النبوة .. دراسة من القرآن الكريم

الكاتب: منيع عبد الحليم محمود *

(مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثاني - الإصدار : من شوال إلى ربيع الأول لسنة 1395هـ 1396هــ)

1- مقدمة:

فقط النبي مأخوذ من الإنباء ، فيتضمن معنى الإعلام والإخبار ، ولكنه في استعماله أخص من مطلق الإخبار ، فهو يستعمل في الإخبار بالأمور الغائبة المختصة دون المشاهدة المشتركة ، كما في قوله تعالى : وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ .
وقال : فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ .
وجمع النبي أنبياء ، وهو من النبأ ، وأصله الهمزة ، وقد قرئ بها ، وهي قراءة نافع . لكن لما كثر استعماله لينت همزته كما فعل مثل ذلك في الذرية وفي البرية .
وقيل : هو من النَّبْوة - بفتح النون وسكون الباء ، وهي العلو ، فمعنى النبي : المعلى الرفيع المنزلة ، والأصح أن هذا المعنى لازم للأول ، فمن أنبأه الله وجعله منبئًا عنه ، فلا يكون إلا رفيع القدر عليًا . وأما لفظ العلو والرفعة فلا يدل على خصوص النبوة ، إذ يوصف بهذا من ليس نبيًا كما قال تعالى : وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
* * *
ويقول الإمام ابن تيمية : وقراءة الهمزة قاطعة بأنه مهموز ، وما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أنا نبي الله ولست نبيء الله فما رأيت له إسنادًا ، لا سندًا ولا مرسلاً ، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث ، ولا السير المعروفة ، ومثل هذا لا يعتمد عليه .
ثم يبين الإمام ابن تيمية أننا إذا اعتبرنا النبي مهموز الأصل ، فإن الهمزة يمكن أن تلين ، فذلك جائز ، فتصير حرفًا معتلاً ، فيعبر عنه باللفظين فترد إليه القراءتان بخلاف المعتل ، فإنه لا يجعل همزة ، فيجب القطع بأن النبي مأخوذ من الإنباء لا من النَّبْوة بفتح النون وسكون الباء .
على أنه إذا كان هذا هو التحديد اللفظي واللغوي لمعنى النبوة ، فإن أغلب تحديدات معنى النبوة تدور حول هذا ولا تزيد عنه إلا قليلاً .
فإن المشهور في عرف الشرع - كما يقول الإمام الألوسي - : ( إن النبي من أوحي إليه سواء أمر بالتبليغ أم لا ) .
أما صاحب شرع المقاصد على المواقف فيقول : ( إن النبوة هو كون الإنسان مبعوثًا من الحق إلى الخلق ) .
أما الإمام محمد عبده ، فإنه لا يحدد معنى النبوة بتعريفها بل يحددها بهدفها يقول : ( النبوة تحدد ما ينبغي أن يلحظ في جانب واجب الوجود من الصفات ، وما يحتاج إليه البشر كافة من ذلك ، وتشير إلى خاصتهم بما يمكن لهم أن يفضلوا به غيرهم في مقدمات عرفانهم ، لكنها لا تخدم إلا ما فيه الكفاية للعامة .
على أننا إذا نظرنا إلى مجموع هذه التحديدات لمعنى النبوة نجد أنها لا تكفي كفاية تامة لتحديد معنى النبوة ، فلم تحدثنا هذه التعريفات ، عن علامات الرسل وسماتهم المحدودة ، وعن خلقهم قبل الاصطفاء للنبوة ، وبالتأكيد فإن هذه التعريفات لم تخرج عن نطاق التحديد اللفظي للنبوة ، ولم يخرج عن هذا النطاق سوى الشيخ محمد عبده ، حيث تكلم عن أهدافها دون تحديد تعريف لها .
ولكن كيف يتأتى لنا أن نحدد معنى النبوة ؟
* * *
إن التعريف الذي يحدد لنا معنى النبوة هو التعريف القرآني ، وهو الذي يخرجنا من هذه الدائرة الضيقة المحدودة للتعريفات السابقة .
وتبدو لنا أولى الآيات التي تحدد لنا المعنى المراد في قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ويقول تعالى : وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا ويقول : وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي .
تدلنا هذه الآيات على أن الله تعالى يصطفي الأنبياء ويجتبيهم لنفسه ويرسم حياتهم قبل ميلادهم . فيختار لهم النسب الشريف الذي يميزهم عن غيرهم ويصنعهم على عينه ، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله اصطفى من ولد إبراهيم : إسماعيلَ ، واصطفى من ولد إسماعيل : بني كنانة ، واصطفى من بني كنانة : قريشًا ، واصطفى من قريش : بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم .
وليس هناك دليل على ما ذكرنا من قبل أكثر من قول الله سبحانه وتعالى عن سيدنا عيسى عليه السلام قبل أن يولد :
إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا .
ولعل ما يشرح الآيات السابقة بتفصيل أوسع ذلك الحديث الذي ذكره الإمام البخاري عن كيفية استدلال هِرَقل على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه ركز هرقل تركيزًا كبيرًا على حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة ؛ عن الإمام البخاري - رضي الله عنه - قال : حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ، قال : أخبرنا شعيب عن الزهري ، قال : أخبرني عبد الله بن عتبة بن مسعود : أن عبد الله بن عباس أخبره : أن أبا سفيان بن حرب أخبره : أن هرقل أرسل إليه في ركب قريش وكانوا تجارًا بالشام ، في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ، ثم دعاهم ودعا بترجمانه ، فقال :
أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟
فقال أبو سفيان فقلت : أنا أقربهم نسبًا .
فقال : أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ، ثم قال لترجمانه :
قل لهم : إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه ، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه .
ثم كان أول ما سألني عنه : أن قال : كيف نسبه فيكم ؟
قلت : هو فينا ذو نسب .
قال : فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله ؟
قلت : لا .
قال : فهل كان من آبائه من ملك ؟ قلت : لا .
قال : فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟
فقلت : بل ضعفاؤهم .
قال : أيزيدون أم ينقصون ؟
قلت : بل يزيدون .
قال : فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟
قلت : لا .
قال : فهل يغدر ؟ قلت : لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها .
قال : ولم يكن كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة .
قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت : نعم .
قال : فكيف كان قتالكم إياه ؟ قلت : الحرب بيننا وبينه سجال : ينال منا وننال منه .
قال : ماذا يأمركم ؟
قلت : يقول : اعبدوا الله وحده ، ولا تشركوا به شيئًا ، واتركوا ما يقول آباؤكم ، ويأمرنا بالصلاة ، والصدق ، والعفاف والصلة .
فقال للترجمان : قل له : سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب ، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها .
وسألتك : هل قال أحد منكم هذا القول ؟ فذكرت أن لا ، فقلت : لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت : رجل يأتسي بقول قيل قبله .
وسألتك : هل كان من آبائه من ملك ؟ فذكرت أن لا ، قلت : فلو كان في آبائه من ملك لقلت : رجل يطلب ملك أبيه .
وسألتك : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فذكرت أن لا ، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله .
وسألتك : أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه ، وهم أتباع الرسل .
وسألتك : أيزيدون أم ينقصون ؟ فذكرت أنهم يزيدون ، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم .
وسألتك : أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فذكرت : أن لا ، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب .
وسألتك : هل يغدر ؟ فذكرت : أن لا ، وكذلك الرسل لا تغدر .
وسألتك : بم يأمركم ؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ، ولا تشركوا به شيئًا ، وينهاكم عن عبادة الأوثان ، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف . فإن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدمي هاتين ، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم ، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه .
* * *
ثم نأتي للجزء الثاني من المنهج القرآني لتحديد النبوة وهو حالة تلقي الوحي ، فبعد أن يصطفي الله رسله ويربيهم ويعني بهم العناية الكاملة يفاجئهم بتلقي الوحي .
فبالنسبة للأنبياء السابقين على الإسلام يقول الله تعالى : وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى .
وقال تعالى : فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ .
ويفاجئ الرسول - صلى الله عليه وسلم - الوحي وهو في غار حراء ، وإذا كان الإمام البخاري قد ذكر الحديث الدال على ذلك في صحيحه فإن القرآن الكريم يعبر عنها بقوله :
قال تعالى : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .
وقال تعالى : نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ .
أما شرح تلك الحالة : فقد ورد في صحيح البخاري بسنده عن السيدة عائشة أم المؤمنين أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء ، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء .
فجاءه الملك فقال : اقرأ .
قال : ما أنا بقارئ .
قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ،
فقال : اقرأ . قلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني الثانية حتى بلغ مني الجهد .
فقال : اقرأ .
فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني .
فقال : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، فقال : زملوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر :
لقد خشيت على نفسي .
فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبدًا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى - ابن عم خديجة - وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية إلى ما شاء الله أن يكتب وكان شيخًا كبيرًا قد عمي .
فقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك .
فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟
فأخبره - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى .
فقال له ورقة : هذا الناموس ، الذي نزله الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعًا ، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك ؟
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أومخرجي هم ؟
قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا ، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي .
هذا هو المنهج القرآني لتعريف النبوة والذي يمثل لنا التعريف الصحيح لها باعتباره النص الذي أتانا من عند الله سبحانه وتعالى ، وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولنا أن نوجزه فنقول :
( النبوة سفارة بين الله وخلقه يقصد بها إصلاح أمرهم ، وهبة من الله سبحانه وتعالى يمنحها لمن يصطفيهم من عباده بعد أن يربيهم التربية الصحيحة التي بها يكونون مؤهلين لتلقي الوحي من الله سبحانه وتعالى في أي وقت ) .


2- الفرق بين النبي والرسول:

هل هناك فرق بين النبي والرسول ؟

الواقع أن العلماء في إجابتهم على هذا السؤال انقسموا إلى فرقتين :
الفرقة الأولى : قررت هذه الفرقة أنه لا يوجد أي فرق بين النبي والرسول فكلا اللفظين معناهما الإنباء والإخبار ، فالنبي هو من ينبئ والرسول يبلغ الرسالة ، وعلى ذلك فلا فرق بينهما . والواقع أن أصحاب هذا الرأي استندوا في تفسيرهم للفظين إلى اللغة باعتبار أن النبي اسم فاعل أو اسم مفعول ، والرسول اسم مفعول ، وبناء على هذا قرروا عدم وجود فرق بين اللفظين .
الفرقة الثانية : وهم جمهور العلماء ، فقد قرروا وجود فرق بين لفظي نبي ورسول ، واستندوا في ذلك على القرآن والأحاديث الشريفة التي تؤيدهم في هذا الرأي ، ومن ذلك : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ .
يقول الإمام الألوسي في تفسير الآية : وعطف نبي على رسول يدل على المغايرة بينهما وهو الشائع ، ويدل على المغايرة أيضًا ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الأنبياء فقال : مائةُ ألف وأربعةٌ وعشرون ألفًا ، قيل : فكم الرسل منهم ؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جمًا غفيرًا .
ونضيف نحن قوله تعالى : وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا
وقوله تعالى : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ
فإن توارد الصفتين : الرسول والنبي على موصوف واحد في التنكير والتعريف يقتضي تباينًا ولو من وجه كما يقتضي تغايرًا ولو في المفهوم على ما بيناه في آخر المقام . هذه هي أهم الأدلة على وجود الفرق بين النبي والرسول وبها يرجح رأي الفرقة الثانية .

- الفرق بين النبي والرسول على أشهر الآراء:

اختلفت آراء العلماء في تحديد الفرق بين النبي والرسول ، بل إن بعضهم اختلفوا هم أنفسهم على قولين ، وباستقراء الآراء في تحديد الفرق بين النبي والرسول نجدها كالآتي :
أولاً : الرسول هو من له كتاب أو نسخ لبعض أحكام الشريعة السابقة ، والنبي قد يخلو من ذلك كيوشع عليه السلام .
ثانيًا : أن الرسول صاحب الوحي بواسطة الملك ، والنبي هو المخبر عن الله تعالى بكتاب أو إلهام أو تنبيه في المنام .
ثالثًا : الرسول من يأتيه الملك عليه السلام بالوحي يقظة ، والنبي يقال له ولمن يوحى إليه في المنام لا غير .
وقد عدد الإمام الألوسي بعض الآراء التي تمثل الجو العام للتفرقة بين النبي والرسول نذكر منها :
رابعًا : الرسول ذكر حي بعثه الله بشرع جديد يدعو الناس إليه ، والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق ، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهما السلام .
خامسًا : الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى إلى قوم بشرع جديد بالنسبة إليهم وإن لم يكن جديدًا في نفسه ، كإسماعيل عليه السلام ، إذ بعث لجرهم أولا . والنبي يعمه ، من بعث بشرع غير جديد كذلك.
سادسًا : أن المشهور في عرف الشرع أن النبي أعم من الرسول ، فإنه من أوحى إليه وأمر بالتبليغ
بدراستنا لهذه الآراء نجد أنها جميعًا لا تقدم لنا الفرق الكافي بين لفظي النبي والرسول ، بل إن بعضها يتهافت في نفسه عند أول طعن ، كالرأي الثالث الذي نقضه الإمام الألوسي ، وإذا كان أهم هذه الآراء وأشهرها وهو الرأي السادس ، فإننا بدراسته نجد أنه لا يحدد الفرق بين النبي والرسول تحديدًا بينًا فهو يخلط بينهما ، يجعل النبي نبيًا إذا لم يؤمر بالتبليغ ، ويجعله رسولا إذا أمر بالتبليغ ، مما لا يجعلنا نرى هناك فرقًا واضحًا بينهما ، ونشارك في ذلك الرأي الإمام الألوسي بقوله تعقيبًا على هذا الرأي :
( ولا يصح إرادة ذلك ؛ لأنه إذا قوبل العام بالخاص يراد بالعام ما عدا الخاص ، فمتى أريد بالنبي ما عدا الرسول ، كان المراد به من لم يؤمر بالتبليغ ، وحيث تعلق به الإرسال صار مأمورًا بالتبليغ ، فيكون رسولا فلم يبق في الآية بعد تعلق الإرسال رسول ونبي مقابل له ) .

3- نهج القرآن في تحديد كل من النبي والرسول:

أولاً : أنه ليس من الضروري أن يأتي الرسول بشريعة جديدة ، وهذا نأخذه من قوله سبحانه وتعالى عن يوسف عليه السلام : وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا .
وقوله تعالى : إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (163) وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا .
فإن يوسف عليه السلام كان يسير على شريعة إبراهيم عليه السلام، وداود وسليمان عليهما السلام كانا يسيران على شريعة التوراة ، ومع ذلك كانوا من الرسل .
ثانيًا : أن الأنبياء يأتيهم وحي من الله سبحانه وتعالى فيبلغونه للمؤمنين ، مع وجود شريعة يعمل بها ، وهذا يكون كالفهم لها ، ولكنه فهم موحى به من قبل الله سبحانه وتعالى ، وهؤلاء كأنبياء بني إسرائيل ، ونرى ذلك كما في قول الله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا .
فهم يطلبون وحيًا من الله يخبرهم بملك يقاتلون تحت قيادته .
ثالثًا : عند قراءتنا لقول الله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ نجد أنه إرسال يشمل النبي والرسول ، إذن فهناك إشراك في جزء من الرسالة للنبي ، ويعلق على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله : قال الله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ وقوله : مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ فذكر إرسالاً يعم النوعين ، وقد خص أحدهما بأنه رسول ، فإن هذا هو الرسول المطلق ، الذي أمر بتبليغ رسالته إلى من خالف الله كنوح ، وقد ثبت في الصحيح أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض ، وقد كان قبله أنبياء كشيث وإدريس ، وقبلهما آدم كان نبيًا مكلمًا .
قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون ، كلهم على الإسلام ، فأولئك الأنبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه ، ويأمرون به المؤمنين الذين عندهم ؛ لكونهم مؤمنين بهم ، كما يكون أهل الشريعة الواحدة يقبلون ما يبلغه العلماء عن الرسول . ا هـ ) .
ومن هنا ، وبناء على ما ذكرناه استنادًا إلى كتاب الله تعالى ، فإننا نرتضي رأي الإمام ابن تيمية فهو الذي يسير مع المنهج القرآني حيث يقول : ( النبي هو الذي ينبئه الله ، وهو ينبئ بما أنبأه الله به ، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول ، أما إذا كان يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول ) .
ونحن نضيف إلى هذا الرأي : أن مهمة النبي تتناول التبليغ عن الله عز وجل في أمور تتعلق بمصلحة المؤمنين ، والفصل في قضاياهم العامة كما قال تعالى : إِنَّا أَنْـزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ .
كما تتناول الإشراف على سياسة الدولة وتولية المناصب من لدن الله عز وجل ، كما قال تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
وكذلك تتناول التشريع في مسائل جزئية فيها صبغة التشريع المؤقت ، كما قال تعالى على لسان ذلك النبي : إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي .
أما مهمة الرسول فهي شاملة لكل التشريعات القديمة أو الجديدة ، على أن تخصيص الرسول بإنزال كتاب جديد عليه قضية لم يقم عليها دليل ، ونحن نؤمن بأن جميع الأنبياء والرسل لا بد أن يكون معهم كتاب يكون دستورًا للشريعة التي يحكمون بها .
قال تعالى : كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْـزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الدكتور : منيع عبد الحليم محمود
تاريخ الميلاد : 14 يناير 1945 بالزيتون - القاهرة - مصر .
العمل : مدرس التفسير وعلوم القرآن بكلية أصول الدين جامعة الأزهر .
التخصيص : التفسير وعلوم القرآن .
المؤهلات :
- حاصل على الشهادة العالية من كلية أصول الدين جامعة الأزهر وكان ترتيبه الأول على قسم التفسير والحديث .
- حاصل على درجة الماجستير من كلية أصول الدين جامعة الأزهر في التفسير .
- حاصل على درجة الدكتوراه من كلية أصول الدين جامعة الأزهر بمرتبة الشرف الأولى في التفسير ، وقررت لجنة المناقشة التوصية بطبع رسالته وتبادلها مع الجامعات الأخرى عام 1974 .
المؤلفات : قام الدكتور منيع بتأليف وتحقيق العديد من الكتب منها : وكان خلقه القرآن ، دراسات في السيرة النبوية ، الأخلاق المتبولية ، أبو الأنبياء ، دراسة من القرآن الكريم ، الألوهية النبوة الأخلاق ، دراسة من سورة الفرقان .
ولَه الكثير من البحوث والمقالات منها : الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القرآن الكريم ، الإمام القاسمي ومنهجه في التفسير ، الإمام البغوي ومنهجه في التفسير ، الإمام سفيان الثوري ومنهجه في التفسير ، الإمام الطبري ومنهجه في التفسير ، الإمام ابن كثير ومنهجه في التفسير . هذا غير الأحاديث الإذاعية .
سافر إلى كثير من البلاد منها : المغرب ، حيث حضر الدروس الحسنية - وبومباي بالهند ، حيث حضر الحلقة الدولية للدراسات العربية الإسلامية - ومكة ، حيث حضر مؤتمر رسالة المسجد .
العنوان : جمهورية مصر العربية - القاهرة - الزيتون - شارع العزيز بالله - منزل رقم 54.
النبوة .. دراسة من القرآن الكريم الكاتب: منيع عبد الحليم محمود * (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثاني - الإصدار : من شوال إلى ربيع الأول لسنة 1395هـ 1396هــ) 1- مقدمة: فقط النبي مأخوذ من الإنباء ، فيتضمن معنى الإعلام والإخبار ، ولكنه في استعماله أخص من مطلق الإخبار ، فهو يستعمل في الإخبار بالأمور الغائبة المختصة دون المشاهدة المشتركة ، كما في قوله تعالى : وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ . وقال : فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ . وجمع النبي أنبياء ، وهو من النبأ ، وأصله الهمزة ، وقد قرئ بها ، وهي قراءة نافع . لكن لما كثر استعماله لينت همزته كما فعل مثل ذلك في الذرية وفي البرية . وقيل : هو من النَّبْوة - بفتح النون وسكون الباء ، وهي العلو ، فمعنى النبي : المعلى الرفيع المنزلة ، والأصح أن هذا المعنى لازم للأول ، فمن أنبأه الله وجعله منبئًا عنه ، فلا يكون إلا رفيع القدر عليًا . وأما لفظ العلو والرفعة فلا يدل على خصوص النبوة ، إذ يوصف بهذا من ليس نبيًا كما قال تعالى : وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . * * * ويقول الإمام ابن تيمية : وقراءة الهمزة قاطعة بأنه مهموز ، وما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أنا نبي الله ولست نبيء الله فما رأيت له إسنادًا ، لا سندًا ولا مرسلاً ، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث ، ولا السير المعروفة ، ومثل هذا لا يعتمد عليه . ثم يبين الإمام ابن تيمية أننا إذا اعتبرنا النبي مهموز الأصل ، فإن الهمزة يمكن أن تلين ، فذلك جائز ، فتصير حرفًا معتلاً ، فيعبر عنه باللفظين فترد إليه القراءتان بخلاف المعتل ، فإنه لا يجعل همزة ، فيجب القطع بأن النبي مأخوذ من الإنباء لا من النَّبْوة بفتح النون وسكون الباء . على أنه إذا كان هذا هو التحديد اللفظي واللغوي لمعنى النبوة ، فإن أغلب تحديدات معنى النبوة تدور حول هذا ولا تزيد عنه إلا قليلاً . فإن المشهور في عرف الشرع - كما يقول الإمام الألوسي - : ( إن النبي من أوحي إليه سواء أمر بالتبليغ أم لا ) . أما صاحب شرع المقاصد على المواقف فيقول : ( إن النبوة هو كون الإنسان مبعوثًا من الحق إلى الخلق ) . أما الإمام محمد عبده ، فإنه لا يحدد معنى النبوة بتعريفها بل يحددها بهدفها يقول : ( النبوة تحدد ما ينبغي أن يلحظ في جانب واجب الوجود من الصفات ، وما يحتاج إليه البشر كافة من ذلك ، وتشير إلى خاصتهم بما يمكن لهم أن يفضلوا به غيرهم في مقدمات عرفانهم ، لكنها لا تخدم إلا ما فيه الكفاية للعامة . على أننا إذا نظرنا إلى مجموع هذه التحديدات لمعنى النبوة نجد أنها لا تكفي كفاية تامة لتحديد معنى النبوة ، فلم تحدثنا هذه التعريفات ، عن علامات الرسل وسماتهم المحدودة ، وعن خلقهم قبل الاصطفاء للنبوة ، وبالتأكيد فإن هذه التعريفات لم تخرج عن نطاق التحديد اللفظي للنبوة ، ولم يخرج عن هذا النطاق سوى الشيخ محمد عبده ، حيث تكلم عن أهدافها دون تحديد تعريف لها . ولكن كيف يتأتى لنا أن نحدد معنى النبوة ؟ * * * إن التعريف الذي يحدد لنا معنى النبوة هو التعريف القرآني ، وهو الذي يخرجنا من هذه الدائرة الضيقة المحدودة للتعريفات السابقة . وتبدو لنا أولى الآيات التي تحدد لنا المعنى المراد في قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ويقول تعالى : وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا ويقول : وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي . تدلنا هذه الآيات على أن الله تعالى يصطفي الأنبياء ويجتبيهم لنفسه ويرسم حياتهم قبل ميلادهم . فيختار لهم النسب الشريف الذي يميزهم عن غيرهم ويصنعهم على عينه ، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله اصطفى من ولد إبراهيم : إسماعيلَ ، واصطفى من ولد إسماعيل : بني كنانة ، واصطفى من بني كنانة : قريشًا ، واصطفى من قريش : بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم . وليس هناك دليل على ما ذكرنا من قبل أكثر من قول الله سبحانه وتعالى عن سيدنا عيسى عليه السلام قبل أن يولد : إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا . ولعل ما يشرح الآيات السابقة بتفصيل أوسع ذلك الحديث الذي ذكره الإمام البخاري عن كيفية استدلال هِرَقل على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه ركز هرقل تركيزًا كبيرًا على حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة ؛ عن الإمام البخاري - رضي الله عنه - قال : حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ، قال : أخبرنا شعيب عن الزهري ، قال : أخبرني عبد الله بن عتبة بن مسعود : أن عبد الله بن عباس أخبره : أن أبا سفيان بن حرب أخبره : أن هرقل أرسل إليه في ركب قريش وكانوا تجارًا بالشام ، في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ، ثم دعاهم ودعا بترجمانه ، فقال : أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ فقال أبو سفيان فقلت : أنا أقربهم نسبًا . فقال : أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ، ثم قال لترجمانه : قل لهم : إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه ، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه . ثم كان أول ما سألني عنه : أن قال : كيف نسبه فيكم ؟ قلت : هو فينا ذو نسب . قال : فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله ؟ قلت : لا . قال : فهل كان من آبائه من ملك ؟ قلت : لا . قال : فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ فقلت : بل ضعفاؤهم . قال : أيزيدون أم ينقصون ؟ قلت : بل يزيدون . قال : فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قلت : لا . قال : فهل يغدر ؟ قلت : لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها . قال : ولم يكن كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة . قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت : نعم . قال : فكيف كان قتالكم إياه ؟ قلت : الحرب بيننا وبينه سجال : ينال منا وننال منه . قال : ماذا يأمركم ؟ قلت : يقول : اعبدوا الله وحده ، ولا تشركوا به شيئًا ، واتركوا ما يقول آباؤكم ، ويأمرنا بالصلاة ، والصدق ، والعفاف والصلة . فقال للترجمان : قل له : سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب ، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها . وسألتك : هل قال أحد منكم هذا القول ؟ فذكرت أن لا ، فقلت : لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت : رجل يأتسي بقول قيل قبله . وسألتك : هل كان من آبائه من ملك ؟ فذكرت أن لا ، قلت : فلو كان في آبائه من ملك لقلت : رجل يطلب ملك أبيه . وسألتك : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فذكرت أن لا ، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله . وسألتك : أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه ، وهم أتباع الرسل . وسألتك : أيزيدون أم ينقصون ؟ فذكرت أنهم يزيدون ، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم . وسألتك : أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فذكرت : أن لا ، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب . وسألتك : هل يغدر ؟ فذكرت : أن لا ، وكذلك الرسل لا تغدر . وسألتك : بم يأمركم ؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ، ولا تشركوا به شيئًا ، وينهاكم عن عبادة الأوثان ، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف . فإن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدمي هاتين ، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم ، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه . * * * ثم نأتي للجزء الثاني من المنهج القرآني لتحديد النبوة وهو حالة تلقي الوحي ، فبعد أن يصطفي الله رسله ويربيهم ويعني بهم العناية الكاملة يفاجئهم بتلقي الوحي . فبالنسبة للأنبياء السابقين على الإسلام يقول الله تعالى : وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى . وقال تعالى : فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ . ويفاجئ الرسول - صلى الله عليه وسلم - الوحي وهو في غار حراء ، وإذا كان الإمام البخاري قد ذكر الحديث الدال على ذلك في صحيحه فإن القرآن الكريم يعبر عنها بقوله : قال تعالى : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وقال تعالى : نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ . أما شرح تلك الحالة : فقد ورد في صحيح البخاري بسنده عن السيدة عائشة أم المؤمنين أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء ، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء . فجاءه الملك فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ . قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . قلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني الثانية حتى بلغ مني الجهد . فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني . فقال : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، فقال : زملوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسي . فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبدًا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى - ابن عم خديجة - وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية إلى ما شاء الله أن يكتب وكان شيخًا كبيرًا قد عمي . فقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك . فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى . فقال له ورقة : هذا الناموس ، الذي نزله الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعًا ، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أومخرجي هم ؟ قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا ، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي . هذا هو المنهج القرآني لتعريف النبوة والذي يمثل لنا التعريف الصحيح لها باعتباره النص الذي أتانا من عند الله سبحانه وتعالى ، وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولنا أن نوجزه فنقول : ( النبوة سفارة بين الله وخلقه يقصد بها إصلاح أمرهم ، وهبة من الله سبحانه وتعالى يمنحها لمن يصطفيهم من عباده بعد أن يربيهم التربية الصحيحة التي بها يكونون مؤهلين لتلقي الوحي من الله سبحانه وتعالى في أي وقت ) . 2- الفرق بين النبي والرسول: هل هناك فرق بين النبي والرسول ؟ الواقع أن العلماء في إجابتهم على هذا السؤال انقسموا إلى فرقتين : الفرقة الأولى : قررت هذه الفرقة أنه لا يوجد أي فرق بين النبي والرسول فكلا اللفظين معناهما الإنباء والإخبار ، فالنبي هو من ينبئ والرسول يبلغ الرسالة ، وعلى ذلك فلا فرق بينهما . والواقع أن أصحاب هذا الرأي استندوا في تفسيرهم للفظين إلى اللغة باعتبار أن النبي اسم فاعل أو اسم مفعول ، والرسول اسم مفعول ، وبناء على هذا قرروا عدم وجود فرق بين اللفظين . الفرقة الثانية : وهم جمهور العلماء ، فقد قرروا وجود فرق بين لفظي نبي ورسول ، واستندوا في ذلك على القرآن والأحاديث الشريفة التي تؤيدهم في هذا الرأي ، ومن ذلك : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ . يقول الإمام الألوسي في تفسير الآية : وعطف نبي على رسول يدل على المغايرة بينهما وهو الشائع ، ويدل على المغايرة أيضًا ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الأنبياء فقال : مائةُ ألف وأربعةٌ وعشرون ألفًا ، قيل : فكم الرسل منهم ؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جمًا غفيرًا . ونضيف نحن قوله تعالى : وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا وقوله تعالى : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ فإن توارد الصفتين : الرسول والنبي على موصوف واحد في التنكير والتعريف يقتضي تباينًا ولو من وجه كما يقتضي تغايرًا ولو في المفهوم على ما بيناه في آخر المقام . هذه هي أهم الأدلة على وجود الفرق بين النبي والرسول وبها يرجح رأي الفرقة الثانية . - الفرق بين النبي والرسول على أشهر الآراء: اختلفت آراء العلماء في تحديد الفرق بين النبي والرسول ، بل إن بعضهم اختلفوا هم أنفسهم على قولين ، وباستقراء الآراء في تحديد الفرق بين النبي والرسول نجدها كالآتي : أولاً : الرسول هو من له كتاب أو نسخ لبعض أحكام الشريعة السابقة ، والنبي قد يخلو من ذلك كيوشع عليه السلام . ثانيًا : أن الرسول صاحب الوحي بواسطة الملك ، والنبي هو المخبر عن الله تعالى بكتاب أو إلهام أو تنبيه في المنام . ثالثًا : الرسول من يأتيه الملك عليه السلام بالوحي يقظة ، والنبي يقال له ولمن يوحى إليه في المنام لا غير . وقد عدد الإمام الألوسي بعض الآراء التي تمثل الجو العام للتفرقة بين النبي والرسول نذكر منها : رابعًا : الرسول ذكر حي بعثه الله بشرع جديد يدعو الناس إليه ، والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق ، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهما السلام . خامسًا : الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى إلى قوم بشرع جديد بالنسبة إليهم وإن لم يكن جديدًا في نفسه ، كإسماعيل عليه السلام ، إذ بعث لجرهم أولا . والنبي يعمه ، من بعث بشرع غير جديد كذلك. سادسًا : أن المشهور في عرف الشرع أن النبي أعم من الرسول ، فإنه من أوحى إليه وأمر بالتبليغ بدراستنا لهذه الآراء نجد أنها جميعًا لا تقدم لنا الفرق الكافي بين لفظي النبي والرسول ، بل إن بعضها يتهافت في نفسه عند أول طعن ، كالرأي الثالث الذي نقضه الإمام الألوسي ، وإذا كان أهم هذه الآراء وأشهرها وهو الرأي السادس ، فإننا بدراسته نجد أنه لا يحدد الفرق بين النبي والرسول تحديدًا بينًا فهو يخلط بينهما ، يجعل النبي نبيًا إذا لم يؤمر بالتبليغ ، ويجعله رسولا إذا أمر بالتبليغ ، مما لا يجعلنا نرى هناك فرقًا واضحًا بينهما ، ونشارك في ذلك الرأي الإمام الألوسي بقوله تعقيبًا على هذا الرأي : ( ولا يصح إرادة ذلك ؛ لأنه إذا قوبل العام بالخاص يراد بالعام ما عدا الخاص ، فمتى أريد بالنبي ما عدا الرسول ، كان المراد به من لم يؤمر بالتبليغ ، وحيث تعلق به الإرسال صار مأمورًا بالتبليغ ، فيكون رسولا فلم يبق في الآية بعد تعلق الإرسال رسول ونبي مقابل له ) . 3- نهج القرآن في تحديد كل من النبي والرسول: أولاً : أنه ليس من الضروري أن يأتي الرسول بشريعة جديدة ، وهذا نأخذه من قوله سبحانه وتعالى عن يوسف عليه السلام : وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا . وقوله تعالى : إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (163) وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . فإن يوسف عليه السلام كان يسير على شريعة إبراهيم عليه السلام، وداود وسليمان عليهما السلام كانا يسيران على شريعة التوراة ، ومع ذلك كانوا من الرسل . ثانيًا : أن الأنبياء يأتيهم وحي من الله سبحانه وتعالى فيبلغونه للمؤمنين ، مع وجود شريعة يعمل بها ، وهذا يكون كالفهم لها ، ولكنه فهم موحى به من قبل الله سبحانه وتعالى ، وهؤلاء كأنبياء بني إسرائيل ، ونرى ذلك كما في قول الله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا . فهم يطلبون وحيًا من الله يخبرهم بملك يقاتلون تحت قيادته . ثالثًا : عند قراءتنا لقول الله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ نجد أنه إرسال يشمل النبي والرسول ، إذن فهناك إشراك في جزء من الرسالة للنبي ، ويعلق على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله : قال الله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ وقوله : مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ فذكر إرسالاً يعم النوعين ، وقد خص أحدهما بأنه رسول ، فإن هذا هو الرسول المطلق ، الذي أمر بتبليغ رسالته إلى من خالف الله كنوح ، وقد ثبت في الصحيح أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض ، وقد كان قبله أنبياء كشيث وإدريس ، وقبلهما آدم كان نبيًا مكلمًا . قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون ، كلهم على الإسلام ، فأولئك الأنبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه ، ويأمرون به المؤمنين الذين عندهم ؛ لكونهم مؤمنين بهم ، كما يكون أهل الشريعة الواحدة يقبلون ما يبلغه العلماء عن الرسول . ا هـ ) . ومن هنا ، وبناء على ما ذكرناه استنادًا إلى كتاب الله تعالى ، فإننا نرتضي رأي الإمام ابن تيمية فهو الذي يسير مع المنهج القرآني حيث يقول : ( النبي هو الذي ينبئه الله ، وهو ينبئ بما أنبأه الله به ، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول ، أما إذا كان يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول ) . ونحن نضيف إلى هذا الرأي : أن مهمة النبي تتناول التبليغ عن الله عز وجل في أمور تتعلق بمصلحة المؤمنين ، والفصل في قضاياهم العامة كما قال تعالى : إِنَّا أَنْـزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ . كما تتناول الإشراف على سياسة الدولة وتولية المناصب من لدن الله عز وجل ، كما قال تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وكذلك تتناول التشريع في مسائل جزئية فيها صبغة التشريع المؤقت ، كما قال تعالى على لسان ذلك النبي : إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي . أما مهمة الرسول فهي شاملة لكل التشريعات القديمة أو الجديدة ، على أن تخصيص الرسول بإنزال كتاب جديد عليه قضية لم يقم عليها دليل ، ونحن نؤمن بأن جميع الأنبياء والرسل لا بد أن يكون معهم كتاب يكون دستورًا للشريعة التي يحكمون بها . قال تعالى : كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْـزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * الدكتور : منيع عبد الحليم محمود تاريخ الميلاد : 14 يناير 1945 بالزيتون - القاهرة - مصر . العمل : مدرس التفسير وعلوم القرآن بكلية أصول الدين جامعة الأزهر . التخصيص : التفسير وعلوم القرآن . المؤهلات : - حاصل على الشهادة العالية من كلية أصول الدين جامعة الأزهر وكان ترتيبه الأول على قسم التفسير والحديث . - حاصل على درجة الماجستير من كلية أصول الدين جامعة الأزهر في التفسير . - حاصل على درجة الدكتوراه من كلية أصول الدين جامعة الأزهر بمرتبة الشرف الأولى في التفسير ، وقررت لجنة المناقشة التوصية بطبع رسالته وتبادلها مع الجامعات الأخرى عام 1974 . المؤلفات : قام الدكتور منيع بتأليف وتحقيق العديد من الكتب منها : وكان خلقه القرآن ، دراسات في السيرة النبوية ، الأخلاق المتبولية ، أبو الأنبياء ، دراسة من القرآن الكريم ، الألوهية النبوة الأخلاق ، دراسة من سورة الفرقان . ولَه الكثير من البحوث والمقالات منها : الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القرآن الكريم ، الإمام القاسمي ومنهجه في التفسير ، الإمام البغوي ومنهجه في التفسير ، الإمام سفيان الثوري ومنهجه في التفسير ، الإمام الطبري ومنهجه في التفسير ، الإمام ابن كثير ومنهجه في التفسير . هذا غير الأحاديث الإذاعية . سافر إلى كثير من البلاد منها : المغرب ، حيث حضر الدروس الحسنية - وبومباي بالهند ، حيث حضر الحلقة الدولية للدراسات العربية الإسلامية - ومكة ، حيث حضر مؤتمر رسالة المسجد . العنوان : جمهورية مصر العربية - القاهرة - الزيتون - شارع العزيز بالله - منزل رقم 54.
0