 طبعت ترجمة سفاري Savaryثم تلا ذلك ترجمة كازيميرسكي KASIMIRSKIالتي طبعت مرتين سنة1840 م ، 1841م ثم طبعة ثالثة سنة 1875م . وفي سنة 1852 طبعت ترجمة يونية . السويدية : في سنة 1874م تولى تورنبرج ( G . G . Tomberg ) ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة السويدية . الأسبانية : في القرن الثالث عشر الميلادي طلب الفونس العاشر أن تترجم معاني سورة الإسراء إلى اللغة الإسبانية ، فقام بهذا العمل طبيبه الخاص الدون إبراهيم ، وقد نقلت هذه الترجمة إلى الفرنسية بواسطة بونا فنتورا دي سيف Bonna Ventura A save . الهولندية : وأول ترجمة هولندية نقلت عن ترجمة سكويجر ( Schweigger ) طبعت في هامبورج سنة1641م ، ثم ترجمة جلاماكر ( J . H . Glasemaker ) الذي اعتمد فيها على ترجمة راير الفرنسية وقد طبعت في ليدن ( Leyden ) سنة 1658م ثم طبعت هذه الترجمة مرتين إحداهما في سنة 1698 م وأخرى سنة 1734م . وفي سنة 1806 م قام بترجمة معاني القرآن الكريم الدكتور كيزر ( Keyser ) الذي كان يتولى تدريس الشريعة الإسلامية بجامعة دلفت ( Deleft ) وطبعت هذه الترجمة باللغة الهولندية في مدينة هارلم . الروسية : وفي سنة 1776م . ظهرت ترجمة روسية لمعاني القرآن الكريم في مدينة بتراجراد ( لينينجراد اليوم ) . الإيطالية : وفي سنة 1547م قام أندر أريفابين ( Ander Arivaben ) بنقل ترجمة بيبلياندر اللاتينية إلى الإيطالية . ومن الترجمات الإيطالية ترجمة أكيلو فاراكسي ( ( Aquilio Fracassiأحد أساتذة الفنون الملكية بميلانو سنة 1914م ، وقدم لها بمقدمة عن التراجم الإيطالية القديمة مع ملخص للسور وشرح أسمائها . الإنجليزية : كانت أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية هي التي قام بها الكسندر روس ( Alexander Ross ) التي نقلها عن ترجمة راير الفرنسية ثم ترجمة الدكتور سيل ( Sale ) وهذا الأخير نقلها عن العربية مباشرة سنة 1734 م ؛ وقد طبعت هذه الترجمة عدة مرات مع مقدمة مسهبة تحت عنوان " مقالة في الإسلام " وقد وضع المترجم على هامش ترجمته بعض التفاسير عن البيضاوي وكذلك ترجم معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية القسيس رودويل ( Rodwell ) وهو إنجليزي وجعل ترجمته وفقا لترتيب نزول الآيات تاريخيا ، وقد طبعت هذه الترجمة على الحجر على هامش القرآن الكريم سنة 1833م . وقد حاول ريتشارد برتن مع آخرين ترجمة معاني القرآن الكريم بالسجع الشعري ونشرت أجزاء من هذه الترجمة في مجلة أدنبرج سنة 1866م . بلغة الاسبرانتو العالمية : وقد قام بهذه الترجمة خالد شلدريك ( Khalid Sheldrake ) وظهر بعضها في مجلة إسلاميك ريفيوا وفيما يلي سورة الفاتحة بهذه اللغة . AL FATHA PRO LA SURA NOMO de dio la indugema and IMALSEVSRA Laudo esto al dio la majstro de la mondoj Plena de kompato Rego en la Tago de lajogo Al vi Servu ni Kaj al vi ni prgu Konduleo nin en la gusta vojo Ne de Tiujj Kiu Koleras Kontrau via vola Ne de tiujj eraras Amin الترجمات الشرقية لمعاني القرآن الكريم . الفارسية : إن هذه اللغة هي أول ما ترجمت إليه معاني القرآن الكريم من اللغات ، وقد ذكر الفقيه الكبير شمس الأئمة السرخسي في كتابه المبسوط ( ص73 ) أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله روى أن الفرس كتبوا إلى مواطنهم سلمان رضي الله عنه أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية . فكانوا يقرأون ذلك في الصلاة حتى لانت ألسنتهم العربية ، وبذلك تكون هذه الترجمة أقدم ما عرف على الإطلاق من ترجمات معاني القرآن الكريم . وذكر الجاحظ في " البيان والتبيين " أن موسى بن سيار الأسواري المتوفى سنة 255 هجرية كان يدرس تفسير القرآن الكريم بالفارسية . ووصل إلينا ترجمة معاني القرآن الكريم على أيدي علماء ما وراء النهر سنة 345هجرية للملك منصور بن نوح الساماني وأضافوا إلى الترجمات تفسير الطبري المتوفى سنة 310 هجرية . وفي العصور الحديثة ظهرت نسخة فارسية وعربية وجزءان طبع كل منهما سنة 1831م وأشار برونيه ( BRUNET ) إلى ترجمة فارسية أخرى في أصفهان ، وقد طبعت خصيصا للشاه رافع الدين ترجمة فارسية وعلى هامشها تفسير باللغتين الفرنسية والأوردية ( لغة الهند ) وباكستان . السريانية : وأول ما ترجم القرآن الكريم من غير المسلمين هم السريان ؛ فقد عثر على كتاب جدل ، فيه ترجمة لمعاني آيات القرآن بالسريانية ، وهو مخطوط على رق ، لا تزال محفوظة في مكتبة منشستر بإنجلترا ، ويقول الأستاذ مانكانا : إن " هذه الترجمة هي من وضع بارصليبي المعاصر للحجاج بن يوسف ، أي في الثلث الثالث من القرن الأول للهجرة " . العبرية : ذكرت دائرة المعارف اليهودية أنه توجد بعض ترجمات لمعاني القرآن الكريم باللغة العبرية وأن بعض أجزاء من هذه الترجمات توجد في المكتبة البودلية ( BODELLIAN ( بأكسفورد بإنجلترا تحت رقم 1221 . وفي فهرست تلك المكتبة ، عنوان لكتاب عبراني يشتمل في آن واحد على التوراة والترجوم والقرآن الكريم . وقد ترجم معاني القرآن الكريم من اللاتينية إلى العبرانية يعقوب بن إسرائيل حاخام زنتى سنة1634م ، ثم ترجمه هرمان ريكندوف ( HERMANN REEKENDORF ) وطبع في ليبزج سنة 1857م . الأوردية ( الهندية ) أقدم الترجمات الأوردية قام بها الشيخ عبد القادر بن الشاه ولي الله ، طبعت في دلهي سنة 1790م ، وظهرت في طبعات مختلفة مع الأصل العربي ، وترجم معاني القرآن الكريم إلى الأوردية كذلك الدكتور عماد الدين أمرتسار ( AMRITSAR ) : وقد طبعت ترجمته في " الله أباد " وهي أول طبعة بحروف أوردية أفرنجية . وهناك طبعة 1315 هـ اسمها : ( القرآن الكريم ) وفيها الأصل العربي وترجمته بالفارسية والأوردية . البنجالية ( الهند ) : في سنة 1908م بدأ القس ( وليم جلود ساك ) ترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغة بنجالي في الهند . الجاوية : ترجمت معاني القرآن الكريم إلى لغة مالي بجاوة مع تفسير البيضاوي ، وظهرت ترجمته باللغة الجاوية سنة 1913م لرجل كان يسمي نفسه خادم سلطان تركيا . التركية : كان السلطان عبد الحميد الثاني يمنع منعا باتا ترجمة معاني القرآن إلى اللغة التركية ، وبعد إعلان الدستور سنة 1908م بدأ بعض الكتاب الأتراك في ترجمته إلى اللغة التركية وسط مقاومة بعض المتمسكين من المحافظين على القديم ، وأول ترجمة من هذا النوع ظهرت لإبراهيم حلمي ، كما ظهرت كذلك ترجمة أخرى في المجلة التركية ( إسلام مجموعة س ) لمحررها سليم ثابت بقلم رجل كان يوقع اسمه : خ . ن . ولا بد من الملاحظة بأن هذه الترجمات الشرقية لم تكن في الواقع ترجمة بالمعنى المفهوم من هذه الكلمة بل هي عبارة عن تفسير لآيات القرآن الكريم ومن هذا القبيل ما وضع كل من فرجنيل ( M . F Fargenal ) وبوفات ( M . BOUVAT ) من شرح للقرآن الكريم باللغة الصينية في مجلة ريفودي موند مسلمان ( ( Reveue de Monde Musulman ( جزء 4 ص540 ) . قائمة باللغة التي ترجمت إليها معاني القرآن وعدد كل منها عددها 1 - أرغونية 1 2 - أسوجية 6 3 - أفريقانية ( لهجة من الونديزية بالحرف العربي ) 4 4 - ألبانية 2 5 - الخميادو ( إسبانية بالحرف العربي ) 35 6 - ألمانية 42 7 - إنجليزية 57 8 - أوكرانية 1 9 - ايسبرانتو 1 10 - برتغالية 4 11 - بلغارية 2 12 - بشنافية ( يوغسلافية بالحرف العرب ) 2 13 - بولونية لاتيني بالعربي 7 14 - بوهيمية من تشيكوسلافاكية 3 15 - تركية - باللاتيني بالإيفور القديم 3 قطعات بالعربي ( في فهرست د . يشاء ) 60 تقريبا 16 - دانماركية 3 17 - روسية 11 18 - رومانية 1 19 - إيطالية 11 20 - فرنسية 33 21 - فنلندية 1 22 - لاتينية 42 23 - مجرية ( هنجارية ) 6 24 - نوريجية 1 25 - ولنديزية 7 26 - أسبانية ( باللاتيني ) 18 27 - اليونانية 3 بعد هذا العرض التاريخي لترجمات معاني القرآن الكريم في اللغات المختلفة . فإني أهيب بعلماء المسلمين في أنحاء العالم العربي والإسلامي كافة وبخاصة في المملكة العربية السعودية إلى جمع ترجمات معاني القرآن الكريم من مظانها ودراستها ومراجعتها وتمحيصها بالاستعانة بنخبة مصطفاة من المترجمين المسلمين النابهين في اللغتين العربية واللغات المترجم إليها ، وذلك لتدارك ما قد يكون قد وقع سهوا أو لعدم قدرة المترجم وتمكنه من النقل عن العربية من أخطاء طباعية أو نتيجة لعدم قدرة المترجم على فهم أسرار اللغة العربية وسبر أغوارها التي قد تخفى أحيانا على أهلها والناطقين بها . وهذه دعوة أرجو أن تجد سبيلها إلى أسماع قادة المسلمين والمحافظين على كتابها الأعظم والله من وراء القصد .
    1


  • ابن الجوزي ومنهجه في التفسير
    بقلم : أحمد فهيم مطر

    (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الحادي والثلاثون - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1411هـ)

    المقدمة
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ، وبعد : لقد استهوتني دراسة شخصية ابن الجوزي لما اتصف به من صفات كثيرة كانت محل إعجاب من عاصره أو قام بدراسته ، فقد كان من أكبر المؤرخين في عصره الذين كتبوا التاريخ بأمانة ودقة رغم التيارات الكثيرة والفتن التي كانت متفشية في ذلك العصر .
    وقد كان ابن الجوزي كذلك إماما في الحديث وقد أطلق عليه لقب الحافظ مما يدل على مكانته وتمكنه ، وكان محدثا وواعظا ومفسرا ، حتى إنه قد فسر القرآن الكريم على منبر وعظه ، وكان أديبا وله بعض الأشعار ، وقد أكثر من التصانيف مما لم يقم به عالم قبله أو محدث أو فقيه ، وقد اختلف المؤرخون في عدد تصانيفه ما بين الثلاثمائة والأربعمائة مصنف ، وهذا هو الذي استهواني في دراسة شخصية ابن الجوزي والوقوف على بعض الملامح والصفات التي كان يتحلى بها ، والوقوف كذلك على التيارات والفتن التي كانت سائدة في ذلك العصر الذي عاش فيه .
    وأرجو أن يوفقني الله في نقل صورة حسية للقارئ ، فأكون قد أديت بعض ما يجب علينا تجاه تلك الشخصية الفريدة .
    والله يوفقنا إلى ما فيه الخير ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

    حياة ابن الجوزي
    أسرته :
    كان أهله تجارا في النحاس فلهذا يوجد في بعض سماعاته القديمة ابن الجوزي الصفار وذكر أن والده كان يعمل الصفر بنهر القلائين . مات والده وله من العمر ثلاث سنوات فكان يتما مبكرا بالنسبة له ، ولكن ذلك لم يؤثر عليه من الناحية المادية ، فالأسرة كانت على جانب من الثراء لا تحتاج فيه إلى أن تجعله يتعلم صنعة أو حرفة يقتاتون منها أو يتعايشون ، فكانت وجهتهم هي طلب العلم .
    أما والدته فقد ظلت على قيد الحياة حيث سبقها إلى الموت بأيام . وتولى رعايته بعد أبيه عمه أبو البركات الذي حمله إلى الحافظ أبي الفضل ابن ناصر لتسميعه الحديث . وتشير بعض المصادر إلى أن عمته هي التي حملته إلى ابن ناصر وقرأ عليه .
    وكان لابن الجوزي ثلاثة إخوة وأختان : أولهما عبد الله وعبد الرزاق والثالث محمد . أما الأختان فقد شاركته إحداهما في التلمذة على بعض شيوخه .
    ولابن الجوزي أبناء ثلاثة : عبد العزيز وهو أكبرهم مات شابا في حياة والده ، ثم أبو القاسم علي ، وقد كان عاقا لوالده ألب عليه في زمن المحنة وغيرها وقد تسلط على كتبه في غيبته بواسط فباعها بأبخس الأثمان ، ثم محيي الدين يوسف وكان أنجب أولاده وأصغرهم ووعظ بعد أبيه ، ثم باشر حسبة بغداد ، ثم صار رسول الخلفاء إلى الملوك بأطراف البلاد ، ثم صار أستاذ دار الخليفة المستعصم ، وكان لأبي الفرج عدة بنات منهن : رابعة أم سبطة أبي المظفر صاحب مرآة الزمان .
    وخلاصة القول أن أسرة ابن الجوزي كانت من الأسر التي تهتم بالعلم والمعرفة ، فقد أسهم ابن الجوزي هو وأبناؤه في بناء الفكر العربي والإسلامي وإمداد المكتبة العربية بكل ما هو نافع ومفيد .

    مولده ونشأته :
    هو جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي القرشي التيمي البكري ( من ذرية أبي بكر الصديق ) الفقيه الحنبلي الحافظ المفسر الواعظ المؤرخ الأديب المعروف بابن الجوزي وعرف بابن الجوزي نسبة إلى جده الأكبر جعفر ( الجوزي ) وسمي جده بالجوزي نسبة إلى مشرعة الجوز أو إلى فرضة فيها يقال لها جوزة ، هي محلة أو فرضة في البصرة ويقال إن جوزة فرضة على شاطئ دجلة قريبا من بغداد .
    ولد سنة ثمان وخمسمائة ، وقيل سنة تسع ، وقيل سنة عشر ، وكان مولده بدرب حبيب ، وتوفي والده وهو صغير فكفلته أمه وعمته وتوجها به إلى العلم ، فحملته عمته إلى مسجد أبي الفضل بن ناصر فأولاه عناية كبيرة لما رأى من بوادر نبوغه وإقباله وحرصه على العلم وهو صغير ، وحفظ القرآن الكريم وقرأه على جماعة من أئمة القراء .
    وسر نجاح ابن الجوزي يكمن في قوة بديهته ، وسرعة بادرته ، وحضور ذهنه ، ونوادر أجوبته ، مع كثرة محفوظه وسعة روايته .
    ولقد انقطع ابن الجوزي للدرس ومجالس العلم وترك ما كان أترابه يلهون به من اللعب ؛ للتوفر على الحفظ ، والتوغل في طريق علوم زمانه وثقافته " وكان لا يخرج من بيته إلا للجمعة ولا يلعب مع الصبيان " .
    وهكذا درج ابن الجوزي منذ صغره يحب العلم ، ويشغف بالتحصيل في فنون العلم ، وقد تحدث ابن الجوزي في كتابه " لفتة الكبد " فقال :
    " كان الصبيان ينزلون إلى دجلة ويتفرجون وأنا في زمن الصبا آخذ جزءا ، أقعد حجرة من الناس إلى جانب الرقة فأتشاغل بالعلم " .
    وكانت بغداد مشرقة زاهرة بعلومها وفنونها زاخرة بالعلم والعلماء ، فنهل ابن الجوزي من هذا المنهل الفياض الذي لا يغيض ، دفعه إلى ذلك حبه للعلم وولوعه به ، وتحدث هو عن نفسه في كتابه " صيد الخاطر " فقال : فأقول عن نفسي وما يلزمني حال غيري : إنني رجل حبب إلي العلم من زمن الطفولة فتشاغلت به ، ثم لم يحبب إلي فن واحد منه ، بل فنونه ، ثم لا تقتصر همتي في فن على بعضه ، بل أروم استقصاءه والزمان لا يسع ، والعمر أضيق والشوق يقوى ، والعجز يقعد ، فيبقى وقوف بعض المطلوبات حسرات " .
    وقد أخذ ابن الجوزي العلم عن خاله الشيخ أبي الفضل أكثر من ثلاثين سنة ، وكذلك أخذ الحديث والوعظ على يد الشيخ الزاغوني ، وأخذ الفقه كذلك عن أبي بكر الدينوري الحنبلي ، ودرس اللغة على أبي منصور الجواليقي ، والحديث عن ابن عبد الواحد الدينوري ، وقد جمع شيوخه في مشيخته " ذكر منهم ستة وثمانين شيخا " وكان يحارب أهل البدع وقد أعلن عليهم ذلك دون هوادة أو خوف ، وقيل له مرة : قلل من ذكر أهل البدع مخافة الفتن فأنشد :

    أتــوب إليـك يـا رحـمن ممـا جـنيت فقــــــد تعـــــــاظمت الذنـــــــوب
    وأمــا عــن هــوى ليلــى وتــركي زيارتهـــــــا فـــــــإني لا أتـــــــوب

    وقال له قائل : ما فيك عيب إلا أنك حنبلي ، فأنشد :

    وعـــيرني الواشــون أنــي أحبهــا وتلـك شــكاة ظـاهر عنـك عارهـا

    وليس عجيبا أن يجلس الواعظ في بغداد منذ سنة 527 هـ وسنة دون العشرين ، ومازال يدرس ويعظ ويؤلف حتى أصبح إمام بغداد وواعظها الأول .
    وكان يحضر مجلسه عامة الناس وخاصتهم ، ويتزاحمون على حضور تلك المجالس ، حتى لقد حرز الجمع في بعض المجالس بمائة ألف ، وهذا العدد وإن كان يدل على المبالغة إلا أنه يدل دلالة قاطعة على كثرة العدد وشدة الزحام ، وإقبال الناس على مواعظه وحضور مجالسه ، وكان الخليفة يحضر وعظه ومجالسه في المناسبات ، وكان أبو الفرج يلقي الموعظة على الخليفة ولا يخشى في ذلك شيئا .
    وذكر أنه تكلم يوما بحضرة الخليفة وحكى له موعظة شيبان للرشيد : وقال فيما قال : يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك ، وإن أمسكت خفت عليك وأنا أقدم خوفي عليك على خوفي منك .
    وفي آخر حياته وشى به حساده عند الخليفة فأرسل من أهانه وشتمه وختم على داره ، وشتت عياله ، وأخذ في سفينة إلى واسط فحبس في دار هناك ، ومكث على ذلك الحال خمس سنين وهو يقوم بشئون نفسه من غسل وطبخ ، حتى استطاع ابنه يوسف أن يجتهد وباجتهاده توصل إلى أم الخليفة فشفعت للشيخ فأطلق سراحه .

    طلبه للعلم :
    نشأ ابن الجوزي منذ نعومة أظفاره يحب العلم ويختلف إلى العلماء ( ولم يكن يفعل مثل الصبيان يلعبون ويلهون ويضيعون أوقاتهم في اللعب والجري ، ولكنه أوقف نفسه على الحفظ والتوغل في العلم ، وقد كان لا يخرج من بيته إلا للجمعة ولا يلعب مع الصبيان ) .
    ولقد وجد ابن الجوزي المناخ مهيأ له والأمور تسير رخاء بريح طيبة ، فأهله كانوا يشجعونه على العلم ، وشيوخه كذلك عندما لمسوا فيه حب العلم والتعلق به ، وكان أولهم خاله ابن ناصر ، وكذلك وجد بغداد تعج بالعلماء والمفكرين ، فقد كانت حاضرة العالم الإسلامي كله تزدهر بالعلوم وتشرق بالمعارف وتتيه بالعلماء .
    وقد وصل ابن الجوزي قمة النضج العلمي حتى أطلق عليه لقب الحافظ دلالة على مكانته العلمية الكبيرة ، وقد تحدث عن نفسه فقال : أنا كتبت الحديث ولي إحدى عشرة سنة ، وسمعت قبل ذلك " .
    ولقد برع وتفوق في كل علم من العلوم وفن من الفنون ، فكان في الفقه إماما يحضر مجلسه جماعة من الفقهاء الحنابلة .
    أما في التفسير فكان لا يجارى ولا يبارى حتى أنه قد فسر القرآن الكريم على منبر وعظه ، وكان يقول : " ما عرفت واعظا فسر القرآن كله في مجلس الوعظ منذ نزل القرآن ، فالحمد لله المنعم " .
    ولقد بلغت مؤلفاته وتصانيفه في القرآن وعلومه سبعة وعشرين كتابا كان من أبرزها كتابه الشهير " زاد المسير في علم التفسير " .
    وكان من المبرزين في التاريخ المتوسعين فيه ، فكتب وترجم لكبار الصحابة والفقهاء ، أما في الوعظ فكان وحيد عصره ونابغة قرنه ، بدليل تسابق العامة والخاصة والأمراء والخلفاء على مجالس وعظه ، وكان الناس يقصدونه للتوبة على يديه ، ولقد حضر بعض هذه المجالس الرحالة العربي ابن جبير عند زيارته لبغداد عام خمسمائة وثمانين من الهجرة ، وقد أطنب في وصفها وتأثيرها العام في المجتمع حتى قال : " تساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح " وقال ابن رجب : " إذا وعظ اختلس القلوب وتشققت النفوس دون الجيوب " ، وكان ابن الجوزي كذلك أديبا ومحدثا ، ويرتجل ما يريد ارتجاله ، وقد حفظت لنا المصادر بعض أشعار ابن الجوزي ووصفتها بأنها حسنة أو فائقة أو لطيفة .
    وكان له مؤلفات وتصانيف كثيرة ، وقد ذكرت بعض المصادر أن الكراريس التي كتبها ابن الجوزي لو جمعت وقسمت على أيام حياته لكان له في كل يوم تسع كراريس .
    وقد اختلف المؤرخون في عدد تصانيف ابن الجوزي ما بين الثلثمائة والأربعمائة مصنف .
    ولهذا فقد وصل ابن الجوزي إلى مكانة علمية لم يتوصل إليها أحد قبله وبلغ منزلة لم يرق إليها عالم قط .

    مذهبه :
    كان ابن الجوزي على مذهب أهل السنة ومذهب الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه ، وكان يذم من يخالفهم ، ويصرح بمذاهبهم في مسائل الأصول وخاصة مسألة القرآن ويتكلم عنهم كثيرا في كتبه ، وكان على حرب دائمة مع أهل البدع والخرافات .
    وقال يوما على المنبر : أهل البدع يقولون : ما في السماء أحد ، ولا في المصحف قرآن ، ولا في القبر نبي . ثلاث عورات لكم .
    وقد كان له خطة ومذهب ظهرا واضحين في كتابه " تلبيس إبليس " الذي تحدث فيه عن كثير من المفاسد والمبتدعات التي تفشت في ذلك العصر ، ومنها البدع الصوفية التي أنكرها ، ولم يقف على حد الإنكار ولكنه أعلن عليها حربا لا هوادة فيها .
    ومع ذلك فإن بعض أصحاب مذهب الإمام أحمد نقموا على ابن الجوزي بعض آرائه ، لأنه لم يكن يتعصب تعصبا كاملا للمذهب ، وكان يرى في نفسه عدم وقوفه على رأي ، بل لا بد من استعمال العقل والفكر .
    يقول عنه ابن رجب الحنبلي في طبقات الحنابلة :
    " نقم عليه جماعة من مشايخ أصحابنا ميله إلى التأويل في بعض كلامه ، واشتد نكيرهم عليه في ذلك ، ولا ريب أن كلامه في ذلك مضطرب مختلف ، وهو إن كان مطلعا على الأحاديث والآثار فلم يكن يحل شبه المتكلمين وبيان فسادها .
    وكان دفاع ابن الجوزي عن السنة والمذهب السلفي ومحاربة الصوفية وأهل البدع من الشيعة ، كان سببا في إيذائه وإدخاله السجن ، وإهانته ، وختم داره ، ومكوثه في السجن خمس سنين .

    أعماله :
    أوقف الشيخ حياته على العلم ، فتعلم وأخذ من العلم حظا كبيرا ، وفاق أقرانه ، ولم يتفوق في علم واحد من العلوم ، وإنما تفوق في جميع العلوم التي كتب فيها حتى علوم الطب .
    وكان من مبادئه أن يخدم الإسلام ويرفع راية السنة المحمدية ، فأوقف حياته على محاربة البدع والمبتدعة وأهل الكلام والشيعة ، ومن أعماله التي أوقف نفسه عليها هي : مجالس الوعظ والإرشاد . فقد كانت تؤتي ثمارها ، وتؤثر في الناس تأثيرا كبيرا لدرجة أن الناس كانوا يتلقونه بالشموع التي حزرها بعضهم بألف شمعة . وقال ابن القطيعي : انتفع الناس بكلامه فكان يتوب في المجلس الواحد مائة وأكثر في بعض الأيام ، وكان يجلس بجامع المنصور يوما أو يومين في السنة فتغلق المحال ويحزر الجمع بمائة ألف .
    وسلمت إليه المدرسة التي للجهة ( بنفشا ) وكتب في كتاب الوقف أنها وقف على أصحاب أحمد ، وأنها مفوضة إلى ناصر السنة ابن الجوزي . وكان يعظ الأمراء والخلفاء ولا يخاف قول الحق لهم . لأنه يسعى إلى هدف معين هو إعلاء كلمة الله ورفع راية السنة المحمدية ، لا يريد مالا ولا جاها ولا منصبا ولا مكسبا من مكاسب الدنيا .
    وقد بنى ابن الجوزي مدرسة بدرب ديناء ودرس بها سنة سبعين ، وذكر أول يوم تدريسه بها أربعة عشر درسا من فنون العلم ، وزاد عدد المدارس بعد ذلك حتى صارت خمس مدارس كلها في خدمة العلم والتعليم ، ويكفيه من العمل تلك المصنفات الكثيرة التي ألفها في كل علم وكل فن .
    منهجه في التفسير :
    لقد نهج ابن الجوزي في تفسيره للقرآن الكريم نهج السلف الصالح وأهل السنة ، وقد استقى تفسيره من مصادر كثيرة أهمها ما يأتي :

    مصادره في القراءات :
    كان أهم مصدر للتفسير في القراءات هم شيوخه الذين درس عليهم ، وتعلم على أيديهم هذا العلم ، ثم ما لبث أن تفوق عليهم جميعا ، وألف في هذا العلم كتابا يسمى " الإشارة إلى القراءة المختارة " أربعة أجزاء مما يدل على تضلعه وتمكنه من هذا العلم .
    والشيوخ الذين تلقاه عليهم هم :
    أبو الحسن علي بن عبد الله الزاغوني ، وأبو منصور محمد بن عبد الملك بن خيرون المقرئ ، وأبو عبد الله بن الخياط المقرئ ، وأبو الفضل أحمد بن الحسين المقرئ ، وأبو منصور عبد الرحمن القزاز ، وأبو حفص عمر بن ظفر بن أحمد المقرئ .
    وقد قرأ بالروايات في كبره على ابن الباقلاني بواسط حين كان منفيا بها ، وقرأ بالعشر على أبي بكر محمد بن الحسن المزرفي . ثم تتبع بعد ذلك أصحاب القراءات المشهورة ، وكانت مصادره في تفسيره منهم ، ومن هؤلاء :
    ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو عمرو ، وحفص ، وطلحة وغيرهم كثير كقتادة والفراء والأخفش .
    مصادره في التفسير :
    كان مصدره الأول هو ما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار ثم الصحابة رضوان الله عليهم . من أمثال علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، وعبد الله بن عباس . ثم ما روي عن التابعين من أمثال ابن جبير وعكرمة وطاوس اليماني ، وعطاء بن أبي رباح ، وأبي العالية ، والحسن البصري ، وأبي سعيد الخدري ، وقتادة ، والسدي ، والحسن ، وابن جريج .
    أما المصادر التي نقل عنها ففي طليعتها تفسير ابن جرير ، وكتب الحديث ، وكتابا ابن قتيبة " مشكل القرآن " ، " غريب القرآن " ، وكتب معاني القرآن ولا سيما كتابا الفراء والزجاج ، والحجة لأبي علي الفارسي ، و " مجاز القرآن " لأبي عبيدة ، وكتب ابن الأنباري في القرآن ، وأسماء الله الحسنى للخطابي وغيرها .
    وقد أخذ عن غير هؤلاء من تلاميذ الصحابة رضوان الله عليهم . كعلقمة بن قيس ، ومسروق ، والأسود بن يزيد ، ومرة الهمذاني ، وعامر الشعبي ، وقتادة بن دعامة الدوسي ، وهؤلاء من تلاميذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه . وأخذ كذلك عن عبيدة السلماني ، وأبي الطفيل ، والحسين بن علي رضي الله عنه وهؤلاء من تلاميذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
    وأخذ كذلك عن زيد بن أسلم ، وأبي العالية ومحمد بن كعب القرظي وهؤلاء من تلاميذ أبي بن كعب رضي الله عنه .
    فهؤلاء هم : أقطاب التفسير وأعلامه الذين أخذ عنهم ، وعن الذين تتلمذوا عليهم حتى انتهت إليه الرئاسة في التفسير والفتوى ، وكان أكثرهم شهرة هو ابن عباس الذي لقب بالحبر والبحر لكثرة علمه ومعرفته بمعاني كتاب الله .

    مصادره في أسباب النزول :
    كان من أول مصادره في ذلك هم الصحابة رضوان الله عليهم ، فقد فسروا القرآن بما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما شاهدوه من الأحداث التي كان القرآن ينزل بها ، وأشهرهم عبد الله بن عباس وابن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب . ومن أكثر هؤلاء رواية ومعرفة هو : عبد الله بن عباس الذي نشأ في بيت النبوة وكان ملازما لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان يشهد كثيرا من المواقف والظروف والملابسات والحوادث التي تنزل فيها الآيات القرآنية ، وكان يسأل الصحابة ويعرف منهم مواطن نزول القرآن وتواريخ التشريع وأسباب النزول .
    ويلي ابن عباس في المرتبة ابن مسعود ، وقد كان أحفظ الصحابة لكتاب الله .
    فقد روي عن مسروق قال : قال عبد الله - يعني ابن مسعود - والذي لا إله غيره ما تركت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت وأين نزلت ، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته . ويلي ابن مسعود رضي الله عنه ، فقد كان أعلم الصحابة بمواقع التنزيل ومعرفة التأويل . فعن أبي الطفيل قال : شهدت عليا يخطب وهو يقول : فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم ، وسلوني عن كتاب الله ، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم نهار ، أم في سهل أم في جبل . . وأخرج أبو نعيم في الحلية عن علي رضي الله عنه أنه قال : والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت وأين نزلت .
    ويلي هؤلاء أبي بن كعب الأنصاري الخزرجي وكان سيد القراء وأحد كتاب الوحي ، ومن أعلم الصحابة بكتاب الله ، وكان عارفا بأسرار الكتب القديمة وما ورد فيها ، وكان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الآيات التي لا يعرف معناها

    مصادره النحوية واللغوية :
    كان مصدره الأول في اللغة والنحو هو أبو منصور الجواليقي الذي تعلم منه الأدب واللغة وقرأ عليه كتاب المعرب .
    والوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة وكانت له معرفة بالنحو واللغة والعروض وصنف ووزر للمقتفي .
    أما مصادره التي نقل عنها فهي كتب ابن قتيبة ، والفراء ، والزجاج ، وأبي علي الفارسي ، وأبي عبيدة في كتبهم مشكل القرآن ، وغريب القرآن ، وكتب معاني القرآن والحجة ، ومجاز القرآن ، وبذلك كتب ابن الأنباري في القرآن .
    وكذلك الأصمعي ، والمبرد ، وابن فارس ، وأبو معاذ النحوي ، وثعلب ، والفراء ، والكسائي ، وإبراهيم بن السري ، وأبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني ويونس بن حبيب النحوي .

    مصادره الفقهية :
    أما مصادره الفقهية فكثيرة وتعتبر مصادره الأولى " فقد قرأ الفقه والخلاف والأصول على أبي بكر الدينوري ، والقاضي أبي يعلى ، وتتبع مشايخ الحديث والفقه ، وكان منهم القاضي أبو بكر الأنصاري ، وأبو القاسم الحريري ، وأبو السعادات المتوكلي ، وأخوه يحيى ، وأبو عبد الله البارع ، وأبو الحسن علي بن أحمد الموحد ، وأبو غالب الماوردي ، وأبو منصور بن خيرون ، وأبو القاسم السمرقندي ، وعبد الملك الكرخوي وأبو سعد الزوزني وأبو سعد البغدادي ويحيى بن الطراح ، وإسماعيل بن أبي صالح المؤذن ، وأبو القاسم علي الهروي ، وأبو منصور القزاز ، وعبد الجبار بن منده .

    أبرز سمات تفسير ابن الجوزي :
    أبرز سمات تفسيره أنه كان يذكر الآية من القرآن ويتناولها بالتفسير السهل الواضح ، ويذكر سبب نزولها إن كان هناك سبب للنزول ، وكذلك كان يفسر الآية بالآية . وهذا ما يسمي تفسير القرآن بالقرآن ، وكذلك كان يتناول معاني الألفاظ اللغوية بالإيضاح والبيان ، وإن كان فيها أكثر من رأي ذكره ، وكان يفسر بالمأثور مع تناول الأحكام الفقهية والتعرض لها والقراءات التي وردت بها الآية . ومن خلال ذلك نستطيع أن نتناول كل موقف وكل سمة من هذه السمات بشيء من التفصيل .
    مواقفه من القراءات :
    لقد ذكر ذلك في مقدمة زاد المسير " وقد ألم أيضا بمشهور القراءات وأطراف من شواذها ، ونقل توجيهها في العربية عن أئمة هذا العلم . ومعنى ذلك أنه كان يذكر مشهور القراءات ثم يذكر التوجيه التي توجه إليه ، والمعنى الذي يقصد منها على ذلك التوجيه . فنرى مثلا عند ذكره وتفسيره لقوله تعالى : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ الآية 143 من سورة البقرة " يقول " لرءوف " قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم ( لرءوف ) على وزن لرعوف في جميع القرآن ، ووجهها أن فعولا أكثر في كلامهم من فعل ، فباب ضروب وشكور أوسع من باب حذر ويقظ ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر بن عاصم ( لرؤف ) على وزن رعف . ويقال هو الغالب على أهل الحجاز : قال جرير :

    تـــرى المســـلمين عليـــك حقـــا كفعـــل الوالـــد الـــرؤف الرحـــيم

    وعند قوله تعالى : وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا الآية 165 من سورة البقرة . قرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي ( يرى ) ومعناه لو يرون عذاب الآخرة لعلموا أن القوة لله جميعا . وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب ( ولو ترى ) بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد به جميع الناس وجوابه محذوف تقديره لرأيتم أمرا عظيما . كما تقول : لو رأيت فلانا والسياط تأخذه . وإنما حذف الجواب لأن المعنى واضح بدونه ، قال أبو علي : وإنما قال " إذ " ولم يقل " إذا " وإن كانت " إذ " لما مضى لإرادة تقريب الأمر فأتى بمثال الماضي ، وإنما حذف جواب لو لأنه أقحم لذهاب المتوعد إلى كل ضرب من الوعيد . وقرأ أبو جعفر ( إن القوة لله ) بكسر الهمزة فيها على الاستئناف كأنه يقول : فلا يحزنك ما ترى من محبتهم أصنامهم : إن القوة لله جميعا .
    وعند قوله تعالى : لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ الآية 66 من سورة العنكبوت . " وليتمتعوا " قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بإسكان اللام على معنى الأمر ، والمعنى ليتمتعوا بباقي أعمارهم فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم . وقرأ الباقون بكسر اللام في " ليتمتعوا " فجعلوا اللامين بمعنى " كي " فتقديره : كي يكفروا ولكي يتمتعوا . فيكون معنى الكلام : إذا هم يشركون ليكفروا وليتمتعوا : أي لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يتمتعون به في العاجلة من غير نصيب لهم في الآخرة .
    ذلك هو موقف ابن الجوزي من القراءات يذكرها ثم يذكر المعنى على كل قراءة من تلك القراءات ليكون أبين وأوضح وأدعى إلى النفع .
    تفسير القرآن بالقرآن أو بالسنة :
    رأى ابن الجوزي بثاقب نظره وعميق فكره أن القرآن الكريم قد اشتمل على إيجاز وإطناب وعموم وخصوص وإطلاق وتقييد وما جاء موجزا في مكان قد بسط في مكان آخر ، فكان لا بد من تفسير الموجز بالمبسوط . فكان يذكر الآية التي تقابل أو تفسر أو توضح الآية التي يقوم بتفسيرها ، ونلمس ذلك واضحا في تفسيره : فمثلا عند قوله تعالى فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ الآية 37 من سورة البقرة " . قال : وفي الكلمات أقوال :
    أحدها :
    أنها قوله تعالى : رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ الآية 23 من سورة الأعراف . وفي قوله تعالى : فَتَابَ عَلَيْهِ قال : أصل التوبة الرجوع ، فالتوبة من آدم رجوعه عن المعصية وهي من الله تعالى رجوعه عليه بالرحمة ، وإنما لم يذكر حواء في التوبة لأنها لم يجر لها ذكر . لا أن توبتها لم تقبل ، وقال قوم : إذا كان معنى فعل الاثنين واحدا جاز أن يذكر أحدهما ويكون المعنى لهما كقوله تعالى : وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ سورة التوبة آية 63 ، وقوله تعالى : فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى سورة طه الآية 117 .
    ومثلا عند قوله تعالى : لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ آية 103 من سورة الأنعام . قوله تعالى : لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ في الإدراك قولان أحدهما : أنه بمعنى الإحاطة ، والثاني بمعنى الرؤية . وفي ( الإبصار ) قولان أحدهما : أنها العيون : قاله الجمهور ، والثاني أنها العقول . ففي معنى الآية ثلاثة أقوال . القول الثالث منها : لا تدركه الأبصار في الدنيا : رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ومقاتل ويدل على أن الآية مخصوصة بالدنيا قوله تعالى : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ سورة القيامة . فقيد النظر إليه بالقيامة وأطلق في هذه الآية ، والمطلق حمل على المقيد ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا الآية 31 من سورة النساء يقول : اجتناب الشيء تركه جانبا وفي الكبائر أحد عشر قولا :
    أحدها : أنها سبع . فروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : يا رسول الله وما هن ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي عند الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات .
    والثاني : أنها تسع . وروى حديثا عن عبيد بن عمير عن أبيه . والثالث : أنها أربع وروى كذلك حديثا في البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر . وروى عن أنس بن مالك . والرابع : أنها ثلاث فروى حديثا عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وروى في البخاري ومسلم عن أبي بكرة .
    ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا الآيات من 60 - 66 من سورة الكهف . قوله تعالى : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ سبب خروج موسى عليه السلام في هذا السفر ما روى عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل ، فسئل أي الناس أعلم ؟ فقال : أنا ، فعتب الله عز وجل عليه إذ لم يرد العلم إليه . فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك إلى آخر الحديث ، وهو حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين .

    أسباب النزول :
    من الأشياء البارزة والسمات الظاهرة التي كان يتبعها ابن الجوزي في تفسيره هي أسباب النزول ، فالآية يتضح معناها إذا علم سبب نزولها ، فنراه يذكر سبب النزول إذا كان للآية أو للسورة وكل ذلك واضح ظاهر في تفسيره .
    فمثلا في سورة آل عمران وسبب نزولها يذكر فيها أنها مدنية ، وأن صدرا من أولها نزل في وفد نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم في ستين راكبا فيهم العاقب والسيد فخاصموه في عيسى . فقالوا إن لم يكن ولد الله فمن أبوه ؟ فنزلت فيهم صدر ( آل عمران ) إلى بضع وثمانين آية منها وقد ذكر سبب نزول سورة الأنفال على أقوال ثلاثة : الأول منها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات ، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم ، فقال المشيخة للشبان : أشركونا معكم فإنا كنا لكم ردعا فأبوا ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت سورة الأنفال . . رواه عكرمة عن ابن عباس .
    ويذكر في سبب نزول سورة يوسف قولين : أما القول الأول فروي عن سعد بن أبي وقاص قال : أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زمانا ، فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا ، فأنزل الله تعالى : الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إلى قوله : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ فتلاه عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله لو حدثتنا ، فأنزل الله تعالى : اللَّهُ نَـزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ سورة الزمر آية 23 ، كل ذلك يؤمرون بالقرآن . ويذكر في سبب نزول سورة المجادلة قوله تعالى : قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا فقد روي عن عائشة أنها قالت : تبارك الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة فكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في جانب البيت أسمع كلامها ويخفى علي بعضه ، وهي تشتكي زوجها وتقول : يا رسول الله : أبلى شبابي ، وفترت له بطني ، حتى إذا كبر سني ، وانقطع ولدي ، ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك ، قالت : فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات . وأما الآيات فكان كذلك يتتبع نزول كل آية ويذكرها فهذا أحرى لتفسيرها وتوضيحها وبيان معناها والأمثلة كثيرة لتتبع الآيات ونورد بعضها .
    فمثلا عند تفسير قوله تعالى : مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ سورة آل عمران آية 179 . ففي سبب نزولها خمسة أقوال ، أحدها : أن قريشا قالت : تزعم يا محمد أن من اتبعك فهو في الجنة ، ومن خالفك فهو في النار ، فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن بك . فنزلت هذه الآية . . هذا قول ابن عباس .
    وعند تفسير قوله تعالى : وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ سورة الرعد آية 7 ، اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال ، أحدها : أنها نزلت في كفار مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بذلك قاله ابن عباس وعند تفسير قوله تعالى : لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ سورة عبس آية 37 ، ذكر أن سبب نزولها . روى أنس بن مالك قال : قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم : أنحشر عراة ؟ قال : نعم . قالت : واسوأتاه ، فأنزل الله تعالى : لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ .

    الأحكام الفقهية :
    كان ابن الجوزي لا يترك حكما من الأحكام الفقهية إلا تعرض له وذكر الآراء التي قيلت فيه مع عدم التعرض للأرجح أو الصحيح اللهم إلا على لسان القائلين أنفسهم ، ونرى ذلك في كل الآيات التي تحتاج إلى أحكام فقهية وأدلى فيها العلماء بآرائهم وخاصة المذاهب الفقهية الأربعة وبعض تلاميذهم من الذين يلونهم . وترى ذلك واضحا في كل تفسيره ، وقلما كان يدلي برأيه . فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ سورة البقرة آية 179 يقول : نقل ابن منصور عن أحمد : إذا قتل رجل رجلا بعصا أو خنقه ، أو شدخ رأسه بحجر ، يقتل بمثل الذي قتل به ، فظاهر هذا أن القصاص يكون بغير السيف ، ويكون بمثل الآلة التي قتل بها . وهو قول مالك والشافعي ، ونقل عن حرب : إذا قتله بخشبة قتل بالسيف ، ونقل أبو طالب إذا خنقه قتل بالسيف ، فظاهر هذا أنه لا يكون القصاص إلا بالسيف وهو قول أبي حنيفة رحمه الله .
    عند تفسير قوله تعالى : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ سورة البقرة آية 184 ، يقول : وليس المرض والسفر على الإطلاق فإن المريض إذا لم يضر به الصوم لم يجز له الإفطار ، وإنما الرحمة موقوفة على زيادة المرض بالصوم ، واتفق العلماء أن السفر مقدر واختلفوا في تقديره : فقال أحمد ومالك والشافعي أقله مسيرة ثلاثة أيام : مسيرة أربعة وعشرين فرسخا ، وقال الأوزاعي أقله مرحلة يوم . مسيرة ثمانية فراسخ .
    وعند تفسير قوله تعالى : الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ سورة المائدة الآية 5 ، يقول :
    فأما أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى ، وطعامهم ذبائحهم : هذا قول ابن عباس والجماعة ، وإنما أريد بها الذبائح خاصة لأن سائر طعامهم لا يختلف بمن تولاه من مجوسي وكتابي وإنما الذكاة تختلف . فلما خص أهل الكتاب بذلك دل على أن المراد الذبائح ، فأما ذبائح المجوس فأجمعوا على تحريمها ، واختلفوا في ذبائح من دان باليهودية والنصرانية من عبدة الأوثان ؛ فروى ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال : لا بأس بها . وتلا قوله تعالى : وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ المائدة آية 51 . وهذا قول الحسن وعطاء بن أبي رباح والشعبي وعكرمة ، وقتادة والزهري والحكم وحماد ، وقد روي عن علي وابن مسعود في آخرين أن ذبائحهم لا تحل ، ونقل الخرقي عن أحمد في نصارى بني تغلب روايتين :
    إحداهما : تباح ذبائحهم وهو قول أبي حنيفة ومالك .
    الثانية : لا تباح .
    وقال الشافعي من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن لم يبح أكل ذبيحته .
    وعند تفسيره لقوله تعالى : وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً سورة النحل آية 8 .
    ويجوز أكل لحم الخيل ، وإنما لم يذكر في الآية لأنه ليس هو المقصود ، وإنما معظم المقصود بها الركوب والزينة . وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك : لا تؤكل لحوم الخيل .

    اللغة والنحو :
    لقد اهتم ابن الجوزي اهتماما كبيرا باللغة العربية والنحو ويظهر ذلك من خلال تفسيره ، ولقد ورد ذلك أيضا في مقدمة تفسيره للجزء الأول ، حيث جاء في المقدمة : " لم يفته وهو يفسر مفردات القرآن أن يذكر اشتقاقها استكمالا للمعنى وزيادة في الفائدة .
    فقد كان يورد الروايات والآراء التي وردت في تفسير اللفظ وما أيدها من الأشعار العربية والدلالة على معناها إلا أنه لم يكن يتعرض لها بالتعليق برأيه ، بل كان يوردها مجردة عن التعليق بمعنى كل قائل واستشهاده ، ثم بالنحو والإعراب وفي أحيان كثيرة يعرض للقراءات على الرفع أو على النصب أو خلافه ، فمثلا عند تفسيره لسورة الفاتحة قوله تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ يقول : فأما الرب فهو المالك ، ولا يذكر هذا الاسم في حق المخلوق إلا بالإضافة ، فيقال : هذا رب الدار ، ورب العبد . وقيل : هو مأخوذ من التربية .
    قال شيخنا أبو منصور اللغوي - يقال : رب فلان صنيعته يربها ربا : إذا أتمها وأصلحها فهو رب وراب . قال الشاعر :

    بـرب الــذي يــأتي مـن الخـير إنـه إذا ســـئل المعـــروف زاد وتممـــا

    قال : والرب يقال على ثلاثة أوجه ، أحدها : المالك يقال : رب الدار ، والثاني : المصلح يقال : رب الشيء ، والثالث : : السيد المطاع قال تعالى : فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا سورة يوسف آية 41 . والجمهور على خفض باء رب . وقرأ ابن السميفع وعيسى بن عمر بنصبها ، وقرأ أبو رزين العقيلي ، والربيع بن خثيم ، وأبو عمران الجوفي برفعها وترى الإعراب والخلافات النحوية واضحة جلية عند تفسير قوله تعالى : يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا سورة آل عمران آية 30 . قال الزجاج نصب اليوم بقوله : وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ في ذلك اليوم . قال ابن الأنباري : يجوز أن يكون متعلقا بالمصير ، والتقدير : وإلى الله المصير يوم تجد ، ويجوز أن يكون متعلقا بفعل مضمر ، والتقدير : اذكر يوم تجد . وفي كيفية وجود العمل وجهان أحدهما : وجوده مكتوبا في الكتاب ، والثاني وجود الجزاء عليه .
    ومثلا عند تفسير قوله تعالى : وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ سورة النساء آية 81 ، قوله تعالى : وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ نزلت في المنافقين كانوا يؤمنون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمنوا فإذا خرجوا خالفوا ، هذا قول ابن عباس . قال الفراء والرفع في طاعة على معنى أمرك طاعة .
    قوله تعالى : بَيَّتَ طَائِفَةٌ قال ابن قتيبة : والمعنى فإذا برزوا من عندك ، أي خرجوا ، بيت طائفة منهم غير الذي تقول : أي : قالوا وقدروا ليلا غير ما أعطوك نهارا . قال الشاعر :

    أتــــوني فلــــم أرض مــــا بيتـــوا وكــــانوا أتــــوني بشــــيء نكـــر

    والعرب تقول : هذا أمر قد قدر بليل ، وفرغ منه بليل ، ومنه قول الحارث بن حلزة :

    أجــمعوا أمـــرهم عشـــاء فلمـــا أصبحـــوا أصبحــت لهــم ضوضــاء

    وقال بعضهم بيت بمعنى بدل وأنشد :

    وبيــــت قــــولي عنــــد المليــــك قــــاتلك اللـــــه عبـــــدا كفـــــورا

    فإننا نرى اللغة والإعراب وأشعار العرب في تفسير تلك المفردات اللغوية ورواية الشعر للاستشهاد وتفسير الألفاظ هي الطريقة المشهورة لابن عباس رضي الله عنه الذي قد نقل عنه ابن الجوزي ، ومن أهم مصادره وكذلك نجد المعاني البلاغية واضحة بارزة .
    ومثلا عند تفسير قوله تعالى : كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا سورة الأعراف آية 92 فيها أربعة أقوال : القول الأول : كأن لم يعيشوا في دارهم ، قاله ابن عباس والأخفش قال حاتم طيئ :

    غنينـــا زمانــا بــالتصعلك والغنــى فكــلا ســقاناه بكأســيهما الدهــر
    فمــا زادنــا بغيــا علـى ذي قرابـة غنانـــا ولا أزرى بأحســـابنا الفقــر

    قال الزجاج : معنى غنينا : عشنا - والتصعلك : الفقر - والعرب تقول للفقير صعلوك . والثاني : كأن لم يتنعموا فيها ، قاله قتادة .
    والثالث : كأن لم يكونوا فيها ، قاله ابن زيد ومقاتل .
    والرابع : كأن لم ينزلوا فيها ، قاله الزجاج . قال الأصمعي : المغاني : المنازل ، يقال : غنينا بمكان كذا . أي نزلنا به . وقال ابن قتيبة كأن لم يقيموا فيها .
    ومعنى غنينا بمكان كذا : أقمنا . قال ابن الأنباري وإنما كرر قوله : الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا للمبالغة في ذمهم : كما تقول : أخوك الذي أخذ أموالنا ، أخوك الذي شتم أعراضنا .
    ومثلا عند تفسير قوله تعالى : قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ سورة إبراهيم ، آية 10 ، يقول : هذا استفهام إنكار والمعنى لا شك في الله أي في توحيده ( يدعوكم ) بالرسل والكتب لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ قال أبو عبيدة - من زائدة - كقوله : فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ سورة الحاقة ، آية 47 . قال أبو ذؤيب :

    جـــزيتك ضعـــف الحـــب لمــا شــكوته ومـا إن جــزاك الضعـف مـن أحـد قبلـي

    ومثلا عند تفسير قوله تعالى : لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا سورة الواقعة الآية 25 ، يقول : فإن قيل التأثيم لا يسمع فكيف ذكره مع المسموع ؟ فالجواب أن العرب يتبعون آخر الكلام أوله ، وإن لم يحسن في أحدهما ما يحسن في الآخر ، فيقولون : أكلت خبزا ولبنا ، واللبن لا يؤكل ، وإنما حسن هذا لأنه كان مع ما يؤكل . قال الفراء أنشدني بعض العرب :

    إذا مــــــا الغانيــــــات بــــــرزن يومـــــا وزججـــــــن الحواجـــــــب والعيونـــــــا

    قال : والعين لا تزجج وإنما تكحل فردها على الحاجب لأن المعنى يعرف . .
    موقفه من الإسرائيليات :
    لقد جاء في مقدمه تفسير " زاد المسير " في الجزء الأول منه ما يظهر موقفه من الإسرائيليات التي ذكرها وأوردها في تفسيره ، فقد ذكر في المقدمة " ومن إيراد طائفة غير قليلة من الأخبار الإسرائيلية الغربية التي أغنانا الله عنها بما هو أصح منها وأنفع وأوضح وأبلغ وغالبه مما لا يتعلق به كبير فائدة ، ولا حاصل له مما ينفع به في الدين " .
    فنراه قد روى بعض الأخبار الإسرائيلية عن رواة اشتهروا برواية تلك الأخبار من أمثال كعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، والسدي وغيرهم كأبي صالح الكلبي . فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى : وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ سورة الأنبياء آية 83 - 84 .
    يذكر قصصا طويلة عن أيوب لا يتسع المقام لذكرها . رواها عن وهب بن منبه ، وهي رواية غريبة لا يصدقها العقل أو المنطق ، ولا تليق بمقام الأنبياء لما فيها من المنافاة لمقامهم عند الله .
    وقد ذكر هذه القصة في تفسيره في الجزء الخامس من زاد المسير من ص 375 إلى ص 378 .
    ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى : وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ سورة النمل آية 35 ، يسرد في ذلك قصة طويلة هي أقرب ما تكون إلى الخيال .
    يقول : إنها بعثت ثلاث لبنات من ذهب في كل لبنة مائة رطل وياقوتة حمراء طولها شبر مثقوبة ، وثلاثين وصيفا ، وثلاثين وصيفة ، وألبستهم لباسا واحدا حتى لا يعرف الذكر من الأنثى ، ثم كتبت إليه ، إني بعثت إليك بهدية فأقبلها وبعثت إليك بياقوتة طولها شبر ، فأدخل فيها خيطا على طرفي الخيط بخاتمتك ، وقد بعثت إليك ثلاثين وصيفة وثلاثين وصيفا فميز بين الجواري والغلمان ، فجاء أمير الشياطين فأخبره بما بعثت إليه ، فقال له : انطلق فافرش على طريق القوم من باب مجلسي ثمانية أميال في ثمانية أميال [ لبنا ] ، من الذهب . .
    وهكذا حتى نهاية القصة وقد نسبها إلى ابن عباس ، وقد علق ابن كثير رحمه الله عليها قائلا : والله أعلم أكان ذلك أم لا ؟ وأكثره مأخوذ من الإسرائيليات . ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى : فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا سورة القصص آية 38 . نراه قد ذكر رواية غريبة عن بناء الصرح والعمال والفعلة وأنهم خمسون ألف بناء سوى الأتباع إلى آخر الرواية ، ورميه بالنشابة وأنها رجعت ملطخة بالدم ، فقال : قتلت إله موسى .
    وقد روى هذه الرواية الطبري عن السدي ورواها السيوطي عن السدي وقد علق عليها القرطبي قائلا : والله أعلم بصحة ذلك .
    ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى : وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ سورة ص آية 21 . فقد روى عن وهب أنه قال : كانت الحمامة من طيور الجنة ، وقال السدي تصور له الشيطان في صورة حمامة . قال المفسرون : إنه لما تبع الحمامة رأى امرأة في بستان على شط بركة لها تغتسل ، وقيل : بل على سطح لها ، فعجب من حسنها ، فحانت منها التفاتة فرأت ظله ، ففضت شعرها فغطى بدنها فزاده ذلك إعجابا بها ، فسأل عنها ، فقيل : هذه امرأة أوريا ، وزوجها في غزاة فكتب داود إلى أمير ذلك الجيش أن ابعث أوريا إلى موضع كذا وكذا وقدمه قبل التابوت ، وكان من قدم قبل التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح عليه أو يستشهد . .
    إلى نهاية القصة التي لا تليق بشخص عادي فما بالك بنبي من أنبياء الله . وعن سعيد بن المسيب والحارث الأعور أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص ، جلدته مائة وستين جلدة وهي حد الفرية على الأنبياء . . ومثلا عند تفسير قوله تعالى : وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ سورة ص آية 33 .
    يقول : ولقد فتنا سليمان أي ابتليناه وامتحناه بسلب ملكه وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا أي على سريره " جسدا " وفيه قولان :
    أحدهما : أنه شيطان قاله ابن عباس والجمهور ، وفي اسم ذلك الشيطان ثلاثة أقوال أحدها : أنه صخر ، والثاني أنه آصف ، إلى آخر هذه القصة التي ذكر فيها سبب الابتلاء . وكانت في خصومة قضى فيها بالحق إلا أن هواه كان مع أهل زوجته الذين كانوا طرفا في القضية ، وقد ذكر هذه القصة في الجزء السابع من ص 132 إلى ص 136 .
    وقد علق على هذه الأقوال بعض المفسرين كابن كثير وقال إنها من الإسرائيليات . وقال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف ص 143 : وأما ما يحكى من حديث الخاتم والشيطان وعبادة الوثن في بيت سليمان عليه السلام فالله أعلم بصحته . وقد علق ابن كثير على قصة إعطاء جرادة الخاتم حين ذهابه إلى الخلاء بإسناده إلى ابن عباس ولكنه يقول - ولكن الظاهر أنه تلقاه - إن صح عنه من أهل الكتاب .
    وهكذا نرى أن جميع تلك القصص قد نقلها ابن الجوزي عن الإسرائيليات وحشا بها تفسيره حشوا مما لا يليق في حق إنسان عادي فكيف بالأنبياء ؟
    ترجيحه بعض الآراء على بعض :
    قلما كان لابن الجوزي نظرة ترجيحية في الأقوال أو ترجيح رأي على رأي آخر ، وإنما كان يسرد الآراء سردا على لسان قائليها دون أن يعقب عليها أو يكون له رأي فيها ، وقد ذكر ذلك في مقدمة التفسير " وكذلك لم يحاول ترجيح رأي على رأي أو معنى على معنى ، ولا ناقش ما يحكيه من أقوال إلا في مواضع قليلة " . .
    فمثلا عند تفسير قوله تعالى : وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا سورة ص آية 33 . وبعد أن يذكر الأقوال التي يراد بها الجسد يقول : والمفسرون على القول الأول . ونحن نذكر قصة ابتلائه على قول الجمهور . وهو يقصد بالقول الأول الذي قاله ابن عباس والجمهور أن الذي ألقي على الكرسي شيطان ، وهذه من نظراته الترجيحية القليلة .
    وبعد ذلك تذكر القصة كيفية ضياع الخاتم ، ويذكر ابن الجوزي كل تلك الأقوال الصحيح منها والدخيل من أهل الكتاب والإسرائيلية فلا يعلق عليها بشيء ، مع أهمية هذا لأنه يمس نبيا من الأنبياء . والأنبياء لهم العصمة وهم منزهون عن كل ما لا يليق .
    ومن نظراته الترجيحية القليلة أيضا ، أنه علق على قصة الشيطان الذي استولى على ملك سليمان : هل كان يأتي نساء سليمان ، فبعض الأقوال ذكرت أنه كان يأتيهن في زمن الحيض ، والقول الآخر أنه لم يقدر عليهن . وقد علق عليها ابن الجوزي قائلا : وهذا هو الصحيح : أي عدم إتيانه لهن .
    ومن نظراته الترجيحية أيضا : أنه علق على قصة سليمان واستيلاء الشيطان على ملكه ، بأنه آصف الذي قال لسليمان عندما فتن : أنا أقوم مقامك إلى أن يتوب الله عليك ، فقام في مقامه وسار بالسيرة الجميلة ، وقد علق ابن الجوزي على هذا بقوله : وهذا لا يصح ولا ذكره من يوثق به .
    وقد كانت هناك أشياء تمس العقيدة فلم يتعرض لها بالرأي أو الترجيح ، مثل وجود الأوثان في بيت سليمان وعبادتها ، وخصوصا وأن العبادة استمرت أربعين يوما كما تقول الرواية ، وقد علق عليها بعض المفسرين الآخرين .
    وكذلك في قصة امتحان داود عليه السلام وما ذكر من تلك القصة الطويلة والافتراءات التي تقول برؤيته لامرأة أوريا وحبه لها ورغبته فيها ، يذكر ذلك كله ابن الجوزي دون أن يتعرض له بالتعليق أو التكذيب ، وخصوصا وأنه مروي عن وهب بن منبه وهو ممن اشتهروا بالإسرائيليات . ولا يزيد عن قوله : " هذا قول وهب بن منبه " .
    وكذلك في قصة أيوب عليه السلام وما كان من امتحانه وابتلائه بمرضه وإعراض الناس عنه ، وسبب هذا الابتلاء ، وقد رويت كذلك عن وهب بن منبه ، وقيل عنها : إن بها غرابة ، وقيل كذلك إنها من الإسرائيليات ، ولم يعلق ابن الجوزي برأيه أو يدلي بدلوه .
    ومن النظرات الترجيحية القليلة التي أبداها عند تفسيره لقوله تعالى : لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ سورة يوسف آية 25 ، قال : وفي البرهان ستة أقوال : أحدها : أنه مثل له يعقوب . روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : نودي يا يوسف أتزني فتكون مثل الطائر الذي نتف ريشه فذهب يطير فلم يستطع فلم يعط على النداء شيئا ، فنودي الثانية فلم يعط على النداء شيئا فتمثل له يعقوب فضرب صدره ، فقام فخرجت شهوته من أنامله .
    والثاني : أنه جبريل عليه السلام ، والثالث : أنها قامت إلى صنم في زاوية البيت فسترته بثوب ، فقال لها يوسف : أي شيء تصنعين ؟ قالت : أستحي من إلهي هذا أن يراني على هذه السوأة . فقال : أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع ، ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت ، فهو البرهان الذي رأى .
    والرابع : أن الله بعث إليه ملكا فكتب في وجه المرأة بالدم وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا الإسراء آية 32 .
    والخامس : أن سيده دنا من الباب ، والسادس : أن البرهان هو علم ما أحل الله مما حرم الله ، فرأى تحريم الزنا . قال ابن قتيبة : رأى حجة الله عليه وهي البرهان . .
    فكان من تعليق ابن الجوزي عليه بأن قال :
    وهذا هو القول الصحيح وما تقدمه فليس بشيء وإنما هي أحاديث من أعمال القصاص ، وقد أشرت إلى فسادها في كتاب " المغني في التفسير " وكيف يظن بنبي كريم أنه يخوف ويرعب ويضطر إلى ترك هذه المعصية وهو مصر هذا غاية القبح . .
    تلك هي النظرات الترجيحية التي أبدى بعضها ابن الجوزي وهي قليلة إذا قيست على غيره من المفسرين الذين يدلون بآرائهم أو يرجحون بعض الآراء على بعضها الآخر بما لهم من خبرة وعلم دون أن يتركوا القارئ يتخبط في تلك الأقوال لا يدري الصحيح منها أو غير الصحيح أو الأحسن أو الأفضل .

    وفاة ابن الجوزي :
    بعد حياة حافلة بالعمل الدائب المستمر لخدمة الإسلام ورفعة شأن السنة المحمدية ومحاربة البدع والمبتدعة ، مرض الشيخ مدة لا تزيد على خمسة أيام توفي على أثرها رحمه الله رحمة واسعة .
    وكانت وفاته ليلة الجمعة الثاني عشر من رمضان بين العشاءين سنة سبع وتسعين وخمسمائة ، ودفن من الغد في باب الحرب ، وأجمع من ترجموا له على أن يوم وفاته كان يوما مشهودا في بغداد ، فقد ازدحم الناس لتشييعه إلى مثواه الأخير ، وغلقت الأسواق ، وأفطر بعضهم لشدة الزحام والحر ولم يصل إلى حفرته عند قبر الإمام أحمد بن حنبل إلا وقت صلاة الجمعة ، وحزن الناس عليه كثيرا حتى قيل : لم يخلف بعده مثله . .
    ذلك هو ابن الجوزي الذي أوقف حياته على العلم والدراسة وخدمة الدين ورفع رايته لمحاربة التيارات المعادية للإسلام ، حتى ولو كلفته سجنه ونفيه .
    ذلك هو ابن الجوزي الإمام المحدث الفقيه العالم الذي فسر القرآن على منبره ، المؤلف صاحب التصانيف العديدة الذي التزم في تفسيره بالمأثور لا بطريقة التفسير بالرأي .
    جزى الله ابن الجوزي خيرا على ما قدمه للإنسانية من ثروة ضخمة وما قدم للإسلام من خير ولأهله من نفع . . والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
    ابن الجوزي ومنهجه في التفسير بقلم : أحمد فهيم مطر (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الحادي والثلاثون - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1411هـ) المقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ، وبعد : لقد استهوتني دراسة شخصية ابن الجوزي لما اتصف به من صفات كثيرة كانت محل إعجاب من عاصره أو قام بدراسته ، فقد كان من أكبر المؤرخين في عصره الذين كتبوا التاريخ بأمانة ودقة رغم التيارات الكثيرة والفتن التي كانت متفشية في ذلك العصر . وقد كان ابن الجوزي كذلك إماما في الحديث وقد أطلق عليه لقب الحافظ مما يدل على مكانته وتمكنه ، وكان محدثا وواعظا ومفسرا ، حتى إنه قد فسر القرآن الكريم على منبر وعظه ، وكان أديبا وله بعض الأشعار ، وقد أكثر من التصانيف مما لم يقم به عالم قبله أو محدث أو فقيه ، وقد اختلف المؤرخون في عدد تصانيفه ما بين الثلاثمائة والأربعمائة مصنف ، وهذا هو الذي استهواني في دراسة شخصية ابن الجوزي والوقوف على بعض الملامح والصفات التي كان يتحلى بها ، والوقوف كذلك على التيارات والفتن التي كانت سائدة في ذلك العصر الذي عاش فيه . وأرجو أن يوفقني الله في نقل صورة حسية للقارئ ، فأكون قد أديت بعض ما يجب علينا تجاه تلك الشخصية الفريدة . والله يوفقنا إلى ما فيه الخير ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . حياة ابن الجوزي أسرته : كان أهله تجارا في النحاس فلهذا يوجد في بعض سماعاته القديمة ابن الجوزي الصفار وذكر أن والده كان يعمل الصفر بنهر القلائين . مات والده وله من العمر ثلاث سنوات فكان يتما مبكرا بالنسبة له ، ولكن ذلك لم يؤثر عليه من الناحية المادية ، فالأسرة كانت على جانب من الثراء لا تحتاج فيه إلى أن تجعله يتعلم صنعة أو حرفة يقتاتون منها أو يتعايشون ، فكانت وجهتهم هي طلب العلم . أما والدته فقد ظلت على قيد الحياة حيث سبقها إلى الموت بأيام . وتولى رعايته بعد أبيه عمه أبو البركات الذي حمله إلى الحافظ أبي الفضل ابن ناصر لتسميعه الحديث . وتشير بعض المصادر إلى أن عمته هي التي حملته إلى ابن ناصر وقرأ عليه . وكان لابن الجوزي ثلاثة إخوة وأختان : أولهما عبد الله وعبد الرزاق والثالث محمد . أما الأختان فقد شاركته إحداهما في التلمذة على بعض شيوخه . ولابن الجوزي أبناء ثلاثة : عبد العزيز وهو أكبرهم مات شابا في حياة والده ، ثم أبو القاسم علي ، وقد كان عاقا لوالده ألب عليه في زمن المحنة وغيرها وقد تسلط على كتبه في غيبته بواسط فباعها بأبخس الأثمان ، ثم محيي الدين يوسف وكان أنجب أولاده وأصغرهم ووعظ بعد أبيه ، ثم باشر حسبة بغداد ، ثم صار رسول الخلفاء إلى الملوك بأطراف البلاد ، ثم صار أستاذ دار الخليفة المستعصم ، وكان لأبي الفرج عدة بنات منهن : رابعة أم سبطة أبي المظفر صاحب مرآة الزمان . وخلاصة القول أن أسرة ابن الجوزي كانت من الأسر التي تهتم بالعلم والمعرفة ، فقد أسهم ابن الجوزي هو وأبناؤه في بناء الفكر العربي والإسلامي وإمداد المكتبة العربية بكل ما هو نافع ومفيد . مولده ونشأته : هو جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي القرشي التيمي البكري ( من ذرية أبي بكر الصديق ) الفقيه الحنبلي الحافظ المفسر الواعظ المؤرخ الأديب المعروف بابن الجوزي وعرف بابن الجوزي نسبة إلى جده الأكبر جعفر ( الجوزي ) وسمي جده بالجوزي نسبة إلى مشرعة الجوز أو إلى فرضة فيها يقال لها جوزة ، هي محلة أو فرضة في البصرة ويقال إن جوزة فرضة على شاطئ دجلة قريبا من بغداد . ولد سنة ثمان وخمسمائة ، وقيل سنة تسع ، وقيل سنة عشر ، وكان مولده بدرب حبيب ، وتوفي والده وهو صغير فكفلته أمه وعمته وتوجها به إلى العلم ، فحملته عمته إلى مسجد أبي الفضل بن ناصر فأولاه عناية كبيرة لما رأى من بوادر نبوغه وإقباله وحرصه على العلم وهو صغير ، وحفظ القرآن الكريم وقرأه على جماعة من أئمة القراء . وسر نجاح ابن الجوزي يكمن في قوة بديهته ، وسرعة بادرته ، وحضور ذهنه ، ونوادر أجوبته ، مع كثرة محفوظه وسعة روايته . ولقد انقطع ابن الجوزي للدرس ومجالس العلم وترك ما كان أترابه يلهون به من اللعب ؛ للتوفر على الحفظ ، والتوغل في طريق علوم زمانه وثقافته " وكان لا يخرج من بيته إلا للجمعة ولا يلعب مع الصبيان " . وهكذا درج ابن الجوزي منذ صغره يحب العلم ، ويشغف بالتحصيل في فنون العلم ، وقد تحدث ابن الجوزي في كتابه " لفتة الكبد " فقال : " كان الصبيان ينزلون إلى دجلة ويتفرجون وأنا في زمن الصبا آخذ جزءا ، أقعد حجرة من الناس إلى جانب الرقة فأتشاغل بالعلم " . وكانت بغداد مشرقة زاهرة بعلومها وفنونها زاخرة بالعلم والعلماء ، فنهل ابن الجوزي من هذا المنهل الفياض الذي لا يغيض ، دفعه إلى ذلك حبه للعلم وولوعه به ، وتحدث هو عن نفسه في كتابه " صيد الخاطر " فقال : فأقول عن نفسي وما يلزمني حال غيري : إنني رجل حبب إلي العلم من زمن الطفولة فتشاغلت به ، ثم لم يحبب إلي فن واحد منه ، بل فنونه ، ثم لا تقتصر همتي في فن على بعضه ، بل أروم استقصاءه والزمان لا يسع ، والعمر أضيق والشوق يقوى ، والعجز يقعد ، فيبقى وقوف بعض المطلوبات حسرات " . وقد أخذ ابن الجوزي العلم عن خاله الشيخ أبي الفضل أكثر من ثلاثين سنة ، وكذلك أخذ الحديث والوعظ على يد الشيخ الزاغوني ، وأخذ الفقه كذلك عن أبي بكر الدينوري الحنبلي ، ودرس اللغة على أبي منصور الجواليقي ، والحديث عن ابن عبد الواحد الدينوري ، وقد جمع شيوخه في مشيخته " ذكر منهم ستة وثمانين شيخا " وكان يحارب أهل البدع وقد أعلن عليهم ذلك دون هوادة أو خوف ، وقيل له مرة : قلل من ذكر أهل البدع مخافة الفتن فأنشد : أتــوب إليـك يـا رحـمن ممـا جـنيت فقــــــد تعـــــــاظمت الذنـــــــوب وأمــا عــن هــوى ليلــى وتــركي زيارتهـــــــا فـــــــإني لا أتـــــــوب وقال له قائل : ما فيك عيب إلا أنك حنبلي ، فأنشد : وعـــيرني الواشــون أنــي أحبهــا وتلـك شــكاة ظـاهر عنـك عارهـا وليس عجيبا أن يجلس الواعظ في بغداد منذ سنة 527 هـ وسنة دون العشرين ، ومازال يدرس ويعظ ويؤلف حتى أصبح إمام بغداد وواعظها الأول . وكان يحضر مجلسه عامة الناس وخاصتهم ، ويتزاحمون على حضور تلك المجالس ، حتى لقد حرز الجمع في بعض المجالس بمائة ألف ، وهذا العدد وإن كان يدل على المبالغة إلا أنه يدل دلالة قاطعة على كثرة العدد وشدة الزحام ، وإقبال الناس على مواعظه وحضور مجالسه ، وكان الخليفة يحضر وعظه ومجالسه في المناسبات ، وكان أبو الفرج يلقي الموعظة على الخليفة ولا يخشى في ذلك شيئا . وذكر أنه تكلم يوما بحضرة الخليفة وحكى له موعظة شيبان للرشيد : وقال فيما قال : يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك ، وإن أمسكت خفت عليك وأنا أقدم خوفي عليك على خوفي منك . وفي آخر حياته وشى به حساده عند الخليفة فأرسل من أهانه وشتمه وختم على داره ، وشتت عياله ، وأخذ في سفينة إلى واسط فحبس في دار هناك ، ومكث على ذلك الحال خمس سنين وهو يقوم بشئون نفسه من غسل وطبخ ، حتى استطاع ابنه يوسف أن يجتهد وباجتهاده توصل إلى أم الخليفة فشفعت للشيخ فأطلق سراحه . طلبه للعلم : نشأ ابن الجوزي منذ نعومة أظفاره يحب العلم ويختلف إلى العلماء ( ولم يكن يفعل مثل الصبيان يلعبون ويلهون ويضيعون أوقاتهم في اللعب والجري ، ولكنه أوقف نفسه على الحفظ والتوغل في العلم ، وقد كان لا يخرج من بيته إلا للجمعة ولا يلعب مع الصبيان ) . ولقد وجد ابن الجوزي المناخ مهيأ له والأمور تسير رخاء بريح طيبة ، فأهله كانوا يشجعونه على العلم ، وشيوخه كذلك عندما لمسوا فيه حب العلم والتعلق به ، وكان أولهم خاله ابن ناصر ، وكذلك وجد بغداد تعج بالعلماء والمفكرين ، فقد كانت حاضرة العالم الإسلامي كله تزدهر بالعلوم وتشرق بالمعارف وتتيه بالعلماء . وقد وصل ابن الجوزي قمة النضج العلمي حتى أطلق عليه لقب الحافظ دلالة على مكانته العلمية الكبيرة ، وقد تحدث عن نفسه فقال : أنا كتبت الحديث ولي إحدى عشرة سنة ، وسمعت قبل ذلك " . ولقد برع وتفوق في كل علم من العلوم وفن من الفنون ، فكان في الفقه إماما يحضر مجلسه جماعة من الفقهاء الحنابلة . أما في التفسير فكان لا يجارى ولا يبارى حتى أنه قد فسر القرآن الكريم على منبر وعظه ، وكان يقول : " ما عرفت واعظا فسر القرآن كله في مجلس الوعظ منذ نزل القرآن ، فالحمد لله المنعم " . ولقد بلغت مؤلفاته وتصانيفه في القرآن وعلومه سبعة وعشرين كتابا كان من أبرزها كتابه الشهير " زاد المسير في علم التفسير " . وكان من المبرزين في التاريخ المتوسعين فيه ، فكتب وترجم لكبار الصحابة والفقهاء ، أما في الوعظ فكان وحيد عصره ونابغة قرنه ، بدليل تسابق العامة والخاصة والأمراء والخلفاء على مجالس وعظه ، وكان الناس يقصدونه للتوبة على يديه ، ولقد حضر بعض هذه المجالس الرحالة العربي ابن جبير عند زيارته لبغداد عام خمسمائة وثمانين من الهجرة ، وقد أطنب في وصفها وتأثيرها العام في المجتمع حتى قال : " تساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح " وقال ابن رجب : " إذا وعظ اختلس القلوب وتشققت النفوس دون الجيوب " ، وكان ابن الجوزي كذلك أديبا ومحدثا ، ويرتجل ما يريد ارتجاله ، وقد حفظت لنا المصادر بعض أشعار ابن الجوزي ووصفتها بأنها حسنة أو فائقة أو لطيفة . وكان له مؤلفات وتصانيف كثيرة ، وقد ذكرت بعض المصادر أن الكراريس التي كتبها ابن الجوزي لو جمعت وقسمت على أيام حياته لكان له في كل يوم تسع كراريس . وقد اختلف المؤرخون في عدد تصانيف ابن الجوزي ما بين الثلثمائة والأربعمائة مصنف . ولهذا فقد وصل ابن الجوزي إلى مكانة علمية لم يتوصل إليها أحد قبله وبلغ منزلة لم يرق إليها عالم قط . مذهبه : كان ابن الجوزي على مذهب أهل السنة ومذهب الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه ، وكان يذم من يخالفهم ، ويصرح بمذاهبهم في مسائل الأصول وخاصة مسألة القرآن ويتكلم عنهم كثيرا في كتبه ، وكان على حرب دائمة مع أهل البدع والخرافات . وقال يوما على المنبر : أهل البدع يقولون : ما في السماء أحد ، ولا في المصحف قرآن ، ولا في القبر نبي . ثلاث عورات لكم . وقد كان له خطة ومذهب ظهرا واضحين في كتابه " تلبيس إبليس " الذي تحدث فيه عن كثير من المفاسد والمبتدعات التي تفشت في ذلك العصر ، ومنها البدع الصوفية التي أنكرها ، ولم يقف على حد الإنكار ولكنه أعلن عليها حربا لا هوادة فيها . ومع ذلك فإن بعض أصحاب مذهب الإمام أحمد نقموا على ابن الجوزي بعض آرائه ، لأنه لم يكن يتعصب تعصبا كاملا للمذهب ، وكان يرى في نفسه عدم وقوفه على رأي ، بل لا بد من استعمال العقل والفكر . يقول عنه ابن رجب الحنبلي في طبقات الحنابلة : " نقم عليه جماعة من مشايخ أصحابنا ميله إلى التأويل في بعض كلامه ، واشتد نكيرهم عليه في ذلك ، ولا ريب أن كلامه في ذلك مضطرب مختلف ، وهو إن كان مطلعا على الأحاديث والآثار فلم يكن يحل شبه المتكلمين وبيان فسادها . وكان دفاع ابن الجوزي عن السنة والمذهب السلفي ومحاربة الصوفية وأهل البدع من الشيعة ، كان سببا في إيذائه وإدخاله السجن ، وإهانته ، وختم داره ، ومكوثه في السجن خمس سنين . أعماله : أوقف الشيخ حياته على العلم ، فتعلم وأخذ من العلم حظا كبيرا ، وفاق أقرانه ، ولم يتفوق في علم واحد من العلوم ، وإنما تفوق في جميع العلوم التي كتب فيها حتى علوم الطب . وكان من مبادئه أن يخدم الإسلام ويرفع راية السنة المحمدية ، فأوقف حياته على محاربة البدع والمبتدعة وأهل الكلام والشيعة ، ومن أعماله التي أوقف نفسه عليها هي : مجالس الوعظ والإرشاد . فقد كانت تؤتي ثمارها ، وتؤثر في الناس تأثيرا كبيرا لدرجة أن الناس كانوا يتلقونه بالشموع التي حزرها بعضهم بألف شمعة . وقال ابن القطيعي : انتفع الناس بكلامه فكان يتوب في المجلس الواحد مائة وأكثر في بعض الأيام ، وكان يجلس بجامع المنصور يوما أو يومين في السنة فتغلق المحال ويحزر الجمع بمائة ألف . وسلمت إليه المدرسة التي للجهة ( بنفشا ) وكتب في كتاب الوقف أنها وقف على أصحاب أحمد ، وأنها مفوضة إلى ناصر السنة ابن الجوزي . وكان يعظ الأمراء والخلفاء ولا يخاف قول الحق لهم . لأنه يسعى إلى هدف معين هو إعلاء كلمة الله ورفع راية السنة المحمدية ، لا يريد مالا ولا جاها ولا منصبا ولا مكسبا من مكاسب الدنيا . وقد بنى ابن الجوزي مدرسة بدرب ديناء ودرس بها سنة سبعين ، وذكر أول يوم تدريسه بها أربعة عشر درسا من فنون العلم ، وزاد عدد المدارس بعد ذلك حتى صارت خمس مدارس كلها في خدمة العلم والتعليم ، ويكفيه من العمل تلك المصنفات الكثيرة التي ألفها في كل علم وكل فن . منهجه في التفسير : لقد نهج ابن الجوزي في تفسيره للقرآن الكريم نهج السلف الصالح وأهل السنة ، وقد استقى تفسيره من مصادر كثيرة أهمها ما يأتي : مصادره في القراءات : كان أهم مصدر للتفسير في القراءات هم شيوخه الذين درس عليهم ، وتعلم على أيديهم هذا العلم ، ثم ما لبث أن تفوق عليهم جميعا ، وألف في هذا العلم كتابا يسمى " الإشارة إلى القراءة المختارة " أربعة أجزاء مما يدل على تضلعه وتمكنه من هذا العلم . والشيوخ الذين تلقاه عليهم هم : أبو الحسن علي بن عبد الله الزاغوني ، وأبو منصور محمد بن عبد الملك بن خيرون المقرئ ، وأبو عبد الله بن الخياط المقرئ ، وأبو الفضل أحمد بن الحسين المقرئ ، وأبو منصور عبد الرحمن القزاز ، وأبو حفص عمر بن ظفر بن أحمد المقرئ . وقد قرأ بالروايات في كبره على ابن الباقلاني بواسط حين كان منفيا بها ، وقرأ بالعشر على أبي بكر محمد بن الحسن المزرفي . ثم تتبع بعد ذلك أصحاب القراءات المشهورة ، وكانت مصادره في تفسيره منهم ، ومن هؤلاء : ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو عمرو ، وحفص ، وطلحة وغيرهم كثير كقتادة والفراء والأخفش . مصادره في التفسير : كان مصدره الأول هو ما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار ثم الصحابة رضوان الله عليهم . من أمثال علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، وعبد الله بن عباس . ثم ما روي عن التابعين من أمثال ابن جبير وعكرمة وطاوس اليماني ، وعطاء بن أبي رباح ، وأبي العالية ، والحسن البصري ، وأبي سعيد الخدري ، وقتادة ، والسدي ، والحسن ، وابن جريج . أما المصادر التي نقل عنها ففي طليعتها تفسير ابن جرير ، وكتب الحديث ، وكتابا ابن قتيبة " مشكل القرآن " ، " غريب القرآن " ، وكتب معاني القرآن ولا سيما كتابا الفراء والزجاج ، والحجة لأبي علي الفارسي ، و " مجاز القرآن " لأبي عبيدة ، وكتب ابن الأنباري في القرآن ، وأسماء الله الحسنى للخطابي وغيرها . وقد أخذ عن غير هؤلاء من تلاميذ الصحابة رضوان الله عليهم . كعلقمة بن قيس ، ومسروق ، والأسود بن يزيد ، ومرة الهمذاني ، وعامر الشعبي ، وقتادة بن دعامة الدوسي ، وهؤلاء من تلاميذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه . وأخذ كذلك عن عبيدة السلماني ، وأبي الطفيل ، والحسين بن علي رضي الله عنه وهؤلاء من تلاميذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وأخذ كذلك عن زيد بن أسلم ، وأبي العالية ومحمد بن كعب القرظي وهؤلاء من تلاميذ أبي بن كعب رضي الله عنه . فهؤلاء هم : أقطاب التفسير وأعلامه الذين أخذ عنهم ، وعن الذين تتلمذوا عليهم حتى انتهت إليه الرئاسة في التفسير والفتوى ، وكان أكثرهم شهرة هو ابن عباس الذي لقب بالحبر والبحر لكثرة علمه ومعرفته بمعاني كتاب الله . مصادره في أسباب النزول : كان من أول مصادره في ذلك هم الصحابة رضوان الله عليهم ، فقد فسروا القرآن بما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما شاهدوه من الأحداث التي كان القرآن ينزل بها ، وأشهرهم عبد الله بن عباس وابن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب . ومن أكثر هؤلاء رواية ومعرفة هو : عبد الله بن عباس الذي نشأ في بيت النبوة وكان ملازما لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان يشهد كثيرا من المواقف والظروف والملابسات والحوادث التي تنزل فيها الآيات القرآنية ، وكان يسأل الصحابة ويعرف منهم مواطن نزول القرآن وتواريخ التشريع وأسباب النزول . ويلي ابن عباس في المرتبة ابن مسعود ، وقد كان أحفظ الصحابة لكتاب الله . فقد روي عن مسروق قال : قال عبد الله - يعني ابن مسعود - والذي لا إله غيره ما تركت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت وأين نزلت ، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته . ويلي ابن مسعود رضي الله عنه ، فقد كان أعلم الصحابة بمواقع التنزيل ومعرفة التأويل . فعن أبي الطفيل قال : شهدت عليا يخطب وهو يقول : فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم ، وسلوني عن كتاب الله ، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم نهار ، أم في سهل أم في جبل . . وأخرج أبو نعيم في الحلية عن علي رضي الله عنه أنه قال : والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت وأين نزلت . ويلي هؤلاء أبي بن كعب الأنصاري الخزرجي وكان سيد القراء وأحد كتاب الوحي ، ومن أعلم الصحابة بكتاب الله ، وكان عارفا بأسرار الكتب القديمة وما ورد فيها ، وكان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الآيات التي لا يعرف معناها مصادره النحوية واللغوية : كان مصدره الأول في اللغة والنحو هو أبو منصور الجواليقي الذي تعلم منه الأدب واللغة وقرأ عليه كتاب المعرب . والوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة وكانت له معرفة بالنحو واللغة والعروض وصنف ووزر للمقتفي . أما مصادره التي نقل عنها فهي كتب ابن قتيبة ، والفراء ، والزجاج ، وأبي علي الفارسي ، وأبي عبيدة في كتبهم مشكل القرآن ، وغريب القرآن ، وكتب معاني القرآن والحجة ، ومجاز القرآن ، وبذلك كتب ابن الأنباري في القرآن . وكذلك الأصمعي ، والمبرد ، وابن فارس ، وأبو معاذ النحوي ، وثعلب ، والفراء ، والكسائي ، وإبراهيم بن السري ، وأبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني ويونس بن حبيب النحوي . مصادره الفقهية : أما مصادره الفقهية فكثيرة وتعتبر مصادره الأولى " فقد قرأ الفقه والخلاف والأصول على أبي بكر الدينوري ، والقاضي أبي يعلى ، وتتبع مشايخ الحديث والفقه ، وكان منهم القاضي أبو بكر الأنصاري ، وأبو القاسم الحريري ، وأبو السعادات المتوكلي ، وأخوه يحيى ، وأبو عبد الله البارع ، وأبو الحسن علي بن أحمد الموحد ، وأبو غالب الماوردي ، وأبو منصور بن خيرون ، وأبو القاسم السمرقندي ، وعبد الملك الكرخوي وأبو سعد الزوزني وأبو سعد البغدادي ويحيى بن الطراح ، وإسماعيل بن أبي صالح المؤذن ، وأبو القاسم علي الهروي ، وأبو منصور القزاز ، وعبد الجبار بن منده . أبرز سمات تفسير ابن الجوزي : أبرز سمات تفسيره أنه كان يذكر الآية من القرآن ويتناولها بالتفسير السهل الواضح ، ويذكر سبب نزولها إن كان هناك سبب للنزول ، وكذلك كان يفسر الآية بالآية . وهذا ما يسمي تفسير القرآن بالقرآن ، وكذلك كان يتناول معاني الألفاظ اللغوية بالإيضاح والبيان ، وإن كان فيها أكثر من رأي ذكره ، وكان يفسر بالمأثور مع تناول الأحكام الفقهية والتعرض لها والقراءات التي وردت بها الآية . ومن خلال ذلك نستطيع أن نتناول كل موقف وكل سمة من هذه السمات بشيء من التفصيل . مواقفه من القراءات : لقد ذكر ذلك في مقدمة زاد المسير " وقد ألم أيضا بمشهور القراءات وأطراف من شواذها ، ونقل توجيهها في العربية عن أئمة هذا العلم . ومعنى ذلك أنه كان يذكر مشهور القراءات ثم يذكر التوجيه التي توجه إليه ، والمعنى الذي يقصد منها على ذلك التوجيه . فنرى مثلا عند ذكره وتفسيره لقوله تعالى : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ الآية 143 من سورة البقرة " يقول " لرءوف " قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم ( لرءوف ) على وزن لرعوف في جميع القرآن ، ووجهها أن فعولا أكثر في كلامهم من فعل ، فباب ضروب وشكور أوسع من باب حذر ويقظ ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر بن عاصم ( لرؤف ) على وزن رعف . ويقال هو الغالب على أهل الحجاز : قال جرير : تـــرى المســـلمين عليـــك حقـــا كفعـــل الوالـــد الـــرؤف الرحـــيم وعند قوله تعالى : وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا الآية 165 من سورة البقرة . قرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي ( يرى ) ومعناه لو يرون عذاب الآخرة لعلموا أن القوة لله جميعا . وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب ( ولو ترى ) بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد به جميع الناس وجوابه محذوف تقديره لرأيتم أمرا عظيما . كما تقول : لو رأيت فلانا والسياط تأخذه . وإنما حذف الجواب لأن المعنى واضح بدونه ، قال أبو علي : وإنما قال " إذ " ولم يقل " إذا " وإن كانت " إذ " لما مضى لإرادة تقريب الأمر فأتى بمثال الماضي ، وإنما حذف جواب لو لأنه أقحم لذهاب المتوعد إلى كل ضرب من الوعيد . وقرأ أبو جعفر ( إن القوة لله ) بكسر الهمزة فيها على الاستئناف كأنه يقول : فلا يحزنك ما ترى من محبتهم أصنامهم : إن القوة لله جميعا . وعند قوله تعالى : لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ الآية 66 من سورة العنكبوت . " وليتمتعوا " قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بإسكان اللام على معنى الأمر ، والمعنى ليتمتعوا بباقي أعمارهم فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم . وقرأ الباقون بكسر اللام في " ليتمتعوا " فجعلوا اللامين بمعنى " كي " فتقديره : كي يكفروا ولكي يتمتعوا . فيكون معنى الكلام : إذا هم يشركون ليكفروا وليتمتعوا : أي لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يتمتعون به في العاجلة من غير نصيب لهم في الآخرة . ذلك هو موقف ابن الجوزي من القراءات يذكرها ثم يذكر المعنى على كل قراءة من تلك القراءات ليكون أبين وأوضح وأدعى إلى النفع . تفسير القرآن بالقرآن أو بالسنة : رأى ابن الجوزي بثاقب نظره وعميق فكره أن القرآن الكريم قد اشتمل على إيجاز وإطناب وعموم وخصوص وإطلاق وتقييد وما جاء موجزا في مكان قد بسط في مكان آخر ، فكان لا بد من تفسير الموجز بالمبسوط . فكان يذكر الآية التي تقابل أو تفسر أو توضح الآية التي يقوم بتفسيرها ، ونلمس ذلك واضحا في تفسيره : فمثلا عند قوله تعالى فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ الآية 37 من سورة البقرة " . قال : وفي الكلمات أقوال : أحدها : أنها قوله تعالى : رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ الآية 23 من سورة الأعراف . وفي قوله تعالى : فَتَابَ عَلَيْهِ قال : أصل التوبة الرجوع ، فالتوبة من آدم رجوعه عن المعصية وهي من الله تعالى رجوعه عليه بالرحمة ، وإنما لم يذكر حواء في التوبة لأنها لم يجر لها ذكر . لا أن توبتها لم تقبل ، وقال قوم : إذا كان معنى فعل الاثنين واحدا جاز أن يذكر أحدهما ويكون المعنى لهما كقوله تعالى : وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ سورة التوبة آية 63 ، وقوله تعالى : فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى سورة طه الآية 117 . ومثلا عند قوله تعالى : لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ آية 103 من سورة الأنعام . قوله تعالى : لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ في الإدراك قولان أحدهما : أنه بمعنى الإحاطة ، والثاني بمعنى الرؤية . وفي ( الإبصار ) قولان أحدهما : أنها العيون : قاله الجمهور ، والثاني أنها العقول . ففي معنى الآية ثلاثة أقوال . القول الثالث منها : لا تدركه الأبصار في الدنيا : رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ومقاتل ويدل على أن الآية مخصوصة بالدنيا قوله تعالى : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ سورة القيامة . فقيد النظر إليه بالقيامة وأطلق في هذه الآية ، والمطلق حمل على المقيد ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا الآية 31 من سورة النساء يقول : اجتناب الشيء تركه جانبا وفي الكبائر أحد عشر قولا : أحدها : أنها سبع . فروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : يا رسول الله وما هن ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي عند الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات . والثاني : أنها تسع . وروى حديثا عن عبيد بن عمير عن أبيه . والثالث : أنها أربع وروى كذلك حديثا في البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر . وروى عن أنس بن مالك . والرابع : أنها ثلاث فروى حديثا عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وروى في البخاري ومسلم عن أبي بكرة . ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا الآيات من 60 - 66 من سورة الكهف . قوله تعالى : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ سبب خروج موسى عليه السلام في هذا السفر ما روى عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل ، فسئل أي الناس أعلم ؟ فقال : أنا ، فعتب الله عز وجل عليه إذ لم يرد العلم إليه . فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك إلى آخر الحديث ، وهو حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين . أسباب النزول : من الأشياء البارزة والسمات الظاهرة التي كان يتبعها ابن الجوزي في تفسيره هي أسباب النزول ، فالآية يتضح معناها إذا علم سبب نزولها ، فنراه يذكر سبب النزول إذا كان للآية أو للسورة وكل ذلك واضح ظاهر في تفسيره . فمثلا في سورة آل عمران وسبب نزولها يذكر فيها أنها مدنية ، وأن صدرا من أولها نزل في وفد نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم في ستين راكبا فيهم العاقب والسيد فخاصموه في عيسى . فقالوا إن لم يكن ولد الله فمن أبوه ؟ فنزلت فيهم صدر ( آل عمران ) إلى بضع وثمانين آية منها وقد ذكر سبب نزول سورة الأنفال على أقوال ثلاثة : الأول منها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات ، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم ، فقال المشيخة للشبان : أشركونا معكم فإنا كنا لكم ردعا فأبوا ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت سورة الأنفال . . رواه عكرمة عن ابن عباس . ويذكر في سبب نزول سورة يوسف قولين : أما القول الأول فروي عن سعد بن أبي وقاص قال : أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زمانا ، فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا ، فأنزل الله تعالى : الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إلى قوله : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ فتلاه عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله لو حدثتنا ، فأنزل الله تعالى : اللَّهُ نَـزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ سورة الزمر آية 23 ، كل ذلك يؤمرون بالقرآن . ويذكر في سبب نزول سورة المجادلة قوله تعالى : قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا فقد روي عن عائشة أنها قالت : تبارك الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة فكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في جانب البيت أسمع كلامها ويخفى علي بعضه ، وهي تشتكي زوجها وتقول : يا رسول الله : أبلى شبابي ، وفترت له بطني ، حتى إذا كبر سني ، وانقطع ولدي ، ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك ، قالت : فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات . وأما الآيات فكان كذلك يتتبع نزول كل آية ويذكرها فهذا أحرى لتفسيرها وتوضيحها وبيان معناها والأمثلة كثيرة لتتبع الآيات ونورد بعضها . فمثلا عند تفسير قوله تعالى : مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ سورة آل عمران آية 179 . ففي سبب نزولها خمسة أقوال ، أحدها : أن قريشا قالت : تزعم يا محمد أن من اتبعك فهو في الجنة ، ومن خالفك فهو في النار ، فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن بك . فنزلت هذه الآية . . هذا قول ابن عباس . وعند تفسير قوله تعالى : وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ سورة الرعد آية 7 ، اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال ، أحدها : أنها نزلت في كفار مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بذلك قاله ابن عباس وعند تفسير قوله تعالى : لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ سورة عبس آية 37 ، ذكر أن سبب نزولها . روى أنس بن مالك قال : قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم : أنحشر عراة ؟ قال : نعم . قالت : واسوأتاه ، فأنزل الله تعالى : لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ . الأحكام الفقهية : كان ابن الجوزي لا يترك حكما من الأحكام الفقهية إلا تعرض له وذكر الآراء التي قيلت فيه مع عدم التعرض للأرجح أو الصحيح اللهم إلا على لسان القائلين أنفسهم ، ونرى ذلك في كل الآيات التي تحتاج إلى أحكام فقهية وأدلى فيها العلماء بآرائهم وخاصة المذاهب الفقهية الأربعة وبعض تلاميذهم من الذين يلونهم . وترى ذلك واضحا في كل تفسيره ، وقلما كان يدلي برأيه . فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ سورة البقرة آية 179 يقول : نقل ابن منصور عن أحمد : إذا قتل رجل رجلا بعصا أو خنقه ، أو شدخ رأسه بحجر ، يقتل بمثل الذي قتل به ، فظاهر هذا أن القصاص يكون بغير السيف ، ويكون بمثل الآلة التي قتل بها . وهو قول مالك والشافعي ، ونقل عن حرب : إذا قتله بخشبة قتل بالسيف ، ونقل أبو طالب إذا خنقه قتل بالسيف ، فظاهر هذا أنه لا يكون القصاص إلا بالسيف وهو قول أبي حنيفة رحمه الله . عند تفسير قوله تعالى : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ سورة البقرة آية 184 ، يقول : وليس المرض والسفر على الإطلاق فإن المريض إذا لم يضر به الصوم لم يجز له الإفطار ، وإنما الرحمة موقوفة على زيادة المرض بالصوم ، واتفق العلماء أن السفر مقدر واختلفوا في تقديره : فقال أحمد ومالك والشافعي أقله مسيرة ثلاثة أيام : مسيرة أربعة وعشرين فرسخا ، وقال الأوزاعي أقله مرحلة يوم . مسيرة ثمانية فراسخ . وعند تفسير قوله تعالى : الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ سورة المائدة الآية 5 ، يقول : فأما أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى ، وطعامهم ذبائحهم : هذا قول ابن عباس والجماعة ، وإنما أريد بها الذبائح خاصة لأن سائر طعامهم لا يختلف بمن تولاه من مجوسي وكتابي وإنما الذكاة تختلف . فلما خص أهل الكتاب بذلك دل على أن المراد الذبائح ، فأما ذبائح المجوس فأجمعوا على تحريمها ، واختلفوا في ذبائح من دان باليهودية والنصرانية من عبدة الأوثان ؛ فروى ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال : لا بأس بها . وتلا قوله تعالى : وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ المائدة آية 51 . وهذا قول الحسن وعطاء بن أبي رباح والشعبي وعكرمة ، وقتادة والزهري والحكم وحماد ، وقد روي عن علي وابن مسعود في آخرين أن ذبائحهم لا تحل ، ونقل الخرقي عن أحمد في نصارى بني تغلب روايتين : إحداهما : تباح ذبائحهم وهو قول أبي حنيفة ومالك . الثانية : لا تباح . وقال الشافعي من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن لم يبح أكل ذبيحته . وعند تفسيره لقوله تعالى : وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً سورة النحل آية 8 . ويجوز أكل لحم الخيل ، وإنما لم يذكر في الآية لأنه ليس هو المقصود ، وإنما معظم المقصود بها الركوب والزينة . وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك : لا تؤكل لحوم الخيل . اللغة والنحو : لقد اهتم ابن الجوزي اهتماما كبيرا باللغة العربية والنحو ويظهر ذلك من خلال تفسيره ، ولقد ورد ذلك أيضا في مقدمة تفسيره للجزء الأول ، حيث جاء في المقدمة : " لم يفته وهو يفسر مفردات القرآن أن يذكر اشتقاقها استكمالا للمعنى وزيادة في الفائدة . فقد كان يورد الروايات والآراء التي وردت في تفسير اللفظ وما أيدها من الأشعار العربية والدلالة على معناها إلا أنه لم يكن يتعرض لها بالتعليق برأيه ، بل كان يوردها مجردة عن التعليق بمعنى كل قائل واستشهاده ، ثم بالنحو والإعراب وفي أحيان كثيرة يعرض للقراءات على الرفع أو على النصب أو خلافه ، فمثلا عند تفسيره لسورة الفاتحة قوله تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ يقول : فأما الرب فهو المالك ، ولا يذكر هذا الاسم في حق المخلوق إلا بالإضافة ، فيقال : هذا رب الدار ، ورب العبد . وقيل : هو مأخوذ من التربية . قال شيخنا أبو منصور اللغوي - يقال : رب فلان صنيعته يربها ربا : إذا أتمها وأصلحها فهو رب وراب . قال الشاعر : بـرب الــذي يــأتي مـن الخـير إنـه إذا ســـئل المعـــروف زاد وتممـــا قال : والرب يقال على ثلاثة أوجه ، أحدها : المالك يقال : رب الدار ، والثاني : المصلح يقال : رب الشيء ، والثالث : : السيد المطاع قال تعالى : فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا سورة يوسف آية 41 . والجمهور على خفض باء رب . وقرأ ابن السميفع وعيسى بن عمر بنصبها ، وقرأ أبو رزين العقيلي ، والربيع بن خثيم ، وأبو عمران الجوفي برفعها وترى الإعراب والخلافات النحوية واضحة جلية عند تفسير قوله تعالى : يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا سورة آل عمران آية 30 . قال الزجاج نصب اليوم بقوله : وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ في ذلك اليوم . قال ابن الأنباري : يجوز أن يكون متعلقا بالمصير ، والتقدير : وإلى الله المصير يوم تجد ، ويجوز أن يكون متعلقا بفعل مضمر ، والتقدير : اذكر يوم تجد . وفي كيفية وجود العمل وجهان أحدهما : وجوده مكتوبا في الكتاب ، والثاني وجود الجزاء عليه . ومثلا عند تفسير قوله تعالى : وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ سورة النساء آية 81 ، قوله تعالى : وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ نزلت في المنافقين كانوا يؤمنون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمنوا فإذا خرجوا خالفوا ، هذا قول ابن عباس . قال الفراء والرفع في طاعة على معنى أمرك طاعة . قوله تعالى : بَيَّتَ طَائِفَةٌ قال ابن قتيبة : والمعنى فإذا برزوا من عندك ، أي خرجوا ، بيت طائفة منهم غير الذي تقول : أي : قالوا وقدروا ليلا غير ما أعطوك نهارا . قال الشاعر : أتــــوني فلــــم أرض مــــا بيتـــوا وكــــانوا أتــــوني بشــــيء نكـــر والعرب تقول : هذا أمر قد قدر بليل ، وفرغ منه بليل ، ومنه قول الحارث بن حلزة : أجــمعوا أمـــرهم عشـــاء فلمـــا أصبحـــوا أصبحــت لهــم ضوضــاء وقال بعضهم بيت بمعنى بدل وأنشد : وبيــــت قــــولي عنــــد المليــــك قــــاتلك اللـــــه عبـــــدا كفـــــورا فإننا نرى اللغة والإعراب وأشعار العرب في تفسير تلك المفردات اللغوية ورواية الشعر للاستشهاد وتفسير الألفاظ هي الطريقة المشهورة لابن عباس رضي الله عنه الذي قد نقل عنه ابن الجوزي ، ومن أهم مصادره وكذلك نجد المعاني البلاغية واضحة بارزة . ومثلا عند تفسير قوله تعالى : كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا سورة الأعراف آية 92 فيها أربعة أقوال : القول الأول : كأن لم يعيشوا في دارهم ، قاله ابن عباس والأخفش قال حاتم طيئ : غنينـــا زمانــا بــالتصعلك والغنــى فكــلا ســقاناه بكأســيهما الدهــر فمــا زادنــا بغيــا علـى ذي قرابـة غنانـــا ولا أزرى بأحســـابنا الفقــر قال الزجاج : معنى غنينا : عشنا - والتصعلك : الفقر - والعرب تقول للفقير صعلوك . والثاني : كأن لم يتنعموا فيها ، قاله قتادة . والثالث : كأن لم يكونوا فيها ، قاله ابن زيد ومقاتل . والرابع : كأن لم ينزلوا فيها ، قاله الزجاج . قال الأصمعي : المغاني : المنازل ، يقال : غنينا بمكان كذا . أي نزلنا به . وقال ابن قتيبة كأن لم يقيموا فيها . ومعنى غنينا بمكان كذا : أقمنا . قال ابن الأنباري وإنما كرر قوله : الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا للمبالغة في ذمهم : كما تقول : أخوك الذي أخذ أموالنا ، أخوك الذي شتم أعراضنا . ومثلا عند تفسير قوله تعالى : قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ سورة إبراهيم ، آية 10 ، يقول : هذا استفهام إنكار والمعنى لا شك في الله أي في توحيده ( يدعوكم ) بالرسل والكتب لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ قال أبو عبيدة - من زائدة - كقوله : فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ سورة الحاقة ، آية 47 . قال أبو ذؤيب : جـــزيتك ضعـــف الحـــب لمــا شــكوته ومـا إن جــزاك الضعـف مـن أحـد قبلـي ومثلا عند تفسير قوله تعالى : لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا سورة الواقعة الآية 25 ، يقول : فإن قيل التأثيم لا يسمع فكيف ذكره مع المسموع ؟ فالجواب أن العرب يتبعون آخر الكلام أوله ، وإن لم يحسن في أحدهما ما يحسن في الآخر ، فيقولون : أكلت خبزا ولبنا ، واللبن لا يؤكل ، وإنما حسن هذا لأنه كان مع ما يؤكل . قال الفراء أنشدني بعض العرب : إذا مــــــا الغانيــــــات بــــــرزن يومـــــا وزججـــــــن الحواجـــــــب والعيونـــــــا قال : والعين لا تزجج وإنما تكحل فردها على الحاجب لأن المعنى يعرف . . موقفه من الإسرائيليات : لقد جاء في مقدمه تفسير " زاد المسير " في الجزء الأول منه ما يظهر موقفه من الإسرائيليات التي ذكرها وأوردها في تفسيره ، فقد ذكر في المقدمة " ومن إيراد طائفة غير قليلة من الأخبار الإسرائيلية الغربية التي أغنانا الله عنها بما هو أصح منها وأنفع وأوضح وأبلغ وغالبه مما لا يتعلق به كبير فائدة ، ولا حاصل له مما ينفع به في الدين " . فنراه قد روى بعض الأخبار الإسرائيلية عن رواة اشتهروا برواية تلك الأخبار من أمثال كعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، والسدي وغيرهم كأبي صالح الكلبي . فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى : وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ سورة الأنبياء آية 83 - 84 . يذكر قصصا طويلة عن أيوب لا يتسع المقام لذكرها . رواها عن وهب بن منبه ، وهي رواية غريبة لا يصدقها العقل أو المنطق ، ولا تليق بمقام الأنبياء لما فيها من المنافاة لمقامهم عند الله . وقد ذكر هذه القصة في تفسيره في الجزء الخامس من زاد المسير من ص 375 إلى ص 378 . ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى : وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ سورة النمل آية 35 ، يسرد في ذلك قصة طويلة هي أقرب ما تكون إلى الخيال . يقول : إنها بعثت ثلاث لبنات من ذهب في كل لبنة مائة رطل وياقوتة حمراء طولها شبر مثقوبة ، وثلاثين وصيفا ، وثلاثين وصيفة ، وألبستهم لباسا واحدا حتى لا يعرف الذكر من الأنثى ، ثم كتبت إليه ، إني بعثت إليك بهدية فأقبلها وبعثت إليك بياقوتة طولها شبر ، فأدخل فيها خيطا على طرفي الخيط بخاتمتك ، وقد بعثت إليك ثلاثين وصيفة وثلاثين وصيفا فميز بين الجواري والغلمان ، فجاء أمير الشياطين فأخبره بما بعثت إليه ، فقال له : انطلق فافرش على طريق القوم من باب مجلسي ثمانية أميال في ثمانية أميال [ لبنا ] ، من الذهب . . وهكذا حتى نهاية القصة وقد نسبها إلى ابن عباس ، وقد علق ابن كثير رحمه الله عليها قائلا : والله أعلم أكان ذلك أم لا ؟ وأكثره مأخوذ من الإسرائيليات . ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى : فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا سورة القصص آية 38 . نراه قد ذكر رواية غريبة عن بناء الصرح والعمال والفعلة وأنهم خمسون ألف بناء سوى الأتباع إلى آخر الرواية ، ورميه بالنشابة وأنها رجعت ملطخة بالدم ، فقال : قتلت إله موسى . وقد روى هذه الرواية الطبري عن السدي ورواها السيوطي عن السدي وقد علق عليها القرطبي قائلا : والله أعلم بصحة ذلك . ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى : وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ سورة ص آية 21 . فقد روى عن وهب أنه قال : كانت الحمامة من طيور الجنة ، وقال السدي تصور له الشيطان في صورة حمامة . قال المفسرون : إنه لما تبع الحمامة رأى امرأة في بستان على شط بركة لها تغتسل ، وقيل : بل على سطح لها ، فعجب من حسنها ، فحانت منها التفاتة فرأت ظله ، ففضت شعرها فغطى بدنها فزاده ذلك إعجابا بها ، فسأل عنها ، فقيل : هذه امرأة أوريا ، وزوجها في غزاة فكتب داود إلى أمير ذلك الجيش أن ابعث أوريا إلى موضع كذا وكذا وقدمه قبل التابوت ، وكان من قدم قبل التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح عليه أو يستشهد . . إلى نهاية القصة التي لا تليق بشخص عادي فما بالك بنبي من أنبياء الله . وعن سعيد بن المسيب والحارث الأعور أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص ، جلدته مائة وستين جلدة وهي حد الفرية على الأنبياء . . ومثلا عند تفسير قوله تعالى : وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ سورة ص آية 33 . يقول : ولقد فتنا سليمان أي ابتليناه وامتحناه بسلب ملكه وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا أي على سريره " جسدا " وفيه قولان : أحدهما : أنه شيطان قاله ابن عباس والجمهور ، وفي اسم ذلك الشيطان ثلاثة أقوال أحدها : أنه صخر ، والثاني أنه آصف ، إلى آخر هذه القصة التي ذكر فيها سبب الابتلاء . وكانت في خصومة قضى فيها بالحق إلا أن هواه كان مع أهل زوجته الذين كانوا طرفا في القضية ، وقد ذكر هذه القصة في الجزء السابع من ص 132 إلى ص 136 . وقد علق على هذه الأقوال بعض المفسرين كابن كثير وقال إنها من الإسرائيليات . وقال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف ص 143 : وأما ما يحكى من حديث الخاتم والشيطان وعبادة الوثن في بيت سليمان عليه السلام فالله أعلم بصحته . وقد علق ابن كثير على قصة إعطاء جرادة الخاتم حين ذهابه إلى الخلاء بإسناده إلى ابن عباس ولكنه يقول - ولكن الظاهر أنه تلقاه - إن صح عنه من أهل الكتاب . وهكذا نرى أن جميع تلك القصص قد نقلها ابن الجوزي عن الإسرائيليات وحشا بها تفسيره حشوا مما لا يليق في حق إنسان عادي فكيف بالأنبياء ؟ ترجيحه بعض الآراء على بعض : قلما كان لابن الجوزي نظرة ترجيحية في الأقوال أو ترجيح رأي على رأي آخر ، وإنما كان يسرد الآراء سردا على لسان قائليها دون أن يعقب عليها أو يكون له رأي فيها ، وقد ذكر ذلك في مقدمة التفسير " وكذلك لم يحاول ترجيح رأي على رأي أو معنى على معنى ، ولا ناقش ما يحكيه من أقوال إلا في مواضع قليلة " . . فمثلا عند تفسير قوله تعالى : وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا سورة ص آية 33 . وبعد أن يذكر الأقوال التي يراد بها الجسد يقول : والمفسرون على القول الأول . ونحن نذكر قصة ابتلائه على قول الجمهور . وهو يقصد بالقول الأول الذي قاله ابن عباس والجمهور أن الذي ألقي على الكرسي شيطان ، وهذه من نظراته الترجيحية القليلة . وبعد ذلك تذكر القصة كيفية ضياع الخاتم ، ويذكر ابن الجوزي كل تلك الأقوال الصحيح منها والدخيل من أهل الكتاب والإسرائيلية فلا يعلق عليها بشيء ، مع أهمية هذا لأنه يمس نبيا من الأنبياء . والأنبياء لهم العصمة وهم منزهون عن كل ما لا يليق . ومن نظراته الترجيحية القليلة أيضا ، أنه علق على قصة الشيطان الذي استولى على ملك سليمان : هل كان يأتي نساء سليمان ، فبعض الأقوال ذكرت أنه كان يأتيهن في زمن الحيض ، والقول الآخر أنه لم يقدر عليهن . وقد علق عليها ابن الجوزي قائلا : وهذا هو الصحيح : أي عدم إتيانه لهن . ومن نظراته الترجيحية أيضا : أنه علق على قصة سليمان واستيلاء الشيطان على ملكه ، بأنه آصف الذي قال لسليمان عندما فتن : أنا أقوم مقامك إلى أن يتوب الله عليك ، فقام في مقامه وسار بالسيرة الجميلة ، وقد علق ابن الجوزي على هذا بقوله : وهذا لا يصح ولا ذكره من يوثق به . وقد كانت هناك أشياء تمس العقيدة فلم يتعرض لها بالرأي أو الترجيح ، مثل وجود الأوثان في بيت سليمان وعبادتها ، وخصوصا وأن العبادة استمرت أربعين يوما كما تقول الرواية ، وقد علق عليها بعض المفسرين الآخرين . وكذلك في قصة امتحان داود عليه السلام وما ذكر من تلك القصة الطويلة والافتراءات التي تقول برؤيته لامرأة أوريا وحبه لها ورغبته فيها ، يذكر ذلك كله ابن الجوزي دون أن يتعرض له بالتعليق أو التكذيب ، وخصوصا وأنه مروي عن وهب بن منبه وهو ممن اشتهروا بالإسرائيليات . ولا يزيد عن قوله : " هذا قول وهب بن منبه " . وكذلك في قصة أيوب عليه السلام وما كان من امتحانه وابتلائه بمرضه وإعراض الناس عنه ، وسبب هذا الابتلاء ، وقد رويت كذلك عن وهب بن منبه ، وقيل عنها : إن بها غرابة ، وقيل كذلك إنها من الإسرائيليات ، ولم يعلق ابن الجوزي برأيه أو يدلي بدلوه . ومن النظرات الترجيحية القليلة التي أبداها عند تفسيره لقوله تعالى : لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ سورة يوسف آية 25 ، قال : وفي البرهان ستة أقوال : أحدها : أنه مثل له يعقوب . روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : نودي يا يوسف أتزني فتكون مثل الطائر الذي نتف ريشه فذهب يطير فلم يستطع فلم يعط على النداء شيئا ، فنودي الثانية فلم يعط على النداء شيئا فتمثل له يعقوب فضرب صدره ، فقام فخرجت شهوته من أنامله . والثاني : أنه جبريل عليه السلام ، والثالث : أنها قامت إلى صنم في زاوية البيت فسترته بثوب ، فقال لها يوسف : أي شيء تصنعين ؟ قالت : أستحي من إلهي هذا أن يراني على هذه السوأة . فقال : أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع ، ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت ، فهو البرهان الذي رأى . والرابع : أن الله بعث إليه ملكا فكتب في وجه المرأة بالدم وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا الإسراء آية 32 . والخامس : أن سيده دنا من الباب ، والسادس : أن البرهان هو علم ما أحل الله مما حرم الله ، فرأى تحريم الزنا . قال ابن قتيبة : رأى حجة الله عليه وهي البرهان . . فكان من تعليق ابن الجوزي عليه بأن قال : وهذا هو القول الصحيح وما تقدمه فليس بشيء وإنما هي أحاديث من أعمال القصاص ، وقد أشرت إلى فسادها في كتاب " المغني في التفسير " وكيف يظن بنبي كريم أنه يخوف ويرعب ويضطر إلى ترك هذه المعصية وهو مصر هذا غاية القبح . . تلك هي النظرات الترجيحية التي أبدى بعضها ابن الجوزي وهي قليلة إذا قيست على غيره من المفسرين الذين يدلون بآرائهم أو يرجحون بعض الآراء على بعضها الآخر بما لهم من خبرة وعلم دون أن يتركوا القارئ يتخبط في تلك الأقوال لا يدري الصحيح منها أو غير الصحيح أو الأحسن أو الأفضل . وفاة ابن الجوزي : بعد حياة حافلة بالعمل الدائب المستمر لخدمة الإسلام ورفعة شأن السنة المحمدية ومحاربة البدع والمبتدعة ، مرض الشيخ مدة لا تزيد على خمسة أيام توفي على أثرها رحمه الله رحمة واسعة . وكانت وفاته ليلة الجمعة الثاني عشر من رمضان بين العشاءين سنة سبع وتسعين وخمسمائة ، ودفن من الغد في باب الحرب ، وأجمع من ترجموا له على أن يوم وفاته كان يوما مشهودا في بغداد ، فقد ازدحم الناس لتشييعه إلى مثواه الأخير ، وغلقت الأسواق ، وأفطر بعضهم لشدة الزحام والحر ولم يصل إلى حفرته عند قبر الإمام أحمد بن حنبل إلا وقت صلاة الجمعة ، وحزن الناس عليه كثيرا حتى قيل : لم يخلف بعده مثله . . ذلك هو ابن الجوزي الذي أوقف حياته على العلم والدراسة وخدمة الدين ورفع رايته لمحاربة التيارات المعادية للإسلام ، حتى ولو كلفته سجنه ونفيه . ذلك هو ابن الجوزي الإمام المحدث الفقيه العالم الذي فسر القرآن على منبره ، المؤلف صاحب التصانيف العديدة الذي التزم في تفسيره بالمأثور لا بطريقة التفسير بالرأي . جزى الله ابن الجوزي خيرا على ما قدمه للإنسانية من ثروة ضخمة وما قدم للإسلام من خير ولأهله من نفع . . والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
    0
  • رسالة لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية
    أجاب فيها عن أسئلة في علم القراءات

    حققها وقدم لها الدكتور : محمد علي سلطاني

    (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثالث عشر - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1405هـ)

    الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين . وبعد :
    فإن القراءات القرآنية من أكثر علوم القرآن والعربية أهمية وأجلها شأنا . . أما أهميتها من حيث اللغة فتعود إلى جانبين كبيرين:
    - أولهما ما تقدمه للباحثين في نشأة اللغات وتطورها وتاريخها من الظواهر اللغوية الحية على اختلاف صنوفها: في الحرف والصوت والكلمة والتركيب . .
    - وثانيهما ما تقدمه للنحو وفقه اللغة من الشواهد والنماذج مما لا يبلغ بعض شأوه شواهد العربية الأخرى في الشعر والخطب والأمثال والأقوال . . وذلك بسبب مما حظيت به القراءات منذ نشأتها من عناية وضبط وتوثيق . . بالتلقي المتثبت ، والمشافهة الواعية ، والرواية المتواترة أو النقل المستفيض ، والتدوين المقرون بالوصف الدقيق والأسانيد المدروسة الموثوقة . .
    وأما رفعة شأنها فلارتباطها بالقرآن العظيم منهاج المتقين ومعراج المرتقين ، مصداقًا لقوله عليه الصلاة والسلام: خيركم من تعلم القرآن وعلمه .
    غير أن هذا الميدان الجليل بما اتسم به من الغنى اللغوي الفريد ، نتيجة التيسير الذي عبر عنه الحديث النبوي : أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه ؛ أثار قدرًا غير قليل من القضايا التي ارتبطت بعلم القراءات ، وغدت مع الزمن أقرب إلى المشكلات ، فشغلت العلماء والباحثين عبر القرون - وما يزال بعضها يشغلهم- للوصول إلى المعرفة اليقينية بشأنها . . من ذلك قولهم: ما تفسير الأحرف السبعة؟ أهي للتكثير أم لتحديد؟ وإن كانت الأخيرة فما المقصود بها على الدقة أهي القبائل أم الطرائق أم الظواهر؟
    ما مدى شيوع التواتر بين القراءات ، أهو مقصور على السبع أم العشر أم ما فوق ذلك؟
    أهي سواء في الفصاحة أم أن بينها فصيحًا وأفصح؟ ما موقف النحو والقياس من هذا التفاوت في الفصاحة؟ . .
    هذه وغيرها أسئلة كثيرة تتردد بينهم لا تفتر ، تبحث لها عن الجواب الأخير .
    وقد أحدث اختلاف القراءات وتعددها حركة علمية مباركة ، أسفرت عن أعداد من مجموعات الكتب القيمة . . بدأت بكتب جمعت القراءات ، فأخرى نهضت بالاحتجاج لها بلغة العرب ، وثالثة وصفت مرسوم مصاحف الأمصار ، ورابعة اهتمت بالنقط والشكل . . وبقي في الميدان زوايا يلفها بعض الغموض والاختلاف وتباين الآراء ، مما تعد رسالة شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية الآتي نصها حلقة في سلسلة الردود على تساؤلات الباحثين عن الحقيقة ، حيث أجاب فيها عن عدد من هذه التساؤلات .
    أما الرسالة فهي واحدة مما تضمه مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض من نفائس المخطوطات ، وتقع في سبع صفحات تضمها أربع ورقات ضمن مجموع يحمل رقم 3653 \ ف مصور عن الأصل في مكتبة تشستربتي ، كتبه بخط نسخي دقيق علي عبد الله الغزي سنة 859 هـ .
    ومما يعد نسخة قيمة أخرى لهذا النص ، ما تم نشره بعنوان (فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ) جـ13 \ 389- 404 فقد ضم الفاضل الشيخ عبد الرحمن العاصمي هذا النص إلى الكتاب بوصفه إحدى الفتاوى التي صدرت عن شيخ الإسلام آنذاك . . وقد أفدت منه في تصويب المواضع التي تأثرت بالرطوبة في الأصل لديّ .
    ولم يذكر الشيخ العاصمي مصادره ، غير أن الاختلاف الطفيف في بعض ألفاظ النصين يثبت أنه نسخة أخرى لهذه الرسالة ، مما تجد ثماره وأثره في المتن وبعض حواشي التحقيق .
    ومما يعد طرفا في هذا التوثيق نقول مطولة لمقاطع تامة من هذا النص ، احتج بها ابن الجزري مقرونة بنسبتها إلى ابن تيمية في كتابه (النشر في القراءات العشر 1 \ 39 وما بعدها) مما تجد الإشارة إليه في مواضعه بعد .
    وتبدأ الرسالة بالبسملة والدعاء فالنص على الأثر بلا عنوان يتقدمه ، ولا ضير في هذا ، لأن النص نفسه وما ورد فيه من عبارات صريحة أدلة ناصعة على صحة نسبته إلى الشيخ الإمام ابن تيمية ، مما يطالع القارئ منذ السطور الأولى .
    وقد لقيت هذه الرسالة من عناية العلماء عبر القرون ما يبدو أثره في الخاتم الرابض في نهايتها ، وجاء في نقشه للواقف ما نصه:
    "وقف سيد يوسف فضل الله ، إمام جامع سلطان محمد خان ، للولاة وللمدرسين المتأهلين ، في جامع المزبور 1145 " .
    أما مؤلف الرسالة فغني عن التعريف ، فهو أبرز قوة فاعلة في صياغة الحياة في دولة المماليك في القرن الثامن الهجري بميادينها: العلمية والفكرية والعامة . . مما تجده مبسوطا في مظانه ، وتؤكده مئات الكتب والرسائل التي كتبها بخطه في معالجة قضايا عصره ، رافعًا بقوة صوت الدين وموقفه منها ، مما يتأبى على الحصر " فكان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن ، وحكم أن أحدًا لا يعرف مثله " .
    ومات رحمه الله معتقلا بقلعة دمشق سنة 728 هـ ، فخرجت دمشق كلها في جنازته رضي الله تعالى عنه وأرضاه .

    النص المحقق

    (1 \ أ) بسم الله الرحمن الرحيم ، رب يسر

    ما يقول سيدي الشيخ- جمع الله له خير الدنيا والآخرة- في قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف .

    - ما المراد بهذه السبعة ؟
    - وهل هذه القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم وغيرهما هي الأحرف السبعة أو واحد منها ؟
    - وما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف؟
    - وهل تجوز القراءة برواية الأعمش وابن محيصن وغيرهما من القراءات الشاذة أو لا .
    - وإذا جازت القراءة بها ، فهل تجوز الصلاة بها أو لا ؟
    أفتونا مأجورين .

    أجاب ( الشيخ تقي الدين بن تيمية ) : .
    الحمد لله رب العالمين . هذه مسألة كبيرة ، فقد تكلم فيها أصناف العلماء من الفقهاء والقراء وأهل الحديث والتفسير والكلام وشرح الغريب وغيرهم حتى صنف فيها التصنيف المفرد ، ومن آخر ما أفرد في ذلك ما صنفه الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي المعروف بأبي شامة صاحب شرح الشاطبية .
    فأما ذكر أقاويل الناس وأدلتهم وتقرير الحق فيها مبسوطًا ؛ فيحتاج من ذكر الأحاديث الواردة في ذلك وذكر ألفاظها وسائر الأدلة ، إلى ما لا يتسع له هذا المكان . . ولا يليق بمثل هذا الجواب ، ولكن نذكر النكت الجامعة التي تنبه على المقصود بالجواب ، فنقول: لا نزاع بين العلماء المعتبرين بأن الأحرف السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها ليست هي قراءات القراء السبعة المشهورة ، بل أول من جمع قراءات هؤلاء هو الإمام أبو بكر بن مجاهد ، وكان على رأس المائة الثالثة ببغداد ، فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات: الحرمين والعراقين والشام ، إذ هذه الأمصار الخمسة [هي] التي خرج منها علم النبوة: من القرآن وتفسيره ، والحديث ، والفقه في الأعمال الباطنة والظاهرة ، وسائر العلوم الدينية .
    فلما أراد ذلك ، جمع قراءات سبعة مشاهير من أئمة قراء هذه الأمصار ، ليكون ذلك موافقًا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن ، لا لاعتقاده أو اعتماد غيره من العلماء أن القراءات السبع هي الحروف السبعة ، أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم .
    ولهذا قال من قال من أئمة القراء: لولا أن ابن مجاهد سبقني إلى حمزة لجعلت مكانه يعقوب الحضرمي إمام جامع البصرة ، وإمام قراء البصرة في زمانه في رأس المئتين .
    [و] لا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده ، بل قد يكون معناهما متفقًا أو متقاربًا . كما قال عبد الله بن مسعود : "إنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال " .
    وقد يكون معنى أحدهما ليس هو معنى الآخر ، لكن كلا المعنيين حق ، وهذا اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض . وهذا كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى (1 \ ب) الله عليه وسلم في هذا ، حديث: أنزل القرآن على سبعة أحرف : إن قلت : غفورا رحيما ، أو قلت : عزيزا حكيما ؛ فالله كذلك ، ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب ، أو آية عذاب بآية رحمة" ، وهذا كما في القراءات المشهورة: .
    إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا و {إلا أن يُخافا ألا يقيما} .
    و {وإن كان مكرهم لتَزول - ولتزول - من الجبال} .
    و {بل عجبتُ} و بَلْ عَجِبْتَ . ونحو ذلك .
    ومن القراءات ما يكون المعنى فيها: متفقا من وجه ، متباينا من وجه ، كقوله:
    {يخدعون} و {يخادعون} .
    و {يُكَذِّبون} و {يَكذِبون} .
    و {لمستم} و { لامستم } .
    حَتَّى يَطْهُرْنَ و {يَطَّهَرْن} .
    ونحو ذلك .
    فهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلها حق ، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية ، يجب الإيمان بها كلها ، واتباع ما تضمنه من المعنى علمًا وعملا ، لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظنا أن ذلك تعارض ، بل كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " من كفر بحرف منه فقد كفر به كله " .
    وأما ما اتحد لفظه ومعناه ، وإنما يتنوع صفة النطق به ، كالهمزات والمدَّات والإمالات ونقل الحركات والإظهار والإدغام والاختلاس وترقيق اللامات والراءات أو تغليظها ، ونحو ذلك مما تسمى القَرَأَة عامته الأصول ، فهذا أظهر وأبين في أنه ليس فيه تناقض ولا تضاد مما تنوع فيه اللفظ أو المعنى .
    إذ هذه الصفات المتنوعة في أداء اللفظ لا تخرجه عن أن يكون لفظًا واحدًا ولا يعد ذلك فيما اختلف لفظه واتحد معناه ، أو اختلف معناه من المترادف ونحوه ، ولهذا كان دخول هذا في حرف واحد من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها ؛ مما يتنوع فيه اللفظ أو المعنى وإن وافق رسم المصحف وهو ما يختلف فيه النَقْط أو الشكل .
    ولذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتبوعون من السلف والأئمة في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة في جميع أمصار المسلمين ، بل من ثبت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة ، أو قراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي ونحوهما ، كما ثبت عنده قراءة حمزة والكسائي - فله أن يقرأ بها بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع والخلاف .
    بل أكثر العلماء الأئمة - الذين أدركوا قراءة [ حمزة ] كسفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل وبشر بن الحارث وغيرهم- يختارون قراءة أبي جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح المدنيين ، وقراءة البصريين كشيوخ يعقوب بن إسحاق وغيرهم - على قراءة حمزة والكسائي . وللعلماء [الأئمة] في ذلك من الكلام ما هو معروف عند العلماء .
    ولهذا كان أئمة أهل العراق الذين ثبتت عندهم قراءات العشرة أو الأحد عشر كثبوت هذه السبعة- يجمعون ذلك في الكتب ، ويقرأونه في الصلاة وخارج الصلاة، وذلك متفق عليه بين العلماء لم ينكره أحد منهم .
    وأما الذي ذكره القاضي عياض ومن نقل (2 \ أ) من كلامه من الإنكار على ابن شنبوذ الذي كان يقرأ بالشواذ في الصلاة في أثناء المائة الرابعة ، وجرت له قضية مشهورة ، فإنما كان ذلك في القراءات الشاذة الخارجة عن المصحف كما سنبينه .
    ولم ينكر أحد من العلماء قراءة العشرة ، ولكن من لم يكن عالما بها ، أو لم تثبت عنده - كمن يكون في بلد من بلاد الإسلام بالمغرب أو غيره ، ولم يتصل به بعض هذه القراءات- فليس له أن يقرأ بما لا يعلمه منها ، [فإن] القراءة - كما قال زيد بن ثابت : سنة يأخذها الآخر عن الأول .
    كما أن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع الاستفتاحات في الصلاة ، ومن أنواع صفة الأذان والإقامة وصفة صلاة الخوف وغير ذلك ، كله حسن ، يشرع العمل به لمن علمه .
    وأما من علم نوعا ولم يعلم غيره فليس له أن يعدل عما علمه إلى ما لم يعلم ، وليس له أن ينكر على من علم ما لم يعلمه من ذلك ، ولا أن يخالفه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تختلفوا ، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا .
    وأما القراءة الشاذة الخارجة عن رسم المصحف العثماني ، مثل قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهما: ( والليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، والذكر والأنثى ) كما قد ثبت ذلك في الصحيحين .
    ومثل قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . وكقراءته: (إن كانت إلا زقية واحدة) ونحو ذلك ، فهذه إذا ثبتت عن بعض الصحابة فهل يجوز أن يقرأ بها في الصلاة؟ [ذلك] على قولين للعلماء - هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد - وروايتان عن مالك : :
    - إحداهما يجوز ذلك ، لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرأون بهذه الحروف في الصلاة .
    - والثانية : لا يجوز ذلك ، وهو قول أكثر العلماء؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن ثبتت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة ، فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم ، أن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل عام مرة ، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين .
    والعرضة الآخرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره ، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها في المصاحف ، وكتبها أبو بكر وعمر في خلافة أبي بكر في صحف أمر زيد بن ثابت بكتابتها .
    ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار ، وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة علي وغيره .
    وهذا النزاع لا بد أن يبنى على الأصل الذي سأل عنه السائل ، وهو أن القراءات السبع: هل هي حرف من الحروف السبعة أو ، لا ؟ . فالذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة أنها حرف من الحروف السبعة ، بل يقولون: إن مصحف عثمان هو أحد الحروف السبعة ، وهو متضمن للعرضة الآخرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل ، والأحاديث (2 \ ب) والآثار المشهورة المستفيضة تدل على هذا القول .
    وذهب طوائف من الفقهاء والقراء وأهل الكلام إلى أن هذا المصحف مشتمل على الأحرف السبعة ، وقرر ذلك طوائف من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر بن الباقلاني وغيره ، بناء على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الأحرف السبعة ، وقد اتفقوا على نقل هذا المصحف الإمام العثماني وترك ما سواه ، حيث أمر عثمان بنقل القرآن من الصحف التي كان أبو بكر وعمر كتبا القرآن فيها . ثم أرسل عثمان - بمشاورة الصحابة - إلى كل مصر من أمصار المسلمين بمصحف ، وأمر بترك ما سوى ذلك . قال هؤلاء: ولا يجوز أن ينهى عن القراءة ببعض الأحرف السبعة .
    ومن نصر قول الأولين يجيب تارة بما ذكره محمد بن جرير وغيره من أن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبًا على الأمة ، إنما كان جائزا لهم مرخصا لهم فيه ، وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه ، كما أن ترتيب السور لم يكن واجبًا عليهم منصوصًا ، بل مفوضًا إلى اجتهادهم ، ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب مصحف زيد ، وكذلك مصحف غيره ، وأما ترتيب آي السور فهو منزل منصوص عليه ، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية في الرسم كما قدموا سورة على سورة ، لأن ترتيب الآيات مأمور به نصًّا ، وأما ترتيب السور فمفوض إلى اجتهادهم ، قالوا: فكذلك الأحرف السبعة . فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على حرف واحد ، اجتمعوا على ذلك اجتماعًا سائغًا- وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة- ولم يكن في ذلك ترك لواجب ولا فعل لمحظور .
    ومن هؤلاء من يقول: إن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام ، لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا ، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة ، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم وهو أرفق بهم- أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الآخرة ، ويقولون: إنه نسخ ما سوى ذلك ، وهؤلاء يوافق قولهم قول من يقول: إن حروف أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهما - مما يخالف رسم هذا المصحف- منسوخة .
    وأما من قال عن ابن مسعود : إنه يجوز القراءة بالمعنى ؛ فقد كذب عليه . وإنما قال: "قد نظرت إلى القرأة فرأيت قراءتهم متقاربة ، وإنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال . فاقرءوا كما علمتم " أو كما قال .
    فمن جوز القراءة بما يخرج عن المصحف مما ثبت عن الصحابة قال: يجوز ذلك لأنه من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها .
    ومن لم يجوزه فله أربعة مآخذ:
    - تارة يقول: ليس هو من الحروف السبعة .
    - وتارة يقول: هو من الحروف المنسوخة .
    - وتارة يقول: هو مما انعقد إجماع الصحابة على الإعراض عنه .
    - وتارة يقول: لم ينقل إلينا نقلا يثبت بمثله القرآن .
    وهذا هو الفرق بين المتقدمين والمتأخرين (3 \ أ) .
    ولهذا كان في المسألة قول ثالث وهو اختيار جدي أبي البركات أنه: إن قرأ بهذه القراءات في القراءة الواجبة - وهي الفاتحة عند القدرة عليها - لم تصح صلاته ، لأنه لم يتيقن أنه أدى الواجب من القراءة ، لعدم ثبوت القرآن بذلك . وإن قرأ بها فيما لا يجب لم تبطل صلاته ، لأنه لم يتيقن أنه أتى في الصلاة بمبطل ، لجواز أن يكون ذلك من الحروف السبعة التي أنزل عليها .
    وهذا القول ينبني على أصل ، وهو أن ما لم يثبت كونه من الحروف السبعة فهل يجب القطع بكونه ليس منها؟
    فالذي عليه جمهور العلماء أنه لا يجب القطع بذلك ، إذ ليس ذلك مما أوجب علينا أن يكون العلم به في النفي والإثبات قطعيا .
    وذهب فريق من أهل الكلام إلى وجوب القطع بنفيه ، حتى قطع بعض هؤلاء كالقاضي أبي بكر بخطأ الشافعي وغيره ممن أثبت البسملة [آية] ، من القرآن في غير سورة النمل لزعمهم أن ما كان من موارد الاجتهاد في القرآن فإنه يجب القطع بنفيه .
    والصواب القطع بخطأ هؤلاء ، وأن البسملة آية من كتاب الله حيث كتبها الصحابة في المصحف ؛ إذا لم يكتبوا فيه إلا القرآن وجردوه مما ليس منه كالتخميس والتعشير وأسماء السور . ولكن مع ذلك لا يقال: هي من السورة التي بعدها ، كما [أنها] ليست من السورة التي قبلها ، بل هي كما كتبت - آية أنزلها الله في أول كل سورة وإن لم تكن من السورة ، وهذا أعدل الأقوال الثلاثة في هذه المسألة .
    وسواء قيل بالقطع في النفي أو الإثبات ؛ فذلك لا يمنع كونها من موارد الاجتهاد التي لا تكفير ولا تفسيق فيها للنافي ولا للمثبت . بل قد يقال ما قاله طائفة من العلماء: إن كل واحد من القولين حق ، وإنها آية من القرآن في بعض القراءات- وهي قراءة الذين يفصلون بها بين السورتين - وليست آية في بعض القراءات ، وهي قراءة الذين يصلون ولا يفصلون بها
    وأما قول السائل: ما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف؟
    فهذا مرجعه إلى النقل واللغة العربية لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك كله ، إذ ليس لأحد أن يقرأ برأيه المجرد ، بل القراءة سنة متبعة وهم إذا اتفقوا على اتباع القرآن المكتوب في المصحف الإمام وقد أقرأ بعضهم بالياء وبعضهم بالتاء- لم يكن واحد منهما خارجا عن المصحف .
    ومما يوضح ذلك أنهم يتفقون في بعض المواضع على ياء أو تاء ، ويتنوعون في بعض ، كما اتفقوا في قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ في موضع ، وتنوعوا في موضعين .
    وقد بينا أن القراءتين كالآيتين ، فزيادة القراءات كزيادة الآيات ، لكن إذا كان الخط واحدا واللفظ محتملا كان ذاك أخصر في الرسم ، والاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب لا على حفظ المصاحف ، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم . فقلت: أي رب إذن يثلغوا رأسي ، فقال: إني مبتليك ومبتل بك ، ومنزل عليك كتابًا لا يغسله الماء ، تقرأه (3 \ ب) نائما ويقظان . فابعث جندا أبعث مثليهم ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، وأنفق أنفق عليك .
    فأخبر أن كتابه لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء ، بل يقرأه في كل حال ، كما جاء في نعت أمته: أناجيلهم في صدورهم بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب ولا يقرءونه كله إلا نظرا ، لا عن ظهر قلب .
    وقد ثبت في الصحيح أنه جمع القرآن كله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة: كالأربعة الذين من الأنصار ، وكعبد الله بن عمرو ، فتبين بما ذكرناه أن القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم . . ليست هي الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها ، وذلك باتفاق علماء السلف والخلف ، وكذلك ليست هذه القراءات السبع هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها ، باتفاق العلماء المعتبرين ، بل القراءات الثابتة عن أئمة القراءة كالأعمش ويعقوب وخلف وأبي جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح ونحوهم هي بمنزلة القراءات الثابتة عن هؤلاء السبعة ، عند من ثبت ذلك عنده كما ثبت ذلك .
    وهذا أيضًا مما لم يتنازع فيه الأئمة المتبوعون من أئمة الفقهاء والقراء وغيرهم ، وإنما تنازع الناس من الخلف في المصحف العثماني الإمام ، الذي أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان والأمة بعدهم- (هل هو بما فيه من قراءة السبعة وتمام العشرة وغير ذلك ، حرف من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها) أو هو مجموع الأحرف السبعة؟ على قولين مشهورين:
    - الأول: قول أئمة السلف والعلماء .
    - الثاني: قول طوائف من أهل الكلام والقراء وغيرهم .
    وهم متفقون على أن الأحرف السبعة لا يخالف بعضها بعضًا خلافا يتضاد فيه المعنى ويتناقض ، بل يصدق بعضها بعضًا كما تصدق الآيات بعضها بعضًا .
    وسبب تنوع القراءات فيما احتمله خط المصحف هو تجويز الشارع وتسويغه ذلك لهم ، إذ مرجع ذلك إلى السنة والاتباع لا إلى الرأي والابتداع .
    أما إذا قيل: إن ذلك هي الأحرف السبعة فظاهر ، وكذلك بطريق الأولى إذا قيل: إن ذلك حرف من الأحرف السبعة . فإنه إذا كان قد سوغ لهم أن يقرءوه على سبعة أحرف كلها شاف كاف مع تنوع الأحرف في الرسم - فلأن يسوغ ذلك مع اتفاق ذلك في الرسم وتنوعه في اللفظ أولى وأحرى .
    وهذا من أسباب تركهم المصاحف - أول ما كتبت - غير مشكولة ولا منقوطة ، لتكون صورة الرسم محتملة لأمرين: كالتاء والياء ، والفتح والضم . وهم يضبطون
    المنقولين المسموعين المتلوين - شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المنقولين المعقولين المفهومين .
    فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلقوا عنه ما أمره الله بتبليغه إليهم من القرآن لفظه ومعناه جميعًا ، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي .
    - وهو الذي روى عن عثمان رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه كما رواه البخاري في صحيحه ، وكان يقرئ القرآن أربعين سنة ، قال : -
    "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا: عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما ، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل . . قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا" .
    ولهذا دخل في معنى قوله : خيركم من تعلم القرآن وعلمه تعليم حروفه ومعانيه جميعا ، بل تعليم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه ، وذلك هو الذي يزيد الإيمان . كما قال جندب بن عبد الله وعبد الله بن عمر (10) وغيرهما:
    "تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا ، وإنكم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان " .
    وفي الصحيحين عن حذيفة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين ، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر ؛ حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ونزل القرآن . . . وذكر الحديث بطوله ، ولا تتسع هذه الورقة لذكر ذلك .
    وإنما المقصود التنبيه على أن ذلك كله مما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس ، وبلغنا أصحابه عنه الإيمان والقرآن حروفه ومعانيه ، وذلك مما أوحاه الله إليه . كما قال تعالى : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا .
    وتجوز القراءة في الصلاة وخارجها بالقراءات الثابتة الموافقة لرسم المصحف كما ثبتت هذه القراءات وليست بشاذة حينئذ . والله أعلم بالصواب .
    تمت بحمد الله وعونه وحسن توفيقه في يوم الثلاثاء سادس عشرين جماد[ى] الأولى من شهور سنة تسع وخمسين وثمانمائة .

    مصادر البحث والتحقيق

    * الإبانة عن معاني القراءات . لمكي القيسي . تح د . محيي الدين رمضان . دار المأمون للتراث بدمشق 1399 هـ - 1979 م .
    * إبراز المعاني من حرز الأماني لأبي شامة الدمشقي . البابي الحلبي بمصر 1349 هـ.
    * الإصابة في تمييز الصحابة . لابن حجر العسقلاني .
    الطبعة الأولى - مطبعة السعادة بمصر 1328 هـ .
    * الأعلام . للزركلي . الطبعة الثالثة .
    * تاريخ بغداد . للخطيب البغدادي . دار الكتاب العربي - بيروت .
    * تفسير القرطبي - مصورة عن طبعة دار الكتب .
    * التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو الداني . تح أوتوبرتزل ط . استانبول 1930 م .
    * السبعة لابن مجاهد . تح د . شوقي ضيف ط . الثانية - دار المعارف بالقاهرة 1400 هـ * الشاطبية . وشرحها للشيخ علي الضباع .
    مكتبة صبيح بالقاهرة 1381 هـ - 1961م .
    * صحيح البخاري . مصورة الطبعة الأولى 1315 هـ بمصر .
    * صحيح مسلم بشرح النووي - المطبعة المصرية ومكتبتها .
    * غاية النهاية في طبقات القراء . لابن الجزري . تح . برجستراسر . مصورة الطبعة الأولى 1351م هـ - 1932 .
    * كتاب سيبويه . مصورة طبعة بولاق .
    * لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني تح الشيخ عامر عثمان ود . عبد الصبور شاهين بالقاهرة 1392 هـ - 1972 .
    * لسان العرب لابن منظور . مصورة طبعة بولاق 1300 هـ .
    * مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية . جمع وترتيب عبد الرحمن العاصمي وابنه محمد .
    مصورة الطبعة الأولى 1398 هـ .
    * المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز . لأبي شامة الدمشقي تح طيار آلتي قولاج ط . دار صادر - بيروت 1395 هـ - 1975م .
    * مسند الإمام أحمد . مصورة الطبعة الأولى . الميمنية بمصر 1313 هـ .
    * منجد المقرئين ومرشد الطالبين . لابن الجزري . مكتبة القدسي 1350 هـ .
    * النشر في القراءات العشر . لابن الجزري . تح الشيخ علي الضباع .
    * وفيات الأعيان لابن خلكان . تح د . إحسان عباس . دار الثقافة ببيروت .
    رسالة لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية أجاب فيها عن أسئلة في علم القراءات حققها وقدم لها الدكتور : محمد علي سلطاني (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثالث عشر - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1405هـ) الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين . وبعد : فإن القراءات القرآنية من أكثر علوم القرآن والعربية أهمية وأجلها شأنا . . أما أهميتها من حيث اللغة فتعود إلى جانبين كبيرين: - أولهما ما تقدمه للباحثين في نشأة اللغات وتطورها وتاريخها من الظواهر اللغوية الحية على اختلاف صنوفها: في الحرف والصوت والكلمة والتركيب . . - وثانيهما ما تقدمه للنحو وفقه اللغة من الشواهد والنماذج مما لا يبلغ بعض شأوه شواهد العربية الأخرى في الشعر والخطب والأمثال والأقوال . . وذلك بسبب مما حظيت به القراءات منذ نشأتها من عناية وضبط وتوثيق . . بالتلقي المتثبت ، والمشافهة الواعية ، والرواية المتواترة أو النقل المستفيض ، والتدوين المقرون بالوصف الدقيق والأسانيد المدروسة الموثوقة . . وأما رفعة شأنها فلارتباطها بالقرآن العظيم منهاج المتقين ومعراج المرتقين ، مصداقًا لقوله عليه الصلاة والسلام: خيركم من تعلم القرآن وعلمه . غير أن هذا الميدان الجليل بما اتسم به من الغنى اللغوي الفريد ، نتيجة التيسير الذي عبر عنه الحديث النبوي : أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه ؛ أثار قدرًا غير قليل من القضايا التي ارتبطت بعلم القراءات ، وغدت مع الزمن أقرب إلى المشكلات ، فشغلت العلماء والباحثين عبر القرون - وما يزال بعضها يشغلهم- للوصول إلى المعرفة اليقينية بشأنها . . من ذلك قولهم: ما تفسير الأحرف السبعة؟ أهي للتكثير أم لتحديد؟ وإن كانت الأخيرة فما المقصود بها على الدقة أهي القبائل أم الطرائق أم الظواهر؟ ما مدى شيوع التواتر بين القراءات ، أهو مقصور على السبع أم العشر أم ما فوق ذلك؟ أهي سواء في الفصاحة أم أن بينها فصيحًا وأفصح؟ ما موقف النحو والقياس من هذا التفاوت في الفصاحة؟ . . هذه وغيرها أسئلة كثيرة تتردد بينهم لا تفتر ، تبحث لها عن الجواب الأخير . وقد أحدث اختلاف القراءات وتعددها حركة علمية مباركة ، أسفرت عن أعداد من مجموعات الكتب القيمة . . بدأت بكتب جمعت القراءات ، فأخرى نهضت بالاحتجاج لها بلغة العرب ، وثالثة وصفت مرسوم مصاحف الأمصار ، ورابعة اهتمت بالنقط والشكل . . وبقي في الميدان زوايا يلفها بعض الغموض والاختلاف وتباين الآراء ، مما تعد رسالة شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية الآتي نصها حلقة في سلسلة الردود على تساؤلات الباحثين عن الحقيقة ، حيث أجاب فيها عن عدد من هذه التساؤلات . أما الرسالة فهي واحدة مما تضمه مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض من نفائس المخطوطات ، وتقع في سبع صفحات تضمها أربع ورقات ضمن مجموع يحمل رقم 3653 \ ف مصور عن الأصل في مكتبة تشستربتي ، كتبه بخط نسخي دقيق علي عبد الله الغزي سنة 859 هـ . ومما يعد نسخة قيمة أخرى لهذا النص ، ما تم نشره بعنوان (فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ) جـ13 \ 389- 404 فقد ضم الفاضل الشيخ عبد الرحمن العاصمي هذا النص إلى الكتاب بوصفه إحدى الفتاوى التي صدرت عن شيخ الإسلام آنذاك . . وقد أفدت منه في تصويب المواضع التي تأثرت بالرطوبة في الأصل لديّ . ولم يذكر الشيخ العاصمي مصادره ، غير أن الاختلاف الطفيف في بعض ألفاظ النصين يثبت أنه نسخة أخرى لهذه الرسالة ، مما تجد ثماره وأثره في المتن وبعض حواشي التحقيق . ومما يعد طرفا في هذا التوثيق نقول مطولة لمقاطع تامة من هذا النص ، احتج بها ابن الجزري مقرونة بنسبتها إلى ابن تيمية في كتابه (النشر في القراءات العشر 1 \ 39 وما بعدها) مما تجد الإشارة إليه في مواضعه بعد . وتبدأ الرسالة بالبسملة والدعاء فالنص على الأثر بلا عنوان يتقدمه ، ولا ضير في هذا ، لأن النص نفسه وما ورد فيه من عبارات صريحة أدلة ناصعة على صحة نسبته إلى الشيخ الإمام ابن تيمية ، مما يطالع القارئ منذ السطور الأولى . وقد لقيت هذه الرسالة من عناية العلماء عبر القرون ما يبدو أثره في الخاتم الرابض في نهايتها ، وجاء في نقشه للواقف ما نصه: "وقف سيد يوسف فضل الله ، إمام جامع سلطان محمد خان ، للولاة وللمدرسين المتأهلين ، في جامع المزبور 1145 " . أما مؤلف الرسالة فغني عن التعريف ، فهو أبرز قوة فاعلة في صياغة الحياة في دولة المماليك في القرن الثامن الهجري بميادينها: العلمية والفكرية والعامة . . مما تجده مبسوطا في مظانه ، وتؤكده مئات الكتب والرسائل التي كتبها بخطه في معالجة قضايا عصره ، رافعًا بقوة صوت الدين وموقفه منها ، مما يتأبى على الحصر " فكان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن ، وحكم أن أحدًا لا يعرف مثله " . ومات رحمه الله معتقلا بقلعة دمشق سنة 728 هـ ، فخرجت دمشق كلها في جنازته رضي الله تعالى عنه وأرضاه . النص المحقق (1 \ أ) بسم الله الرحمن الرحيم ، رب يسر ما يقول سيدي الشيخ- جمع الله له خير الدنيا والآخرة- في قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف . - ما المراد بهذه السبعة ؟ - وهل هذه القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم وغيرهما هي الأحرف السبعة أو واحد منها ؟ - وما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف؟ - وهل تجوز القراءة برواية الأعمش وابن محيصن وغيرهما من القراءات الشاذة أو لا . - وإذا جازت القراءة بها ، فهل تجوز الصلاة بها أو لا ؟ أفتونا مأجورين . أجاب ( الشيخ تقي الدين بن تيمية ) : . الحمد لله رب العالمين . هذه مسألة كبيرة ، فقد تكلم فيها أصناف العلماء من الفقهاء والقراء وأهل الحديث والتفسير والكلام وشرح الغريب وغيرهم حتى صنف فيها التصنيف المفرد ، ومن آخر ما أفرد في ذلك ما صنفه الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي المعروف بأبي شامة صاحب شرح الشاطبية . فأما ذكر أقاويل الناس وأدلتهم وتقرير الحق فيها مبسوطًا ؛ فيحتاج من ذكر الأحاديث الواردة في ذلك وذكر ألفاظها وسائر الأدلة ، إلى ما لا يتسع له هذا المكان . . ولا يليق بمثل هذا الجواب ، ولكن نذكر النكت الجامعة التي تنبه على المقصود بالجواب ، فنقول: لا نزاع بين العلماء المعتبرين بأن الأحرف السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها ليست هي قراءات القراء السبعة المشهورة ، بل أول من جمع قراءات هؤلاء هو الإمام أبو بكر بن مجاهد ، وكان على رأس المائة الثالثة ببغداد ، فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات: الحرمين والعراقين والشام ، إذ هذه الأمصار الخمسة [هي] التي خرج منها علم النبوة: من القرآن وتفسيره ، والحديث ، والفقه في الأعمال الباطنة والظاهرة ، وسائر العلوم الدينية . فلما أراد ذلك ، جمع قراءات سبعة مشاهير من أئمة قراء هذه الأمصار ، ليكون ذلك موافقًا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن ، لا لاعتقاده أو اعتماد غيره من العلماء أن القراءات السبع هي الحروف السبعة ، أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم . ولهذا قال من قال من أئمة القراء: لولا أن ابن مجاهد سبقني إلى حمزة لجعلت مكانه يعقوب الحضرمي إمام جامع البصرة ، وإمام قراء البصرة في زمانه في رأس المئتين . [و] لا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده ، بل قد يكون معناهما متفقًا أو متقاربًا . كما قال عبد الله بن مسعود : "إنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال " . وقد يكون معنى أحدهما ليس هو معنى الآخر ، لكن كلا المعنيين حق ، وهذا اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض . وهذا كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى (1 \ ب) الله عليه وسلم في هذا ، حديث: أنزل القرآن على سبعة أحرف : إن قلت : غفورا رحيما ، أو قلت : عزيزا حكيما ؛ فالله كذلك ، ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب ، أو آية عذاب بآية رحمة" ، وهذا كما في القراءات المشهورة: . إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا و {إلا أن يُخافا ألا يقيما} . و {وإن كان مكرهم لتَزول - ولتزول - من الجبال} . و {بل عجبتُ} و بَلْ عَجِبْتَ . ونحو ذلك . ومن القراءات ما يكون المعنى فيها: متفقا من وجه ، متباينا من وجه ، كقوله: {يخدعون} و {يخادعون} . و {يُكَذِّبون} و {يَكذِبون} . و {لمستم} و { لامستم } . حَتَّى يَطْهُرْنَ و {يَطَّهَرْن} . ونحو ذلك . فهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلها حق ، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية ، يجب الإيمان بها كلها ، واتباع ما تضمنه من المعنى علمًا وعملا ، لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظنا أن ذلك تعارض ، بل كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " من كفر بحرف منه فقد كفر به كله " . وأما ما اتحد لفظه ومعناه ، وإنما يتنوع صفة النطق به ، كالهمزات والمدَّات والإمالات ونقل الحركات والإظهار والإدغام والاختلاس وترقيق اللامات والراءات أو تغليظها ، ونحو ذلك مما تسمى القَرَأَة عامته الأصول ، فهذا أظهر وأبين في أنه ليس فيه تناقض ولا تضاد مما تنوع فيه اللفظ أو المعنى . إذ هذه الصفات المتنوعة في أداء اللفظ لا تخرجه عن أن يكون لفظًا واحدًا ولا يعد ذلك فيما اختلف لفظه واتحد معناه ، أو اختلف معناه من المترادف ونحوه ، ولهذا كان دخول هذا في حرف واحد من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها ؛ مما يتنوع فيه اللفظ أو المعنى وإن وافق رسم المصحف وهو ما يختلف فيه النَقْط أو الشكل . ولذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتبوعون من السلف والأئمة في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة في جميع أمصار المسلمين ، بل من ثبت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة ، أو قراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي ونحوهما ، كما ثبت عنده قراءة حمزة والكسائي - فله أن يقرأ بها بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع والخلاف . بل أكثر العلماء الأئمة - الذين أدركوا قراءة [ حمزة ] كسفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل وبشر بن الحارث وغيرهم- يختارون قراءة أبي جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح المدنيين ، وقراءة البصريين كشيوخ يعقوب بن إسحاق وغيرهم - على قراءة حمزة والكسائي . وللعلماء [الأئمة] في ذلك من الكلام ما هو معروف عند العلماء . ولهذا كان أئمة أهل العراق الذين ثبتت عندهم قراءات العشرة أو الأحد عشر كثبوت هذه السبعة- يجمعون ذلك في الكتب ، ويقرأونه في الصلاة وخارج الصلاة، وذلك متفق عليه بين العلماء لم ينكره أحد منهم . وأما الذي ذكره القاضي عياض ومن نقل (2 \ أ) من كلامه من الإنكار على ابن شنبوذ الذي كان يقرأ بالشواذ في الصلاة في أثناء المائة الرابعة ، وجرت له قضية مشهورة ، فإنما كان ذلك في القراءات الشاذة الخارجة عن المصحف كما سنبينه . ولم ينكر أحد من العلماء قراءة العشرة ، ولكن من لم يكن عالما بها ، أو لم تثبت عنده - كمن يكون في بلد من بلاد الإسلام بالمغرب أو غيره ، ولم يتصل به بعض هذه القراءات- فليس له أن يقرأ بما لا يعلمه منها ، [فإن] القراءة - كما قال زيد بن ثابت : سنة يأخذها الآخر عن الأول . كما أن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع الاستفتاحات في الصلاة ، ومن أنواع صفة الأذان والإقامة وصفة صلاة الخوف وغير ذلك ، كله حسن ، يشرع العمل به لمن علمه . وأما من علم نوعا ولم يعلم غيره فليس له أن يعدل عما علمه إلى ما لم يعلم ، وليس له أن ينكر على من علم ما لم يعلمه من ذلك ، ولا أن يخالفه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تختلفوا ، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا . وأما القراءة الشاذة الخارجة عن رسم المصحف العثماني ، مثل قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهما: ( والليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، والذكر والأنثى ) كما قد ثبت ذلك في الصحيحين . ومثل قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . وكقراءته: (إن كانت إلا زقية واحدة) ونحو ذلك ، فهذه إذا ثبتت عن بعض الصحابة فهل يجوز أن يقرأ بها في الصلاة؟ [ذلك] على قولين للعلماء - هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد - وروايتان عن مالك : : - إحداهما يجوز ذلك ، لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرأون بهذه الحروف في الصلاة . - والثانية : لا يجوز ذلك ، وهو قول أكثر العلماء؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن ثبتت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة ، فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم ، أن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل عام مرة ، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين . والعرضة الآخرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره ، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها في المصاحف ، وكتبها أبو بكر وعمر في خلافة أبي بكر في صحف أمر زيد بن ثابت بكتابتها . ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار ، وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة علي وغيره . وهذا النزاع لا بد أن يبنى على الأصل الذي سأل عنه السائل ، وهو أن القراءات السبع: هل هي حرف من الحروف السبعة أو ، لا ؟ . فالذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة أنها حرف من الحروف السبعة ، بل يقولون: إن مصحف عثمان هو أحد الحروف السبعة ، وهو متضمن للعرضة الآخرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل ، والأحاديث (2 \ ب) والآثار المشهورة المستفيضة تدل على هذا القول . وذهب طوائف من الفقهاء والقراء وأهل الكلام إلى أن هذا المصحف مشتمل على الأحرف السبعة ، وقرر ذلك طوائف من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر بن الباقلاني وغيره ، بناء على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الأحرف السبعة ، وقد اتفقوا على نقل هذا المصحف الإمام العثماني وترك ما سواه ، حيث أمر عثمان بنقل القرآن من الصحف التي كان أبو بكر وعمر كتبا القرآن فيها . ثم أرسل عثمان - بمشاورة الصحابة - إلى كل مصر من أمصار المسلمين بمصحف ، وأمر بترك ما سوى ذلك . قال هؤلاء: ولا يجوز أن ينهى عن القراءة ببعض الأحرف السبعة . ومن نصر قول الأولين يجيب تارة بما ذكره محمد بن جرير وغيره من أن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبًا على الأمة ، إنما كان جائزا لهم مرخصا لهم فيه ، وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه ، كما أن ترتيب السور لم يكن واجبًا عليهم منصوصًا ، بل مفوضًا إلى اجتهادهم ، ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب مصحف زيد ، وكذلك مصحف غيره ، وأما ترتيب آي السور فهو منزل منصوص عليه ، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية في الرسم كما قدموا سورة على سورة ، لأن ترتيب الآيات مأمور به نصًّا ، وأما ترتيب السور فمفوض إلى اجتهادهم ، قالوا: فكذلك الأحرف السبعة . فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على حرف واحد ، اجتمعوا على ذلك اجتماعًا سائغًا- وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة- ولم يكن في ذلك ترك لواجب ولا فعل لمحظور . ومن هؤلاء من يقول: إن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام ، لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا ، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة ، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم وهو أرفق بهم- أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الآخرة ، ويقولون: إنه نسخ ما سوى ذلك ، وهؤلاء يوافق قولهم قول من يقول: إن حروف أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهما - مما يخالف رسم هذا المصحف- منسوخة . وأما من قال عن ابن مسعود : إنه يجوز القراءة بالمعنى ؛ فقد كذب عليه . وإنما قال: "قد نظرت إلى القرأة فرأيت قراءتهم متقاربة ، وإنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال . فاقرءوا كما علمتم " أو كما قال . فمن جوز القراءة بما يخرج عن المصحف مما ثبت عن الصحابة قال: يجوز ذلك لأنه من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها . ومن لم يجوزه فله أربعة مآخذ: - تارة يقول: ليس هو من الحروف السبعة . - وتارة يقول: هو من الحروف المنسوخة . - وتارة يقول: هو مما انعقد إجماع الصحابة على الإعراض عنه . - وتارة يقول: لم ينقل إلينا نقلا يثبت بمثله القرآن . وهذا هو الفرق بين المتقدمين والمتأخرين (3 \ أ) . ولهذا كان في المسألة قول ثالث وهو اختيار جدي أبي البركات أنه: إن قرأ بهذه القراءات في القراءة الواجبة - وهي الفاتحة عند القدرة عليها - لم تصح صلاته ، لأنه لم يتيقن أنه أدى الواجب من القراءة ، لعدم ثبوت القرآن بذلك . وإن قرأ بها فيما لا يجب لم تبطل صلاته ، لأنه لم يتيقن أنه أتى في الصلاة بمبطل ، لجواز أن يكون ذلك من الحروف السبعة التي أنزل عليها . وهذا القول ينبني على أصل ، وهو أن ما لم يثبت كونه من الحروف السبعة فهل يجب القطع بكونه ليس منها؟ فالذي عليه جمهور العلماء أنه لا يجب القطع بذلك ، إذ ليس ذلك مما أوجب علينا أن يكون العلم به في النفي والإثبات قطعيا . وذهب فريق من أهل الكلام إلى وجوب القطع بنفيه ، حتى قطع بعض هؤلاء كالقاضي أبي بكر بخطأ الشافعي وغيره ممن أثبت البسملة [آية] ، من القرآن في غير سورة النمل لزعمهم أن ما كان من موارد الاجتهاد في القرآن فإنه يجب القطع بنفيه . والصواب القطع بخطأ هؤلاء ، وأن البسملة آية من كتاب الله حيث كتبها الصحابة في المصحف ؛ إذا لم يكتبوا فيه إلا القرآن وجردوه مما ليس منه كالتخميس والتعشير وأسماء السور . ولكن مع ذلك لا يقال: هي من السورة التي بعدها ، كما [أنها] ليست من السورة التي قبلها ، بل هي كما كتبت - آية أنزلها الله في أول كل سورة وإن لم تكن من السورة ، وهذا أعدل الأقوال الثلاثة في هذه المسألة . وسواء قيل بالقطع في النفي أو الإثبات ؛ فذلك لا يمنع كونها من موارد الاجتهاد التي لا تكفير ولا تفسيق فيها للنافي ولا للمثبت . بل قد يقال ما قاله طائفة من العلماء: إن كل واحد من القولين حق ، وإنها آية من القرآن في بعض القراءات- وهي قراءة الذين يفصلون بها بين السورتين - وليست آية في بعض القراءات ، وهي قراءة الذين يصلون ولا يفصلون بها وأما قول السائل: ما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف؟ فهذا مرجعه إلى النقل واللغة العربية لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك كله ، إذ ليس لأحد أن يقرأ برأيه المجرد ، بل القراءة سنة متبعة وهم إذا اتفقوا على اتباع القرآن المكتوب في المصحف الإمام وقد أقرأ بعضهم بالياء وبعضهم بالتاء- لم يكن واحد منهما خارجا عن المصحف . ومما يوضح ذلك أنهم يتفقون في بعض المواضع على ياء أو تاء ، ويتنوعون في بعض ، كما اتفقوا في قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ في موضع ، وتنوعوا في موضعين . وقد بينا أن القراءتين كالآيتين ، فزيادة القراءات كزيادة الآيات ، لكن إذا كان الخط واحدا واللفظ محتملا كان ذاك أخصر في الرسم ، والاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب لا على حفظ المصاحف ، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم . فقلت: أي رب إذن يثلغوا رأسي ، فقال: إني مبتليك ومبتل بك ، ومنزل عليك كتابًا لا يغسله الماء ، تقرأه (3 \ ب) نائما ويقظان . فابعث جندا أبعث مثليهم ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، وأنفق أنفق عليك . فأخبر أن كتابه لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء ، بل يقرأه في كل حال ، كما جاء في نعت أمته: أناجيلهم في صدورهم بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب ولا يقرءونه كله إلا نظرا ، لا عن ظهر قلب . وقد ثبت في الصحيح أنه جمع القرآن كله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة: كالأربعة الذين من الأنصار ، وكعبد الله بن عمرو ، فتبين بما ذكرناه أن القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم . . ليست هي الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها ، وذلك باتفاق علماء السلف والخلف ، وكذلك ليست هذه القراءات السبع هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها ، باتفاق العلماء المعتبرين ، بل القراءات الثابتة عن أئمة القراءة كالأعمش ويعقوب وخلف وأبي جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح ونحوهم هي بمنزلة القراءات الثابتة عن هؤلاء السبعة ، عند من ثبت ذلك عنده كما ثبت ذلك . وهذا أيضًا مما لم يتنازع فيه الأئمة المتبوعون من أئمة الفقهاء والقراء وغيرهم ، وإنما تنازع الناس من الخلف في المصحف العثماني الإمام ، الذي أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان والأمة بعدهم- (هل هو بما فيه من قراءة السبعة وتمام العشرة وغير ذلك ، حرف من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها) أو هو مجموع الأحرف السبعة؟ على قولين مشهورين: - الأول: قول أئمة السلف والعلماء . - الثاني: قول طوائف من أهل الكلام والقراء وغيرهم . وهم متفقون على أن الأحرف السبعة لا يخالف بعضها بعضًا خلافا يتضاد فيه المعنى ويتناقض ، بل يصدق بعضها بعضًا كما تصدق الآيات بعضها بعضًا . وسبب تنوع القراءات فيما احتمله خط المصحف هو تجويز الشارع وتسويغه ذلك لهم ، إذ مرجع ذلك إلى السنة والاتباع لا إلى الرأي والابتداع . أما إذا قيل: إن ذلك هي الأحرف السبعة فظاهر ، وكذلك بطريق الأولى إذا قيل: إن ذلك حرف من الأحرف السبعة . فإنه إذا كان قد سوغ لهم أن يقرءوه على سبعة أحرف كلها شاف كاف مع تنوع الأحرف في الرسم - فلأن يسوغ ذلك مع اتفاق ذلك في الرسم وتنوعه في اللفظ أولى وأحرى . وهذا من أسباب تركهم المصاحف - أول ما كتبت - غير مشكولة ولا منقوطة ، لتكون صورة الرسم محتملة لأمرين: كالتاء والياء ، والفتح والضم . وهم يضبطون المنقولين المسموعين المتلوين - شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المنقولين المعقولين المفهومين . فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلقوا عنه ما أمره الله بتبليغه إليهم من القرآن لفظه ومعناه جميعًا ، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي . - وهو الذي روى عن عثمان رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه كما رواه البخاري في صحيحه ، وكان يقرئ القرآن أربعين سنة ، قال : - "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا: عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما ، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل . . قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا" . ولهذا دخل في معنى قوله : خيركم من تعلم القرآن وعلمه تعليم حروفه ومعانيه جميعا ، بل تعليم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه ، وذلك هو الذي يزيد الإيمان . كما قال جندب بن عبد الله وعبد الله بن عمر (10) وغيرهما: "تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا ، وإنكم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان " . وفي الصحيحين عن حذيفة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين ، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر ؛ حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ونزل القرآن . . . وذكر الحديث بطوله ، ولا تتسع هذه الورقة لذكر ذلك . وإنما المقصود التنبيه على أن ذلك كله مما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس ، وبلغنا أصحابه عنه الإيمان والقرآن حروفه ومعانيه ، وذلك مما أوحاه الله إليه . كما قال تعالى : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا . وتجوز القراءة في الصلاة وخارجها بالقراءات الثابتة الموافقة لرسم المصحف كما ثبتت هذه القراءات وليست بشاذة حينئذ . والله أعلم بالصواب . تمت بحمد الله وعونه وحسن توفيقه في يوم الثلاثاء سادس عشرين جماد[ى] الأولى من شهور سنة تسع وخمسين وثمانمائة . مصادر البحث والتحقيق * الإبانة عن معاني القراءات . لمكي القيسي . تح د . محيي الدين رمضان . دار المأمون للتراث بدمشق 1399 هـ - 1979 م . * إبراز المعاني من حرز الأماني لأبي شامة الدمشقي . البابي الحلبي بمصر 1349 هـ. * الإصابة في تمييز الصحابة . لابن حجر العسقلاني . الطبعة الأولى - مطبعة السعادة بمصر 1328 هـ . * الأعلام . للزركلي . الطبعة الثالثة . * تاريخ بغداد . للخطيب البغدادي . دار الكتاب العربي - بيروت . * تفسير القرطبي - مصورة عن طبعة دار الكتب . * التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو الداني . تح أوتوبرتزل ط . استانبول 1930 م . * السبعة لابن مجاهد . تح د . شوقي ضيف ط . الثانية - دار المعارف بالقاهرة 1400 هـ * الشاطبية . وشرحها للشيخ علي الضباع . مكتبة صبيح بالقاهرة 1381 هـ - 1961م . * صحيح البخاري . مصورة الطبعة الأولى 1315 هـ بمصر . * صحيح مسلم بشرح النووي - المطبعة المصرية ومكتبتها . * غاية النهاية في طبقات القراء . لابن الجزري . تح . برجستراسر . مصورة الطبعة الأولى 1351م هـ - 1932 . * كتاب سيبويه . مصورة طبعة بولاق . * لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني تح الشيخ عامر عثمان ود . عبد الصبور شاهين بالقاهرة 1392 هـ - 1972 . * لسان العرب لابن منظور . مصورة طبعة بولاق 1300 هـ . * مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية . جمع وترتيب عبد الرحمن العاصمي وابنه محمد . مصورة الطبعة الأولى 1398 هـ . * المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز . لأبي شامة الدمشقي تح طيار آلتي قولاج ط . دار صادر - بيروت 1395 هـ - 1975م . * مسند الإمام أحمد . مصورة الطبعة الأولى . الميمنية بمصر 1313 هـ . * منجد المقرئين ومرشد الطالبين . لابن الجزري . مكتبة القدسي 1350 هـ . * النشر في القراءات العشر . لابن الجزري . تح الشيخ علي الضباع . * وفيات الأعيان لابن خلكان . تح د . إحسان عباس . دار الثقافة ببيروت .
    0
  • النسيان والذكر في القرآن الكريم
    دراسة لغوية ومنهج جديد في تفسير الكتاب الحكيم

    الدكتور : السيد رزق الطويل

    (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثالث عشر - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1405هـ)

    مقدمة
    باسم الله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
    وبعد :
    فهذا بحث ميدانه: كتاب رب العالمين .
    وموضوعه: النسيان والذكر وتناول القرآن الكريم لهما .
    ومنهجه: تتبع هذين اللفظين في الكتاب العزيز ، في صورهما المتنوعة ، واستخلاص النظرة الشاملة لهما بحيث يبدوان موضوعًا واحدًا متكاملا مدروسًا على ضوء المنهج الإسلامي .
    ومن هنا نرى هذا البحث يحمل طابع الدراسة اللغوية للقرآن الكريم ، وفي الوقت نفسه أسلوب جديد في تفسير الكتاب العزيز .
    والنسيان والذكر ظاهرتان بشريتان ، ولهما أثرهما الكبير في مسيرة البشر من هذه الحياة ، وهما أيضًا من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان ؛ ليستعين بها في أداء رسالته في الحياة ، رسالة العبودية الخالصة لله تعالى وحده .
    وقد يتصور الإنسان بادئ الرأي أن هذين من الأمور البشرية التي لا يتعرض لها المنهج الإلهي بالبيان ، فماذا يُهم الإسلام إن نسي الإنسان في دنياه أو تذكر ؟!
    لكن الحقيقة التي يؤكدها السلوك الإنساني أن ظاهرتي النسيان والذكر قد تصبحان موضوعًا إسلاميًّا عندما يتحول النسيان إلى غفلة ، وعندما يكون الذكر سياجًا يحمي عقيدة الإيمان .
    ولهذا تحدث القرآن الكريم- كما سنرى- عن هاتين الظاهرتين كثيرًا ، وبشمول واستيعاب لجميع أوضاعهما الإنسانية والدينية .
    وسنبدأ بالحديث عن النسيان اتباعًا لمنهج القرآن الذي يحارب الكفر كمقدمة للدعوة إلى الإيمان ، وينهى عن الشرك قبل الدعوة إلى التوحيد ، ويحارب الطاغوت قبل أن يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له .
    وكلمة التوحيد: أولها نفي ، وآخرها إثبات .
    قال تعالى : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
    أسأل الله الكريم أن يمنحنا التوفيق والسداد ، وأن ييسر لنا أسباب القول ؛ ليتحقق الخير الذي نرجوه لأمتنا المسلمة ، والله يتولى الصالحين .

    النسيان في القرآن

    النسيان ظاهرة بشرية :
    النسيان ظاهرة بشرية ، وسمة أصيلة من مسلك الإنسان ، وقد اختلف اللغويون في اشتقاق الإنسان ، فمنهم من رأى أن أصل الكلمة هو الأنس ، وآخرون منهم رأوا أصلها النسيان ، وقديما قال أحد الشعراء:

    ومـــا سُـــمِّي الإنســان إلا لنســيه ولا القلـــــــب إلا أنـــــــه يتقلـــــــب

    وهذا يؤكد أصالة هذه الصفة في سلوك البشر .
    ويرى علماء النفس أن النسيان ضرورة بشرية؛ لأن الذاكرة لها درجة تشبع ، ومن رحمة الله بالإنسان أن منحه النسيان ليهمل ما لا يهمه ، ويختزنه في عقله الباطن ، ويحتفظ في منطقة الشعور بكل ما يهمه من شئون حياته .
    والنسيان بهذه الصفة يخرج عن دائرة التكليف ، ويتجاوز حدود المسئولية ، ويعفي الإنسان مما يحدث منه وهو واقع تحت سلطانه ، خاضع بغير قصد لتأثيره .
    أما النسيان المقصود ، وهو تعبير قد نجد من ظاهره لونًا من التناقض ، لكنه في حقيقة الأمر لا تناقض فيه ، إذ فيه نسيان وفيه قصد ، ونعني به الغفلة عن الواجب ، وإهمال ما لا ينبغي أن يهمل من حقوق ومسئوليات .

    تناول القرآن لهذه الظاهرة الإنسانية:
    ولنتجه الآن إلى القرآن الكريم لنرى كيف تناول هذه الظاهرة؟! وبإحصاء دقيق للفظ النسيان في القرآن الكريم في صوره الاشتقاقية المختلفة نجد أنه ورد في خمسة وأربعين موضعًا من الكتاب العزيز .
    وبدراسة المواضع التي ورد فيها هذا اللفظ بمشتقاته ، نرى أن القرآن الكريم قد استخدمه بمعنييه جميعا: النسيان الحقيقي الذي يلم بالإنسان في غير قصد أو إرادة ، والنسيان المقصود الذي نعني به الغفلة عن الواجب وإهمال المسئوليات .
    النوع الأول: النسيان الحقيقي ، كيف تناوله القرآن؟
    عندما يكون النسيان قسرًا وجبرًا ، وعندما يلم بالإنسان بلا قصد منه أو إرادة يكون هو النسيان الحقيقي الذي أعطيناه صفة الظاهرة البشرية أو السمة الإنسانية ، إذ أن أي إنسان مهما كان لا يستطيع أن يتجرد منه .
    وحديث القرآن عن هذا النوع حديث إخباري بحت ، يعرض فيه بعض صوره أو ينفيه في بعض المواضع التي ينبغي أن ينفى فيها؛ لأنه تجاوز إطار الظاهرة البشرية ، أو يتناوله في أسلوب دعاء على لسان المؤمنين يضرعون فيه إلى ربهم ألا يؤاخذهم بما وقع منهم تحت سلطانه ، وهذا أقصى ما ينبغي أن يتحدث به القرآن عن ظاهرة بشرية جبرية كهذه ، فهو إذن لا يحتاج إلى تحليل أو تقويم ، أو إصدار أحكام كما سنرى في النوع الثاني .
    وتناول القرآن الكريم لهذا النوع من النسيان بصوره الثلاث: النفي والدعاء والإخبار جاء في أحد عشر موضعًا .
    (1)- في صورة النفي:
    (أ)- نفاه القرآن نفيًا قاطعًا عن رب العالمين ، الذي ربى الوجود كله بنعمه ، ورعاه بحكمته وخبرته ، وحفظه بقدرته ؛ إذ يقول تعالى: وَمَا نَتَنَـزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ونَفْي النسيان عن طريق نفي كينونته أروع وأوضح ، إذ هو بالنسبة لله لا وجود له ، لا أنه موجود ثم نفي ، وحاشا للحَكَم العدل اللطيف الخبير أن تلم به ظاهرة هو ركبها في الإنسان ؛ لتنسجم له أسباب الحياة .
    (ب)- وفي موضع آخر يطمئن رب العالمين نبيه بأنه سيكون بمنجاة من هذه الظاهرة البشرية في مجال الوحي وتبليغ الشريعة ، فيقول له: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى ففي هذه الآية ينفي القرآن النسيان عن النبي عليه الصلاة والسلام في كل ما يتصل بالوحي ، وتبليغ الرسالة .
    (ج)- وفي موضع ثالث ينفيه عن الكتاب أو اللوح المحفوظ الذي سجل فيه أقدار الخلق وأعمالهم ومصايرهم ، ووحي الله وأمره إليهم ، قال تعالى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى ، وإذا تصورنا نفي الضلال والنسيان منسوبًا لله في هذه الآية ، فإننا بهذا الاعتبار ندخلها في الموضع الأول .

    (2)- في صورة الدعاء أو الالتماس:
    في دعاء المؤمن لربه الذي علمه إياه نرى ضراعة خاشعة ، عادلة قويمة ، يرجو فيها ألا يؤاخذه بما سلف من تحت سلطان النسيان المبسوط على بني الإنسان ، فيقول تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، وفي موضع آخر يلتمس موسى من العبد الصالح ألا يؤاخذه بنسيانه ما اشترط عليه من عدم الاعتراض على تصرف يصدر منه ، يقول تعالى على لسان موسى: قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا .

    (3)- أخبار قرآنية تتصل بالنسيان :
    (أ)- مريم عليها السلام ، وقد اختارها ربها موضعًا لآيته ؛ ونفخ فيها من روحه ، وأحست بحكم نوازعها البشرية بكثير من الأسى ، ورأت في الأمر محنة لها ، إذ كيف يعلم الناس بحقيقة موقفها وبراءة ساحتها !! لذا كانت أمنيتها على الله تعبيرًا عن مدى الألم الذي أحاط بها ، تمنت أن قد كانت في عالم الموتى ، ومحيت من ذاكرة الناس قبل أن تعيش هذه المأساة ( كما تراها ) يقول تعالى: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا .
    (ب)- وفي حديث القرآن الكريم عن عِجل السامري الذي فتن به بنو إسرائيل على أساس أنه رمز للإله ارتضاه لهم موسى ، لكنه ذهب إلى الموعد ، ونسيه مع السامري ، هكذا فهموا أو هكذا خدعهم المحتال الأثيم : فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (ج)- وفي موضع ثالث يحدثنا القرآن الكريم عن نسيان موسى عليه السلام وفتاه للحوت ، وقد كان نسيانه أمارة ، وميقاتًا للالتقاء بالعبد الصالح ، ولا يذكر أنه نسي إلا عندما يحل وقت الغداء ، ويفتقد فتاه الحوتَ فلا يجده ، ويتصور أن نسيانه من عمل الشيطان ، ولكن موسى يكشف الحقيقة لفتاه ، وأن ما حدث هو بغيتهما ، وارتدا إلى مجمع البحرين ، والتقيا بالعبد الصالح الذي وعد موسى بلقياه ، يقول تعالى: فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا .
    بهذه الصور الثلاث المتقدمة كان تناول القرآن الكريم للنسيان الذي هو ظاهرة إنسانية لها صفة العموم والانتشار ، ولها صفة القهر والإلزام ، ومن هنا رفع الشارع الحكيم مسئولية البشر عما يحدث في ظلال هذا النوع من النسيان .

    والنوع الثاني : النسيان المقصود:
    وهو نسيان الغفلة عن الواجب ، وإهمال المسئوليات ، وهو أكثر النوعين ورودًا في القرآن الكريم ، تناول أنواعه ، وحلل أسبابه ، وحذر من مغبّته ، وبين عقوبته .
    وتناول القرآن الكريم له بهذه الكثرة؛ لأنه ظاهرة بشرية منحرفة تحتاج إلى تحليل وعلاج ، وللشارع الحكيم منها موقف يحتاج إلى بيان وتفصيل . ولهذا أولاها الكتاب العزيز اهتمامًا بالغًا ، لما لها من خطورة بالغة تهدد الدين السماوي ، وتنحرف بالبشرية عن هديه وهداه .
    ومن هنا ورد الحديث عن هذا النوع في أربعة وثلاثين موضعًا من كتاب الله ، وكل ما ورد في هذه المواضع من نسيان يحمل طابع الغفلة عن واجب أو التنصل من تبعة أو الإهمال لمسئولية لا ينبغي أن تهمل بحكم ما تلزم به عقيدة الإيمان .
    ويمكن أن يصنف هذا النوع تصنيفًا يجعل من الآيات التي وردت فيه موضوعًا كاملا .
    (1)- مظاهر النسيان المنحرف واتجاهاته
    (2)- تحليل أسبابه
    (3)- عقوبته
    (4)- العلاج الذي وضعه القرآن له
    (1)- مظاهر النسيان المنحرف واتجاهاته :
    يتخذ هذا اللون من النسيان عدة مظاهر تؤكد انحرافه عن سنن النسيان البشري الذي رفعت المسئولية عن صاحبه ، وذلك لأن هذه الظواهر تؤكد أن للإنسان قصدًا وإرادة على نحو من الأنحاء وأن ما يتورط فيه الإنسان من أعمال نتيجة له إنما هو شيء مراد .
    وهذه هي مظاهره:
    (أ)- نسيان الذنوب والخطايا :
    إذا وقع الإنسان في الذنب أو هوى إلى الخطيئة لأول مرة فله عذره ، والخطأ من حقه؛ لأن وراءه نوازع بشرية عميقة التأثير في توجيه السلوك ، ولذا شأنه إذا تاب قبل الله توبته ، وفرح بأوبته على أن يظل هذا الذنب الذي اقترفه درسًا يضيفه إلى تجاربه التي تحدد في الحياة فاعليته ومسلكه .
    أما إذا نسي تجربة الذنب فستنتكس حياته ، ويتعثر سلوكه ، ويظل يهوي مع هواه حتى يكون من الغاوين ، وهذه هي صفته كما عرضها القرآن الكريم .
    يقول الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ، فأسلوب الآية يشير إلى أن أشد الناس ظلمًا ذاك الباغية المنحرف ، الذي يُذكّر بآيات الله في كتابه وفي الحياة فيعرض عن الذكرى ، وينسى ما تورط فيه من ذنوب وآثام ، ومن هنا استحق ما وصف به في آخر الآية إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ، وإذا كان في طبع الآثِم نسيان ذنبه ، فهذا النسيان دعامة انحرافه ، ومن هنا يكشف القرآن الكريم هذه الظاهرة في سلوك طائفة أخرى من الآثمين الذين هَوُوا في وادي الشرك السحيق ، إذ ذكروا ربهم في الضراء ، ونسوا أنهم أشركوا به في السراء ، فيقول تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ فالفطرة السليمة التي شوهها الإنسان بانحرافه في السراء تعود نقية صافية ، تشد الإنسان المنحرف إلى ربه في الضراء؛ ولهذا ترشد الآية إليها ؛ لتؤكد للإنسان أن نداء الفطرة السليمة أهدى وأقوم .
    على أن الحقيقة التي ينبغي أن يذكرها الآثِم أنه إن نسي فاستمرأ بالنسيان إثمه ، فإن وراءه الرقيب الذي يحصي عليه ما قد نسيه ، يقول تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ .
    (ب)- نسيان يوم القيامة :
    يوم القيامة الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين ، حيث يجد كل إنسان طائره في عنقه ، ويقرأ بنفسه صحائف أعماله ، ويرى بعينه مصيره ، وهو اليوم الحق ، حيت يفصل فيه بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون ، وينتهي أمر الباطل إلى جحيم ، وينعم المتقون في دار النعيم .
    وقد عني القرآن الكريم بعرض مشاهد شتى من ذلك اليوم ، وطالما كان المؤمن على ذكر لذلك اليوم سيتخذ منه حافزًا يدفعه إلى الخير ، وينأى به عن الضلال ، ويثبته على طريق الهداية .
    ولذا نجد في أكثر من آية في كتاب الله دعوة إلى اتقاء ذلك اليوم ، وما فيه من أهوال وبلاء ، وإذا نسي الإنسان ذلك اليوم فلم يعمل له حسابه فنسيانه بادرة إلى الانحراف الذي ينتهي بالإنسان إلى ضلال .
    وها هو موقف الناس ليوم القيامة يعرضه القرآن الكريم في عدة صور .
    يقول تعالى عن الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا ، وغرهم ما في دنياهم من زخرف ومتاع : فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فجزاؤهم عند الله إذن إهمال ووبال ؛ لأنهم نسوا يوم القيامة فلم يقدموا في دنياهم عملا ينفعهم ، والهوى يهوي بصاحبه ويضله فينسيه يوم الجزاء بما يقدم له من شواغل صارفة ، يقول تعالى في نصح نبيه داود عليه السلام : وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ .
    فالضالون عن سبيل الله سر ضلالهم نسيانهم يوم الجزاء ، وهذا النسيان سر آفة الإنسان وضلاله ، ولذا عندما يقف المجرمون ناكسي رءوسهم عند ربهم ، وقد رأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم ما نسوه من حقائق ذكروا بها دنياهم فلم يتذكروا ، عند ذاك يدعون إلى العذاب الذي عرفوا يومئذ سبب وقوعهم فيه ، فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .
    وفي الآية الأخرى يقال لهؤلاء الذين نسوا ما لا ينبغي أن ينسى : لقد نسيتم يوم الجزاء فكان أعدل جزاء لكم تلقونه في هذا اليوم من إهمال وازدراء وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ .
    (جـ) - نسيانهم لله
    هذان النوعان السابقان من النسيان : نسيان الذنوب ، أو نسيان يوم المصير ، آفتهما أن أولهما يحمل معنى عدم الاستفادة من التجربة ، وثانيهما يحمل معنى عدم الاعتداد بالدافع ، أما هذا النوع الثالث وهو الذي يتعلق بالله فهو شر بذاته ؛ لأنه يعني تقلص ظل الإيمان من نفوس البشر ، إذ لا يمكن أبدًا أن يصح إيمان أو يستقيم على أساسه سلوكٌ ما لم يكن القلب مشغولا بذكر الله منصرفًا إلى ما يهيئه له الذكر من مراقبة دقيقة لخالقه ومولاه .
    وهذا النسيان قد يتعلق بأمر الله ، وقد يكون تعلقه بذات الله ، وهذا النسيان لذكر الله الذي يجب أن يكون سلاحاً للمؤمن يشهره في وجه الشيطان إذا أراد أن يهوي مزالق الخسران .
    أما الأول منها: فقد عهد الله لآدم ألا يأكل من شجرة بعينها ، وحذره من وسوسة الشيطان وإغراءاته ، ونسي آدم عهده مع ربه ، وذهب عنه العزم الذي يثبت اليقين في أحلك الظروف ، يقول الله تعالى ، يعرض لنا هذا الموقف : وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا .
    ثم نجد الآيات التالية تسجل أن هذا النسيان كان لونًا من الانحراف وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى وأن الله تاب على آدم وغفر له ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى
    وأما الثاني: فقد أشار إليه القرآن الكريم ، وهو بصدد الحديث عن المنافقين إذ وصفهم بأنهم نسوا الله فيقول: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .
    ووقوع ظاهرة النسيان منهم على الله دلالة بليغة على خفوت حرارة العقيدة ، وتبلد عاطفة الإيمان وصيرورتها مجرد دعوى بلا واقع ؛ إذ أن كل ما في الإنسان من جوارحه ، وما حوله من آيات في السماوات والأرض تذكره بالله ، فكيف ينساه؟ إنه شأن المنافقين ، ظاهرهم الذكر ، وباطنهم الغفلة ، ومن طبعهم الكذب ، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك اللون من النسيان في موضع آخر يحذر فيه المسلمين من سلوك المنافقين ؛ إذ يقول الله تعالى لهم : وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .
    وكأن هذا النسيان من شأن المنافقين وحدهم ، إذ أن سلوكهم يقوم على نسيان بارئهم والحرص على شهواتهم ، وتضليل الناس من حولهم .
    وثالث الأنواع من هذا النسيان الذي يتصل بالله: نسيان ذكر الله .
    ومعنى هذا النسيان افتقاد سلاح لا يستقيم أمر المؤمن في الحياة بدونه ؛ إذ يقيه من الإغواء ، ويثبته في مواقف الإغراء ، ويحفظه من همزات الشياطين ولذا جعل القرآن الكريم ذكر الله صفة للمتقين الذين تتجه هممهم إلى خشية الله ومراقبته يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ، كما يقول تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ، ومن هنا كان نسيان الذكر مباءة للفساد ، ويزيد من فرص الانحراف في أمور الدنيا ، وعن أوامر الدين .
    وهذا هو شأن من نسُوا ذكر الله ، توضحه عدة آيات ، وفي كل آية منها إشارة إلى باعث لهذا النسيان ، وهو إما استهواء الشيطان أو استعلاء الإنسان أو غرور لا يسمح بفهم واقعه البشري ، فيذكر ماديته وينسى ذكر ربه .
    ولكون الآيات التي تتناول نسيان الذكر تعنى بتحليل أسباب هذه الظاهرة سأتناول هذه الآيات عند تناولي لأسباب هذه الظاهرة بعد قليل .
    واقتران نسيان الذكر بتحليل بواعثه وبيان أسبابه دلالة على خطورة هذا النوع الذي يصرف الفكر عن ربه ويدفع الإنسان إلى مهاوي الضلال .
    بواعث النسيان :
    عندما يكون النسيان مجرد ظاهرة بشرية فبواعثه حينذاك نفسية بحتة ، تنبع من داخل الإنسان ، وتتمشى مع فطرته الإنسانية في استواء ، ليس فيه شذوذ أو نشاز أو التواء ، وهذه البواعث خارجة عن دائرة هذا البحث ، ومجال دراستها بحوث علماء النفس ، ولا يعنى القرآن الكريم في هذه الناحية الإنسانية إلا بتسجيل ظواهرها ، أما تحليل الأسباب فرب العالمين خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه ، ويفرض عليه من السلوك ما ينسجم مع بشريته ، وتعليل الظواهر البشرية الثابتة لا يفيد الإنسان في تدينه ، أي في علاقته بخالقه ومولاه .
    أما النسيان المنحرف فهو الذي تعرضت له الآيات لما وراءه من بواعث ؛ لأنها تنبع من خارج الإنسان ، أو من داخله الذي خالف عن نداء الفطرة القويم ، وذكر البواعث حينذاك علامات هادية للإنسان على الطريق .
    وهذه هي الأسباب:
    في مقدمتها الشيطان ، وقد نسب إليه القرآن الكريم شغل الإنسان عن ربه ، وصرفه عن ذكره ، وذلك في عدة مواطن:
    فيوسف في سجنه وقد طال به الأمد ، وفي نفسه شعور صارخ بالظلم ، وسجنه هو البديل الوحيد للرذيلة التي تطارده ، طلب إلى أحد رفيقيه- وقد يسرت له النجاة- أن يذكره عند الملك ، ونسي يوسف رب الملك ، إذا لا نجاة له إلا بتقديره ، ولكن الشيطان قد ينال من الإنسان وهو يعانى من ضراوة الامتحان ، قال تعالى : وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ .
    وكان مكثه في السجن لمسة عقاب على غفوة يسيرة تولى أمرها الشيطان .
    وفي حديث القرآن الكريم عن المنحرفين عن سمت الإسلام إما بفساد في العقيدة ، أو انحراف في السلوك نجد تعليلا لذلك يتمثل في تسلط الشيطان عليهم ، وسيطرته على نفوسهم ، فأنساهم خالقهم ، وبذلك تم لهم الانغماس في ضلالهم ، يقول تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ .
    والشيطان وهو يؤدي رسالة الشر في البشرية لا يقصر جهده على الأشرار فهم جنوده وقد فرغ منهم ، ولكنه يبحث عن ضالته في السائرين على طريق الرشاد يحاول جذبهم إليه ، وقد تبلغ به الوقاحة مبلغًا كبيرًا ، فيطمع في أن ينال فرصة من رواد البشرية ، وأنى له ذلك؟ ولذا يقول الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام مذكرًا ومحذرًا ، يذكره بمحاولات الشيطان جذبه إليه في مجالس هؤلاء الضالين ، ويحذره من الجلوس معهم أكثر من فترة التذكير والتوجيه : وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ .
    والغرور هو ثاني الأسباب:
    وهو أن يسيء الإنسان فهم نفسه ، بأن ينسى الأصل الذي منه نشأ ، أو ينسى أن الأيام تدول ، وأن النعم تزول ، وأن النعمة قد تصير شقاء ، والجاه قد يتحول إلى بلاء .
    وسوء الفهم الذي يوجد الغرور هو الذي ينسي الإنسان هذه الحقائق الثابتة من سنن الله في الحياة .
    فأُبيّ بن خلف عندما وقف موقف التحدي من النبي صلى الله عليه وسلم منكرًا في تهكم عقيدة البعث ويأتي بعظام بالية ويفتنها بيده ويقول: أترى يا محمد أن الله يحيي العظام بعدما رمت؟!! من غير شك أن أبيًّا في موقفه الذي تبدو منه حماقة البغي وشراسة الجحود لم يدر بخلده الماء المهين الذي خلق منه!! ولو تذكره لراجع نفسه مرات قبل أن يقول ما قال ، وهذه هي الحقيقة التي يسجلها القرآن الكريم: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ .
    فالغرور أنسى أمية إحدى بديهيات الوجود حتى تورط فيما تورط فيه من كفران وجحود ، والنعمة تأتي للإنسان بما وراءها من بهجة ومتاع ، فيعيش عيشة الرغد ، ويرفل في أفخر الثياب ، وينعم في سلطان المال والجاه ، وينسى أسس شقائه وبلائه ، وفقره وبأسائه .
    إن الإنسان المغرور ، يفزع إلى ربه في الضراء ، وينسى ضراعته في السراء : وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ .
    فغرور الإنسان أنساه صاحب الحق ، فضل السبيل إليه وأشرك .
    وكم يؤدي غرور الإنعام بالإنسان إلى مهاوي الكفران عندما ينسى ما كان فيه من عسر وما صار إليه من يسر .
    ويوم القيامة سيبرأ المعبودون من العبيد أمام رب الأرض والسماء معللين انحراف من عبدوهم بأن متاع النعمة أنساهم فضل المعبود الواحد ، يقول تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا .
    ومن عجب أن تكون نعمته سببًا لجحود فضله ، والغفلة عن ذكره ، ثم ضلالهم طريق الوصول إليه .
    وثالث الأسباب: شهوة التسلط عندما يشعلها إمعان الأتباع في الخضوع .
    قد يجد المغرور من يستخزي لكبريائه ، وينصاع لغلوائه ، ويستذل لبغيه ، فيغريه ذلك بمزيد من الطغيان ، ويسمع كلمات الثناء وعبارات التمجيد من أفواه العبيد ، فيتصور أنه كبير ، وينسى أن فوقه الكبير المتعال .
    وعندما وجد فرعون من يستذلهم أنساه ذل العبيد أنه عبد مثلهم ، وصدق رب العالمين إذ يقول: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً .
    تتجلى حقيقة هذا السبب في قوله: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ فكما يحاول الفاتن أن يصرف مفتونه عن دينه ، ويبعده عن ربه نرى المفتون من ناحية أخرى ينسى فاتنه ذكر ربه عندما يظن سكوته عنه انصياعا له وذلا له ، فيغريه ذلك بمزيد من التجاوز والشطط .
    عقوبة النسيان نسيان:
    هؤلاء الذين وقعوا مطية للنسيان المنحرف الذي حللنا أسبابه ، كيف قوّم القرآن موقفهم؟ وماذا قال في عقوبتهم؟
    إن سنة الله في عباده وقانونه في خلقه: الجزاء من جنس العمل ، فمن نسي يُنسى ، ونسيان الله لعبده يعني أنه في موقف الطرد من رحمته ، والبعد عن مغفرته ، وأنه موكول إلى نفسه ، ولذا فشقاء الحياة ينتظره ، وبؤسها سيلاقيه .
    وهذه هي الآيات التي تشير إلى عاقبة النسيان الخاطئ ، يقول تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ، نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ، وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ، وفي هذه الآية الأخيرة لون آخر من العقوبة ، وهو أن من نسي ربه يوكل الله به ظاهرة النسيان البشري بصورة غير طبيعية تجعل حياته لا تحتمل ، ويقضي أيامه في الحياة بدون ذاكرة ، وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
    وفي مثل هذه الآية كانت عقوبة النسيان من أجل نسيانهم يوم اللقاء ، ونسيان يوم اللقاء يعني نسيانهم الملك الحق الذي جعل هذا اليوم فَيصلا بين العباد .
    هكذا تؤكد الآيات السابقة كلها بأوضح عبارة وأجلى بيان أن عقوبة النسيان نسيان.
    والنسيان الذي هو عقوبة ليس كالنسيان الذي هو خطيئة لكنها المشاكلة في التعبير، وهي من خصائص بلاغة القرآن ، جاءت لتؤكد حتمية القانون الإلهي واستمراريته ، وهو أن جزاء العامل من جنس عمله .

    الذكر في القرآن

    ما صلة حديث الذكر بحديث النسيان ؟
    إذا ذكرت ربك بصدق طهرت القلب من شواغله ، وأخلصته لبارئه ، وأنقذته من أدوائه ، وحرسته من بواعث النسيان الضال التي أسلفناها ، وكنت على ذكر لربك تنقشع أمامه بواعث الغفلة مهما كثرت .
    وقد قدم لك القرآن العلاج من هذه الآفة القاتلة المدمرة للعقيدة والسلوك في آية واحدة هي قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا الذكر علاج للنسيان والغفلة ، هذه واحدة .
    وهناك أمر آخر يدعونا إلى الحديث عن الذكر بعد النسيان ، وهو أن الحديث عن أي من المعاني يسوق إلى الحديث عن مقابله ، وتناول المعاني المتقابلة يزيدها وضوحًا ، ويكسبها في النفس بلاغًا ، وبضدها تتميز الأشياء .
    ألفاظ الذكر في القرآن وأوضاعها اللغوية والنحوية :
    وردت ألفاظ الذكر في القرآن في نحو مائتي موضع مختلفة الاشتقاق والموضع الإعرابي ونوع الضمائر الملحقة بها وفي التجرد والزيادة .
    وقد رأيت أن الصيغة الثلاثية للذكر (ذكر) ومشتقاتها المختلفة تستعمل في معان معينة ، بينما الصيغ المزيدة تستخدم استخداما آخر .
    فالذكر صورة حاضرة ماثلة في الذهن .
    والتذكرة استحضارها بعد النسيان .
    والتذكير حفز الغير على ذلك الاستحضار .
    ولنبدأ بالحديث عن الذكر ، وما يشتق من مادته من صيغ ثلاثية .
    وردت الصيغة الثلاثية للذكر من عدة صور متباينة ، وفي معان متنوعة :
    *جاءت بالصيغة الفعلية (ذكر- يذكر- اذكُر ) مرادًا بها الحديث .
    *وجاءت بالصيغة الاسمية مرادا بها الشرف أو الشأن ، ومرادًا بها العلم ، ومرادًا بها الكتاب المنزل أو النبي المرسل .
    *وتناوله القرآن بالصيغة الفعلية واقعًا على لفظ الجلالة ، وبالصيغة الاسمية مُضافا إليه مثل: ذكروا الله- يذكرون الله- اذكروا الله- ذكر الله .
    *وبنفس الصيغتين واقعًا على لفظ الرب أو مضافًا إليه . .
    *وبالصيغة الفعلية واقعًا على اسم الله تعالى مثل: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى .
    والذكر في الحالات الثلاث الأولى يدخل في دائرة الاستعمال اللغوي فحسب ، وفي الحالات الأربع الأخيرة مقصور على العبودية الخالصة ، والارتباط الوثيق بالله.

    الذكر بمعنى الحديث :
    تناول الإنسان لأمر من الأمور بلسانه يعني إخراجه من دائرة النسيان إلى عالم الشهود ، وقد ورد الذكر بهذا المعنى في ستة مواضع ، منها ما فيه تكريم ، ومنها ما فيه تحذير .
    فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام التي ضل بها قومه ، وقالوا عنه كما حكى القرآن الكريم : أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ .
    وذكر إبراهيم الأصنام التي ضلت بها شيعته ، وقالوا عنه كما حكى القرآن : سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ .
    وطلب يوسف من رفيقه في السجن أن يذكره عند الملك وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ .
    وظل يعقوب يذكر يوسف كثيرًا حتى لامه في إشفاق ، أو أشفق عليه في لوم بنوه الآخرون قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ .
    وإذا تحدث القرآن عن الجهاد وذكر في آياته اسم القتال فزعت قلوب المنافقين وزاغت أبصارهم فَإِذَا أُنْـزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ .
    والإنسان قبل أن يوجد أو يولد لم يكن شيئًا ذا بال يستحق أن يُتحدث عنه ، فهو كما قال تعالى : هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا .
    الذكر بمعنى الشأن والشرف :
    وقد امتن على نبيه برفعة الشأن وعلو المظهر ونباهة الذكر ، فقال تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ، كما شرف العرب برسالة الإسلام فيهم ، ونزول القرآن بلغتهم لَقَدْ أَنْـزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ .
    الذكر بمعنى العلم :
    والعلم أصول وقواعد مستحضرة في أذهان البشر يواجهون بها مشكلات الحياة والوجود ، والعالِمون بها هم أقدر الناس على بذل العون لغيرهم ممن لا يعلمون ، ولذا كان توجيه القرآن الكريم لغير العالِمين أن يسألوا العالِمين الذاكرين لهذه الأصول ، يقول تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ .
    ووعد النبي صلى الله عليه وسلم قومه بشيء من العلم عن ذي القرنين عندما سألوه عنه ، قال تعالى : وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا .
    وطلب الرجل الصالح من موسى عليه السلام أن يلوذ بالصمت حتى يذكر له فيما بعد شيئا من علم ذلك قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا .
    ومن أهداف عروبة اللسان القرآني أن يقود قلوب العرب في رفق إلى الخوف من بارئها العظيم ، ويمنحها العلم به وَكَذَلِكَ أَنْـزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ، ويعلل الضالون لانحرافهم عن منهج الإخلاص بافتقادهم شيئًا من العلم الذي هدى به السابقون ، أو من التجارب التي مروا بها ، وهو استنتاج دقيق منهم ، لكن بعد فوات الأوان لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ .
    الذكر بمعنى الكتاب المنزل أو النبي المرسل :
    الكتاب المنزل مبادئ قويمة ، وشرائع مستقيمة ، ونصح رشيد ، وتوجيه سديد ، ولا عجب فهو كتاب رب العالمين ، الذي خلقهم ويعلم ما يصلحهم ويسددهم ، وعلى قدر بشريتهم شرع لهم من الدين ما وصى به رسله جميعا أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ .
    والكتاب المنزل ذكر؛ لأنه يضع أمام ذاكرة البشر هذه المبادئ التي تحكم الحياة ، وتقود السلوك ، إنه ذكر حكيم ، وذكرى للمؤمنين .
    وقد جاء الذكر بهذا المعنى في واحد وثلاثين موضعًا من القرآن الكريم ، من هذه المواضع ما كان الذكر فيه بمثابة العَلَم على القرآن وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُـزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ، إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ، وَأَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُـزِّلَ إِلَيْهِمْ ، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ، أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ، ومعنى هذه الآية أنهملكم فنحرمكم من هدي الكتاب لتجاوزكم حد الاعتدال . . وتتساءل قريش في استنكار: كيف ينزل هذا الذكر على محمد من بينهم؟ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ
    وقد يترك القرآن ببيانه المعجز آثارا في القوم ، يندر في قلوبهم حقدا ، وفي أعينهم زيغا وغيظا وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ
    وتسمية القرآن ذِكرًا فيه معنى الاسمية والوصفية ، على السواء ، غير أنه في بعض المواضع تغلب الاسمية ، وفي بعضها تغلب الوصفية .
    فالقرآن من أبرز صفاته أنه ذِكر ، وأن رسالته هي الذِكر إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ويقول تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ، ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ فهو ليس ذِكرًا فحسب وإنما هو ذكر محكم يصيب كبد الحقيقة ، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ويقتحم القلب فيصيب الشغاف ، قال تعالى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وهو ذكر مبارك تسمو به حياة الناس ، وينمو في طريق الخير مجتمعهم وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْـزَلْنَاهُ .
    ورسالة الذكر في القرآن تعم الوجود كله ، ففي أكثر من آية يقول رب العالمين عن كتابه: إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ يوسف ، ص ، التكوير ، الأنعام وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ، ومع عمومها تخص العرب بذواتهم ، يقول تعالى ممتنًا على النبي وقومه : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ، كما يقول: وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ولفظ لدنا: فيه إكبار لهذا الذكر أي إكبار ، ولذا ينتقد القرآن انصرافهم عنه ، وإعراضهم عن هديه أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ
    مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ .
    وأكبر خطأ يتورط فيه البشر أن يستبد بهم الغي ، فلا ينتفعون بحكمة هذا الذكر .
    وهذا هو الكافر يلوم قرين السوء الذي أغواه لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ، كما يقول المعبودون من دون الله يتبرءون أمام ربهم من ضلال عابديهم : وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا .
    والذي يتبع الذكر ويهتدي بآثاره هو الذي يستجيب للنذير ، ويؤثر فيه التبشير : إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ .
    وأروع ما في الذكر القرآني - وكله رائع - أنه يحوي خلاصة التجربة البشرية ، يقول رب العالمين: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ .
    وقد سمى القرآن الرسول "ذِكرًا" لأنه يحمل الذِكر للبشرية ، ويثير ذاكرتها نحو الاتجاه إلى المبادئ السماوية قَدْ أَنْـزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ .
    وفي قَسَم رب العالمين بملائكته وهم العباد المكرمون ، يشير إلى جانب من فضلهم ، وأنهم يتلون الذكر ، ويلقونه على رسل الله وأنبيائه يقول تعالى: فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ، فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا .
    ذكر الله
    وهو أرفع مستوى تسمو إليه عقيدة الإنسان ؛ لأنه يعني استحضار عظمة الذات الإلهية والإحساس بها في كل موطن ، وفي كل موقف ، ومن هنا يكون الذكر جنة للمؤمنين ، وملاذا لقلوبهم فلا تعصف بها الأهواء ، وحصنا حصينا لإيمانهم فلا يزيغ به شرك أو رياء .
    وهذه هي ثمرته: طمأنينة في القلب الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ .
    والأسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم منهج كريم ، لكن الذي يعرف قيمة القدوة ، ويحرص عليها من كان رجاؤه في الله وثوابه ، وكان ذكر الله يملأ جوانب نفسه ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا .
    والذكر صفة للمتقين لأنه باعث التقوى ووسيلتها وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ .
    وذكر الله سمة تحكم مسلك العقلاء ، يقول تعالى : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .
    وذكر العقلاء لله- كما تشير الآية- تأمل وتدبر ، واستحضار لعظمة الذات ، وليس مجرد ترديد عبارات باللسان والقلب عنها في شغل كبير .
    والذكر صفة للمؤمنين . . فإذا تحدث القرآن عن الشعراء بأنهم يهيمون في أودية الغي ، فمنهم من نأى عن ذلك فنبذ تقاليد الجاهلية ومقاييسها الفاسدة ، واتجه إلى قيم أمثل تصلح الحياة والنفوس ، وهؤلاء هم شعراء المؤمنين أو مؤمنو الشعراء ، وأبرز صفاتهم الذكر الكثير لله ، والانتصار لدينه ، يقول تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ (226) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا
    ولكون الذكر صفة للمؤمن وسمة للإيمان ، وجدنا هذه النداءات في القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ ذلك لأن الذكر أعظم سلاح يرفع من معنوية المجاهد عندما يشتد البأس ، وتحمر الحدق .
    ويقول تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ، واستجابة القلب للذكر وتأثره به دليل على صدق الإيمان ، وقوة سلطانه على نفس الإنسان .
    وكما أن الذكر سلاح فعال في ميادين القتال هو أيضًا سلاح مؤثر في معترك الحياة ، يقول تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .
    وفي المواقف الصعبة ترى في الذكر تثبيتًا للذاكرين ، وبه وصى الله موسى وهارون وهما ذاهبان لمواجهة فرعون اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي.
    الذكر عبادة والعبادة ذكر:
    ومعنى العبادة لا يتحقق إلا به ، وهي في الوقت نفسه وسيلة إليه وأسلوب له ، والصلاة ذكر ، والذكر من أعظم ثمراتها إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي ، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ .
    وفي تناول الصلاة ذِكرى وفي أعقابها ذِكر فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ .
    والذكر ألزم سلوك لعبادة الحج ، ولذا تراه مطلوبًا من الحجيج في كل منسك فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ .
    ذكر اسم الله :
    وفي نحو أربعة وعشرين موضعًا من الكتاب العزيز ورد الذكر أو مشتقاته واقعًا على اسم الله ، وتتميز هذه المواضع بأنها عبادات ذات رسوم وحدود ، وأن المعنى فيها الإهلال باسم الله ، لأنه في هذه المواطن دليل الانصياع ، وبرهان الإذعان للخالق العظيم .
    فالإهلال بذكر الله في الصلاة وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ، وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ، وفي الحج كذلك ترديد لاسم الله تعالى ، يقول جل شأنه : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ .
    وعند الذكاة (الذبح) يتحتم الذكر فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ، وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، ويحرم ما ذبح من غير ذكر ، أو ذكر عليه غير اسم الله تعالى ، وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَأَنْعَامٌ لاَ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ .
    ويجب الذكر عند وقوع الصيد في قبضة الحيوان المعلم فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ .
    وذكر اسم الله شعار ينبغي للمؤمن أن يرفعه في كل حين ، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا .
    هذه هي المواطن التي يحددها القرآن الكريم للذكر القولي: مواطن العبادات ، وأوقات الضراعة التي يهتف فيها العبد الخاشع الضارع لائذا مستجيرا بمن خلقه وسواه ، مرددا اسمه وحده في أدب واتزان دون تحريف وإلحاد ، يقول تعالى: أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ، وفي آية أخرى يقول: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ومن هنا ندرك مدى العبث الذي يتورط فيه بعض هؤلاء الذين يقفون صفوفًا يترنحون ذات اليمين وذات اليسار ، يرددون اسم الله بألفاظ غير مفهومة زايلها الوقار والاتزان ، زاعمين بهذا أنهم يذكرون الله . . ألا ساء ما يصنعون!! وما عدا مواطن العبادات والضراعة ، فالذكر استحضار لعظمة الله ، وتأمل وتفكير في أثار قدرته .
    واذكر ربك:
    وورد الذكر بمشتقاته واقعا على لفظ الرب في ثمانية مواضع ، وهذه المواضع فيها معنى التربية والامتنان والفضل والإنعام ، وهذه ظاهرة تعبيرية واضحة في كل مقام يذكر فيه القرآن لفظ الرب حيث يكون الإشعار بالتربية ألزم وأنسب من الإشعار بالعبودية ، ولأن إدراك معنى التربية- إذا صدق- يوصل إلى العبودية الخالصة .
    وهذه الآيات تؤكد صحة هذا الاستنتاج يقول تعالى: وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ، ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ، ويقول تعالى لعبده زكريا : وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ .
    ويقول تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً ، وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ، وعن يوسف يقول تعالى: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ، وعن سليمان يقول تعالى: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ، وفي تأنيب الكافرين الجاحدين يقول تعالى: بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ .
    الإعراض عن الذكر . . وآثاره وبواعثه
    الإعراض عن الذكر بادرة خطيرة تزعزع بنيان العقيدة ، ولذا نرى في القرآن الكريم تحذيرًا من اللهو الشاغل عنه ، ومن كل داعية إلى الانصراف عن هديه ، فالذين لا يذكرون هم المنافقون أو الكافرون وكفى !! يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا ، وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا .
    والذين لا يؤمنون بالآخرة لا يرتاحون إلى الذكر الخالص لله وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ، ولقسوة قلوبهم وعدم تأثرها بالذكر استحقوا الويل فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ .
    وفي هذه الآيات تحذير من الصوارف عن الذكر واتباع الضالين المنحرفين ، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا والشيطان أكبر صارف عن الذكر ، بل هو الذي ينمي كل الصوارف إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ .
    والمؤمنون الصادقون لا تؤثر فيهم هذه الصوارف كما وصفهم ربهم فقال: رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ .
    مصير الغافلين :
    والغافلون عن ذكر الله ينتظرهم شقاء الدنيا وبلاؤها ، وعذاب الآخرة ونكالها ، فمن يعمَ عن ذكر ربه ييسر له شيطانًا في الدنيا يوغل به في متاهات الإغواء وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، وفي الآخرة يصف القرآن لنا
    ( الجزء رقم : 13، الصفحة رقم: 162)
    عذابه فيقول: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ، وحسب الغافل تعاسة الدارين التي تصفها هذه الآية : وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى .
    وهذه منزلة الذاكرين :
    يعدهم الله من بين حملة القيم ، وأصحاب المثل السامية كالمسلمين والمؤمنين والصابرين والصادقين فيقول تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ . كما يعدهم الله تعالى بأن يذكرهم كما ذكروه فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وذكر الله لعبده تكريم ما بعده تكريم .
    التذكير منهج لرسالات السماء :
    والتذكير هو المنهج الذي يقوم عليه دين الله ، ومن أجله كانت وتعددت رسالات السماء في شتى مراحل التاريخ ، وتحمل الرسل عبء هذا المنهج ، ليذكروا البشر بأبعاد الهداية ، ويدلوهم على مواطن الخير في وحي الله ودين السماء ؛ ليستطيع الإنسان تحقيق الرسالة التي أرادها الله له في هذا الوجود .
    وتدرك هذه الأهمية البالغة للتذكير عندما تقلب صفحات الكتاب العزيز ، إذ تستوقفك في مجال الدعوة إلى التذكير أمور ذات بال .
    (1) يدعو رب العالمين نبيه ومصطفاه محمدا عليه الصلاة والسلام إلى أن يذكر ويتذكر ، أما التذكير فهو جوهر مهمته ومناط رسالته ، ولذا وجهه الله تعالى إليه في مواطن كثيرة ، وأرشده إلى وسائل شتى يستعين بها في تذكيره سنتناولها فيما بعد .
    يقول الله تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ، فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ ، وفي الآية الأخيرة دعوة إلى التذكير بالقرآن مخافة أن ينتهي أمر القوم إلى الهلاك ، بما أسلفوه من بغي وانحراف .
    وأما التذكر فقد دعا الله نبيه إليه لأنه سيكون جُنة له تحميه من نوازع البشرية ، وتضع نصب عينيه مثلا أعلى من حياة من سبقوه في طريق الدعوة ، فيهون أمامه البلاء ، ويخف عليه وقع المحن ، ويتحمل مئونة الصبر ، ومن هنا كان الأمر بالتذكر يدور كله في مجال القصص القرآني .
    وقد جاء الأمر في سورة مريم وحدها خمس مرات ، يقول تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ الآيات .
    كما جاء هذا الأمر في أربعة مواضع من سورة ص ، تحث النبي عليه الصلاة والسلام على تذكر أنبياء آخرين سبقوا في الدعوة إلى الله ، فيقول: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ ، وفي الأمر بالصبر قبل الذكر في الموضع الأول إشارة إلى أن مغزى التذكر أن يصل به النهي إلى قضية الصبر التي بها تنجح الدعوات .
    وفي سورة الأحقاف يقول تعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ ، وأخو عاد كناية عن نبي الله هود عليه السلام ، والأحقاف موضع معروف ، في الجهة الجنوبية الشرقية من شبه الجزيرة العربية ، كما يقول تعالى في صدر الحديث عن موسى عليه السلام: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ .
    وفي غير مجال القصص القرآني نجد توجيهًا للنبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى استلهام الذكرى من حادث عبد الله بن أم مكتوم الذي عبس في وجهه ، فقال الله لرسوله بعد عتاب غير يسير : كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ .
    فالتذكر الذي يحمي البشرية من الهوى وينأى بها عن الزلل ، والتذكير الذي هو مهمة ورسالة لم يكونا مقصورين على خاتم الأنبياء وحده ، فهذا أمر الله لنبيه عيسى عليه السلام بالتذكر ، إذ يقول له: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، وهذا أمر آخر لنبيه موسى بالتذكير: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ، ويحدثنا القرآن عن عتاب نوح عليه السلام لقومه الذين ساءتهم الدعوة إلى الله والتذكير بآياته: يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ .
    ويصف الله تعالى أنبياءه إبراهيم وإسحاق ويعقوب بصفة اختصهم بها ، وهي تذكرهم لدار الجزاء إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ .
    فرسل الله جميعا ذكروا فتذكروا ، وقاموا بواجب التذكير كما أمرهم الله ، وإن لم تنسب إليهم الألفاظ صراحة بهذه الكثرة كخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم .
    (2) الدعوة إلى التذكر في القرآن ملحة تهز عقول البشر هزا عنيفا ، وتزيح أستار الغفلة التي تلقيها عليها بين الحين والحين نوازع النفوس ومغريات الحياة ، وذلك ليعود للعقل البشري صفاؤه ، فيستجيب لدعوة الله ، ويذعن لرسالة الحق ، تبدو قوة هذه الدعوة إلى التذكر في الأسلوب التي عرضت به الآيات الداعية إليه ، إذ في ستة مواطن من القرآن الكريم وردت الدعوة بهذه الصورة: أفلا تذكرون ؟ التي تتضمن استنكار الغفلة الصارفة عن استحضار العبرة عندما تمر آية ، أو يلم حدث ، أو يطوف بالحياة أمر ذو شأن ، والذي يلفت النظر ، ويشد الانتباه أن هذه المواطن الستة تدور كلها حول التوحيد وتوطيد العقيدة الصحيحة للإسلام في نفوس البشر ، ففي محاجّة إبراهيم لقومه يؤكد لهم أنه لا يخشى إلا الله ، ثم يقول: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ .
    ويضرب القرآن الكريم مثل الفريقين: الفريق الذي عقل الحق وعرف العقيدة الصحيحة ، والفريق الذي غفل فضَلّ ، واتبع هواه ، فالأول مثله مثل البصير والسميع ، والثاني مثله: مثل الأعمى والأصم ، وتنتهي الآية بهذا التساؤل هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ .
    ويرد هود عليه السلام شهوة جامحة لقومه طلبوها في غفلة من العقل والبصيرة ، إذ رغبوا إليه أن يطرد المستضعفين من مجلسه ، ليخلوَ لهم وحدهم ما يريدون من شهوة الانفرادية : وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ .
    وفي موازنة رائعة مقنعة تأخذ بتلابيب النفوس الضالة التي غشيتها سحابة الشرك يقول رب العالمين: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ .
    الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء>اللغة العربية>مجلة البحوث الإسلامية بإشراف و مسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء>اعداد المجلة
    تصفح برقم المجلد > العدد الثالث عشر - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1405هـ > بحوث في علوم القرآن > الذكر والنسيان في القرآن الكريم > التذكر والتذكير في القرآن > التذكير منهج لرسالات السماء
    وفي مساءلة هادية راشدة بين الداعي وقومه ، جاءت الدعوة السادسة إلى التذكر ، يقول تعالى: قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ.
    وفي غير هذه المواطن دعوات كثيرة للتذكر ، مقرونة بوسيلة أو الباعث عليها ، وقد قدمت للبشرية في ظروف مختلفة حتى تستمر على طريق الحق مسيرتها ، يقول تعالى في تأنيب الغافلين الضالين غداة الحسرة عندما تتبين الحقائق وينكشف عن العين الغطاء : أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ .
    وهذه دعوة للمسلمين بعد النصر العظيم في بدر لأن يتذكروا ماضيهم الذي عاشوه مستضعفين ، مبغيا عليهم ، إذ أن هذه الذكرى تحفزهم على الشكر الذي يزيد النعم ويوثق العلاقة بخالقهم العظيم : وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .
    وعلى لسان شعيب عليه السلام جاء النصح لقومه بأن يتذكروا : وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ .
    وعلى لسان هود وصالح عليهما السلام جاء نفس النصح لقوميهما عاد وثمود ، يقول تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ، وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ .
    وفي شأن بني إسرائيل يقول تعالى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .
    (3) وبقدر ما كانت الدعوة إلى التذكر تحمل هذا القدر الكبير من التقدير والاهتمام؛ لما في التذكر من صحوة العقيدة ، ويقظة الضمير ، بقدر هذا كان التنديد عنيفا
    وقاسيا بمن غفلوا ولم يعقلوا ، وسمحوا لغشاوة النسيان أن تحجب البصيرة ، وتتركهم في متاهات الضلال ، يتجلى عنف هذا التهديد من حديث القرآن عن المعرضين عن الذكر ، ووصفه لهم ، وتقويمه لعقيدتهم ، وكشفه عن مصائرهم وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وفي آية أخرى : ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا .
    وفي وصف المنافقين يقول تعالى : أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ .
    وأهل الكتاب خانتهم ذاكرة المؤمن ، فنسي اليهود حظًّا مما ذكروا به ، فحرفوا الكلم عن مواضعه ، ولا تزال خياناتهم مستمرة ، وأما النصارى فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ .
    ونسي كثير من بني إسرائيل واجب النصيحة ، فحلت بهم العقوبة ، ولم يفلت منها إلا من نَهَوا عن السوء فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ .
    ويصور القرآن الكريم حقيقة هؤلاء المعرضين عن الذكر أسلوبًا ونتيجة ، فيقول تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فرسم القرآن الكريم صورة منفرة لإعراضهم ، كما أشار إلى موقفهم يوم القيامة عندما يواجهون العذاب بلا شفيع ولا نصير .
    والوصف بعدم التذكر نراه سجية لكل منحرف عن دين الله ، يقول تعالى: وَإِذَا ذُكِّرُوا لاَ يَذْكُرُونَ ، ولا عجب فهو أساس الداء والباعث الأقوى على الانحراف ، فالذي لا يتذكر تختلط أمام بصيرته القيم ، يقول تعالى : وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ .
    والذي لا يتذكر يتورط في أرجاس الشرك : اتَّبِعُوا مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ .
    ووصف الكفار بقلة التذكر المعني به العدم ورد أيضًا في مواضع أخرى .
    والذي لا يتذكر تختفي أمام عينيه الحقائق الساطعة وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ .
    (4) يؤكد القرآن الكريم أن التذكر أو الانتفاع بالذكرى والاستفادة من التذكير لون من السلوك الأقوم لا يتيسر إلا لأنماط معينة من البشر:
    (أ) من هم على درجة من العقل الراشد واللب النابه والبصيرة النافذة ، وقد ورد في السور والآيات الآتية ما يفيد أن التذكر مقصور على أولي الألباب وذوي البصيرة والعقول مثل : وما يذكر إلا أولوا الألباب ومثل لقوم يعقلون ومثل إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
    (ب) من هم على صفة الإيمان أو التقوى أو العبادة أو الإنابة ، وهذه الصفات هي من أرفع المستويات التي يصل إليها المسلمون بإسلامهم ، وهذه الصفات ليست متباينة ، وإنما هي مترابطة متآخية ، ولا تتحقق- بصدق- إحداها إلا إذا تحققت أخواتها ، فلا إيمان بدون تقوى ، والعبادة جوهرهما ، والإنابة تضفي عليهما حيوية العقيدة ، وعمق تأثيرها .
    وأكثر هذه الصفات ارتباطًا بالذكر والتذكر صفة التقوى؛ لأنها تقوم على مراقبة الله وخشيته ، ومن هنا كان المتقون أكثر الناس ذكرا لله وتذكرا لآياته .
    ففي ارتباط الذكر بالتقوى وردت ثماني آيات تؤكد أن التذكر صفة لازمة للتقوى : إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا ، إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى
    وجاءت ثلاث آيات تؤكد ارتباط التذكر بعقيدة الإيمان وهي [12 \ هود ، 51 \ العنكبوت ، 15 \ السجدة ] .
    وفي علاقة الإنابة بالذكر ، يقول تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَـزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ .
    وفي ارتباط العبادة بالذكر يقول تعالى: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ .
    والذاكر هو الذي يتذكر ، وهذا الارتباط لغوي وقرآني أيضا ، إذ يقول تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ .
    (5) التذكر منطلق المسئولية :
    فعند الذكرى أو التذكر تتحدد المسئولية وتتأكد ، وتنتفي الأعذار والتعللات ، يبدو ذلك من خطاب الله لرسوله في هاتين الآيتين : وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا .

    بواعث التذكر
    من هذه الموضوعات التي أثرتها والنتائج التي استخلصتها نستطيع أن نقف على مدى أهمية التذكر في سلوك كل ذي دين ، وبخاصة دين الإسلام الذي اصطفاه الله وارتضاه .
    وبالدراسة الواعية القائمة على استقراء دقيق لاستعمالات هذه الألفاظ في القرآن الكريم (التذكر والتذكير والذكرى) نرى أن الكتاب العزيز وضع تحت أيدينا وسائل التذكر وبواعثه ، وهي متعددة ومتنوعة حتى تغطي ميول البشر ، وتصيب نوازعهم وهي مختلفة ومتنوعة .
    وهذه هي البواعث التي تدفع إلى التذكر ، معززة بآيات القرآن الكريم التي تناولتها.
    (1) الكتاب السماوي بعامة باعث على التذكر ، والقرآن بخاصة يعد من أول الوسائل وأقوى البواعث والحوافز ، فهو من حيث الإطار يثير التذكر بلسانه العربي ، ومن حيث المضمون هو مليء بالمواعظ والعبر ، حافل بالدروس والقصص ، وهو - كما قلنا أول البحث - والذكر صنوان ، فالقرآن ذو الذكر ، وسماه الله ذكرا في أكثر من موضع ، وفي خمس عشرة آية منه يبين الله لنا أن كتاب السماءيحرك النفوس إلى التذكر ، فلا يضيع إيمانها في سُحُب الغفلة وركامها ، في ثلاثة مواضع منها حديث عن كتاب موسى ، وفي باقيها حديث من القرآن .
    وهذه هي السور والآيات التي وصفت كتاب الله بأنه دافع إلى التذكر ووسيلة إلى التذكير: [41 \ الإسراء ، 48 \ الأنبياء ، 43 \ القصص ، 51 \ العنكبوت ، 29 \ ص ، 53 ، 54 \ غافر ، 58 \ الدخان] ، وفي سورة ق فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ، وفي سورة القمر جاءت هذه الآية: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أربع مرات ، وفي الحاقة : وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ .
    (2) وجاء لفظ الآيات باعثًا على التذكر في نحو سبع آيات ، والآيات إما كونية وإما قرآنية ، والتذكير بالقرآن تحدثنا عنه ، والتذكير بآيات الكون سنتحدث عنه ، أما في هذه المواطن فقد جاءت الآيات عامة بدون تحديد ، لكن في بعض المواطن يغلب على الظن أنها القرآنية ، وفي بعضها الآخر يترجح أنها الكونية .
    فمن الأولى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ الكهف والسجدة ، وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وراجع 15 \ السجدة و 221 البقرة .
    ومن الثانية قوله تعالى: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ، والمشار إليه نعم الله على بني آدم باللباس والرياش ، ثم إرشادهم إلى أن لباس التقوى أجمل وأكمل .
    وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا : أي أن الحديث في إنشاء السحاب وإنزال المطر تنوع القول فيه بين الناس في القرآن وفي الكتب السماوية الأخرى ليتذكروا ويعتبروا .
    (3) التأمل في مخلوقات الله وفي سننه الكونية ، وهذا من أقوى البواعث على التذكر ، ومن أنجح وسائل التذكير ، ولا عجب فهو المنهج الذي ارتضاه القرآن لهداية النفوس الضالة إلى الله ، وفي غرس جذور العقيدة ودعم سلطانها على قلوب البشر .
    وقد أشرت في الفقرة السابقة إلى آيتين فيهما حديث عن آيات الله حافز على التذكير .
    وتأمل معي هذه الآيات التي تعرض جوانب من الكون العظيم ، لتنتهي بالناس إلى ضرورة الإيمان والتوحيد : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، وراجع [57 \ الأعراف- 17 \ النحل- 62 \ الواقعة- 8 \ ق- 31 \ المدثر- 62 \ النمل] .
    (4) التذكير بعبر التاريخ وأحداثه :
    والتاريخ ذاكرة البشر وملهم المواعظ ، وكلما عرفت الأمم ماضيها أقامت على أصح التجارب مستقبلها ، ولذلك عني القرآن الكريم بدعوة الأمم إلى السير في الأرض والنظر في أخبار السابقين ، وكان القصص القرآني على كثرته وتنوعه بمثابة جذب لذاكرة النبي صلى الله عليه وسلم نحو عبر الماضي؛ لينتفع بها في الحاضر ، فالتجربة البشرية واحدة ، والتاريخ يعيد نفسه ، يقول تعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ قد مرت آيات فيها دعوة للرسل إلى تذكر التاريخ ، وتذكير أممهم به ، مثل قوله تعالى لنبيه موسى : وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ، كما يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ، وفي تذكير البشر بالقرون السابقة يقول تعالى : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ بعد قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ .
    وللقصص القرآني هدف آخر ، وهو تذكير المعاندين والضالين وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ .
    (5) يوم القيامة :
    اليوم الحق ، ويوم الهول ويوم الزلزلة ، ويوم القارعة ، سيعيد للغافلين ذاكرتهم ، ويطلبون دنيا أخرى يستدركون فيها ما فات ، ويكون الجواب: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ، ووصف القرآن الكريم يوم القيامة بأنه يوم التذكر وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ، واقرأ الآيات [18 \ محمد ، 54 ، 55 \ المدثر ، 19 \ المزمل] .
    (6) التذكير بالمحن والنعم :
    قد يسلط الله على البغاة المحن- رحمة منه- رجاء أن يتذكروا ، يقول تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ، ومنهم الغارقون في الغفلة ، فلا تؤثر فيهم ضراوة المحنة ، وهم المنافقون أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ .
    والنعم باعث آخر على التذكر ، وتبلغ من بعض النفوس أكثر مما تبلغ منها المحنة ، يقول تعالى: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ .
    وفي نعم الله على الصالحين موعظة وتذكرة ، يقول عن نبيه أيوب: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ .
    وفي سور ص ، يقول الله تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ .
    وفي إنقاذ المؤمنين بنوح من الطوفان تذكرة بالغة ، إذ يقول تعالى مشيرا إلى السفينة : لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ .
    وفي معرفة الإنسان للنار تذكرة ومتعة ، وتذكرة بنار الآخرة وبلائها وأهوالها ، ومتعة في الدار العاجلة ؛ إذ يستخدمها الإنسان في تحصيل الكثير من منافعه ، يقول تعالى: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ .
    والمقوون: المسافرون .
    (7) القول اللين ، والموعظة الحسنة ، وضرب الأمثال :
    لين القول وحسن الموعظة ، والاستعانة على هذا وذاك بضرب المثل من أبلغ وسائل التذكير التي اعتمد عليها القرآن في نصح البشر .
    فبالقول اللين وصى الله نبيه موسى وأخاه هارون: فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى .
    وهذان نموذجان للقول اللين الذي يحفز إلى التذكر ، من واقع أسلوب القرآن:
    الأول: في مجادلة من زعموا الملائكة بنات الله مع بغضهم للبنات: أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ والثاني : في محاورة من اتبعوا هواهم فضلوا السبيل: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وقد استعان القرآن الكريم على ذلك بضرب الأمثال ، وقد عرفنا مثل الفريقين: المؤمنين والكافرين ، وتشبيه الأولين بالبصير والسميع ، والآخرين بالأعمى والأصم ، وتعقيب الآية على ذلك بهذا التساؤل: هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ .
    وفي القيمة التوجيهية والتأثيرية لضرب الأمثال ، وفي دفعها القوي إلى التذكر يقول تعالى : وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، كما يقول تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، ويقول تعالى : وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ .
    والآية الأخيرة تكشف عن المقدرة الفكرية والعلمية الواسعة التي يتصف بها كل إنسان يستفيد من أمثال القرآن الكريم .
    رب أعني على ذكرك ، وذكرني بآياتك حتى تذكرني يوم العرض عليك ، واجعل لكل مسلم يقرأ بوعي كفلا مما دعوت ، إنك سميع الدعاء .

    مصادر البحث :
    (1) القرآن الكريم .
    (2) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم .
    (3) معجم ألفاظ القرآن الكريم . مجمع اللغة العربية بالقاهرة .
    (4) تفسير المنار . محمد رشيد رضا .

    النسيان والذكر في القرآن الكريم دراسة لغوية ومنهج جديد في تفسير الكتاب الحكيم الدكتور : السيد رزق الطويل (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثالث عشر - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1405هـ) مقدمة باسم الله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد : فهذا بحث ميدانه: كتاب رب العالمين . وموضوعه: النسيان والذكر وتناول القرآن الكريم لهما . ومنهجه: تتبع هذين اللفظين في الكتاب العزيز ، في صورهما المتنوعة ، واستخلاص النظرة الشاملة لهما بحيث يبدوان موضوعًا واحدًا متكاملا مدروسًا على ضوء المنهج الإسلامي . ومن هنا نرى هذا البحث يحمل طابع الدراسة اللغوية للقرآن الكريم ، وفي الوقت نفسه أسلوب جديد في تفسير الكتاب العزيز . والنسيان والذكر ظاهرتان بشريتان ، ولهما أثرهما الكبير في مسيرة البشر من هذه الحياة ، وهما أيضًا من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان ؛ ليستعين بها في أداء رسالته في الحياة ، رسالة العبودية الخالصة لله تعالى وحده . وقد يتصور الإنسان بادئ الرأي أن هذين من الأمور البشرية التي لا يتعرض لها المنهج الإلهي بالبيان ، فماذا يُهم الإسلام إن نسي الإنسان في دنياه أو تذكر ؟! لكن الحقيقة التي يؤكدها السلوك الإنساني أن ظاهرتي النسيان والذكر قد تصبحان موضوعًا إسلاميًّا عندما يتحول النسيان إلى غفلة ، وعندما يكون الذكر سياجًا يحمي عقيدة الإيمان . ولهذا تحدث القرآن الكريم- كما سنرى- عن هاتين الظاهرتين كثيرًا ، وبشمول واستيعاب لجميع أوضاعهما الإنسانية والدينية . وسنبدأ بالحديث عن النسيان اتباعًا لمنهج القرآن الذي يحارب الكفر كمقدمة للدعوة إلى الإيمان ، وينهى عن الشرك قبل الدعوة إلى التوحيد ، ويحارب الطاغوت قبل أن يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له . وكلمة التوحيد: أولها نفي ، وآخرها إثبات . قال تعالى : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . أسأل الله الكريم أن يمنحنا التوفيق والسداد ، وأن ييسر لنا أسباب القول ؛ ليتحقق الخير الذي نرجوه لأمتنا المسلمة ، والله يتولى الصالحين . النسيان في القرآن النسيان ظاهرة بشرية : النسيان ظاهرة بشرية ، وسمة أصيلة من مسلك الإنسان ، وقد اختلف اللغويون في اشتقاق الإنسان ، فمنهم من رأى أن أصل الكلمة هو الأنس ، وآخرون منهم رأوا أصلها النسيان ، وقديما قال أحد الشعراء: ومـــا سُـــمِّي الإنســان إلا لنســيه ولا القلـــــــب إلا أنـــــــه يتقلـــــــب وهذا يؤكد أصالة هذه الصفة في سلوك البشر . ويرى علماء النفس أن النسيان ضرورة بشرية؛ لأن الذاكرة لها درجة تشبع ، ومن رحمة الله بالإنسان أن منحه النسيان ليهمل ما لا يهمه ، ويختزنه في عقله الباطن ، ويحتفظ في منطقة الشعور بكل ما يهمه من شئون حياته . والنسيان بهذه الصفة يخرج عن دائرة التكليف ، ويتجاوز حدود المسئولية ، ويعفي الإنسان مما يحدث منه وهو واقع تحت سلطانه ، خاضع بغير قصد لتأثيره . أما النسيان المقصود ، وهو تعبير قد نجد من ظاهره لونًا من التناقض ، لكنه في حقيقة الأمر لا تناقض فيه ، إذ فيه نسيان وفيه قصد ، ونعني به الغفلة عن الواجب ، وإهمال ما لا ينبغي أن يهمل من حقوق ومسئوليات . تناول القرآن لهذه الظاهرة الإنسانية: ولنتجه الآن إلى القرآن الكريم لنرى كيف تناول هذه الظاهرة؟! وبإحصاء دقيق للفظ النسيان في القرآن الكريم في صوره الاشتقاقية المختلفة نجد أنه ورد في خمسة وأربعين موضعًا من الكتاب العزيز . وبدراسة المواضع التي ورد فيها هذا اللفظ بمشتقاته ، نرى أن القرآن الكريم قد استخدمه بمعنييه جميعا: النسيان الحقيقي الذي يلم بالإنسان في غير قصد أو إرادة ، والنسيان المقصود الذي نعني به الغفلة عن الواجب وإهمال المسئوليات . النوع الأول: النسيان الحقيقي ، كيف تناوله القرآن؟ عندما يكون النسيان قسرًا وجبرًا ، وعندما يلم بالإنسان بلا قصد منه أو إرادة يكون هو النسيان الحقيقي الذي أعطيناه صفة الظاهرة البشرية أو السمة الإنسانية ، إذ أن أي إنسان مهما كان لا يستطيع أن يتجرد منه . وحديث القرآن عن هذا النوع حديث إخباري بحت ، يعرض فيه بعض صوره أو ينفيه في بعض المواضع التي ينبغي أن ينفى فيها؛ لأنه تجاوز إطار الظاهرة البشرية ، أو يتناوله في أسلوب دعاء على لسان المؤمنين يضرعون فيه إلى ربهم ألا يؤاخذهم بما وقع منهم تحت سلطانه ، وهذا أقصى ما ينبغي أن يتحدث به القرآن عن ظاهرة بشرية جبرية كهذه ، فهو إذن لا يحتاج إلى تحليل أو تقويم ، أو إصدار أحكام كما سنرى في النوع الثاني . وتناول القرآن الكريم لهذا النوع من النسيان بصوره الثلاث: النفي والدعاء والإخبار جاء في أحد عشر موضعًا . (1)- في صورة النفي: (أ)- نفاه القرآن نفيًا قاطعًا عن رب العالمين ، الذي ربى الوجود كله بنعمه ، ورعاه بحكمته وخبرته ، وحفظه بقدرته ؛ إذ يقول تعالى: وَمَا نَتَنَـزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ونَفْي النسيان عن طريق نفي كينونته أروع وأوضح ، إذ هو بالنسبة لله لا وجود له ، لا أنه موجود ثم نفي ، وحاشا للحَكَم العدل اللطيف الخبير أن تلم به ظاهرة هو ركبها في الإنسان ؛ لتنسجم له أسباب الحياة . (ب)- وفي موضع آخر يطمئن رب العالمين نبيه بأنه سيكون بمنجاة من هذه الظاهرة البشرية في مجال الوحي وتبليغ الشريعة ، فيقول له: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى ففي هذه الآية ينفي القرآن النسيان عن النبي عليه الصلاة والسلام في كل ما يتصل بالوحي ، وتبليغ الرسالة . (ج)- وفي موضع ثالث ينفيه عن الكتاب أو اللوح المحفوظ الذي سجل فيه أقدار الخلق وأعمالهم ومصايرهم ، ووحي الله وأمره إليهم ، قال تعالى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى ، وإذا تصورنا نفي الضلال والنسيان منسوبًا لله في هذه الآية ، فإننا بهذا الاعتبار ندخلها في الموضع الأول . (2)- في صورة الدعاء أو الالتماس: في دعاء المؤمن لربه الذي علمه إياه نرى ضراعة خاشعة ، عادلة قويمة ، يرجو فيها ألا يؤاخذه بما سلف من تحت سلطان النسيان المبسوط على بني الإنسان ، فيقول تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، وفي موضع آخر يلتمس موسى من العبد الصالح ألا يؤاخذه بنسيانه ما اشترط عليه من عدم الاعتراض على تصرف يصدر منه ، يقول تعالى على لسان موسى: قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا . (3)- أخبار قرآنية تتصل بالنسيان : (أ)- مريم عليها السلام ، وقد اختارها ربها موضعًا لآيته ؛ ونفخ فيها من روحه ، وأحست بحكم نوازعها البشرية بكثير من الأسى ، ورأت في الأمر محنة لها ، إذ كيف يعلم الناس بحقيقة موقفها وبراءة ساحتها !! لذا كانت أمنيتها على الله تعبيرًا عن مدى الألم الذي أحاط بها ، تمنت أن قد كانت في عالم الموتى ، ومحيت من ذاكرة الناس قبل أن تعيش هذه المأساة ( كما تراها ) يقول تعالى: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا . (ب)- وفي حديث القرآن الكريم عن عِجل السامري الذي فتن به بنو إسرائيل على أساس أنه رمز للإله ارتضاه لهم موسى ، لكنه ذهب إلى الموعد ، ونسيه مع السامري ، هكذا فهموا أو هكذا خدعهم المحتال الأثيم : فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (ج)- وفي موضع ثالث يحدثنا القرآن الكريم عن نسيان موسى عليه السلام وفتاه للحوت ، وقد كان نسيانه أمارة ، وميقاتًا للالتقاء بالعبد الصالح ، ولا يذكر أنه نسي إلا عندما يحل وقت الغداء ، ويفتقد فتاه الحوتَ فلا يجده ، ويتصور أن نسيانه من عمل الشيطان ، ولكن موسى يكشف الحقيقة لفتاه ، وأن ما حدث هو بغيتهما ، وارتدا إلى مجمع البحرين ، والتقيا بالعبد الصالح الذي وعد موسى بلقياه ، يقول تعالى: فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا . بهذه الصور الثلاث المتقدمة كان تناول القرآن الكريم للنسيان الذي هو ظاهرة إنسانية لها صفة العموم والانتشار ، ولها صفة القهر والإلزام ، ومن هنا رفع الشارع الحكيم مسئولية البشر عما يحدث في ظلال هذا النوع من النسيان . والنوع الثاني : النسيان المقصود: وهو نسيان الغفلة عن الواجب ، وإهمال المسئوليات ، وهو أكثر النوعين ورودًا في القرآن الكريم ، تناول أنواعه ، وحلل أسبابه ، وحذر من مغبّته ، وبين عقوبته . وتناول القرآن الكريم له بهذه الكثرة؛ لأنه ظاهرة بشرية منحرفة تحتاج إلى تحليل وعلاج ، وللشارع الحكيم منها موقف يحتاج إلى بيان وتفصيل . ولهذا أولاها الكتاب العزيز اهتمامًا بالغًا ، لما لها من خطورة بالغة تهدد الدين السماوي ، وتنحرف بالبشرية عن هديه وهداه . ومن هنا ورد الحديث عن هذا النوع في أربعة وثلاثين موضعًا من كتاب الله ، وكل ما ورد في هذه المواضع من نسيان يحمل طابع الغفلة عن واجب أو التنصل من تبعة أو الإهمال لمسئولية لا ينبغي أن تهمل بحكم ما تلزم به عقيدة الإيمان . ويمكن أن يصنف هذا النوع تصنيفًا يجعل من الآيات التي وردت فيه موضوعًا كاملا . (1)- مظاهر النسيان المنحرف واتجاهاته (2)- تحليل أسبابه (3)- عقوبته (4)- العلاج الذي وضعه القرآن له (1)- مظاهر النسيان المنحرف واتجاهاته : يتخذ هذا اللون من النسيان عدة مظاهر تؤكد انحرافه عن سنن النسيان البشري الذي رفعت المسئولية عن صاحبه ، وذلك لأن هذه الظواهر تؤكد أن للإنسان قصدًا وإرادة على نحو من الأنحاء وأن ما يتورط فيه الإنسان من أعمال نتيجة له إنما هو شيء مراد . وهذه هي مظاهره: (أ)- نسيان الذنوب والخطايا : إذا وقع الإنسان في الذنب أو هوى إلى الخطيئة لأول مرة فله عذره ، والخطأ من حقه؛ لأن وراءه نوازع بشرية عميقة التأثير في توجيه السلوك ، ولذا شأنه إذا تاب قبل الله توبته ، وفرح بأوبته على أن يظل هذا الذنب الذي اقترفه درسًا يضيفه إلى تجاربه التي تحدد في الحياة فاعليته ومسلكه . أما إذا نسي تجربة الذنب فستنتكس حياته ، ويتعثر سلوكه ، ويظل يهوي مع هواه حتى يكون من الغاوين ، وهذه هي صفته كما عرضها القرآن الكريم . يقول الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ، فأسلوب الآية يشير إلى أن أشد الناس ظلمًا ذاك الباغية المنحرف ، الذي يُذكّر بآيات الله في كتابه وفي الحياة فيعرض عن الذكرى ، وينسى ما تورط فيه من ذنوب وآثام ، ومن هنا استحق ما وصف به في آخر الآية إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ، وإذا كان في طبع الآثِم نسيان ذنبه ، فهذا النسيان دعامة انحرافه ، ومن هنا يكشف القرآن الكريم هذه الظاهرة في سلوك طائفة أخرى من الآثمين الذين هَوُوا في وادي الشرك السحيق ، إذ ذكروا ربهم في الضراء ، ونسوا أنهم أشركوا به في السراء ، فيقول تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ فالفطرة السليمة التي شوهها الإنسان بانحرافه في السراء تعود نقية صافية ، تشد الإنسان المنحرف إلى ربه في الضراء؛ ولهذا ترشد الآية إليها ؛ لتؤكد للإنسان أن نداء الفطرة السليمة أهدى وأقوم . على أن الحقيقة التي ينبغي أن يذكرها الآثِم أنه إن نسي فاستمرأ بالنسيان إثمه ، فإن وراءه الرقيب الذي يحصي عليه ما قد نسيه ، يقول تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ . (ب)- نسيان يوم القيامة : يوم القيامة الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين ، حيث يجد كل إنسان طائره في عنقه ، ويقرأ بنفسه صحائف أعماله ، ويرى بعينه مصيره ، وهو اليوم الحق ، حيت يفصل فيه بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون ، وينتهي أمر الباطل إلى جحيم ، وينعم المتقون في دار النعيم . وقد عني القرآن الكريم بعرض مشاهد شتى من ذلك اليوم ، وطالما كان المؤمن على ذكر لذلك اليوم سيتخذ منه حافزًا يدفعه إلى الخير ، وينأى به عن الضلال ، ويثبته على طريق الهداية . ولذا نجد في أكثر من آية في كتاب الله دعوة إلى اتقاء ذلك اليوم ، وما فيه من أهوال وبلاء ، وإذا نسي الإنسان ذلك اليوم فلم يعمل له حسابه فنسيانه بادرة إلى الانحراف الذي ينتهي بالإنسان إلى ضلال . وها هو موقف الناس ليوم القيامة يعرضه القرآن الكريم في عدة صور . يقول تعالى عن الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا ، وغرهم ما في دنياهم من زخرف ومتاع : فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فجزاؤهم عند الله إذن إهمال ووبال ؛ لأنهم نسوا يوم القيامة فلم يقدموا في دنياهم عملا ينفعهم ، والهوى يهوي بصاحبه ويضله فينسيه يوم الجزاء بما يقدم له من شواغل صارفة ، يقول تعالى في نصح نبيه داود عليه السلام : وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ . فالضالون عن سبيل الله سر ضلالهم نسيانهم يوم الجزاء ، وهذا النسيان سر آفة الإنسان وضلاله ، ولذا عندما يقف المجرمون ناكسي رءوسهم عند ربهم ، وقد رأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم ما نسوه من حقائق ذكروا بها دنياهم فلم يتذكروا ، عند ذاك يدعون إلى العذاب الذي عرفوا يومئذ سبب وقوعهم فيه ، فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . وفي الآية الأخرى يقال لهؤلاء الذين نسوا ما لا ينبغي أن ينسى : لقد نسيتم يوم الجزاء فكان أعدل جزاء لكم تلقونه في هذا اليوم من إهمال وازدراء وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ . (جـ) - نسيانهم لله هذان النوعان السابقان من النسيان : نسيان الذنوب ، أو نسيان يوم المصير ، آفتهما أن أولهما يحمل معنى عدم الاستفادة من التجربة ، وثانيهما يحمل معنى عدم الاعتداد بالدافع ، أما هذا النوع الثالث وهو الذي يتعلق بالله فهو شر بذاته ؛ لأنه يعني تقلص ظل الإيمان من نفوس البشر ، إذ لا يمكن أبدًا أن يصح إيمان أو يستقيم على أساسه سلوكٌ ما لم يكن القلب مشغولا بذكر الله منصرفًا إلى ما يهيئه له الذكر من مراقبة دقيقة لخالقه ومولاه . وهذا النسيان قد يتعلق بأمر الله ، وقد يكون تعلقه بذات الله ، وهذا النسيان لذكر الله الذي يجب أن يكون سلاحاً للمؤمن يشهره في وجه الشيطان إذا أراد أن يهوي مزالق الخسران . أما الأول منها: فقد عهد الله لآدم ألا يأكل من شجرة بعينها ، وحذره من وسوسة الشيطان وإغراءاته ، ونسي آدم عهده مع ربه ، وذهب عنه العزم الذي يثبت اليقين في أحلك الظروف ، يقول الله تعالى ، يعرض لنا هذا الموقف : وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا . ثم نجد الآيات التالية تسجل أن هذا النسيان كان لونًا من الانحراف وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى وأن الله تاب على آدم وغفر له ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى وأما الثاني: فقد أشار إليه القرآن الكريم ، وهو بصدد الحديث عن المنافقين إذ وصفهم بأنهم نسوا الله فيقول: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ . ووقوع ظاهرة النسيان منهم على الله دلالة بليغة على خفوت حرارة العقيدة ، وتبلد عاطفة الإيمان وصيرورتها مجرد دعوى بلا واقع ؛ إذ أن كل ما في الإنسان من جوارحه ، وما حوله من آيات في السماوات والأرض تذكره بالله ، فكيف ينساه؟ إنه شأن المنافقين ، ظاهرهم الذكر ، وباطنهم الغفلة ، ومن طبعهم الكذب ، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك اللون من النسيان في موضع آخر يحذر فيه المسلمين من سلوك المنافقين ؛ إذ يقول الله تعالى لهم : وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ . وكأن هذا النسيان من شأن المنافقين وحدهم ، إذ أن سلوكهم يقوم على نسيان بارئهم والحرص على شهواتهم ، وتضليل الناس من حولهم . وثالث الأنواع من هذا النسيان الذي يتصل بالله: نسيان ذكر الله . ومعنى هذا النسيان افتقاد سلاح لا يستقيم أمر المؤمن في الحياة بدونه ؛ إذ يقيه من الإغواء ، ويثبته في مواقف الإغراء ، ويحفظه من همزات الشياطين ولذا جعل القرآن الكريم ذكر الله صفة للمتقين الذين تتجه هممهم إلى خشية الله ومراقبته يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ، كما يقول تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ، ومن هنا كان نسيان الذكر مباءة للفساد ، ويزيد من فرص الانحراف في أمور الدنيا ، وعن أوامر الدين . وهذا هو شأن من نسُوا ذكر الله ، توضحه عدة آيات ، وفي كل آية منها إشارة إلى باعث لهذا النسيان ، وهو إما استهواء الشيطان أو استعلاء الإنسان أو غرور لا يسمح بفهم واقعه البشري ، فيذكر ماديته وينسى ذكر ربه . ولكون الآيات التي تتناول نسيان الذكر تعنى بتحليل أسباب هذه الظاهرة سأتناول هذه الآيات عند تناولي لأسباب هذه الظاهرة بعد قليل . واقتران نسيان الذكر بتحليل بواعثه وبيان أسبابه دلالة على خطورة هذا النوع الذي يصرف الفكر عن ربه ويدفع الإنسان إلى مهاوي الضلال . بواعث النسيان : عندما يكون النسيان مجرد ظاهرة بشرية فبواعثه حينذاك نفسية بحتة ، تنبع من داخل الإنسان ، وتتمشى مع فطرته الإنسانية في استواء ، ليس فيه شذوذ أو نشاز أو التواء ، وهذه البواعث خارجة عن دائرة هذا البحث ، ومجال دراستها بحوث علماء النفس ، ولا يعنى القرآن الكريم في هذه الناحية الإنسانية إلا بتسجيل ظواهرها ، أما تحليل الأسباب فرب العالمين خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه ، ويفرض عليه من السلوك ما ينسجم مع بشريته ، وتعليل الظواهر البشرية الثابتة لا يفيد الإنسان في تدينه ، أي في علاقته بخالقه ومولاه . أما النسيان المنحرف فهو الذي تعرضت له الآيات لما وراءه من بواعث ؛ لأنها تنبع من خارج الإنسان ، أو من داخله الذي خالف عن نداء الفطرة القويم ، وذكر البواعث حينذاك علامات هادية للإنسان على الطريق . وهذه هي الأسباب: في مقدمتها الشيطان ، وقد نسب إليه القرآن الكريم شغل الإنسان عن ربه ، وصرفه عن ذكره ، وذلك في عدة مواطن: فيوسف في سجنه وقد طال به الأمد ، وفي نفسه شعور صارخ بالظلم ، وسجنه هو البديل الوحيد للرذيلة التي تطارده ، طلب إلى أحد رفيقيه- وقد يسرت له النجاة- أن يذكره عند الملك ، ونسي يوسف رب الملك ، إذا لا نجاة له إلا بتقديره ، ولكن الشيطان قد ينال من الإنسان وهو يعانى من ضراوة الامتحان ، قال تعالى : وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ . وكان مكثه في السجن لمسة عقاب على غفوة يسيرة تولى أمرها الشيطان . وفي حديث القرآن الكريم عن المنحرفين عن سمت الإسلام إما بفساد في العقيدة ، أو انحراف في السلوك نجد تعليلا لذلك يتمثل في تسلط الشيطان عليهم ، وسيطرته على نفوسهم ، فأنساهم خالقهم ، وبذلك تم لهم الانغماس في ضلالهم ، يقول تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ . والشيطان وهو يؤدي رسالة الشر في البشرية لا يقصر جهده على الأشرار فهم جنوده وقد فرغ منهم ، ولكنه يبحث عن ضالته في السائرين على طريق الرشاد يحاول جذبهم إليه ، وقد تبلغ به الوقاحة مبلغًا كبيرًا ، فيطمع في أن ينال فرصة من رواد البشرية ، وأنى له ذلك؟ ولذا يقول الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام مذكرًا ومحذرًا ، يذكره بمحاولات الشيطان جذبه إليه في مجالس هؤلاء الضالين ، ويحذره من الجلوس معهم أكثر من فترة التذكير والتوجيه : وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . والغرور هو ثاني الأسباب: وهو أن يسيء الإنسان فهم نفسه ، بأن ينسى الأصل الذي منه نشأ ، أو ينسى أن الأيام تدول ، وأن النعم تزول ، وأن النعمة قد تصير شقاء ، والجاه قد يتحول إلى بلاء . وسوء الفهم الذي يوجد الغرور هو الذي ينسي الإنسان هذه الحقائق الثابتة من سنن الله في الحياة . فأُبيّ بن خلف عندما وقف موقف التحدي من النبي صلى الله عليه وسلم منكرًا في تهكم عقيدة البعث ويأتي بعظام بالية ويفتنها بيده ويقول: أترى يا محمد أن الله يحيي العظام بعدما رمت؟!! من غير شك أن أبيًّا في موقفه الذي تبدو منه حماقة البغي وشراسة الجحود لم يدر بخلده الماء المهين الذي خلق منه!! ولو تذكره لراجع نفسه مرات قبل أن يقول ما قال ، وهذه هي الحقيقة التي يسجلها القرآن الكريم: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ . فالغرور أنسى أمية إحدى بديهيات الوجود حتى تورط فيما تورط فيه من كفران وجحود ، والنعمة تأتي للإنسان بما وراءها من بهجة ومتاع ، فيعيش عيشة الرغد ، ويرفل في أفخر الثياب ، وينعم في سلطان المال والجاه ، وينسى أسس شقائه وبلائه ، وفقره وبأسائه . إن الإنسان المغرور ، يفزع إلى ربه في الضراء ، وينسى ضراعته في السراء : وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ . فغرور الإنسان أنساه صاحب الحق ، فضل السبيل إليه وأشرك . وكم يؤدي غرور الإنعام بالإنسان إلى مهاوي الكفران عندما ينسى ما كان فيه من عسر وما صار إليه من يسر . ويوم القيامة سيبرأ المعبودون من العبيد أمام رب الأرض والسماء معللين انحراف من عبدوهم بأن متاع النعمة أنساهم فضل المعبود الواحد ، يقول تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا . ومن عجب أن تكون نعمته سببًا لجحود فضله ، والغفلة عن ذكره ، ثم ضلالهم طريق الوصول إليه . وثالث الأسباب: شهوة التسلط عندما يشعلها إمعان الأتباع في الخضوع . قد يجد المغرور من يستخزي لكبريائه ، وينصاع لغلوائه ، ويستذل لبغيه ، فيغريه ذلك بمزيد من الطغيان ، ويسمع كلمات الثناء وعبارات التمجيد من أفواه العبيد ، فيتصور أنه كبير ، وينسى أن فوقه الكبير المتعال . وعندما وجد فرعون من يستذلهم أنساه ذل العبيد أنه عبد مثلهم ، وصدق رب العالمين إذ يقول: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً . تتجلى حقيقة هذا السبب في قوله: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ فكما يحاول الفاتن أن يصرف مفتونه عن دينه ، ويبعده عن ربه نرى المفتون من ناحية أخرى ينسى فاتنه ذكر ربه عندما يظن سكوته عنه انصياعا له وذلا له ، فيغريه ذلك بمزيد من التجاوز والشطط . عقوبة النسيان نسيان: هؤلاء الذين وقعوا مطية للنسيان المنحرف الذي حللنا أسبابه ، كيف قوّم القرآن موقفهم؟ وماذا قال في عقوبتهم؟ إن سنة الله في عباده وقانونه في خلقه: الجزاء من جنس العمل ، فمن نسي يُنسى ، ونسيان الله لعبده يعني أنه في موقف الطرد من رحمته ، والبعد عن مغفرته ، وأنه موكول إلى نفسه ، ولذا فشقاء الحياة ينتظره ، وبؤسها سيلاقيه . وهذه هي الآيات التي تشير إلى عاقبة النسيان الخاطئ ، يقول تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ، نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ، وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ، وفي هذه الآية الأخيرة لون آخر من العقوبة ، وهو أن من نسي ربه يوكل الله به ظاهرة النسيان البشري بصورة غير طبيعية تجعل حياته لا تحتمل ، ويقضي أيامه في الحياة بدون ذاكرة ، وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وفي مثل هذه الآية كانت عقوبة النسيان من أجل نسيانهم يوم اللقاء ، ونسيان يوم اللقاء يعني نسيانهم الملك الحق الذي جعل هذا اليوم فَيصلا بين العباد . هكذا تؤكد الآيات السابقة كلها بأوضح عبارة وأجلى بيان أن عقوبة النسيان نسيان. والنسيان الذي هو عقوبة ليس كالنسيان الذي هو خطيئة لكنها المشاكلة في التعبير، وهي من خصائص بلاغة القرآن ، جاءت لتؤكد حتمية القانون الإلهي واستمراريته ، وهو أن جزاء العامل من جنس عمله . الذكر في القرآن ما صلة حديث الذكر بحديث النسيان ؟ إذا ذكرت ربك بصدق طهرت القلب من شواغله ، وأخلصته لبارئه ، وأنقذته من أدوائه ، وحرسته من بواعث النسيان الضال التي أسلفناها ، وكنت على ذكر لربك تنقشع أمامه بواعث الغفلة مهما كثرت . وقد قدم لك القرآن العلاج من هذه الآفة القاتلة المدمرة للعقيدة والسلوك في آية واحدة هي قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا الذكر علاج للنسيان والغفلة ، هذه واحدة . وهناك أمر آخر يدعونا إلى الحديث عن الذكر بعد النسيان ، وهو أن الحديث عن أي من المعاني يسوق إلى الحديث عن مقابله ، وتناول المعاني المتقابلة يزيدها وضوحًا ، ويكسبها في النفس بلاغًا ، وبضدها تتميز الأشياء . ألفاظ الذكر في القرآن وأوضاعها اللغوية والنحوية : وردت ألفاظ الذكر في القرآن في نحو مائتي موضع مختلفة الاشتقاق والموضع الإعرابي ونوع الضمائر الملحقة بها وفي التجرد والزيادة . وقد رأيت أن الصيغة الثلاثية للذكر (ذكر) ومشتقاتها المختلفة تستعمل في معان معينة ، بينما الصيغ المزيدة تستخدم استخداما آخر . فالذكر صورة حاضرة ماثلة في الذهن . والتذكرة استحضارها بعد النسيان . والتذكير حفز الغير على ذلك الاستحضار . ولنبدأ بالحديث عن الذكر ، وما يشتق من مادته من صيغ ثلاثية . وردت الصيغة الثلاثية للذكر من عدة صور متباينة ، وفي معان متنوعة : *جاءت بالصيغة الفعلية (ذكر- يذكر- اذكُر ) مرادًا بها الحديث . *وجاءت بالصيغة الاسمية مرادا بها الشرف أو الشأن ، ومرادًا بها العلم ، ومرادًا بها الكتاب المنزل أو النبي المرسل . *وتناوله القرآن بالصيغة الفعلية واقعًا على لفظ الجلالة ، وبالصيغة الاسمية مُضافا إليه مثل: ذكروا الله- يذكرون الله- اذكروا الله- ذكر الله . *وبنفس الصيغتين واقعًا على لفظ الرب أو مضافًا إليه . . *وبالصيغة الفعلية واقعًا على اسم الله تعالى مثل: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى . والذكر في الحالات الثلاث الأولى يدخل في دائرة الاستعمال اللغوي فحسب ، وفي الحالات الأربع الأخيرة مقصور على العبودية الخالصة ، والارتباط الوثيق بالله. الذكر بمعنى الحديث : تناول الإنسان لأمر من الأمور بلسانه يعني إخراجه من دائرة النسيان إلى عالم الشهود ، وقد ورد الذكر بهذا المعنى في ستة مواضع ، منها ما فيه تكريم ، ومنها ما فيه تحذير . فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام التي ضل بها قومه ، وقالوا عنه كما حكى القرآن الكريم : أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ . وذكر إبراهيم الأصنام التي ضلت بها شيعته ، وقالوا عنه كما حكى القرآن : سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . وطلب يوسف من رفيقه في السجن أن يذكره عند الملك وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ . وظل يعقوب يذكر يوسف كثيرًا حتى لامه في إشفاق ، أو أشفق عليه في لوم بنوه الآخرون قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ . وإذا تحدث القرآن عن الجهاد وذكر في آياته اسم القتال فزعت قلوب المنافقين وزاغت أبصارهم فَإِذَا أُنْـزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ . والإنسان قبل أن يوجد أو يولد لم يكن شيئًا ذا بال يستحق أن يُتحدث عنه ، فهو كما قال تعالى : هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا . الذكر بمعنى الشأن والشرف : وقد امتن على نبيه برفعة الشأن وعلو المظهر ونباهة الذكر ، فقال تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ، كما شرف العرب برسالة الإسلام فيهم ، ونزول القرآن بلغتهم لَقَدْ أَنْـزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ . الذكر بمعنى العلم : والعلم أصول وقواعد مستحضرة في أذهان البشر يواجهون بها مشكلات الحياة والوجود ، والعالِمون بها هم أقدر الناس على بذل العون لغيرهم ممن لا يعلمون ، ولذا كان توجيه القرآن الكريم لغير العالِمين أن يسألوا العالِمين الذاكرين لهذه الأصول ، يقول تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ . ووعد النبي صلى الله عليه وسلم قومه بشيء من العلم عن ذي القرنين عندما سألوه عنه ، قال تعالى : وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا . وطلب الرجل الصالح من موسى عليه السلام أن يلوذ بالصمت حتى يذكر له فيما بعد شيئا من علم ذلك قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا . ومن أهداف عروبة اللسان القرآني أن يقود قلوب العرب في رفق إلى الخوف من بارئها العظيم ، ويمنحها العلم به وَكَذَلِكَ أَنْـزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ، ويعلل الضالون لانحرافهم عن منهج الإخلاص بافتقادهم شيئًا من العلم الذي هدى به السابقون ، أو من التجارب التي مروا بها ، وهو استنتاج دقيق منهم ، لكن بعد فوات الأوان لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ . الذكر بمعنى الكتاب المنزل أو النبي المرسل : الكتاب المنزل مبادئ قويمة ، وشرائع مستقيمة ، ونصح رشيد ، وتوجيه سديد ، ولا عجب فهو كتاب رب العالمين ، الذي خلقهم ويعلم ما يصلحهم ويسددهم ، وعلى قدر بشريتهم شرع لهم من الدين ما وصى به رسله جميعا أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ . والكتاب المنزل ذكر؛ لأنه يضع أمام ذاكرة البشر هذه المبادئ التي تحكم الحياة ، وتقود السلوك ، إنه ذكر حكيم ، وذكرى للمؤمنين . وقد جاء الذكر بهذا المعنى في واحد وثلاثين موضعًا من القرآن الكريم ، من هذه المواضع ما كان الذكر فيه بمثابة العَلَم على القرآن وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُـزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ، إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ، وَأَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُـزِّلَ إِلَيْهِمْ ، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ، أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ، ومعنى هذه الآية أنهملكم فنحرمكم من هدي الكتاب لتجاوزكم حد الاعتدال . . وتتساءل قريش في استنكار: كيف ينزل هذا الذكر على محمد من بينهم؟ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ وقد يترك القرآن ببيانه المعجز آثارا في القوم ، يندر في قلوبهم حقدا ، وفي أعينهم زيغا وغيظا وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وتسمية القرآن ذِكرًا فيه معنى الاسمية والوصفية ، على السواء ، غير أنه في بعض المواضع تغلب الاسمية ، وفي بعضها تغلب الوصفية . فالقرآن من أبرز صفاته أنه ذِكر ، وأن رسالته هي الذِكر إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ويقول تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ، ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ فهو ليس ذِكرًا فحسب وإنما هو ذكر محكم يصيب كبد الحقيقة ، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ويقتحم القلب فيصيب الشغاف ، قال تعالى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وهو ذكر مبارك تسمو به حياة الناس ، وينمو في طريق الخير مجتمعهم وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْـزَلْنَاهُ . ورسالة الذكر في القرآن تعم الوجود كله ، ففي أكثر من آية يقول رب العالمين عن كتابه: إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ يوسف ، ص ، التكوير ، الأنعام وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ، ومع عمومها تخص العرب بذواتهم ، يقول تعالى ممتنًا على النبي وقومه : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ، كما يقول: وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ولفظ لدنا: فيه إكبار لهذا الذكر أي إكبار ، ولذا ينتقد القرآن انصرافهم عنه ، وإعراضهم عن هديه أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . وأكبر خطأ يتورط فيه البشر أن يستبد بهم الغي ، فلا ينتفعون بحكمة هذا الذكر . وهذا هو الكافر يلوم قرين السوء الذي أغواه لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ، كما يقول المعبودون من دون الله يتبرءون أمام ربهم من ضلال عابديهم : وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا . والذي يتبع الذكر ويهتدي بآثاره هو الذي يستجيب للنذير ، ويؤثر فيه التبشير : إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ . وأروع ما في الذكر القرآني - وكله رائع - أنه يحوي خلاصة التجربة البشرية ، يقول رب العالمين: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ . وقد سمى القرآن الرسول "ذِكرًا" لأنه يحمل الذِكر للبشرية ، ويثير ذاكرتها نحو الاتجاه إلى المبادئ السماوية قَدْ أَنْـزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ . وفي قَسَم رب العالمين بملائكته وهم العباد المكرمون ، يشير إلى جانب من فضلهم ، وأنهم يتلون الذكر ، ويلقونه على رسل الله وأنبيائه يقول تعالى: فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ، فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا . ذكر الله وهو أرفع مستوى تسمو إليه عقيدة الإنسان ؛ لأنه يعني استحضار عظمة الذات الإلهية والإحساس بها في كل موطن ، وفي كل موقف ، ومن هنا يكون الذكر جنة للمؤمنين ، وملاذا لقلوبهم فلا تعصف بها الأهواء ، وحصنا حصينا لإيمانهم فلا يزيغ به شرك أو رياء . وهذه هي ثمرته: طمأنينة في القلب الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ . والأسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم منهج كريم ، لكن الذي يعرف قيمة القدوة ، ويحرص عليها من كان رجاؤه في الله وثوابه ، وكان ذكر الله يملأ جوانب نفسه ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا . والذكر صفة للمتقين لأنه باعث التقوى ووسيلتها وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ . وذكر الله سمة تحكم مسلك العقلاء ، يقول تعالى : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ . وذكر العقلاء لله- كما تشير الآية- تأمل وتدبر ، واستحضار لعظمة الذات ، وليس مجرد ترديد عبارات باللسان والقلب عنها في شغل كبير . والذكر صفة للمؤمنين . . فإذا تحدث القرآن عن الشعراء بأنهم يهيمون في أودية الغي ، فمنهم من نأى عن ذلك فنبذ تقاليد الجاهلية ومقاييسها الفاسدة ، واتجه إلى قيم أمثل تصلح الحياة والنفوس ، وهؤلاء هم شعراء المؤمنين أو مؤمنو الشعراء ، وأبرز صفاتهم الذكر الكثير لله ، والانتصار لدينه ، يقول تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ (226) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ولكون الذكر صفة للمؤمن وسمة للإيمان ، وجدنا هذه النداءات في القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ ذلك لأن الذكر أعظم سلاح يرفع من معنوية المجاهد عندما يشتد البأس ، وتحمر الحدق . ويقول تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ، واستجابة القلب للذكر وتأثره به دليل على صدق الإيمان ، وقوة سلطانه على نفس الإنسان . وكما أن الذكر سلاح فعال في ميادين القتال هو أيضًا سلاح مؤثر في معترك الحياة ، يقول تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وفي المواقف الصعبة ترى في الذكر تثبيتًا للذاكرين ، وبه وصى الله موسى وهارون وهما ذاهبان لمواجهة فرعون اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي. الذكر عبادة والعبادة ذكر: ومعنى العبادة لا يتحقق إلا به ، وهي في الوقت نفسه وسيلة إليه وأسلوب له ، والصلاة ذكر ، والذكر من أعظم ثمراتها إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي ، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ . وفي تناول الصلاة ذِكرى وفي أعقابها ذِكر فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ . والذكر ألزم سلوك لعبادة الحج ، ولذا تراه مطلوبًا من الحجيج في كل منسك فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ . ذكر اسم الله : وفي نحو أربعة وعشرين موضعًا من الكتاب العزيز ورد الذكر أو مشتقاته واقعًا على اسم الله ، وتتميز هذه المواضع بأنها عبادات ذات رسوم وحدود ، وأن المعنى فيها الإهلال باسم الله ، لأنه في هذه المواطن دليل الانصياع ، وبرهان الإذعان للخالق العظيم . فالإهلال بذكر الله في الصلاة وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ، وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ، وفي الحج كذلك ترديد لاسم الله تعالى ، يقول جل شأنه : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ . وعند الذكاة (الذبح) يتحتم الذكر فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ، وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، ويحرم ما ذبح من غير ذكر ، أو ذكر عليه غير اسم الله تعالى ، وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَأَنْعَامٌ لاَ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ . ويجب الذكر عند وقوع الصيد في قبضة الحيوان المعلم فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ . وذكر اسم الله شعار ينبغي للمؤمن أن يرفعه في كل حين ، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا . هذه هي المواطن التي يحددها القرآن الكريم للذكر القولي: مواطن العبادات ، وأوقات الضراعة التي يهتف فيها العبد الخاشع الضارع لائذا مستجيرا بمن خلقه وسواه ، مرددا اسمه وحده في أدب واتزان دون تحريف وإلحاد ، يقول تعالى: أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ، وفي آية أخرى يقول: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ومن هنا ندرك مدى العبث الذي يتورط فيه بعض هؤلاء الذين يقفون صفوفًا يترنحون ذات اليمين وذات اليسار ، يرددون اسم الله بألفاظ غير مفهومة زايلها الوقار والاتزان ، زاعمين بهذا أنهم يذكرون الله . . ألا ساء ما يصنعون!! وما عدا مواطن العبادات والضراعة ، فالذكر استحضار لعظمة الله ، وتأمل وتفكير في أثار قدرته . واذكر ربك: وورد الذكر بمشتقاته واقعا على لفظ الرب في ثمانية مواضع ، وهذه المواضع فيها معنى التربية والامتنان والفضل والإنعام ، وهذه ظاهرة تعبيرية واضحة في كل مقام يذكر فيه القرآن لفظ الرب حيث يكون الإشعار بالتربية ألزم وأنسب من الإشعار بالعبودية ، ولأن إدراك معنى التربية- إذا صدق- يوصل إلى العبودية الخالصة . وهذه الآيات تؤكد صحة هذا الاستنتاج يقول تعالى: وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ، ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ، ويقول تعالى لعبده زكريا : وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ . ويقول تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً ، وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ، وعن يوسف يقول تعالى: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ، وعن سليمان يقول تعالى: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ، وفي تأنيب الكافرين الجاحدين يقول تعالى: بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ . الإعراض عن الذكر . . وآثاره وبواعثه الإعراض عن الذكر بادرة خطيرة تزعزع بنيان العقيدة ، ولذا نرى في القرآن الكريم تحذيرًا من اللهو الشاغل عنه ، ومن كل داعية إلى الانصراف عن هديه ، فالذين لا يذكرون هم المنافقون أو الكافرون وكفى !! يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا ، وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا . والذين لا يؤمنون بالآخرة لا يرتاحون إلى الذكر الخالص لله وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ، ولقسوة قلوبهم وعدم تأثرها بالذكر استحقوا الويل فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ . وفي هذه الآيات تحذير من الصوارف عن الذكر واتباع الضالين المنحرفين ، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا والشيطان أكبر صارف عن الذكر ، بل هو الذي ينمي كل الصوارف إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ . والمؤمنون الصادقون لا تؤثر فيهم هذه الصوارف كما وصفهم ربهم فقال: رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ . مصير الغافلين : والغافلون عن ذكر الله ينتظرهم شقاء الدنيا وبلاؤها ، وعذاب الآخرة ونكالها ، فمن يعمَ عن ذكر ربه ييسر له شيطانًا في الدنيا يوغل به في متاهات الإغواء وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، وفي الآخرة يصف القرآن لنا ( الجزء رقم : 13، الصفحة رقم: 162) عذابه فيقول: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ، وحسب الغافل تعاسة الدارين التي تصفها هذه الآية : وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . وهذه منزلة الذاكرين : يعدهم الله من بين حملة القيم ، وأصحاب المثل السامية كالمسلمين والمؤمنين والصابرين والصادقين فيقول تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ . كما يعدهم الله تعالى بأن يذكرهم كما ذكروه فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وذكر الله لعبده تكريم ما بعده تكريم . التذكير منهج لرسالات السماء : والتذكير هو المنهج الذي يقوم عليه دين الله ، ومن أجله كانت وتعددت رسالات السماء في شتى مراحل التاريخ ، وتحمل الرسل عبء هذا المنهج ، ليذكروا البشر بأبعاد الهداية ، ويدلوهم على مواطن الخير في وحي الله ودين السماء ؛ ليستطيع الإنسان تحقيق الرسالة التي أرادها الله له في هذا الوجود . وتدرك هذه الأهمية البالغة للتذكير عندما تقلب صفحات الكتاب العزيز ، إذ تستوقفك في مجال الدعوة إلى التذكير أمور ذات بال . (1) يدعو رب العالمين نبيه ومصطفاه محمدا عليه الصلاة والسلام إلى أن يذكر ويتذكر ، أما التذكير فهو جوهر مهمته ومناط رسالته ، ولذا وجهه الله تعالى إليه في مواطن كثيرة ، وأرشده إلى وسائل شتى يستعين بها في تذكيره سنتناولها فيما بعد . يقول الله تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ، فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ ، وفي الآية الأخيرة دعوة إلى التذكير بالقرآن مخافة أن ينتهي أمر القوم إلى الهلاك ، بما أسلفوه من بغي وانحراف . وأما التذكر فقد دعا الله نبيه إليه لأنه سيكون جُنة له تحميه من نوازع البشرية ، وتضع نصب عينيه مثلا أعلى من حياة من سبقوه في طريق الدعوة ، فيهون أمامه البلاء ، ويخف عليه وقع المحن ، ويتحمل مئونة الصبر ، ومن هنا كان الأمر بالتذكر يدور كله في مجال القصص القرآني . وقد جاء الأمر في سورة مريم وحدها خمس مرات ، يقول تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ الآيات . كما جاء هذا الأمر في أربعة مواضع من سورة ص ، تحث النبي عليه الصلاة والسلام على تذكر أنبياء آخرين سبقوا في الدعوة إلى الله ، فيقول: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ ، وفي الأمر بالصبر قبل الذكر في الموضع الأول إشارة إلى أن مغزى التذكر أن يصل به النهي إلى قضية الصبر التي بها تنجح الدعوات . وفي سورة الأحقاف يقول تعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ ، وأخو عاد كناية عن نبي الله هود عليه السلام ، والأحقاف موضع معروف ، في الجهة الجنوبية الشرقية من شبه الجزيرة العربية ، كما يقول تعالى في صدر الحديث عن موسى عليه السلام: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ . وفي غير مجال القصص القرآني نجد توجيهًا للنبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى استلهام الذكرى من حادث عبد الله بن أم مكتوم الذي عبس في وجهه ، فقال الله لرسوله بعد عتاب غير يسير : كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ . فالتذكر الذي يحمي البشرية من الهوى وينأى بها عن الزلل ، والتذكير الذي هو مهمة ورسالة لم يكونا مقصورين على خاتم الأنبياء وحده ، فهذا أمر الله لنبيه عيسى عليه السلام بالتذكر ، إذ يقول له: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، وهذا أمر آخر لنبيه موسى بالتذكير: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ، ويحدثنا القرآن عن عتاب نوح عليه السلام لقومه الذين ساءتهم الدعوة إلى الله والتذكير بآياته: يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ . ويصف الله تعالى أنبياءه إبراهيم وإسحاق ويعقوب بصفة اختصهم بها ، وهي تذكرهم لدار الجزاء إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ . فرسل الله جميعا ذكروا فتذكروا ، وقاموا بواجب التذكير كما أمرهم الله ، وإن لم تنسب إليهم الألفاظ صراحة بهذه الكثرة كخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم . (2) الدعوة إلى التذكر في القرآن ملحة تهز عقول البشر هزا عنيفا ، وتزيح أستار الغفلة التي تلقيها عليها بين الحين والحين نوازع النفوس ومغريات الحياة ، وذلك ليعود للعقل البشري صفاؤه ، فيستجيب لدعوة الله ، ويذعن لرسالة الحق ، تبدو قوة هذه الدعوة إلى التذكر في الأسلوب التي عرضت به الآيات الداعية إليه ، إذ في ستة مواطن من القرآن الكريم وردت الدعوة بهذه الصورة: أفلا تذكرون ؟ التي تتضمن استنكار الغفلة الصارفة عن استحضار العبرة عندما تمر آية ، أو يلم حدث ، أو يطوف بالحياة أمر ذو شأن ، والذي يلفت النظر ، ويشد الانتباه أن هذه المواطن الستة تدور كلها حول التوحيد وتوطيد العقيدة الصحيحة للإسلام في نفوس البشر ، ففي محاجّة إبراهيم لقومه يؤكد لهم أنه لا يخشى إلا الله ، ثم يقول: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ . ويضرب القرآن الكريم مثل الفريقين: الفريق الذي عقل الحق وعرف العقيدة الصحيحة ، والفريق الذي غفل فضَلّ ، واتبع هواه ، فالأول مثله مثل البصير والسميع ، والثاني مثله: مثل الأعمى والأصم ، وتنتهي الآية بهذا التساؤل هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ . ويرد هود عليه السلام شهوة جامحة لقومه طلبوها في غفلة من العقل والبصيرة ، إذ رغبوا إليه أن يطرد المستضعفين من مجلسه ، ليخلوَ لهم وحدهم ما يريدون من شهوة الانفرادية : وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ . وفي موازنة رائعة مقنعة تأخذ بتلابيب النفوس الضالة التي غشيتها سحابة الشرك يقول رب العالمين: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ . الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء>اللغة العربية>مجلة البحوث الإسلامية بإشراف و مسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء>اعداد المجلة تصفح برقم المجلد > العدد الثالث عشر - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1405هـ > بحوث في علوم القرآن > الذكر والنسيان في القرآن الكريم > التذكر والتذكير في القرآن > التذكير منهج لرسالات السماء وفي مساءلة هادية راشدة بين الداعي وقومه ، جاءت الدعوة السادسة إلى التذكر ، يقول تعالى: قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وفي غير هذه المواطن دعوات كثيرة للتذكر ، مقرونة بوسيلة أو الباعث عليها ، وقد قدمت للبشرية في ظروف مختلفة حتى تستمر على طريق الحق مسيرتها ، يقول تعالى في تأنيب الغافلين الضالين غداة الحسرة عندما تتبين الحقائق وينكشف عن العين الغطاء : أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ . وهذه دعوة للمسلمين بعد النصر العظيم في بدر لأن يتذكروا ماضيهم الذي عاشوه مستضعفين ، مبغيا عليهم ، إذ أن هذه الذكرى تحفزهم على الشكر الذي يزيد النعم ويوثق العلاقة بخالقهم العظيم : وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . وعلى لسان شعيب عليه السلام جاء النصح لقومه بأن يتذكروا : وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ . وعلى لسان هود وصالح عليهما السلام جاء نفس النصح لقوميهما عاد وثمود ، يقول تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ، وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ . وفي شأن بني إسرائيل يقول تعالى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . (3) وبقدر ما كانت الدعوة إلى التذكر تحمل هذا القدر الكبير من التقدير والاهتمام؛ لما في التذكر من صحوة العقيدة ، ويقظة الضمير ، بقدر هذا كان التنديد عنيفا وقاسيا بمن غفلوا ولم يعقلوا ، وسمحوا لغشاوة النسيان أن تحجب البصيرة ، وتتركهم في متاهات الضلال ، يتجلى عنف هذا التهديد من حديث القرآن عن المعرضين عن الذكر ، ووصفه لهم ، وتقويمه لعقيدتهم ، وكشفه عن مصائرهم وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وفي آية أخرى : ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا . وفي وصف المنافقين يقول تعالى : أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ . وأهل الكتاب خانتهم ذاكرة المؤمن ، فنسي اليهود حظًّا مما ذكروا به ، فحرفوا الكلم عن مواضعه ، ولا تزال خياناتهم مستمرة ، وأما النصارى فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ . ونسي كثير من بني إسرائيل واجب النصيحة ، فحلت بهم العقوبة ، ولم يفلت منها إلا من نَهَوا عن السوء فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ . ويصور القرآن الكريم حقيقة هؤلاء المعرضين عن الذكر أسلوبًا ونتيجة ، فيقول تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فرسم القرآن الكريم صورة منفرة لإعراضهم ، كما أشار إلى موقفهم يوم القيامة عندما يواجهون العذاب بلا شفيع ولا نصير . والوصف بعدم التذكر نراه سجية لكل منحرف عن دين الله ، يقول تعالى: وَإِذَا ذُكِّرُوا لاَ يَذْكُرُونَ ، ولا عجب فهو أساس الداء والباعث الأقوى على الانحراف ، فالذي لا يتذكر تختلط أمام بصيرته القيم ، يقول تعالى : وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ . والذي لا يتذكر يتورط في أرجاس الشرك : اتَّبِعُوا مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ . ووصف الكفار بقلة التذكر المعني به العدم ورد أيضًا في مواضع أخرى . والذي لا يتذكر تختفي أمام عينيه الحقائق الساطعة وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ . (4) يؤكد القرآن الكريم أن التذكر أو الانتفاع بالذكرى والاستفادة من التذكير لون من السلوك الأقوم لا يتيسر إلا لأنماط معينة من البشر: (أ) من هم على درجة من العقل الراشد واللب النابه والبصيرة النافذة ، وقد ورد في السور والآيات الآتية ما يفيد أن التذكر مقصور على أولي الألباب وذوي البصيرة والعقول مثل : وما يذكر إلا أولوا الألباب ومثل لقوم يعقلون ومثل إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (ب) من هم على صفة الإيمان أو التقوى أو العبادة أو الإنابة ، وهذه الصفات هي من أرفع المستويات التي يصل إليها المسلمون بإسلامهم ، وهذه الصفات ليست متباينة ، وإنما هي مترابطة متآخية ، ولا تتحقق- بصدق- إحداها إلا إذا تحققت أخواتها ، فلا إيمان بدون تقوى ، والعبادة جوهرهما ، والإنابة تضفي عليهما حيوية العقيدة ، وعمق تأثيرها . وأكثر هذه الصفات ارتباطًا بالذكر والتذكر صفة التقوى؛ لأنها تقوم على مراقبة الله وخشيته ، ومن هنا كان المتقون أكثر الناس ذكرا لله وتذكرا لآياته . ففي ارتباط الذكر بالتقوى وردت ثماني آيات تؤكد أن التذكر صفة لازمة للتقوى : إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا ، إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى وجاءت ثلاث آيات تؤكد ارتباط التذكر بعقيدة الإيمان وهي [12 \ هود ، 51 \ العنكبوت ، 15 \ السجدة ] . وفي علاقة الإنابة بالذكر ، يقول تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَـزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ . وفي ارتباط العبادة بالذكر يقول تعالى: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ . والذاكر هو الذي يتذكر ، وهذا الارتباط لغوي وقرآني أيضا ، إذ يقول تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ . (5) التذكر منطلق المسئولية : فعند الذكرى أو التذكر تتحدد المسئولية وتتأكد ، وتنتفي الأعذار والتعللات ، يبدو ذلك من خطاب الله لرسوله في هاتين الآيتين : وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا . بواعث التذكر من هذه الموضوعات التي أثرتها والنتائج التي استخلصتها نستطيع أن نقف على مدى أهمية التذكر في سلوك كل ذي دين ، وبخاصة دين الإسلام الذي اصطفاه الله وارتضاه . وبالدراسة الواعية القائمة على استقراء دقيق لاستعمالات هذه الألفاظ في القرآن الكريم (التذكر والتذكير والذكرى) نرى أن الكتاب العزيز وضع تحت أيدينا وسائل التذكر وبواعثه ، وهي متعددة ومتنوعة حتى تغطي ميول البشر ، وتصيب نوازعهم وهي مختلفة ومتنوعة . وهذه هي البواعث التي تدفع إلى التذكر ، معززة بآيات القرآن الكريم التي تناولتها. (1) الكتاب السماوي بعامة باعث على التذكر ، والقرآن بخاصة يعد من أول الوسائل وأقوى البواعث والحوافز ، فهو من حيث الإطار يثير التذكر بلسانه العربي ، ومن حيث المضمون هو مليء بالمواعظ والعبر ، حافل بالدروس والقصص ، وهو - كما قلنا أول البحث - والذكر صنوان ، فالقرآن ذو الذكر ، وسماه الله ذكرا في أكثر من موضع ، وفي خمس عشرة آية منه يبين الله لنا أن كتاب السماءيحرك النفوس إلى التذكر ، فلا يضيع إيمانها في سُحُب الغفلة وركامها ، في ثلاثة مواضع منها حديث عن كتاب موسى ، وفي باقيها حديث من القرآن . وهذه هي السور والآيات التي وصفت كتاب الله بأنه دافع إلى التذكر ووسيلة إلى التذكير: [41 \ الإسراء ، 48 \ الأنبياء ، 43 \ القصص ، 51 \ العنكبوت ، 29 \ ص ، 53 ، 54 \ غافر ، 58 \ الدخان] ، وفي سورة ق فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ، وفي سورة القمر جاءت هذه الآية: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أربع مرات ، وفي الحاقة : وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ . (2) وجاء لفظ الآيات باعثًا على التذكر في نحو سبع آيات ، والآيات إما كونية وإما قرآنية ، والتذكير بالقرآن تحدثنا عنه ، والتذكير بآيات الكون سنتحدث عنه ، أما في هذه المواطن فقد جاءت الآيات عامة بدون تحديد ، لكن في بعض المواطن يغلب على الظن أنها القرآنية ، وفي بعضها الآخر يترجح أنها الكونية . فمن الأولى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ الكهف والسجدة ، وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وراجع 15 \ السجدة و 221 البقرة . ومن الثانية قوله تعالى: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ، والمشار إليه نعم الله على بني آدم باللباس والرياش ، ثم إرشادهم إلى أن لباس التقوى أجمل وأكمل . وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا : أي أن الحديث في إنشاء السحاب وإنزال المطر تنوع القول فيه بين الناس في القرآن وفي الكتب السماوية الأخرى ليتذكروا ويعتبروا . (3) التأمل في مخلوقات الله وفي سننه الكونية ، وهذا من أقوى البواعث على التذكر ، ومن أنجح وسائل التذكير ، ولا عجب فهو المنهج الذي ارتضاه القرآن لهداية النفوس الضالة إلى الله ، وفي غرس جذور العقيدة ودعم سلطانها على قلوب البشر . وقد أشرت في الفقرة السابقة إلى آيتين فيهما حديث عن آيات الله حافز على التذكير . وتأمل معي هذه الآيات التي تعرض جوانب من الكون العظيم ، لتنتهي بالناس إلى ضرورة الإيمان والتوحيد : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، وراجع [57 \ الأعراف- 17 \ النحل- 62 \ الواقعة- 8 \ ق- 31 \ المدثر- 62 \ النمل] . (4) التذكير بعبر التاريخ وأحداثه : والتاريخ ذاكرة البشر وملهم المواعظ ، وكلما عرفت الأمم ماضيها أقامت على أصح التجارب مستقبلها ، ولذلك عني القرآن الكريم بدعوة الأمم إلى السير في الأرض والنظر في أخبار السابقين ، وكان القصص القرآني على كثرته وتنوعه بمثابة جذب لذاكرة النبي صلى الله عليه وسلم نحو عبر الماضي؛ لينتفع بها في الحاضر ، فالتجربة البشرية واحدة ، والتاريخ يعيد نفسه ، يقول تعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ قد مرت آيات فيها دعوة للرسل إلى تذكر التاريخ ، وتذكير أممهم به ، مثل قوله تعالى لنبيه موسى : وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ، كما يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ، وفي تذكير البشر بالقرون السابقة يقول تعالى : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ بعد قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ . وللقصص القرآني هدف آخر ، وهو تذكير المعاندين والضالين وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ . (5) يوم القيامة : اليوم الحق ، ويوم الهول ويوم الزلزلة ، ويوم القارعة ، سيعيد للغافلين ذاكرتهم ، ويطلبون دنيا أخرى يستدركون فيها ما فات ، ويكون الجواب: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ، ووصف القرآن الكريم يوم القيامة بأنه يوم التذكر وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ، واقرأ الآيات [18 \ محمد ، 54 ، 55 \ المدثر ، 19 \ المزمل] . (6) التذكير بالمحن والنعم : قد يسلط الله على البغاة المحن- رحمة منه- رجاء أن يتذكروا ، يقول تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ، ومنهم الغارقون في الغفلة ، فلا تؤثر فيهم ضراوة المحنة ، وهم المنافقون أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ . والنعم باعث آخر على التذكر ، وتبلغ من بعض النفوس أكثر مما تبلغ منها المحنة ، يقول تعالى: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ . وفي نعم الله على الصالحين موعظة وتذكرة ، يقول عن نبيه أيوب: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ . وفي سور ص ، يقول الله تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ . وفي إنقاذ المؤمنين بنوح من الطوفان تذكرة بالغة ، إذ يقول تعالى مشيرا إلى السفينة : لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ . وفي معرفة الإنسان للنار تذكرة ومتعة ، وتذكرة بنار الآخرة وبلائها وأهوالها ، ومتعة في الدار العاجلة ؛ إذ يستخدمها الإنسان في تحصيل الكثير من منافعه ، يقول تعالى: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ . والمقوون: المسافرون . (7) القول اللين ، والموعظة الحسنة ، وضرب الأمثال : لين القول وحسن الموعظة ، والاستعانة على هذا وذاك بضرب المثل من أبلغ وسائل التذكير التي اعتمد عليها القرآن في نصح البشر . فبالقول اللين وصى الله نبيه موسى وأخاه هارون: فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى . وهذان نموذجان للقول اللين الذي يحفز إلى التذكر ، من واقع أسلوب القرآن: الأول: في مجادلة من زعموا الملائكة بنات الله مع بغضهم للبنات: أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ والثاني : في محاورة من اتبعوا هواهم فضلوا السبيل: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وقد استعان القرآن الكريم على ذلك بضرب الأمثال ، وقد عرفنا مثل الفريقين: المؤمنين والكافرين ، وتشبيه الأولين بالبصير والسميع ، والآخرين بالأعمى والأصم ، وتعقيب الآية على ذلك بهذا التساؤل: هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ . وفي القيمة التوجيهية والتأثيرية لضرب الأمثال ، وفي دفعها القوي إلى التذكر يقول تعالى : وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، كما يقول تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، ويقول تعالى : وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ . والآية الأخيرة تكشف عن المقدرة الفكرية والعلمية الواسعة التي يتصف بها كل إنسان يستفيد من أمثال القرآن الكريم . رب أعني على ذكرك ، وذكرني بآياتك حتى تذكرني يوم العرض عليك ، واجعل لكل مسلم يقرأ بوعي كفلا مما دعوت ، إنك سميع الدعاء . مصادر البحث : (1) القرآن الكريم . (2) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم . (3) معجم ألفاظ القرآن الكريم . مجمع اللغة العربية بالقاهرة . (4) تفسير المنار . محمد رشيد رضا .
    0
  • هل توجد في القرآن كلمات معربة

    بقلم الدكتور : محمد تقي الدين الهلالي*

    (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثامن - الإصدار : من ذو القعدة إلى صفر لسنة 1403هـ 1404هـ)


    اعلم أن علماء اللغات اتفقوا على أن كل لغة عظيمة تنسب إلى أمة عظيمة ، لا بد أن توجد في مفرادتها كلمات وردت عليها من أمة أخرى ، لأن الأمة العظيمة لا بد أن تخالف غيرها من الأمم وتتبادل معها المنافع من أغذية وأدوية ومصنوعات وتعلم وتعليم ، فلا بد حينئذ من تداخل اللغات ، ولا يمكن أن تستقل وتستغني عن جميع الأمم ، فلا تستورد منها شيئا ولا تورد عليها شيئا ، والقرآن نفسه يثبت هذا ، قال تعالى: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ .
    ذكر إبراهيم في دعائه أنه أسكن ذريته يعني إسماعيل وآله بواد غير ذي زرع وهو وادي مكة وإذا لم يكن فيه زرع لم تكن فيه ثمرات ، وذكر أثناء دعائه ومناجاته لربه أنه أسكنه وذريته بذلك الوادي المقفر ليقيموا الصلاة ، أي يؤدوها قائمة كاملة عند بيت الله ويعبدوه فسأل الله أن يجعل قلوب الناس تهوي إلى ذريته ، أي تسرع إليهم شوقا ومحبة وتمدهم بما يحتاجون إليه وأن يرزقهم من الثمرات التي تجلب إليهم من الآفاق والأقطار المختلفة ليشكروا الله على ذلك فيزيدهم ، وقد استجاب الله دعوته ، فصارت أنواع الحبوب والثمرات والتوابل والأدوات والثياب والتحف والطرائف تجلب إلى مكة من جميع أنحاء المعمورة .
    وهذه الأمور التي تجلب إليها كثير منها وضعت أسماؤها في البلدان التي تصدر منها فإذا جاءت مكة يسمونها بالاسم الذي جاءت به فتندمج في لغتهم وتصير جزءا منها والأصل في اللغات أن الأشياء العامة توجد لها أسماء في كل لغة ، أما الأشياء الخاصة التي خص الله بها قطرا بعينه فإن الاسم الذي سماها بها أهل ذلك القطر الذي خلقت فيه يبقى في الغالب ملازما .
    ولنضرب لذلك مثلا الجوز الهندي والنخيل الذي يثمره وهو "نارجيل" ويسمى بالهندية "ناريل" فهو يجلب إلى غير الهند ، دون أن يبدل اسمه ، وثمر "الأنبه" وهو أحسن الفواكه في الهند وقد يكون أحسن الفواكه مطلقا يوجد دائما في مكة شرفها الله في أحقاقه ، إذا أكلته تظن أنك أكلته تحت شجرته وهذه الفاكهة موجودة في مصر وتسمى "مانكة" وتنقل إلى بلدان أخرى ويبقى اسمها ملازما لها .
    وكذلك ثمر "أناناس" يجلب من إندونيسيا ويبقى اسمه ملازما له وقس على ذلك ، وقد قال أحد علماء الفيلولوجيا أعني علماء اللغات أن لغة سكان أستراليا الأصليين لا تزيد مفرادتها على مائة ، لأنهم أبعد الناس عن المدينة التي تستلزم مخالطة الأمم الأخرى وتبادل المنافع معها فكلما عظمت اللغة دلت عظمتها وثروتها ووفرة ألفاظها على مخالطة أهلها لشعوب أخرى واقتباسها منهم فهي تعطي وتأخذ .
    وقد أخبرنا القرآن أن قريشا كانت لهم رحلتان ، رحلة في الشتاء إلى جنوب الجزيرة العربية اليمن ، ورحلة الصيف إلى الشام وكانوا تجارا ينقلون البضائع من بلد إلى بلد ، وكانت مكة شرفها الله تعالى مركزا عظيما للتجارة قبل الإسلام فكانت تنقل إليها البضائع من الشرق والغرب والجنوب والشمال فكيف يتصور أن لغة العرب تبقى مغلقة مختوما عليها لا تخرج منها كلمة ولا تدخلها كلمة .
    والأئمة الذين أنكروا وجود كلمات غير عربية في القرآن تمسكوا بظاهر قوله تعالى: إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، وقوله تعالى: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ .
    وما أشبه ذلك وهم على حق فيما قالوا فليس في القرآن كلمة أعجمية باقية على عجمتها ألبتة ، فكل ما في القرآن من الكلمات تنطق به العرب وتفهمه وهو جار على سنن كلامها لا خلاف في ذلك نعلمه ، إنما الخلاف في المعرّب هل هو موجود في القرآن أم لا؟
    قال السيوطي في الإتقان: " قد أفردت في هذا النوع " كتابا سميته ( المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب ) وأنا ألخص فوائده فأقول: اختلف الأئمة في وقوع المعرب في القرآن فالأكثرون منهم الإمام الشافعي وابن جرير وأبو عبيدة والقاضي أبو بكر وابن فارس على عدم وقوعه فيه لقوله تعالى: قُرْآنًا عَرَبِيًّا وقوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ وقد شدد الشافعي النكيرة على القائلين بذلك .
    وقال أبو عبيدة : إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين فمن زعم أنه غير العربية فقد أعظم القول ومن زعم أن "لُدًّا" بالنبطية فقد أكبر القول ، وقال ابن فارس : لو كان فيه من لغة غير العربية شيئا لتوهم أن العرب: إنما عجزت عن الإتيان بمثله لأنه أتى بلغات لا يعرفونها .
    قال محمد تقي الدين الهلالي : إنما يمكن أن يقال ذلك إذا كان في القرآن تراكيب أعجمية ، أو كلمات باقية على عجمتها ، أما وجود كلمات قد صقلتها العرب بألسنتها ، ونحت بها مناحي كلماتها ، ودخلت في أوزانها فلا يمكن أحد أن يدعي ذلك فيها ، وقد رد القرآن نفسه على من زعم ذلك من أعداء الإسلام الأولين فقال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ وتحداهم أن يأتوا بسورة مثله بأشد أساليب التحدي فقال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَـزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وقال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ، فأي عدو يسمع مثل هذا التحدي ثم لا يبذل قصارى جهده في معارضة عدوه وإبطال تحديه ولو أن إحدى الدولتين المتعارضتين اليوم وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي صنعت إحداهما سفينة فضائية مثلا وقالت للأخرى إنك لن تستطيعي أن تصنعي مثلها لغضبت الدولة المتحداة ولم يقر لها قرار ، حتى تصنع سفينة مماثلة أو فائقة لما صنعته الدولة المتحدية .
    وهنا نحن اليوم نرى الصين الشيوعية لما رأت عدوتها الولايات المتحدة متفوقة في صنع القنابل الذرية والهيدروجينية فقد عقلها حنقا وغيظا وهي جادة في صنع هاتين القنبلتين ، وزادها غيظا أن أختها في الشيوعية دولة الاتحاد السوفييتي ضنت عليها في المساعدة على التوصل إلى هذا الغرض مع أن الولايات المتحدة لم تتحد الصين إلا بلسان الحال ، بل هذه فرنسا قلبت ظهر المجن لحليفتيها الولايات المتحدة وبريطانيا لأنهما لم يشركاها فيما وصلتا إليه من صنع القنبلتين المذكورتين إلا بقدر ضئيل لا يشبع نهمها ولم يكن أحد من العرب المعادين للإسلام يقول إن الذي منعهم من معارضة القرآن هو وجود كلمات فيه غير عربية بل سلموا أنه كله عربي .
    أما كتاب السيوطي الذي سماه "المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب " فلا نعلم أنه موجود في هذا الزمان ، لكن الملخص الذي نقله منه مؤلفه في كتاب الإتقان لا يدل على أن المؤلف مع غزارة علمه كان أهلا أن يؤلف في هذا الباب لأنه فيما يظهر لم يكن يعرف إلا اللغة العربية والمؤلف في هذا الموضوع يحتاج إلى إلمام باللغات التي قيل إن بعض مفرداتها قد عرب ودخل في القرآن ، فإن لم يعلم بها كلها فلا أقل من الإلمام ببعضها ، وأكثر علماء العرب مقصرون في علم اللغات ، والذين يعرفون شيئا من اللغات الأخرى منهم قليل ، وقد كان عمر - رضي الله عنه - يعرف اللغة العبرانية ويقرأ التوراة ويفهمها . وقال الترمذي في جامعه " باب تعلم السريانية " ثم روى بسنده إلى زيد بن ثابت قال أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أتعلم كلمات يهود وقال: بأني والله ما آمن يهود على كتابي قال: فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له ، قال فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت له وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم ، هذا حديث حسن صحيح .
    قال العالم الرباني أستاذي عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري رحمه الله رحمة واسعة في شرح هذا الحديث من كتابه "تحفة الأحوذي في شرح الترمذي " ج3 ص392 . ما نصه: قال القاري : قيل فيه دليل على جواز تعلم ما هو حرام في شرعنا بالتوقي والحذر عند الوقوع في الشر كذا ذكر الطيبي في ذيل كلام مظهري وهو غير ظاهر إذ لا يعرف في الشرع تحريم تعلم شيء من اللغات سريانية أو عبرانية أو هندية أو تركية أو فارسية وقال تعالى في سورة الروم "22" وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ أي لغاتهم بل هو من جملة المباحات .
    وهذا الحديث رواه أيضا أحمد وأبو داود والبخاري في تاريخه وذكره في صحيحه تعليقا ، ومعنى الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الصحابي الجليل كاتب الوحي زيد بن ثابت أن يتعلم كتابة اليهود وفي رواية أمره أن يتعلم السريانية وعلل ذلك بأنه عليه الصلاة والسلام لا يأمن اليهود أن يكتبوا له إذا أراد أن يكتب إليهم أو يقرءوا إليه كتابا يأتيه منهم لئلا يزيدوا فيه وينقصوا ويبدلوا ويغيروا فتعلم زيد ما أمره به النبي - صلى الله عليه وسلم - في نصف شهر وقد يشكل فهم هذا من وجهين: الأول: أن المعهود من اليهود أن يتكلموا أو يكتبوا بالعبرانية لا بالسريانية . الثاني: كيف يستطيع متعلم أن يتعلم لغة أجنبية في نصف شهر ، والجواب عن الأول أن اليهود في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - بل في زمان عيسى ابن مريم عليه السلام وقبله بزمن لم يكونوا يتكلمون ويكتبون بالعبرانية لأنها كانت قد انقرضت ولم يبق منها إلا كلمات قليلة تردد في الصلوات وكان اليهود يكتبون علومهم الدينية والدنيوية ويتخاطبون بالسريانية وإنما جددوا العبرانية وأحيوها وبذلوا جهودا عظيمة في هذا العصر الأخير .
    والجواب الثاني: أن زيدا لم يتعلم اللغة في نصف شهر وإنما تعلم الكتابة والقراءة ، أما معاني لغة اليهود فكان يفهمها لأنها كانت ولا تزال قريبة جدا من لغة العرب ، لأن قبائل من اليهود كانت مساكنة للأنصار ، وتعلم اللغات الأجنبية للانتفاع بها في أمور الدين والدنيا أمر محمود إذا لم يكن على حساب لغة القرآن كما يفعل سكان المستعمرات المتهوكون في زمان الاستعمار وبعده فيهملون لغة القرآن وهي لغة دينهم وتاريخهم ومجدهم ويتعلمون لغة المستعمر ويتطاولون بها ويشمخون بأنوفهم ويتراطنون بها بغير ضرورة ويحتقرون شعوبهم لعدم استعمال تلك اللغة الأجنبية فهؤلاء أعضاء مجذومة في جسم الأمة يجب قطعها وهم يعلمون أن جميع الأمم تحتقرهم لأنه لا يكون لهم فضل بتعلمهم تلك اللغة الأجنبية إلا إذا أتقنوا لغتهم وكانوا أعضاء نافعين في أمتهم ولكن .

    مــــن يهــــن يســــهل الهـــوان عليـــه مــــــــــا لجــــــــــرح بميــــــــــت إيلام

    ثم قال: السيوطي قال ابن جرير : ما ورد عن ابن عباس وغيره من تفسير ألفاظ من القرآن أنها بالفارسية أو الحبشية أو النبطية أو نحو ذلك إنما اتفق فيها توارد اللغات فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد .
    قال محمد تقي الدين الهلالي : ابن جرير إمام المفسرين في زمانه وما بعده وقد أخطأ في هذا الرأي إذ لا يمكن أن تتكلم هذه الشعوب المتباينة في أنسابها ولغاتها والمتباعدة في أوطانها على سبيل المصادفة والاتفاق وتوارد الخواطر بتلك الكلمات الكثيرة العدد على أن الذين قالوا في القرآن كلمات كانت في الأصل غير عربية صارت بالاستعمال عربية لم يقل أحد منهم إن الكلمة التي أصلها فارسي قد اتفق فيها الفرس مع العرب والنبط والحبشة بل إذا كانت الكلمة فارسية كالأباريق مثلا لم تكن حبشية ولا نبطية والكلمة التي قيل إنها حبشية "كابلعي" من قوله تعالى: يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ لم يقل أنها توافق الفارسية والنبطية وهكذا يقال في سائر الكلمات كما سيأتي في ذكر الكلمات التي نسب أصلها إلى غير العربية ، ثم قال السيوطي وقال غيره: بل كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلغتها بعض مخالطة لسائر الألسنة في أسفارهم فعلقت من لغاتهم ألفاظ غير بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الفصيح ووقع بها البيان وعلى هذا الحد نزل بها القرآن ، انتهى .
    هذا هو الحق الذي لا ريب فيه ثم ذكر السيوطي آراء أخرى يظهر زيفها عند الامتحان فأعرضت عن نقلها ، ثم نقل عن الجويني ما معناه في القرآن وعد ووعيد ، والوعد يذكر فيه ثواب المطيعين وما أعد الله لهم في الدارين مما تشتهيه أنفسهم ويرغبهم في فعل الطاعات وذلك يتضمن مآكل ومشارب وثيابا ومساكن طيبة وحورا عينا وفرشا طيبا وغلمانا للخدمة وبعض تلك الأمور وضعته أمم غير عربية وسمته بكلمات من لغاتها فنقله العرب عنها فصار في وصف النعيم والعيشة الراضية لا بد منه وضرب لذلك كلمة "إستبرق" مثلا وهو ما غلظ من ثياب الحرير ، والسندس ما رق منها قال البيضاوي : وهو معرب "استبره" بالفارسية فلو أريد لتجنب استعمال كلمة إستبرق ، فأما أن يترك ذكر هذا النوع من الثياب أصلا فلا يتم المطلوب وهو وصف العيشة الراضية ، وأما أن يعبر عنه بكلمتين أو أكثر كثياب الحرير الغليظة فتفوت البلاغة إذًا فلا بد من التعبير به ليكون الكلام بليغا .
    ثم قال السيوطي قال أبو عبيد القاسم بن سلام بعد أن حكى هذا القول بالوقوع عن الفقهاء والمنع من أهل العربية ، والصواب عندي مذهب فيه تطبيق القولين مجتمعين ، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمي كما قال الفقهاء لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها ، فصارت عربية ثم نزل القرآن بها وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب ، فمن قال إنها عربية فهو صادق ومن قال عجمية فصادق ، ومال إلى هذا القول الجوالقي وابن الجوزي وآخرون ، انتهى .

    الكلمات المشتركة:

    أول القرآن "بسم الله الرحمن الرحيم" اشتملت على أربع كلمات اسم ، الله ، الرحمن ، الرحيم ، أبدأ بالكلام على الرحمن قال السيوطي في كتاب الإتقان: ذهب المبرد وثعلب إلى أنه عبراني وأصله بالخاء المعجمة . قال السيوطي في تفسير قوله تعالى في سورة الفرقان "60" قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ الآية . . . لأنهم ما كانوا يطلقونها على الله ، أو لأنهم ظنوا أنه أراد به غيرهم ولذلك قالوا ، أنسجد لما تأمرنا؟ أي للذي تأمرنا يعني تأمرنا بالسجود له أو لأمرك لنا من غير عرفان ، وقيل لأنه كان معربا لم يسمعوه . انتهى .
    وهذا يدل على ما قلته سابقا من جهل أكثر علماء العرب باللغات حتى أخوات لغتهم كالعبرانية والسريانية ، فالرحمن كلمة عربية خالصة من الرحمة بزيادة الألف والنون كضمآن وعطشان وكانت العرب تعرفه وتفهم معناه وقد سموا به مسيلمة الكذاب فكانوا يدعونه "رحمن اليمامة" ولكنهم لجهلهم لم يكونوا يعلمون أنه من أسماء الله . ومن أعجب العجب قولهم أنه عبراني وأن أصله بالخاء المعجمة ، والخاء المعجمة لا وجود لها في العبرانية استقلالا؟ وإنما تنطق الكاف بها إذا جاءت قبلها حركة مثل "ها براخا" البركة ومثل باروخ ، أي مبارك ، ومعناه بالعبرانية هو معناه بالعربية إلا أنه في اللغة العبرانية صفة عامة لكل من في قلبه رحمة ليس خاصا بالله تعالى ، إذًا فهو من الكلمات المشتركة بين العبرانية والعربية وهي كثير تعد بالآلاف ، وهذه الكلمات الأربع التي في البسملة كلها مشتركة بين اللغتين ، فالاسم (شم) بإبدال السين شينا وذلك كثير في العبرانية ، والله "إلوهيم" والرحمن "هارحمن" وهذه الكلمات الكثيرة المشتركة بين اللغات السامية هي أصيلة في كل واحدة منها لا يقال إن إحداهن أخذتها من الأخرى وهذا هو الشأن في كل مجموعة من اللغات ترجع إلى أصل واحد كاللغات اللاتينية كالإيطالية والأسبانية والفرنسية والرومانية والبرتكالية ، ومجموعة اللغات الجرمانية كالألمانية والهولاندية والفلمنكية والسويدية والنرويجية والدانمركية .

    لفظ الجلالة" الله " هل هو مشتق أو مرتجل ؟

    ومن ذلك المعركة الكبيرة التي خاضها علماء العربية في لفظ الجلالة "الله" أهو مرتجل؟ أم مشتق؟ وإن كان مشتقا فهل اشتقاقه من "أَلِهَ" أو من وَلَه ، أو من "لاه" ؟ وما هو أصله على كل من هذه الأوجه؟ وماذا جرى عليه من الحذف والإدغام حتى بلغ صورته التي هو عليها؟ ومن تعلم شيئا من اللغات السامية أخوات اللغة العربية بل بناتها عند المحققين لا ينقضي عجبه من الخائضين في تلك المعركة ويرى جهودهم ضائعة ويحكم يقينا أن الاسم الكريم مرتجل بلا مرية وهو بعيد كل البعد من الاشتقاق ، فإنه ثابت بهذا اللفظ في جميع اللغات السامية ، ففي السريانية "ألاها" والشرقيون منهم ينطقون به "أَلاَهُ" وهو كذلك في الأشورية "ألاهُ" بفتح الهمزة في اللغات الثلاثة وبالعبرانية "إلوهيم" . ولا تختلف الشعوب السامية فيما أعلم في هذا الاسم الكريم وكذلك في مجموعة اللغات اللاتينية وفي مجموعة اللغات الجرمانية في الاسم الكريم عندهم واحد مهما اختلفت لغاتهم في الكلمات الأخرى لا تختلف فيها .

    مثال يدل على تقارب اللغتين العربية والعبرانية:

    جاء في ترجمة يوسف روفلين للقرآن الكريم بالعبرانية في أول سورة الصف ما نصه مع استبدال الحروف العبرانية بحروف عربية: "با را شت ها معرخا" سمرة المعركة "بشم الوهيم ها رحمن وهاد حوم" "يشبح يات الوهيم كل أشر بشاميم" "وخل أشر يا آرص وهو هكبور واهلحخام هما أستيم لا ماتومرووات أشر لو تعسوا" . بسم الله الرحمن الرحيم سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ .
    فأنت ترى أن الألفاظ كلها مشتركة من أول البسملة إلى قوله تعالى "لم" إلا أن لفظ سبح "أبدلت سينه شينا وحل المضارع محل الماضي" وهذا الفعل في العبرانية متعد بنفسه وكذلك في العربية قال تعالى في سورة "ق" (40) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ وإلا ترجمة "ما" الموصولة بِأَشِرْ وزيادة "كل" لأن الترجمة إنما هي تفسير وإبدال سين السماوات شينا وجمعها بالياء والميم واستعمال باء الجر في موضع "في" وهو جائز في العربية قال تعالى في سورة الصافات (137-138) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ وإبدال ضاد الأرض صادا ، وإبدال العزيز بالجبار "هكبور" وهما متقاربان في المعنى وإبدال الحكيم "هاحاخام" وهما شيء واحد إلا أن الكاف أبدلت خاء .
    وترجمة "يا أيها الذين آمنوا" هماءنيميم يعني المؤمنين ، وترجمة "لم" بـ "لامَّا" وتقولون بـ "تؤمرو" وترجمة "لا" بـ "لو" وهما شيء واحد بإمالة الألف إلى الواو ، وترجمة "تفعلون" بـ "تعسوا" الواو في تؤمروا ، وتعسو "واو" الجماعة وحذفت النون فيهما بلا ناصب ولا جازم كما تحذف في العاميات العربية وهذه النون هي نون الرفع وهي ثابتة في التوراة وفي مواضع تفوت الحصر وليس كما قال بعض المستشرقين في خمسة مواضع فقط .

    أمثلة من الكلمات التي قيل إنها وقعت في القرآن من غير العربية:

    1 - أباريق : قال السيوطي في الإتقان حكى الثعالبي في فقه اللغة أنها فارسية ، وقال الجوالقي الإبريق فارسي معرب ومعناه طريق الماء أو صب الماء على هينة .
    قال في لسان العرب: والإبريق إناء وجمعه أباريق فارسي معرب ، قال ابن بري : شاهده قول عدي بن زيد :

    ودعــــــا بـــــالصبوح يومـــــا فجـــــاءت قينــــــة فـــــــي يمينهـــــــا إبــــــريق

    وقال كُراع هو الكوز ، وقال أبو حنيفة مرة هو الكوز وقال مرة هو مثل الكوز ، وهو في كل ذلك فارسي معرب وفي التنزيل يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وأنشد أبو حنيفة لشبرمة الضبي :

    كــــأن أبـــــاريق الشـــــمول عشـــــية أوز بــــأعلى الطــــف عــــوج الحنـــاجر

    وقال الفيروزآبادي في القاموس الإبريق معرف "أبرى" جمع أباريق انتهى .
    قال بعض العلماء هو مركب من كلمتين "آب" وهو الماء و" راه " وهو الطريقة ، وقيل مركب من "آب" وهو الماء و"ريخش" وهو الصب على مهل قاله آرثر جفري في كتابه الألفاظ الأجنبية في القرآن .

    2 - الآب :
    وقال السيوطي "آب" قال بعضهم وهو الحشيش بلغة أهل الغرب حكاه شيدلة انتهى .
    ونقله عنه جفري وفسر لغة أهل الغرب بالبربرية ، أقول وهذا من أعجب العجب ولا نعلم أن العرب كانت لهم علاقة بالبربر قبل الإسلام حتى تقتبس العربية من لغتهم ثم إن هذه الكلمة يبعد كل البعد أن تكون بربرية لأنها لا تشبه الكلمات البربرية وإنما تشبه العربية والسريانية والعبرانية وقال جفري : إنه مأخوذ من "أبا" الأرامية ومعناه الخضرة وقال في لسان العرب: الأبُّ الكلاء ، وعبر بعضهم عنه أنه المرعى ، وقال الزجاج : الأب ، جميع الكلاء الذي تعتلفه الماشية ، وفي التنزيل العزيز ( فاكهة وأبا ) قال أبو حنيفة : سمى الله تعالى المرعى كله أبا ، قال الفراء : الأب ما تأكله الأنعام ، وقال مجاهد : الفاكهة ما أكله الناس ، والأب ما أكلت الأنعام ، فالأب من المرعى للدواب كالفاكهة للإنسان .
    قال ثعلب : الأب كل ما أخرجت الأرض من النبات ، وقال عطاء : كل شيء ينبت على وجه الأرض فهو الأب .
    وفي حديث: أن عمر بن الخطاب قرأ قوله عز وجل وَفَاكِهَةً وَأَبًّا وقال: فما الأب؟ ثم قال ما كلفنا وما أمرنا بهذا انتهى .
    وقال ابن كثير عن ابن جرير بسنده إلى أنس قال قرأ عمر بن الخطاب عَبَسَ وَتَوَلَّى فلما أتى هذه الآية " وفاكهة أبا " قال عرفنا الفاكهة وما الأب؟ وقال لعمرك يا ابن الخطاب فإن هذا لهو التكلف ، فهو إسناد صحيح رواه غير واحد عن أنس به . وهذا محمود على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه وإلا فهو وكل من قرأ هذه الآية يعلم أنه من نبات الأرض لقوله تعالى: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا

    3 - ابلعي :
    قال السيوطي في الإتقان أخرج ابن حاتم عن وهب بن منبه في قوله تعالى "هود- 44" ابْلَعِي مَاءَكِ قال بالحبشية: ازدرديه ، وأخرج أبو الشيخ من طريق جعفر بن محمد عند أبيه قال: اشربي بلغة الهند انتهى .
    وإن تعجب فعجب قولهم "ابلعي" بلغة أهل الهند وهذا القول إلى الهزل أقرب منه إلى الجد وقائله ليس أهلا أن يؤخذ عنه العلم وإنما هو يهرف بما لا يعرف وأهل الهند أجناس كثيرة لهم مئات من اللغات لا تكاد تسير مسافة يوم إلا وجدت جنسا آخر له لغة أخرى ، وفي زماننا هذا نرى الدماء تسفك بينهم بسبب اللغات فلا يرضى جنس أن تكون لغة الدولة لغة أخرى غير لغته ، وفي زمن الاستعمار لم تكن في الهند لغة يستطيع المسافر أن يتكلم بها ويجد من يفهم كلامه في جميع أنحاء الهند ، إلا لغتين أحدهما الإنجليزية وهي لغة الدولة الحاكمة ، والثانية لغة المسلمين وهي لغة أوردو على أن "بلع" كلمة عربية سامية أصيلة عريقة في عروبتها وساميتها وترفع راية اللغات السامية وهي حرف العين .
    ومن المعلوم عند علماء اللغات أن العين والحاء لا توجدان إلا في اللغات السامية فإن وجدت إحداهما في كلمة من لغة غير سامية فتلك الكلمة طارئة واردة على تلك اللغة وبهذا يستدل الفيلولوجيون على أن البربر من الشعوب السامية وأنهم خرجوا من جزيرة العرب قبل خروج البابليين والأشوريين ، والكنعانيين ، والفينيقيين كما هو مبين في موضعه ونحن نرى إخواننا عامة المسلمين من أهل الهند يبذلون جهودهم في النطق بقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
    فلا يتمون النطق بالعينين حتى تغفر ذنوبهم من مشقة النطق بهما . ولذلك نرى السيوطي في كتاب الإتقان كحاطب ليل وليس تحقيق ولا إتقان وهذا شأنه في علوم المنقول ، أما في علوم المعقول كعلوم العربية فهو فارس لا يشق له غبار وقد تحامل عليه الحافظ السخاوي في كتابه "الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع" فالله يغفر لهما جميعا .

    4 - ( أخلد )
    قال السيوطي في الإتقان : قال الواسطي في الإرشاد : أخلد إلى الأرض ركن بالعبرانية انتهى .
    أقول: هذا القول لا يقوله إلا جاهل باللغات السامية فإن أخلد وخلد موجودتان في اللغتين كلتيهما ومتفقتان في معانيهما في الجملة فمن قال إنهما عبريتان وليستا عربيتين فقد قفا ما لا علم له به ومن قال العكس فهو مثله ، وإنما توجد بالعرض في حرف الكاف إذا جاءت بعد حركة ، ولم نر أحدا من علماء اللغة العربية أشار إلى أن (أخلد) عبرانية كما ادعى هذا المدعي .
    قال في لسان العرب: وخلد إلى الأرض وأخلد أقام فيها وفي التنزيل العزيز وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ أي ركن إليها وسكن وأخلد إلى الأرض وإلى فلان ، أي ركن إليه ومال إليه ويرضى به ، ويقال خلد إلى الأرض بغير ألف وهي قليلة انتهى.
    وقال البيضاوي في تفسيره وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ مال إلى الدنيا أو إلى السفالة ( وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات انتهى.

    5 - الأرائك :
    قال السيوطي في الإتقان حكى ابن الجوزي في فنون الأفنان أنها السرر بالحبشة انتهى .
    قال الراغب : الأريكة حجلة على سرير جمعها أرائك وتسميتها بذلك إما لكونها في الأرض متخذة من أراك وهو شجر أو لكونها مكان للعامة من قولهم أراك بالمكان أروكا وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك ثم تجوز به في غيره من الإقامات ، اهـ.
    وقال في لسان العرب: والأريكة سرير في حجلة والجمع أريك وأرائك ، وفي التنزيل عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ قال المفسرون: الأرائك السرر في الحجال وقال الزجاج : الأرائك الفرش في الحجال وقيل: هي الأسرة وهي في الحقيقة الفرش كانت في الحجال أو في غير الحجال وقيل: الأريكة سرير منجد مزين في قبة أو بيت فإذا لم يكن فيه سرير فهو حجلة ، وفي الحديث: ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكة فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ، الأريكة السرير في حجلة من دونه ستر ولا يسمى منفردا أريكة ، انتهى .
    قال في اللسان : والحجلة مثل القبة وحجلة العروس معروفة وهي بيت يزين بالثياب والأسرة والستور فقد رأيت أن الأرائك كلمة عربية خالصة وبطل ما ادعاه السيوطي ومن نقل عنه .

    6 - ( أسباط ) قال السيوطي في الإتقان حكى أبو الليث في تفسيره أنها بلغتهم كالقبائل بلغة العرب انتهى .
    وفي هذا الكلام شيء ساقط لأن الضمير في لغتهم لم يذكر ما يعود عليه وهذا الساقط يحتمل أن يكون يدل على بني إسرائيل وكلام الجفري يؤيد هذا الاحتمال وهذا نص ترجمته العربية .
    اضطر أبو الليث أن يعترف أنه أي السبط لفظ عبراني مستعار ، قال السيوطي في الإتقان وقد أطال جفري البحث في هذا اللفظ وادعى أنه لم يستعمل في كلام العرب قبل استعماله في القرآن وربما يكون أول من استعمله محمد .
    ونحن نقول لجفري وأمثاله من الذين أعمى التعصب بصائرهم وأفقدهم صوابهم أن الله الذي أنزل التوراة والإنجيل - اللذين تؤمن بهما - هو الذي أنزل القرآن على عبده ورسوله محمد بن عبد الله خاتم النبيين على رغم أنفك ولا ضير على القرآن أن يوجد فيه لفظ شاع استعماله في العبرانية لأن هاتين اللغتين نشأتا من أصل واحد وإذا جاز أن يكون في القرآن ألفاظ هي في الأصل فارسية مع أن لغة الفرس بعيدة من لغة العرب فما المانع أن توجد فيه ألفاظ عبرانية وسريانية؟
    وإذا اعتبرنا السبط اسما لقبيلة من قبائل بني إسرائيل فالتعبير به طبيعي وهو أولى من التعبير عنه بالقبيلة لأنه صار شبيها بالأعلام التي يجب ذكرها بلفظها .
    قال في لسان العرب والسبط من اليهود كالقبيلة من العرب وهم الذين يرجعون إلى أب واحد ، سمي سبطا ليفرق بين ولد إسماعيل وولد إسحاق وجمعه أسباط وقوله عز وجل: وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ليس أسباطا بتمييز لأن المميز إنما يكون واحدا لكنه بدل من قوله (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) كأنه قال جعلناهم أسباطا والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب انتهى .
    وأصله بالعبرانية (شبط على وزن إبل ومعناه القضيب والعصا والقبيلة .

    7 - إستبرق
    قال السيوطي في الإتقان أخرج ابن أبي حاتم أنه الديباج بلغة العجم . انتهى .
    وقال البيضاوي في قوله تعالى في سورة الدخان (53) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ السندس ما رق من الحرير والإستبرق ما غلظ منه معرب استبره قال جفري : وهذا من الألفاظ القليلة التي اعترف المسلمون أنها مأخوذة من الفارسية وعزاه السيوطي في الإتقان وفي المزهر حكاه فيه الأصمعي وإلى السجستاني في غريب القرآن وإلى الجوهري في الصحاح وإلى كتاب الرسالة للكندي وإلى ابن الأثير في النهاية ، قال وبعضهم يقول إنه لفظ عربي مأخوذ من البرق ، انتهى .

    8 - السندس
    قال في القاموس ضرب من رقيق الديباج معرب بلا خلاف ، وقال في لسان العرب: السندس البزيون ، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى عمر بجبة سندس قال المفسرون في السندس أنه رقيق الديباج ورفيعه وفي تفسير الإستبرق أنه غليظ الديباج ولم يختلفوا فيه ، الليث : السندس ضرب من البزيون يتخذ من المرتزى ولم يختلف أهل اللغة فيهما أنهما معربان ، انتهى .

    9 - أسفار
    قال السيوطي في الإتقان قال الواسطي في الإرشاد: هي الكتب بالسريانية وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: هي الكتب بالنبطية ، انتهى .
    قال محمد تقي الدين الهلالي : يالله يا للعجب؟ كيف يقال أن الأسفار جمع سفر بكسرٍ فسكون ليس بعربي وإنما هو سرياني أو نبطي ، لا جرم لا يقول ذلك إلا جاهل باللغات السامية ، والحق الذي لا شك فيه أن السفر كلمة عربية خالصة وهي في الوقت نفسه عبرانية وسريانية ونبطية فهي من الألفاظ المشتركة بين اللغات السامية ليست واحدة منها أولى بها من غيرها .

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * ترجمة الكاتب: الأستاذ بالجامعة الإسلامية "سابقا" والداعية الإسلامي بمدينة الدار البيضاء بالمغرب العربي
    ولد بسلجماسة " تفيلات " سنة 1311هـ
    حصل على الدكتوراه في الأدب من جامعة برلين وعلى درجة أستاذ مساعد ، ثم على درجة أستاذ من جامعة بغداد .
    كان محاضرا في جامعة " بون " وأستاذا في جامعة بغداد ، ثم في جامعة محمد الخامس بالمملكة المغربية ، ثم في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة .
    يقوم الآن بالدعوة إلى اتباع الكتاب والسنة في مساجد الدار البيضاء بالمغرب .
    مؤلفاته كثيرة ، منها: سبيل الرشاد - ستة أجزاء ، القاضي العدل في حكم البناء على القبور ، أحكام الخلع في الإسلام ، الهدية الهادية إلى الطائفة التيجانية ، تقويم اللسانين ترجمة محققة لمعاني القرآن الكريم بالإنجليزية ، بمشاركة الدكتور محمد محسن خان طبيب الجامعة الإسلامية سابقا .
    هل توجد في القرآن كلمات معربة بقلم الدكتور : محمد تقي الدين الهلالي* (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثامن - الإصدار : من ذو القعدة إلى صفر لسنة 1403هـ 1404هـ) اعلم أن علماء اللغات اتفقوا على أن كل لغة عظيمة تنسب إلى أمة عظيمة ، لا بد أن توجد في مفرادتها كلمات وردت عليها من أمة أخرى ، لأن الأمة العظيمة لا بد أن تخالف غيرها من الأمم وتتبادل معها المنافع من أغذية وأدوية ومصنوعات وتعلم وتعليم ، فلا بد حينئذ من تداخل اللغات ، ولا يمكن أن تستقل وتستغني عن جميع الأمم ، فلا تستورد منها شيئا ولا تورد عليها شيئا ، والقرآن نفسه يثبت هذا ، قال تعالى: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . ذكر إبراهيم في دعائه أنه أسكن ذريته يعني إسماعيل وآله بواد غير ذي زرع وهو وادي مكة وإذا لم يكن فيه زرع لم تكن فيه ثمرات ، وذكر أثناء دعائه ومناجاته لربه أنه أسكنه وذريته بذلك الوادي المقفر ليقيموا الصلاة ، أي يؤدوها قائمة كاملة عند بيت الله ويعبدوه فسأل الله أن يجعل قلوب الناس تهوي إلى ذريته ، أي تسرع إليهم شوقا ومحبة وتمدهم بما يحتاجون إليه وأن يرزقهم من الثمرات التي تجلب إليهم من الآفاق والأقطار المختلفة ليشكروا الله على ذلك فيزيدهم ، وقد استجاب الله دعوته ، فصارت أنواع الحبوب والثمرات والتوابل والأدوات والثياب والتحف والطرائف تجلب إلى مكة من جميع أنحاء المعمورة . وهذه الأمور التي تجلب إليها كثير منها وضعت أسماؤها في البلدان التي تصدر منها فإذا جاءت مكة يسمونها بالاسم الذي جاءت به فتندمج في لغتهم وتصير جزءا منها والأصل في اللغات أن الأشياء العامة توجد لها أسماء في كل لغة ، أما الأشياء الخاصة التي خص الله بها قطرا بعينه فإن الاسم الذي سماها بها أهل ذلك القطر الذي خلقت فيه يبقى في الغالب ملازما . ولنضرب لذلك مثلا الجوز الهندي والنخيل الذي يثمره وهو "نارجيل" ويسمى بالهندية "ناريل" فهو يجلب إلى غير الهند ، دون أن يبدل اسمه ، وثمر "الأنبه" وهو أحسن الفواكه في الهند وقد يكون أحسن الفواكه مطلقا يوجد دائما في مكة شرفها الله في أحقاقه ، إذا أكلته تظن أنك أكلته تحت شجرته وهذه الفاكهة موجودة في مصر وتسمى "مانكة" وتنقل إلى بلدان أخرى ويبقى اسمها ملازما لها . وكذلك ثمر "أناناس" يجلب من إندونيسيا ويبقى اسمه ملازما له وقس على ذلك ، وقد قال أحد علماء الفيلولوجيا أعني علماء اللغات أن لغة سكان أستراليا الأصليين لا تزيد مفرادتها على مائة ، لأنهم أبعد الناس عن المدينة التي تستلزم مخالطة الأمم الأخرى وتبادل المنافع معها فكلما عظمت اللغة دلت عظمتها وثروتها ووفرة ألفاظها على مخالطة أهلها لشعوب أخرى واقتباسها منهم فهي تعطي وتأخذ . وقد أخبرنا القرآن أن قريشا كانت لهم رحلتان ، رحلة في الشتاء إلى جنوب الجزيرة العربية اليمن ، ورحلة الصيف إلى الشام وكانوا تجارا ينقلون البضائع من بلد إلى بلد ، وكانت مكة شرفها الله تعالى مركزا عظيما للتجارة قبل الإسلام فكانت تنقل إليها البضائع من الشرق والغرب والجنوب والشمال فكيف يتصور أن لغة العرب تبقى مغلقة مختوما عليها لا تخرج منها كلمة ولا تدخلها كلمة . والأئمة الذين أنكروا وجود كلمات غير عربية في القرآن تمسكوا بظاهر قوله تعالى: إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، وقوله تعالى: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ . وما أشبه ذلك وهم على حق فيما قالوا فليس في القرآن كلمة أعجمية باقية على عجمتها ألبتة ، فكل ما في القرآن من الكلمات تنطق به العرب وتفهمه وهو جار على سنن كلامها لا خلاف في ذلك نعلمه ، إنما الخلاف في المعرّب هل هو موجود في القرآن أم لا؟ قال السيوطي في الإتقان: " قد أفردت في هذا النوع " كتابا سميته ( المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب ) وأنا ألخص فوائده فأقول: اختلف الأئمة في وقوع المعرب في القرآن فالأكثرون منهم الإمام الشافعي وابن جرير وأبو عبيدة والقاضي أبو بكر وابن فارس على عدم وقوعه فيه لقوله تعالى: قُرْآنًا عَرَبِيًّا وقوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ وقد شدد الشافعي النكيرة على القائلين بذلك . وقال أبو عبيدة : إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين فمن زعم أنه غير العربية فقد أعظم القول ومن زعم أن "لُدًّا" بالنبطية فقد أكبر القول ، وقال ابن فارس : لو كان فيه من لغة غير العربية شيئا لتوهم أن العرب: إنما عجزت عن الإتيان بمثله لأنه أتى بلغات لا يعرفونها . قال محمد تقي الدين الهلالي : إنما يمكن أن يقال ذلك إذا كان في القرآن تراكيب أعجمية ، أو كلمات باقية على عجمتها ، أما وجود كلمات قد صقلتها العرب بألسنتها ، ونحت بها مناحي كلماتها ، ودخلت في أوزانها فلا يمكن أحد أن يدعي ذلك فيها ، وقد رد القرآن نفسه على من زعم ذلك من أعداء الإسلام الأولين فقال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ وتحداهم أن يأتوا بسورة مثله بأشد أساليب التحدي فقال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَـزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وقال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ، فأي عدو يسمع مثل هذا التحدي ثم لا يبذل قصارى جهده في معارضة عدوه وإبطال تحديه ولو أن إحدى الدولتين المتعارضتين اليوم وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي صنعت إحداهما سفينة فضائية مثلا وقالت للأخرى إنك لن تستطيعي أن تصنعي مثلها لغضبت الدولة المتحداة ولم يقر لها قرار ، حتى تصنع سفينة مماثلة أو فائقة لما صنعته الدولة المتحدية . وهنا نحن اليوم نرى الصين الشيوعية لما رأت عدوتها الولايات المتحدة متفوقة في صنع القنابل الذرية والهيدروجينية فقد عقلها حنقا وغيظا وهي جادة في صنع هاتين القنبلتين ، وزادها غيظا أن أختها في الشيوعية دولة الاتحاد السوفييتي ضنت عليها في المساعدة على التوصل إلى هذا الغرض مع أن الولايات المتحدة لم تتحد الصين إلا بلسان الحال ، بل هذه فرنسا قلبت ظهر المجن لحليفتيها الولايات المتحدة وبريطانيا لأنهما لم يشركاها فيما وصلتا إليه من صنع القنبلتين المذكورتين إلا بقدر ضئيل لا يشبع نهمها ولم يكن أحد من العرب المعادين للإسلام يقول إن الذي منعهم من معارضة القرآن هو وجود كلمات فيه غير عربية بل سلموا أنه كله عربي . أما كتاب السيوطي الذي سماه "المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب " فلا نعلم أنه موجود في هذا الزمان ، لكن الملخص الذي نقله منه مؤلفه في كتاب الإتقان لا يدل على أن المؤلف مع غزارة علمه كان أهلا أن يؤلف في هذا الباب لأنه فيما يظهر لم يكن يعرف إلا اللغة العربية والمؤلف في هذا الموضوع يحتاج إلى إلمام باللغات التي قيل إن بعض مفرداتها قد عرب ودخل في القرآن ، فإن لم يعلم بها كلها فلا أقل من الإلمام ببعضها ، وأكثر علماء العرب مقصرون في علم اللغات ، والذين يعرفون شيئا من اللغات الأخرى منهم قليل ، وقد كان عمر - رضي الله عنه - يعرف اللغة العبرانية ويقرأ التوراة ويفهمها . وقال الترمذي في جامعه " باب تعلم السريانية " ثم روى بسنده إلى زيد بن ثابت قال أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أتعلم كلمات يهود وقال: بأني والله ما آمن يهود على كتابي قال: فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له ، قال فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت له وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم ، هذا حديث حسن صحيح . قال العالم الرباني أستاذي عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري رحمه الله رحمة واسعة في شرح هذا الحديث من كتابه "تحفة الأحوذي في شرح الترمذي " ج3 ص392 . ما نصه: قال القاري : قيل فيه دليل على جواز تعلم ما هو حرام في شرعنا بالتوقي والحذر عند الوقوع في الشر كذا ذكر الطيبي في ذيل كلام مظهري وهو غير ظاهر إذ لا يعرف في الشرع تحريم تعلم شيء من اللغات سريانية أو عبرانية أو هندية أو تركية أو فارسية وقال تعالى في سورة الروم "22" وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ أي لغاتهم بل هو من جملة المباحات . وهذا الحديث رواه أيضا أحمد وأبو داود والبخاري في تاريخه وذكره في صحيحه تعليقا ، ومعنى الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الصحابي الجليل كاتب الوحي زيد بن ثابت أن يتعلم كتابة اليهود وفي رواية أمره أن يتعلم السريانية وعلل ذلك بأنه عليه الصلاة والسلام لا يأمن اليهود أن يكتبوا له إذا أراد أن يكتب إليهم أو يقرءوا إليه كتابا يأتيه منهم لئلا يزيدوا فيه وينقصوا ويبدلوا ويغيروا فتعلم زيد ما أمره به النبي - صلى الله عليه وسلم - في نصف شهر وقد يشكل فهم هذا من وجهين: الأول: أن المعهود من اليهود أن يتكلموا أو يكتبوا بالعبرانية لا بالسريانية . الثاني: كيف يستطيع متعلم أن يتعلم لغة أجنبية في نصف شهر ، والجواب عن الأول أن اليهود في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - بل في زمان عيسى ابن مريم عليه السلام وقبله بزمن لم يكونوا يتكلمون ويكتبون بالعبرانية لأنها كانت قد انقرضت ولم يبق منها إلا كلمات قليلة تردد في الصلوات وكان اليهود يكتبون علومهم الدينية والدنيوية ويتخاطبون بالسريانية وإنما جددوا العبرانية وأحيوها وبذلوا جهودا عظيمة في هذا العصر الأخير . والجواب الثاني: أن زيدا لم يتعلم اللغة في نصف شهر وإنما تعلم الكتابة والقراءة ، أما معاني لغة اليهود فكان يفهمها لأنها كانت ولا تزال قريبة جدا من لغة العرب ، لأن قبائل من اليهود كانت مساكنة للأنصار ، وتعلم اللغات الأجنبية للانتفاع بها في أمور الدين والدنيا أمر محمود إذا لم يكن على حساب لغة القرآن كما يفعل سكان المستعمرات المتهوكون في زمان الاستعمار وبعده فيهملون لغة القرآن وهي لغة دينهم وتاريخهم ومجدهم ويتعلمون لغة المستعمر ويتطاولون بها ويشمخون بأنوفهم ويتراطنون بها بغير ضرورة ويحتقرون شعوبهم لعدم استعمال تلك اللغة الأجنبية فهؤلاء أعضاء مجذومة في جسم الأمة يجب قطعها وهم يعلمون أن جميع الأمم تحتقرهم لأنه لا يكون لهم فضل بتعلمهم تلك اللغة الأجنبية إلا إذا أتقنوا لغتهم وكانوا أعضاء نافعين في أمتهم ولكن . مــــن يهــــن يســــهل الهـــوان عليـــه مــــــــــا لجــــــــــرح بميــــــــــت إيلام ثم قال: السيوطي قال ابن جرير : ما ورد عن ابن عباس وغيره من تفسير ألفاظ من القرآن أنها بالفارسية أو الحبشية أو النبطية أو نحو ذلك إنما اتفق فيها توارد اللغات فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد . قال محمد تقي الدين الهلالي : ابن جرير إمام المفسرين في زمانه وما بعده وقد أخطأ في هذا الرأي إذ لا يمكن أن تتكلم هذه الشعوب المتباينة في أنسابها ولغاتها والمتباعدة في أوطانها على سبيل المصادفة والاتفاق وتوارد الخواطر بتلك الكلمات الكثيرة العدد على أن الذين قالوا في القرآن كلمات كانت في الأصل غير عربية صارت بالاستعمال عربية لم يقل أحد منهم إن الكلمة التي أصلها فارسي قد اتفق فيها الفرس مع العرب والنبط والحبشة بل إذا كانت الكلمة فارسية كالأباريق مثلا لم تكن حبشية ولا نبطية والكلمة التي قيل إنها حبشية "كابلعي" من قوله تعالى: يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ لم يقل أنها توافق الفارسية والنبطية وهكذا يقال في سائر الكلمات كما سيأتي في ذكر الكلمات التي نسب أصلها إلى غير العربية ، ثم قال السيوطي وقال غيره: بل كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلغتها بعض مخالطة لسائر الألسنة في أسفارهم فعلقت من لغاتهم ألفاظ غير بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الفصيح ووقع بها البيان وعلى هذا الحد نزل بها القرآن ، انتهى . هذا هو الحق الذي لا ريب فيه ثم ذكر السيوطي آراء أخرى يظهر زيفها عند الامتحان فأعرضت عن نقلها ، ثم نقل عن الجويني ما معناه في القرآن وعد ووعيد ، والوعد يذكر فيه ثواب المطيعين وما أعد الله لهم في الدارين مما تشتهيه أنفسهم ويرغبهم في فعل الطاعات وذلك يتضمن مآكل ومشارب وثيابا ومساكن طيبة وحورا عينا وفرشا طيبا وغلمانا للخدمة وبعض تلك الأمور وضعته أمم غير عربية وسمته بكلمات من لغاتها فنقله العرب عنها فصار في وصف النعيم والعيشة الراضية لا بد منه وضرب لذلك كلمة "إستبرق" مثلا وهو ما غلظ من ثياب الحرير ، والسندس ما رق منها قال البيضاوي : وهو معرب "استبره" بالفارسية فلو أريد لتجنب استعمال كلمة إستبرق ، فأما أن يترك ذكر هذا النوع من الثياب أصلا فلا يتم المطلوب وهو وصف العيشة الراضية ، وأما أن يعبر عنه بكلمتين أو أكثر كثياب الحرير الغليظة فتفوت البلاغة إذًا فلا بد من التعبير به ليكون الكلام بليغا . ثم قال السيوطي قال أبو عبيد القاسم بن سلام بعد أن حكى هذا القول بالوقوع عن الفقهاء والمنع من أهل العربية ، والصواب عندي مذهب فيه تطبيق القولين مجتمعين ، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمي كما قال الفقهاء لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها ، فصارت عربية ثم نزل القرآن بها وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب ، فمن قال إنها عربية فهو صادق ومن قال عجمية فصادق ، ومال إلى هذا القول الجوالقي وابن الجوزي وآخرون ، انتهى . الكلمات المشتركة: أول القرآن "بسم الله الرحمن الرحيم" اشتملت على أربع كلمات اسم ، الله ، الرحمن ، الرحيم ، أبدأ بالكلام على الرحمن قال السيوطي في كتاب الإتقان: ذهب المبرد وثعلب إلى أنه عبراني وأصله بالخاء المعجمة . قال السيوطي في تفسير قوله تعالى في سورة الفرقان "60" قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ الآية . . . لأنهم ما كانوا يطلقونها على الله ، أو لأنهم ظنوا أنه أراد به غيرهم ولذلك قالوا ، أنسجد لما تأمرنا؟ أي للذي تأمرنا يعني تأمرنا بالسجود له أو لأمرك لنا من غير عرفان ، وقيل لأنه كان معربا لم يسمعوه . انتهى . وهذا يدل على ما قلته سابقا من جهل أكثر علماء العرب باللغات حتى أخوات لغتهم كالعبرانية والسريانية ، فالرحمن كلمة عربية خالصة من الرحمة بزيادة الألف والنون كضمآن وعطشان وكانت العرب تعرفه وتفهم معناه وقد سموا به مسيلمة الكذاب فكانوا يدعونه "رحمن اليمامة" ولكنهم لجهلهم لم يكونوا يعلمون أنه من أسماء الله . ومن أعجب العجب قولهم أنه عبراني وأن أصله بالخاء المعجمة ، والخاء المعجمة لا وجود لها في العبرانية استقلالا؟ وإنما تنطق الكاف بها إذا جاءت قبلها حركة مثل "ها براخا" البركة ومثل باروخ ، أي مبارك ، ومعناه بالعبرانية هو معناه بالعربية إلا أنه في اللغة العبرانية صفة عامة لكل من في قلبه رحمة ليس خاصا بالله تعالى ، إذًا فهو من الكلمات المشتركة بين العبرانية والعربية وهي كثير تعد بالآلاف ، وهذه الكلمات الأربع التي في البسملة كلها مشتركة بين اللغتين ، فالاسم (شم) بإبدال السين شينا وذلك كثير في العبرانية ، والله "إلوهيم" والرحمن "هارحمن" وهذه الكلمات الكثيرة المشتركة بين اللغات السامية هي أصيلة في كل واحدة منها لا يقال إن إحداهن أخذتها من الأخرى وهذا هو الشأن في كل مجموعة من اللغات ترجع إلى أصل واحد كاللغات اللاتينية كالإيطالية والأسبانية والفرنسية والرومانية والبرتكالية ، ومجموعة اللغات الجرمانية كالألمانية والهولاندية والفلمنكية والسويدية والنرويجية والدانمركية . لفظ الجلالة" الله " هل هو مشتق أو مرتجل ؟ ومن ذلك المعركة الكبيرة التي خاضها علماء العربية في لفظ الجلالة "الله" أهو مرتجل؟ أم مشتق؟ وإن كان مشتقا فهل اشتقاقه من "أَلِهَ" أو من وَلَه ، أو من "لاه" ؟ وما هو أصله على كل من هذه الأوجه؟ وماذا جرى عليه من الحذف والإدغام حتى بلغ صورته التي هو عليها؟ ومن تعلم شيئا من اللغات السامية أخوات اللغة العربية بل بناتها عند المحققين لا ينقضي عجبه من الخائضين في تلك المعركة ويرى جهودهم ضائعة ويحكم يقينا أن الاسم الكريم مرتجل بلا مرية وهو بعيد كل البعد من الاشتقاق ، فإنه ثابت بهذا اللفظ في جميع اللغات السامية ، ففي السريانية "ألاها" والشرقيون منهم ينطقون به "أَلاَهُ" وهو كذلك في الأشورية "ألاهُ" بفتح الهمزة في اللغات الثلاثة وبالعبرانية "إلوهيم" . ولا تختلف الشعوب السامية فيما أعلم في هذا الاسم الكريم وكذلك في مجموعة اللغات اللاتينية وفي مجموعة اللغات الجرمانية في الاسم الكريم عندهم واحد مهما اختلفت لغاتهم في الكلمات الأخرى لا تختلف فيها . مثال يدل على تقارب اللغتين العربية والعبرانية: جاء في ترجمة يوسف روفلين للقرآن الكريم بالعبرانية في أول سورة الصف ما نصه مع استبدال الحروف العبرانية بحروف عربية: "با را شت ها معرخا" سمرة المعركة "بشم الوهيم ها رحمن وهاد حوم" "يشبح يات الوهيم كل أشر بشاميم" "وخل أشر يا آرص وهو هكبور واهلحخام هما أستيم لا ماتومرووات أشر لو تعسوا" . بسم الله الرحمن الرحيم سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ . فأنت ترى أن الألفاظ كلها مشتركة من أول البسملة إلى قوله تعالى "لم" إلا أن لفظ سبح "أبدلت سينه شينا وحل المضارع محل الماضي" وهذا الفعل في العبرانية متعد بنفسه وكذلك في العربية قال تعالى في سورة "ق" (40) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ وإلا ترجمة "ما" الموصولة بِأَشِرْ وزيادة "كل" لأن الترجمة إنما هي تفسير وإبدال سين السماوات شينا وجمعها بالياء والميم واستعمال باء الجر في موضع "في" وهو جائز في العربية قال تعالى في سورة الصافات (137-138) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ وإبدال ضاد الأرض صادا ، وإبدال العزيز بالجبار "هكبور" وهما متقاربان في المعنى وإبدال الحكيم "هاحاخام" وهما شيء واحد إلا أن الكاف أبدلت خاء . وترجمة "يا أيها الذين آمنوا" هماءنيميم يعني المؤمنين ، وترجمة "لم" بـ "لامَّا" وتقولون بـ "تؤمرو" وترجمة "لا" بـ "لو" وهما شيء واحد بإمالة الألف إلى الواو ، وترجمة "تفعلون" بـ "تعسوا" الواو في تؤمروا ، وتعسو "واو" الجماعة وحذفت النون فيهما بلا ناصب ولا جازم كما تحذف في العاميات العربية وهذه النون هي نون الرفع وهي ثابتة في التوراة وفي مواضع تفوت الحصر وليس كما قال بعض المستشرقين في خمسة مواضع فقط . أمثلة من الكلمات التي قيل إنها وقعت في القرآن من غير العربية: 1 - أباريق : قال السيوطي في الإتقان حكى الثعالبي في فقه اللغة أنها فارسية ، وقال الجوالقي الإبريق فارسي معرب ومعناه طريق الماء أو صب الماء على هينة . قال في لسان العرب: والإبريق إناء وجمعه أباريق فارسي معرب ، قال ابن بري : شاهده قول عدي بن زيد : ودعــــــا بـــــالصبوح يومـــــا فجـــــاءت قينــــــة فـــــــي يمينهـــــــا إبــــــريق وقال كُراع هو الكوز ، وقال أبو حنيفة مرة هو الكوز وقال مرة هو مثل الكوز ، وهو في كل ذلك فارسي معرب وفي التنزيل يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وأنشد أبو حنيفة لشبرمة الضبي : كــــأن أبـــــاريق الشـــــمول عشـــــية أوز بــــأعلى الطــــف عــــوج الحنـــاجر وقال الفيروزآبادي في القاموس الإبريق معرف "أبرى" جمع أباريق انتهى . قال بعض العلماء هو مركب من كلمتين "آب" وهو الماء و" راه " وهو الطريقة ، وقيل مركب من "آب" وهو الماء و"ريخش" وهو الصب على مهل قاله آرثر جفري في كتابه الألفاظ الأجنبية في القرآن . 2 - الآب : وقال السيوطي "آب" قال بعضهم وهو الحشيش بلغة أهل الغرب حكاه شيدلة انتهى . ونقله عنه جفري وفسر لغة أهل الغرب بالبربرية ، أقول وهذا من أعجب العجب ولا نعلم أن العرب كانت لهم علاقة بالبربر قبل الإسلام حتى تقتبس العربية من لغتهم ثم إن هذه الكلمة يبعد كل البعد أن تكون بربرية لأنها لا تشبه الكلمات البربرية وإنما تشبه العربية والسريانية والعبرانية وقال جفري : إنه مأخوذ من "أبا" الأرامية ومعناه الخضرة وقال في لسان العرب: الأبُّ الكلاء ، وعبر بعضهم عنه أنه المرعى ، وقال الزجاج : الأب ، جميع الكلاء الذي تعتلفه الماشية ، وفي التنزيل العزيز ( فاكهة وأبا ) قال أبو حنيفة : سمى الله تعالى المرعى كله أبا ، قال الفراء : الأب ما تأكله الأنعام ، وقال مجاهد : الفاكهة ما أكله الناس ، والأب ما أكلت الأنعام ، فالأب من المرعى للدواب كالفاكهة للإنسان . قال ثعلب : الأب كل ما أخرجت الأرض من النبات ، وقال عطاء : كل شيء ينبت على وجه الأرض فهو الأب . وفي حديث: أن عمر بن الخطاب قرأ قوله عز وجل وَفَاكِهَةً وَأَبًّا وقال: فما الأب؟ ثم قال ما كلفنا وما أمرنا بهذا انتهى . وقال ابن كثير عن ابن جرير بسنده إلى أنس قال قرأ عمر بن الخطاب عَبَسَ وَتَوَلَّى فلما أتى هذه الآية " وفاكهة أبا " قال عرفنا الفاكهة وما الأب؟ وقال لعمرك يا ابن الخطاب فإن هذا لهو التكلف ، فهو إسناد صحيح رواه غير واحد عن أنس به . وهذا محمود على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه وإلا فهو وكل من قرأ هذه الآية يعلم أنه من نبات الأرض لقوله تعالى: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا 3 - ابلعي : قال السيوطي في الإتقان أخرج ابن حاتم عن وهب بن منبه في قوله تعالى "هود- 44" ابْلَعِي مَاءَكِ قال بالحبشية: ازدرديه ، وأخرج أبو الشيخ من طريق جعفر بن محمد عند أبيه قال: اشربي بلغة الهند انتهى . وإن تعجب فعجب قولهم "ابلعي" بلغة أهل الهند وهذا القول إلى الهزل أقرب منه إلى الجد وقائله ليس أهلا أن يؤخذ عنه العلم وإنما هو يهرف بما لا يعرف وأهل الهند أجناس كثيرة لهم مئات من اللغات لا تكاد تسير مسافة يوم إلا وجدت جنسا آخر له لغة أخرى ، وفي زماننا هذا نرى الدماء تسفك بينهم بسبب اللغات فلا يرضى جنس أن تكون لغة الدولة لغة أخرى غير لغته ، وفي زمن الاستعمار لم تكن في الهند لغة يستطيع المسافر أن يتكلم بها ويجد من يفهم كلامه في جميع أنحاء الهند ، إلا لغتين أحدهما الإنجليزية وهي لغة الدولة الحاكمة ، والثانية لغة المسلمين وهي لغة أوردو على أن "بلع" كلمة عربية سامية أصيلة عريقة في عروبتها وساميتها وترفع راية اللغات السامية وهي حرف العين . ومن المعلوم عند علماء اللغات أن العين والحاء لا توجدان إلا في اللغات السامية فإن وجدت إحداهما في كلمة من لغة غير سامية فتلك الكلمة طارئة واردة على تلك اللغة وبهذا يستدل الفيلولوجيون على أن البربر من الشعوب السامية وأنهم خرجوا من جزيرة العرب قبل خروج البابليين والأشوريين ، والكنعانيين ، والفينيقيين كما هو مبين في موضعه ونحن نرى إخواننا عامة المسلمين من أهل الهند يبذلون جهودهم في النطق بقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فلا يتمون النطق بالعينين حتى تغفر ذنوبهم من مشقة النطق بهما . ولذلك نرى السيوطي في كتاب الإتقان كحاطب ليل وليس تحقيق ولا إتقان وهذا شأنه في علوم المنقول ، أما في علوم المعقول كعلوم العربية فهو فارس لا يشق له غبار وقد تحامل عليه الحافظ السخاوي في كتابه "الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع" فالله يغفر لهما جميعا . 4 - ( أخلد ) قال السيوطي في الإتقان : قال الواسطي في الإرشاد : أخلد إلى الأرض ركن بالعبرانية انتهى . أقول: هذا القول لا يقوله إلا جاهل باللغات السامية فإن أخلد وخلد موجودتان في اللغتين كلتيهما ومتفقتان في معانيهما في الجملة فمن قال إنهما عبريتان وليستا عربيتين فقد قفا ما لا علم له به ومن قال العكس فهو مثله ، وإنما توجد بالعرض في حرف الكاف إذا جاءت بعد حركة ، ولم نر أحدا من علماء اللغة العربية أشار إلى أن (أخلد) عبرانية كما ادعى هذا المدعي . قال في لسان العرب: وخلد إلى الأرض وأخلد أقام فيها وفي التنزيل العزيز وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ أي ركن إليها وسكن وأخلد إلى الأرض وإلى فلان ، أي ركن إليه ومال إليه ويرضى به ، ويقال خلد إلى الأرض بغير ألف وهي قليلة انتهى. وقال البيضاوي في تفسيره وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ مال إلى الدنيا أو إلى السفالة ( وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات انتهى. 5 - الأرائك : قال السيوطي في الإتقان حكى ابن الجوزي في فنون الأفنان أنها السرر بالحبشة انتهى . قال الراغب : الأريكة حجلة على سرير جمعها أرائك وتسميتها بذلك إما لكونها في الأرض متخذة من أراك وهو شجر أو لكونها مكان للعامة من قولهم أراك بالمكان أروكا وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك ثم تجوز به في غيره من الإقامات ، اهـ. وقال في لسان العرب: والأريكة سرير في حجلة والجمع أريك وأرائك ، وفي التنزيل عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ قال المفسرون: الأرائك السرر في الحجال وقال الزجاج : الأرائك الفرش في الحجال وقيل: هي الأسرة وهي في الحقيقة الفرش كانت في الحجال أو في غير الحجال وقيل: الأريكة سرير منجد مزين في قبة أو بيت فإذا لم يكن فيه سرير فهو حجلة ، وفي الحديث: ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكة فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ، الأريكة السرير في حجلة من دونه ستر ولا يسمى منفردا أريكة ، انتهى . قال في اللسان : والحجلة مثل القبة وحجلة العروس معروفة وهي بيت يزين بالثياب والأسرة والستور فقد رأيت أن الأرائك كلمة عربية خالصة وبطل ما ادعاه السيوطي ومن نقل عنه . 6 - ( أسباط ) قال السيوطي في الإتقان حكى أبو الليث في تفسيره أنها بلغتهم كالقبائل بلغة العرب انتهى . وفي هذا الكلام شيء ساقط لأن الضمير في لغتهم لم يذكر ما يعود عليه وهذا الساقط يحتمل أن يكون يدل على بني إسرائيل وكلام الجفري يؤيد هذا الاحتمال وهذا نص ترجمته العربية . اضطر أبو الليث أن يعترف أنه أي السبط لفظ عبراني مستعار ، قال السيوطي في الإتقان وقد أطال جفري البحث في هذا اللفظ وادعى أنه لم يستعمل في كلام العرب قبل استعماله في القرآن وربما يكون أول من استعمله محمد . ونحن نقول لجفري وأمثاله من الذين أعمى التعصب بصائرهم وأفقدهم صوابهم أن الله الذي أنزل التوراة والإنجيل - اللذين تؤمن بهما - هو الذي أنزل القرآن على عبده ورسوله محمد بن عبد الله خاتم النبيين على رغم أنفك ولا ضير على القرآن أن يوجد فيه لفظ شاع استعماله في العبرانية لأن هاتين اللغتين نشأتا من أصل واحد وإذا جاز أن يكون في القرآن ألفاظ هي في الأصل فارسية مع أن لغة الفرس بعيدة من لغة العرب فما المانع أن توجد فيه ألفاظ عبرانية وسريانية؟ وإذا اعتبرنا السبط اسما لقبيلة من قبائل بني إسرائيل فالتعبير به طبيعي وهو أولى من التعبير عنه بالقبيلة لأنه صار شبيها بالأعلام التي يجب ذكرها بلفظها . قال في لسان العرب والسبط من اليهود كالقبيلة من العرب وهم الذين يرجعون إلى أب واحد ، سمي سبطا ليفرق بين ولد إسماعيل وولد إسحاق وجمعه أسباط وقوله عز وجل: وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ليس أسباطا بتمييز لأن المميز إنما يكون واحدا لكنه بدل من قوله (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) كأنه قال جعلناهم أسباطا والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب انتهى . وأصله بالعبرانية (شبط على وزن إبل ومعناه القضيب والعصا والقبيلة . 7 - إستبرق قال السيوطي في الإتقان أخرج ابن أبي حاتم أنه الديباج بلغة العجم . انتهى . وقال البيضاوي في قوله تعالى في سورة الدخان (53) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ السندس ما رق من الحرير والإستبرق ما غلظ منه معرب استبره قال جفري : وهذا من الألفاظ القليلة التي اعترف المسلمون أنها مأخوذة من الفارسية وعزاه السيوطي في الإتقان وفي المزهر حكاه فيه الأصمعي وإلى السجستاني في غريب القرآن وإلى الجوهري في الصحاح وإلى كتاب الرسالة للكندي وإلى ابن الأثير في النهاية ، قال وبعضهم يقول إنه لفظ عربي مأخوذ من البرق ، انتهى . 8 - السندس قال في القاموس ضرب من رقيق الديباج معرب بلا خلاف ، وقال في لسان العرب: السندس البزيون ، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى عمر بجبة سندس قال المفسرون في السندس أنه رقيق الديباج ورفيعه وفي تفسير الإستبرق أنه غليظ الديباج ولم يختلفوا فيه ، الليث : السندس ضرب من البزيون يتخذ من المرتزى ولم يختلف أهل اللغة فيهما أنهما معربان ، انتهى . 9 - أسفار قال السيوطي في الإتقان قال الواسطي في الإرشاد: هي الكتب بالسريانية وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: هي الكتب بالنبطية ، انتهى . قال محمد تقي الدين الهلالي : يالله يا للعجب؟ كيف يقال أن الأسفار جمع سفر بكسرٍ فسكون ليس بعربي وإنما هو سرياني أو نبطي ، لا جرم لا يقول ذلك إلا جاهل باللغات السامية ، والحق الذي لا شك فيه أن السفر كلمة عربية خالصة وهي في الوقت نفسه عبرانية وسريانية ونبطية فهي من الألفاظ المشتركة بين اللغات السامية ليست واحدة منها أولى بها من غيرها . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ترجمة الكاتب: الأستاذ بالجامعة الإسلامية "سابقا" والداعية الإسلامي بمدينة الدار البيضاء بالمغرب العربي ولد بسلجماسة " تفيلات " سنة 1311هـ حصل على الدكتوراه في الأدب من جامعة برلين وعلى درجة أستاذ مساعد ، ثم على درجة أستاذ من جامعة بغداد . كان محاضرا في جامعة " بون " وأستاذا في جامعة بغداد ، ثم في جامعة محمد الخامس بالمملكة المغربية ، ثم في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة . يقوم الآن بالدعوة إلى اتباع الكتاب والسنة في مساجد الدار البيضاء بالمغرب . مؤلفاته كثيرة ، منها: سبيل الرشاد - ستة أجزاء ، القاضي العدل في حكم البناء على القبور ، أحكام الخلع في الإسلام ، الهدية الهادية إلى الطائفة التيجانية ، تقويم اللسانين ترجمة محققة لمعاني القرآن الكريم بالإنجليزية ، بمشاركة الدكتور محمد محسن خان طبيب الجامعة الإسلامية سابقا .
    0
  • التفسير بالأثر والرأي وأشهر كتب التفسير فيهما

    بقلم الدكتور : عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله الوهيبي *

    (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد السابع - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1403هـ)

    يشتمل هذا الموضوع على بيان معنى التفسير لغة واصطلاحًا والفرق بينه وبين التأويل ، واهتمام الصحابة والتابعين بالتفسير ، وتاريخ تدوينه ، وأقسامه ، ونبذة موجزة عن أشهر كتب التفسير بالأثر والرأي .

    * معنى التفسير لغة واصطلاحًا:
    * التفسير في اللغة : هو الإيضاح والتبيين ، ومنه قوله تعالى: وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا
    وهو مأخوذ من الفسر أي: الإبانة والكشف ، قال في القاموس: الفسر: الإبانة وكشف المغطى كالتفسير ، والفعل كضرب ونصر .
    والتفسير في الاصطلاح عرفه الزركشي بأنه: علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه . واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو التصريف وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات ، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ .

    معنى التأويل لغة:
    التأويل في اللغة مأخوذ من الأول وهو الرجوع ، قال في القاموس: آل إليه أولاً ومآلاً رجع وعنه ارتد وأول الكلام تأويلاً ، وتأوله دبره وقدره وفسَّره .
    * قال الراغب الأصفهاني : التأويل من الأول أي الرجوع إلى الأصل ، ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه ، وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه علمًا كان أو فعلاً ، ففي العلم نحو قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ . [الأعراف: 53] .
    * * *

    التأويل في الاصطلاح والفرق بينه وبين التفسير :
    والتأويل في الاصطلاح مختلف فيه ، فيرى بعض العلماء أن التأويل بمعنى التفسير ، وعلى هذا جرى الطبري في تفسيره فتجده يقول: (تأويل قوله تعالى . . . . أو يقول اختلف أهل التأويل) يريد بذلك أهل التفسير ، ويرى بعض العلماء أن التأويل مخالف للتفسير ، فالتأويل يتعلق بحقيقة ما يؤول إليه الكلام علمًا أو عملاً كما سبق في كلام الراغب ، والتفسير يتعلق بالألفاظ وبمفرداتها ، وقيل : التفسير القطع بأن مراد الله تعالى كذا ، والتأويل ترجيح أحد المحتملات بدون قطع . . . وقيل التفسير ما يتعلق بالرواية ، والتأويل ما يتعلق بالدراية ولذا اختلف السلف في الوقف على قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا فمن قال: إن التأويل بمعنى التفسير وقف على قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أي أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه ببيان معناه لغة وشرح ألفاظه ، ومن قال: إن التأويل بمعنى حقيقة ما يؤول إليه الكلام وقف على قوله (إلا الله) بمعنى أنه لا يعرف حقيقة ما يؤول إليه المتشابه إلا الله تعالى .
    * * *
    التأويل في اصطلاح علماء الكلام :
    هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل . وهذا الاصطلاح استخدمه علماء الكلام في صرف آيات الصفات عن ظاهرها ومعانيها الراجحة إلى معان مرجوحة كما قالوا في قوله تعالى: { وجاء ربك والملك صفا صفا } . [ الفجر: 22 ] . المراد به جاء أمر ربك لأنهم لو أثبتوا المعنى الظاهر وهو المجيء لترتب على هذا خلو المكان والحدوث والله منزه عن ذلك ، فصرفوا الكلام عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح لتنزيه الله تعالى وهذا الدليل غير مسَّلم لهم عند أهل السنة والجماعة ، فهم يثبتون المجيء على ظاهره من غير تكييف ولا تمثيل على حد قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وهو الصواب ؛ لأن الذين تأولوا آيات الصفات خشية من الوقوع في التشبيه قد وقعوا فيما فروا منه ، لأنهم تصوروا أن الله كالمخلوق يلزم من مجيئه الخلو والحدوث ، فشبهوا الله به ثم تأولوا صفات الله فوقعوا في التعطيل ، فلو أنهم تصوروا أن الله بخلاف المخلوق في ذاته للزم على هذا أنه مخالف له في صفاته ، فوجب إثبات الصفات له على ما يليق بجلاله .
    والراجح أن التفسير يتعلق بشرح ألفاظ القرآن وبيان معانيها من جهة اللغة ، والتأويل يتعلق باستنباط الحكم والأحكام من الآيات وترجيح أحد المحتملات ، هذا إذا أردنا التفريق بين التفسير والتأويل ، وإلا فيصح إطلاق أحدهما على الآخر فبينهما عموم وخصوص من وجه كالإيمان والإسلام ، فإذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا ، فإذا استعملنا كلمة التفسير مفردة فتعم التأويل ، وكذلك إذا استعملنا كلمة التأويل مفردة فتعم التفسير ، وإذا جمعنا بين الكلمتين فقلنا التفسير والتأويل فينصرف التفسير إلى شرح ألفاظ القرآن وبيان معيناه ، وينصرف التأويل إلى استنباط الحكم والأحكام وترجيح المحتملات كما سبق بيانه . والله أعلم .
    اهتمام الصحابة والتابعين بالتفسير :
    اهتم الصحابة رضوان الله عليهم بحفظ القرآن ، وتدبر معانيه وفهم مراد الله ، والعمل بما جاء فيه ، فكان من اهتمامهم بالقرآن أنهم إذا حفظوا مجموعة من الآيات لا يتجاوزونها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قال أبو عبد الرحمن السلمي: (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وابن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا حفظوا من الرسول صلى الله عليه وسلم عشر آيات لا يتجاوزونها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قال فحفظنا القرآن والعلم والعمل جميعًا) .
    وروي عن ابن عمر أنه أقام على حفظ سورة البقرة ثماني سنين ، وهذا دليل على تدبره لها وفهمه لمعانيها وتطبيق ذلك .
    وروي عن أنس بن مالك أنه قال: (كان الرجل منا إذا حفظ البقرة وآل عمران جل في أعيننا) أي عظم قدره .
    وكذلك كان التابعون يحرصون على حفظ القرآن وتدبر معانيه ، فهذا مجاهد يقول : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث مرات أوقفه عند كل آية وأسأله عنها .
    * وقال الشعبي : رحل مسروق إلى البصرة في تفسير آية فقيل له إن الذي يفسرها رحل إلى الشام فتجهز ورحل إليه حتى علم تفسيرها .
    فتفسير القرآن من أشرف العلوم وأفضلها ، لأن العلم يشرف بشرف المعلوم ، وعلم التفسير يتعلق بكلام الله وهو خير الكلام ، قال تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا
    فالحكمة فهم القرآن وتفسيره كما قال المفسرون . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم خيركم من تعلم القرآن وعلمه .
    المفسرون من الصحابة والتابعين :
    وقد اشتهر بالتفسير من الصحابة- رضي الله عنهم- الخلفاء الأربعة ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأُبي بن كعب ، وأبو موسى الأشعري ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وأكثر من روي عنه من الخلفاء علي بن أبي طالب لأن الخلافة لم تشغله أول الأمر ، ولبقائه مدة طويلة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    وكلما طال الزمان بالناس احتاجوا إلى التفسير نظرًا لما يجد عندهم من قضايا لم تكن موجودة ، ولاختلاطهم بالأعاجم ، وبعدهم عن عهد العروبة الأول ، لذا يشكل عليهم القرآن كثيرًا فيحتاجون إلى التفسير لذا تجد ما رُوي عن ابن عباس أكثر مما رُوي عن علي - رضي الله عنهما- بخلاف الثلاثة السابقين فقد اشتغلوا بالخلافة أولاً ، وكانت مدة بقائهم ، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيرة ، خصوصًا أبا بكر الصديق - رضي الله عنهم- فإنه لم يلبث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سنتين وأشهرًا لذا لم يرو عنه في التفسير إلا نزر يسير أما علي - رضي الله عنه- فقد رُوي عنه كثير ، وكان يقول: (سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم ، وسلوني عن كتاب الله ، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل) .
    وكان يقول: (والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أنزلت ، وأين أنزلت ، إن ربي وهب لي قلبًا عقولاً ولسانًا سؤولاً . ) وكذا روى عن ابن مسعود كثير ، وكان يقول: (والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت ، وأين نزلت ، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته) فما رُوي عنهم من قسم علي العلم بكتاب الله أية آية دليل على مدى اهتمامهم بهذا الكتاب العظيم ، وتدبرهم له آية آية ، وتتبعهم لنزوله ، وفهم مقاصده ومراميه والعمل به .
    لذا نجد ابن عباس - رضي الله عنه- لما فاته الأخذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم لصغر سنه حيث توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة تقريبًا ، نجده يلازم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجد في الطلب ، ويتحمل في ذلك المشاق والمتاعب ، فقد رُوي عنه أنه كان يجلس في القائلة عند باب أحدهم والرياح تؤذيه والشمس تشتد عليه ، ومع هذا يتحمل في سبيل تعلم كتاب الله ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فبجهوده التي بذلها في طلب العلم ، وبركة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: اللهم فقهه في الدين ، وعلمه التأويل فتح الله عليه في فهم القرآن ، وتدبره فكان حكمًا في تفسيره وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا
    واشتهر من التابعين مجاهد وقد قيل: (إذا جاءك التفسير من مجاهد فحسبك) وممن اشتهر من التابعين أيضًا سعيد بن جبير ، وعكرمة- مولى ابن عباس - وقتادة ، والضحاك ، وعطاء بن أبي رباح ، وزيد بن أسلم وغيرهم كثير .
    تاريخ تدوين التفسير :
    مر تدوين تفسير القرآن بالمراحل الآتية:
    * المرحلة الأولى :
    أن التفسير كان يعتمد على الرواية والنقل فالصحابة يروون عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويروي بعضهم عن بعض .
    * المرحلة الثانية:
    أن التفسير دون ضمن كتب الحديث ، فالمحدثون الذين تخصصوا في رواية أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وجمعها كالبخاري ومسلم وأصحاب السنن أفردوا بابًا للتفسير في كتبهم جمعوا فيه ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين في تفسير القرآن ، فتجد ضمن صحيح البخاري ومسلم باب التفسير وكذلك كتب السنن .
    * المرحلة الثالثة:
    أن التفسير دُوِّن مستقلاً في كتب خاصة به جمعه فيها مؤلفوها ما رُوي عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين مرتبًا حسب ترتيب المصحف ، فيذكرون أولاً ما روي في تفسير سورة الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران ، وهكذا إلى آخر سورة الناس .
    تم ذلك على أيدي طائفة من العلماء منهم ابن ماجه (ت273هـ) . وابن جرير الطبري (ت 310هـ) . وأبو بكر بن المنذر النيسابوري (ت318هـ) وابن أبي حاتم (ت327هـ) . وأبو الشيخ بن أبي حبان (ت369هـ) . والحاكم (ت405هـ) وأبو بكر بن مردويه (ت410هـ) وغيرهم من أئمة هذا الشأن ، وكل هذه التفاسير مروية بالإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الصحابة والتابعين وتابع التابعين ، وليس فيها شيء من غير التفسير المأثور ، اللهم إلا ابن جرير الطبري ؛ فإنه ذكر الأقوال ثم وجهها ورجح بعضها على بعض ، وزاد على ذلك الإعراب إن دعت إليه حاجة ، واستنبط الأحكام التي تؤخذ من الآيات القرآنية .
    * المرحلة الرابعة:
    في هذه المرحلة دُوِّن التفسير مجردًا عن الإسناد ، واختلط الصحيح بالضعيف ، ودخلت الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير ، والذين جاءوا بعد ذلك نقلوا هذه الأقوال على أنها صحيحة .
    تلون التفسير بثقافة المفسرين :
    ثم كثر التأليف في التفسير بالرأي والاجتهاد فخرجت تفاسير تلونت بلون ثقافة مؤلفيها ، فالعالم بالنحو حشا تفسيره بقواعد النحو وخلافياته كما فعل أبو حيان في تفسيره (البحر المحيط) ، وصاحب العلوم العقلية والفلسفية حشا تفسيره بأقوال الفلاسفة ونظرياتهم وفندها ورد عليها كما فعل الفخر الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب) ، وصاحب الفقه حشا تفسيره بذكر مسائل الفقه وفروعه وأدلة المذاهب كما فعل القرطبي في تفسيره ( الجامع لأحكام القرآن ) ، وصاحب القصص والأساطير حشا تفسيره بذكر قصص الأنبياء مع قومهم واستطرد في ذلك كما فعل الثعلبي في تفسيره ( الكشف والبيان عن تفسير القرآن ) ، وهكذا تلون التفسير بعلم من ألف فيه .
    * * *
    التفسير الموضوعي :
    وبجانب تلك التفاسير ظهرت كتب عنيت بدراسة جانب من جوانب القرآن ، فأفردته بالبحث والدراسة ، وتوسعت فيه وتحدثت عن جزئياته ، سميت فيما بعد (بالتفسير الموضوعي) ، ففي مقدمة المؤلفين في هذا النوع من الدراسة ( قتادة بن دعامة الدوسي ) (ت 118هـ) . روي أنه أول من ألف في (الناسخ والمنسوخ) ، كما ألف أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت 210هـ) . في مجاز القرآن وكتابه طبع في القاهرة سنة 1954م . وألف أبو عبيد القاسم بن سلام (ت244هـ) . في (الناسخ والمنسوخ) أيضًا ، وكذا أبو داود السجستاني صاحب السنة (ت275هـ) . وألَّف علي ابن المديني شيخ البخاري (ت234هـ) كتابه في ( أسباب النزول ) ، وهو أول من ألَّف في أسباب النزول في القرآن الكريم ، ولكن كتابه لم يصل إلينا .
    كما ألَّف أبو الفرج ابن الجوزي (ت597هـ) . كتابه (أسباب نزول القرآن) ، وألف الواحدي (ت468هـ) . كتابه (أسباب النزول) وهو مطبوع ومتداول ، وألًّف الراغب الأصفهاني (ت502هـ) . كتابه ( المفردات في غريب القرآن ) ، وأفرد الجصاص الفقيه الحنفي (ت370هـ) كتابًا خاصًا ( بأحكام القرآن ) تناول فيه تفسير آيات الأحكام ، وكذلك فعل ابن العربي المالكي (ت543هـ) . والكيَّا الهرَّاس الشافعي (ت504هـ) .
    أقسام التفسير :
    ينقسم التفسير إلى قسمين:
    1 - التفسير بالمأثور :
    ويشمل تفسير القرآن بالقرآن ، لأن ما أجمل وأطلق في مكان بين وقيد في مكان آخر ، والتفسير المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين .
    * مثال تفسير القرآن بالقرآن ، قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فقوله تعالى: إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فسر بالآية رقم 3 من السورة وهي قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْـزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الآية . ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا فسر بالآيات التي بعده إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلا الْمُصَلِّينَ ومثال المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ فسر الرسول صلى الله عليه وسلم المغضوب عليهم: باليهود ، والضالين: بالنصارى رواه الترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه .
    ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه- أنه قال: لما نزلت الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شق ذلك على المسلمين ، وقالوا أيُّنا لا يظلم نفسه؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس ذلك ؛ إنما هو الشرك ، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه: يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ . [ لقمان: 13 ] . رواه البخاري ومسلم والترمذي .
    * * *
    2 - التفسير بالرأي :
    وهو الذي يعتمد فيه المفسر على الاستنتاج العقلي للأحكام والحكم من الآيات ، وترجيح المحتملات ، ويجوز التفسير بالرأي لمن كان عالمًا باللغة العربية والنحو والصرف والبلاغة وناسخ القرآن ومنسوخه وأسباب النزول والسنة صحيحها وضعيفها وأصول الفقه ، وأن يكون موهوبًا ، والموهبة لا تأتي إلا بالتقوى ، فكلما كان الإنسان أكثر تقوى وخشية لله فتح الله عليه وعلمه ما لم يعلم ، وبارك في علمه ، قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ
    فالمطلع على كتب العلماء السابقين يجد نفسه أمام موسوعات علمية في التفسير والحديث والتوحيد والفقه والأصول ، فإذا ما قرأ فيها وجد فيها الغزارة العلمية والاستنتاج الدقيق والاستقصاء والترجيح بين الأدلة والرد على المخالفين ودفع الشبه وغير ذلك من المباحث ، فيتساءل كيف جمعوا هذه المعلومات وكيف اتسعت أعمارهم لتأليف هذه الموسوعات ، ولا يجد جوابًا على ذلك إلا أنهم أخلصوا النية في طلب العلم ، واتقوا الله ، ففتح الله عليهم وبارك في وقتهم وعلَّمهم .
    ويحرم التفسير بالرأي لمن لا تتوفر فيه الشروط السابقة ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار رواه الترمذي ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ رواه أبو داود والترمذي عن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - .
    والمعنى أن من فسَّر القرآن برأيه المجرد دون الرجوع إلى لغة العرب وأساليبها في البيان والرجوع إلى المروي عن الرسول والصحابة ، ومعرفة الناسخ والمنسوخ فقد أخطأ الطريق الذي يتوصل به إلى تفسير كتاب الله وإن أصاب في رأيه لمراد الله ؛ لأنه أتى الأمر من غير بابه حيث فسر كتاب الله بما لا يعلمه ، ولذا نجد الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين تكلموا في القرآن بما يعلمون ، وتحرجوا عن الكلام في القرآن بما لا علم لهم به ، روي عن أبي بكر - رضي الله عنه- أنه قال: (أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلمه ) وروي عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا فقال: هذه الفاكهة عرفناها فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه وقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر وهذا محمول على أنه إنما أراد استكشاف علم كيفية الأب وإلا فكونه نبتًا من الأرض ظاهر لا يجهل لقوله تعالى: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا
    أشهر كتب التفسير بالأثر والرأي:
    هذا المبحث يحتوي على نبذة موجزة عن أشهر كتب التفسير بالأثر والرأي تتناول التعريف بمؤلفيها وبيان طريقتهم في التفسير ، وما تمتاز به هذه التفاسير وما يلاحظ عليها . وقد قسمنا هذه التفاسير إلى تفاسير بالأثر وتفاسير بالرأي ، ولا يعني ذلك خلو تفاسير الأثر عن الرأي وخلو تفاسير الرأي عن الأثر ، فكل تفسير يجمع بين الرأي والأثر ، ولكن تقسيمنا مبني على الغالب ، فما يغلب عليه الأثر جعلناه من تفاسير الأثر ، وما يغلب عليه الرأي جعلناه من تفاسير الرأي .
    * * *
    أ- أشهر كتب التفسير بالأثر:
    1 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري
    * التعريف بمؤلف هذا التفسير:
    هو الإمام الحافظ المفسر المحدث الفقيه المؤرخ شيخ المفسرين والمؤرخين ، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، ولد بآمل من بلاط طبرستان سنة 224هـ ، وتوفي ببغداد سنة 310هـ ، وكان عالمًا بالقراءات بصيرًا بالمعاني ، عالمًا بالسنة ، متفانيًا في العلم ، ذكر عنه أنه مكث أربعين سنة يكتب كل يوم أربعين ورقة ، وكان من الأئمة المجتهدين ، وقد ألَّف في علوم كثيرة فأبدع فيها ، ومن مؤلفاته:
    1 - تاريخ الأمم والملوك ، مطبوع وهو من أهم مصادر التاريخ .
    2 - اختلاف الفقهاء ، مطبوع .
    3 - كتاب التبصر في أحوال الدين .
    4 - تفسيره (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) .
    * التعريف بتفسيره وطريقته فيه:
    تفسير الطبري من أجلّ التفاسير بالمأثور وأعظمها قدرًا ، ذكر فيه ما روي في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأتباعهم ، وكانت التفاسير قبل ابن جرير لا يذكر فيها إلا الروايات الصرفة ، حتى جاء ابن جرير فزاد توجيه الأقوال ، وترجيح بعضها على بعض ، وذكر الأعاريب والاستنتباطات والاستشهاد بأشعار العرب على معاني الألفاظ .
    وطريقته في التفسير أنه يلخص الأقوال التي قيلت في تفسير الآية ، ثم يذكر بعد كل قول الروايات التي رويت فيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين ، ثم يروي الروايات التي قيلت في القول الثاني ثم الثالث ، وهكذا حتى يستكمل الأقوال والروايات ، ثم يرجح ما يراه ويستدل عليه ويرد الأقوال المخالفة .
    وكان الطبري في نيته أن يكون تفسيره أوسع مما كان ، ولكنه اختصره استجابة لرغبة طلابه ، فابن السبكي يذكر في طبقاته الكبرى أن أبا جعفر قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فقال ثلاثون ألف ورقة ، فقالوا: هذا ربما تفنى الأعمار قبل تمامه . فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة ، ثم قال قبل ذلك في تاريخه . ويقع تفسير ابن جرير في ثلاثين جزءًا من الحجم الكبير ، وكان هذا الكتاب من عهد قريب يكاد يكون مفقودًا لا وجود له ، ثم قدر الله له الظهور والتداول ، فكان مفاجأة سارة للأوساط العلمية في الشرق والعرب أن وجدت في حيازة أمير حائل الأمير حمود بن عبيد عبد الرشيد نسخة مخطوطة كاملة من هذا الكتاب طبع عليها الكتاب من زمن قريب فأصبحت في يدنا دائرة معارف غنية في التفسير المأثور ، وقد حظي هذا التفسير بالقبول والثناء في الأوساط العلمية قديمًا وحديثًا ، قال النووي : أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثل تفسير الطبري . وقال أبو حامد الإسفراييني : لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل على كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيرًا . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير ابن جرير الطبري ؛ فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير والكلبي .
    هذا وكتب ( نولدكه ) في سنة 1860م . بعد اطلاعه على بعض فقرات من هذا الكتاب: لو كان بيدنا هذا الكتاب لاستغنينا به عن كل التفاسير المتأخرة ومع الأسف فقد كان يظهر أنه مفقود تمامًا ، وكان مثل تاريخه الكبير مرجعًا لا يغيض معينه أخذ عنه المتأخرون معارفهم .
    وقد التزم ابن جرير في تفسيره ذكر الروايات بأسانيدها إلا أنه في الأعم الأغلب لا يتعقب الأسانيد بتصحيح ولا تضعيف لأنه كان يرى كما هو مقرر في أصول الحديث ، أن من أسند لك فقد حملك البحث عن رجال السند ومعرفة مبلغهم من العدالة والجرح ، فهو بعمله هذا قد خرج من العهدة ، ومع ذلك فابن جرير يقف أحيانًا من السند موقف الناقد البصير ، فيعدل من يعدل رجال الإسناد ، ويجرح من يجرح منهم ويرد الرواية التي لا يثق بصحتها ، ويصرح برأيه فيها بما يناسبها .
    ثم إننا نجد ابن جرير يأتي في تفسيره بأخبار إسرائيلية يرويها بإسناده إلى كعب الأحبار ووهب بن منبه وابن جريج والسدي وغيرهم ، ونراه ينقل عن محمد بن إسحاق كثيرًا مما رواه عن مسلمة الأنصاري .
    وهكذا يكثر ابن جرير من رواية الإسرائيليات ، ولعل هذا راجع إلى ما تأثر به من الروايات التاريخية التي عالجها في بحوثه التاريخية الواسعة .
    فعلى الباحث في تفسيره أن يتابع هذه الروايات بالنظر الشامل والنقد الفاحص ، وقد يسر لنا ابن جرير الأمر في ذلك حيث إنه ذكر الإسناد ، وبذلك يكون قد خرج من العهدة .
    وعلينا نحن أن ننظر في السند ونتفقد الروايات وقد استفاد المفسرون الذين جاءوا بعد الطبري من تفسيره ، فاعتمدوا عليه في نقل كثير من التفسير المأثور ، واستناروا بآرائه واجتهاداته وترجيحاته .
    ويوجد لهذا التفسير طبعتان طبعة الحلبي كاملة في ثلاثين جزءًا ولكنها غير محققة ، وطبعة دار المعارف بتحقيق أحمد شاكر وأخيه محمود شاكر ، ولكنها ناقصة حيث بدأت من مقدمة التفسير إلى تفسير الآية (27) من سورة إبراهيم في ستة عشر مجلدًا .
    2 - الكشف والبيان عن تفسير القرآن للثعلبي
    هو أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري المقرئ المفسر ، كان حافظًا واعظًا رأسًا في التفسير والعربية متين الديانة ، حدث عن أبي طاهر بن خزيمة ، وعنه أخذ أبو الحسن الواحدي التفسير وأثنى عليه ، وكان كثير الحديث كثير الشيوخ ، ولكن هناك من العلماء من يرى أنه لا يوثق به ولا يصح نقله ، توفي سنة 427هـ . ومن مؤلفاته:
    1 - كتاب العرائس في قصص الأنبياء عليهم السلام ، مطبوع .
    2 - من ربيع المذكرين .
    3 - تفسيره : الكشف والبيان عن تفسير القرآن .
    * التعريف بتفسيره وطريقته فيه :
    وطريقته في التفسير أنه يفسر القرآن بما جاء عن السلف مع اختصاره للأسانيد اكتفاء بذكرها في مقدمة الكتاب ، كما أنه يعرض للمسائل النحوية ويخوض فيها بتوسع ظاهر ، ويعرض لشرح الكلمات اللغوية وبيان أصولها ، ويستشهد على ما يقول بالشعر العربي ، ويتوسع في الكلام عن المسائل الفقهية عندما يتناول آية من آيات الأحكام ، فتراه يذكر الأحكام والخلافات والأدلة ويعرض للمسألة من جميع نواحيها إلى درجة تخريجه عما يراد من الآية . ويلاحظ عليه أنه يكثر من ذكر الإسرائيليات بدون تعقيب مع ذكره لقصص إسرائيلية في منتهى الغرابة .
    ويظهر من ذلك أن الثعلبي كان مولعًا بالأخبار والقصص إلى درجة كبيرة ، بدليل أنه ألّف كتابًا يشتمل على قصص الأنبياء ، وإن أردت أمثلة على ذلك: فارجع إليه عند تفسير قوله تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ وقوله تعالى: إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ثم ارجع إليه عند تفسير قوله تعالى من سورة مريم: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ كذلك نجده قد وقع فيما وقع فيه كثير من المفسرين من الاغترار بالأحاديث الموضوعة في فضائل السور سورة سورة ، فروى في نهاية كل سورة حديثًا في فضلها منسوبًا إلى أُبي بن كعب ، كما اغتر بكثير من الأحاديث الموضوعة على ألسِنة الشيعة ، فشوه بها كتابه دون أن يشير إلى وضعها واختلاقها ، ومن هذا ما يدل على أن الثعلبي لم يكن له باع في معرفة صحيح الأخبار من سقيمها .
    * قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته في أصول التفسير :
    والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين ، وكان حاطب ليل ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع .
    * وقال الكتاني : في الرسالة المستطرفة عند الكلام عن الواحدي المفسر : لم يكن له ولا لشيخه الثعلبي الكبير بضاعة في الحديث ، بل في تفسيرهما وخصوصًا الثعلبي ، أحاديث موضوعة وقصص باطلة .
    * * *
    3 - معالم التنزيل للبغوي
    * التعريف بمؤلف هذا التفسير:
    هو أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالفراء البغوي الفقيه الشافعي المحدث المفسر الملقب بمحيي السُنَّة وركن الدين ، كان تقيًا ورعًا زاهدًا إذا ألقى الدرس لا يلقيه إلاّ على طهارة ولد سنة 436هـ . وتوفي سنة 516هـ . بمروالروذ .
    كان البغوي إمامًا في التفسير والحديث والفقه ، وله مؤلفات في هذه العلوم ، فمن مؤلفاته: 1- شرح السُنَّة ، مطبوع .
    2 - مصابيح السُنَّة ، مطبوع .
    3 - الجمع بين الصحيحين في الحديث .
    4 - التهذيب في الفقه ، مخطوط .
    5 - تفسيره: معالم التنزيل ، مطبوع .
    تفسيره وطريقته فيه :
    تفسير البغوي مختصر من تفسير الثعلبي ، لكنه صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة والإسرائيليات المبتدعة .
    وطريقته أنه يفسر الآية بلفظ سهل موجز ، وينقل ما جاء عن السلف في تفسيرها ، وذلك بدون ذكر الإسناد فيقول : قال ابن عباس ، أو قال مجاهد ، وهكذا اكتفاء بذكر إسناده إلى كل من روي عنهم في مقدمة تفسيره ، وقد يذكر الإسناد في أثناء التفسير إذا روي بإسناد آخر لم يذكره في المقدمة ، ويمتاز بأنه يتعرض للقرآن بدون إسراف ، ويتحاشى الاستطراد في الإعراب ونكت البلاغة وغير ذلك من العلوم التي أولع بها المفسرون ، ويلاحظ عليه أنه يذكر روايات عن السلف في تفسير الآية ولا يرجح ، وينقل عن الضعفاء كالكلبي ، ويذكر بعض الإسرائيليات بدون تعقيب . قال حاجي خليفة في كتابه كشف الظنون عن تفسير البغوي : هو كتاب متوسط نقل فيه عن مفسري الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، واختصره الشيخ تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن محمد الحسين المتوفى سنة 875هـ .
    * وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن أقرب التفاسير للكتاب والسُنَّة ؟ الزمخشري ؟ أم القرطبي ؟ أم البغوي ؟ أم غير هؤلاء؟ فقال في فتاواه . وأما التفاسير الثلاثة المسئول عنها فأسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة البغوي ، لكنه مختصر من تفسير الثعلبي ، وحذف منه الأحاديث الموضوعة والبدع التي فيه ، وحذف أشياء غير ذلك اه .
    4 - تفسير القرآن العظيم لابن كثير
    * التعريف بمؤلف هذا التفسير :
    هو الإمام الجليل الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الفقيه الشافعي ، لازم المزِّي ، وقرأ عليه تهذيب الكمال ، وصاهره على ابنته ، وأخذ عن ابن تيمية وفتن بحبه وامتحن بسببه ، ولد في قرية من أعمال بصرى الشام سنة 701هـ وتوفي سنة 774هـ .
    كان ابن كثير على مبلغ عظيم من العلم ، وقد شهد له العلماء بسعة علمه وغزارة مادته خصوصًا في التفسير والحديث والتاريخ ، ومن مؤلفاته:
    1 - البداية والنهاية في التاريخ ، مطبوع .
    2 - شرح صحيح البخاري؛ ولم يكمله .
    3 - طبقات الشافعية .
    4 - جامع المسانيد ، مخطوط في ثمانية مجلدات .
    5 - تفسير القرآن العظيم ، مطبوع .
    * التعريف بتفسيره وطريقته فيه :
    تفسير ابن كثير من أشهر ما دون في التفسير بالمأثور ، ويعتبر الكتاب الثاني بعد كتاب ابن جرير الطبري ، اعتنى فيه مؤلفه بالرواية عن مفسري السلف . وقد قدم له بمقدمة طويلة هامة تعرض فيها لكثير من الأمور التي لها تعلق واتصال بالقرآن وتفسيره ، ولكن أغلب هذه المقدمة مأخوذ بنصه من كلام شيخه ابن تيمية الذي ذكره في كتابه أصول التفسير .
    وطريقته في تفسيره أنه يفسر الآية بأسلوب سهل واضح ، ويذكر وجوه القراءات بدون إسراف ، ويشير إلى الإعراب إن كان له تعلق بتفسير الآية ، ثم يفسر الآية بآية أخرى إن أمكن ، ويسرد في ذلك الآيات التي تناسبها ، وهذا من قبيل تفسير القرآن بالقرآن ، وقد اشتهر ابن كثير بذلك ، ثم يذكر الأحاديث المرفوعة المتعلقة بتفسير الآية وما روي عن الصحابة والتابعين في ذلك ، ويعني بتصحيح الأسانيد أو تضعيفها مع بيان سبب الضعف ، وترجيح بعض الأقوال على بعض مع توجيه ذلك .
    وكثيرًا ما نجده ينقل من تفسير ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم وعبد الرزاق وابن عطية والفخر الرازي وغيرهم ممن تقدمه ، وقد يتعقب أقوالهم . ومما يمتاز به تفسيره أنه ينبه على ما في تفسير المأثور من منكرات الإسرائيليات ، ويحذر منها على وجه الإجمال تارة ، وعلى وجه التعيين لبعض منكراتها تارة أخرى ، مع نقد أسانيدها ومتونها ، ويذكر مناقشات الفقهاء وآرائهم وأدلتهم عندما يشرح آية من آيات الأحكام من غير إسراف ولا استطراد .
    وبالجملة فإن هذا التفسير من خير كتب التفسير بالمأثور ، وقد شهد له بعض العلماء فقال السيوطي في ذيل تذكرة الحفاظ والزرقاني في شرح المواهب: إنه لم يؤلف على نمط مثله
    5 - الدرر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي
    * التعريف بمؤلف هذا التفسير :
    هو الحافظ جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي الشافعي المسند المحقق صاحب المؤلفات الفائقة النافعة ، حفظ القرآن وهو ابن ثماني سنين ، وحفظ كثيرًا من المتون ، وأخذ عن شيوخ كثيرين عدَّهم الداودي فبلغ بهم واحدًا وخمسين كما عد مؤلفاته فبلغ بها ما يزيد على خمسمائة مؤلف ولد سنة 849هـ . وتوفي سنة 911 هـ . بالقاهرة ، ومن مؤلفاته:
    1 - الجامع الصغير في الحديث ، مطبوع .
    2 - حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة ، مطبوع .
    3 - همع الهوامع في النحو ، مطبوع .
    4 - الإتقان في علوم القرآن ، مطبوع .
    5 - الدر المنثور في التفسر بالمأثور ، مطبوع .
    * التعريف بتفسيره وطريقته فيه :
    عرف السيوطي تفسيره في مقدمته فقال: فلما ألفت كتاب ترجمان القرآن وهو التفسير المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وتم بحمد الله في مجلدات فكان ما أوردته فيه من الآثار بأسانيد الكتب المخرج منها واردات ، رأيت قصور أكثر الهمم عن تحصيله ورغبتهم في الاقتصار على متون الأحاديث دون الإسناد وتطويله فلخصت منه هذا المختصر مقتصرًا فيه على متن الأثر مصدرًا بالعزو والتخريج إلى كل كتاب معتبر وسميته: بالدر المنثور في التفسير المأثور .
    فالسيوطي يسرد في الروايات عن السلف في التفسير بدون أن يعقب عليها ، فلا يعدل ولا يجرح ولا يضعف ولا يصحح إلاّ في حالات نادرة ، وقد أخذ هذه الروايات من البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأحمد وأبي داود وابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وغيرهم .
    ونلاحظ أن تفسير السيوطي هو الوحيد الذي اقتصر على التفسير بالمأثور من بين التفاسير السابقة التي تحدثنا عنها ، فلم يخلط بالروايات التي نقلها شيئًا من عمل الرأي كما فعل غيره .
    ب- أشهر كتب التفسير بالرأي

    1 - مفاتيح الغيب للفخر الرازي

    * التعريف بمؤلف هذا التفسير :
    هو محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن فخر الدين الرازي أبو عبد الله القرشي التميمي من ذرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه المفسر الفقيه المتكلم ، إمام وقته في العلوم العقلية ، ولد في رمضان سنة 544هـ . طلب العلم على والده ضياء الدين عمر ، وأتقن علومًا كثيرة وبرز فيها ، وتخرج عليه طلاب كثيرون ، حكي أنه إذا ركب يمشي حوله نحو ثلاثمائة تلميذ فقهاء وغيرهم ، وصنف في فنون كثيرة ، وقيل إنه ندم على دخوله في علم الكلام ، روي عنه أنه قال: لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فلم أجدها تروي غليلاً ولا تشفي عليلا ، ورأيت أصح الطرق طريقة القرآن ، توفي بهراة سنة 606هـ وخلف مصنفات كثيرة منها: 1- كتاب المحصول في أصول الفقه ، مطبوع .
    2 - كتاب شرح أسماء الله الحسنى ، مطبوع .
    3 - كتاب من إعجاز القرآن .
    4 - كتاب المطالب العالية في ثلاثة مجلدات ولم يتمه وهو من آخر تصانيفه .
    5 - تفسيره: مفاتيح الغيب .
    * * *
    التعريف بتفسيره وطريقته فيه :
    تفسير الفخر الرازي : "مفاتيح الغيب" من التفاسير المطولة ، ويقع في اثنين وثلاثين جزءًا في طبعة دار المصحف ، وهذا التفسير لم يتمه الفخر الرازي ، ذكر حاجي خليفة في: كشف الظنون ، أنه وصل فيه إلى تفسير سورة الأنبياء ثم أتمه نجم الدين أحمد بن محمد القمولي المتوفي سنة 727هـ . وقاضي القضاة شهاب الدين بن خليل الخوى أكمل ما نقص منه أيضا توفي سنة 639هـ . وذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ، أن الذي أكمله نجم الدين القمولي . فلعل الشيخين اشتركا في تكملته بوجه من الوجوه أو أن كل واحد منهما ألّف تكملة له ، ومسألة تكملة تفسير الفخر الرازي والموضع الذي انتهى إليه الفخر الرازي في تفسيره مسألة فيها خلاف قديم بين العلماء ولم تحقق إلى الآن ، وطريقة الفخر الرازي في تفسيره أنه يعني بذكر مناسبة السور بعضها لبعض ، ومناسبة الآيات بعضها لبعض ، فيذكر أكثر من مناسبة ، ويلاحظ على بعض هذه المناسبات بعيدة أو فيها تكلف ، كما أنه يعني بذكر أسباب النزول ، فيذكر للآية الواحدة سببًا أو أكثر من سبب حسب ما روي فيها ، ويذكر وجوه القراءات ووجوه الإعراب ، ويعني باللغة ، فتجد له مباحث لغوية قصيرة لتحقيق بعض اللغويات ، ويشير إلى القواعد الأصولية ، ويتوسع في المباحثات الفقهية ، فيعني كثيرًا بمذهب الشافعي وتحقيقه وترجيح آرائه والرد على مخالفيها ، كما أنه في مسألة آيات الصفات يجريها على طريقة الأشعري في مذهبه ، ويرد على أقوال المعتزلة في مسألة الصفات وغيرها ، ويفند أقوالهم ، وكذلك يعني بذكر آراء الفلاسفة ونظرياتهم في الكون ويفندها ، وقد استطرد في المباحث الفلسفية والكلامية فطغت على تفسيره ، فهو مرجع في هذا الباب إلاّ أنه يؤخذ عليه أن يورد شبه الجاحدين والمخالفين يوردها ويحققها ويتوسع في تحقيقها أكثر من أصحابها ثم يرد عليها ردًا ضعيفًا لأنه قد استنفذ طاقته في التوسع في تحقيقها حتى قال عنه بعض المغاربة : يورد الشبه نقدًا ويحللها نسيئة ، فنلاحظ من هذا الاستعراض السريع لطريقة الفخر الرازي في تفسيره أنه جمع في تفسيره علومًا كثيرة ، واستطرد في بعضها مما جعله يخرج عن التفسير ، ولذا قال بعض العلماء : فيه كل شيء إلاّ التفسير ، وهذا القول وإن كان فيه مبالغة إلاّ أنه يشعر باستطرادات الفخر الرازي في تقرير بعض قضايا التفسير
    * * *
    2 - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
    التعريف بمؤلف هذا التفسير * التعريف بمؤلف هذا التفسير :
    هو الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح بإسكان الراء والحاء المهملة الأنصاري الخزرجي القرطبي ، كان من العباد الصالحين والعلماء العارفين الزاهدين في الدنيا ، وكان متواضعًا ، وكانت أوقاته كلها معمورة بالتوجه إلى الله بالعبادة تارة وبالتصنيف تارة أخرى ، حتى أخرج للناس كتبًا انتفعوا بها ، توفي سنة 671هـ . بمنية بني خصيب بصعيد مصر ، ومن مصنفاته:
    1 - كتاب شرح أسماء الله الحسنى .
    2 - كتاب التذكار في أفضل الأذكار ، مطبوع .
    3 - كتاب التذكرة في أمور الآخرة ، مطبوع .
    4 - تفسيره: الجامع لأحكام القرآن .
    التعريف بتفسيره وطريقته فيه * التعريف بتفسيره وطريقته فيه :
    قال في مقدمة تفسيره يبين السبب الذي دفعه إلى تأليفه فالطريقة التي سار عليها فقال: وبعد ، فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع الذي استقل بالسُنَّة والفرض ، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض رأيت أن أشتغل به مدى عمري واستفرغ فيه منتى بأن أكتب فيه تعليقًا وجيزًا يتضمن نكتًا من التفسير واللغات والإعراب والقراءات والرد على أهل الزيغ والضلالات ، وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات جامعا بين معانيها ومبينا ما أشكل منها بأقاويل السلف ، ومن تبعهم من الخلف . . . وشرطي في هذا الكتاب إضافة الأقوال إلى قائليها والأحاديث إلى مصنفيها ، فإنه يقال : من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله ، وكثيرًا ما يجيء الحديث في كتب الفقه والتفسير مبهمًا لا يعرف من أخرجه إلا من اطلع على كتب الحديث ، فيبقى من لا خبرة له بذلك حائرا لا يعرف الصحيح من السقيم ، ومعرفة ذلك علم جسيم ، فلا يقبل منه الاحتجاج به ولا الاستدلال حتى يضيفه إلى من خرجه من الأئمة الأعلام ، والثقات المشاهير من علماء الإسلام ، ونحن نشير إلى جمل من ذلك في هذا الكتاب ، والله الموفق للصواب .
    وأضرب عن كثير من قصص المفسرين ، وأخبار المؤرخين ، إلاّ ما لا بد منه ولا غنى عنه للتبيين واعتضت من ذلك تبيين آي الأحكام ، بمسائل تسفر عن معناها ، وترشد الطالب إلى مقتضاها ، فضمت كل آية تتضمن حكمًا أو حكمين فما زاد مسائل نبين فيها ما تحتوي عليه من أسباب النزول والتفسير الغريب ، والحكمة ، فإن لم تتضمن حكمًا ذكرت ما فيها من التفسير والتأويل .
    وهكذا إلى آخر الكتاب ، وسميته بالجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السُنَّة وآي الفرقان .
    فنلاحظ من هذه المقدمة الطريقة التي سار عليها القرطبي في تفسيره حيث إنه يذكر آية أو مجموعة من الآيات متصلة في المعنى ، فيجعل تفسيره لهذه الآيات في جملة مسائل تكون مسألتين ، وقد تصل إلى أربعين مسألة فأكثر ، يذكر في كل مسألة حكمًا من أحكام الآية أو سببًا من أسباب النزول أو تفسيرًا لغريب الآية أو صلة لها ، أو يذكر فروعها فقهية تتصل بالآية من بعيد أو من قريب ، ويستدل على ذلك بالأحاديث ويخرج هذه الأحاديث ، كما يستدل بأقاويل السلف وينسبها إلى قائلها . كما أنه لا يستطرد في ذكر القصص والتواريخ ، وقد وفى بما وعد في مقدمة تفسيره إلاّ أنه استطرد في ذكر الفروع الفقهية والتفصيلات الدقيقة في مذاهب أئمة الفقه التي لا تتصل بالآية إلاّ من بعيد حتى إن القارئ فيه أحيانًا يجد نفسه أمام ثروة كبيرة من الأقوال الفقهية تخرجه عن تفسير الآيات القرآنية ، ومن المراجع التي اعتمد عليها القرطبي في تفسيره ابن جرير الطبري وابن عطية وابن العربي والكِيَّا الهراس وأبو بكر الجصاص ، ومما يمتاز به القرطبي في تفسيره أنه لا يتعصب لمذهبه المالكي ، فتجده في بعض المسائل يسوق رأي الإمام مالك ثم يرجح غيره مما دل عليه الدليل ، ومن أمثلة ذلك تفسيره لقوله تعالى في الآية 43 من سورة البقرة : وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ نجده عند المسألة السادسة عشرة من مسائل هذه الآية يعرض لإمامة الصغير ويذكر أقوال من يجيزها ومن يمنعها ، ويذكر أن من المانعين لها الإمام مالك والثوري وأصحاب الرأي ، ولكنا نجده يخالف إمامه فيقول بجواز إمامة الصغير لما ظهر له من الدليل على جوازها ، وهو ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنًا قال عمرو بن سلمة : فنظر قومي فلم يكن أحد أكثر مني قرآنًا لما كنت أتلقى من الركبان ، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين اهـ . باختصار .
    ومن أمثلة ذلك تفسيره للآية [ 172 من سورة البقرة ] فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ نجده يعقد المسألة الثانية والثلاثين من مسائل هذه الآية في اختلاف العلماء فيمن كان في سفره معصية كقطع طريق فاضطر إلى الأكل من المحرمات فيذكر أن مالكًا حذّر ذلك عليه ، وكذلك الشافعي في أحد قوليه ، ثم يعقب القرطبي على هذا كله فيقول: ( قلت الصحيح خلاف هذا ، فإن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه ) قال الله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ وهذا عام ، ولعله يتوب في ثاني الحال فتمحو التوبة عنه ما كان . . .
    وقد لاحظت في بعض المسائل الفقهية التي يذكرها القرطبي تشابهًا مع المسائل التي يذكرها ابن قدامة في المغنى ، فلعل القرطبي استفاد من كتاب المغنى لابن قدامة في نقل بعض المسائل الفقهية ؛ لأن ابن قدامة سابق في الوفاة للقرطبي ، فابن قدامة متوفى سنة 620هـ . والقرطبي متوفى سنة 671هـ . وهذه المسألة تحتاج إلى تحقيق .
    3 - إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود
    * التعريف بمؤلف هذا التفسير :
    هو محمد بن محمد بن مصطفى العمادي أبو السعود من علماء الترك المستعربين ، مفسر شاعر ، ولد بقرب استنبول ، سنة 898هـ . ودرس ودرّس في بلاد متعددة ، وتولى القضاء في بروسة فاستنبول فالروم أيلي ، وأضيف إليه الإفتاء سنة 952هـ ، وكان حاضر الذهن سريع البديهة ، وحكي عنه أنه يكتب الإفتاء على نسق سؤال المستفتي ، فإن كان سؤاله بالشعر أفتاه بالشعر بوزن شعره ، وإن كان السؤال بالفارسية أفتاه بها ، وكذا إن كان بالتركية أو بالعربية ، وقد أشغلته المناصب التي تولاها عن التأليف ، فلذا لم يترك لنا إلاّ مؤلفات قليلة ، وكان مهيبًا ، حظيًا عند السلطان ، توفي سنة 982هـ . ودفن بجوار أبي أيوب الأنصاري باستنبول . ومن مؤلفاته:
    1 - تحفة الطلاب .
    2 - رسالة المسح على الخفين .
    3 - قصة هاروت وماروت .
    4 - تفسيره: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم .
    * التعريف بتفسيره وطريقته فيه :
    ذكر أبو السعود في مقدمة تفسيره أنه بعد ما قرأ الكشاف للزمخشري وأنوار التنزيل للبيضاوي رأى أن يؤلف تفسيرًا يجمع فيه فوائد هذين التفسيرين ويضيف إليه ما تحصل عليه من فوائد من التفاسير الأخرى ، فألّف هذا التفسير الذي جلّى فيه بلاغة القرآن وإعجازه وأبرزها في أحسن صورة ، وهذا مما امتاز به هذا التفسير ، يضاف إلى ذلك ذكره للفوائد الدقيقة والحكم البديعة التي دلت عليها الآية والنكت البلاغية النادرة ، كما أنه يشير إلى القراءات ووجوه الإعراب ويبين معنى الآية على حسب ذلك دون إطالة ، ويعرض للمسائل الفقهية المستفادة من الآية ، ويشير إلى آراء أئمة المذاهب من غير استطراد ، ويعني بذكر أقوال الحنفية ويرجحها كثيرًا .
    ولم يستطرد في ذكر الأخبار الإسرائيلية ، وإن ذكرها فإنه يصدرها بلفظ روي أو قيل إشارة إلى ضعفها ، كما أنه يعني بذكر المناسبات بين الآيات ، هذا ويلاحظ عليه ذكره للأحاديث الموضوعة في فضائل السور ، حيث ذكر في نهاية كل سورة ما روي فيها من تلك الأحاديث ، ويلاحظ عليه صعوبة عبارته في بعض المواضع ودقة إشارته واختصاره للعبارة ، بشكل يجعلها غامضة على القارئ العادي فلا يدركها إلاّ القارئ المتخصص ، وقد نال هذا التفسير شهرة واسعة بين العلماء ، فقد اهتموا به وتدارسوه واقتبسوا منه .
    * * *
    4 - فتح القدير للشوكاني
    * التعريف بمؤلف هذا التفسير :

    هو محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني الإمام العلاّمة الفقيه المحدث المجتهد ، ولد بهجرة شوكان عام 1173هـ . في ذي القعدة ، وتربى في صنعاء ، وقد حفظ القرآن وقرأه وختمه على الفقيه حسن بن عبد الله الهبل ، وجد في حفظ متون كتب الفقه والحديث واللغة ، واطلع على كتب التاريخ ، تفقه - رحمه الله - على مذهب الزيدية وبرع فيه وألف وأفتى ، ثم خلع ربقه التقليد وتحلى بمنصب الاجتهاد ، وألّف رسالة سماها: القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد وتحامل عليه من أجلها جماعة من العلماء ، وأرسل إليه أهل جهته سهام اللوم والنقد ، وثارت من أجل ذلك فتنة في صنعاء اليمن بين من هو مقلد ومن هو مجتهد ، وعقيدة الشوكاني عقيدة السلف من حمل صفات الله الواردة في الكتاب والسُنَّة على ظاهرها من غير تأويل ولا تشبيه ، وقد ألّف رسالة في ذلك سماها: التحف بمذهب السلف ، وتوفي الشوكاني - رحمه الله - سنة 1250هـ . وقد خلف الشوكاني مجموعة من المؤلفات منها:
    1 - نيل الأوطار "شرح منتقى الأخبار" ، مطبوع .
    2 - إرشاد الفحول إلى علم الأصول ، مطبوع .
    3 - السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار ، طبع بعضه .
    4 - إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات (رد به على موسى بن ميمون اليهودي ) .
    5 - تفسيره: فتح القدير .
    التعريف بتفسيره وطريقته فيه :
    يعتبر تفسيره أصلاً من أصول التفسير ومرجعًا مفيدًا للباحثين ، وقد جمع في تفسيره من الرواية عن السلف والدراية بالاستنباط ومناقشة الآراء والترجيح ، وقد اعتمد في تفسيره على أبي جعفر النحاس وابن عطية الدمشقي وابن عطية الأندلسي والقرطبي والزمخشري وابن جرير الطبري وابن كثير والسيوطي ، وقد استفاد كثيرًا من تفسير السيوطي (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) وطريقة الشوكاني في تفسيره أنه يذكر ما في تفسير الآية من جهة اللغة والبلاغة ويشير إلى الإعراب إن كان له أثر في المعنى ، ويذكر القراءات في الآية ، ويناقش الآراء التي ينقلها ، ويرجح في بعض الحالات ، ويستنتج من الآيات الأحكام الفقهية ، ويناقش بعض المسائل الفقهية ويبدي فيها رأيه ، ثم بعد ذلك يسرد ما روي في تفسير الآية من التفسير المأثور معتمدًا في ذلك على تفسير الدر المنثور ، وقد يضيف إلى ذلك إضافات استفادها من كتب أخرى ، كما نبه على ذلك في مقدمة تفسيره .
    وقد لاحظ عليه الدكتور الذهبي أنه ينقل بعض الروايات الموضوعة في تفسيره ولا ينبه عليها ، وضرب مثلاً لذلك بتفسيره للآية (55) من سورة المائدة وهي قوله تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ ذكر أنها نزلت في علي - رضي الله عنه - حينما تصدق بخاتمه وهو في الصلاة ، وذكر الشوكاني أنه لا يصح الاستدلال بها ، ولم ينبه على أنها موضوعة ، وقد نبه على ذلك ابن تيمية في مقدمة التفسير وقال: إن هذه القصة موضوعة باتفاق العلماء ، كما استدل الذهبي بتفسير الشوكاني للآية (67) من سورة المائدة وهو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ فذكر روايات عن السلف في تفسير هذه الآيات منها ما رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: إن هذه الآية نزلت على رسول الله يوم "غدير خمة" . في علي ابن أبي طالب . وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك إن عليًا مولى المؤمنين وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس قال الذهبي إنه مرّ على هاتين الروايتين أيضًا بدون أن يتعقبهما بشيء أصلاً .
    قلت : الشوكاني معذور في هذا لأنه جرى على المنهج الذي رسمه وقد بيّنه في مقدمة تفسيره ، ونقطف منه هذا النص الذي يهم الموضوع وهو قول الشوكاني : ( وقد أذكر الحديث معزوًا إلى راويه من غير بيان حال الإسناد ؛ لأني أجده في الأصول التي نقلت عنها كذلك كما يقع في تفسير ابن جرير والقرطبي وابن كثير والسيوطي وغيرهم . ويبعد كل البعد أن يعلموا في الحديث ضعفًا ولا يبينونه ، ولا ينبغي أن يقال فيما أطلقوه إنهم علموا بثبوته ، فإن من الجائز ان ينقلوه من دون كشف عن حال الإسناد ، بل هذا هو الذي يغلب به الظن ، لأنهم لو كشفوا عنه فثبت عندهم صحته لم يتركوا بيان ذلك ، كما يقع منهم كثيرًا التصريح بالصحة أو الحسن ، فمن وجد الأصول التي يروون عنها ويعزون ما في تفاسيرهم إليها فلينظر في أسانيدها موفقًا إن شاء الله ) .
    وقد لاحظ عليه الدكتور الذهبي ذمه للتقليد ، وأنه كان شديد العبارة على مقلدي أئمة المذاهب فيرميهم بأنهم تاركون لكتاب الله معرضون عن سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد قسا إلى حد كبير على المقلدين حيث يطبق ما ورد من الآيات في حق الكفرة على مقلدي الأئمة وأتباعهم ، فمثلاً عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (28) من سورة الأعراف : وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قال ما نصه ( . . . وإن في هذه الآية الشريفة لأعظم زاجر وأبلغ واعظ للمقلدة الذين يتبعون آباءهم في المذاهب المخالفة للحق ، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر لا بأهل الحق فإنهم قائلون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ والقائلون: وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا
    والمقلد لولا اغتراره بكونه وجد أباه على ذلك المذهب مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به وأنه الحق ، لم يبق عليه وهذه الخصلة هي التي بقي بها اليهودي على اليهودية والنصراني على النصرانية والمبتدع على بدعته . فما أبقاهم على هذه الضلالات إلاّ كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية أو النصرانية أو البدعة ، وأحسنوا الظن بهم بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به ، ولم ينظروا لأنفسهم ولا طلبوا الحق كما يجب ولا بحثوا عن دين الله كما ينبغي ، وهذا هو التقليد البحت والقصور الخالص . . . .
    ويمتاز تفسير الشوكاني بأنه يناقش آراء المعتزلة ويرد عليهم وقد عدّ الذهبي تفسير الشوكاني من تفاسير الزيدية ، والواقع أنه ليس كذلك ، فالمتتبع لتفسير الشوكاني لا يجد الشوكاني يتبنى فيه رأيًا للزيدية ، فعقيدته سلفية ، وهو يرد آراء المعتزلة ، فلو كان زيديًا لوافقهم ، لأن الزيدية يوافقون المعتزلة في أقوالهم في تأويل الصفات ، ومسألة العدل ، وغير ذلك من المسائل التي اختلف فيها أهل السُنَّة والمعتزلة ، وكذلك أيضًا في آرائه الفقهية لا يتبنى آراء الزيدية ، وإنما يذكرها كما يذكر آراء غيرهم ، ويعني بذكر آرائهم لمعرفته بها ، لأنه تفقه في الأصل على مذهب زيد ، ثم ترقى في العلم حتى بلغ مرتبة الاجتهاد .
    ومما جعله يعني بآراء الزيدية أنه يمنى ويعاهد طائفة الزيدية في بلاده ، فكان عليه أن يذكر آراءهم ويناقشهم .
    5 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي

    * التعريف بمؤلف هذا التفسير :
    هو أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود أفندي الألوسي ، ولد سنة 1217هـ .
    في جانب الكرخ من بغداد ، كان - رحمه الله - شيخ العلماء في العراق ، جمع كثيرًا من العلوم حتى أصبح علامة في المنقول والمعقول ، فبرز في التفسير والحديث والأصول والفروع ، أخذ العلم عن فحول العلماء ، منهم والده ، والشيخ خالد النقشبندي ، والشيخ علي السويدي . وقد اشتغل بالتدريس والتأليف وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وتخرج عليه جماعة من العلماء ، وكان ذا حافظة عجيبة ، وكثيرًا ما كان يقول: ما استودعت ذهني شيئًا فخانني ، ولا دعوت فكري لمعضلة إلاّ وأجابني ، وقد قلد إفتاء الحنفية ، وولى الأوقاف بالمدرسة المرجانية وكانت مشروطة لأعلم أهل البلد ، وكان - رحمه الله - عالمًا باختلاف المذاهب مطلعًا على الملل والنحل ، سلفيَّ الاعتقاد ، شافعيَّ المذهب ، إلاّ أنه في كثير من المسائل يقلد الإمام أبا حنيفة - رضي الله عنه - وكان في آخر أمره يميل للاجتهاد ، توفي في 25 ذي القعدة سنة 1270هـ . ودفن بالكرخ ، وقد خلف مؤلفات نافعة منها:
    1 - شرح السلم في المنطق .
    2 - الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية .
    3 - درة الغواص في أوهام الخواص .
    4 - تفسيره: روح المعاني .
    * * *
    * التعريف بتفسيره وطريقته فيه :
    ذكر في مقدمة تفسيره أنه شرع في تأليفه في شعبان سنة 1252هـ . وانتهى من تأليفه سنة 1267هـ . وذكر أنه كان في نهاره يشتغل بالتدريس والإفتاء وفي أول ليلة يجتمع بالعلماء ويتناقش معهم في المسائل العلمية ، وفي آخر ليلة يكتب في التفسير ، ثم بعد ذلك يدفع ما كتبه إلى كتاب استأجرهم لهذه المهمة ، فيبيضون ما كتبه في ليلته في عشر ساعات ، فهذا يدل على كثرة كتابته وسرعة بديهته ، والمطلع على تفسيره يجد نفسه أمام موسوعة تفسيرية كبيرة ، حوت أقوالاً في التفسير كثيرة للسلف والخلف كما أنه رجع إلى تفاسير كثيرة في كتابة تفسيره منها تفسير أبي السعود وإذا نقل عنه قال: قال شيخ الإسلام ، وتفسير البيضاوي وإذا نقل عنه قال: قال القاضي ، وتفسير الفخر الرازي وإذا نقل عنه قال: قال الإمام ، كما نقل عن تفسير ابن عطية وأبي حيان والزمخشري وابن كثير وغير ذلك من التفاسير ، فقد نقل في تفسيره خلاصة هذه التفاسير ، ولا يقتصر على النقل فقط ، فنجده ينصب نفسه حكمًا بين هذه التفاسير ويناقشها ويرجح ما يراه صحيحًا ويضعف ما يراه ضعيفًا ، فكان يناقش المعتزلة في آرائهم ويرد عليها كما في تفسير قوله تعالى: وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وقوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ويناقش الشيعة ويرد عليهم في طعنهم على الصحابة كما في قوله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا كما نجده يستطرد في ذكر المسائل النحوية متأثرًا بأبي حيان في تفسيره في ذلك . ويعني بذكر القراءات المتواترة وغيرها وذكر المناسبات بين الآيات وبين السور ، وذكر أسباب النزول ، ويستطرد في ذكر مسائل الفقه عند تفسير آيات الأحكام ، فيذكر أقوال الفقهاء وأدلتهم مع الترجيح وغالبًا ما يرجح مذهب أبي حنيفة ولا يتعصب له ، فنجده أحيانًا يرجح مذهب الشافعي إذا اقتنع بأدلته ، كما أنه يناقش الإسرائيليات ويفندها ، ومن ذلك تفنيده لقصة عوج بن عنق ، وقصة سفينة نوح .
    ويلاحظ على الألوسي اهتمامه بالتفسير الإشاري على طريقة الصوفية فإذا انتهى من التفسير الظاهر تكلم عن التفسير الباطن فينقل فيه كلام الصوفية في التفسير كالجنيد وابن عطاء وأبي العباس المرسي ، فينقل عنهم نقولاً في تفسير باطن الآية وهي بعيدة عن التفسير ، ومن أمثلة ذلك تسيره لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [ آل عمران: 33 ] .
    قال الألوسي : وما يتعلق بالباطن من أصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ والولد سر أبيه ويمكن أن يقال: آدم هو الروح في أول مقامات ظهورها ، ونوح هو هي مقامها الثاني من مقامات التنزل وإبراهيم هو القلب الذي ألقاه نمرود النفس في نيران الفتن ورماه فيما بمنجنيق الشهوات والقوى الروحانية ، ومران هو العقل الإمام في بيت مقدس البدن والتابعون له في ذلك البيت المقتدون به كل ذلك ذرية بعضها من بعض لوحدة المورد واتفاق المشرب: إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا عن رق النفس مخلصًا في عبادتك عن الميل إلى السوى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ قال الواسطي : محفوظ عن إدراك الخلق: وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا حيث سقاها من مياه القدرة ، وأثمرها شجرة النبوّة وكفلها زكريا لطهارة سره وشيبه الشيء منجذب إليه كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقًا هو ما علمت ، ويجوز أن يراد الرزق الروحاني من المعارف والحقائق والعلوم والحكم الفائضة عليها من عند الله تعالى إذ الاختصاص بالعندية يدل على كونه أشرف من الأرزاق البدنية ، فهذا التفسير بعيد جدًا عن ظاهر الآيات ولا علاقة له البتة بالآية ، لأن الآية ورد فيها اصطفاء الله لآدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ، فهؤلاء أشخاص فكيف يرمز لهم بالمعاني كالروح أو العقل أو القلب ، فهذه الرموز لا علاقة لها بالآية ولا دليل عليها من السُنَّة أو كلام السلف أو لغة العرب ، فهذه التفسيرات وأمثالها باطلة لا يصح تفسير كتاب الله بها ، فالسير على هذا المنهج في التفسير تحريف لآيات الله ، وإبطال لمعانيها فكان الأولى بالألوسي أن ينزه تفسيره عن مثل هذا ، كما لا يفوتني أن أبين أن الألوسي ينقل عن الصوفية تفسيرات قد تكون قريبة من معنى الآية أو لها وجه صحيح ، وهذا كثير في مواضع متعددة من تفسيره ولا يحتاج إلى تمثيل .

    فهرس المراجع:

    1 - الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (ت 911هـ . ) طبع مصطفى الحلبي بمصر - ط: 3 - 1370هـ - 1951م .
    2 - الأعلام للزركلي (ت 1396هـ . ) ثمانية أجزاء - دار العلم للملايين - بيروت - ط: 5 - 1980م .
    3 - البرهان في علوم القرآن للزركشي (ت 794هـ . ) - أربعة أجزاء - طبع عيسى الحلبي بمصر - ط: 2 - 1391هـ - 1972م .
    4 - تفسير ابن كثير (ت 774هـ . ) - 4 أجزاء - طبع عيسى الحلبي بمصر .
    5 - تفسير أبي السعود (ت 982هـ . ): إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم - طبع عبد الرحمن محمد بمصر - 9 أجزاء .
    6 - تفسير الألوسي (ت 1270هـ . ): روح المعاني - المطبعة الميزية - بمصر ط: 2 - 30 جزء .
    7 - تفسير البغوي (ت 516هـ . ): معالم التنزيل - مطبوع بهامش تفسير الخازن - طبع مصطفى الحلبي بمصر ط: 2 - 1375هـ .
    8 - تفسير الثعالبي (ت 876هـ . ): الجواهر الحسان في تفسير القرآن: 4 أجزاء - الناشر: مؤسسة الأعلمي ، بيروت .
    9 - تفسير السيوطي (ت 911هـ . ): الدر المثنور في التفسير بالمأثور - 6 أجزاء - الناشر: محمد أمين دمج - بيروت .
    10 - تفسير الشوكاني (ت 1250هـ . ): فتح القدير - 5 أجزاء - طبع مصطفى الحلبي - بمصر .
    11 - تفسير الطبري (ت 310هـ . ): جامع البيان عن تأويل آي القرآن - تحقيق أحمد شاكر وأخيه محمود - طبعة دار المعارف بمصر - وهي ناقصة . وطبعة مصطفى الحلبي الثالثة - 1383هـ . - وهي كاملة في 30 جزءًا .
    12 - تفسير الفخر الرازي (ت 606هـ . ): مفاتيح الغيب - 32 جزءًا - طبع عبد الرحمن محمد بالقاهرة .
    13 - تفسير القرطبي (ت 671هـ . ): الجامع لأحكام القرآن - 20 جزءًا - طبعة دار الكتب المصرية - 1387هـ .
    14 - التفسير والمفسرون لأستاذنا المرحوم د . محمد حسين الذهبي (ت 1397هـ . ) - 3 أجزاء -مطابع دار الكتاب العربي بمصر ط: 1 - 1381هـ .
    15 - جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لابن الأثير الجزري (ت 606هـ . ) تحقيق عبد القادر الأرناؤوط - 11 مجلدًا - طبع بيروت سنة 1389هـ .
    16 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ . ) - 4 أجزاء - دار الجيل - بيروت - .
    17 - ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الحديث: لعبد الغني النابلسي سنة 1143هـ . - 4 أجزاء - الناشر: ناصر خسرو - طهران .
    18 - صحيح البخاري (ت 256هـ . ) بشرح - فتح الباري - لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ . ) المطبعة السلفية بمصر - 13 مجلدًا - .
    19 - طبقات المفسرين للداودي (ت 945هـ . ) بتحقيق علي محمد عمر - جزءان - مطبعة الاستقلال الكبرى بمصر - ط: 1 - 1392 .
    20 - فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ . ) - 37 مجلدًا - مصور عن الطبعة الأولى سنة 1398هـ .
    21 - القاموس المحيط: للفيروزآبادي (ت 817هـ . ) - 4 أجزاء - المطبعة الحسينية بمصر .
    22 - مذكرات في علوم القرآن لأستاذنا فضيلة الدكتور أحمد السيد الكومي ، د . القاسم - مطبعة دار الجيل بالقاهرة - ط: 1 سنة 1391هـ .
    23 - معجم البلدان لياقوت الحموي (ت 626هـ . ) - 5 مجلدات - دار صادر بيروت سنة 1376هـ .
    24 - المفردات في غريب القرآن للراغب الأصبهاني (ت 502هـ . ) الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية - المطبعة الفنية الحديثة .
    25 - مقدمة في أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 828هـ . ) - المطبعة السلفية بالقاهرة - ط: 2 سنة 1385هـ .


    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    *ترجمة المؤلف:
    - من مواليد الإحساء عام 1364هـ .
    - حاصل على الماجستير 1394هـ . والدكتوراه 1399هـ ، من جامعة الأزهر في التفسير وعلومه .
    - أستاذ مساعد بكلية أصول الدين ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وعضو بمركز البحث العلمي بالجامعة .
    - من مؤلفاته:
    1- العز بن عبد السلام : حياته وآثاره ومنهجه في التفسير (مطبوع).
    2- تحقيق تفسير العز بن عبد السلام (مخطوط) .
    3- أسباب النزول (مخطوط) .
    التفسير بالأثر والرأي وأشهر كتب التفسير فيهما بقلم الدكتور : عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله الوهيبي * (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد السابع - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1403هـ) يشتمل هذا الموضوع على بيان معنى التفسير لغة واصطلاحًا والفرق بينه وبين التأويل ، واهتمام الصحابة والتابعين بالتفسير ، وتاريخ تدوينه ، وأقسامه ، ونبذة موجزة عن أشهر كتب التفسير بالأثر والرأي . * معنى التفسير لغة واصطلاحًا: * التفسير في اللغة : هو الإيضاح والتبيين ، ومنه قوله تعالى: وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا وهو مأخوذ من الفسر أي: الإبانة والكشف ، قال في القاموس: الفسر: الإبانة وكشف المغطى كالتفسير ، والفعل كضرب ونصر . والتفسير في الاصطلاح عرفه الزركشي بأنه: علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه . واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو التصريف وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات ، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ . معنى التأويل لغة: التأويل في اللغة مأخوذ من الأول وهو الرجوع ، قال في القاموس: آل إليه أولاً ومآلاً رجع وعنه ارتد وأول الكلام تأويلاً ، وتأوله دبره وقدره وفسَّره . * قال الراغب الأصفهاني : التأويل من الأول أي الرجوع إلى الأصل ، ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه ، وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه علمًا كان أو فعلاً ، ففي العلم نحو قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ . [الأعراف: 53] . * * * التأويل في الاصطلاح والفرق بينه وبين التفسير : والتأويل في الاصطلاح مختلف فيه ، فيرى بعض العلماء أن التأويل بمعنى التفسير ، وعلى هذا جرى الطبري في تفسيره فتجده يقول: (تأويل قوله تعالى . . . . أو يقول اختلف أهل التأويل) يريد بذلك أهل التفسير ، ويرى بعض العلماء أن التأويل مخالف للتفسير ، فالتأويل يتعلق بحقيقة ما يؤول إليه الكلام علمًا أو عملاً كما سبق في كلام الراغب ، والتفسير يتعلق بالألفاظ وبمفرداتها ، وقيل : التفسير القطع بأن مراد الله تعالى كذا ، والتأويل ترجيح أحد المحتملات بدون قطع . . . وقيل التفسير ما يتعلق بالرواية ، والتأويل ما يتعلق بالدراية ولذا اختلف السلف في الوقف على قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا فمن قال: إن التأويل بمعنى التفسير وقف على قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أي أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه ببيان معناه لغة وشرح ألفاظه ، ومن قال: إن التأويل بمعنى حقيقة ما يؤول إليه الكلام وقف على قوله (إلا الله) بمعنى أنه لا يعرف حقيقة ما يؤول إليه المتشابه إلا الله تعالى . * * * التأويل في اصطلاح علماء الكلام : هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل . وهذا الاصطلاح استخدمه علماء الكلام في صرف آيات الصفات عن ظاهرها ومعانيها الراجحة إلى معان مرجوحة كما قالوا في قوله تعالى: { وجاء ربك والملك صفا صفا } . [ الفجر: 22 ] . المراد به جاء أمر ربك لأنهم لو أثبتوا المعنى الظاهر وهو المجيء لترتب على هذا خلو المكان والحدوث والله منزه عن ذلك ، فصرفوا الكلام عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح لتنزيه الله تعالى وهذا الدليل غير مسَّلم لهم عند أهل السنة والجماعة ، فهم يثبتون المجيء على ظاهره من غير تكييف ولا تمثيل على حد قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وهو الصواب ؛ لأن الذين تأولوا آيات الصفات خشية من الوقوع في التشبيه قد وقعوا فيما فروا منه ، لأنهم تصوروا أن الله كالمخلوق يلزم من مجيئه الخلو والحدوث ، فشبهوا الله به ثم تأولوا صفات الله فوقعوا في التعطيل ، فلو أنهم تصوروا أن الله بخلاف المخلوق في ذاته للزم على هذا أنه مخالف له في صفاته ، فوجب إثبات الصفات له على ما يليق بجلاله . والراجح أن التفسير يتعلق بشرح ألفاظ القرآن وبيان معانيها من جهة اللغة ، والتأويل يتعلق باستنباط الحكم والأحكام من الآيات وترجيح أحد المحتملات ، هذا إذا أردنا التفريق بين التفسير والتأويل ، وإلا فيصح إطلاق أحدهما على الآخر فبينهما عموم وخصوص من وجه كالإيمان والإسلام ، فإذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا ، فإذا استعملنا كلمة التفسير مفردة فتعم التأويل ، وكذلك إذا استعملنا كلمة التأويل مفردة فتعم التفسير ، وإذا جمعنا بين الكلمتين فقلنا التفسير والتأويل فينصرف التفسير إلى شرح ألفاظ القرآن وبيان معيناه ، وينصرف التأويل إلى استنباط الحكم والأحكام وترجيح المحتملات كما سبق بيانه . والله أعلم . اهتمام الصحابة والتابعين بالتفسير : اهتم الصحابة رضوان الله عليهم بحفظ القرآن ، وتدبر معانيه وفهم مراد الله ، والعمل بما جاء فيه ، فكان من اهتمامهم بالقرآن أنهم إذا حفظوا مجموعة من الآيات لا يتجاوزونها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قال أبو عبد الرحمن السلمي: (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وابن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا حفظوا من الرسول صلى الله عليه وسلم عشر آيات لا يتجاوزونها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قال فحفظنا القرآن والعلم والعمل جميعًا) . وروي عن ابن عمر أنه أقام على حفظ سورة البقرة ثماني سنين ، وهذا دليل على تدبره لها وفهمه لمعانيها وتطبيق ذلك . وروي عن أنس بن مالك أنه قال: (كان الرجل منا إذا حفظ البقرة وآل عمران جل في أعيننا) أي عظم قدره . وكذلك كان التابعون يحرصون على حفظ القرآن وتدبر معانيه ، فهذا مجاهد يقول : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث مرات أوقفه عند كل آية وأسأله عنها . * وقال الشعبي : رحل مسروق إلى البصرة في تفسير آية فقيل له إن الذي يفسرها رحل إلى الشام فتجهز ورحل إليه حتى علم تفسيرها . فتفسير القرآن من أشرف العلوم وأفضلها ، لأن العلم يشرف بشرف المعلوم ، وعلم التفسير يتعلق بكلام الله وهو خير الكلام ، قال تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا فالحكمة فهم القرآن وتفسيره كما قال المفسرون . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم خيركم من تعلم القرآن وعلمه . المفسرون من الصحابة والتابعين : وقد اشتهر بالتفسير من الصحابة- رضي الله عنهم- الخلفاء الأربعة ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأُبي بن كعب ، وأبو موسى الأشعري ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وأكثر من روي عنه من الخلفاء علي بن أبي طالب لأن الخلافة لم تشغله أول الأمر ، ولبقائه مدة طويلة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكلما طال الزمان بالناس احتاجوا إلى التفسير نظرًا لما يجد عندهم من قضايا لم تكن موجودة ، ولاختلاطهم بالأعاجم ، وبعدهم عن عهد العروبة الأول ، لذا يشكل عليهم القرآن كثيرًا فيحتاجون إلى التفسير لذا تجد ما رُوي عن ابن عباس أكثر مما رُوي عن علي - رضي الله عنهما- بخلاف الثلاثة السابقين فقد اشتغلوا بالخلافة أولاً ، وكانت مدة بقائهم ، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيرة ، خصوصًا أبا بكر الصديق - رضي الله عنهم- فإنه لم يلبث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سنتين وأشهرًا لذا لم يرو عنه في التفسير إلا نزر يسير أما علي - رضي الله عنه- فقد رُوي عنه كثير ، وكان يقول: (سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم ، وسلوني عن كتاب الله ، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل) . وكان يقول: (والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أنزلت ، وأين أنزلت ، إن ربي وهب لي قلبًا عقولاً ولسانًا سؤولاً . ) وكذا روى عن ابن مسعود كثير ، وكان يقول: (والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت ، وأين نزلت ، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته) فما رُوي عنهم من قسم علي العلم بكتاب الله أية آية دليل على مدى اهتمامهم بهذا الكتاب العظيم ، وتدبرهم له آية آية ، وتتبعهم لنزوله ، وفهم مقاصده ومراميه والعمل به . لذا نجد ابن عباس - رضي الله عنه- لما فاته الأخذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم لصغر سنه حيث توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة تقريبًا ، نجده يلازم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجد في الطلب ، ويتحمل في ذلك المشاق والمتاعب ، فقد رُوي عنه أنه كان يجلس في القائلة عند باب أحدهم والرياح تؤذيه والشمس تشتد عليه ، ومع هذا يتحمل في سبيل تعلم كتاب الله ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فبجهوده التي بذلها في طلب العلم ، وبركة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: اللهم فقهه في الدين ، وعلمه التأويل فتح الله عليه في فهم القرآن ، وتدبره فكان حكمًا في تفسيره وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا واشتهر من التابعين مجاهد وقد قيل: (إذا جاءك التفسير من مجاهد فحسبك) وممن اشتهر من التابعين أيضًا سعيد بن جبير ، وعكرمة- مولى ابن عباس - وقتادة ، والضحاك ، وعطاء بن أبي رباح ، وزيد بن أسلم وغيرهم كثير . تاريخ تدوين التفسير : مر تدوين تفسير القرآن بالمراحل الآتية: * المرحلة الأولى : أن التفسير كان يعتمد على الرواية والنقل فالصحابة يروون عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويروي بعضهم عن بعض . * المرحلة الثانية: أن التفسير دون ضمن كتب الحديث ، فالمحدثون الذين تخصصوا في رواية أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وجمعها كالبخاري ومسلم وأصحاب السنن أفردوا بابًا للتفسير في كتبهم جمعوا فيه ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين في تفسير القرآن ، فتجد ضمن صحيح البخاري ومسلم باب التفسير وكذلك كتب السنن . * المرحلة الثالثة: أن التفسير دُوِّن مستقلاً في كتب خاصة به جمعه فيها مؤلفوها ما رُوي عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين مرتبًا حسب ترتيب المصحف ، فيذكرون أولاً ما روي في تفسير سورة الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران ، وهكذا إلى آخر سورة الناس . تم ذلك على أيدي طائفة من العلماء منهم ابن ماجه (ت273هـ) . وابن جرير الطبري (ت 310هـ) . وأبو بكر بن المنذر النيسابوري (ت318هـ) وابن أبي حاتم (ت327هـ) . وأبو الشيخ بن أبي حبان (ت369هـ) . والحاكم (ت405هـ) وأبو بكر بن مردويه (ت410هـ) وغيرهم من أئمة هذا الشأن ، وكل هذه التفاسير مروية بالإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الصحابة والتابعين وتابع التابعين ، وليس فيها شيء من غير التفسير المأثور ، اللهم إلا ابن جرير الطبري ؛ فإنه ذكر الأقوال ثم وجهها ورجح بعضها على بعض ، وزاد على ذلك الإعراب إن دعت إليه حاجة ، واستنبط الأحكام التي تؤخذ من الآيات القرآنية . * المرحلة الرابعة: في هذه المرحلة دُوِّن التفسير مجردًا عن الإسناد ، واختلط الصحيح بالضعيف ، ودخلت الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير ، والذين جاءوا بعد ذلك نقلوا هذه الأقوال على أنها صحيحة . تلون التفسير بثقافة المفسرين : ثم كثر التأليف في التفسير بالرأي والاجتهاد فخرجت تفاسير تلونت بلون ثقافة مؤلفيها ، فالعالم بالنحو حشا تفسيره بقواعد النحو وخلافياته كما فعل أبو حيان في تفسيره (البحر المحيط) ، وصاحب العلوم العقلية والفلسفية حشا تفسيره بأقوال الفلاسفة ونظرياتهم وفندها ورد عليها كما فعل الفخر الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب) ، وصاحب الفقه حشا تفسيره بذكر مسائل الفقه وفروعه وأدلة المذاهب كما فعل القرطبي في تفسيره ( الجامع لأحكام القرآن ) ، وصاحب القصص والأساطير حشا تفسيره بذكر قصص الأنبياء مع قومهم واستطرد في ذلك كما فعل الثعلبي في تفسيره ( الكشف والبيان عن تفسير القرآن ) ، وهكذا تلون التفسير بعلم من ألف فيه . * * * التفسير الموضوعي : وبجانب تلك التفاسير ظهرت كتب عنيت بدراسة جانب من جوانب القرآن ، فأفردته بالبحث والدراسة ، وتوسعت فيه وتحدثت عن جزئياته ، سميت فيما بعد (بالتفسير الموضوعي) ، ففي مقدمة المؤلفين في هذا النوع من الدراسة ( قتادة بن دعامة الدوسي ) (ت 118هـ) . روي أنه أول من ألف في (الناسخ والمنسوخ) ، كما ألف أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت 210هـ) . في مجاز القرآن وكتابه طبع في القاهرة سنة 1954م . وألف أبو عبيد القاسم بن سلام (ت244هـ) . في (الناسخ والمنسوخ) أيضًا ، وكذا أبو داود السجستاني صاحب السنة (ت275هـ) . وألَّف علي ابن المديني شيخ البخاري (ت234هـ) كتابه في ( أسباب النزول ) ، وهو أول من ألَّف في أسباب النزول في القرآن الكريم ، ولكن كتابه لم يصل إلينا . كما ألَّف أبو الفرج ابن الجوزي (ت597هـ) . كتابه (أسباب نزول القرآن) ، وألف الواحدي (ت468هـ) . كتابه (أسباب النزول) وهو مطبوع ومتداول ، وألًّف الراغب الأصفهاني (ت502هـ) . كتابه ( المفردات في غريب القرآن ) ، وأفرد الجصاص الفقيه الحنفي (ت370هـ) كتابًا خاصًا ( بأحكام القرآن ) تناول فيه تفسير آيات الأحكام ، وكذلك فعل ابن العربي المالكي (ت543هـ) . والكيَّا الهرَّاس الشافعي (ت504هـ) . أقسام التفسير : ينقسم التفسير إلى قسمين: 1 - التفسير بالمأثور : ويشمل تفسير القرآن بالقرآن ، لأن ما أجمل وأطلق في مكان بين وقيد في مكان آخر ، والتفسير المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين . * مثال تفسير القرآن بالقرآن ، قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فقوله تعالى: إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فسر بالآية رقم 3 من السورة وهي قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْـزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الآية . ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا فسر بالآيات التي بعده إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلا الْمُصَلِّينَ ومثال المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ فسر الرسول صلى الله عليه وسلم المغضوب عليهم: باليهود ، والضالين: بالنصارى رواه الترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه . ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه- أنه قال: لما نزلت الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شق ذلك على المسلمين ، وقالوا أيُّنا لا يظلم نفسه؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس ذلك ؛ إنما هو الشرك ، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه: يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ . [ لقمان: 13 ] . رواه البخاري ومسلم والترمذي . * * * 2 - التفسير بالرأي : وهو الذي يعتمد فيه المفسر على الاستنتاج العقلي للأحكام والحكم من الآيات ، وترجيح المحتملات ، ويجوز التفسير بالرأي لمن كان عالمًا باللغة العربية والنحو والصرف والبلاغة وناسخ القرآن ومنسوخه وأسباب النزول والسنة صحيحها وضعيفها وأصول الفقه ، وأن يكون موهوبًا ، والموهبة لا تأتي إلا بالتقوى ، فكلما كان الإنسان أكثر تقوى وخشية لله فتح الله عليه وعلمه ما لم يعلم ، وبارك في علمه ، قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ فالمطلع على كتب العلماء السابقين يجد نفسه أمام موسوعات علمية في التفسير والحديث والتوحيد والفقه والأصول ، فإذا ما قرأ فيها وجد فيها الغزارة العلمية والاستنتاج الدقيق والاستقصاء والترجيح بين الأدلة والرد على المخالفين ودفع الشبه وغير ذلك من المباحث ، فيتساءل كيف جمعوا هذه المعلومات وكيف اتسعت أعمارهم لتأليف هذه الموسوعات ، ولا يجد جوابًا على ذلك إلا أنهم أخلصوا النية في طلب العلم ، واتقوا الله ، ففتح الله عليهم وبارك في وقتهم وعلَّمهم . ويحرم التفسير بالرأي لمن لا تتوفر فيه الشروط السابقة ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار رواه الترمذي ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ رواه أبو داود والترمذي عن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - . والمعنى أن من فسَّر القرآن برأيه المجرد دون الرجوع إلى لغة العرب وأساليبها في البيان والرجوع إلى المروي عن الرسول والصحابة ، ومعرفة الناسخ والمنسوخ فقد أخطأ الطريق الذي يتوصل به إلى تفسير كتاب الله وإن أصاب في رأيه لمراد الله ؛ لأنه أتى الأمر من غير بابه حيث فسر كتاب الله بما لا يعلمه ، ولذا نجد الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين تكلموا في القرآن بما يعلمون ، وتحرجوا عن الكلام في القرآن بما لا علم لهم به ، روي عن أبي بكر - رضي الله عنه- أنه قال: (أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلمه ) وروي عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا فقال: هذه الفاكهة عرفناها فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه وقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر وهذا محمول على أنه إنما أراد استكشاف علم كيفية الأب وإلا فكونه نبتًا من الأرض ظاهر لا يجهل لقوله تعالى: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا أشهر كتب التفسير بالأثر والرأي: هذا المبحث يحتوي على نبذة موجزة عن أشهر كتب التفسير بالأثر والرأي تتناول التعريف بمؤلفيها وبيان طريقتهم في التفسير ، وما تمتاز به هذه التفاسير وما يلاحظ عليها . وقد قسمنا هذه التفاسير إلى تفاسير بالأثر وتفاسير بالرأي ، ولا يعني ذلك خلو تفاسير الأثر عن الرأي وخلو تفاسير الرأي عن الأثر ، فكل تفسير يجمع بين الرأي والأثر ، ولكن تقسيمنا مبني على الغالب ، فما يغلب عليه الأثر جعلناه من تفاسير الأثر ، وما يغلب عليه الرأي جعلناه من تفاسير الرأي . * * * أ- أشهر كتب التفسير بالأثر: 1 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري * التعريف بمؤلف هذا التفسير: هو الإمام الحافظ المفسر المحدث الفقيه المؤرخ شيخ المفسرين والمؤرخين ، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، ولد بآمل من بلاط طبرستان سنة 224هـ ، وتوفي ببغداد سنة 310هـ ، وكان عالمًا بالقراءات بصيرًا بالمعاني ، عالمًا بالسنة ، متفانيًا في العلم ، ذكر عنه أنه مكث أربعين سنة يكتب كل يوم أربعين ورقة ، وكان من الأئمة المجتهدين ، وقد ألَّف في علوم كثيرة فأبدع فيها ، ومن مؤلفاته: 1 - تاريخ الأمم والملوك ، مطبوع وهو من أهم مصادر التاريخ . 2 - اختلاف الفقهاء ، مطبوع . 3 - كتاب التبصر في أحوال الدين . 4 - تفسيره (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) . * التعريف بتفسيره وطريقته فيه: تفسير الطبري من أجلّ التفاسير بالمأثور وأعظمها قدرًا ، ذكر فيه ما روي في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأتباعهم ، وكانت التفاسير قبل ابن جرير لا يذكر فيها إلا الروايات الصرفة ، حتى جاء ابن جرير فزاد توجيه الأقوال ، وترجيح بعضها على بعض ، وذكر الأعاريب والاستنتباطات والاستشهاد بأشعار العرب على معاني الألفاظ . وطريقته في التفسير أنه يلخص الأقوال التي قيلت في تفسير الآية ، ثم يذكر بعد كل قول الروايات التي رويت فيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين ، ثم يروي الروايات التي قيلت في القول الثاني ثم الثالث ، وهكذا حتى يستكمل الأقوال والروايات ، ثم يرجح ما يراه ويستدل عليه ويرد الأقوال المخالفة . وكان الطبري في نيته أن يكون تفسيره أوسع مما كان ، ولكنه اختصره استجابة لرغبة طلابه ، فابن السبكي يذكر في طبقاته الكبرى أن أبا جعفر قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فقال ثلاثون ألف ورقة ، فقالوا: هذا ربما تفنى الأعمار قبل تمامه . فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة ، ثم قال قبل ذلك في تاريخه . ويقع تفسير ابن جرير في ثلاثين جزءًا من الحجم الكبير ، وكان هذا الكتاب من عهد قريب يكاد يكون مفقودًا لا وجود له ، ثم قدر الله له الظهور والتداول ، فكان مفاجأة سارة للأوساط العلمية في الشرق والعرب أن وجدت في حيازة أمير حائل الأمير حمود بن عبيد عبد الرشيد نسخة مخطوطة كاملة من هذا الكتاب طبع عليها الكتاب من زمن قريب فأصبحت في يدنا دائرة معارف غنية في التفسير المأثور ، وقد حظي هذا التفسير بالقبول والثناء في الأوساط العلمية قديمًا وحديثًا ، قال النووي : أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثل تفسير الطبري . وقال أبو حامد الإسفراييني : لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل على كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيرًا . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير ابن جرير الطبري ؛ فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير والكلبي . هذا وكتب ( نولدكه ) في سنة 1860م . بعد اطلاعه على بعض فقرات من هذا الكتاب: لو كان بيدنا هذا الكتاب لاستغنينا به عن كل التفاسير المتأخرة ومع الأسف فقد كان يظهر أنه مفقود تمامًا ، وكان مثل تاريخه الكبير مرجعًا لا يغيض معينه أخذ عنه المتأخرون معارفهم . وقد التزم ابن جرير في تفسيره ذكر الروايات بأسانيدها إلا أنه في الأعم الأغلب لا يتعقب الأسانيد بتصحيح ولا تضعيف لأنه كان يرى كما هو مقرر في أصول الحديث ، أن من أسند لك فقد حملك البحث عن رجال السند ومعرفة مبلغهم من العدالة والجرح ، فهو بعمله هذا قد خرج من العهدة ، ومع ذلك فابن جرير يقف أحيانًا من السند موقف الناقد البصير ، فيعدل من يعدل رجال الإسناد ، ويجرح من يجرح منهم ويرد الرواية التي لا يثق بصحتها ، ويصرح برأيه فيها بما يناسبها . ثم إننا نجد ابن جرير يأتي في تفسيره بأخبار إسرائيلية يرويها بإسناده إلى كعب الأحبار ووهب بن منبه وابن جريج والسدي وغيرهم ، ونراه ينقل عن محمد بن إسحاق كثيرًا مما رواه عن مسلمة الأنصاري . وهكذا يكثر ابن جرير من رواية الإسرائيليات ، ولعل هذا راجع إلى ما تأثر به من الروايات التاريخية التي عالجها في بحوثه التاريخية الواسعة . فعلى الباحث في تفسيره أن يتابع هذه الروايات بالنظر الشامل والنقد الفاحص ، وقد يسر لنا ابن جرير الأمر في ذلك حيث إنه ذكر الإسناد ، وبذلك يكون قد خرج من العهدة . وعلينا نحن أن ننظر في السند ونتفقد الروايات وقد استفاد المفسرون الذين جاءوا بعد الطبري من تفسيره ، فاعتمدوا عليه في نقل كثير من التفسير المأثور ، واستناروا بآرائه واجتهاداته وترجيحاته . ويوجد لهذا التفسير طبعتان طبعة الحلبي كاملة في ثلاثين جزءًا ولكنها غير محققة ، وطبعة دار المعارف بتحقيق أحمد شاكر وأخيه محمود شاكر ، ولكنها ناقصة حيث بدأت من مقدمة التفسير إلى تفسير الآية (27) من سورة إبراهيم في ستة عشر مجلدًا . 2 - الكشف والبيان عن تفسير القرآن للثعلبي هو أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري المقرئ المفسر ، كان حافظًا واعظًا رأسًا في التفسير والعربية متين الديانة ، حدث عن أبي طاهر بن خزيمة ، وعنه أخذ أبو الحسن الواحدي التفسير وأثنى عليه ، وكان كثير الحديث كثير الشيوخ ، ولكن هناك من العلماء من يرى أنه لا يوثق به ولا يصح نقله ، توفي سنة 427هـ . ومن مؤلفاته: 1 - كتاب العرائس في قصص الأنبياء عليهم السلام ، مطبوع . 2 - من ربيع المذكرين . 3 - تفسيره : الكشف والبيان عن تفسير القرآن . * التعريف بتفسيره وطريقته فيه : وطريقته في التفسير أنه يفسر القرآن بما جاء عن السلف مع اختصاره للأسانيد اكتفاء بذكرها في مقدمة الكتاب ، كما أنه يعرض للمسائل النحوية ويخوض فيها بتوسع ظاهر ، ويعرض لشرح الكلمات اللغوية وبيان أصولها ، ويستشهد على ما يقول بالشعر العربي ، ويتوسع في الكلام عن المسائل الفقهية عندما يتناول آية من آيات الأحكام ، فتراه يذكر الأحكام والخلافات والأدلة ويعرض للمسألة من جميع نواحيها إلى درجة تخريجه عما يراد من الآية . ويلاحظ عليه أنه يكثر من ذكر الإسرائيليات بدون تعقيب مع ذكره لقصص إسرائيلية في منتهى الغرابة . ويظهر من ذلك أن الثعلبي كان مولعًا بالأخبار والقصص إلى درجة كبيرة ، بدليل أنه ألّف كتابًا يشتمل على قصص الأنبياء ، وإن أردت أمثلة على ذلك: فارجع إليه عند تفسير قوله تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ وقوله تعالى: إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ثم ارجع إليه عند تفسير قوله تعالى من سورة مريم: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ كذلك نجده قد وقع فيما وقع فيه كثير من المفسرين من الاغترار بالأحاديث الموضوعة في فضائل السور سورة سورة ، فروى في نهاية كل سورة حديثًا في فضلها منسوبًا إلى أُبي بن كعب ، كما اغتر بكثير من الأحاديث الموضوعة على ألسِنة الشيعة ، فشوه بها كتابه دون أن يشير إلى وضعها واختلاقها ، ومن هذا ما يدل على أن الثعلبي لم يكن له باع في معرفة صحيح الأخبار من سقيمها . * قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته في أصول التفسير : والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين ، وكان حاطب ليل ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع . * وقال الكتاني : في الرسالة المستطرفة عند الكلام عن الواحدي المفسر : لم يكن له ولا لشيخه الثعلبي الكبير بضاعة في الحديث ، بل في تفسيرهما وخصوصًا الثعلبي ، أحاديث موضوعة وقصص باطلة . * * * 3 - معالم التنزيل للبغوي * التعريف بمؤلف هذا التفسير: هو أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالفراء البغوي الفقيه الشافعي المحدث المفسر الملقب بمحيي السُنَّة وركن الدين ، كان تقيًا ورعًا زاهدًا إذا ألقى الدرس لا يلقيه إلاّ على طهارة ولد سنة 436هـ . وتوفي سنة 516هـ . بمروالروذ . كان البغوي إمامًا في التفسير والحديث والفقه ، وله مؤلفات في هذه العلوم ، فمن مؤلفاته: 1- شرح السُنَّة ، مطبوع . 2 - مصابيح السُنَّة ، مطبوع . 3 - الجمع بين الصحيحين في الحديث . 4 - التهذيب في الفقه ، مخطوط . 5 - تفسيره: معالم التنزيل ، مطبوع . تفسيره وطريقته فيه : تفسير البغوي مختصر من تفسير الثعلبي ، لكنه صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة والإسرائيليات المبتدعة . وطريقته أنه يفسر الآية بلفظ سهل موجز ، وينقل ما جاء عن السلف في تفسيرها ، وذلك بدون ذكر الإسناد فيقول : قال ابن عباس ، أو قال مجاهد ، وهكذا اكتفاء بذكر إسناده إلى كل من روي عنهم في مقدمة تفسيره ، وقد يذكر الإسناد في أثناء التفسير إذا روي بإسناد آخر لم يذكره في المقدمة ، ويمتاز بأنه يتعرض للقرآن بدون إسراف ، ويتحاشى الاستطراد في الإعراب ونكت البلاغة وغير ذلك من العلوم التي أولع بها المفسرون ، ويلاحظ عليه أنه يذكر روايات عن السلف في تفسير الآية ولا يرجح ، وينقل عن الضعفاء كالكلبي ، ويذكر بعض الإسرائيليات بدون تعقيب . قال حاجي خليفة في كتابه كشف الظنون عن تفسير البغوي : هو كتاب متوسط نقل فيه عن مفسري الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، واختصره الشيخ تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن محمد الحسين المتوفى سنة 875هـ . * وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن أقرب التفاسير للكتاب والسُنَّة ؟ الزمخشري ؟ أم القرطبي ؟ أم البغوي ؟ أم غير هؤلاء؟ فقال في فتاواه . وأما التفاسير الثلاثة المسئول عنها فأسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة البغوي ، لكنه مختصر من تفسير الثعلبي ، وحذف منه الأحاديث الموضوعة والبدع التي فيه ، وحذف أشياء غير ذلك اه . 4 - تفسير القرآن العظيم لابن كثير * التعريف بمؤلف هذا التفسير : هو الإمام الجليل الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الفقيه الشافعي ، لازم المزِّي ، وقرأ عليه تهذيب الكمال ، وصاهره على ابنته ، وأخذ عن ابن تيمية وفتن بحبه وامتحن بسببه ، ولد في قرية من أعمال بصرى الشام سنة 701هـ وتوفي سنة 774هـ . كان ابن كثير على مبلغ عظيم من العلم ، وقد شهد له العلماء بسعة علمه وغزارة مادته خصوصًا في التفسير والحديث والتاريخ ، ومن مؤلفاته: 1 - البداية والنهاية في التاريخ ، مطبوع . 2 - شرح صحيح البخاري؛ ولم يكمله . 3 - طبقات الشافعية . 4 - جامع المسانيد ، مخطوط في ثمانية مجلدات . 5 - تفسير القرآن العظيم ، مطبوع . * التعريف بتفسيره وطريقته فيه : تفسير ابن كثير من أشهر ما دون في التفسير بالمأثور ، ويعتبر الكتاب الثاني بعد كتاب ابن جرير الطبري ، اعتنى فيه مؤلفه بالرواية عن مفسري السلف . وقد قدم له بمقدمة طويلة هامة تعرض فيها لكثير من الأمور التي لها تعلق واتصال بالقرآن وتفسيره ، ولكن أغلب هذه المقدمة مأخوذ بنصه من كلام شيخه ابن تيمية الذي ذكره في كتابه أصول التفسير . وطريقته في تفسيره أنه يفسر الآية بأسلوب سهل واضح ، ويذكر وجوه القراءات بدون إسراف ، ويشير إلى الإعراب إن كان له تعلق بتفسير الآية ، ثم يفسر الآية بآية أخرى إن أمكن ، ويسرد في ذلك الآيات التي تناسبها ، وهذا من قبيل تفسير القرآن بالقرآن ، وقد اشتهر ابن كثير بذلك ، ثم يذكر الأحاديث المرفوعة المتعلقة بتفسير الآية وما روي عن الصحابة والتابعين في ذلك ، ويعني بتصحيح الأسانيد أو تضعيفها مع بيان سبب الضعف ، وترجيح بعض الأقوال على بعض مع توجيه ذلك . وكثيرًا ما نجده ينقل من تفسير ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم وعبد الرزاق وابن عطية والفخر الرازي وغيرهم ممن تقدمه ، وقد يتعقب أقوالهم . ومما يمتاز به تفسيره أنه ينبه على ما في تفسير المأثور من منكرات الإسرائيليات ، ويحذر منها على وجه الإجمال تارة ، وعلى وجه التعيين لبعض منكراتها تارة أخرى ، مع نقد أسانيدها ومتونها ، ويذكر مناقشات الفقهاء وآرائهم وأدلتهم عندما يشرح آية من آيات الأحكام من غير إسراف ولا استطراد . وبالجملة فإن هذا التفسير من خير كتب التفسير بالمأثور ، وقد شهد له بعض العلماء فقال السيوطي في ذيل تذكرة الحفاظ والزرقاني في شرح المواهب: إنه لم يؤلف على نمط مثله 5 - الدرر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي * التعريف بمؤلف هذا التفسير : هو الحافظ جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي الشافعي المسند المحقق صاحب المؤلفات الفائقة النافعة ، حفظ القرآن وهو ابن ثماني سنين ، وحفظ كثيرًا من المتون ، وأخذ عن شيوخ كثيرين عدَّهم الداودي فبلغ بهم واحدًا وخمسين كما عد مؤلفاته فبلغ بها ما يزيد على خمسمائة مؤلف ولد سنة 849هـ . وتوفي سنة 911 هـ . بالقاهرة ، ومن مؤلفاته: 1 - الجامع الصغير في الحديث ، مطبوع . 2 - حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة ، مطبوع . 3 - همع الهوامع في النحو ، مطبوع . 4 - الإتقان في علوم القرآن ، مطبوع . 5 - الدر المنثور في التفسر بالمأثور ، مطبوع . * التعريف بتفسيره وطريقته فيه : عرف السيوطي تفسيره في مقدمته فقال: فلما ألفت كتاب ترجمان القرآن وهو التفسير المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وتم بحمد الله في مجلدات فكان ما أوردته فيه من الآثار بأسانيد الكتب المخرج منها واردات ، رأيت قصور أكثر الهمم عن تحصيله ورغبتهم في الاقتصار على متون الأحاديث دون الإسناد وتطويله فلخصت منه هذا المختصر مقتصرًا فيه على متن الأثر مصدرًا بالعزو والتخريج إلى كل كتاب معتبر وسميته: بالدر المنثور في التفسير المأثور . فالسيوطي يسرد في الروايات عن السلف في التفسير بدون أن يعقب عليها ، فلا يعدل ولا يجرح ولا يضعف ولا يصحح إلاّ في حالات نادرة ، وقد أخذ هذه الروايات من البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأحمد وأبي داود وابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وغيرهم . ونلاحظ أن تفسير السيوطي هو الوحيد الذي اقتصر على التفسير بالمأثور من بين التفاسير السابقة التي تحدثنا عنها ، فلم يخلط بالروايات التي نقلها شيئًا من عمل الرأي كما فعل غيره . ب- أشهر كتب التفسير بالرأي 1 - مفاتيح الغيب للفخر الرازي * التعريف بمؤلف هذا التفسير : هو محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن فخر الدين الرازي أبو عبد الله القرشي التميمي من ذرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه المفسر الفقيه المتكلم ، إمام وقته في العلوم العقلية ، ولد في رمضان سنة 544هـ . طلب العلم على والده ضياء الدين عمر ، وأتقن علومًا كثيرة وبرز فيها ، وتخرج عليه طلاب كثيرون ، حكي أنه إذا ركب يمشي حوله نحو ثلاثمائة تلميذ فقهاء وغيرهم ، وصنف في فنون كثيرة ، وقيل إنه ندم على دخوله في علم الكلام ، روي عنه أنه قال: لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فلم أجدها تروي غليلاً ولا تشفي عليلا ، ورأيت أصح الطرق طريقة القرآن ، توفي بهراة سنة 606هـ وخلف مصنفات كثيرة منها: 1- كتاب المحصول في أصول الفقه ، مطبوع . 2 - كتاب شرح أسماء الله الحسنى ، مطبوع . 3 - كتاب من إعجاز القرآن . 4 - كتاب المطالب العالية في ثلاثة مجلدات ولم يتمه وهو من آخر تصانيفه . 5 - تفسيره: مفاتيح الغيب . * * * التعريف بتفسيره وطريقته فيه : تفسير الفخر الرازي : "مفاتيح الغيب" من التفاسير المطولة ، ويقع في اثنين وثلاثين جزءًا في طبعة دار المصحف ، وهذا التفسير لم يتمه الفخر الرازي ، ذكر حاجي خليفة في: كشف الظنون ، أنه وصل فيه إلى تفسير سورة الأنبياء ثم أتمه نجم الدين أحمد بن محمد القمولي المتوفي سنة 727هـ . وقاضي القضاة شهاب الدين بن خليل الخوى أكمل ما نقص منه أيضا توفي سنة 639هـ . وذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ، أن الذي أكمله نجم الدين القمولي . فلعل الشيخين اشتركا في تكملته بوجه من الوجوه أو أن كل واحد منهما ألّف تكملة له ، ومسألة تكملة تفسير الفخر الرازي والموضع الذي انتهى إليه الفخر الرازي في تفسيره مسألة فيها خلاف قديم بين العلماء ولم تحقق إلى الآن ، وطريقة الفخر الرازي في تفسيره أنه يعني بذكر مناسبة السور بعضها لبعض ، ومناسبة الآيات بعضها لبعض ، فيذكر أكثر من مناسبة ، ويلاحظ على بعض هذه المناسبات بعيدة أو فيها تكلف ، كما أنه يعني بذكر أسباب النزول ، فيذكر للآية الواحدة سببًا أو أكثر من سبب حسب ما روي فيها ، ويذكر وجوه القراءات ووجوه الإعراب ، ويعني باللغة ، فتجد له مباحث لغوية قصيرة لتحقيق بعض اللغويات ، ويشير إلى القواعد الأصولية ، ويتوسع في المباحثات الفقهية ، فيعني كثيرًا بمذهب الشافعي وتحقيقه وترجيح آرائه والرد على مخالفيها ، كما أنه في مسألة آيات الصفات يجريها على طريقة الأشعري في مذهبه ، ويرد على أقوال المعتزلة في مسألة الصفات وغيرها ، ويفند أقوالهم ، وكذلك يعني بذكر آراء الفلاسفة ونظرياتهم في الكون ويفندها ، وقد استطرد في المباحث الفلسفية والكلامية فطغت على تفسيره ، فهو مرجع في هذا الباب إلاّ أنه يؤخذ عليه أن يورد شبه الجاحدين والمخالفين يوردها ويحققها ويتوسع في تحقيقها أكثر من أصحابها ثم يرد عليها ردًا ضعيفًا لأنه قد استنفذ طاقته في التوسع في تحقيقها حتى قال عنه بعض المغاربة : يورد الشبه نقدًا ويحللها نسيئة ، فنلاحظ من هذا الاستعراض السريع لطريقة الفخر الرازي في تفسيره أنه جمع في تفسيره علومًا كثيرة ، واستطرد في بعضها مما جعله يخرج عن التفسير ، ولذا قال بعض العلماء : فيه كل شيء إلاّ التفسير ، وهذا القول وإن كان فيه مبالغة إلاّ أنه يشعر باستطرادات الفخر الرازي في تقرير بعض قضايا التفسير * * * 2 - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي التعريف بمؤلف هذا التفسير * التعريف بمؤلف هذا التفسير : هو الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح بإسكان الراء والحاء المهملة الأنصاري الخزرجي القرطبي ، كان من العباد الصالحين والعلماء العارفين الزاهدين في الدنيا ، وكان متواضعًا ، وكانت أوقاته كلها معمورة بالتوجه إلى الله بالعبادة تارة وبالتصنيف تارة أخرى ، حتى أخرج للناس كتبًا انتفعوا بها ، توفي سنة 671هـ . بمنية بني خصيب بصعيد مصر ، ومن مصنفاته: 1 - كتاب شرح أسماء الله الحسنى . 2 - كتاب التذكار في أفضل الأذكار ، مطبوع . 3 - كتاب التذكرة في أمور الآخرة ، مطبوع . 4 - تفسيره: الجامع لأحكام القرآن . التعريف بتفسيره وطريقته فيه * التعريف بتفسيره وطريقته فيه : قال في مقدمة تفسيره يبين السبب الذي دفعه إلى تأليفه فالطريقة التي سار عليها فقال: وبعد ، فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع الذي استقل بالسُنَّة والفرض ، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض رأيت أن أشتغل به مدى عمري واستفرغ فيه منتى بأن أكتب فيه تعليقًا وجيزًا يتضمن نكتًا من التفسير واللغات والإعراب والقراءات والرد على أهل الزيغ والضلالات ، وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات جامعا بين معانيها ومبينا ما أشكل منها بأقاويل السلف ، ومن تبعهم من الخلف . . . وشرطي في هذا الكتاب إضافة الأقوال إلى قائليها والأحاديث إلى مصنفيها ، فإنه يقال : من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله ، وكثيرًا ما يجيء الحديث في كتب الفقه والتفسير مبهمًا لا يعرف من أخرجه إلا من اطلع على كتب الحديث ، فيبقى من لا خبرة له بذلك حائرا لا يعرف الصحيح من السقيم ، ومعرفة ذلك علم جسيم ، فلا يقبل منه الاحتجاج به ولا الاستدلال حتى يضيفه إلى من خرجه من الأئمة الأعلام ، والثقات المشاهير من علماء الإسلام ، ونحن نشير إلى جمل من ذلك في هذا الكتاب ، والله الموفق للصواب . وأضرب عن كثير من قصص المفسرين ، وأخبار المؤرخين ، إلاّ ما لا بد منه ولا غنى عنه للتبيين واعتضت من ذلك تبيين آي الأحكام ، بمسائل تسفر عن معناها ، وترشد الطالب إلى مقتضاها ، فضمت كل آية تتضمن حكمًا أو حكمين فما زاد مسائل نبين فيها ما تحتوي عليه من أسباب النزول والتفسير الغريب ، والحكمة ، فإن لم تتضمن حكمًا ذكرت ما فيها من التفسير والتأويل . وهكذا إلى آخر الكتاب ، وسميته بالجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السُنَّة وآي الفرقان . فنلاحظ من هذه المقدمة الطريقة التي سار عليها القرطبي في تفسيره حيث إنه يذكر آية أو مجموعة من الآيات متصلة في المعنى ، فيجعل تفسيره لهذه الآيات في جملة مسائل تكون مسألتين ، وقد تصل إلى أربعين مسألة فأكثر ، يذكر في كل مسألة حكمًا من أحكام الآية أو سببًا من أسباب النزول أو تفسيرًا لغريب الآية أو صلة لها ، أو يذكر فروعها فقهية تتصل بالآية من بعيد أو من قريب ، ويستدل على ذلك بالأحاديث ويخرج هذه الأحاديث ، كما يستدل بأقاويل السلف وينسبها إلى قائلها . كما أنه لا يستطرد في ذكر القصص والتواريخ ، وقد وفى بما وعد في مقدمة تفسيره إلاّ أنه استطرد في ذكر الفروع الفقهية والتفصيلات الدقيقة في مذاهب أئمة الفقه التي لا تتصل بالآية إلاّ من بعيد حتى إن القارئ فيه أحيانًا يجد نفسه أمام ثروة كبيرة من الأقوال الفقهية تخرجه عن تفسير الآيات القرآنية ، ومن المراجع التي اعتمد عليها القرطبي في تفسيره ابن جرير الطبري وابن عطية وابن العربي والكِيَّا الهراس وأبو بكر الجصاص ، ومما يمتاز به القرطبي في تفسيره أنه لا يتعصب لمذهبه المالكي ، فتجده في بعض المسائل يسوق رأي الإمام مالك ثم يرجح غيره مما دل عليه الدليل ، ومن أمثلة ذلك تفسيره لقوله تعالى في الآية 43 من سورة البقرة : وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ نجده عند المسألة السادسة عشرة من مسائل هذه الآية يعرض لإمامة الصغير ويذكر أقوال من يجيزها ومن يمنعها ، ويذكر أن من المانعين لها الإمام مالك والثوري وأصحاب الرأي ، ولكنا نجده يخالف إمامه فيقول بجواز إمامة الصغير لما ظهر له من الدليل على جوازها ، وهو ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنًا قال عمرو بن سلمة : فنظر قومي فلم يكن أحد أكثر مني قرآنًا لما كنت أتلقى من الركبان ، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين اهـ . باختصار . ومن أمثلة ذلك تفسيره للآية [ 172 من سورة البقرة ] فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ نجده يعقد المسألة الثانية والثلاثين من مسائل هذه الآية في اختلاف العلماء فيمن كان في سفره معصية كقطع طريق فاضطر إلى الأكل من المحرمات فيذكر أن مالكًا حذّر ذلك عليه ، وكذلك الشافعي في أحد قوليه ، ثم يعقب القرطبي على هذا كله فيقول: ( قلت الصحيح خلاف هذا ، فإن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه ) قال الله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ وهذا عام ، ولعله يتوب في ثاني الحال فتمحو التوبة عنه ما كان . . . وقد لاحظت في بعض المسائل الفقهية التي يذكرها القرطبي تشابهًا مع المسائل التي يذكرها ابن قدامة في المغنى ، فلعل القرطبي استفاد من كتاب المغنى لابن قدامة في نقل بعض المسائل الفقهية ؛ لأن ابن قدامة سابق في الوفاة للقرطبي ، فابن قدامة متوفى سنة 620هـ . والقرطبي متوفى سنة 671هـ . وهذه المسألة تحتاج إلى تحقيق . 3 - إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود * التعريف بمؤلف هذا التفسير : هو محمد بن محمد بن مصطفى العمادي أبو السعود من علماء الترك المستعربين ، مفسر شاعر ، ولد بقرب استنبول ، سنة 898هـ . ودرس ودرّس في بلاد متعددة ، وتولى القضاء في بروسة فاستنبول فالروم أيلي ، وأضيف إليه الإفتاء سنة 952هـ ، وكان حاضر الذهن سريع البديهة ، وحكي عنه أنه يكتب الإفتاء على نسق سؤال المستفتي ، فإن كان سؤاله بالشعر أفتاه بالشعر بوزن شعره ، وإن كان السؤال بالفارسية أفتاه بها ، وكذا إن كان بالتركية أو بالعربية ، وقد أشغلته المناصب التي تولاها عن التأليف ، فلذا لم يترك لنا إلاّ مؤلفات قليلة ، وكان مهيبًا ، حظيًا عند السلطان ، توفي سنة 982هـ . ودفن بجوار أبي أيوب الأنصاري باستنبول . ومن مؤلفاته: 1 - تحفة الطلاب . 2 - رسالة المسح على الخفين . 3 - قصة هاروت وماروت . 4 - تفسيره: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم . * التعريف بتفسيره وطريقته فيه : ذكر أبو السعود في مقدمة تفسيره أنه بعد ما قرأ الكشاف للزمخشري وأنوار التنزيل للبيضاوي رأى أن يؤلف تفسيرًا يجمع فيه فوائد هذين التفسيرين ويضيف إليه ما تحصل عليه من فوائد من التفاسير الأخرى ، فألّف هذا التفسير الذي جلّى فيه بلاغة القرآن وإعجازه وأبرزها في أحسن صورة ، وهذا مما امتاز به هذا التفسير ، يضاف إلى ذلك ذكره للفوائد الدقيقة والحكم البديعة التي دلت عليها الآية والنكت البلاغية النادرة ، كما أنه يشير إلى القراءات ووجوه الإعراب ويبين معنى الآية على حسب ذلك دون إطالة ، ويعرض للمسائل الفقهية المستفادة من الآية ، ويشير إلى آراء أئمة المذاهب من غير استطراد ، ويعني بذكر أقوال الحنفية ويرجحها كثيرًا . ولم يستطرد في ذكر الأخبار الإسرائيلية ، وإن ذكرها فإنه يصدرها بلفظ روي أو قيل إشارة إلى ضعفها ، كما أنه يعني بذكر المناسبات بين الآيات ، هذا ويلاحظ عليه ذكره للأحاديث الموضوعة في فضائل السور ، حيث ذكر في نهاية كل سورة ما روي فيها من تلك الأحاديث ، ويلاحظ عليه صعوبة عبارته في بعض المواضع ودقة إشارته واختصاره للعبارة ، بشكل يجعلها غامضة على القارئ العادي فلا يدركها إلاّ القارئ المتخصص ، وقد نال هذا التفسير شهرة واسعة بين العلماء ، فقد اهتموا به وتدارسوه واقتبسوا منه . * * * 4 - فتح القدير للشوكاني * التعريف بمؤلف هذا التفسير : هو محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني الإمام العلاّمة الفقيه المحدث المجتهد ، ولد بهجرة شوكان عام 1173هـ . في ذي القعدة ، وتربى في صنعاء ، وقد حفظ القرآن وقرأه وختمه على الفقيه حسن بن عبد الله الهبل ، وجد في حفظ متون كتب الفقه والحديث واللغة ، واطلع على كتب التاريخ ، تفقه - رحمه الله - على مذهب الزيدية وبرع فيه وألف وأفتى ، ثم خلع ربقه التقليد وتحلى بمنصب الاجتهاد ، وألّف رسالة سماها: القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد وتحامل عليه من أجلها جماعة من العلماء ، وأرسل إليه أهل جهته سهام اللوم والنقد ، وثارت من أجل ذلك فتنة في صنعاء اليمن بين من هو مقلد ومن هو مجتهد ، وعقيدة الشوكاني عقيدة السلف من حمل صفات الله الواردة في الكتاب والسُنَّة على ظاهرها من غير تأويل ولا تشبيه ، وقد ألّف رسالة في ذلك سماها: التحف بمذهب السلف ، وتوفي الشوكاني - رحمه الله - سنة 1250هـ . وقد خلف الشوكاني مجموعة من المؤلفات منها: 1 - نيل الأوطار "شرح منتقى الأخبار" ، مطبوع . 2 - إرشاد الفحول إلى علم الأصول ، مطبوع . 3 - السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار ، طبع بعضه . 4 - إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات (رد به على موسى بن ميمون اليهودي ) . 5 - تفسيره: فتح القدير . التعريف بتفسيره وطريقته فيه : يعتبر تفسيره أصلاً من أصول التفسير ومرجعًا مفيدًا للباحثين ، وقد جمع في تفسيره من الرواية عن السلف والدراية بالاستنباط ومناقشة الآراء والترجيح ، وقد اعتمد في تفسيره على أبي جعفر النحاس وابن عطية الدمشقي وابن عطية الأندلسي والقرطبي والزمخشري وابن جرير الطبري وابن كثير والسيوطي ، وقد استفاد كثيرًا من تفسير السيوطي (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) وطريقة الشوكاني في تفسيره أنه يذكر ما في تفسير الآية من جهة اللغة والبلاغة ويشير إلى الإعراب إن كان له أثر في المعنى ، ويذكر القراءات في الآية ، ويناقش الآراء التي ينقلها ، ويرجح في بعض الحالات ، ويستنتج من الآيات الأحكام الفقهية ، ويناقش بعض المسائل الفقهية ويبدي فيها رأيه ، ثم بعد ذلك يسرد ما روي في تفسير الآية من التفسير المأثور معتمدًا في ذلك على تفسير الدر المنثور ، وقد يضيف إلى ذلك إضافات استفادها من كتب أخرى ، كما نبه على ذلك في مقدمة تفسيره . وقد لاحظ عليه الدكتور الذهبي أنه ينقل بعض الروايات الموضوعة في تفسيره ولا ينبه عليها ، وضرب مثلاً لذلك بتفسيره للآية (55) من سورة المائدة وهي قوله تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ ذكر أنها نزلت في علي - رضي الله عنه - حينما تصدق بخاتمه وهو في الصلاة ، وذكر الشوكاني أنه لا يصح الاستدلال بها ، ولم ينبه على أنها موضوعة ، وقد نبه على ذلك ابن تيمية في مقدمة التفسير وقال: إن هذه القصة موضوعة باتفاق العلماء ، كما استدل الذهبي بتفسير الشوكاني للآية (67) من سورة المائدة وهو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ فذكر روايات عن السلف في تفسير هذه الآيات منها ما رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: إن هذه الآية نزلت على رسول الله يوم "غدير خمة" . في علي ابن أبي طالب . وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك إن عليًا مولى المؤمنين وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس قال الذهبي إنه مرّ على هاتين الروايتين أيضًا بدون أن يتعقبهما بشيء أصلاً . قلت : الشوكاني معذور في هذا لأنه جرى على المنهج الذي رسمه وقد بيّنه في مقدمة تفسيره ، ونقطف منه هذا النص الذي يهم الموضوع وهو قول الشوكاني : ( وقد أذكر الحديث معزوًا إلى راويه من غير بيان حال الإسناد ؛ لأني أجده في الأصول التي نقلت عنها كذلك كما يقع في تفسير ابن جرير والقرطبي وابن كثير والسيوطي وغيرهم . ويبعد كل البعد أن يعلموا في الحديث ضعفًا ولا يبينونه ، ولا ينبغي أن يقال فيما أطلقوه إنهم علموا بثبوته ، فإن من الجائز ان ينقلوه من دون كشف عن حال الإسناد ، بل هذا هو الذي يغلب به الظن ، لأنهم لو كشفوا عنه فثبت عندهم صحته لم يتركوا بيان ذلك ، كما يقع منهم كثيرًا التصريح بالصحة أو الحسن ، فمن وجد الأصول التي يروون عنها ويعزون ما في تفاسيرهم إليها فلينظر في أسانيدها موفقًا إن شاء الله ) . وقد لاحظ عليه الدكتور الذهبي ذمه للتقليد ، وأنه كان شديد العبارة على مقلدي أئمة المذاهب فيرميهم بأنهم تاركون لكتاب الله معرضون عن سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد قسا إلى حد كبير على المقلدين حيث يطبق ما ورد من الآيات في حق الكفرة على مقلدي الأئمة وأتباعهم ، فمثلاً عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (28) من سورة الأعراف : وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قال ما نصه ( . . . وإن في هذه الآية الشريفة لأعظم زاجر وأبلغ واعظ للمقلدة الذين يتبعون آباءهم في المذاهب المخالفة للحق ، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر لا بأهل الحق فإنهم قائلون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ والقائلون: وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا والمقلد لولا اغتراره بكونه وجد أباه على ذلك المذهب مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به وأنه الحق ، لم يبق عليه وهذه الخصلة هي التي بقي بها اليهودي على اليهودية والنصراني على النصرانية والمبتدع على بدعته . فما أبقاهم على هذه الضلالات إلاّ كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية أو النصرانية أو البدعة ، وأحسنوا الظن بهم بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به ، ولم ينظروا لأنفسهم ولا طلبوا الحق كما يجب ولا بحثوا عن دين الله كما ينبغي ، وهذا هو التقليد البحت والقصور الخالص . . . . ويمتاز تفسير الشوكاني بأنه يناقش آراء المعتزلة ويرد عليهم وقد عدّ الذهبي تفسير الشوكاني من تفاسير الزيدية ، والواقع أنه ليس كذلك ، فالمتتبع لتفسير الشوكاني لا يجد الشوكاني يتبنى فيه رأيًا للزيدية ، فعقيدته سلفية ، وهو يرد آراء المعتزلة ، فلو كان زيديًا لوافقهم ، لأن الزيدية يوافقون المعتزلة في أقوالهم في تأويل الصفات ، ومسألة العدل ، وغير ذلك من المسائل التي اختلف فيها أهل السُنَّة والمعتزلة ، وكذلك أيضًا في آرائه الفقهية لا يتبنى آراء الزيدية ، وإنما يذكرها كما يذكر آراء غيرهم ، ويعني بذكر آرائهم لمعرفته بها ، لأنه تفقه في الأصل على مذهب زيد ، ثم ترقى في العلم حتى بلغ مرتبة الاجتهاد . ومما جعله يعني بآراء الزيدية أنه يمنى ويعاهد طائفة الزيدية في بلاده ، فكان عليه أن يذكر آراءهم ويناقشهم . 5 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي * التعريف بمؤلف هذا التفسير : هو أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود أفندي الألوسي ، ولد سنة 1217هـ . في جانب الكرخ من بغداد ، كان - رحمه الله - شيخ العلماء في العراق ، جمع كثيرًا من العلوم حتى أصبح علامة في المنقول والمعقول ، فبرز في التفسير والحديث والأصول والفروع ، أخذ العلم عن فحول العلماء ، منهم والده ، والشيخ خالد النقشبندي ، والشيخ علي السويدي . وقد اشتغل بالتدريس والتأليف وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وتخرج عليه جماعة من العلماء ، وكان ذا حافظة عجيبة ، وكثيرًا ما كان يقول: ما استودعت ذهني شيئًا فخانني ، ولا دعوت فكري لمعضلة إلاّ وأجابني ، وقد قلد إفتاء الحنفية ، وولى الأوقاف بالمدرسة المرجانية وكانت مشروطة لأعلم أهل البلد ، وكان - رحمه الله - عالمًا باختلاف المذاهب مطلعًا على الملل والنحل ، سلفيَّ الاعتقاد ، شافعيَّ المذهب ، إلاّ أنه في كثير من المسائل يقلد الإمام أبا حنيفة - رضي الله عنه - وكان في آخر أمره يميل للاجتهاد ، توفي في 25 ذي القعدة سنة 1270هـ . ودفن بالكرخ ، وقد خلف مؤلفات نافعة منها: 1 - شرح السلم في المنطق . 2 - الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية . 3 - درة الغواص في أوهام الخواص . 4 - تفسيره: روح المعاني . * * * * التعريف بتفسيره وطريقته فيه : ذكر في مقدمة تفسيره أنه شرع في تأليفه في شعبان سنة 1252هـ . وانتهى من تأليفه سنة 1267هـ . وذكر أنه كان في نهاره يشتغل بالتدريس والإفتاء وفي أول ليلة يجتمع بالعلماء ويتناقش معهم في المسائل العلمية ، وفي آخر ليلة يكتب في التفسير ، ثم بعد ذلك يدفع ما كتبه إلى كتاب استأجرهم لهذه المهمة ، فيبيضون ما كتبه في ليلته في عشر ساعات ، فهذا يدل على كثرة كتابته وسرعة بديهته ، والمطلع على تفسيره يجد نفسه أمام موسوعة تفسيرية كبيرة ، حوت أقوالاً في التفسير كثيرة للسلف والخلف كما أنه رجع إلى تفاسير كثيرة في كتابة تفسيره منها تفسير أبي السعود وإذا نقل عنه قال: قال شيخ الإسلام ، وتفسير البيضاوي وإذا نقل عنه قال: قال القاضي ، وتفسير الفخر الرازي وإذا نقل عنه قال: قال الإمام ، كما نقل عن تفسير ابن عطية وأبي حيان والزمخشري وابن كثير وغير ذلك من التفاسير ، فقد نقل في تفسيره خلاصة هذه التفاسير ، ولا يقتصر على النقل فقط ، فنجده ينصب نفسه حكمًا بين هذه التفاسير ويناقشها ويرجح ما يراه صحيحًا ويضعف ما يراه ضعيفًا ، فكان يناقش المعتزلة في آرائهم ويرد عليها كما في تفسير قوله تعالى: وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وقوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ويناقش الشيعة ويرد عليهم في طعنهم على الصحابة كما في قوله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا كما نجده يستطرد في ذكر المسائل النحوية متأثرًا بأبي حيان في تفسيره في ذلك . ويعني بذكر القراءات المتواترة وغيرها وذكر المناسبات بين الآيات وبين السور ، وذكر أسباب النزول ، ويستطرد في ذكر مسائل الفقه عند تفسير آيات الأحكام ، فيذكر أقوال الفقهاء وأدلتهم مع الترجيح وغالبًا ما يرجح مذهب أبي حنيفة ولا يتعصب له ، فنجده أحيانًا يرجح مذهب الشافعي إذا اقتنع بأدلته ، كما أنه يناقش الإسرائيليات ويفندها ، ومن ذلك تفنيده لقصة عوج بن عنق ، وقصة سفينة نوح . ويلاحظ على الألوسي اهتمامه بالتفسير الإشاري على طريقة الصوفية فإذا انتهى من التفسير الظاهر تكلم عن التفسير الباطن فينقل فيه كلام الصوفية في التفسير كالجنيد وابن عطاء وأبي العباس المرسي ، فينقل عنهم نقولاً في تفسير باطن الآية وهي بعيدة عن التفسير ، ومن أمثلة ذلك تسيره لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [ آل عمران: 33 ] . قال الألوسي : وما يتعلق بالباطن من أصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ والولد سر أبيه ويمكن أن يقال: آدم هو الروح في أول مقامات ظهورها ، ونوح هو هي مقامها الثاني من مقامات التنزل وإبراهيم هو القلب الذي ألقاه نمرود النفس في نيران الفتن ورماه فيما بمنجنيق الشهوات والقوى الروحانية ، ومران هو العقل الإمام في بيت مقدس البدن والتابعون له في ذلك البيت المقتدون به كل ذلك ذرية بعضها من بعض لوحدة المورد واتفاق المشرب: إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا عن رق النفس مخلصًا في عبادتك عن الميل إلى السوى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ قال الواسطي : محفوظ عن إدراك الخلق: وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا حيث سقاها من مياه القدرة ، وأثمرها شجرة النبوّة وكفلها زكريا لطهارة سره وشيبه الشيء منجذب إليه كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقًا هو ما علمت ، ويجوز أن يراد الرزق الروحاني من المعارف والحقائق والعلوم والحكم الفائضة عليها من عند الله تعالى إذ الاختصاص بالعندية يدل على كونه أشرف من الأرزاق البدنية ، فهذا التفسير بعيد جدًا عن ظاهر الآيات ولا علاقة له البتة بالآية ، لأن الآية ورد فيها اصطفاء الله لآدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ، فهؤلاء أشخاص فكيف يرمز لهم بالمعاني كالروح أو العقل أو القلب ، فهذه الرموز لا علاقة لها بالآية ولا دليل عليها من السُنَّة أو كلام السلف أو لغة العرب ، فهذه التفسيرات وأمثالها باطلة لا يصح تفسير كتاب الله بها ، فالسير على هذا المنهج في التفسير تحريف لآيات الله ، وإبطال لمعانيها فكان الأولى بالألوسي أن ينزه تفسيره عن مثل هذا ، كما لا يفوتني أن أبين أن الألوسي ينقل عن الصوفية تفسيرات قد تكون قريبة من معنى الآية أو لها وجه صحيح ، وهذا كثير في مواضع متعددة من تفسيره ولا يحتاج إلى تمثيل . فهرس المراجع: 1 - الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (ت 911هـ . ) طبع مصطفى الحلبي بمصر - ط: 3 - 1370هـ - 1951م . 2 - الأعلام للزركلي (ت 1396هـ . ) ثمانية أجزاء - دار العلم للملايين - بيروت - ط: 5 - 1980م . 3 - البرهان في علوم القرآن للزركشي (ت 794هـ . ) - أربعة أجزاء - طبع عيسى الحلبي بمصر - ط: 2 - 1391هـ - 1972م . 4 - تفسير ابن كثير (ت 774هـ . ) - 4 أجزاء - طبع عيسى الحلبي بمصر . 5 - تفسير أبي السعود (ت 982هـ . ): إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم - طبع عبد الرحمن محمد بمصر - 9 أجزاء . 6 - تفسير الألوسي (ت 1270هـ . ): روح المعاني - المطبعة الميزية - بمصر ط: 2 - 30 جزء . 7 - تفسير البغوي (ت 516هـ . ): معالم التنزيل - مطبوع بهامش تفسير الخازن - طبع مصطفى الحلبي بمصر ط: 2 - 1375هـ . 8 - تفسير الثعالبي (ت 876هـ . ): الجواهر الحسان في تفسير القرآن: 4 أجزاء - الناشر: مؤسسة الأعلمي ، بيروت . 9 - تفسير السيوطي (ت 911هـ . ): الدر المثنور في التفسير بالمأثور - 6 أجزاء - الناشر: محمد أمين دمج - بيروت . 10 - تفسير الشوكاني (ت 1250هـ . ): فتح القدير - 5 أجزاء - طبع مصطفى الحلبي - بمصر . 11 - تفسير الطبري (ت 310هـ . ): جامع البيان عن تأويل آي القرآن - تحقيق أحمد شاكر وأخيه محمود - طبعة دار المعارف بمصر - وهي ناقصة . وطبعة مصطفى الحلبي الثالثة - 1383هـ . - وهي كاملة في 30 جزءًا . 12 - تفسير الفخر الرازي (ت 606هـ . ): مفاتيح الغيب - 32 جزءًا - طبع عبد الرحمن محمد بالقاهرة . 13 - تفسير القرطبي (ت 671هـ . ): الجامع لأحكام القرآن - 20 جزءًا - طبعة دار الكتب المصرية - 1387هـ . 14 - التفسير والمفسرون لأستاذنا المرحوم د . محمد حسين الذهبي (ت 1397هـ . ) - 3 أجزاء -مطابع دار الكتاب العربي بمصر ط: 1 - 1381هـ . 15 - جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لابن الأثير الجزري (ت 606هـ . ) تحقيق عبد القادر الأرناؤوط - 11 مجلدًا - طبع بيروت سنة 1389هـ . 16 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ . ) - 4 أجزاء - دار الجيل - بيروت - . 17 - ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الحديث: لعبد الغني النابلسي سنة 1143هـ . - 4 أجزاء - الناشر: ناصر خسرو - طهران . 18 - صحيح البخاري (ت 256هـ . ) بشرح - فتح الباري - لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ . ) المطبعة السلفية بمصر - 13 مجلدًا - . 19 - طبقات المفسرين للداودي (ت 945هـ . ) بتحقيق علي محمد عمر - جزءان - مطبعة الاستقلال الكبرى بمصر - ط: 1 - 1392 . 20 - فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ . ) - 37 مجلدًا - مصور عن الطبعة الأولى سنة 1398هـ . 21 - القاموس المحيط: للفيروزآبادي (ت 817هـ . ) - 4 أجزاء - المطبعة الحسينية بمصر . 22 - مذكرات في علوم القرآن لأستاذنا فضيلة الدكتور أحمد السيد الكومي ، د . القاسم - مطبعة دار الجيل بالقاهرة - ط: 1 سنة 1391هـ . 23 - معجم البلدان لياقوت الحموي (ت 626هـ . ) - 5 مجلدات - دار صادر بيروت سنة 1376هـ . 24 - المفردات في غريب القرآن للراغب الأصبهاني (ت 502هـ . ) الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية - المطبعة الفنية الحديثة . 25 - مقدمة في أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 828هـ . ) - المطبعة السلفية بالقاهرة - ط: 2 سنة 1385هـ . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *ترجمة المؤلف: - من مواليد الإحساء عام 1364هـ . - حاصل على الماجستير 1394هـ . والدكتوراه 1399هـ ، من جامعة الأزهر في التفسير وعلومه . - أستاذ مساعد بكلية أصول الدين ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وعضو بمركز البحث العلمي بالجامعة . - من مؤلفاته: 1- العز بن عبد السلام : حياته وآثاره ومنهجه في التفسير (مطبوع). 2- تحقيق تفسير العز بن عبد السلام (مخطوط) . 3- أسباب النزول (مخطوط) .
    0
  • النبوة .. دراسة من القرآن الكريم

    الكاتب: منيع عبد الحليم محمود *

    (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثاني - الإصدار : من شوال إلى ربيع الأول لسنة 1395هـ 1396هــ)

    1- مقدمة:

    فقط النبي مأخوذ من الإنباء ، فيتضمن معنى الإعلام والإخبار ، ولكنه في استعماله أخص من مطلق الإخبار ، فهو يستعمل في الإخبار بالأمور الغائبة المختصة دون المشاهدة المشتركة ، كما في قوله تعالى : وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ .
    وقال : فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ .
    وجمع النبي أنبياء ، وهو من النبأ ، وأصله الهمزة ، وقد قرئ بها ، وهي قراءة نافع . لكن لما كثر استعماله لينت همزته كما فعل مثل ذلك في الذرية وفي البرية .
    وقيل : هو من النَّبْوة - بفتح النون وسكون الباء ، وهي العلو ، فمعنى النبي : المعلى الرفيع المنزلة ، والأصح أن هذا المعنى لازم للأول ، فمن أنبأه الله وجعله منبئًا عنه ، فلا يكون إلا رفيع القدر عليًا . وأما لفظ العلو والرفعة فلا يدل على خصوص النبوة ، إذ يوصف بهذا من ليس نبيًا كما قال تعالى : وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
    * * *
    ويقول الإمام ابن تيمية : وقراءة الهمزة قاطعة بأنه مهموز ، وما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أنا نبي الله ولست نبيء الله فما رأيت له إسنادًا ، لا سندًا ولا مرسلاً ، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث ، ولا السير المعروفة ، ومثل هذا لا يعتمد عليه .
    ثم يبين الإمام ابن تيمية أننا إذا اعتبرنا النبي مهموز الأصل ، فإن الهمزة يمكن أن تلين ، فذلك جائز ، فتصير حرفًا معتلاً ، فيعبر عنه باللفظين فترد إليه القراءتان بخلاف المعتل ، فإنه لا يجعل همزة ، فيجب القطع بأن النبي مأخوذ من الإنباء لا من النَّبْوة بفتح النون وسكون الباء .
    على أنه إذا كان هذا هو التحديد اللفظي واللغوي لمعنى النبوة ، فإن أغلب تحديدات معنى النبوة تدور حول هذا ولا تزيد عنه إلا قليلاً .
    فإن المشهور في عرف الشرع - كما يقول الإمام الألوسي - : ( إن النبي من أوحي إليه سواء أمر بالتبليغ أم لا ) .
    أما صاحب شرع المقاصد على المواقف فيقول : ( إن النبوة هو كون الإنسان مبعوثًا من الحق إلى الخلق ) .
    أما الإمام محمد عبده ، فإنه لا يحدد معنى النبوة بتعريفها بل يحددها بهدفها يقول : ( النبوة تحدد ما ينبغي أن يلحظ في جانب واجب الوجود من الصفات ، وما يحتاج إليه البشر كافة من ذلك ، وتشير إلى خاصتهم بما يمكن لهم أن يفضلوا به غيرهم في مقدمات عرفانهم ، لكنها لا تخدم إلا ما فيه الكفاية للعامة .
    على أننا إذا نظرنا إلى مجموع هذه التحديدات لمعنى النبوة نجد أنها لا تكفي كفاية تامة لتحديد معنى النبوة ، فلم تحدثنا هذه التعريفات ، عن علامات الرسل وسماتهم المحدودة ، وعن خلقهم قبل الاصطفاء للنبوة ، وبالتأكيد فإن هذه التعريفات لم تخرج عن نطاق التحديد اللفظي للنبوة ، ولم يخرج عن هذا النطاق سوى الشيخ محمد عبده ، حيث تكلم عن أهدافها دون تحديد تعريف لها .
    ولكن كيف يتأتى لنا أن نحدد معنى النبوة ؟
    * * *
    إن التعريف الذي يحدد لنا معنى النبوة هو التعريف القرآني ، وهو الذي يخرجنا من هذه الدائرة الضيقة المحدودة للتعريفات السابقة .
    وتبدو لنا أولى الآيات التي تحدد لنا المعنى المراد في قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ويقول تعالى : وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا ويقول : وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي .
    تدلنا هذه الآيات على أن الله تعالى يصطفي الأنبياء ويجتبيهم لنفسه ويرسم حياتهم قبل ميلادهم . فيختار لهم النسب الشريف الذي يميزهم عن غيرهم ويصنعهم على عينه ، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله اصطفى من ولد إبراهيم : إسماعيلَ ، واصطفى من ولد إسماعيل : بني كنانة ، واصطفى من بني كنانة : قريشًا ، واصطفى من قريش : بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم .
    وليس هناك دليل على ما ذكرنا من قبل أكثر من قول الله سبحانه وتعالى عن سيدنا عيسى عليه السلام قبل أن يولد :
    إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا .
    ولعل ما يشرح الآيات السابقة بتفصيل أوسع ذلك الحديث الذي ذكره الإمام البخاري عن كيفية استدلال هِرَقل على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه ركز هرقل تركيزًا كبيرًا على حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة ؛ عن الإمام البخاري - رضي الله عنه - قال : حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ، قال : أخبرنا شعيب عن الزهري ، قال : أخبرني عبد الله بن عتبة بن مسعود : أن عبد الله بن عباس أخبره : أن أبا سفيان بن حرب أخبره : أن هرقل أرسل إليه في ركب قريش وكانوا تجارًا بالشام ، في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ، ثم دعاهم ودعا بترجمانه ، فقال :
    أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟
    فقال أبو سفيان فقلت : أنا أقربهم نسبًا .
    فقال : أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ، ثم قال لترجمانه :
    قل لهم : إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه ، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه .
    ثم كان أول ما سألني عنه : أن قال : كيف نسبه فيكم ؟
    قلت : هو فينا ذو نسب .
    قال : فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله ؟
    قلت : لا .
    قال : فهل كان من آبائه من ملك ؟ قلت : لا .
    قال : فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟
    فقلت : بل ضعفاؤهم .
    قال : أيزيدون أم ينقصون ؟
    قلت : بل يزيدون .
    قال : فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟
    قلت : لا .
    قال : فهل يغدر ؟ قلت : لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها .
    قال : ولم يكن كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة .
    قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت : نعم .
    قال : فكيف كان قتالكم إياه ؟ قلت : الحرب بيننا وبينه سجال : ينال منا وننال منه .
    قال : ماذا يأمركم ؟
    قلت : يقول : اعبدوا الله وحده ، ولا تشركوا به شيئًا ، واتركوا ما يقول آباؤكم ، ويأمرنا بالصلاة ، والصدق ، والعفاف والصلة .
    فقال للترجمان : قل له : سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب ، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها .
    وسألتك : هل قال أحد منكم هذا القول ؟ فذكرت أن لا ، فقلت : لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت : رجل يأتسي بقول قيل قبله .
    وسألتك : هل كان من آبائه من ملك ؟ فذكرت أن لا ، قلت : فلو كان في آبائه من ملك لقلت : رجل يطلب ملك أبيه .
    وسألتك : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فذكرت أن لا ، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله .
    وسألتك : أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه ، وهم أتباع الرسل .
    وسألتك : أيزيدون أم ينقصون ؟ فذكرت أنهم يزيدون ، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم .
    وسألتك : أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فذكرت : أن لا ، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب .
    وسألتك : هل يغدر ؟ فذكرت : أن لا ، وكذلك الرسل لا تغدر .
    وسألتك : بم يأمركم ؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ، ولا تشركوا به شيئًا ، وينهاكم عن عبادة الأوثان ، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف . فإن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدمي هاتين ، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم ، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه .
    * * *
    ثم نأتي للجزء الثاني من المنهج القرآني لتحديد النبوة وهو حالة تلقي الوحي ، فبعد أن يصطفي الله رسله ويربيهم ويعني بهم العناية الكاملة يفاجئهم بتلقي الوحي .
    فبالنسبة للأنبياء السابقين على الإسلام يقول الله تعالى : وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى .
    وقال تعالى : فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ .
    ويفاجئ الرسول - صلى الله عليه وسلم - الوحي وهو في غار حراء ، وإذا كان الإمام البخاري قد ذكر الحديث الدال على ذلك في صحيحه فإن القرآن الكريم يعبر عنها بقوله :
    قال تعالى : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .
    وقال تعالى : نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ .
    أما شرح تلك الحالة : فقد ورد في صحيح البخاري بسنده عن السيدة عائشة أم المؤمنين أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء ، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء .
    فجاءه الملك فقال : اقرأ .
    قال : ما أنا بقارئ .
    قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ،
    فقال : اقرأ . قلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني الثانية حتى بلغ مني الجهد .
    فقال : اقرأ .
    فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني .
    فقال : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، فقال : زملوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر :
    لقد خشيت على نفسي .
    فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبدًا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى - ابن عم خديجة - وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية إلى ما شاء الله أن يكتب وكان شيخًا كبيرًا قد عمي .
    فقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك .
    فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟
    فأخبره - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى .
    فقال له ورقة : هذا الناموس ، الذي نزله الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعًا ، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك ؟
    فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أومخرجي هم ؟
    قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا ، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي .
    هذا هو المنهج القرآني لتعريف النبوة والذي يمثل لنا التعريف الصحيح لها باعتباره النص الذي أتانا من عند الله سبحانه وتعالى ، وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولنا أن نوجزه فنقول :
    ( النبوة سفارة بين الله وخلقه يقصد بها إصلاح أمرهم ، وهبة من الله سبحانه وتعالى يمنحها لمن يصطفيهم من عباده بعد أن يربيهم التربية الصحيحة التي بها يكونون مؤهلين لتلقي الوحي من الله سبحانه وتعالى في أي وقت ) .


    2- الفرق بين النبي والرسول:

    هل هناك فرق بين النبي والرسول ؟

    الواقع أن العلماء في إجابتهم على هذا السؤال انقسموا إلى فرقتين :
    الفرقة الأولى : قررت هذه الفرقة أنه لا يوجد أي فرق بين النبي والرسول فكلا اللفظين معناهما الإنباء والإخبار ، فالنبي هو من ينبئ والرسول يبلغ الرسالة ، وعلى ذلك فلا فرق بينهما . والواقع أن أصحاب هذا الرأي استندوا في تفسيرهم للفظين إلى اللغة باعتبار أن النبي اسم فاعل أو اسم مفعول ، والرسول اسم مفعول ، وبناء على هذا قرروا عدم وجود فرق بين اللفظين .
    الفرقة الثانية : وهم جمهور العلماء ، فقد قرروا وجود فرق بين لفظي نبي ورسول ، واستندوا في ذلك على القرآن والأحاديث الشريفة التي تؤيدهم في هذا الرأي ، ومن ذلك : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ .
    يقول الإمام الألوسي في تفسير الآية : وعطف نبي على رسول يدل على المغايرة بينهما وهو الشائع ، ويدل على المغايرة أيضًا ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الأنبياء فقال : مائةُ ألف وأربعةٌ وعشرون ألفًا ، قيل : فكم الرسل منهم ؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جمًا غفيرًا .
    ونضيف نحن قوله تعالى : وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا
    وقوله تعالى : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ
    فإن توارد الصفتين : الرسول والنبي على موصوف واحد في التنكير والتعريف يقتضي تباينًا ولو من وجه كما يقتضي تغايرًا ولو في المفهوم على ما بيناه في آخر المقام . هذه هي أهم الأدلة على وجود الفرق بين النبي والرسول وبها يرجح رأي الفرقة الثانية .

    - الفرق بين النبي والرسول على أشهر الآراء:

    اختلفت آراء العلماء في تحديد الفرق بين النبي والرسول ، بل إن بعضهم اختلفوا هم أنفسهم على قولين ، وباستقراء الآراء في تحديد الفرق بين النبي والرسول نجدها كالآتي :
    أولاً : الرسول هو من له كتاب أو نسخ لبعض أحكام الشريعة السابقة ، والنبي قد يخلو من ذلك كيوشع عليه السلام .
    ثانيًا : أن الرسول صاحب الوحي بواسطة الملك ، والنبي هو المخبر عن الله تعالى بكتاب أو إلهام أو تنبيه في المنام .
    ثالثًا : الرسول من يأتيه الملك عليه السلام بالوحي يقظة ، والنبي يقال له ولمن يوحى إليه في المنام لا غير .
    وقد عدد الإمام الألوسي بعض الآراء التي تمثل الجو العام للتفرقة بين النبي والرسول نذكر منها :
    رابعًا : الرسول ذكر حي بعثه الله بشرع جديد يدعو الناس إليه ، والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق ، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهما السلام .
    خامسًا : الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى إلى قوم بشرع جديد بالنسبة إليهم وإن لم يكن جديدًا في نفسه ، كإسماعيل عليه السلام ، إذ بعث لجرهم أولا . والنبي يعمه ، من بعث بشرع غير جديد كذلك.
    سادسًا : أن المشهور في عرف الشرع أن النبي أعم من الرسول ، فإنه من أوحى إليه وأمر بالتبليغ
    بدراستنا لهذه الآراء نجد أنها جميعًا لا تقدم لنا الفرق الكافي بين لفظي النبي والرسول ، بل إن بعضها يتهافت في نفسه عند أول طعن ، كالرأي الثالث الذي نقضه الإمام الألوسي ، وإذا كان أهم هذه الآراء وأشهرها وهو الرأي السادس ، فإننا بدراسته نجد أنه لا يحدد الفرق بين النبي والرسول تحديدًا بينًا فهو يخلط بينهما ، يجعل النبي نبيًا إذا لم يؤمر بالتبليغ ، ويجعله رسولا إذا أمر بالتبليغ ، مما لا يجعلنا نرى هناك فرقًا واضحًا بينهما ، ونشارك في ذلك الرأي الإمام الألوسي بقوله تعقيبًا على هذا الرأي :
    ( ولا يصح إرادة ذلك ؛ لأنه إذا قوبل العام بالخاص يراد بالعام ما عدا الخاص ، فمتى أريد بالنبي ما عدا الرسول ، كان المراد به من لم يؤمر بالتبليغ ، وحيث تعلق به الإرسال صار مأمورًا بالتبليغ ، فيكون رسولا فلم يبق في الآية بعد تعلق الإرسال رسول ونبي مقابل له ) .

    3- نهج القرآن في تحديد كل من النبي والرسول:

    أولاً : أنه ليس من الضروري أن يأتي الرسول بشريعة جديدة ، وهذا نأخذه من قوله سبحانه وتعالى عن يوسف عليه السلام : وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا .
    وقوله تعالى : إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (163) وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا .
    فإن يوسف عليه السلام كان يسير على شريعة إبراهيم عليه السلام، وداود وسليمان عليهما السلام كانا يسيران على شريعة التوراة ، ومع ذلك كانوا من الرسل .
    ثانيًا : أن الأنبياء يأتيهم وحي من الله سبحانه وتعالى فيبلغونه للمؤمنين ، مع وجود شريعة يعمل بها ، وهذا يكون كالفهم لها ، ولكنه فهم موحى به من قبل الله سبحانه وتعالى ، وهؤلاء كأنبياء بني إسرائيل ، ونرى ذلك كما في قول الله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا .
    فهم يطلبون وحيًا من الله يخبرهم بملك يقاتلون تحت قيادته .
    ثالثًا : عند قراءتنا لقول الله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ نجد أنه إرسال يشمل النبي والرسول ، إذن فهناك إشراك في جزء من الرسالة للنبي ، ويعلق على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله : قال الله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ وقوله : مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ فذكر إرسالاً يعم النوعين ، وقد خص أحدهما بأنه رسول ، فإن هذا هو الرسول المطلق ، الذي أمر بتبليغ رسالته إلى من خالف الله كنوح ، وقد ثبت في الصحيح أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض ، وقد كان قبله أنبياء كشيث وإدريس ، وقبلهما آدم كان نبيًا مكلمًا .
    قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون ، كلهم على الإسلام ، فأولئك الأنبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه ، ويأمرون به المؤمنين الذين عندهم ؛ لكونهم مؤمنين بهم ، كما يكون أهل الشريعة الواحدة يقبلون ما يبلغه العلماء عن الرسول . ا هـ ) .
    ومن هنا ، وبناء على ما ذكرناه استنادًا إلى كتاب الله تعالى ، فإننا نرتضي رأي الإمام ابن تيمية فهو الذي يسير مع المنهج القرآني حيث يقول : ( النبي هو الذي ينبئه الله ، وهو ينبئ بما أنبأه الله به ، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول ، أما إذا كان يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول ) .
    ونحن نضيف إلى هذا الرأي : أن مهمة النبي تتناول التبليغ عن الله عز وجل في أمور تتعلق بمصلحة المؤمنين ، والفصل في قضاياهم العامة كما قال تعالى : إِنَّا أَنْـزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ .
    كما تتناول الإشراف على سياسة الدولة وتولية المناصب من لدن الله عز وجل ، كما قال تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
    وكذلك تتناول التشريع في مسائل جزئية فيها صبغة التشريع المؤقت ، كما قال تعالى على لسان ذلك النبي : إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي .
    أما مهمة الرسول فهي شاملة لكل التشريعات القديمة أو الجديدة ، على أن تخصيص الرسول بإنزال كتاب جديد عليه قضية لم يقم عليها دليل ، ونحن نؤمن بأن جميع الأنبياء والرسل لا بد أن يكون معهم كتاب يكون دستورًا للشريعة التي يحكمون بها .
    قال تعالى : كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْـزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * الدكتور : منيع عبد الحليم محمود
    تاريخ الميلاد : 14 يناير 1945 بالزيتون - القاهرة - مصر .
    العمل : مدرس التفسير وعلوم القرآن بكلية أصول الدين جامعة الأزهر .
    التخصيص : التفسير وعلوم القرآن .
    المؤهلات :
    - حاصل على الشهادة العالية من كلية أصول الدين جامعة الأزهر وكان ترتيبه الأول على قسم التفسير والحديث .
    - حاصل على درجة الماجستير من كلية أصول الدين جامعة الأزهر في التفسير .
    - حاصل على درجة الدكتوراه من كلية أصول الدين جامعة الأزهر بمرتبة الشرف الأولى في التفسير ، وقررت لجنة المناقشة التوصية بطبع رسالته وتبادلها مع الجامعات الأخرى عام 1974 .
    المؤلفات : قام الدكتور منيع بتأليف وتحقيق العديد من الكتب منها : وكان خلقه القرآن ، دراسات في السيرة النبوية ، الأخلاق المتبولية ، أبو الأنبياء ، دراسة من القرآن الكريم ، الألوهية النبوة الأخلاق ، دراسة من سورة الفرقان .
    ولَه الكثير من البحوث والمقالات منها : الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القرآن الكريم ، الإمام القاسمي ومنهجه في التفسير ، الإمام البغوي ومنهجه في التفسير ، الإمام سفيان الثوري ومنهجه في التفسير ، الإمام الطبري ومنهجه في التفسير ، الإمام ابن كثير ومنهجه في التفسير . هذا غير الأحاديث الإذاعية .
    سافر إلى كثير من البلاد منها : المغرب ، حيث حضر الدروس الحسنية - وبومباي بالهند ، حيث حضر الحلقة الدولية للدراسات العربية الإسلامية - ومكة ، حيث حضر مؤتمر رسالة المسجد .
    العنوان : جمهورية مصر العربية - القاهرة - الزيتون - شارع العزيز بالله - منزل رقم 54.
    النبوة .. دراسة من القرآن الكريم الكاتب: منيع عبد الحليم محمود * (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثاني - الإصدار : من شوال إلى ربيع الأول لسنة 1395هـ 1396هــ) 1- مقدمة: فقط النبي مأخوذ من الإنباء ، فيتضمن معنى الإعلام والإخبار ، ولكنه في استعماله أخص من مطلق الإخبار ، فهو يستعمل في الإخبار بالأمور الغائبة المختصة دون المشاهدة المشتركة ، كما في قوله تعالى : وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ . وقال : فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ . وجمع النبي أنبياء ، وهو من النبأ ، وأصله الهمزة ، وقد قرئ بها ، وهي قراءة نافع . لكن لما كثر استعماله لينت همزته كما فعل مثل ذلك في الذرية وفي البرية . وقيل : هو من النَّبْوة - بفتح النون وسكون الباء ، وهي العلو ، فمعنى النبي : المعلى الرفيع المنزلة ، والأصح أن هذا المعنى لازم للأول ، فمن أنبأه الله وجعله منبئًا عنه ، فلا يكون إلا رفيع القدر عليًا . وأما لفظ العلو والرفعة فلا يدل على خصوص النبوة ، إذ يوصف بهذا من ليس نبيًا كما قال تعالى : وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . * * * ويقول الإمام ابن تيمية : وقراءة الهمزة قاطعة بأنه مهموز ، وما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أنا نبي الله ولست نبيء الله فما رأيت له إسنادًا ، لا سندًا ولا مرسلاً ، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث ، ولا السير المعروفة ، ومثل هذا لا يعتمد عليه . ثم يبين الإمام ابن تيمية أننا إذا اعتبرنا النبي مهموز الأصل ، فإن الهمزة يمكن أن تلين ، فذلك جائز ، فتصير حرفًا معتلاً ، فيعبر عنه باللفظين فترد إليه القراءتان بخلاف المعتل ، فإنه لا يجعل همزة ، فيجب القطع بأن النبي مأخوذ من الإنباء لا من النَّبْوة بفتح النون وسكون الباء . على أنه إذا كان هذا هو التحديد اللفظي واللغوي لمعنى النبوة ، فإن أغلب تحديدات معنى النبوة تدور حول هذا ولا تزيد عنه إلا قليلاً . فإن المشهور في عرف الشرع - كما يقول الإمام الألوسي - : ( إن النبي من أوحي إليه سواء أمر بالتبليغ أم لا ) . أما صاحب شرع المقاصد على المواقف فيقول : ( إن النبوة هو كون الإنسان مبعوثًا من الحق إلى الخلق ) . أما الإمام محمد عبده ، فإنه لا يحدد معنى النبوة بتعريفها بل يحددها بهدفها يقول : ( النبوة تحدد ما ينبغي أن يلحظ في جانب واجب الوجود من الصفات ، وما يحتاج إليه البشر كافة من ذلك ، وتشير إلى خاصتهم بما يمكن لهم أن يفضلوا به غيرهم في مقدمات عرفانهم ، لكنها لا تخدم إلا ما فيه الكفاية للعامة . على أننا إذا نظرنا إلى مجموع هذه التحديدات لمعنى النبوة نجد أنها لا تكفي كفاية تامة لتحديد معنى النبوة ، فلم تحدثنا هذه التعريفات ، عن علامات الرسل وسماتهم المحدودة ، وعن خلقهم قبل الاصطفاء للنبوة ، وبالتأكيد فإن هذه التعريفات لم تخرج عن نطاق التحديد اللفظي للنبوة ، ولم يخرج عن هذا النطاق سوى الشيخ محمد عبده ، حيث تكلم عن أهدافها دون تحديد تعريف لها . ولكن كيف يتأتى لنا أن نحدد معنى النبوة ؟ * * * إن التعريف الذي يحدد لنا معنى النبوة هو التعريف القرآني ، وهو الذي يخرجنا من هذه الدائرة الضيقة المحدودة للتعريفات السابقة . وتبدو لنا أولى الآيات التي تحدد لنا المعنى المراد في قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ويقول تعالى : وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا ويقول : وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي . تدلنا هذه الآيات على أن الله تعالى يصطفي الأنبياء ويجتبيهم لنفسه ويرسم حياتهم قبل ميلادهم . فيختار لهم النسب الشريف الذي يميزهم عن غيرهم ويصنعهم على عينه ، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله اصطفى من ولد إبراهيم : إسماعيلَ ، واصطفى من ولد إسماعيل : بني كنانة ، واصطفى من بني كنانة : قريشًا ، واصطفى من قريش : بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم . وليس هناك دليل على ما ذكرنا من قبل أكثر من قول الله سبحانه وتعالى عن سيدنا عيسى عليه السلام قبل أن يولد : إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا . ولعل ما يشرح الآيات السابقة بتفصيل أوسع ذلك الحديث الذي ذكره الإمام البخاري عن كيفية استدلال هِرَقل على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه ركز هرقل تركيزًا كبيرًا على حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة ؛ عن الإمام البخاري - رضي الله عنه - قال : حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ، قال : أخبرنا شعيب عن الزهري ، قال : أخبرني عبد الله بن عتبة بن مسعود : أن عبد الله بن عباس أخبره : أن أبا سفيان بن حرب أخبره : أن هرقل أرسل إليه في ركب قريش وكانوا تجارًا بالشام ، في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ، ثم دعاهم ودعا بترجمانه ، فقال : أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ فقال أبو سفيان فقلت : أنا أقربهم نسبًا . فقال : أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ، ثم قال لترجمانه : قل لهم : إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه ، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه . ثم كان أول ما سألني عنه : أن قال : كيف نسبه فيكم ؟ قلت : هو فينا ذو نسب . قال : فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله ؟ قلت : لا . قال : فهل كان من آبائه من ملك ؟ قلت : لا . قال : فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ فقلت : بل ضعفاؤهم . قال : أيزيدون أم ينقصون ؟ قلت : بل يزيدون . قال : فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قلت : لا . قال : فهل يغدر ؟ قلت : لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها . قال : ولم يكن كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة . قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت : نعم . قال : فكيف كان قتالكم إياه ؟ قلت : الحرب بيننا وبينه سجال : ينال منا وننال منه . قال : ماذا يأمركم ؟ قلت : يقول : اعبدوا الله وحده ، ولا تشركوا به شيئًا ، واتركوا ما يقول آباؤكم ، ويأمرنا بالصلاة ، والصدق ، والعفاف والصلة . فقال للترجمان : قل له : سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب ، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها . وسألتك : هل قال أحد منكم هذا القول ؟ فذكرت أن لا ، فقلت : لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت : رجل يأتسي بقول قيل قبله . وسألتك : هل كان من آبائه من ملك ؟ فذكرت أن لا ، قلت : فلو كان في آبائه من ملك لقلت : رجل يطلب ملك أبيه . وسألتك : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فذكرت أن لا ، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله . وسألتك : أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه ، وهم أتباع الرسل . وسألتك : أيزيدون أم ينقصون ؟ فذكرت أنهم يزيدون ، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم . وسألتك : أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فذكرت : أن لا ، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب . وسألتك : هل يغدر ؟ فذكرت : أن لا ، وكذلك الرسل لا تغدر . وسألتك : بم يأمركم ؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ، ولا تشركوا به شيئًا ، وينهاكم عن عبادة الأوثان ، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف . فإن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدمي هاتين ، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم ، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه . * * * ثم نأتي للجزء الثاني من المنهج القرآني لتحديد النبوة وهو حالة تلقي الوحي ، فبعد أن يصطفي الله رسله ويربيهم ويعني بهم العناية الكاملة يفاجئهم بتلقي الوحي . فبالنسبة للأنبياء السابقين على الإسلام يقول الله تعالى : وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى . وقال تعالى : فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ . ويفاجئ الرسول - صلى الله عليه وسلم - الوحي وهو في غار حراء ، وإذا كان الإمام البخاري قد ذكر الحديث الدال على ذلك في صحيحه فإن القرآن الكريم يعبر عنها بقوله : قال تعالى : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وقال تعالى : نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ . أما شرح تلك الحالة : فقد ورد في صحيح البخاري بسنده عن السيدة عائشة أم المؤمنين أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء ، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء . فجاءه الملك فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ . قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . قلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني الثانية حتى بلغ مني الجهد . فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني . فقال : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، فقال : زملوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسي . فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبدًا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى - ابن عم خديجة - وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية إلى ما شاء الله أن يكتب وكان شيخًا كبيرًا قد عمي . فقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك . فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى . فقال له ورقة : هذا الناموس ، الذي نزله الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعًا ، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أومخرجي هم ؟ قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا ، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي . هذا هو المنهج القرآني لتعريف النبوة والذي يمثل لنا التعريف الصحيح لها باعتباره النص الذي أتانا من عند الله سبحانه وتعالى ، وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولنا أن نوجزه فنقول : ( النبوة سفارة بين الله وخلقه يقصد بها إصلاح أمرهم ، وهبة من الله سبحانه وتعالى يمنحها لمن يصطفيهم من عباده بعد أن يربيهم التربية الصحيحة التي بها يكونون مؤهلين لتلقي الوحي من الله سبحانه وتعالى في أي وقت ) . 2- الفرق بين النبي والرسول: هل هناك فرق بين النبي والرسول ؟ الواقع أن العلماء في إجابتهم على هذا السؤال انقسموا إلى فرقتين : الفرقة الأولى : قررت هذه الفرقة أنه لا يوجد أي فرق بين النبي والرسول فكلا اللفظين معناهما الإنباء والإخبار ، فالنبي هو من ينبئ والرسول يبلغ الرسالة ، وعلى ذلك فلا فرق بينهما . والواقع أن أصحاب هذا الرأي استندوا في تفسيرهم للفظين إلى اللغة باعتبار أن النبي اسم فاعل أو اسم مفعول ، والرسول اسم مفعول ، وبناء على هذا قرروا عدم وجود فرق بين اللفظين . الفرقة الثانية : وهم جمهور العلماء ، فقد قرروا وجود فرق بين لفظي نبي ورسول ، واستندوا في ذلك على القرآن والأحاديث الشريفة التي تؤيدهم في هذا الرأي ، ومن ذلك : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ . يقول الإمام الألوسي في تفسير الآية : وعطف نبي على رسول يدل على المغايرة بينهما وهو الشائع ، ويدل على المغايرة أيضًا ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الأنبياء فقال : مائةُ ألف وأربعةٌ وعشرون ألفًا ، قيل : فكم الرسل منهم ؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جمًا غفيرًا . ونضيف نحن قوله تعالى : وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا وقوله تعالى : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ فإن توارد الصفتين : الرسول والنبي على موصوف واحد في التنكير والتعريف يقتضي تباينًا ولو من وجه كما يقتضي تغايرًا ولو في المفهوم على ما بيناه في آخر المقام . هذه هي أهم الأدلة على وجود الفرق بين النبي والرسول وبها يرجح رأي الفرقة الثانية . - الفرق بين النبي والرسول على أشهر الآراء: اختلفت آراء العلماء في تحديد الفرق بين النبي والرسول ، بل إن بعضهم اختلفوا هم أنفسهم على قولين ، وباستقراء الآراء في تحديد الفرق بين النبي والرسول نجدها كالآتي : أولاً : الرسول هو من له كتاب أو نسخ لبعض أحكام الشريعة السابقة ، والنبي قد يخلو من ذلك كيوشع عليه السلام . ثانيًا : أن الرسول صاحب الوحي بواسطة الملك ، والنبي هو المخبر عن الله تعالى بكتاب أو إلهام أو تنبيه في المنام . ثالثًا : الرسول من يأتيه الملك عليه السلام بالوحي يقظة ، والنبي يقال له ولمن يوحى إليه في المنام لا غير . وقد عدد الإمام الألوسي بعض الآراء التي تمثل الجو العام للتفرقة بين النبي والرسول نذكر منها : رابعًا : الرسول ذكر حي بعثه الله بشرع جديد يدعو الناس إليه ، والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق ، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهما السلام . خامسًا : الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى إلى قوم بشرع جديد بالنسبة إليهم وإن لم يكن جديدًا في نفسه ، كإسماعيل عليه السلام ، إذ بعث لجرهم أولا . والنبي يعمه ، من بعث بشرع غير جديد كذلك. سادسًا : أن المشهور في عرف الشرع أن النبي أعم من الرسول ، فإنه من أوحى إليه وأمر بالتبليغ بدراستنا لهذه الآراء نجد أنها جميعًا لا تقدم لنا الفرق الكافي بين لفظي النبي والرسول ، بل إن بعضها يتهافت في نفسه عند أول طعن ، كالرأي الثالث الذي نقضه الإمام الألوسي ، وإذا كان أهم هذه الآراء وأشهرها وهو الرأي السادس ، فإننا بدراسته نجد أنه لا يحدد الفرق بين النبي والرسول تحديدًا بينًا فهو يخلط بينهما ، يجعل النبي نبيًا إذا لم يؤمر بالتبليغ ، ويجعله رسولا إذا أمر بالتبليغ ، مما لا يجعلنا نرى هناك فرقًا واضحًا بينهما ، ونشارك في ذلك الرأي الإمام الألوسي بقوله تعقيبًا على هذا الرأي : ( ولا يصح إرادة ذلك ؛ لأنه إذا قوبل العام بالخاص يراد بالعام ما عدا الخاص ، فمتى أريد بالنبي ما عدا الرسول ، كان المراد به من لم يؤمر بالتبليغ ، وحيث تعلق به الإرسال صار مأمورًا بالتبليغ ، فيكون رسولا فلم يبق في الآية بعد تعلق الإرسال رسول ونبي مقابل له ) . 3- نهج القرآن في تحديد كل من النبي والرسول: أولاً : أنه ليس من الضروري أن يأتي الرسول بشريعة جديدة ، وهذا نأخذه من قوله سبحانه وتعالى عن يوسف عليه السلام : وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا . وقوله تعالى : إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (163) وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . فإن يوسف عليه السلام كان يسير على شريعة إبراهيم عليه السلام، وداود وسليمان عليهما السلام كانا يسيران على شريعة التوراة ، ومع ذلك كانوا من الرسل . ثانيًا : أن الأنبياء يأتيهم وحي من الله سبحانه وتعالى فيبلغونه للمؤمنين ، مع وجود شريعة يعمل بها ، وهذا يكون كالفهم لها ، ولكنه فهم موحى به من قبل الله سبحانه وتعالى ، وهؤلاء كأنبياء بني إسرائيل ، ونرى ذلك كما في قول الله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا . فهم يطلبون وحيًا من الله يخبرهم بملك يقاتلون تحت قيادته . ثالثًا : عند قراءتنا لقول الله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ نجد أنه إرسال يشمل النبي والرسول ، إذن فهناك إشراك في جزء من الرسالة للنبي ، ويعلق على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله : قال الله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ وقوله : مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ فذكر إرسالاً يعم النوعين ، وقد خص أحدهما بأنه رسول ، فإن هذا هو الرسول المطلق ، الذي أمر بتبليغ رسالته إلى من خالف الله كنوح ، وقد ثبت في الصحيح أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض ، وقد كان قبله أنبياء كشيث وإدريس ، وقبلهما آدم كان نبيًا مكلمًا . قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون ، كلهم على الإسلام ، فأولئك الأنبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه ، ويأمرون به المؤمنين الذين عندهم ؛ لكونهم مؤمنين بهم ، كما يكون أهل الشريعة الواحدة يقبلون ما يبلغه العلماء عن الرسول . ا هـ ) . ومن هنا ، وبناء على ما ذكرناه استنادًا إلى كتاب الله تعالى ، فإننا نرتضي رأي الإمام ابن تيمية فهو الذي يسير مع المنهج القرآني حيث يقول : ( النبي هو الذي ينبئه الله ، وهو ينبئ بما أنبأه الله به ، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول ، أما إذا كان يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول ) . ونحن نضيف إلى هذا الرأي : أن مهمة النبي تتناول التبليغ عن الله عز وجل في أمور تتعلق بمصلحة المؤمنين ، والفصل في قضاياهم العامة كما قال تعالى : إِنَّا أَنْـزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ . كما تتناول الإشراف على سياسة الدولة وتولية المناصب من لدن الله عز وجل ، كما قال تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وكذلك تتناول التشريع في مسائل جزئية فيها صبغة التشريع المؤقت ، كما قال تعالى على لسان ذلك النبي : إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي . أما مهمة الرسول فهي شاملة لكل التشريعات القديمة أو الجديدة ، على أن تخصيص الرسول بإنزال كتاب جديد عليه قضية لم يقم عليها دليل ، ونحن نؤمن بأن جميع الأنبياء والرسل لا بد أن يكون معهم كتاب يكون دستورًا للشريعة التي يحكمون بها . قال تعالى : كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْـزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * الدكتور : منيع عبد الحليم محمود تاريخ الميلاد : 14 يناير 1945 بالزيتون - القاهرة - مصر . العمل : مدرس التفسير وعلوم القرآن بكلية أصول الدين جامعة الأزهر . التخصيص : التفسير وعلوم القرآن . المؤهلات : - حاصل على الشهادة العالية من كلية أصول الدين جامعة الأزهر وكان ترتيبه الأول على قسم التفسير والحديث . - حاصل على درجة الماجستير من كلية أصول الدين جامعة الأزهر في التفسير . - حاصل على درجة الدكتوراه من كلية أصول الدين جامعة الأزهر بمرتبة الشرف الأولى في التفسير ، وقررت لجنة المناقشة التوصية بطبع رسالته وتبادلها مع الجامعات الأخرى عام 1974 . المؤلفات : قام الدكتور منيع بتأليف وتحقيق العديد من الكتب منها : وكان خلقه القرآن ، دراسات في السيرة النبوية ، الأخلاق المتبولية ، أبو الأنبياء ، دراسة من القرآن الكريم ، الألوهية النبوة الأخلاق ، دراسة من سورة الفرقان . ولَه الكثير من البحوث والمقالات منها : الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القرآن الكريم ، الإمام القاسمي ومنهجه في التفسير ، الإمام البغوي ومنهجه في التفسير ، الإمام سفيان الثوري ومنهجه في التفسير ، الإمام الطبري ومنهجه في التفسير ، الإمام ابن كثير ومنهجه في التفسير . هذا غير الأحاديث الإذاعية . سافر إلى كثير من البلاد منها : المغرب ، حيث حضر الدروس الحسنية - وبومباي بالهند ، حيث حضر الحلقة الدولية للدراسات العربية الإسلامية - ومكة ، حيث حضر مؤتمر رسالة المسجد . العنوان : جمهورية مصر العربية - القاهرة - الزيتون - شارع العزيز بالله - منزل رقم 54.
    0
  • {وفي سبيل الله}

    هيئة كبار العلماء

    (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - االعدد الثاني - الإصدار : من شوال إلى ربيع الأول لسنة 1395هـ 1396هــ)

    1- بيان المراد من قوله تعالى في آية مصارف الزكاة وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ:
    الحمد لله وحده ، وبعد :
    فقد عرض على هيئة كبار العلماء في دورتها الخامسة المنعقدة بمدينة الطائف فيما بين يوم 5 \ 8 \ 94 هـ ويوم 22 \ 8 \ 94 هـ موضوع بيان المراد من قوله تعالى في آية مصارف الزكاة وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ورغبة في إطلاع قراء مجلة البحوث الإسلامية على هذا البحث القيم نشره بنصه .
    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
    فبناء على ما تقرر من إدراج بيان المراد من قوله تعالى في آية مصارف الزكاة ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ في جدول أعمال هيئة كبار العلماء لدورتها الخامسة هل هو خاص بالجهاد في سبيل الله أو عام في كل وجه من وجوه البر ، أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثًا مشتملاً على أقوال أهل العلم في ذلك مع ذكر مستند كل قول ومناقشته .

    {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ }
    اختلف العلماء رحمهم الله في تعيين المقصود من قوله تعالى في آية حصر أهل الزكاة وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ على ثلاثة أقوال :
    أحدها : أن المقصود بذلك الغزاة في سبيل الله ، وقد قال بهذا القول جمهور العلماء من المفسرين والمحدثين والفقهاء ، وفيما يلي نقل لبعض أقوالهم .
    * * *
    قال ابن جرير الطبري : وأما قوله وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ فإنه يعني : وفي النفقة في نصرة دين الله وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده بقتال أعدائه وذلك هو غزو الكفار ، وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
    ذكر من قال ذلك : حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قال : الغازي في سبيل الله ، حدثنا ابن وكيع قال حدثنا أبي عن سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : رجل عمل عليها ورجل اشتراها بماله . وفي سبيل الله ، وابن السبيل ، أو رجل كان له جار تصدق عليه فأهداها له ا هـ .
    * * *
    وقال القرطبي : الثانية والعشرون قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ هم الغزاة وموضع الرباط يعطون ما ينفقون في غزوهم كانوا أغنياء أو فقراء ، وهذا قول أكثر العلماء ، وهو تحصيل مذهب مالك رحمه الله . ا هـ .
    * * *
    وقال ابن العربي : ( المسألة التاسعة عشر قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قال مالك : سبل الله كثيرة ولكني لا أعلم خلافًا في أن المراد بسبيل الله هاهنا : الغزو ، ومن جملة سبيل الله إلا ما يؤثر عن أحمد وإسحاق فإنهما قالا : إنه الحج ، والذي يصح عندي من قولهما أن الحج من جملة السبل مع الغزو . لأنه طريق بر فأعطي منه باسم السبيل ، وهذا يحل عقد الباب ويخرم قانون الشريعة وينثر سلك النظر . وما جاء قط بإعطاء الزكاة في الحج أثر . وقد قال علماؤنا : ويعطى منها الفقير بغير خلاف ؛ لأنه قد سمي في أول الآية ، ويعطى الغني عند مالك بوصف سبيل الله تعالى ، كان غنيًا في بلده أو في موضعه الذي يأخذ به لا يلتفت إلى غير ذلك من قوله الذي يؤثر عنه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : غاز في سبيل الله .
    وقال أبو حنيفة : لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرًا ، وهذه زيادة على النص . وعنده أن الزيادة على النص نسخ ، ولا نسخ في القرآن إلا بقرآن مثله أو بخبر متواتر ، وقد بينا أنه فعل مثل هذا في الخمس في قوله وَلِذِي الْقُرْبَى فشرط في قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفقر ، وحينئذ يعطون من الخمس . هذا كله ضعيف حسبما بيناه .
    وقال محمد بن عبد الحكم : يعطى من الصدقة في الكراع والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الحرب وكف العدو عن الحوزة ؛ لأنه كله في سبيل الغزو ومنفعته ، وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصدقة مائة ناقة في نازلة سهل بن حثمة إطفاء للثائرة ا هـ .
    * * *
    وقال الجصاص : قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ روى ابن أبي ليلى عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله أو ابن السبيل أو رجل له جار مسكين تصدق عليه فأهدى له . واختلف الفقهاء في ذلك فقال قائلون : هي للمجاهدين الأغنياء منهم والفقراء ، وهو قول الشافعي .
    وقال الشافعي : لا يعطى منها إلا الفقراء منهم ، ولا يعطى الأغنياء من المجاهدين فإن أعطوا ملكوها وأجزأ المعطي وإن لم يصرفه في سبيل الله ؛ لأن شرطها تمليكه وقد حصل لمن هذه صفته فأجزأ ، وقد روي أن عمر تصدق بفرس في سبيل الله فوجده يباع بعد ذلك فأراد أن يشتريه ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تعد في صدقتك فلم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم المحمول على الفرس من بيعها . - إلى أن قال - :
    وروي عن أبي يوسف فيمن أوصى بثلث ماله في سبيل الله أنه للفقراء الغزاة .
    فإن قيل : فقد أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - لأغنياء الغزاة أخذ الصدقة بقوله : لا تحل لغني إلا في سبيل الله .
    قيل له : قد يكون الرجل غنيًّا في أهله وبلده بدار يسكنها وأثاث يتأثث به في بيته وخادم يخدمه وفرس يركبه وله فضل مائتي درهم أو قيمتها فلا تحل له الصدقة ، فإذا عزم على الخروج في سفر غزو واحتاج من آلات السفر والسلاح والعدة إلى ما لم يكن محتاجًا إليه في حال إقامته فينفق الفضل عن أثاثه وما يحتاج إليه في مصره على السلاح والآلة والعدة ، فتجوز له الصدقة ، وجائز أن يكون الفضل عما يحتاج إليه ؛ من دابة الأرض أو سلاح أو شيء من آلات السفر لا يحتاج إليه في المصر فيمنع ذلك جواز إعطائه الصدقة إذا كان ذلك يساوي مائتي درهم ، وإن هو خرج للغزو فاحتاج إلى ذلك جاز أن يعطى من الصدقة وهو غني في هذا الوجه ، فهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : الصدقة تحل للغازي الغني . ا هـ .
    ( الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 28)
    وقال السيوطي : في تفسير قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قال : هم المجاهدون ، وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قال : الغازي في سبيل الله . ا هـ .
    * * *
    وقال الخازن : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني وفي النفقة في سبيل الله ، وأراد به الغزاة فلهم سهم من مال الصدقات فيعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو ما يستعينون به على أمر الجهاد من النفقة والكسوة والسلاح والحمولة فيعطون ذلك وإن كانوا أغنياء . ا هـ .
    * * *
    وقال الشوكاني : في تفسيره : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ هم الغزاة والمرابطون يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم وإن كانوا أغنياء ، وهذا قول أكثر العلماء . ا هـ .
    * * *
    وقال ابن حجر العسقلاني : وأما في سبيل الله فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنيًا كان أو فقيرًا إلا أن أبا حنيفة قال : يختص بالغازي المحتاج .
    * * *
    وقال بدر الدين العيني : قوله وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وهو منقطع الغزاة عند أبي يوسف ومنقطع الحاج عند محمد . وفي المبسوط وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ فقراء الغزاة عند أبي يوسف . وعند محمد فقراء الحاج .
    وقال ابن المنذر : وفي الأشراف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد : سبيل الله هو : الغازي غير الغني ، وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة أنه الغازي دون الحاج ، وذكر ابن بطال : أنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي ، ومثله النووي في شرح المهذب ، وقال صاحب التوضيح : وأما قول أبي حنيفة : لا يعطى الغازي من الزكاة إلا أن يكون محتاجًا فهو خلاف ظاهر الكتاب والسنة . فأما الكتاب فقوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وأما السنة : فروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لعامل عليها أو لغاز في سبيل الله أو غني اشتراها بماله أو فقير تُصُدِّق عليه فأهدى لغني أو غارم .
    ( قلت ) ما أحسن الأدب سيما مع الأكابر ، وأبو حنيفة لم يخالف الكتاب ولا السنة وإنما عمل بالسنة فيما ذهب إليه وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني وقال : المراد من قوله : لغاز في سبيل الله هو الغازي الغني بقوة البدن والقدرة على الكسب لا الغني بالنصاب الشرعي ، بدليل حديث معاذ : وردها إلى فقرائهم . ا هـ .
    * * *
    وقال أبو الحسن المباركفوري : اختلفوا في المراد من سبيل الله في آية المصارف فقيل : المراد به الغزاة وعليه الجمهور ، قال الباجي : هو الغزو والجهاد قاله مالك وجمهور الفقهاء ، وقال الخرقي : وسهم في سبيل الله هم الغزاة ، قال ابن قدامة : هذا الصنف السابع من أهل الزكاة ولا خلاف في استحقاقهم ولا خلاف في أنهم الغزاة في سبيل الله ؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق هو الغزو . ا هـ . ثم اختلف أهل هذا القول فقال الأكثر : أنهم يعطون ما ينفقون في غزوهم وإن كانوا أغنياء .
    وقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرًا منقطعًا به .
    قال الحافظ : أما سبيل الله فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنيًا كان أو فقيرًا إلا أن أبا حنيفة قال : يختص بالغازي المحتاج - ثم ذكر الأقوال الأخرى في المراد بقوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ثم قال : والقول الراجح عندي : هو ما ذهب إليه الجمهور من أن المراد به الغزو والجهاد خاصة لأن سبيل الله إذا أطلق في عرف الشرع فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى كأنه مقصور عليه ، قال ابن العربي في أحكام القرآن : قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قال مالك : سبل الله كثيرة ولكني لا أعلم خلافًا في أن المراد بسبيل الله هاهنا الغزو لحديث عطاء بن يسار الذي نحن في شرحه وهو حديث صريح مفسر لقوله : " في سبيل الله " في الآية ، فيجب حمله عليه ولم أر عنه جوابًا شافيًا من أحد ، وإليه ذهب ابن حزم إذ قال : وأما سبيل الله فهو الجهاد بحق ، ثم ذكر حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد من طريق أبي داود وهو الذي رجحه ابن قدامة حيث قال : وهذا أصح ؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق إنما ينصرف إلى الجهاد ، فإن كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما أريد به الجهاد إلا اليسير فيجب أن يحمل ما في هذه الآية على ذلك ؛ لأن الظاهر إرادته به انتهى . وهو الذي صححه الخازن في تفسيره حيث قال : والقول الأول هو الصحيح ؛ لإجماع الجمهور عليه ورجحه أيضًا العلامة القنوجي اليوناني في تفسيره إذ قال : والأول أولى لإجماع الجمهور عليه ، وبه فسر الشوكاني في فتح القدير ورجحه ، واختاره أيضًا غيرهم من المفسرين . ا هـ .
    * * *
    وقال أبو سليمان الخطابي في معرض تعليقه على حديث عطاء بن يسار : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة ما نصه : .
    قلت : فيه بيان أن للغازي - وإن كان غنيًا - أن يأخذ الصدقة ويستعين بها في غزوه وهو من - سهم سبيل الله - وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه ، وقال أصحاب الرأي : لا يجوز أن يعطى للغازي من الصدقة إلا أن يكون منقطعًا به.
    قلت : سهم السبيل غير سهم ابن السبيل وقد فرق الله بينهما بالتسمية وعطف أحدهما على الآخر بالواو الذي هو حرف الفرق بين المذكورين المنسوق أحدهما على الأخرى فقال : ( 9 : 6 وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ والمنقطع به هو ابن السبيل ، فأما سهم السبيل فهو على عمومه ، وظاهره في الكتاب وقد جاء في الحديث ما بينه ووكد أمره فلا وجه للذهاب عنه . ا هـ .
    * * *
    قال ابن الأثير : وسبيل الله عام يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات ، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد ، حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه .
    ( الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 31)
    وقال البابرتي على عبارة الهداية وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ منقطع الغزاة عند أبي يوسف رحمه الله . ولا يصرف إلى أغنياء الغزاة عندنا ؛ لأن المصرف هو للفقراء ، وقوله : منقطع الغزاة أي فقراء الغزاة . . . ولا يصرف إلى أغنياء الغزاة عندنا ؛ لأن المصرف هو للفقراء ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم.
    وقال الشافعي : يجوز ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة جملة الغزاة في سبيل الله وتأويله الغني بقوة البدن ومعناه أن المستغني بكسبه لقوة بدنه لا يحل له طلب الصدقة إلا إذا كان غازيًا يحل لاشتغاله بالجهاد عن الكسب . ا هـ .
    * * *
    وفي الفتاوى الهندية ما نصه : ومنها في سبيل الله وهم منقطعو الغزاة الفقراء منهم عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وعند محمد رحمه الله تعالى منقطعو الحاج الفقراء منهم . هكذا في التبيين ، والصحيح قول أبي يوسف رحمه الله تعالى كذا في المضمرات .
    * * *
    وقال أبو البركات أحمد دردير في شرحه : وأشار للسابع بقولِه : ومجاهد أي : المتلبس به إن كان ممن يجب عليه لكونه حرًا مسلمًا بالغًا قادرًا ، ولا بد أن يكون غير هاشمي ، ويدخل فيه المرابط وآلته كسيف ورمح تشترى منها ، ولو كان المجاهد غنيًا حين غزوه كجاسوس يرسل للاطلاع على عورات العدو يعلمنا بها فيعطى ولو كافرًا ، ولا تصرف الزكاة في سور حول البلد لتحفظ به من الكفار ولا في عمل مركب يقاتل فيها العدو . ا هـ .
    وقال المواق : ومجاهد وآلته ولو غنيًا . ابن عرفة : من الثمانية الأصناف التي تصرف الزكاة فيها سبيل الله . أبو عمرو : ذلك الجهاد والرباط . اللخمي : ويعطى الغازي الفقير حيث غزوه الغني ببلده ويعطى الغزاة المقيمون في نحر العدو _ وإن كانوا أغنياء _ حيث غزوهم ، واختلف إذا كان غنيًا بالموضع الذي هو به ، فقيل : يعطى ؛ لحديث لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة ؛ لغاز الحديث ، ولأن أخذه في معنى المعاوضة والأجرة إذا كان أوقف نفسه لذلك ، ولأن في إعطائه ضربًا من الاستئلاف لمشقة ما يكلفون من بذل النفوس . ا هـ .
    * * *
    وقال الإمام الشافعي : ويعطى من سهم سبيل الله جل وعز من غزا من جيران الصدقة فقيرًا كان أو غنيًا ، ولا يعطى منه غيرهم إلا أن يحتاج إلى الدفع عنهم فيعطاه من دفع عنهم المشركين . ا هـ .
    * * *
    وقال النووي على المهذب : قال المصنف رحمه الله تعالى : وسهم في سبيل الله وهم الغزاة إذا نشطوا غزوا ، وأما من كان مرتبًا في ديوان السلطان من جيوش المسلمين فإنهم لا يعطون من الصدقة بسهم الغزاة ؛ لأنهم يأخذون أرزاقهم وكفايتهم من الفيء . قال النووي : ومذهبنا أن سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة يصرف إلى الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان بل يغزون متطوعين ، وبه قال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى . .
    وقال النووي أيضًا في معرض الاحتجاج بما عليه المذهب الشافعي من أن سهم سبيل الله يصرف إلى الغزاة :
    واحتج أصحابنا بأن المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن سبيل الله تعالى هو الغزو وأكثر ما جاء في القرآن كذلك ، واحتج الأصحاب أيضًا بحديث أبي سعيد السابق في فصل الغارمين لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة فذكر منهم الغارم وليس في الأصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة الذين نعطيهم من سهم سبيل الله تعالى . ا هـ .
    وقال ابن قدامة : السابع في سبيل الله وهم الغزاة لا ديوان لهم ولا يعطى منها في الحج . اهـ . وقال في حاشية المقنع على قولِه : السابع في سبيل الله : لا خلاف في استحقاقهم وبقاء حكمهم ، ولا خلاف في أنهم الغزاة ؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق هو الغزو ، وقال الله تعالى : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وقال : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ وإنما يستحق هذا الاسم الغزاة الذين لا ديوان لهم وإنما يتطوعون بالغزو إذا نشطوا ، وهم الذين لا ديوان لهم أي لا حق لهم في الديوان ؛ لأن من له رزق راتب فهو مستغن به فيدفع إليهم كفاية غزوهم وعودهم - إلى أن قال : قوله : ( ولا يعطي منها في الحج ) في رواية اختارها في المغني وصححها في الشرح ، وقاله أكثر العلماء منهم مالك وأبو حنيفة والثوري والشافعي وأبو ثور وابن المنذر ؛ لأن سبيل الله حيث أطلق ينصرف إلى الجهاد غالبًا . والزكاة لا تصرف إلا لمحتاج إليها كالفقير أو من يحتاجه المسلمون كالعامل . والحج لا نفع منه للمسلمين ولا حاجة بهم إليه ، والفقير لا فرض في ذمته فيسقطه ، وإن أراد به التطوع فتوفير هذا القدر على ذوي الحاجة أو صرفها في مصالح المسلمين أولى . ا هـ .
    * * *
    وقال المرداوي في أثناء الكلام على أصناف أهل الزكاة :
    قوله السابع : ( في سبيل الله وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم . ) فلهم الأخذ منها بلا نزاع ، لكن لا يصرفون ما يأخذون إلا لجهة واحدة . كما تقدم في المكاتب والغارم .
    تنبيه : ظاهر قوله : ( وهم الذين لا ديوان لهم ) أنه لو كان يأخذ من الديوان لا يعطى منها . وهو صحيح لكن بشرط أن يكون فيه ما يكفيه . فإن لم يكن فيه ما يكفيه فله أخذ تمام ما يكفيه . قاله في الرعاية وغيرها .
    - إلى أن قال - قوله : ( لا يعطى منها في الحج ) هذا إحدى الروايتين . اختاره المصنف والشارع ، وقالا : هي أصح . وجزم به في الوجيز . ا هـ .
    * * *
    وقال ابن حزم : وأما سبيل الله فهو الجهاد بحق .
    حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا ابن السليم حدثنا ابن الأعرابي حدثنا أبو داود حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : الغازي في سبيل الله ، أو العامل عليها أو الغارم ، أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهداها للغني .
    وقد روي هذا الحديث من غير معمر فأوقفه بعضهم ونقص بعضهم مما ذكر فيه معمر . وزيادة العدل لا يحل تركها .
    فإن قيل : قد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن الحج من سبيل الله . وصح عن ابن عباس أن يعطى منها في الحج .
    قلنا : نعم ، وكل فعل خير من سبيل الله تعالى ، إلا أنه لا خلاف في أنه تعالى لم يرد كل وجه من وجوه البر في قسمة الصدقات فلم يجز أن توضع إلا حيث بين النص ، وهو الذي ذكرنا . وبالله التوفيق . ا هـ .
    وقد استدل أصحاب هذا القول بما يأتي :
    ( 1 ) بأن سبيل الله إذا أطلق في عرف الشرع فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى كأنه مقصور عليه ؛ لأن كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما يريد به الجهاد إلا اليسير ، فيجب أن يحمل قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ عليه ؛ لأن الظاهر إرادته ، قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ
    ( 2 ) بأن حديث عطاء بن يسار لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله الحديث وهو حديث صريح مفسر لقوله تعالى وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ فيجب حمله عليه.
    ( 3 ) بما ورد من الآثار الدالة على أن المقصود بسبيل الله الجهاد ، ومن ذلك ما ذكره الطبري في تفسيره قال : حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قال الغازي في سبيل الله . وما ذكره السيوطي في تفسيره الدر المنثور قال : أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قال : هم المجاهدون . وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قال : الغازي في سبيل الله
    * * *
    والقول الثاني : أن المراد بسبيل الله الغزاة والحجاج والعمار ، وقد قال بهذا القول مجموعة من العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء ، وفيما يلي بعض من أقوالهم :
    وقال ابن كثير : وأما في سبيل الله فمنهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان ، وعند الإمام أحمد والحسن وإسحاق من سبيل الله ؛ للحديث .
    * * *
    وقال الخازن في تفسير قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وقال قوم : يجوز أن يصرف سهم سبيل الله إلى الحج . يروى ذلك عن ابن عباس ، وهو قول الحسن وإليه ذهب أحمد ابن حنبل وإسحاق بن راهويه . ا هـ .
    * * *
    وقال الشوكاني في تفسيره قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وقال ابن عمر : هم الحجاج والعمار ، وروي عن أحمد وإسحاق أنهما جعلا الحج من سبيل الله . ا هـ .
    * * *
    وقال القرطبي : الثانية والعشرون - قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ هم الغزاة وموضع الرباط - إلى أن قال - وقال ابن عمر : الحجاج والعمار . ويؤثر عن أحمد وإسحاق رحمهما الله أنهما قالا : سبيل الله الحج . وفي البخاري : ويذكر عن أبي لاس : حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل الصدقة للحج . ويذكر عن ابن عباس : ويعتق من ( زكاة ) ماله ويعطى في الحج . خرج أبو محمد عبد الغني الحافظ حدثنا محمد بن محمد الخياش ، حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا مهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب عن عبد الرحمن بن أبي نعم - ويكنى أبا الحكم - قال : كنت جالسًا مع عبد الله بن عمر فأتته امرأة فقالت له : يا أبا عبد الرحمن ، إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله ، قال ابن عمر : فهو كما قال في سبيل الله : فقلت : أما زدتها فيما سألت عنه إلا غمًا ، قال : فما تأمرني يا ابن أبي نعم ، آمرها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون فيعتدون في الأرض ويقطعون السبيل ؟ قال : قلت فما تأمرها . قال : آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين ، إلى حجاج بيت الله الحرام ، أولئك وفد الرحمن ، أولئك وفد الرحمن ، أولئك وفد الرحمن ، ليسوا كوفد الشيطان ، ثلاثًا يقولها ، قلت : يا أبا عبد الرحمن وما وفد الشيطان ؟ قال : قوم يدخلون على هؤلاء الأمراء فينمون إليهم الحديث ويسعون في المسلمين بالكذب فيجازون الجوائز ويعطون عليه العطايا . ا هـ .
    * * *
    وقال الجصاص : وإن أعطى حاجًا منقطعًا به أجزأ أيضًا ، وقد روي عن ابن عمر أن رجلاً أوصى بماله في سبيل الله فقال ابن عمر : إن الحج في سبيل الله فاجعله فيه ، وقال محمد بن الحسن في السير الكبير في رجل أوصى بثلث ماله في سبيل الله أنه يجوز أن يجعل في الحاج المنقطع به ، وهذا يدل على أن قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قد أريد به عند محمد الحج المنقطع به ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الحج والعمرة من سبيل الله . ا هـ .
    * * *
    وقال البخاري : باب قوله تعالى : الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما : يعتق من زكاة ماله ويعطى في الحج . وقال الحسن : إن اشترى أباه من الزكاة جاز ويعطى في المجاهدين والذي لم يحج ثم تلا إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ الآية في أيهما أعطيت أجزأت . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن خالدًا احتبس أدراعه في سبيل الله ويذكر عن أبي لاسن : حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل الصدقة للحج .
    * * *
    وقال المجد تحت باب الصرف في سبيل الله وابن السبيل : وعن ابن لاس الخزاعي قال : حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل من الصدقة إلى الحج، رواه أحمد وذكره البخاري تعليقًا ، وعن أم معقل الأسدية أن زوجها جعل بكرًا في سبيل الله وأنها أرادت العمرة فسألت زوجها البكر فأبى فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له ، فأمره أن يعطيها ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الحج والعمرة في سبيل الله رواه أحمد . وعن يوسف بن عبد الله بن سلام عن جدته أم معقل قالت : لما حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع - وكان لنا جمل - فجعله أبو معقل في سبيل الله ، وأصابنا مرض وهلك أبو معقل وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ من حجته جئته فقال : يا أم معقل ما منعك أن تخرجي ؟ قلت : لقد تهيأنا فهلك أبو معقل وكان لنا جعل هو الذي نحج عليه فأوصى به أبو معقل في سبيل الله قال : فهلا خرجت عليه فإن الحج من سبيل الله رواه أبو داود .
    قال الشوكاني : حديث ابن لاس سيأتي الكلام عليه . وحديث أم معقل أخرجه بنحو الرواية الأولى أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه ، وفي إسناده رجل مجهول ، وفي إسناده أيضًا إبراهيم بن مهاجر بن جابر البجلي الكوفي ، وقد تكلم فيه غير واحد . وقد اختلف على أبي بكر بن عبد الرحمن فيه . فروي عنه عن رسول الله مروان الذي أرسله إلى أم معقل عنها . وروي عنه عن أم معقل بغير واسطة ، وروي عنه عن أبي معقل . والرواية الثانية التي أخرجها أبو داود في إسنادها محمد بن إسحاق وفيه مقال معروف .
    قوله : ابن لاس هكذا في نسخ الكتاب الصحيحة بلفظ ابن والذي في البخاري : أبي لاس ، وكذا في التقريب من ترجمة عبد الله بن غنيمة . ولاس بسين مهملة خزاعي ، اختلف في اسمه فقيل زياد وقيل عبد الله بن عنمه ، بمهمله ونون مفتوحتين - وقيل غير ذلك ، له صحبة وحديثان هذا أحدهما ، وقد وصله مع أحمد بن خزيمة والحاكم وغيرهما من طريقه ، قال الحافظ : ورجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته .
    وأحاديث الباب تدل على أن الحج والعمرة من سبيل الله ، وأن من جعل شيئًا من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحجاج والمعتمرين ، وإذا كان شيئًا مركوبًا جاز حمل الحاج والمعتمر عليه ، وتدل أيضًا على أنه يجوز صرف شيء من سهم سبيل الله من الزكاة إلى قاصدي الحج والعمرة . ا هـ .
    * * *
    وقال المباركفوري في معرض كلامه عن المراد بقوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وقيل المراد منه منقطع الحاج ، وبه قال محمد ، وروي عن أحمد وإسحاق أن الحج أيضًا في سبيل الله يعني أن الحج من جملة السبل مع الغزو ؛ لأنه طريق بر ، إلى أن قال: قلت : واحتج للقول الثاني بما روى أبو داود عن ابن عباس أن امرأة قالت لزوجها أَحِجَّنِي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جملك فلان قال : ذاك حبيس في سبيل الله الحديث ، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله وبما روي عن أم معقل الأسدية أن زوجها جعل بكرًا في سبيل الله وأنها أرادت الحج . . الحديث ، وفيه : فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيها البكر ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الحج من سبيل الله أخرجه أحمد وغيره ، وبما روي عن أبي لاس قال حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل من الصدقة للحج . ذكره البخاري تعليقًا بصفة التمريض ووصله أحمد وابن خزيمة والحاكم ، وقال الشوكاني : حديث أم معقل وحديث أبي لاس يدلان على أن الحج من سبيل الله وأن من جعل شيئا من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحاج ، وإذا كان شيئًا مركوبًا جاز حمل الحاج عليه ، ويدلان أيضًا على أنه يجوز صرف شيء من سهم سبيل الله من الزكاة على قاصدي الحج انتهى . وبما روى أبو عبيد في الأموال عن أبي معاوية ، وابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي جعفر ؛ كلاهما عن الأعمش عن حسان أبي الأشرس عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسًا أن يعطى الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق منه الرقبة . وبما روي عن ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهمًا في سبيل الله فقيل له : أتجعل في الحج ؟ فقال : أما إنه من سبل الله . أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح عنه . ا هـ .
    * * *
    وقال الكاساني في معرض كلامه عن المراد من قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وقال محمد : المراد منه الحاج المنقطع ؛ لما روي أن رجلاً جعل بعيرًا له في سبيل الله فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحمل عليه الحجاج . ا هـ .
    * * *
    وقال أبو الفرج ابن قدامة في معرض كلامه عن المراد بقوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وروي عنه أن الفقير يعطى قدر ما يحج به الفرض أو يستعين به فيه يروى إعطاء الزكاة في الحج عن ابن عباس ، وعن ابن عمر : الحج من سبيل الله ، وهو قول إسحاق ؛ لما روي : أن رجلاً جعل ناقة له في سبيل الله فأرادت امرأته الحج فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - اركبيها فإن الحج من سبيل الله . .
    وقال البهوتي : والحج من السبيل أيضًا ، روي عن ابن عباس وابن عمر ؛ لما روي أبو داود أن رجلاً جعل ناقته في سبيل الله فأرادت امرأته الحج فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - اركبيها فإن الحج من سبيل الله فيأخذ إن كان فقيرًا من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو فرض عمرة أو يستعين به فيه أي في فرض الحج والعمرة ؛ لأنه يحتاج إلى إسقاط الفرض ، وأما التطوع فله عنه مندوحه ، وذكر القاضي جوازه في النفل كالفرض وهو ظاهر كلام أحمد والخرقي وصححه بعضهم؛ لأن كلا من سبيل الله ، والفقير لا فرض عليه فهو منه كالتطوع . ا هـ .
    * * *
    وقال النووي - ناسبًا القول بكون الحج من سبيل الله إلى الإمام أحمد - ما نصه : وقال أحمد رحمه الله تعالى في أصح الروايتين عنه : يجوز صرفه إلى مريد الحج . وروي مثله عن ابن عمر رضي الله عنهما . واستدل له بحديث أم معقل الصحابية رضي الله عنها قالت : لما حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع وكان لنا جعل فجعله أبو معقل في سبيل الله وأصابنا مرض فهلك أبو معقل وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ من حجه جئته فقال : يا أم معقل ما منعك أن تخرجي معنا ؟ قالت قلت : لقد تهيأنا فهلك أبو معقل وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه فأوصى به أبو معقل في سبيل الله ، قال : فهلا خرجت عليه فإن الحج في سبيل الله.
    وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحج فقالت امرأة لزوجها : أحججني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما عندي ما أحججك عليه ، فقالت : احججني على جملك فلان قال : ذلك حبيس في سبيل الله عز وجل . فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله إنها سألتني الحج معك قالت : أحججني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : ما عندي ما أحججك عليه . فقالت : أحججني على جملك فلان ، فقلت : ذلك حبيس في سبيل الله ، فقال : أما إنك لو حججتها عليه كان في سبيل الله وإنها أمرتني أن أسألك ما يعدل حجة معك ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أقرئها السلام ورحمة الله تعالى وبركاته وأخبرها أنها تعدل حجة يعني عمرة في رمضان رواهما أبو داود في سننه في أواخر كتاب الحج في باب العمرة ، والثاني إسناده صحيح ، وأما الأول حديث أم معقل فهو من رواية محمد بن إسحاق ، وقال فيه : وهو مدلس إذا قال : عن ، لا يحتج به بالاتفاق . ا هـ .
    واستدل أصحاب هذا الرأي بما استدل به أصحاب القول الأول بالنسبة لإرادة الغزاة من كلمة في سبيل الله .
    وأما بالنسبة لدخول الحجاج والعمار في ذلك فقد استدلوا عليه بما روى أبو داود عن ابن عباس أن امرأة قالت لزوجها : أحججني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جملك الفلاني قال ذاك حبيس في سبيل الله . . . الحديث ، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله وبما روي عن أم معقل الأسدية أن زوجها جعل بكرًا في سبيل الله وأنها أرادت الحج - وفيه : فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيها البكر وقال : الحج في سبيل الله أخرجه أحمد وغيره . وبما روي عن أبي لاس قال : حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل من الصدقة للحج ذكره البخاري تعليقًا ووصله أحمد وابن خزيمة والحاكم . وبما روى أبو عبيد في الأموال عن أبي معاوية وابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي جعفر كلاهما عن الأعمش عن حسان أبي الأشرس عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسًا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج ، وبما روي عن ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهمًا في سبيل الله فقيل له : أتجعل في الحج ؟ فقال : أما إنه من سبيل الله . أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح عنه .
    وقال القرطبي في تفسيره . خرج أبو محمد عبد الغني الحافظ حدثنا محمد بن محمد الخياش حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا مهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب عن عبد الرحمن بن أبي نعم - ويكني أبا الحكم - قال : كنت جالسًا مع عبد الله بن عمر فأتته امرأة فقالت له : يا أبا عبد الرحمن إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله . قال ابن عمر : فهو كما قال في سبيل الله . فقلت : أما زدتها فيما سألت عنه إلا غماً ، قال : فما تأمرني يا ابن أبي نعم آمرها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون فيعتدون في الأرض ويقطعون السبيل ؟ قال : قلت فما تأمرها ، قال : آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين إلى حجاج بيت الله الحرام أولئك وفد الرحمن أولئك وفد الرحمن ، أولئك وفد الرحمن ليسوا كوفد الشيطان . ثلاثًا يقولها .
    وقد أجيب بما يلي :
    1 - بأن المتبادر إلى الأفهام من كلمة ( سبيل الله ) في آية المصارف هو الغزو .
    وقال المباركفوري : وأما الأحاديث التي استدل بها أهل القول الثاني فقد أجيب عنها بوجهين
    الأول : الكلام فيها إسنادًا ، فإن حديث ابن عباس في إسناده عامر بن عبد الواحد الأحول وقد تكلم فيه أحمد والنسائي ، وقال الحافظ : صدوق يخطئ ، وقد روى الشيخان عن ابن عباس نحو هذه القصة وليس عندهما أنه جعل جملة حبيسًا في سبيل الله ولا
    ( الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 41)
    أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لو أحججتها عليه كان في سبيل الله.
    وأما حديث أم معقل ففيه اضطراب كثير واختلاف شديد في سنده ومتنه حتى تعذر الجمع والترجيح ، مع ما في بعض طرقه من راو ضعيف ومجهول ومدلس قد عنعن ، وهذا مما يوجب التوقف فيه ، وذلك لا شك فيه ، من ينظر في طرق هذا الحديث في مسند الإمام أحمد وفي السنن مع حديث ابن عباس عند الشيخين وأبي داود وابن أبي شيبة ومع قصة أم طليق عند ابن السكن وابن منده والدولابي وقد حمل ذلك بعضهم على وقائع متعددة ، ولا يخفى بعده .
    وأما حديث أبي لاس فقال الحافظ في الفتح : رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته . اهـ .
    * * *
    ويشير بذلك إلى ما حكي عنه أنه قال : إن ثبت حديث ابن لاس قلت بذلك . قال الحافظ : وتعقب بأنه يحتمل أنهم كانوا فقراء وحملوا عليها خاصة ولم يتملكوها انتهى .
    وأما أثر ابن عباس فهو أيضًا مضطرب صرح به أحمد كما في الفتح ، وقد بين اضطرابه الحافظ ، ولذلك كف أحمد عن القول بالإعتاق من الزكاة تورعًا ، وقيل : بل رجع عن هذا القول.
    والثاني : أنه لا ينكر أن الحج من سبيل الله بل كل فعل خير من سبل الله لكن لا يلزم من هذا أن يكون السبيل المذكور في هذه الأحاديث هو المذكور في الآية ، فإن المراد في هذه الأحاديث المعنى الأعم وفي الآية نوع خاص منه وهو الغزو والجهاد ؛ لحديث أبي سعيد ، وإلا فجميع الأصناف من سبيل الله بذلك المعنى . قال ابن حزم فإن قيل : قد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الحج من سبيل الله ، وصح عن ابن عباس أن يعطى منها في الحج .
    قلنا : نعم وكل فعل خير فهو من سبيل الله تعالى إلا أنه لا خلاف في أنه تعالى لم يرد كل وجه من وجوه البر في قسمة الصدقات فلم يجز أن توضع إلا حيث بين النص وهي الذي ذكرنا . انتهى .
    وقال ابن قدامة : هذا - أي عدم صرف الزكاة في الحج - أصح ؛ لأن الزكاة إنما تصرف إلى أحد رجلين ؛ محتاج إليها كالفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم ، وابن السبيل أو من يحتاج إليه المسلمون كالعامل والغازي والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين ، والحج من الفقير لا نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم إليه ولا حاجة به أيضًا إليه ؛ لأن الفقير لا فرض عليه فيسقط ، ولا مصلحة في إيجابه عليه وتكليفه مشقة قد رفهه الله منها وخفف عنه إيجابها . وأما الخبر ( يعني حديث أن الحج في سبيل الله فلا يمنع أن يكون الحج من سبيل الله ، والمراد بالآية غيره لما ذكرناه . انتهى .
    وقال ابن الهمام متعقبًا على الاستدلال المذكور ، ثم فيه نظر ؛ لأن المقصود ما هو المراد بسبيل الله المذكور في الآية والمذكور في الحديث لا يلزم كونه إياه ؛ لجواز أنه أراد الأمر الأعم وليس ذلك المراد في الآية بل نوع مخصوص ، وإلا فكل الأصناف في سبيل الله بذلك المعنى . انتهى .
    وقال صاحب تفسير المنار بعد الكلام في سند حديث أم معقل ما لفظه : وأقول من جهة المعنى
    أولاً : إن جعل أبي معقل جملة (في سبيل الله) أو وصيته به صدقة تطوع وهي لا يشترط فيها أن تصرف في هذه الأصناف التي قصرتها عليها الآية .
    وثانيًا : إن حج امرأته عليه ليس تمليكا لها يخرج الجمل على بقائه على ما أوصى به أبو معقل ، ويقال مثل هذا في حديث أبي لاس .
    وثالثًا : أن الحج من سبيل الله بالمعنى العام للفظ ، والراجح المختار أنه غير مراد في الآية . انتهى .
    * * *
    وقال أبو الفرج ابن قدامة : ولأن الزكاة إنما تصرف لأحد رجلين : محتاج إليها كالفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم ، أو من يحتاج إليه المسلمون كالعامل والغارم والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين ، والحج للفقير لا نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم إليه ولا حاجة به أيضًا ؛ لأن الفقير لا فرض عليه فيسقطه ، ولا مصلحة له في إيجابه عليه وتكليفه مشقة قد رفهه الله منها وخفف عنه إيجابها ، وتوفير هذا القدر على ذوي الحاجة من سائر الأصناف أو صرفه في مصالح المسلمين أولى . ا هـ .
    القول الثالث : أن المراد بذلك جميع وجوه البر ؛ لأن اللفظ عام فلا يجوز قصره على بعض أفراده إلا بدليل صحيح ولا دليل على ذلك ؛ ولقد قال بهذا القول مجموعة من العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء ، وفيما يلي بعض من أقوالهم :
    * * *
    قال الفخر الرازي : إن ظاهر اللفظ في قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يوجب القصر على الغزاة - ثم قال - فلهذا المعنى نقل القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد ؛ لأن قوله : (في سبيل الله) عام في الكل . ا هـ .
    * * *
    وقال الخازن في تفسيره : وقال بعضهم أن اللفظ عام فلا يجوز قصره على الغزاة فقط ، ولهذا أجاز بعض الفقهاء صرف سهم سبيل الله إلى جميع وجوه الخير من
    ( الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 43)
    تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك ، قال : لأن قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ عام في الكل فلا يختص بصنف دون غيره . ا هـ .
    * * *
    وقال محمد جمال الدين القاسمي : ثم ذكر تعالى الإعانة على الجهاد بقوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ فيصرف على المتطوعة في الجهاد ويشترى لهم الكراع والسلاح . وقال الرازي : لا يوجب قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ القصر على الغزاة . ولذا نقل القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء جواز صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون ، وعمارة المساجد ؛ لأن قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ عام في الكل . انتهى .
    ولذا ذهب الحسن وأحمد وإسحاق إلى أن الحج من سبيل الله فيصرف للحجاج منه ، قال في الإقناع وشرحه : والحج من سبيل الله نصًا . وروي عن ابن عباس وابن عمر ؛ لما روى أبو داود : أن رجلاً جعل ناقة في سبيل الله فأرادت امرأته الحج فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - اركبيها فإن الحج من سبيل الله فيأخذ إن كان فقيرًا من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو عمرة أو يستعين به فيه وكذا في نافلتهما ؛ لأن كلا من سبيل الله . انتهى .
    قال ابن الأثير : وسبيل الله عام يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات ، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه . انتهى .
    وقال في التاج : كل سبيل أريد به الله عز وجل - وهو بر - داخل في سبيل الله . ا هـ .
    * * *
    وقال أحمد مصطفى المراغي في تفسيره قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ
    وسبيل الله هو الطريق الموصل إلى مرضاته ومثوبته ، والمراد به الغزاة والمرابطون للجهاد ، وروي عن الإمام أحمد أنه جعل الحج من سبيل الله . ويدخل في ذلك جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد ونحو ذلك .
    والحق أن المراد بسبيل الله مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد كتأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج وإن لم يوجد مصرف آخر ، وليس منها حج الأفراد ؛ لأنه واجب على المستطيع فحسب . ا هـ .
    * * *
    وقال الألوسي : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ أريد بذلك عند أبي يوسف منقطعو الغزاة ، وعند محمد : منقطعو الحجيج وقيل : المراد طلبة العلم ، واقتصر عليه في الفتاوى الظهيرية ، وفسره في البدائع بجميع القرب فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله تعالى وسبل الخير . ا هـ .
    وقال السيد رشيد رضا في تفسيره المنار بعد استعراضه الأقوال التي قيلت في المراد بقوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ما نصه :
    والتحقيق أن سبيل الله هنا مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد ، وأن حج الأفراد ليس منها ؛ لأنه واجب على المستطيع دون غيره ، وهو من الفرائض العينية بشرطه كالصلاة والصيام لا من المصالح الدينية الدولية . . . ولكن شعيرة الحج وإقامة الأمة لها منها فيجوز الصرف من هذا السهم على تأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج إن لم يوجد لذلك مصرف آخر . ا هـ .
    وقال أيضًا : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وهو يشمل سائر المصالح الشرعية العامة التي هي ملاك أمر الدين والدولة ، وأولاها بالتقديم الاستعداد للحرب بشراء السلاح وأغذية الجند وأدوات النقل وتجهيز الغزاة - إلى أن قال - ومن أهم ما ينفق في سبيل الله في زماننا هذا إعداد الدعاة إلى الإسلام وإرسالهم إلى بلاد الكفار من قبل جمعيات منظمة تمدهم بالمال الكافي . ا هـ .
    وقال السيد قطب رحمه الله رحمه الله وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وذلك باب واسع يشمل كل مصلحة للجماعة تحقق كلمة الله ، وفي أولها إعداد العدة للجهاد وتجهيز المتطوعين وتدريبهم وبعث البعوث للدعوة إلى الإسلام وبيان أحكامه وشرائعه للناس أجمعين وتأسيس المدارس والجامعات التي تربي الناشئة تربية إسلامية صحيحة فلا نكلهم إلى مدارس الدولة تعلمهم كل شيء إلا الإسلام ولا مدارس المبشرين تعتدي على طفولتهم وحداثهم وهم لا يملكون رد العدوان . ا هـ .
    * * *
    وقال الحسين السيافي في معرض كلامه على قول زيد رحمه الله :
    ولا يعطى من الزكاة في كفن ميت ولا بناء مسجد ولا تعتق منها رقبة . قال : وذهب من أجاز ذلك إلى الاستدلال بدخولهما في صنف سبيل الله إذ هو طريق الخير على العموم وإن كثر استعماله في فرد مدلولاته وهو الجهاد لكثرة عروضه في أول الإسلام كما في نظائره لكن لا إلى حد الحقيقة المعرفية فهو باق على الوضع الأول فيدخل فيه جميع أنواع القرب على ما يقتضيه النظر في المصالح العامة والخاصة إلا ما خصه الدليل وهو ظاهر عبارة البحر في قوله : قلنا ظاهر سبيل الله العموم إلا ما خصه الدليل . ا هـ .
    * * *
    قال صديق حسن خان : أما سبيل الله فالمراد هنا الطريق إليه عز وجل ، والجهاد - وإن كان أعظم الطرق إلى الله عز وجل - لا دليل على اختصاص هذا السهم به ، بل يصح صرف ذلك في كل ما كان طريقًا إلى الله عز وجل ، هذا معنى الآية لغة . والواجب الوقوف على المعاني اللغوية حيث لم يصح النقل هنا شرعًا . ا هـ .
    * * *
    وقال الصنعاني في الكلام على حديث لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة الحديث : كذلك الغازي يحل له أن يتجهز من الزكاة وإن كان غنيًا ؛ لأنه ساع في سبيل الله .
    قال الشارح : ويلحق به من كان قائمًا بمصلحة عامة من مصالح المسلمين ، كالقضاء والإفتاء والتدريس - وإن كان غنيًا - . وأدخل أبو عبيد من كان في مصلحة عامة في العاملين . وأشار إليه البخاري حيث قال : ( باب رزق الحاكم والعاملين عليها ) وأراد بالرزق ما يرزقه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين كالقضاء والفتيا والتدريس فله الأخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غنيًا . ( ا هـ المقصود .
    * * *
    وقال المباركفوري : وقيل اللفظ عام فلا يجوز قصره على نوع خاص ، ويدخل فيه جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك . نقل ذلك القفال عن بعض الفقهاء من غير أن يسميه كما في حاشية تفسير البيضاوي لشيخزاده ، وإليه مال الكاساني إذ فسره بجميع القرب ، قال في البدائع : سبيل الله عبارة عن جميع القرب ويدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجًا . وقال النووي في شرح مسلم : وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء أنه يجوز صرف الزكاة في المصالح العامة وتأول عليه هذا الحديث أي ما روى البخاري في القسامة أنه - صلى الله عليه وسلم - وداه - أي الذي قتل بخيبر - مائة من إبل الصدقة . ا هـ .
    * * *
    وقال الكاساني : وأما قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ عبارة عن جميع القرب فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجًا . ا هـ .
    * * *
    وذكر الشيخ محمود شلتوت رحمه الله أن معنى وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ أنه المصالح العامة التي لا ملك فيها لأحد ، والتي لا يختص بالانتفاع بها أحد ، فملكها ، ومنفعتها لخلق الله ، وأولاها وأحقها : التكوين الحربي الذي ترد به الأمة البغي وتحفظ الكرامة ، ويشمل العدد والعدة على أحدث المخترعات البشرية ، ويشمل المستشفيات عسكرية ومدنية ، ويشمل تعبيد الطرق ، ومد الخطوط الحديدية ، وغير ذلك مما يعرفه أهل الحرب والميدان ، ويشمل الإعداد القوي الناضج لدعاة إسلاميين يظهرون جمال الإسلام وسماحته . ويفسرون حكمته ، ويبلغون أحكامه ، ويتعقبون مهاجمة الخصوم لمبادئه بما يرد كيدهم إلى نحورهم ، وكذلك يشمل العمل على دوام الوسائل التي يستمر بها حفظة القرآن الذي تواتر - ويتواتر بهم - نقله كما أنزل من عهد وحيه إلى اليوم ، وإلى يوم الدين إن شاء الله .
    وأفتى من مسأله عن جواز صرف الزكاة في بناء المساجد فكان جوابه :
    " إن المسجد الذي يراد انشاؤه أو تعميره " إذا كان هو المسجد الوحيد في القرية أو كان بها غيره ولكن يضيق بأهلها ، ويحتاجون إلى مسجد آخر ، صح شرعًا صرف الزكاة لبناء هذا المسجد أو إصلاحه ، والصرف على المسجد في تلك الحالة يكون من المصرف الذي ذكره في آية المصارف الواردة في سورة التوبة باسم سَبِيلِ اللَّهِ .
    وهذا مبني على اختيار أن المقصود بكلمة سَبِيلِ اللَّهِ المصالح العامة التي ينتفع بها المسلمون كافة ولا تخص واحدًا بعينه ، فتشمل المساجد والمستشفيات ودور التعليم ومصانع الحديد والذخيرة وما إليها مما يعود نفعه على الجماعة .
    وأحب أن أقرر هنا أن المسألة محل خلاف بين العلماء - ثم ذكر ، ما نقله الرازي في تفسيره عن القفال من صرف الصدقات في جميع وجوه الخير ثم قال : وهذا ما أختاره واطمئن إليه وأفتي به ، ولكن مع القيد الذي ذكرناه بالنسبة للمساجد ، وهو أن يكون المسجد لا يغني عنه غيره وإلا كان الصرف إلى غير المسجد أولى وأحق " ا هـ .
    * * *
    وسئل الشيخ حسين مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق عن جواز الدفع لبعض الجمعيات الخيرية الإسلامية من الزكاة . فأفتى بالجواز ، مستندًا إلى ما نقله الرازي عن القفال وغيره في معنى سبيل الله .
    وقد استدل أصحاب هذا القول على قولهم بما يأتي :
    ( الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 48)
    إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على بعض أفراده دون سائرها إلا بدليل ولا دليل على ذلك ، وما قيل بأن حديث عطاء بن يسار : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة وذكر منهم غاز في سبيل الله يعين أن سبيل الله هو الغزو فغير صحيح ، ذلك أن غاية ما يدل عليه الحديث هو أن المجاهد يعطى من سهم سبيل الله ولو كان غنيًا، وسبل الله كثيرة لا تنحصر في الجهاد في سبيل الله .
    * * *
    جاءت الأحاديث والآثار بتطبيق العموم في مدلول قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ فقد اعتبرت السنة الحج والعمرة من سبيل الله ، يتضح ذلك من حديث أبي لاس وحديث أم معقل وحديث ابن عباس وفيه أما أنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله وقد جاءت الآثار عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باعتبار الحج سبيلا من سبل الله ، فقد ذكر أبو عبيد في كتابه الأموال بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لا يرى بأسًا أن يعطى الرجل من زكاة ماله للحج . وما أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح إلى ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهمًا في سبيل الله فقيل له : أتجعل في الحج ؟ قال : أما إنه من سبيل الله . وما ذكره القرطبي في تفسيره من أن عبد الرحمن بن أبي نعم قال : كنت جالسًا مع عبد الله بن عمر فأتته امرأة فقالت له : يا أبا عبد الرحمن إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله - وفيه - آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين إلى حجاج بيت الله الحرام أولئك وفد الرحمن أولئك وفد الرحمن أولئك وفد الرحمن .
    كما اعتبرت السنة إشاعة الألفة بين المسلمين وتطييب خواطرهم وحفظ حقوقهم سبيلا من سبل الله . . ففي صحيح البخاري في باب القسامة قال : حدثنا أبو نعيم حدثنا سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار زعم أن رجلاً من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفرًا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم قتيلاً وقالوا للذي وجد فيهم : قد قتلتم صاحبنا قالوا ما قتلنا ولا علمنا فانطلقوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا قتيلا فقال : الكبر الكبر فقال لهم : تأتون بالبينة على من قتله ؟ قالوا : ما لنا بينة ، قال : فيحلفون ، قالوا : لا نرضى بأيمان يهود ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطل دمه فوداه من إبل الصدقة .
    * * *
    قال ابن حجر : ووقع في رواية ابن أبي ليلى : فوداه من عنده . وقد جمع بعضهم بين الروايتين بأن المراد من قوله : من عنده أي بيت المال المرصد للمصالح . قال ابن حجر : وقد حمله بعضهم على ظاهره ، فحكى القاضي عياض عن بعض العلماء جواز صرف الزكاة في المصالح العامة ، واستدل بهذا الحديث وغيره . قلت : وقد تقدم شيء من ذلك في كتاب الزكاة ، وفي الكلام على حديث أبي لاس قال حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل الصدقة في الحج . وعلى هذا فالمراد بالعندية كونها تحت أمره وحكمه ، وللاحتراز من جعل ديته على اليهود أو غيرهم . قال القرطبي في " المفهم " : فعل - صلى الله عليه وسلم - ذلك على مقتضى كرمه وحسن سياسته وجلبًا للمصلحة ودرءًا للمفسدة على سبيل التأليف ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق . ا هـ .
    وذكر النووي في معرض شرحه حديث القسامة قال : وقال الإمام أبو إسحاق المروزي من أصحابنا يجوز صرفها من إبل الزكاة لهذا الحديث فأخذ بظاهره . ا هـ .
    ورأى حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه يجوز الإعتاق من الزكاة ، ففي صحيح البخاري تحت : باب قول الله تعالى : وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ويذكر ابن عباس - رضي الله عنهما - يعتق من زكاة ماله ويعطى في الحج . وقال الحسن إن اشترى أباه من الزكاة جاز ويعطى في المجاهدين والذي لم يحج ، ثم تلا : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ الآية في أيها أعطيت أجزأت . قال ابن حجر : ووصله أبو عبيد في كتاب الأموال من طريق حسان بن أبي الأشرس عن مجاهد عنه أنه كان لا يرى بأسًا أن يعطى الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق منه الرقبة .
    وأخرج عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال : أعتق من زكاة مالك . ا هـ .
    تعبير النبي - صلى الله عليه وسلم - بمن التبعيضية في حديث أم معقل في قوله : فإن الحج في سبيل الله يشعر أن سبيل الله الوارد في آية مصارف الزكاة على عمومه وأنه يتناول مجموعة من الأمور وأن الحج منها . وبمثل تعبيره - صلى الله عليه وسلم - عبر ابن عمر فقال عن الحج : أما إنه من سبيل الله .
    وقد أجيب عن القول بعموم اللفظ بأجوبة ، منها ما ذكره المباركفوري حيث قال:
    وأما القول الثالث فهو أبعد الأقوال ؛ لأنه لا دليل عليه من كتاب ولا من سنة صحيحة أو سقيمة ولا من إجماع ولا من رأي صحابي ولا من قياس صحيح أو فاسد بل هو مخالف للحديث الصحيح الثابت وهو حديث أبي سعيد ، ولم يذهب إلى هذا التعميم أحد من السلف إلا ما حكى القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء المجاهيل ، والقاضي عياض عن بعض العلماء غير المعروفين قال صاحب تفسير المنار : أما عموم مدلول هذا اللفظ فهو يشمل كل أمر مشروع أريد به مرضاة الله تعالى باعلاء كلمته وإقامة دينه وحسن عبادته ومنفعة عباده ولا يدخل فيه الجهاد بالمال والنفس إذا كان لأجل الرياء والسمعة . وهذا العموم لم يقل به أحد من السلف ولا الخلف ولا يمكن أن يكون مرادًا هنا ؛ لأن الإخلاص الذي يكون للعمل في سبيل الله أمر باطني لا يعلمه إلا الله تعالى فلا يمكن أن تناط به حقوق مالية دولية .
    وإذا قيل : إن الأصل في كل طاعة من المؤمن أن تكون لوجه الله تعالى فيراعى هذا في الحقوق عملا بالظاهر اقتضى هذا أن يكون كل مصل وصائم ومتصدق وتال للقرآن وذاكر الله تعالى ومميط الأذى عن الطريق مستحق بعمله هذا للزكاة الشرعية فيجب أن يعطى منها ويجوز له أن يأخذ منها وإن كان غنيًا ، وهذا ممنوع بالإجماع أيضًا وإرادته تنافي حصر المستحقين في الأصناف المنصوصة ؛ لأن هذا الصنف لا حد لجماعاته فضلاً عن أفراده ، وإذا وكل أمره إلى السلاطين والأمراء تصرفوا فيه بأهوائهم تصرفًا تذهب حكمة فرضية الصدقة من أهلها . انتهى .
    * * *
    وأما ما يذكر للاحتجاج لذلك من رواية البخاري في دية الأنصاري الذي قتل بخيبر مائة من إبل الصدقة فهو مخالف لما روى البخاري أيضًا في قصته أنه رداه من عنده ، وجمع بين الروايتين بأنه اشتراه من أهل الصدقة بعد أن ملكوها ثم دفعها تبرعًا إلى أهل القتيل حكاه النووي عن الجمهور ، وعلى هذا فلا حجة فيه لمن ذهب إلى التعميم . وإذا تقرر هذا فلا يجوز صرف الزكاة في عمارة المساجد والمعاهد الدينية وبناء الجسور وإصلاح الطرق والشوارع وتكفين الموتى وقضاء ديونهم وغير ذلك من أنواع البر ؛ لأنه ليس هذا في شيء من المصارف المنصوصة ، وهو مذهب أحمد كما يظهر من المغني ( 667 2 ) ومالك كما في المدونة ( 59 \ 2 ) وسفيان وأهل العراق وغيرهم من العلماء كما في الأموال لأبي عبيد ( ص 610 ) ، هذا وقد ألحق بعض العلماء بالغازي من كان قائمًا بمصلحة من مصالح المسلمين كالقضاء والإفتاء والتدريس - وإن كان غنيًا - وأدخله بعضهم في العاملين فأجاز له الأخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غينًا ولا يخفى ما فيه.
    وقال صاحب المنار : إن سبيل الله هنا مصالح المسلمين الشرعية التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد والأشخاص وأن الحج ليس منها . قال : وأولها وأولاها بالتقديم الاستعداد للحرب بشراء السلاح وأغذية الجند وأدوات النقل وتجهيز الغزاة ، قال : ويدخل في عمومه إنشاء المستشفيات العسكرية والخيرية وإشراع الطرق وتعبيدها ومد الخطوط الحديدية العسكرية لا التجارية ، ومنها بناء البوارج المدرعة والمنطادات والطيارات الحربية والحصون والخنادق قال : ويدخل فيه النفقة على المدارس للعلوم الشرعية وغيرها مما تقوم به المصلحة العامة ، وفي هذه الحالة يعطى منها معلمو هذه المدارس ما داموا يؤدون وظائفهم المشروعة التي ينقطعون بها عن كسب آخر ولا يعطى عالم غني لأجل علمه وإن كان يفيد الناس به انتهى .
    قلت : حديث أبي سعيد ينافي هذا التعميم ؛ لكونه كالنص في أن المراد بسبيل الله المطلق في الآية هم الغزاة والمجاهدون خاصة فيجب الوقوف عنده . ا هـ .
    ومنها ما ذكره الشيخ يوسف القرضاوي حيث قال ما نصه :
    ولكن الرد الصحيح على القائلين بهذا الرأي يكون بتحديد المراد من ( سبيل الله ) هل هو خاص بالغزو والقتال - كما هو رأي الجمهور - أم هو عام يشمل كل بر وخير وقربة - كما هو رأي من ذكرنا - وكما يدل عليه عموم اللفظ .
    ولكي نحدد هذا المراد تحديدًا دقيقًا ، علينا أن نستعرض موارد هذه الكلمة في القرآن ، لنبين ماذا يراد بها حيث وردت ، فخير ما يفسر القرآن بالقرآن .

    2- سبيل الله في القرآن:
    ذكرت كلمة " في سبيل الله " في القرآن العزيز بضعًا وستين مرة .
    أ - فتارة تجر بحرف في " في سبيل الله " كما في آية مصارف الزكاة هذه ، وهو أكثر ما ورد في القرآن ، وتارة تجر بحرف " عن " " عن سبيل الله " وذلك في ثلاثة وعشرين موضعًا من القرآن .
    وفي هذه المواضع جاءت بعد واحد من فعلين ؛ إما الصد مثل : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا 167 النساء ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ 36 الأنفال . وإما الإضلال مثل : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ 6 لقمان .
    ب - وحينما تجر بـ " في " - وهو أكثر ما ورد في القرآن - يكون ذلك بعد فعل الإنفاق : وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أو الهجرة وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أو الجهاد وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
    أو القتال أو القتل : يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ أو المخمصة أو الضرب وما يشبهها .
    * * *

    3- فما المراد بسبيل الله في القرآن ؟

    إن السبيل في اللغة هو الطريق . وسبيل الله هو الطريق الموصل إلى رضاه ومثوبته ، وهو الذي بعث الله النبيين ليهدوا الخلق إليه ، وأمر خاتم رسله بالدعوة إليه ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ النحل . وأن يعلن في الناس هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي يوسف .

    وهناك سبيل آخر مضاد هو سبيل الطاغوت . وهو الذي يدعو إليه إبليس وجنوده ، وهو الذي ينتهي بصاحبه إلى النار وسخط الله ، وقد قال الله تعالى مقارنًا بين الطريقين وأصحابهما : الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ النساء .
    وسبيل الله دعاته قليلون ، وأعداؤه الصادون عنه كثيرون يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ هذا إلى أن تكاليف هذا الطريق تجعل أهواء النفوس مخالفة له صادة عنه ، ولهذا جاء التحذير من اتباع الهوى : وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
    وإذا كان أعداء الله يبذلون جهودهم وأموالهم ليصدوا عن ( سبيل الله ) فإن واجب أنصار الله من المؤمنين أن يبذلوا جهودهم ، وينفقوا أموالهم في ( سبيل الله ) وهذا ما فرضه الإسلام ، فجعل جزءًا من الزكاة المفروضة يخصص لهذا المصرف الخطير ( وفي سبيل الله ) كما حث المؤمنين بصفة عامة على إنفاق أموالهم في ( سبيل الله ) .
    معنى سبيل الله إذا قرن بالإنفاق
    والمتتبع لكلمة ( سبيل الله ) مقرونة بالإنفاق يجد لها معنيين :
    1 - معنى عام - حسب مدلول اللفظ الأصلي - يشمل كل أنواع البر والطاعات وسبل الخيرات . وذلك كقوله تعالى : مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وقوله : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ فلم يفهم أحد من هذه الآية خاصة أن سبيل الله فيها مقصور على القتال وما يتعلق به ، بدليل ذكر المن والأذى . وهما إنما يكونان عند الإنفاق على الفقراء وذوي الحاجة ، وبخاصة الأذى . وكذلك قوله تعالى : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ فالمراد بسبيل الله في هذه الآية المعنى الأعم - كما قال الحافظ ابن حجر - لا خصوص القتال - ، وإلا لكان الذي ينفق ماله على الفقراء والمساكين واليتامى وابن السبيل ونحوها - دون خصوص القتال - داخلا في دائرة الكانزين المبشرين بالعذاب .
    وزعم بعض المعاصرين : أن كلمة ( في سبيل الله ) إذا قرنت بالإنفاق كان معناها الجهاد جزمًا ولا تحتمل غيره مطلقًا وهو زعم غير مبني على الاستقراء التام لموارد الكلمة في الكتاب العزيز ، وآيتا البقرة والتوبة المذكورتان تردان عليه .
    2 - والمعنى الثاني معنى خاص ، وهو نصرة دين الله ومحاربة أعدائه وإعلاء كلمته في الأرض ، حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ والسياق هو الذي يميز هذا المعنى الخاص من المعنى العام السابق ، وهذا المعنى هو الذي يجيء بعد القتال والجهاد مثل : قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
    ومن ذلك قوله تعالى بعد آيات القتال في سورة البقرة : وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فالإنفاق هنا إنفاق في نصرة الإسلام وإعلاء كلمته على أعدائه المحاربين له الصادين عنه .
    ومثل ذلك قوله تعالى في سورة الحديد : وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى فالسياق يدل على أن الإنفاق هنا كالإنفاق في الآية السابقة .
    وفي سورة الأنفال قال تعالى : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ .
    فالمقام يدل بوضوح على أن سبيل الله في الآية هو محاربة أعداء الله ونصرة دين الله ، كما صرح بذلك الحديث الصحيح : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله .
    وهذا المعنى الخاص هو الذي يعبر عنه أحيانًا بالجهاد والغزو . وتفسيرنا له بنصرة الإسلام أولى ، وإلا لكان مضمون معنى وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ جاهدوا في الجهاد .
    * * *
    3- سبيل الله في آية مصارف الزكاة:

    وإذا كان لسبيل الله مع الإنفاق هذان المعنيان : العام والخاص - كما ذكرنا - فما المراد به معنا في الآية التي حددت مصارف الزكاة ، والإنفاق ملحوظ فيها وإن لم يذكر لفظه ؟ إن الذي أرجحه أن المعنى العام لسبيل الله لا يصلح أن يراد هنا ؛ لأنه بهذا العموم يتسع لجهات كثيرة ، لا تحصر أصنافها فضلا عن أشخاصها ، وهذا ينافي حصر المصارف في ثمانية ، كما هو ظاهر الآية ، وكما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء كما أن سبيل الله بالمعنى العام يشمل إعطاء الفقراء والمساكين وبقية الأصناف السبعة الأخرى ؛ لأنها جميعها من البر وطاعة الله ، فما الفرق إذن بين هذا المصرف وما سبقه وما يلحقه ؟
    إن كلام الله البليغ المعجز يجب أن ينزه عن التكرار بغير فائدة . فلا بد أن يراد به معنى خاص يميزه عن بقية المصارف ، وهذا ما فهمه المفسرون والفقهاء من أقدم العصور ، فصرفوا معنى سبيل الله إلى الجهاد ، وقالوا : إنه المراد به عند إطلاق اللفظ . ولهذا قال ابن الأثير : إنه صار لكثرة الاستعمال فيه كأنه مقصور عليه ، كما نقلنا عنه في أول الفصل . ومما يؤيد ما قاله ابن الأثير ما رواه الطبراني : أن الصحابة كانوا يومًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأوا شابًا جلدًا ، فقالوا: لو كان شبابه وجلده في سبيل الله ؟ يريدون : في الجهاد ونصرة الإسلام.
    وصحت أحاديث كثيرة عن الرسول وأصحابه تدل على أن المعنى المتبادر لكلمة (سبيل الله ) هو الجهاد . كقول عمر في الحديث الصحيح : حملت على فرس في سبيل الله يعني في الجهاد . وحديث الشيخين : لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها . وحديث البخاري : من احتبس فرسًا في سبيل الله ، إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده ، فإن شبعه وريه وروثه ، وبوله في ميزانه يوم القيامة يعني حسنات وحديث الشيخين : ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا وحديث النسائي والترمذي وحسنه : من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت بسبعمائة ضعف وحديث البخاري : ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله ، فتمسه النار وغيرها كثير .
    ولم يفهم أحد من سبيل الله فيها إلا الجهاد .
    فهذه القرائن كلها كافية في ترجيح أن المراد من ( سبيل الله ) في آية المصارف ، هو الجهاد ، كما قال الجمهور ، وليس المعنى اللغوي الأصلي ، وقد أيد ذلك حديث لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة . . وذكر منهم الغارم والغازي في "سبيل الله" . ا هـ.
    هذا ما تيسر ذكره ، وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
    اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
    عضو
    عبد الله بن سليمان بن منيع
    عضو
    عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان
    نائب الرئيس
    عبد الرزاق عفيفي
    رئيس اللجنة
    إبراهيم بن محمد آل الشيخ

    قرار الهيئة
    قرار رقم " 24" وتاريخ 21 \ 8 \ 1394 هـ
    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه وبعد : فقد جرى اطلاع هيئة كبار العلماء في دورتها الخامسة المعقودة بمدينة الطائف بين يوم 5 8 94 هـ ويوم 22 8 94 هـ على ما أعدته اللجنة للبحوث العلمية والإفتاء من بحث في المراد بقول الله تعالى في آية مصارف الزكاة وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ هل المراد بذلك الغزاة في سبيل الله وما يلزم لهم ، أم عام في كل وجه من وجوه الخير . وبعد دراسة البحث المعد والاطلاع على ما تضمنه من أقوال أهل العلم في هذا الصدد - ومناقشة أدلة من فسر المراد بسبيل الله في الآية بأنهم الغزاة وما يلزم لهم ، وأدلة من توسع في المراد بالآية ولم يحصرها في الغزاة فأدخل فيه بناء المساجد والقناطر وتعليم العلم وتعلمه وبث الدعاة والمرشدين وغير ذلك من أعمال البر . رأى أكثرية أعضاء المجلس الأخذ بقول جمهور العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء من أن المراد بقوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ الغزاة المتطوعون بغزوهم وما يلزم لهم من استعداد . وإذا لم يوجدوا صرفت الزكاة كلها للأصناف الأخرى ولا يجوز صرفها في شيء من المرافق العامة إلا إذا لم يوجد لها مستحق من الفقراء والمساكين وبقية الأصناف المنصوص عليهم في الآية الكريمة ، وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
    هيئة كبار العلماء
    {وفي سبيل الله} هيئة كبار العلماء (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - االعدد الثاني - الإصدار : من شوال إلى ربيع الأول لسنة 1395هـ 1396هــ) 1- بيان المراد من قوله تعالى في آية مصارف الزكاة وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ: الحمد لله وحده ، وبعد : فقد عرض على هيئة كبار العلماء في دورتها الخامسة المنعقدة بمدينة الطائف فيما بين يوم 5 \ 8 \ 94 هـ ويوم 22 \ 8 \ 94 هـ موضوع بيان المراد من قوله تعالى في آية مصارف الزكاة وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ورغبة في إطلاع قراء مجلة البحوث الإسلامية على هذا البحث القيم نشره بنصه . الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد : فبناء على ما تقرر من إدراج بيان المراد من قوله تعالى في آية مصارف الزكاة ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ في جدول أعمال هيئة كبار العلماء لدورتها الخامسة هل هو خاص بالجهاد في سبيل الله أو عام في كل وجه من وجوه البر ، أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثًا مشتملاً على أقوال أهل العلم في ذلك مع ذكر مستند كل قول ومناقشته . {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } اختلف العلماء رحمهم الله في تعيين المقصود من قوله تعالى في آية حصر أهل الزكاة وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ على ثلاثة أقوال : أحدها : أن المقصود بذلك الغزاة في سبيل الله ، وقد قال بهذا القول جمهور العلماء من المفسرين والمحدثين والفقهاء ، وفيما يلي نقل لبعض أقوالهم . * * * قال ابن جرير الطبري : وأما قوله وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ فإنه يعني : وفي النفقة في نصرة دين الله وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده بقتال أعدائه وذلك هو غزو الكفار ، وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قال : الغازي في سبيل الله ، حدثنا ابن وكيع قال حدثنا أبي عن سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : رجل عمل عليها ورجل اشتراها بماله . وفي سبيل الله ، وابن السبيل ، أو رجل كان له جار تصدق عليه فأهداها له ا هـ . * * * وقال القرطبي : الثانية والعشرون قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ هم الغزاة وموضع الرباط يعطون ما ينفقون في غزوهم كانوا أغنياء أو فقراء ، وهذا قول أكثر العلماء ، وهو تحصيل مذهب مالك رحمه الله . ا هـ . * * * وقال ابن العربي : ( المسألة التاسعة عشر قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قال مالك : سبل الله كثيرة ولكني لا أعلم خلافًا في أن المراد بسبيل الله هاهنا : الغزو ، ومن جملة سبيل الله إلا ما يؤثر عن أحمد وإسحاق فإنهما قالا : إنه الحج ، والذي يصح عندي من قولهما أن الحج من جملة السبل مع الغزو . لأنه طريق بر فأعطي منه باسم السبيل ، وهذا يحل عقد الباب ويخرم قانون الشريعة وينثر سلك النظر . وما جاء قط بإعطاء الزكاة في الحج أثر . وقد قال علماؤنا : ويعطى منها الفقير بغير خلاف ؛ لأنه قد سمي في أول الآية ، ويعطى الغني عند مالك بوصف سبيل الله تعالى ، كان غنيًا في بلده أو في موضعه الذي يأخذ به لا يلتفت إلى غير ذلك من قوله الذي يؤثر عنه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : غاز في سبيل الله . وقال أبو حنيفة : لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرًا ، وهذه زيادة على النص . وعنده أن الزيادة على النص نسخ ، ولا نسخ في القرآن إلا بقرآن مثله أو بخبر متواتر ، وقد بينا أنه فعل مثل هذا في الخمس في قوله وَلِذِي الْقُرْبَى فشرط في قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفقر ، وحينئذ يعطون من الخمس . هذا كله ضعيف حسبما بيناه . وقال محمد بن عبد الحكم : يعطى من الصدقة في الكراع والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الحرب وكف العدو عن الحوزة ؛ لأنه كله في سبيل الغزو ومنفعته ، وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصدقة مائة ناقة في نازلة سهل بن حثمة إطفاء للثائرة ا هـ . * * * وقال الجصاص : قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ روى ابن أبي ليلى عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله أو ابن السبيل أو رجل له جار مسكين تصدق عليه فأهدى له . واختلف الفقهاء في ذلك فقال قائلون : هي للمجاهدين الأغنياء منهم والفقراء ، وهو قول الشافعي . وقال الشافعي : لا يعطى منها إلا الفقراء منهم ، ولا يعطى الأغنياء من المجاهدين فإن أعطوا ملكوها وأجزأ المعطي وإن لم يصرفه في سبيل الله ؛ لأن شرطها تمليكه وقد حصل لمن هذه صفته فأجزأ ، وقد روي أن عمر تصدق بفرس في سبيل الله فوجده يباع بعد ذلك فأراد أن يشتريه ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تعد في صدقتك فلم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم المحمول على الفرس من بيعها . - إلى أن قال - : وروي عن أبي يوسف فيمن أوصى بثلث ماله في سبيل الله أنه للفقراء الغزاة . فإن قيل : فقد أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - لأغنياء الغزاة أخذ الصدقة بقوله : لا تحل لغني إلا في سبيل الله . قيل له : قد يكون الرجل غنيًّا في أهله وبلده بدار يسكنها وأثاث يتأثث به في بيته وخادم يخدمه وفرس يركبه وله فضل مائتي درهم أو قيمتها فلا تحل له الصدقة ، فإذا عزم على الخروج في سفر غزو واحتاج من آلات السفر والسلاح والعدة إلى ما لم يكن محتاجًا إليه في حال إقامته فينفق الفضل عن أثاثه وما يحتاج إليه في مصره على السلاح والآلة والعدة ، فتجوز له الصدقة ، وجائز أن يكون الفضل عما يحتاج إليه ؛ من دابة الأرض أو سلاح أو شيء من آلات السفر لا يحتاج إليه في المصر فيمنع ذلك جواز إعطائه الصدقة إذا كان ذلك يساوي مائتي درهم ، وإن هو خرج للغزو فاحتاج إلى ذلك جاز أن يعطى من الصدقة وهو غني في هذا الوجه ، فهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : الصدقة تحل للغازي الغني . ا هـ . ( الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 28) وقال السيوطي : في تفسير قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قال : هم المجاهدون ، وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قال : الغازي في سبيل الله . ا هـ . * * * وقال الخازن : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني وفي النفقة في سبيل الله ، وأراد به الغزاة فلهم سهم من مال الصدقات فيعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو ما يستعينون به على أمر الجهاد من النفقة والكسوة والسلاح والحمولة فيعطون ذلك وإن كانوا أغنياء . ا هـ . * * * وقال الشوكاني : في تفسيره : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ هم الغزاة والمرابطون يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم وإن كانوا أغنياء ، وهذا قول أكثر العلماء . ا هـ . * * * وقال ابن حجر العسقلاني : وأما في سبيل الله فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنيًا كان أو فقيرًا إلا أن أبا حنيفة قال : يختص بالغازي المحتاج . * * * وقال بدر الدين العيني : قوله وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وهو منقطع الغزاة عند أبي يوسف ومنقطع الحاج عند محمد . وفي المبسوط وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ فقراء الغزاة عند أبي يوسف . وعند محمد فقراء الحاج . وقال ابن المنذر : وفي الأشراف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد : سبيل الله هو : الغازي غير الغني ، وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة أنه الغازي دون الحاج ، وذكر ابن بطال : أنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي ، ومثله النووي في شرح المهذب ، وقال صاحب التوضيح : وأما قول أبي حنيفة : لا يعطى الغازي من الزكاة إلا أن يكون محتاجًا فهو خلاف ظاهر الكتاب والسنة . فأما الكتاب فقوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وأما السنة : فروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لعامل عليها أو لغاز في سبيل الله أو غني اشتراها بماله أو فقير تُصُدِّق عليه فأهدى لغني أو غارم . ( قلت ) ما أحسن الأدب سيما مع الأكابر ، وأبو حنيفة لم يخالف الكتاب ولا السنة وإنما عمل بالسنة فيما ذهب إليه وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني وقال : المراد من قوله : لغاز في سبيل الله هو الغازي الغني بقوة البدن والقدرة على الكسب لا الغني بالنصاب الشرعي ، بدليل حديث معاذ : وردها إلى فقرائهم . ا هـ . * * * وقال أبو الحسن المباركفوري : اختلفوا في المراد من سبيل الله في آية المصارف فقيل : المراد به الغزاة وعليه الجمهور ، قال الباجي : هو الغزو والجهاد قاله مالك وجمهور الفقهاء ، وقال الخرقي : وسهم في سبيل الله هم الغزاة ، قال ابن قدامة : هذا الصنف السابع من أهل الزكاة ولا خلاف في استحقاقهم ولا خلاف في أنهم الغزاة في سبيل الله ؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق هو الغزو . ا هـ . ثم اختلف أهل هذا القول فقال الأكثر : أنهم يعطون ما ينفقون في غزوهم وإن كانوا أغنياء . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرًا منقطعًا به . قال الحافظ : أما سبيل الله فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنيًا كان أو فقيرًا إلا أن أبا حنيفة قال : يختص بالغازي المحتاج - ثم ذكر الأقوال الأخرى في المراد بقوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ثم قال : والقول الراجح عندي : هو ما ذهب إليه الجمهور من أن المراد به الغزو والجهاد خاصة لأن سبيل الله إذا أطلق في عرف الشرع فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى كأنه مقصور عليه ، قال ابن العربي في أحكام القرآن : قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قال مالك : سبل الله كثيرة ولكني لا أعلم خلافًا في أن المراد بسبيل الله هاهنا الغزو لحديث عطاء بن يسار الذي نحن في شرحه وهو حديث صريح مفسر لقوله : " في سبيل الله " في الآية ، فيجب حمله عليه ولم أر عنه جوابًا شافيًا من أحد ، وإليه ذهب ابن حزم إذ قال : وأما سبيل الله فهو الجهاد بحق ، ثم ذكر حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد من طريق أبي داود وهو الذي رجحه ابن قدامة حيث قال : وهذا أصح ؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق إنما ينصرف إلى الجهاد ، فإن كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما أريد به الجهاد إلا اليسير فيجب أن يحمل ما في هذه الآية على ذلك ؛ لأن الظاهر إرادته به انتهى . وهو الذي صححه الخازن في تفسيره حيث قال : والقول الأول هو الصحيح ؛ لإجماع الجمهور عليه ورجحه أيضًا العلامة القنوجي اليوناني في تفسيره إذ قال : والأول أولى لإجماع الجمهور عليه ، وبه فسر الشوكاني في فتح القدير ورجحه ، واختاره أيضًا غيرهم من المفسرين . ا هـ . * * * وقال أبو سليمان الخطابي في معرض تعليقه على حديث عطاء بن يسار : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة ما نصه : . قلت : فيه بيان أن للغازي - وإن كان غنيًا - أن يأخذ الصدقة ويستعين بها في غزوه وهو من - سهم سبيل الله - وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه ، وقال أصحاب الرأي : لا يجوز أن يعطى للغازي من الصدقة إلا أن يكون منقطعًا به. قلت : سهم السبيل غير سهم ابن السبيل وقد فرق الله بينهما بالتسمية وعطف أحدهما على الآخر بالواو الذي هو حرف الفرق بين المذكورين المنسوق أحدهما على الأخرى فقال : ( 9 : 6 وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ والمنقطع به هو ابن السبيل ، فأما سهم السبيل فهو على عمومه ، وظاهره في الكتاب وقد جاء في الحديث ما بينه ووكد أمره فلا وجه للذهاب عنه . ا هـ . * * * قال ابن الأثير : وسبيل الله عام يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات ، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد ، حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه . ( الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 31) وقال البابرتي على عبارة الهداية وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ منقطع الغزاة عند أبي يوسف رحمه الله . ولا يصرف إلى أغنياء الغزاة عندنا ؛ لأن المصرف هو للفقراء ، وقوله : منقطع الغزاة أي فقراء الغزاة . . . ولا يصرف إلى أغنياء الغزاة عندنا ؛ لأن المصرف هو للفقراء ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم. وقال الشافعي : يجوز ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة جملة الغزاة في سبيل الله وتأويله الغني بقوة البدن ومعناه أن المستغني بكسبه لقوة بدنه لا يحل له طلب الصدقة إلا إذا كان غازيًا يحل لاشتغاله بالجهاد عن الكسب . ا هـ . * * * وفي الفتاوى الهندية ما نصه : ومنها في سبيل الله وهم منقطعو الغزاة الفقراء منهم عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وعند محمد رحمه الله تعالى منقطعو الحاج الفقراء منهم . هكذا في التبيين ، والصحيح قول أبي يوسف رحمه الله تعالى كذا في المضمرات . * * * وقال أبو البركات أحمد دردير في شرحه : وأشار للسابع بقولِه : ومجاهد أي : المتلبس به إن كان ممن يجب عليه لكونه حرًا مسلمًا بالغًا قادرًا ، ولا بد أن يكون غير هاشمي ، ويدخل فيه المرابط وآلته كسيف ورمح تشترى منها ، ولو كان المجاهد غنيًا حين غزوه كجاسوس يرسل للاطلاع على عورات العدو يعلمنا بها فيعطى ولو كافرًا ، ولا تصرف الزكاة في سور حول البلد لتحفظ به من الكفار ولا في عمل مركب يقاتل فيها العدو . ا هـ . وقال المواق : ومجاهد وآلته ولو غنيًا . ابن عرفة : من الثمانية الأصناف التي تصرف الزكاة فيها سبيل الله . أبو عمرو : ذلك الجهاد والرباط . اللخمي : ويعطى الغازي الفقير حيث غزوه الغني ببلده ويعطى الغزاة المقيمون في نحر العدو _ وإن كانوا أغنياء _ حيث غزوهم ، واختلف إذا كان غنيًا بالموضع الذي هو به ، فقيل : يعطى ؛ لحديث لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة ؛ لغاز الحديث ، ولأن أخذه في معنى المعاوضة والأجرة إذا كان أوقف نفسه لذلك ، ولأن في إعطائه ضربًا من الاستئلاف لمشقة ما يكلفون من بذل النفوس . ا هـ . * * * وقال الإمام الشافعي : ويعطى من سهم سبيل الله جل وعز من غزا من جيران الصدقة فقيرًا كان أو غنيًا ، ولا يعطى منه غيرهم إلا أن يحتاج إلى الدفع عنهم فيعطاه من دفع عنهم المشركين . ا هـ . * * * وقال النووي على المهذب : قال المصنف رحمه الله تعالى : وسهم في سبيل الله وهم الغزاة إذا نشطوا غزوا ، وأما من كان مرتبًا في ديوان السلطان من جيوش المسلمين فإنهم لا يعطون من الصدقة بسهم الغزاة ؛ لأنهم يأخذون أرزاقهم وكفايتهم من الفيء . قال النووي : ومذهبنا أن سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة يصرف إلى الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان بل يغزون متطوعين ، وبه قال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى . . وقال النووي أيضًا في معرض الاحتجاج بما عليه المذهب الشافعي من أن سهم سبيل الله يصرف إلى الغزاة : واحتج أصحابنا بأن المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن سبيل الله تعالى هو الغزو وأكثر ما جاء في القرآن كذلك ، واحتج الأصحاب أيضًا بحديث أبي سعيد السابق في فصل الغارمين لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة فذكر منهم الغارم وليس في الأصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة الذين نعطيهم من سهم سبيل الله تعالى . ا هـ . وقال ابن قدامة : السابع في سبيل الله وهم الغزاة لا ديوان لهم ولا يعطى منها في الحج . اهـ . وقال في حاشية المقنع على قولِه : السابع في سبيل الله : لا خلاف في استحقاقهم وبقاء حكمهم ، ولا خلاف في أنهم الغزاة ؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق هو الغزو ، وقال الله تعالى : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وقال : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ وإنما يستحق هذا الاسم الغزاة الذين لا ديوان لهم وإنما يتطوعون بالغزو إذا نشطوا ، وهم الذين لا ديوان لهم أي لا حق لهم في الديوان ؛ لأن من له رزق راتب فهو مستغن به فيدفع إليهم كفاية غزوهم وعودهم - إلى أن قال : قوله : ( ولا يعطي منها في الحج ) في رواية اختارها في المغني وصححها في الشرح ، وقاله أكثر العلماء منهم مالك وأبو حنيفة والثوري والشافعي وأبو ثور وابن المنذر ؛ لأن سبيل الله حيث أطلق ينصرف إلى الجهاد غالبًا . والزكاة لا تصرف إلا لمحتاج إليها كالفقير أو من يحتاجه المسلمون كالعامل . والحج لا نفع منه للمسلمين ولا حاجة بهم إليه ، والفقير لا فرض في ذمته فيسقطه ، وإن أراد به التطوع فتوفير هذا القدر على ذوي الحاجة أو صرفها في مصالح المسلمين أولى . ا هـ . * * * وقال المرداوي في أثناء الكلام على أصناف أهل الزكاة : قوله السابع : ( في سبيل الله وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم . ) فلهم الأخذ منها بلا نزاع ، لكن لا يصرفون ما يأخذون إلا لجهة واحدة . كما تقدم في المكاتب والغارم . تنبيه : ظاهر قوله : ( وهم الذين لا ديوان لهم ) أنه لو كان يأخذ من الديوان لا يعطى منها . وهو صحيح لكن بشرط أن يكون فيه ما يكفيه . فإن لم يكن فيه ما يكفيه فله أخذ تمام ما يكفيه . قاله في الرعاية وغيرها . - إلى أن قال - قوله : ( لا يعطى منها في الحج ) هذا إحدى الروايتين . اختاره المصنف والشارع ، وقالا : هي أصح . وجزم به في الوجيز . ا هـ . * * * وقال ابن حزم : وأما سبيل الله فهو الجهاد بحق . حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا ابن السليم حدثنا ابن الأعرابي حدثنا أبو داود حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : الغازي في سبيل الله ، أو العامل عليها أو الغارم ، أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهداها للغني . وقد روي هذا الحديث من غير معمر فأوقفه بعضهم ونقص بعضهم مما ذكر فيه معمر . وزيادة العدل لا يحل تركها . فإن قيل : قد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن الحج من سبيل الله . وصح عن ابن عباس أن يعطى منها في الحج . قلنا : نعم ، وكل فعل خير من سبيل الله تعالى ، إلا أنه لا خلاف في أنه تعالى لم يرد كل وجه من وجوه البر في قسمة الصدقات فلم يجز أن توضع إلا حيث بين النص ، وهو الذي ذكرنا . وبالله التوفيق . ا هـ . وقد استدل أصحاب هذا القول بما يأتي : ( 1 ) بأن سبيل الله إذا أطلق في عرف الشرع فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى كأنه مقصور عليه ؛ لأن كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما يريد به الجهاد إلا اليسير ، فيجب أن يحمل قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ عليه ؛ لأن الظاهر إرادته ، قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ( 2 ) بأن حديث عطاء بن يسار لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله الحديث وهو حديث صريح مفسر لقوله تعالى وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ فيجب حمله عليه. ( 3 ) بما ورد من الآثار الدالة على أن المقصود بسبيل الله الجهاد ، ومن ذلك ما ذكره الطبري في تفسيره قال : حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قال الغازي في سبيل الله . وما ذكره السيوطي في تفسيره الدر المنثور قال : أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قال : هم المجاهدون . وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قال : الغازي في سبيل الله * * * والقول الثاني : أن المراد بسبيل الله الغزاة والحجاج والعمار ، وقد قال بهذا القول مجموعة من العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء ، وفيما يلي بعض من أقوالهم : وقال ابن كثير : وأما في سبيل الله فمنهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان ، وعند الإمام أحمد والحسن وإسحاق من سبيل الله ؛ للحديث . * * * وقال الخازن في تفسير قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وقال قوم : يجوز أن يصرف سهم سبيل الله إلى الحج . يروى ذلك عن ابن عباس ، وهو قول الحسن وإليه ذهب أحمد ابن حنبل وإسحاق بن راهويه . ا هـ . * * * وقال الشوكاني في تفسيره قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وقال ابن عمر : هم الحجاج والعمار ، وروي عن أحمد وإسحاق أنهما جعلا الحج من سبيل الله . ا هـ . * * * وقال القرطبي : الثانية والعشرون - قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ هم الغزاة وموضع الرباط - إلى أن قال - وقال ابن عمر : الحجاج والعمار . ويؤثر عن أحمد وإسحاق رحمهما الله أنهما قالا : سبيل الله الحج . وفي البخاري : ويذكر عن أبي لاس : حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل الصدقة للحج . ويذكر عن ابن عباس : ويعتق من ( زكاة ) ماله ويعطى في الحج . خرج أبو محمد عبد الغني الحافظ حدثنا محمد بن محمد الخياش ، حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا مهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب عن عبد الرحمن بن أبي نعم - ويكنى أبا الحكم - قال : كنت جالسًا مع عبد الله بن عمر فأتته امرأة فقالت له : يا أبا عبد الرحمن ، إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله ، قال ابن عمر : فهو كما قال في سبيل الله : فقلت : أما زدتها فيما سألت عنه إلا غمًا ، قال : فما تأمرني يا ابن أبي نعم ، آمرها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون فيعتدون في الأرض ويقطعون السبيل ؟ قال : قلت فما تأمرها . قال : آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين ، إلى حجاج بيت الله الحرام ، أولئك وفد الرحمن ، أولئك وفد الرحمن ، أولئك وفد الرحمن ، ليسوا كوفد الشيطان ، ثلاثًا يقولها ، قلت : يا أبا عبد الرحمن وما وفد الشيطان ؟ قال : قوم يدخلون على هؤلاء الأمراء فينمون إليهم الحديث ويسعون في المسلمين بالكذب فيجازون الجوائز ويعطون عليه العطايا . ا هـ . * * * وقال الجصاص : وإن أعطى حاجًا منقطعًا به أجزأ أيضًا ، وقد روي عن ابن عمر أن رجلاً أوصى بماله في سبيل الله فقال ابن عمر : إن الحج في سبيل الله فاجعله فيه ، وقال محمد بن الحسن في السير الكبير في رجل أوصى بثلث ماله في سبيل الله أنه يجوز أن يجعل في الحاج المنقطع به ، وهذا يدل على أن قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قد أريد به عند محمد الحج المنقطع به ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الحج والعمرة من سبيل الله . ا هـ . * * * وقال البخاري : باب قوله تعالى : الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما : يعتق من زكاة ماله ويعطى في الحج . وقال الحسن : إن اشترى أباه من الزكاة جاز ويعطى في المجاهدين والذي لم يحج ثم تلا إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ الآية في أيهما أعطيت أجزأت . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن خالدًا احتبس أدراعه في سبيل الله ويذكر عن أبي لاسن : حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل الصدقة للحج . * * * وقال المجد تحت باب الصرف في سبيل الله وابن السبيل : وعن ابن لاس الخزاعي قال : حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل من الصدقة إلى الحج، رواه أحمد وذكره البخاري تعليقًا ، وعن أم معقل الأسدية أن زوجها جعل بكرًا في سبيل الله وأنها أرادت العمرة فسألت زوجها البكر فأبى فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له ، فأمره أن يعطيها ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الحج والعمرة في سبيل الله رواه أحمد . وعن يوسف بن عبد الله بن سلام عن جدته أم معقل قالت : لما حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع - وكان لنا جمل - فجعله أبو معقل في سبيل الله ، وأصابنا مرض وهلك أبو معقل وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ من حجته جئته فقال : يا أم معقل ما منعك أن تخرجي ؟ قلت : لقد تهيأنا فهلك أبو معقل وكان لنا جعل هو الذي نحج عليه فأوصى به أبو معقل في سبيل الله قال : فهلا خرجت عليه فإن الحج من سبيل الله رواه أبو داود . قال الشوكاني : حديث ابن لاس سيأتي الكلام عليه . وحديث أم معقل أخرجه بنحو الرواية الأولى أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه ، وفي إسناده رجل مجهول ، وفي إسناده أيضًا إبراهيم بن مهاجر بن جابر البجلي الكوفي ، وقد تكلم فيه غير واحد . وقد اختلف على أبي بكر بن عبد الرحمن فيه . فروي عنه عن رسول الله مروان الذي أرسله إلى أم معقل عنها . وروي عنه عن أم معقل بغير واسطة ، وروي عنه عن أبي معقل . والرواية الثانية التي أخرجها أبو داود في إسنادها محمد بن إسحاق وفيه مقال معروف . قوله : ابن لاس هكذا في نسخ الكتاب الصحيحة بلفظ ابن والذي في البخاري : أبي لاس ، وكذا في التقريب من ترجمة عبد الله بن غنيمة . ولاس بسين مهملة خزاعي ، اختلف في اسمه فقيل زياد وقيل عبد الله بن عنمه ، بمهمله ونون مفتوحتين - وقيل غير ذلك ، له صحبة وحديثان هذا أحدهما ، وقد وصله مع أحمد بن خزيمة والحاكم وغيرهما من طريقه ، قال الحافظ : ورجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته . وأحاديث الباب تدل على أن الحج والعمرة من سبيل الله ، وأن من جعل شيئًا من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحجاج والمعتمرين ، وإذا كان شيئًا مركوبًا جاز حمل الحاج والمعتمر عليه ، وتدل أيضًا على أنه يجوز صرف شيء من سهم سبيل الله من الزكاة إلى قاصدي الحج والعمرة . ا هـ . * * * وقال المباركفوري في معرض كلامه عن المراد بقوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وقيل المراد منه منقطع الحاج ، وبه قال محمد ، وروي عن أحمد وإسحاق أن الحج أيضًا في سبيل الله يعني أن الحج من جملة السبل مع الغزو ؛ لأنه طريق بر ، إلى أن قال: قلت : واحتج للقول الثاني بما روى أبو داود عن ابن عباس أن امرأة قالت لزوجها أَحِجَّنِي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جملك فلان قال : ذاك حبيس في سبيل الله الحديث ، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله وبما روي عن أم معقل الأسدية أن زوجها جعل بكرًا في سبيل الله وأنها أرادت الحج . . الحديث ، وفيه : فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيها البكر ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الحج من سبيل الله أخرجه أحمد وغيره ، وبما روي عن أبي لاس قال حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل من الصدقة للحج . ذكره البخاري تعليقًا بصفة التمريض ووصله أحمد وابن خزيمة والحاكم ، وقال الشوكاني : حديث أم معقل وحديث أبي لاس يدلان على أن الحج من سبيل الله وأن من جعل شيئا من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحاج ، وإذا كان شيئًا مركوبًا جاز حمل الحاج عليه ، ويدلان أيضًا على أنه يجوز صرف شيء من سهم سبيل الله من الزكاة على قاصدي الحج انتهى . وبما روى أبو عبيد في الأموال عن أبي معاوية ، وابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي جعفر ؛ كلاهما عن الأعمش عن حسان أبي الأشرس عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسًا أن يعطى الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق منه الرقبة . وبما روي عن ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهمًا في سبيل الله فقيل له : أتجعل في الحج ؟ فقال : أما إنه من سبل الله . أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح عنه . ا هـ . * * * وقال الكاساني في معرض كلامه عن المراد من قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وقال محمد : المراد منه الحاج المنقطع ؛ لما روي أن رجلاً جعل بعيرًا له في سبيل الله فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحمل عليه الحجاج . ا هـ . * * * وقال أبو الفرج ابن قدامة في معرض كلامه عن المراد بقوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وروي عنه أن الفقير يعطى قدر ما يحج به الفرض أو يستعين به فيه يروى إعطاء الزكاة في الحج عن ابن عباس ، وعن ابن عمر : الحج من سبيل الله ، وهو قول إسحاق ؛ لما روي : أن رجلاً جعل ناقة له في سبيل الله فأرادت امرأته الحج فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - اركبيها فإن الحج من سبيل الله . . وقال البهوتي : والحج من السبيل أيضًا ، روي عن ابن عباس وابن عمر ؛ لما روي أبو داود أن رجلاً جعل ناقته في سبيل الله فأرادت امرأته الحج فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - اركبيها فإن الحج من سبيل الله فيأخذ إن كان فقيرًا من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو فرض عمرة أو يستعين به فيه أي في فرض الحج والعمرة ؛ لأنه يحتاج إلى إسقاط الفرض ، وأما التطوع فله عنه مندوحه ، وذكر القاضي جوازه في النفل كالفرض وهو ظاهر كلام أحمد والخرقي وصححه بعضهم؛ لأن كلا من سبيل الله ، والفقير لا فرض عليه فهو منه كالتطوع . ا هـ . * * * وقال النووي - ناسبًا القول بكون الحج من سبيل الله إلى الإمام أحمد - ما نصه : وقال أحمد رحمه الله تعالى في أصح الروايتين عنه : يجوز صرفه إلى مريد الحج . وروي مثله عن ابن عمر رضي الله عنهما . واستدل له بحديث أم معقل الصحابية رضي الله عنها قالت : لما حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع وكان لنا جعل فجعله أبو معقل في سبيل الله وأصابنا مرض فهلك أبو معقل وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ من حجه جئته فقال : يا أم معقل ما منعك أن تخرجي معنا ؟ قالت قلت : لقد تهيأنا فهلك أبو معقل وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه فأوصى به أبو معقل في سبيل الله ، قال : فهلا خرجت عليه فإن الحج في سبيل الله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحج فقالت امرأة لزوجها : أحججني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما عندي ما أحججك عليه ، فقالت : احججني على جملك فلان قال : ذلك حبيس في سبيل الله عز وجل . فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله إنها سألتني الحج معك قالت : أحججني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : ما عندي ما أحججك عليه . فقالت : أحججني على جملك فلان ، فقلت : ذلك حبيس في سبيل الله ، فقال : أما إنك لو حججتها عليه كان في سبيل الله وإنها أمرتني أن أسألك ما يعدل حجة معك ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أقرئها السلام ورحمة الله تعالى وبركاته وأخبرها أنها تعدل حجة يعني عمرة في رمضان رواهما أبو داود في سننه في أواخر كتاب الحج في باب العمرة ، والثاني إسناده صحيح ، وأما الأول حديث أم معقل فهو من رواية محمد بن إسحاق ، وقال فيه : وهو مدلس إذا قال : عن ، لا يحتج به بالاتفاق . ا هـ . واستدل أصحاب هذا الرأي بما استدل به أصحاب القول الأول بالنسبة لإرادة الغزاة من كلمة في سبيل الله . وأما بالنسبة لدخول الحجاج والعمار في ذلك فقد استدلوا عليه بما روى أبو داود عن ابن عباس أن امرأة قالت لزوجها : أحججني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جملك الفلاني قال ذاك حبيس في سبيل الله . . . الحديث ، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله وبما روي عن أم معقل الأسدية أن زوجها جعل بكرًا في سبيل الله وأنها أرادت الحج - وفيه : فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيها البكر وقال : الحج في سبيل الله أخرجه أحمد وغيره . وبما روي عن أبي لاس قال : حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل من الصدقة للحج ذكره البخاري تعليقًا ووصله أحمد وابن خزيمة والحاكم . وبما روى أبو عبيد في الأموال عن أبي معاوية وابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي جعفر كلاهما عن الأعمش عن حسان أبي الأشرس عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسًا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج ، وبما روي عن ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهمًا في سبيل الله فقيل له : أتجعل في الحج ؟ فقال : أما إنه من سبيل الله . أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح عنه . وقال القرطبي في تفسيره . خرج أبو محمد عبد الغني الحافظ حدثنا محمد بن محمد الخياش حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا مهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب عن عبد الرحمن بن أبي نعم - ويكني أبا الحكم - قال : كنت جالسًا مع عبد الله بن عمر فأتته امرأة فقالت له : يا أبا عبد الرحمن إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله . قال ابن عمر : فهو كما قال في سبيل الله . فقلت : أما زدتها فيما سألت عنه إلا غماً ، قال : فما تأمرني يا ابن أبي نعم آمرها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون فيعتدون في الأرض ويقطعون السبيل ؟ قال : قلت فما تأمرها ، قال : آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين إلى حجاج بيت الله الحرام أولئك وفد الرحمن أولئك وفد الرحمن ، أولئك وفد الرحمن ليسوا كوفد الشيطان . ثلاثًا يقولها . وقد أجيب بما يلي : 1 - بأن المتبادر إلى الأفهام من كلمة ( سبيل الله ) في آية المصارف هو الغزو . وقال المباركفوري : وأما الأحاديث التي استدل بها أهل القول الثاني فقد أجيب عنها بوجهين الأول : الكلام فيها إسنادًا ، فإن حديث ابن عباس في إسناده عامر بن عبد الواحد الأحول وقد تكلم فيه أحمد والنسائي ، وقال الحافظ : صدوق يخطئ ، وقد روى الشيخان عن ابن عباس نحو هذه القصة وليس عندهما أنه جعل جملة حبيسًا في سبيل الله ولا ( الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 41) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لو أحججتها عليه كان في سبيل الله. وأما حديث أم معقل ففيه اضطراب كثير واختلاف شديد في سنده ومتنه حتى تعذر الجمع والترجيح ، مع ما في بعض طرقه من راو ضعيف ومجهول ومدلس قد عنعن ، وهذا مما يوجب التوقف فيه ، وذلك لا شك فيه ، من ينظر في طرق هذا الحديث في مسند الإمام أحمد وفي السنن مع حديث ابن عباس عند الشيخين وأبي داود وابن أبي شيبة ومع قصة أم طليق عند ابن السكن وابن منده والدولابي وقد حمل ذلك بعضهم على وقائع متعددة ، ولا يخفى بعده . وأما حديث أبي لاس فقال الحافظ في الفتح : رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته . اهـ . * * * ويشير بذلك إلى ما حكي عنه أنه قال : إن ثبت حديث ابن لاس قلت بذلك . قال الحافظ : وتعقب بأنه يحتمل أنهم كانوا فقراء وحملوا عليها خاصة ولم يتملكوها انتهى . وأما أثر ابن عباس فهو أيضًا مضطرب صرح به أحمد كما في الفتح ، وقد بين اضطرابه الحافظ ، ولذلك كف أحمد عن القول بالإعتاق من الزكاة تورعًا ، وقيل : بل رجع عن هذا القول. والثاني : أنه لا ينكر أن الحج من سبيل الله بل كل فعل خير من سبل الله لكن لا يلزم من هذا أن يكون السبيل المذكور في هذه الأحاديث هو المذكور في الآية ، فإن المراد في هذه الأحاديث المعنى الأعم وفي الآية نوع خاص منه وهو الغزو والجهاد ؛ لحديث أبي سعيد ، وإلا فجميع الأصناف من سبيل الله بذلك المعنى . قال ابن حزم فإن قيل : قد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الحج من سبيل الله ، وصح عن ابن عباس أن يعطى منها في الحج . قلنا : نعم وكل فعل خير فهو من سبيل الله تعالى إلا أنه لا خلاف في أنه تعالى لم يرد كل وجه من وجوه البر في قسمة الصدقات فلم يجز أن توضع إلا حيث بين النص وهي الذي ذكرنا . انتهى . وقال ابن قدامة : هذا - أي عدم صرف الزكاة في الحج - أصح ؛ لأن الزكاة إنما تصرف إلى أحد رجلين ؛ محتاج إليها كالفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم ، وابن السبيل أو من يحتاج إليه المسلمون كالعامل والغازي والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين ، والحج من الفقير لا نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم إليه ولا حاجة به أيضًا إليه ؛ لأن الفقير لا فرض عليه فيسقط ، ولا مصلحة في إيجابه عليه وتكليفه مشقة قد رفهه الله منها وخفف عنه إيجابها . وأما الخبر ( يعني حديث أن الحج في سبيل الله فلا يمنع أن يكون الحج من سبيل الله ، والمراد بالآية غيره لما ذكرناه . انتهى . وقال ابن الهمام متعقبًا على الاستدلال المذكور ، ثم فيه نظر ؛ لأن المقصود ما هو المراد بسبيل الله المذكور في الآية والمذكور في الحديث لا يلزم كونه إياه ؛ لجواز أنه أراد الأمر الأعم وليس ذلك المراد في الآية بل نوع مخصوص ، وإلا فكل الأصناف في سبيل الله بذلك المعنى . انتهى . وقال صاحب تفسير المنار بعد الكلام في سند حديث أم معقل ما لفظه : وأقول من جهة المعنى أولاً : إن جعل أبي معقل جملة (في سبيل الله) أو وصيته به صدقة تطوع وهي لا يشترط فيها أن تصرف في هذه الأصناف التي قصرتها عليها الآية . وثانيًا : إن حج امرأته عليه ليس تمليكا لها يخرج الجمل على بقائه على ما أوصى به أبو معقل ، ويقال مثل هذا في حديث أبي لاس . وثالثًا : أن الحج من سبيل الله بالمعنى العام للفظ ، والراجح المختار أنه غير مراد في الآية . انتهى . * * * وقال أبو الفرج ابن قدامة : ولأن الزكاة إنما تصرف لأحد رجلين : محتاج إليها كالفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم ، أو من يحتاج إليه المسلمون كالعامل والغارم والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين ، والحج للفقير لا نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم إليه ولا حاجة به أيضًا ؛ لأن الفقير لا فرض عليه فيسقطه ، ولا مصلحة له في إيجابه عليه وتكليفه مشقة قد رفهه الله منها وخفف عنه إيجابها ، وتوفير هذا القدر على ذوي الحاجة من سائر الأصناف أو صرفه في مصالح المسلمين أولى . ا هـ . القول الثالث : أن المراد بذلك جميع وجوه البر ؛ لأن اللفظ عام فلا يجوز قصره على بعض أفراده إلا بدليل صحيح ولا دليل على ذلك ؛ ولقد قال بهذا القول مجموعة من العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء ، وفيما يلي بعض من أقوالهم : * * * قال الفخر الرازي : إن ظاهر اللفظ في قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يوجب القصر على الغزاة - ثم قال - فلهذا المعنى نقل القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد ؛ لأن قوله : (في سبيل الله) عام في الكل . ا هـ . * * * وقال الخازن في تفسيره : وقال بعضهم أن اللفظ عام فلا يجوز قصره على الغزاة فقط ، ولهذا أجاز بعض الفقهاء صرف سهم سبيل الله إلى جميع وجوه الخير من ( الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 43) تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك ، قال : لأن قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ عام في الكل فلا يختص بصنف دون غيره . ا هـ . * * * وقال محمد جمال الدين القاسمي : ثم ذكر تعالى الإعانة على الجهاد بقوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ فيصرف على المتطوعة في الجهاد ويشترى لهم الكراع والسلاح . وقال الرازي : لا يوجب قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ القصر على الغزاة . ولذا نقل القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء جواز صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون ، وعمارة المساجد ؛ لأن قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ عام في الكل . انتهى . ولذا ذهب الحسن وأحمد وإسحاق إلى أن الحج من سبيل الله فيصرف للحجاج منه ، قال في الإقناع وشرحه : والحج من سبيل الله نصًا . وروي عن ابن عباس وابن عمر ؛ لما روى أبو داود : أن رجلاً جعل ناقة في سبيل الله فأرادت امرأته الحج فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - اركبيها فإن الحج من سبيل الله فيأخذ إن كان فقيرًا من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو عمرة أو يستعين به فيه وكذا في نافلتهما ؛ لأن كلا من سبيل الله . انتهى . قال ابن الأثير : وسبيل الله عام يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات ، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه . انتهى . وقال في التاج : كل سبيل أريد به الله عز وجل - وهو بر - داخل في سبيل الله . ا هـ . * * * وقال أحمد مصطفى المراغي في تفسيره قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وسبيل الله هو الطريق الموصل إلى مرضاته ومثوبته ، والمراد به الغزاة والمرابطون للجهاد ، وروي عن الإمام أحمد أنه جعل الحج من سبيل الله . ويدخل في ذلك جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد ونحو ذلك . والحق أن المراد بسبيل الله مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد كتأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج وإن لم يوجد مصرف آخر ، وليس منها حج الأفراد ؛ لأنه واجب على المستطيع فحسب . ا هـ . * * * وقال الألوسي : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ أريد بذلك عند أبي يوسف منقطعو الغزاة ، وعند محمد : منقطعو الحجيج وقيل : المراد طلبة العلم ، واقتصر عليه في الفتاوى الظهيرية ، وفسره في البدائع بجميع القرب فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله تعالى وسبل الخير . ا هـ . وقال السيد رشيد رضا في تفسيره المنار بعد استعراضه الأقوال التي قيلت في المراد بقوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ما نصه : والتحقيق أن سبيل الله هنا مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد ، وأن حج الأفراد ليس منها ؛ لأنه واجب على المستطيع دون غيره ، وهو من الفرائض العينية بشرطه كالصلاة والصيام لا من المصالح الدينية الدولية . . . ولكن شعيرة الحج وإقامة الأمة لها منها فيجوز الصرف من هذا السهم على تأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج إن لم يوجد لذلك مصرف آخر . ا هـ . وقال أيضًا : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وهو يشمل سائر المصالح الشرعية العامة التي هي ملاك أمر الدين والدولة ، وأولاها بالتقديم الاستعداد للحرب بشراء السلاح وأغذية الجند وأدوات النقل وتجهيز الغزاة - إلى أن قال - ومن أهم ما ينفق في سبيل الله في زماننا هذا إعداد الدعاة إلى الإسلام وإرسالهم إلى بلاد الكفار من قبل جمعيات منظمة تمدهم بالمال الكافي . ا هـ . وقال السيد قطب رحمه الله رحمه الله وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وذلك باب واسع يشمل كل مصلحة للجماعة تحقق كلمة الله ، وفي أولها إعداد العدة للجهاد وتجهيز المتطوعين وتدريبهم وبعث البعوث للدعوة إلى الإسلام وبيان أحكامه وشرائعه للناس أجمعين وتأسيس المدارس والجامعات التي تربي الناشئة تربية إسلامية صحيحة فلا نكلهم إلى مدارس الدولة تعلمهم كل شيء إلا الإسلام ولا مدارس المبشرين تعتدي على طفولتهم وحداثهم وهم لا يملكون رد العدوان . ا هـ . * * * وقال الحسين السيافي في معرض كلامه على قول زيد رحمه الله : ولا يعطى من الزكاة في كفن ميت ولا بناء مسجد ولا تعتق منها رقبة . قال : وذهب من أجاز ذلك إلى الاستدلال بدخولهما في صنف سبيل الله إذ هو طريق الخير على العموم وإن كثر استعماله في فرد مدلولاته وهو الجهاد لكثرة عروضه في أول الإسلام كما في نظائره لكن لا إلى حد الحقيقة المعرفية فهو باق على الوضع الأول فيدخل فيه جميع أنواع القرب على ما يقتضيه النظر في المصالح العامة والخاصة إلا ما خصه الدليل وهو ظاهر عبارة البحر في قوله : قلنا ظاهر سبيل الله العموم إلا ما خصه الدليل . ا هـ . * * * قال صديق حسن خان : أما سبيل الله فالمراد هنا الطريق إليه عز وجل ، والجهاد - وإن كان أعظم الطرق إلى الله عز وجل - لا دليل على اختصاص هذا السهم به ، بل يصح صرف ذلك في كل ما كان طريقًا إلى الله عز وجل ، هذا معنى الآية لغة . والواجب الوقوف على المعاني اللغوية حيث لم يصح النقل هنا شرعًا . ا هـ . * * * وقال الصنعاني في الكلام على حديث لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة الحديث : كذلك الغازي يحل له أن يتجهز من الزكاة وإن كان غنيًا ؛ لأنه ساع في سبيل الله . قال الشارح : ويلحق به من كان قائمًا بمصلحة عامة من مصالح المسلمين ، كالقضاء والإفتاء والتدريس - وإن كان غنيًا - . وأدخل أبو عبيد من كان في مصلحة عامة في العاملين . وأشار إليه البخاري حيث قال : ( باب رزق الحاكم والعاملين عليها ) وأراد بالرزق ما يرزقه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين كالقضاء والفتيا والتدريس فله الأخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غنيًا . ( ا هـ المقصود . * * * وقال المباركفوري : وقيل اللفظ عام فلا يجوز قصره على نوع خاص ، ويدخل فيه جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك . نقل ذلك القفال عن بعض الفقهاء من غير أن يسميه كما في حاشية تفسير البيضاوي لشيخزاده ، وإليه مال الكاساني إذ فسره بجميع القرب ، قال في البدائع : سبيل الله عبارة عن جميع القرب ويدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجًا . وقال النووي في شرح مسلم : وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء أنه يجوز صرف الزكاة في المصالح العامة وتأول عليه هذا الحديث أي ما روى البخاري في القسامة أنه - صلى الله عليه وسلم - وداه - أي الذي قتل بخيبر - مائة من إبل الصدقة . ا هـ . * * * وقال الكاساني : وأما قوله : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ عبارة عن جميع القرب فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجًا . ا هـ . * * * وذكر الشيخ محمود شلتوت رحمه الله أن معنى وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ أنه المصالح العامة التي لا ملك فيها لأحد ، والتي لا يختص بالانتفاع بها أحد ، فملكها ، ومنفعتها لخلق الله ، وأولاها وأحقها : التكوين الحربي الذي ترد به الأمة البغي وتحفظ الكرامة ، ويشمل العدد والعدة على أحدث المخترعات البشرية ، ويشمل المستشفيات عسكرية ومدنية ، ويشمل تعبيد الطرق ، ومد الخطوط الحديدية ، وغير ذلك مما يعرفه أهل الحرب والميدان ، ويشمل الإعداد القوي الناضج لدعاة إسلاميين يظهرون جمال الإسلام وسماحته . ويفسرون حكمته ، ويبلغون أحكامه ، ويتعقبون مهاجمة الخصوم لمبادئه بما يرد كيدهم إلى نحورهم ، وكذلك يشمل العمل على دوام الوسائل التي يستمر بها حفظة القرآن الذي تواتر - ويتواتر بهم - نقله كما أنزل من عهد وحيه إلى اليوم ، وإلى يوم الدين إن شاء الله . وأفتى من مسأله عن جواز صرف الزكاة في بناء المساجد فكان جوابه : " إن المسجد الذي يراد انشاؤه أو تعميره " إذا كان هو المسجد الوحيد في القرية أو كان بها غيره ولكن يضيق بأهلها ، ويحتاجون إلى مسجد آخر ، صح شرعًا صرف الزكاة لبناء هذا المسجد أو إصلاحه ، والصرف على المسجد في تلك الحالة يكون من المصرف الذي ذكره في آية المصارف الواردة في سورة التوبة باسم سَبِيلِ اللَّهِ . وهذا مبني على اختيار أن المقصود بكلمة سَبِيلِ اللَّهِ المصالح العامة التي ينتفع بها المسلمون كافة ولا تخص واحدًا بعينه ، فتشمل المساجد والمستشفيات ودور التعليم ومصانع الحديد والذخيرة وما إليها مما يعود نفعه على الجماعة . وأحب أن أقرر هنا أن المسألة محل خلاف بين العلماء - ثم ذكر ، ما نقله الرازي في تفسيره عن القفال من صرف الصدقات في جميع وجوه الخير ثم قال : وهذا ما أختاره واطمئن إليه وأفتي به ، ولكن مع القيد الذي ذكرناه بالنسبة للمساجد ، وهو أن يكون المسجد لا يغني عنه غيره وإلا كان الصرف إلى غير المسجد أولى وأحق " ا هـ . * * * وسئل الشيخ حسين مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق عن جواز الدفع لبعض الجمعيات الخيرية الإسلامية من الزكاة . فأفتى بالجواز ، مستندًا إلى ما نقله الرازي عن القفال وغيره في معنى سبيل الله . وقد استدل أصحاب هذا القول على قولهم بما يأتي : ( الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 48) إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على بعض أفراده دون سائرها إلا بدليل ولا دليل على ذلك ، وما قيل بأن حديث عطاء بن يسار : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة وذكر منهم غاز في سبيل الله يعين أن سبيل الله هو الغزو فغير صحيح ، ذلك أن غاية ما يدل عليه الحديث هو أن المجاهد يعطى من سهم سبيل الله ولو كان غنيًا، وسبل الله كثيرة لا تنحصر في الجهاد في سبيل الله . * * * جاءت الأحاديث والآثار بتطبيق العموم في مدلول قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ فقد اعتبرت السنة الحج والعمرة من سبيل الله ، يتضح ذلك من حديث أبي لاس وحديث أم معقل وحديث ابن عباس وفيه أما أنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله وقد جاءت الآثار عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باعتبار الحج سبيلا من سبل الله ، فقد ذكر أبو عبيد في كتابه الأموال بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لا يرى بأسًا أن يعطى الرجل من زكاة ماله للحج . وما أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح إلى ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهمًا في سبيل الله فقيل له : أتجعل في الحج ؟ قال : أما إنه من سبيل الله . وما ذكره القرطبي في تفسيره من أن عبد الرحمن بن أبي نعم قال : كنت جالسًا مع عبد الله بن عمر فأتته امرأة فقالت له : يا أبا عبد الرحمن إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله - وفيه - آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين إلى حجاج بيت الله الحرام أولئك وفد الرحمن أولئك وفد الرحمن أولئك وفد الرحمن . كما اعتبرت السنة إشاعة الألفة بين المسلمين وتطييب خواطرهم وحفظ حقوقهم سبيلا من سبل الله . . ففي صحيح البخاري في باب القسامة قال : حدثنا أبو نعيم حدثنا سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار زعم أن رجلاً من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفرًا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم قتيلاً وقالوا للذي وجد فيهم : قد قتلتم صاحبنا قالوا ما قتلنا ولا علمنا فانطلقوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا قتيلا فقال : الكبر الكبر فقال لهم : تأتون بالبينة على من قتله ؟ قالوا : ما لنا بينة ، قال : فيحلفون ، قالوا : لا نرضى بأيمان يهود ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطل دمه فوداه من إبل الصدقة . * * * قال ابن حجر : ووقع في رواية ابن أبي ليلى : فوداه من عنده . وقد جمع بعضهم بين الروايتين بأن المراد من قوله : من عنده أي بيت المال المرصد للمصالح . قال ابن حجر : وقد حمله بعضهم على ظاهره ، فحكى القاضي عياض عن بعض العلماء جواز صرف الزكاة في المصالح العامة ، واستدل بهذا الحديث وغيره . قلت : وقد تقدم شيء من ذلك في كتاب الزكاة ، وفي الكلام على حديث أبي لاس قال حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل الصدقة في الحج . وعلى هذا فالمراد بالعندية كونها تحت أمره وحكمه ، وللاحتراز من جعل ديته على اليهود أو غيرهم . قال القرطبي في " المفهم " : فعل - صلى الله عليه وسلم - ذلك على مقتضى كرمه وحسن سياسته وجلبًا للمصلحة ودرءًا للمفسدة على سبيل التأليف ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق . ا هـ . وذكر النووي في معرض شرحه حديث القسامة قال : وقال الإمام أبو إسحاق المروزي من أصحابنا يجوز صرفها من إبل الزكاة لهذا الحديث فأخذ بظاهره . ا هـ . ورأى حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه يجوز الإعتاق من الزكاة ، ففي صحيح البخاري تحت : باب قول الله تعالى : وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ويذكر ابن عباس - رضي الله عنهما - يعتق من زكاة ماله ويعطى في الحج . وقال الحسن إن اشترى أباه من الزكاة جاز ويعطى في المجاهدين والذي لم يحج ، ثم تلا : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ الآية في أيها أعطيت أجزأت . قال ابن حجر : ووصله أبو عبيد في كتاب الأموال من طريق حسان بن أبي الأشرس عن مجاهد عنه أنه كان لا يرى بأسًا أن يعطى الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق منه الرقبة . وأخرج عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال : أعتق من زكاة مالك . ا هـ . تعبير النبي - صلى الله عليه وسلم - بمن التبعيضية في حديث أم معقل في قوله : فإن الحج في سبيل الله يشعر أن سبيل الله الوارد في آية مصارف الزكاة على عمومه وأنه يتناول مجموعة من الأمور وأن الحج منها . وبمثل تعبيره - صلى الله عليه وسلم - عبر ابن عمر فقال عن الحج : أما إنه من سبيل الله . وقد أجيب عن القول بعموم اللفظ بأجوبة ، منها ما ذكره المباركفوري حيث قال: وأما القول الثالث فهو أبعد الأقوال ؛ لأنه لا دليل عليه من كتاب ولا من سنة صحيحة أو سقيمة ولا من إجماع ولا من رأي صحابي ولا من قياس صحيح أو فاسد بل هو مخالف للحديث الصحيح الثابت وهو حديث أبي سعيد ، ولم يذهب إلى هذا التعميم أحد من السلف إلا ما حكى القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء المجاهيل ، والقاضي عياض عن بعض العلماء غير المعروفين قال صاحب تفسير المنار : أما عموم مدلول هذا اللفظ فهو يشمل كل أمر مشروع أريد به مرضاة الله تعالى باعلاء كلمته وإقامة دينه وحسن عبادته ومنفعة عباده ولا يدخل فيه الجهاد بالمال والنفس إذا كان لأجل الرياء والسمعة . وهذا العموم لم يقل به أحد من السلف ولا الخلف ولا يمكن أن يكون مرادًا هنا ؛ لأن الإخلاص الذي يكون للعمل في سبيل الله أمر باطني لا يعلمه إلا الله تعالى فلا يمكن أن تناط به حقوق مالية دولية . وإذا قيل : إن الأصل في كل طاعة من المؤمن أن تكون لوجه الله تعالى فيراعى هذا في الحقوق عملا بالظاهر اقتضى هذا أن يكون كل مصل وصائم ومتصدق وتال للقرآن وذاكر الله تعالى ومميط الأذى عن الطريق مستحق بعمله هذا للزكاة الشرعية فيجب أن يعطى منها ويجوز له أن يأخذ منها وإن كان غنيًا ، وهذا ممنوع بالإجماع أيضًا وإرادته تنافي حصر المستحقين في الأصناف المنصوصة ؛ لأن هذا الصنف لا حد لجماعاته فضلاً عن أفراده ، وإذا وكل أمره إلى السلاطين والأمراء تصرفوا فيه بأهوائهم تصرفًا تذهب حكمة فرضية الصدقة من أهلها . انتهى . * * * وأما ما يذكر للاحتجاج لذلك من رواية البخاري في دية الأنصاري الذي قتل بخيبر مائة من إبل الصدقة فهو مخالف لما روى البخاري أيضًا في قصته أنه رداه من عنده ، وجمع بين الروايتين بأنه اشتراه من أهل الصدقة بعد أن ملكوها ثم دفعها تبرعًا إلى أهل القتيل حكاه النووي عن الجمهور ، وعلى هذا فلا حجة فيه لمن ذهب إلى التعميم . وإذا تقرر هذا فلا يجوز صرف الزكاة في عمارة المساجد والمعاهد الدينية وبناء الجسور وإصلاح الطرق والشوارع وتكفين الموتى وقضاء ديونهم وغير ذلك من أنواع البر ؛ لأنه ليس هذا في شيء من المصارف المنصوصة ، وهو مذهب أحمد كما يظهر من المغني ( 667 2 ) ومالك كما في المدونة ( 59 \ 2 ) وسفيان وأهل العراق وغيرهم من العلماء كما في الأموال لأبي عبيد ( ص 610 ) ، هذا وقد ألحق بعض العلماء بالغازي من كان قائمًا بمصلحة من مصالح المسلمين كالقضاء والإفتاء والتدريس - وإن كان غنيًا - وأدخله بعضهم في العاملين فأجاز له الأخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غينًا ولا يخفى ما فيه. وقال صاحب المنار : إن سبيل الله هنا مصالح المسلمين الشرعية التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد والأشخاص وأن الحج ليس منها . قال : وأولها وأولاها بالتقديم الاستعداد للحرب بشراء السلاح وأغذية الجند وأدوات النقل وتجهيز الغزاة ، قال : ويدخل في عمومه إنشاء المستشفيات العسكرية والخيرية وإشراع الطرق وتعبيدها ومد الخطوط الحديدية العسكرية لا التجارية ، ومنها بناء البوارج المدرعة والمنطادات والطيارات الحربية والحصون والخنادق قال : ويدخل فيه النفقة على المدارس للعلوم الشرعية وغيرها مما تقوم به المصلحة العامة ، وفي هذه الحالة يعطى منها معلمو هذه المدارس ما داموا يؤدون وظائفهم المشروعة التي ينقطعون بها عن كسب آخر ولا يعطى عالم غني لأجل علمه وإن كان يفيد الناس به انتهى . قلت : حديث أبي سعيد ينافي هذا التعميم ؛ لكونه كالنص في أن المراد بسبيل الله المطلق في الآية هم الغزاة والمجاهدون خاصة فيجب الوقوف عنده . ا هـ . ومنها ما ذكره الشيخ يوسف القرضاوي حيث قال ما نصه : ولكن الرد الصحيح على القائلين بهذا الرأي يكون بتحديد المراد من ( سبيل الله ) هل هو خاص بالغزو والقتال - كما هو رأي الجمهور - أم هو عام يشمل كل بر وخير وقربة - كما هو رأي من ذكرنا - وكما يدل عليه عموم اللفظ . ولكي نحدد هذا المراد تحديدًا دقيقًا ، علينا أن نستعرض موارد هذه الكلمة في القرآن ، لنبين ماذا يراد بها حيث وردت ، فخير ما يفسر القرآن بالقرآن . 2- سبيل الله في القرآن: ذكرت كلمة " في سبيل الله " في القرآن العزيز بضعًا وستين مرة . أ - فتارة تجر بحرف في " في سبيل الله " كما في آية مصارف الزكاة هذه ، وهو أكثر ما ورد في القرآن ، وتارة تجر بحرف " عن " " عن سبيل الله " وذلك في ثلاثة وعشرين موضعًا من القرآن . وفي هذه المواضع جاءت بعد واحد من فعلين ؛ إما الصد مثل : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا 167 النساء ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ 36 الأنفال . وإما الإضلال مثل : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ 6 لقمان . ب - وحينما تجر بـ " في " - وهو أكثر ما ورد في القرآن - يكون ذلك بعد فعل الإنفاق : وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أو الهجرة وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أو الجهاد وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أو القتال أو القتل : يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ أو المخمصة أو الضرب وما يشبهها . * * * 3- فما المراد بسبيل الله في القرآن ؟ إن السبيل في اللغة هو الطريق . وسبيل الله هو الطريق الموصل إلى رضاه ومثوبته ، وهو الذي بعث الله النبيين ليهدوا الخلق إليه ، وأمر خاتم رسله بالدعوة إليه ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ النحل . وأن يعلن في الناس هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي يوسف . وهناك سبيل آخر مضاد هو سبيل الطاغوت . وهو الذي يدعو إليه إبليس وجنوده ، وهو الذي ينتهي بصاحبه إلى النار وسخط الله ، وقد قال الله تعالى مقارنًا بين الطريقين وأصحابهما : الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ النساء . وسبيل الله دعاته قليلون ، وأعداؤه الصادون عنه كثيرون يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ هذا إلى أن تكاليف هذا الطريق تجعل أهواء النفوس مخالفة له صادة عنه ، ولهذا جاء التحذير من اتباع الهوى : وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وإذا كان أعداء الله يبذلون جهودهم وأموالهم ليصدوا عن ( سبيل الله ) فإن واجب أنصار الله من المؤمنين أن يبذلوا جهودهم ، وينفقوا أموالهم في ( سبيل الله ) وهذا ما فرضه الإسلام ، فجعل جزءًا من الزكاة المفروضة يخصص لهذا المصرف الخطير ( وفي سبيل الله ) كما حث المؤمنين بصفة عامة على إنفاق أموالهم في ( سبيل الله ) . معنى سبيل الله إذا قرن بالإنفاق والمتتبع لكلمة ( سبيل الله ) مقرونة بالإنفاق يجد لها معنيين : 1 - معنى عام - حسب مدلول اللفظ الأصلي - يشمل كل أنواع البر والطاعات وسبل الخيرات . وذلك كقوله تعالى : مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وقوله : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ فلم يفهم أحد من هذه الآية خاصة أن سبيل الله فيها مقصور على القتال وما يتعلق به ، بدليل ذكر المن والأذى . وهما إنما يكونان عند الإنفاق على الفقراء وذوي الحاجة ، وبخاصة الأذى . وكذلك قوله تعالى : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ فالمراد بسبيل الله في هذه الآية المعنى الأعم - كما قال الحافظ ابن حجر - لا خصوص القتال - ، وإلا لكان الذي ينفق ماله على الفقراء والمساكين واليتامى وابن السبيل ونحوها - دون خصوص القتال - داخلا في دائرة الكانزين المبشرين بالعذاب . وزعم بعض المعاصرين : أن كلمة ( في سبيل الله ) إذا قرنت بالإنفاق كان معناها الجهاد جزمًا ولا تحتمل غيره مطلقًا وهو زعم غير مبني على الاستقراء التام لموارد الكلمة في الكتاب العزيز ، وآيتا البقرة والتوبة المذكورتان تردان عليه . 2 - والمعنى الثاني معنى خاص ، وهو نصرة دين الله ومحاربة أعدائه وإعلاء كلمته في الأرض ، حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ والسياق هو الذي يميز هذا المعنى الخاص من المعنى العام السابق ، وهذا المعنى هو الذي يجيء بعد القتال والجهاد مثل : قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ومن ذلك قوله تعالى بعد آيات القتال في سورة البقرة : وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فالإنفاق هنا إنفاق في نصرة الإسلام وإعلاء كلمته على أعدائه المحاربين له الصادين عنه . ومثل ذلك قوله تعالى في سورة الحديد : وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى فالسياق يدل على أن الإنفاق هنا كالإنفاق في الآية السابقة . وفي سورة الأنفال قال تعالى : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ . فالمقام يدل بوضوح على أن سبيل الله في الآية هو محاربة أعداء الله ونصرة دين الله ، كما صرح بذلك الحديث الصحيح : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله . وهذا المعنى الخاص هو الذي يعبر عنه أحيانًا بالجهاد والغزو . وتفسيرنا له بنصرة الإسلام أولى ، وإلا لكان مضمون معنى وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ جاهدوا في الجهاد . * * * 3- سبيل الله في آية مصارف الزكاة: وإذا كان لسبيل الله مع الإنفاق هذان المعنيان : العام والخاص - كما ذكرنا - فما المراد به معنا في الآية التي حددت مصارف الزكاة ، والإنفاق ملحوظ فيها وإن لم يذكر لفظه ؟ إن الذي أرجحه أن المعنى العام لسبيل الله لا يصلح أن يراد هنا ؛ لأنه بهذا العموم يتسع لجهات كثيرة ، لا تحصر أصنافها فضلا عن أشخاصها ، وهذا ينافي حصر المصارف في ثمانية ، كما هو ظاهر الآية ، وكما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء كما أن سبيل الله بالمعنى العام يشمل إعطاء الفقراء والمساكين وبقية الأصناف السبعة الأخرى ؛ لأنها جميعها من البر وطاعة الله ، فما الفرق إذن بين هذا المصرف وما سبقه وما يلحقه ؟ إن كلام الله البليغ المعجز يجب أن ينزه عن التكرار بغير فائدة . فلا بد أن يراد به معنى خاص يميزه عن بقية المصارف ، وهذا ما فهمه المفسرون والفقهاء من أقدم العصور ، فصرفوا معنى سبيل الله إلى الجهاد ، وقالوا : إنه المراد به عند إطلاق اللفظ . ولهذا قال ابن الأثير : إنه صار لكثرة الاستعمال فيه كأنه مقصور عليه ، كما نقلنا عنه في أول الفصل . ومما يؤيد ما قاله ابن الأثير ما رواه الطبراني : أن الصحابة كانوا يومًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأوا شابًا جلدًا ، فقالوا: لو كان شبابه وجلده في سبيل الله ؟ يريدون : في الجهاد ونصرة الإسلام. وصحت أحاديث كثيرة عن الرسول وأصحابه تدل على أن المعنى المتبادر لكلمة (سبيل الله ) هو الجهاد . كقول عمر في الحديث الصحيح : حملت على فرس في سبيل الله يعني في الجهاد . وحديث الشيخين : لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها . وحديث البخاري : من احتبس فرسًا في سبيل الله ، إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده ، فإن شبعه وريه وروثه ، وبوله في ميزانه يوم القيامة يعني حسنات وحديث الشيخين : ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا وحديث النسائي والترمذي وحسنه : من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت بسبعمائة ضعف وحديث البخاري : ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله ، فتمسه النار وغيرها كثير . ولم يفهم أحد من سبيل الله فيها إلا الجهاد . فهذه القرائن كلها كافية في ترجيح أن المراد من ( سبيل الله ) في آية المصارف ، هو الجهاد ، كما قال الجمهور ، وليس المعنى اللغوي الأصلي ، وقد أيد ذلك حديث لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة . . وذكر منهم الغارم والغازي في "سبيل الله" . ا هـ. هذا ما تيسر ذكره ، وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو عبد الله بن سليمان بن منيع عضو عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان نائب الرئيس عبد الرزاق عفيفي رئيس اللجنة إبراهيم بن محمد آل الشيخ قرار الهيئة قرار رقم " 24" وتاريخ 21 \ 8 \ 1394 هـ الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه وبعد : فقد جرى اطلاع هيئة كبار العلماء في دورتها الخامسة المعقودة بمدينة الطائف بين يوم 5 8 94 هـ ويوم 22 8 94 هـ على ما أعدته اللجنة للبحوث العلمية والإفتاء من بحث في المراد بقول الله تعالى في آية مصارف الزكاة وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ هل المراد بذلك الغزاة في سبيل الله وما يلزم لهم ، أم عام في كل وجه من وجوه الخير . وبعد دراسة البحث المعد والاطلاع على ما تضمنه من أقوال أهل العلم في هذا الصدد - ومناقشة أدلة من فسر المراد بسبيل الله في الآية بأنهم الغزاة وما يلزم لهم ، وأدلة من توسع في المراد بالآية ولم يحصرها في الغزاة فأدخل فيه بناء المساجد والقناطر وتعليم العلم وتعلمه وبث الدعاة والمرشدين وغير ذلك من أعمال البر . رأى أكثرية أعضاء المجلس الأخذ بقول جمهور العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء من أن المراد بقوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ الغزاة المتطوعون بغزوهم وما يلزم لهم من استعداد . وإذا لم يوجدوا صرفت الزكاة كلها للأصناف الأخرى ولا يجوز صرفها في شيء من المرافق العامة إلا إذا لم يوجد لها مستحق من الفقراء والمساكين وبقية الأصناف المنصوص عليهم في الآية الكريمة ، وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء
    0
شاهد المزيد