النسيان والذكر في القرآن الكريم
دراسة لغوية ومنهج جديد في تفسير الكتاب الحكيم
الدكتور : السيد رزق الطويل
(مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثالث عشر - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1405هـ)
مقدمة
باسم الله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
وبعد :
فهذا بحث ميدانه: كتاب رب العالمين .
وموضوعه: النسيان والذكر وتناول القرآن الكريم لهما .
ومنهجه: تتبع هذين اللفظين في الكتاب العزيز ، في صورهما المتنوعة ، واستخلاص النظرة الشاملة لهما بحيث يبدوان موضوعًا واحدًا متكاملا مدروسًا على ضوء المنهج الإسلامي .
ومن هنا نرى هذا البحث يحمل طابع الدراسة اللغوية للقرآن الكريم ، وفي الوقت نفسه أسلوب جديد في تفسير الكتاب العزيز .
والنسيان والذكر ظاهرتان بشريتان ، ولهما أثرهما الكبير في مسيرة البشر من هذه الحياة ، وهما أيضًا من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان ؛ ليستعين بها في أداء رسالته في الحياة ، رسالة العبودية الخالصة لله تعالى وحده .
وقد يتصور الإنسان بادئ الرأي أن هذين من الأمور البشرية التي لا يتعرض لها المنهج الإلهي بالبيان ، فماذا يُهم الإسلام إن نسي الإنسان في دنياه أو تذكر ؟!
لكن الحقيقة التي يؤكدها السلوك الإنساني أن ظاهرتي النسيان والذكر قد تصبحان موضوعًا إسلاميًّا عندما يتحول النسيان إلى غفلة ، وعندما يكون الذكر سياجًا يحمي عقيدة الإيمان .
ولهذا تحدث القرآن الكريم- كما سنرى- عن هاتين الظاهرتين كثيرًا ، وبشمول واستيعاب لجميع أوضاعهما الإنسانية والدينية .
وسنبدأ بالحديث عن النسيان اتباعًا لمنهج القرآن الذي يحارب الكفر كمقدمة للدعوة إلى الإيمان ، وينهى عن الشرك قبل الدعوة إلى التوحيد ، ويحارب الطاغوت قبل أن يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له .
وكلمة التوحيد: أولها نفي ، وآخرها إثبات .
قال تعالى : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
أسأل الله الكريم أن يمنحنا التوفيق والسداد ، وأن ييسر لنا أسباب القول ؛ ليتحقق الخير الذي نرجوه لأمتنا المسلمة ، والله يتولى الصالحين .
النسيان في القرآن
النسيان ظاهرة بشرية :
النسيان ظاهرة بشرية ، وسمة أصيلة من مسلك الإنسان ، وقد اختلف اللغويون في اشتقاق الإنسان ، فمنهم من رأى أن أصل الكلمة هو الأنس ، وآخرون منهم رأوا أصلها النسيان ، وقديما قال أحد الشعراء:
ومـــا سُـــمِّي الإنســان إلا لنســيه ولا القلـــــــب إلا أنـــــــه يتقلـــــــب
وهذا يؤكد أصالة هذه الصفة في سلوك البشر .
ويرى علماء النفس أن النسيان ضرورة بشرية؛ لأن الذاكرة لها درجة تشبع ، ومن رحمة الله بالإنسان أن منحه النسيان ليهمل ما لا يهمه ، ويختزنه في عقله الباطن ، ويحتفظ في منطقة الشعور بكل ما يهمه من شئون حياته .
والنسيان بهذه الصفة يخرج عن دائرة التكليف ، ويتجاوز حدود المسئولية ، ويعفي الإنسان مما يحدث منه وهو واقع تحت سلطانه ، خاضع بغير قصد لتأثيره .
أما النسيان المقصود ، وهو تعبير قد نجد من ظاهره لونًا من التناقض ، لكنه في حقيقة الأمر لا تناقض فيه ، إذ فيه نسيان وفيه قصد ، ونعني به الغفلة عن الواجب ، وإهمال ما لا ينبغي أن يهمل من حقوق ومسئوليات .
تناول القرآن لهذه الظاهرة الإنسانية:
ولنتجه الآن إلى القرآن الكريم لنرى كيف تناول هذه الظاهرة؟! وبإحصاء دقيق للفظ النسيان في القرآن الكريم في صوره الاشتقاقية المختلفة نجد أنه ورد في خمسة وأربعين موضعًا من الكتاب العزيز .
وبدراسة المواضع التي ورد فيها هذا اللفظ بمشتقاته ، نرى أن القرآن الكريم قد استخدمه بمعنييه جميعا: النسيان الحقيقي الذي يلم بالإنسان في غير قصد أو إرادة ، والنسيان المقصود الذي نعني به الغفلة عن الواجب وإهمال المسئوليات .
النوع الأول: النسيان الحقيقي ، كيف تناوله القرآن؟
عندما يكون النسيان قسرًا وجبرًا ، وعندما يلم بالإنسان بلا قصد منه أو إرادة يكون هو النسيان الحقيقي الذي أعطيناه صفة الظاهرة البشرية أو السمة الإنسانية ، إذ أن أي إنسان مهما كان لا يستطيع أن يتجرد منه .
وحديث القرآن عن هذا النوع حديث إخباري بحت ، يعرض فيه بعض صوره أو ينفيه في بعض المواضع التي ينبغي أن ينفى فيها؛ لأنه تجاوز إطار الظاهرة البشرية ، أو يتناوله في أسلوب دعاء على لسان المؤمنين يضرعون فيه إلى ربهم ألا يؤاخذهم بما وقع منهم تحت سلطانه ، وهذا أقصى ما ينبغي أن يتحدث به القرآن عن ظاهرة بشرية جبرية كهذه ، فهو إذن لا يحتاج إلى تحليل أو تقويم ، أو إصدار أحكام كما سنرى في النوع الثاني .
وتناول القرآن الكريم لهذا النوع من النسيان بصوره الثلاث: النفي والدعاء والإخبار جاء في أحد عشر موضعًا .
(1)- في صورة النفي:
(أ)- نفاه القرآن نفيًا قاطعًا عن رب العالمين ، الذي ربى الوجود كله بنعمه ، ورعاه بحكمته وخبرته ، وحفظه بقدرته ؛ إذ يقول تعالى: وَمَا نَتَنَـزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ونَفْي النسيان عن طريق نفي كينونته أروع وأوضح ، إذ هو بالنسبة لله لا وجود له ، لا أنه موجود ثم نفي ، وحاشا للحَكَم العدل اللطيف الخبير أن تلم به ظاهرة هو ركبها في الإنسان ؛ لتنسجم له أسباب الحياة .
(ب)- وفي موضع آخر يطمئن رب العالمين نبيه بأنه سيكون بمنجاة من هذه الظاهرة البشرية في مجال الوحي وتبليغ الشريعة ، فيقول له: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى ففي هذه الآية ينفي القرآن النسيان عن النبي عليه الصلاة والسلام في كل ما يتصل بالوحي ، وتبليغ الرسالة .
(ج)- وفي موضع ثالث ينفيه عن الكتاب أو اللوح المحفوظ الذي سجل فيه أقدار الخلق وأعمالهم ومصايرهم ، ووحي الله وأمره إليهم ، قال تعالى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى ، وإذا تصورنا نفي الضلال والنسيان منسوبًا لله في هذه الآية ، فإننا بهذا الاعتبار ندخلها في الموضع الأول .
(2)- في صورة الدعاء أو الالتماس:
في دعاء المؤمن لربه الذي علمه إياه نرى ضراعة خاشعة ، عادلة قويمة ، يرجو فيها ألا يؤاخذه بما سلف من تحت سلطان النسيان المبسوط على بني الإنسان ، فيقول تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، وفي موضع آخر يلتمس موسى من العبد الصالح ألا يؤاخذه بنسيانه ما اشترط عليه من عدم الاعتراض على تصرف يصدر منه ، يقول تعالى على لسان موسى: قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا .
(3)- أخبار قرآنية تتصل بالنسيان :
(أ)- مريم عليها السلام ، وقد اختارها ربها موضعًا لآيته ؛ ونفخ فيها من روحه ، وأحست بحكم نوازعها البشرية بكثير من الأسى ، ورأت في الأمر محنة لها ، إذ كيف يعلم الناس بحقيقة موقفها وبراءة ساحتها !! لذا كانت أمنيتها على الله تعبيرًا عن مدى الألم الذي أحاط بها ، تمنت أن قد كانت في عالم الموتى ، ومحيت من ذاكرة الناس قبل أن تعيش هذه المأساة ( كما تراها ) يقول تعالى: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا .
(ب)- وفي حديث القرآن الكريم عن عِجل السامري الذي فتن به بنو إسرائيل على أساس أنه رمز للإله ارتضاه لهم موسى ، لكنه ذهب إلى الموعد ، ونسيه مع السامري ، هكذا فهموا أو هكذا خدعهم المحتال الأثيم : فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (ج)- وفي موضع ثالث يحدثنا القرآن الكريم عن نسيان موسى عليه السلام وفتاه للحوت ، وقد كان نسيانه أمارة ، وميقاتًا للالتقاء بالعبد الصالح ، ولا يذكر أنه نسي إلا عندما يحل وقت الغداء ، ويفتقد فتاه الحوتَ فلا يجده ، ويتصور أن نسيانه من عمل الشيطان ، ولكن موسى يكشف الحقيقة لفتاه ، وأن ما حدث هو بغيتهما ، وارتدا إلى مجمع البحرين ، والتقيا بالعبد الصالح الذي وعد موسى بلقياه ، يقول تعالى: فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا .
بهذه الصور الثلاث المتقدمة كان تناول القرآن الكريم للنسيان الذي هو ظاهرة إنسانية لها صفة العموم والانتشار ، ولها صفة القهر والإلزام ، ومن هنا رفع الشارع الحكيم مسئولية البشر عما يحدث في ظلال هذا النوع من النسيان .
والنوع الثاني : النسيان المقصود:
وهو نسيان الغفلة عن الواجب ، وإهمال المسئوليات ، وهو أكثر النوعين ورودًا في القرآن الكريم ، تناول أنواعه ، وحلل أسبابه ، وحذر من مغبّته ، وبين عقوبته .
وتناول القرآن الكريم له بهذه الكثرة؛ لأنه ظاهرة بشرية منحرفة تحتاج إلى تحليل وعلاج ، وللشارع الحكيم منها موقف يحتاج إلى بيان وتفصيل . ولهذا أولاها الكتاب العزيز اهتمامًا بالغًا ، لما لها من خطورة بالغة تهدد الدين السماوي ، وتنحرف بالبشرية عن هديه وهداه .
ومن هنا ورد الحديث عن هذا النوع في أربعة وثلاثين موضعًا من كتاب الله ، وكل ما ورد في هذه المواضع من نسيان يحمل طابع الغفلة عن واجب أو التنصل من تبعة أو الإهمال لمسئولية لا ينبغي أن تهمل بحكم ما تلزم به عقيدة الإيمان .
ويمكن أن يصنف هذا النوع تصنيفًا يجعل من الآيات التي وردت فيه موضوعًا كاملا .
(1)- مظاهر النسيان المنحرف واتجاهاته
(2)- تحليل أسبابه
(3)- عقوبته
(4)- العلاج الذي وضعه القرآن له
(1)- مظاهر النسيان المنحرف واتجاهاته :
يتخذ هذا اللون من النسيان عدة مظاهر تؤكد انحرافه عن سنن النسيان البشري الذي رفعت المسئولية عن صاحبه ، وذلك لأن هذه الظواهر تؤكد أن للإنسان قصدًا وإرادة على نحو من الأنحاء وأن ما يتورط فيه الإنسان من أعمال نتيجة له إنما هو شيء مراد .
وهذه هي مظاهره:
(أ)- نسيان الذنوب والخطايا :
إذا وقع الإنسان في الذنب أو هوى إلى الخطيئة لأول مرة فله عذره ، والخطأ من حقه؛ لأن وراءه نوازع بشرية عميقة التأثير في توجيه السلوك ، ولذا شأنه إذا تاب قبل الله توبته ، وفرح بأوبته على أن يظل هذا الذنب الذي اقترفه درسًا يضيفه إلى تجاربه التي تحدد في الحياة فاعليته ومسلكه .
أما إذا نسي تجربة الذنب فستنتكس حياته ، ويتعثر سلوكه ، ويظل يهوي مع هواه حتى يكون من الغاوين ، وهذه هي صفته كما عرضها القرآن الكريم .
يقول الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ، فأسلوب الآية يشير إلى أن أشد الناس ظلمًا ذاك الباغية المنحرف ، الذي يُذكّر بآيات الله في كتابه وفي الحياة فيعرض عن الذكرى ، وينسى ما تورط فيه من ذنوب وآثام ، ومن هنا استحق ما وصف به في آخر الآية إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ، وإذا كان في طبع الآثِم نسيان ذنبه ، فهذا النسيان دعامة انحرافه ، ومن هنا يكشف القرآن الكريم هذه الظاهرة في سلوك طائفة أخرى من الآثمين الذين هَوُوا في وادي الشرك السحيق ، إذ ذكروا ربهم في الضراء ، ونسوا أنهم أشركوا به في السراء ، فيقول تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ فالفطرة السليمة التي شوهها الإنسان بانحرافه في السراء تعود نقية صافية ، تشد الإنسان المنحرف إلى ربه في الضراء؛ ولهذا ترشد الآية إليها ؛ لتؤكد للإنسان أن نداء الفطرة السليمة أهدى وأقوم .
على أن الحقيقة التي ينبغي أن يذكرها الآثِم أنه إن نسي فاستمرأ بالنسيان إثمه ، فإن وراءه الرقيب الذي يحصي عليه ما قد نسيه ، يقول تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ .
(ب)- نسيان يوم القيامة :
يوم القيامة الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين ، حيث يجد كل إنسان طائره في عنقه ، ويقرأ بنفسه صحائف أعماله ، ويرى بعينه مصيره ، وهو اليوم الحق ، حيت يفصل فيه بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون ، وينتهي أمر الباطل إلى جحيم ، وينعم المتقون في دار النعيم .
وقد عني القرآن الكريم بعرض مشاهد شتى من ذلك اليوم ، وطالما كان المؤمن على ذكر لذلك اليوم سيتخذ منه حافزًا يدفعه إلى الخير ، وينأى به عن الضلال ، ويثبته على طريق الهداية .
ولذا نجد في أكثر من آية في كتاب الله دعوة إلى اتقاء ذلك اليوم ، وما فيه من أهوال وبلاء ، وإذا نسي الإنسان ذلك اليوم فلم يعمل له حسابه فنسيانه بادرة إلى الانحراف الذي ينتهي بالإنسان إلى ضلال .
وها هو موقف الناس ليوم القيامة يعرضه القرآن الكريم في عدة صور .
يقول تعالى عن الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا ، وغرهم ما في دنياهم من زخرف ومتاع : فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فجزاؤهم عند الله إذن إهمال ووبال ؛ لأنهم نسوا يوم القيامة فلم يقدموا في دنياهم عملا ينفعهم ، والهوى يهوي بصاحبه ويضله فينسيه يوم الجزاء بما يقدم له من شواغل صارفة ، يقول تعالى في نصح نبيه داود عليه السلام : وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ .
فالضالون عن سبيل الله سر ضلالهم نسيانهم يوم الجزاء ، وهذا النسيان سر آفة الإنسان وضلاله ، ولذا عندما يقف المجرمون ناكسي رءوسهم عند ربهم ، وقد رأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم ما نسوه من حقائق ذكروا بها دنياهم فلم يتذكروا ، عند ذاك يدعون إلى العذاب الذي عرفوا يومئذ سبب وقوعهم فيه ، فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .
وفي الآية الأخرى يقال لهؤلاء الذين نسوا ما لا ينبغي أن ينسى : لقد نسيتم يوم الجزاء فكان أعدل جزاء لكم تلقونه في هذا اليوم من إهمال وازدراء وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ .
(جـ) - نسيانهم لله
هذان النوعان السابقان من النسيان : نسيان الذنوب ، أو نسيان يوم المصير ، آفتهما أن أولهما يحمل معنى عدم الاستفادة من التجربة ، وثانيهما يحمل معنى عدم الاعتداد بالدافع ، أما هذا النوع الثالث وهو الذي يتعلق بالله فهو شر بذاته ؛ لأنه يعني تقلص ظل الإيمان من نفوس البشر ، إذ لا يمكن أبدًا أن يصح إيمان أو يستقيم على أساسه سلوكٌ ما لم يكن القلب مشغولا بذكر الله منصرفًا إلى ما يهيئه له الذكر من مراقبة دقيقة لخالقه ومولاه .
وهذا النسيان قد يتعلق بأمر الله ، وقد يكون تعلقه بذات الله ، وهذا النسيان لذكر الله الذي يجب أن يكون سلاحاً للمؤمن يشهره في وجه الشيطان إذا أراد أن يهوي مزالق الخسران .
أما الأول منها: فقد عهد الله لآدم ألا يأكل من شجرة بعينها ، وحذره من وسوسة الشيطان وإغراءاته ، ونسي آدم عهده مع ربه ، وذهب عنه العزم الذي يثبت اليقين في أحلك الظروف ، يقول الله تعالى ، يعرض لنا هذا الموقف : وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا .
ثم نجد الآيات التالية تسجل أن هذا النسيان كان لونًا من الانحراف وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى وأن الله تاب على آدم وغفر له ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى
وأما الثاني: فقد أشار إليه القرآن الكريم ، وهو بصدد الحديث عن المنافقين إذ وصفهم بأنهم نسوا الله فيقول: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .
ووقوع ظاهرة النسيان منهم على الله دلالة بليغة على خفوت حرارة العقيدة ، وتبلد عاطفة الإيمان وصيرورتها مجرد دعوى بلا واقع ؛ إذ أن كل ما في الإنسان من جوارحه ، وما حوله من آيات في السماوات والأرض تذكره بالله ، فكيف ينساه؟ إنه شأن المنافقين ، ظاهرهم الذكر ، وباطنهم الغفلة ، ومن طبعهم الكذب ، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك اللون من النسيان في موضع آخر يحذر فيه المسلمين من سلوك المنافقين ؛ إذ يقول الله تعالى لهم : وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .
وكأن هذا النسيان من شأن المنافقين وحدهم ، إذ أن سلوكهم يقوم على نسيان بارئهم والحرص على شهواتهم ، وتضليل الناس من حولهم .
وثالث الأنواع من هذا النسيان الذي يتصل بالله: نسيان ذكر الله .
ومعنى هذا النسيان افتقاد سلاح لا يستقيم أمر المؤمن في الحياة بدونه ؛ إذ يقيه من الإغواء ، ويثبته في مواقف الإغراء ، ويحفظه من همزات الشياطين ولذا جعل القرآن الكريم ذكر الله صفة للمتقين الذين تتجه هممهم إلى خشية الله ومراقبته يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ، كما يقول تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ، ومن هنا كان نسيان الذكر مباءة للفساد ، ويزيد من فرص الانحراف في أمور الدنيا ، وعن أوامر الدين .
وهذا هو شأن من نسُوا ذكر الله ، توضحه عدة آيات ، وفي كل آية منها إشارة إلى باعث لهذا النسيان ، وهو إما استهواء الشيطان أو استعلاء الإنسان أو غرور لا يسمح بفهم واقعه البشري ، فيذكر ماديته وينسى ذكر ربه .
ولكون الآيات التي تتناول نسيان الذكر تعنى بتحليل أسباب هذه الظاهرة سأتناول هذه الآيات عند تناولي لأسباب هذه الظاهرة بعد قليل .
واقتران نسيان الذكر بتحليل بواعثه وبيان أسبابه دلالة على خطورة هذا النوع الذي يصرف الفكر عن ربه ويدفع الإنسان إلى مهاوي الضلال .
بواعث النسيان :
عندما يكون النسيان مجرد ظاهرة بشرية فبواعثه حينذاك نفسية بحتة ، تنبع من داخل الإنسان ، وتتمشى مع فطرته الإنسانية في استواء ، ليس فيه شذوذ أو نشاز أو التواء ، وهذه البواعث خارجة عن دائرة هذا البحث ، ومجال دراستها بحوث علماء النفس ، ولا يعنى القرآن الكريم في هذه الناحية الإنسانية إلا بتسجيل ظواهرها ، أما تحليل الأسباب فرب العالمين خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه ، ويفرض عليه من السلوك ما ينسجم مع بشريته ، وتعليل الظواهر البشرية الثابتة لا يفيد الإنسان في تدينه ، أي في علاقته بخالقه ومولاه .
أما النسيان المنحرف فهو الذي تعرضت له الآيات لما وراءه من بواعث ؛ لأنها تنبع من خارج الإنسان ، أو من داخله الذي خالف عن نداء الفطرة القويم ، وذكر البواعث حينذاك علامات هادية للإنسان على الطريق .
وهذه هي الأسباب:
في مقدمتها الشيطان ، وقد نسب إليه القرآن الكريم شغل الإنسان عن ربه ، وصرفه عن ذكره ، وذلك في عدة مواطن:
فيوسف في سجنه وقد طال به الأمد ، وفي نفسه شعور صارخ بالظلم ، وسجنه هو البديل الوحيد للرذيلة التي تطارده ، طلب إلى أحد رفيقيه- وقد يسرت له النجاة- أن يذكره عند الملك ، ونسي يوسف رب الملك ، إذا لا نجاة له إلا بتقديره ، ولكن الشيطان قد ينال من الإنسان وهو يعانى من ضراوة الامتحان ، قال تعالى : وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ .
وكان مكثه في السجن لمسة عقاب على غفوة يسيرة تولى أمرها الشيطان .
وفي حديث القرآن الكريم عن المنحرفين عن سمت الإسلام إما بفساد في العقيدة ، أو انحراف في السلوك نجد تعليلا لذلك يتمثل في تسلط الشيطان عليهم ، وسيطرته على نفوسهم ، فأنساهم خالقهم ، وبذلك تم لهم الانغماس في ضلالهم ، يقول تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ .
والشيطان وهو يؤدي رسالة الشر في البشرية لا يقصر جهده على الأشرار فهم جنوده وقد فرغ منهم ، ولكنه يبحث عن ضالته في السائرين على طريق الرشاد يحاول جذبهم إليه ، وقد تبلغ به الوقاحة مبلغًا كبيرًا ، فيطمع في أن ينال فرصة من رواد البشرية ، وأنى له ذلك؟ ولذا يقول الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام مذكرًا ومحذرًا ، يذكره بمحاولات الشيطان جذبه إليه في مجالس هؤلاء الضالين ، ويحذره من الجلوس معهم أكثر من فترة التذكير والتوجيه : وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ .
والغرور هو ثاني الأسباب:
وهو أن يسيء الإنسان فهم نفسه ، بأن ينسى الأصل الذي منه نشأ ، أو ينسى أن الأيام تدول ، وأن النعم تزول ، وأن النعمة قد تصير شقاء ، والجاه قد يتحول إلى بلاء .
وسوء الفهم الذي يوجد الغرور هو الذي ينسي الإنسان هذه الحقائق الثابتة من سنن الله في الحياة .
فأُبيّ بن خلف عندما وقف موقف التحدي من النبي صلى الله عليه وسلم منكرًا في تهكم عقيدة البعث ويأتي بعظام بالية ويفتنها بيده ويقول: أترى يا محمد أن الله يحيي العظام بعدما رمت؟!! من غير شك أن أبيًّا في موقفه الذي تبدو منه حماقة البغي وشراسة الجحود لم يدر بخلده الماء المهين الذي خلق منه!! ولو تذكره لراجع نفسه مرات قبل أن يقول ما قال ، وهذه هي الحقيقة التي يسجلها القرآن الكريم: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ .
فالغرور أنسى أمية إحدى بديهيات الوجود حتى تورط فيما تورط فيه من كفران وجحود ، والنعمة تأتي للإنسان بما وراءها من بهجة ومتاع ، فيعيش عيشة الرغد ، ويرفل في أفخر الثياب ، وينعم في سلطان المال والجاه ، وينسى أسس شقائه وبلائه ، وفقره وبأسائه .
إن الإنسان المغرور ، يفزع إلى ربه في الضراء ، وينسى ضراعته في السراء : وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ .
فغرور الإنسان أنساه صاحب الحق ، فضل السبيل إليه وأشرك .
وكم يؤدي غرور الإنعام بالإنسان إلى مهاوي الكفران عندما ينسى ما كان فيه من عسر وما صار إليه من يسر .
ويوم القيامة سيبرأ المعبودون من العبيد أمام رب الأرض والسماء معللين انحراف من عبدوهم بأن متاع النعمة أنساهم فضل المعبود الواحد ، يقول تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا .
ومن عجب أن تكون نعمته سببًا لجحود فضله ، والغفلة عن ذكره ، ثم ضلالهم طريق الوصول إليه .
وثالث الأسباب: شهوة التسلط عندما يشعلها إمعان الأتباع في الخضوع .
قد يجد المغرور من يستخزي لكبريائه ، وينصاع لغلوائه ، ويستذل لبغيه ، فيغريه ذلك بمزيد من الطغيان ، ويسمع كلمات الثناء وعبارات التمجيد من أفواه العبيد ، فيتصور أنه كبير ، وينسى أن فوقه الكبير المتعال .
وعندما وجد فرعون من يستذلهم أنساه ذل العبيد أنه عبد مثلهم ، وصدق رب العالمين إذ يقول: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً .
تتجلى حقيقة هذا السبب في قوله: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ فكما يحاول الفاتن أن يصرف مفتونه عن دينه ، ويبعده عن ربه نرى المفتون من ناحية أخرى ينسى فاتنه ذكر ربه عندما يظن سكوته عنه انصياعا له وذلا له ، فيغريه ذلك بمزيد من التجاوز والشطط .
عقوبة النسيان نسيان:
هؤلاء الذين وقعوا مطية للنسيان المنحرف الذي حللنا أسبابه ، كيف قوّم القرآن موقفهم؟ وماذا قال في عقوبتهم؟
إن سنة الله في عباده وقانونه في خلقه: الجزاء من جنس العمل ، فمن نسي يُنسى ، ونسيان الله لعبده يعني أنه في موقف الطرد من رحمته ، والبعد عن مغفرته ، وأنه موكول إلى نفسه ، ولذا فشقاء الحياة ينتظره ، وبؤسها سيلاقيه .
وهذه هي الآيات التي تشير إلى عاقبة النسيان الخاطئ ، يقول تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ، نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ، وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ، وفي هذه الآية الأخيرة لون آخر من العقوبة ، وهو أن من نسي ربه يوكل الله به ظاهرة النسيان البشري بصورة غير طبيعية تجعل حياته لا تحتمل ، ويقضي أيامه في الحياة بدون ذاكرة ، وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
وفي مثل هذه الآية كانت عقوبة النسيان من أجل نسيانهم يوم اللقاء ، ونسيان يوم اللقاء يعني نسيانهم الملك الحق الذي جعل هذا اليوم فَيصلا بين العباد .
هكذا تؤكد الآيات السابقة كلها بأوضح عبارة وأجلى بيان أن عقوبة النسيان نسيان.
والنسيان الذي هو عقوبة ليس كالنسيان الذي هو خطيئة لكنها المشاكلة في التعبير، وهي من خصائص بلاغة القرآن ، جاءت لتؤكد حتمية القانون الإلهي واستمراريته ، وهو أن جزاء العامل من جنس عمله .
الذكر في القرآن
ما صلة حديث الذكر بحديث النسيان ؟
إذا ذكرت ربك بصدق طهرت القلب من شواغله ، وأخلصته لبارئه ، وأنقذته من أدوائه ، وحرسته من بواعث النسيان الضال التي أسلفناها ، وكنت على ذكر لربك تنقشع أمامه بواعث الغفلة مهما كثرت .
وقد قدم لك القرآن العلاج من هذه الآفة القاتلة المدمرة للعقيدة والسلوك في آية واحدة هي قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا الذكر علاج للنسيان والغفلة ، هذه واحدة .
وهناك أمر آخر يدعونا إلى الحديث عن الذكر بعد النسيان ، وهو أن الحديث عن أي من المعاني يسوق إلى الحديث عن مقابله ، وتناول المعاني المتقابلة يزيدها وضوحًا ، ويكسبها في النفس بلاغًا ، وبضدها تتميز الأشياء .
ألفاظ الذكر في القرآن وأوضاعها اللغوية والنحوية :
وردت ألفاظ الذكر في القرآن في نحو مائتي موضع مختلفة الاشتقاق والموضع الإعرابي ونوع الضمائر الملحقة بها وفي التجرد والزيادة .
وقد رأيت أن الصيغة الثلاثية للذكر (ذكر) ومشتقاتها المختلفة تستعمل في معان معينة ، بينما الصيغ المزيدة تستخدم استخداما آخر .
فالذكر صورة حاضرة ماثلة في الذهن .
والتذكرة استحضارها بعد النسيان .
والتذكير حفز الغير على ذلك الاستحضار .
ولنبدأ بالحديث عن الذكر ، وما يشتق من مادته من صيغ ثلاثية .
وردت الصيغة الثلاثية للذكر من عدة صور متباينة ، وفي معان متنوعة :
*جاءت بالصيغة الفعلية (ذكر- يذكر- اذكُر ) مرادًا بها الحديث .
*وجاءت بالصيغة الاسمية مرادا بها الشرف أو الشأن ، ومرادًا بها العلم ، ومرادًا بها الكتاب المنزل أو النبي المرسل .
*وتناوله القرآن بالصيغة الفعلية واقعًا على لفظ الجلالة ، وبالصيغة الاسمية مُضافا إليه مثل: ذكروا الله- يذكرون الله- اذكروا الله- ذكر الله .
*وبنفس الصيغتين واقعًا على لفظ الرب أو مضافًا إليه . .
*وبالصيغة الفعلية واقعًا على اسم الله تعالى مثل: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى .
والذكر في الحالات الثلاث الأولى يدخل في دائرة الاستعمال اللغوي فحسب ، وفي الحالات الأربع الأخيرة مقصور على العبودية الخالصة ، والارتباط الوثيق بالله.
الذكر بمعنى الحديث :
تناول الإنسان لأمر من الأمور بلسانه يعني إخراجه من دائرة النسيان إلى عالم الشهود ، وقد ورد الذكر بهذا المعنى في ستة مواضع ، منها ما فيه تكريم ، ومنها ما فيه تحذير .
فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام التي ضل بها قومه ، وقالوا عنه كما حكى القرآن الكريم : أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ .
وذكر إبراهيم الأصنام التي ضلت بها شيعته ، وقالوا عنه كما حكى القرآن : سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ .
وطلب يوسف من رفيقه في السجن أن يذكره عند الملك وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ .
وظل يعقوب يذكر يوسف كثيرًا حتى لامه في إشفاق ، أو أشفق عليه في لوم بنوه الآخرون قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ .
وإذا تحدث القرآن عن الجهاد وذكر في آياته اسم القتال فزعت قلوب المنافقين وزاغت أبصارهم فَإِذَا أُنْـزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ .
والإنسان قبل أن يوجد أو يولد لم يكن شيئًا ذا بال يستحق أن يُتحدث عنه ، فهو كما قال تعالى : هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا .
الذكر بمعنى الشأن والشرف :
وقد امتن على نبيه برفعة الشأن وعلو المظهر ونباهة الذكر ، فقال تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ، كما شرف العرب برسالة الإسلام فيهم ، ونزول القرآن بلغتهم لَقَدْ أَنْـزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ .
الذكر بمعنى العلم :
والعلم أصول وقواعد مستحضرة في أذهان البشر يواجهون بها مشكلات الحياة والوجود ، والعالِمون بها هم أقدر الناس على بذل العون لغيرهم ممن لا يعلمون ، ولذا كان توجيه القرآن الكريم لغير العالِمين أن يسألوا العالِمين الذاكرين لهذه الأصول ، يقول تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ .
ووعد النبي صلى الله عليه وسلم قومه بشيء من العلم عن ذي القرنين عندما سألوه عنه ، قال تعالى : وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا .
وطلب الرجل الصالح من موسى عليه السلام أن يلوذ بالصمت حتى يذكر له فيما بعد شيئا من علم ذلك قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا .
ومن أهداف عروبة اللسان القرآني أن يقود قلوب العرب في رفق إلى الخوف من بارئها العظيم ، ويمنحها العلم به وَكَذَلِكَ أَنْـزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ، ويعلل الضالون لانحرافهم عن منهج الإخلاص بافتقادهم شيئًا من العلم الذي هدى به السابقون ، أو من التجارب التي مروا بها ، وهو استنتاج دقيق منهم ، لكن بعد فوات الأوان لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ .
الذكر بمعنى الكتاب المنزل أو النبي المرسل :
الكتاب المنزل مبادئ قويمة ، وشرائع مستقيمة ، ونصح رشيد ، وتوجيه سديد ، ولا عجب فهو كتاب رب العالمين ، الذي خلقهم ويعلم ما يصلحهم ويسددهم ، وعلى قدر بشريتهم شرع لهم من الدين ما وصى به رسله جميعا أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ .
والكتاب المنزل ذكر؛ لأنه يضع أمام ذاكرة البشر هذه المبادئ التي تحكم الحياة ، وتقود السلوك ، إنه ذكر حكيم ، وذكرى للمؤمنين .
وقد جاء الذكر بهذا المعنى في واحد وثلاثين موضعًا من القرآن الكريم ، من هذه المواضع ما كان الذكر فيه بمثابة العَلَم على القرآن وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُـزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ، إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ، وَأَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُـزِّلَ إِلَيْهِمْ ، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ، أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ، ومعنى هذه الآية أنهملكم فنحرمكم من هدي الكتاب لتجاوزكم حد الاعتدال . . وتتساءل قريش في استنكار: كيف ينزل هذا الذكر على محمد من بينهم؟ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ
وقد يترك القرآن ببيانه المعجز آثارا في القوم ، يندر في قلوبهم حقدا ، وفي أعينهم زيغا وغيظا وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ
وتسمية القرآن ذِكرًا فيه معنى الاسمية والوصفية ، على السواء ، غير أنه في بعض المواضع تغلب الاسمية ، وفي بعضها تغلب الوصفية .
فالقرآن من أبرز صفاته أنه ذِكر ، وأن رسالته هي الذِكر إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ويقول تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ، ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ فهو ليس ذِكرًا فحسب وإنما هو ذكر محكم يصيب كبد الحقيقة ، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ويقتحم القلب فيصيب الشغاف ، قال تعالى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وهو ذكر مبارك تسمو به حياة الناس ، وينمو في طريق الخير مجتمعهم وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْـزَلْنَاهُ .
ورسالة الذكر في القرآن تعم الوجود كله ، ففي أكثر من آية يقول رب العالمين عن كتابه: إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ يوسف ، ص ، التكوير ، الأنعام وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ، ومع عمومها تخص العرب بذواتهم ، يقول تعالى ممتنًا على النبي وقومه : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ، كما يقول: وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ولفظ لدنا: فيه إكبار لهذا الذكر أي إكبار ، ولذا ينتقد القرآن انصرافهم عنه ، وإعراضهم عن هديه أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ .
وأكبر خطأ يتورط فيه البشر أن يستبد بهم الغي ، فلا ينتفعون بحكمة هذا الذكر .
وهذا هو الكافر يلوم قرين السوء الذي أغواه لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ، كما يقول المعبودون من دون الله يتبرءون أمام ربهم من ضلال عابديهم : وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا .
والذي يتبع الذكر ويهتدي بآثاره هو الذي يستجيب للنذير ، ويؤثر فيه التبشير : إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ .
وأروع ما في الذكر القرآني - وكله رائع - أنه يحوي خلاصة التجربة البشرية ، يقول رب العالمين: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ .
وقد سمى القرآن الرسول "ذِكرًا" لأنه يحمل الذِكر للبشرية ، ويثير ذاكرتها نحو الاتجاه إلى المبادئ السماوية قَدْ أَنْـزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ .
وفي قَسَم رب العالمين بملائكته وهم العباد المكرمون ، يشير إلى جانب من فضلهم ، وأنهم يتلون الذكر ، ويلقونه على رسل الله وأنبيائه يقول تعالى: فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ، فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا .
ذكر الله
وهو أرفع مستوى تسمو إليه عقيدة الإنسان ؛ لأنه يعني استحضار عظمة الذات الإلهية والإحساس بها في كل موطن ، وفي كل موقف ، ومن هنا يكون الذكر جنة للمؤمنين ، وملاذا لقلوبهم فلا تعصف بها الأهواء ، وحصنا حصينا لإيمانهم فلا يزيغ به شرك أو رياء .
وهذه هي ثمرته: طمأنينة في القلب الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ .
والأسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم منهج كريم ، لكن الذي يعرف قيمة القدوة ، ويحرص عليها من كان رجاؤه في الله وثوابه ، وكان ذكر الله يملأ جوانب نفسه ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا .
والذكر صفة للمتقين لأنه باعث التقوى ووسيلتها وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ .
وذكر الله سمة تحكم مسلك العقلاء ، يقول تعالى : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .
وذكر العقلاء لله- كما تشير الآية- تأمل وتدبر ، واستحضار لعظمة الذات ، وليس مجرد ترديد عبارات باللسان والقلب عنها في شغل كبير .
والذكر صفة للمؤمنين . . فإذا تحدث القرآن عن الشعراء بأنهم يهيمون في أودية الغي ، فمنهم من نأى عن ذلك فنبذ تقاليد الجاهلية ومقاييسها الفاسدة ، واتجه إلى قيم أمثل تصلح الحياة والنفوس ، وهؤلاء هم شعراء المؤمنين أو مؤمنو الشعراء ، وأبرز صفاتهم الذكر الكثير لله ، والانتصار لدينه ، يقول تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ (226) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا
ولكون الذكر صفة للمؤمن وسمة للإيمان ، وجدنا هذه النداءات في القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ ذلك لأن الذكر أعظم سلاح يرفع من معنوية المجاهد عندما يشتد البأس ، وتحمر الحدق .
ويقول تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ، واستجابة القلب للذكر وتأثره به دليل على صدق الإيمان ، وقوة سلطانه على نفس الإنسان .
وكما أن الذكر سلاح فعال في ميادين القتال هو أيضًا سلاح مؤثر في معترك الحياة ، يقول تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .
وفي المواقف الصعبة ترى في الذكر تثبيتًا للذاكرين ، وبه وصى الله موسى وهارون وهما ذاهبان لمواجهة فرعون اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي.
الذكر عبادة والعبادة ذكر:
ومعنى العبادة لا يتحقق إلا به ، وهي في الوقت نفسه وسيلة إليه وأسلوب له ، والصلاة ذكر ، والذكر من أعظم ثمراتها إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي ، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ .
وفي تناول الصلاة ذِكرى وفي أعقابها ذِكر فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ .
والذكر ألزم سلوك لعبادة الحج ، ولذا تراه مطلوبًا من الحجيج في كل منسك فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ .
ذكر اسم الله :
وفي نحو أربعة وعشرين موضعًا من الكتاب العزيز ورد الذكر أو مشتقاته واقعًا على اسم الله ، وتتميز هذه المواضع بأنها عبادات ذات رسوم وحدود ، وأن المعنى فيها الإهلال باسم الله ، لأنه في هذه المواطن دليل الانصياع ، وبرهان الإذعان للخالق العظيم .
فالإهلال بذكر الله في الصلاة وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ، وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ، وفي الحج كذلك ترديد لاسم الله تعالى ، يقول جل شأنه : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ .
وعند الذكاة (الذبح) يتحتم الذكر فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ، وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، ويحرم ما ذبح من غير ذكر ، أو ذكر عليه غير اسم الله تعالى ، وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَأَنْعَامٌ لاَ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ .
ويجب الذكر عند وقوع الصيد في قبضة الحيوان المعلم فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ .
وذكر اسم الله شعار ينبغي للمؤمن أن يرفعه في كل حين ، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا .
هذه هي المواطن التي يحددها القرآن الكريم للذكر القولي: مواطن العبادات ، وأوقات الضراعة التي يهتف فيها العبد الخاشع الضارع لائذا مستجيرا بمن خلقه وسواه ، مرددا اسمه وحده في أدب واتزان دون تحريف وإلحاد ، يقول تعالى: أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ، وفي آية أخرى يقول: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ومن هنا ندرك مدى العبث الذي يتورط فيه بعض هؤلاء الذين يقفون صفوفًا يترنحون ذات اليمين وذات اليسار ، يرددون اسم الله بألفاظ غير مفهومة زايلها الوقار والاتزان ، زاعمين بهذا أنهم يذكرون الله . . ألا ساء ما يصنعون!! وما عدا مواطن العبادات والضراعة ، فالذكر استحضار لعظمة الله ، وتأمل وتفكير في أثار قدرته .
واذكر ربك:
وورد الذكر بمشتقاته واقعا على لفظ الرب في ثمانية مواضع ، وهذه المواضع فيها معنى التربية والامتنان والفضل والإنعام ، وهذه ظاهرة تعبيرية واضحة في كل مقام يذكر فيه القرآن لفظ الرب حيث يكون الإشعار بالتربية ألزم وأنسب من الإشعار بالعبودية ، ولأن إدراك معنى التربية- إذا صدق- يوصل إلى العبودية الخالصة .
وهذه الآيات تؤكد صحة هذا الاستنتاج يقول تعالى: وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ، ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ، ويقول تعالى لعبده زكريا : وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ .
ويقول تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً ، وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ، وعن يوسف يقول تعالى: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ، وعن سليمان يقول تعالى: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ، وفي تأنيب الكافرين الجاحدين يقول تعالى: بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ .
الإعراض عن الذكر . . وآثاره وبواعثه
الإعراض عن الذكر بادرة خطيرة تزعزع بنيان العقيدة ، ولذا نرى في القرآن الكريم تحذيرًا من اللهو الشاغل عنه ، ومن كل داعية إلى الانصراف عن هديه ، فالذين لا يذكرون هم المنافقون أو الكافرون وكفى !! يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا ، وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا .
والذين لا يؤمنون بالآخرة لا يرتاحون إلى الذكر الخالص لله وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ، ولقسوة قلوبهم وعدم تأثرها بالذكر استحقوا الويل فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ .
وفي هذه الآيات تحذير من الصوارف عن الذكر واتباع الضالين المنحرفين ، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا والشيطان أكبر صارف عن الذكر ، بل هو الذي ينمي كل الصوارف إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ .
والمؤمنون الصادقون لا تؤثر فيهم هذه الصوارف كما وصفهم ربهم فقال: رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ .
مصير الغافلين :
والغافلون عن ذكر الله ينتظرهم شقاء الدنيا وبلاؤها ، وعذاب الآخرة ونكالها ، فمن يعمَ عن ذكر ربه ييسر له شيطانًا في الدنيا يوغل به في متاهات الإغواء وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، وفي الآخرة يصف القرآن لنا
( الجزء رقم : 13، الصفحة رقم: 162)
عذابه فيقول: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ، وحسب الغافل تعاسة الدارين التي تصفها هذه الآية : وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى .
وهذه منزلة الذاكرين :
يعدهم الله من بين حملة القيم ، وأصحاب المثل السامية كالمسلمين والمؤمنين والصابرين والصادقين فيقول تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ . كما يعدهم الله تعالى بأن يذكرهم كما ذكروه فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وذكر الله لعبده تكريم ما بعده تكريم .
التذكير منهج لرسالات السماء :
والتذكير هو المنهج الذي يقوم عليه دين الله ، ومن أجله كانت وتعددت رسالات السماء في شتى مراحل التاريخ ، وتحمل الرسل عبء هذا المنهج ، ليذكروا البشر بأبعاد الهداية ، ويدلوهم على مواطن الخير في وحي الله ودين السماء ؛ ليستطيع الإنسان تحقيق الرسالة التي أرادها الله له في هذا الوجود .
وتدرك هذه الأهمية البالغة للتذكير عندما تقلب صفحات الكتاب العزيز ، إذ تستوقفك في مجال الدعوة إلى التذكير أمور ذات بال .
(1) يدعو رب العالمين نبيه ومصطفاه محمدا عليه الصلاة والسلام إلى أن يذكر ويتذكر ، أما التذكير فهو جوهر مهمته ومناط رسالته ، ولذا وجهه الله تعالى إليه في مواطن كثيرة ، وأرشده إلى وسائل شتى يستعين بها في تذكيره سنتناولها فيما بعد .
يقول الله تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ، فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ ، وفي الآية الأخيرة دعوة إلى التذكير بالقرآن مخافة أن ينتهي أمر القوم إلى الهلاك ، بما أسلفوه من بغي وانحراف .
وأما التذكر فقد دعا الله نبيه إليه لأنه سيكون جُنة له تحميه من نوازع البشرية ، وتضع نصب عينيه مثلا أعلى من حياة من سبقوه في طريق الدعوة ، فيهون أمامه البلاء ، ويخف عليه وقع المحن ، ويتحمل مئونة الصبر ، ومن هنا كان الأمر بالتذكر يدور كله في مجال القصص القرآني .
وقد جاء الأمر في سورة مريم وحدها خمس مرات ، يقول تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ الآيات .
كما جاء هذا الأمر في أربعة مواضع من سورة ص ، تحث النبي عليه الصلاة والسلام على تذكر أنبياء آخرين سبقوا في الدعوة إلى الله ، فيقول: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ ، وفي الأمر بالصبر قبل الذكر في الموضع الأول إشارة إلى أن مغزى التذكر أن يصل به النهي إلى قضية الصبر التي بها تنجح الدعوات .
وفي سورة الأحقاف يقول تعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ ، وأخو عاد كناية عن نبي الله هود عليه السلام ، والأحقاف موضع معروف ، في الجهة الجنوبية الشرقية من شبه الجزيرة العربية ، كما يقول تعالى في صدر الحديث عن موسى عليه السلام: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ .
وفي غير مجال القصص القرآني نجد توجيهًا للنبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى استلهام الذكرى من حادث عبد الله بن أم مكتوم الذي عبس في وجهه ، فقال الله لرسوله بعد عتاب غير يسير : كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ .
فالتذكر الذي يحمي البشرية من الهوى وينأى بها عن الزلل ، والتذكير الذي هو مهمة ورسالة لم يكونا مقصورين على خاتم الأنبياء وحده ، فهذا أمر الله لنبيه عيسى عليه السلام بالتذكر ، إذ يقول له: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، وهذا أمر آخر لنبيه موسى بالتذكير: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ، ويحدثنا القرآن عن عتاب نوح عليه السلام لقومه الذين ساءتهم الدعوة إلى الله والتذكير بآياته: يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ .
ويصف الله تعالى أنبياءه إبراهيم وإسحاق ويعقوب بصفة اختصهم بها ، وهي تذكرهم لدار الجزاء إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ .
فرسل الله جميعا ذكروا فتذكروا ، وقاموا بواجب التذكير كما أمرهم الله ، وإن لم تنسب إليهم الألفاظ صراحة بهذه الكثرة كخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم .
(2) الدعوة إلى التذكر في القرآن ملحة تهز عقول البشر هزا عنيفا ، وتزيح أستار الغفلة التي تلقيها عليها بين الحين والحين نوازع النفوس ومغريات الحياة ، وذلك ليعود للعقل البشري صفاؤه ، فيستجيب لدعوة الله ، ويذعن لرسالة الحق ، تبدو قوة هذه الدعوة إلى التذكر في الأسلوب التي عرضت به الآيات الداعية إليه ، إذ في ستة مواطن من القرآن الكريم وردت الدعوة بهذه الصورة: أفلا تذكرون ؟ التي تتضمن استنكار الغفلة الصارفة عن استحضار العبرة عندما تمر آية ، أو يلم حدث ، أو يطوف بالحياة أمر ذو شأن ، والذي يلفت النظر ، ويشد الانتباه أن هذه المواطن الستة تدور كلها حول التوحيد وتوطيد العقيدة الصحيحة للإسلام في نفوس البشر ، ففي محاجّة إبراهيم لقومه يؤكد لهم أنه لا يخشى إلا الله ، ثم يقول: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ .
ويضرب القرآن الكريم مثل الفريقين: الفريق الذي عقل الحق وعرف العقيدة الصحيحة ، والفريق الذي غفل فضَلّ ، واتبع هواه ، فالأول مثله مثل البصير والسميع ، والثاني مثله: مثل الأعمى والأصم ، وتنتهي الآية بهذا التساؤل هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ .
ويرد هود عليه السلام شهوة جامحة لقومه طلبوها في غفلة من العقل والبصيرة ، إذ رغبوا إليه أن يطرد المستضعفين من مجلسه ، ليخلوَ لهم وحدهم ما يريدون من شهوة الانفرادية : وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ .
وفي موازنة رائعة مقنعة تأخذ بتلابيب النفوس الضالة التي غشيتها سحابة الشرك يقول رب العالمين: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ .
الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء>اللغة العربية>مجلة البحوث الإسلامية بإشراف و مسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء>اعداد المجلة
تصفح برقم المجلد > العدد الثالث عشر - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1405هـ > بحوث في علوم القرآن > الذكر والنسيان في القرآن الكريم > التذكر والتذكير في القرآن > التذكير منهج لرسالات السماء
وفي مساءلة هادية راشدة بين الداعي وقومه ، جاءت الدعوة السادسة إلى التذكر ، يقول تعالى: قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ.
وفي غير هذه المواطن دعوات كثيرة للتذكر ، مقرونة بوسيلة أو الباعث عليها ، وقد قدمت للبشرية في ظروف مختلفة حتى تستمر على طريق الحق مسيرتها ، يقول تعالى في تأنيب الغافلين الضالين غداة الحسرة عندما تتبين الحقائق وينكشف عن العين الغطاء : أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ .
وهذه دعوة للمسلمين بعد النصر العظيم في بدر لأن يتذكروا ماضيهم الذي عاشوه مستضعفين ، مبغيا عليهم ، إذ أن هذه الذكرى تحفزهم على الشكر الذي يزيد النعم ويوثق العلاقة بخالقهم العظيم : وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .
وعلى لسان شعيب عليه السلام جاء النصح لقومه بأن يتذكروا : وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ .
وعلى لسان هود وصالح عليهما السلام جاء نفس النصح لقوميهما عاد وثمود ، يقول تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ، وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ .
وفي شأن بني إسرائيل يقول تعالى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .
(3) وبقدر ما كانت الدعوة إلى التذكر تحمل هذا القدر الكبير من التقدير والاهتمام؛ لما في التذكر من صحوة العقيدة ، ويقظة الضمير ، بقدر هذا كان التنديد عنيفا
وقاسيا بمن غفلوا ولم يعقلوا ، وسمحوا لغشاوة النسيان أن تحجب البصيرة ، وتتركهم في متاهات الضلال ، يتجلى عنف هذا التهديد من حديث القرآن عن المعرضين عن الذكر ، ووصفه لهم ، وتقويمه لعقيدتهم ، وكشفه عن مصائرهم وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وفي آية أخرى : ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا .
وفي وصف المنافقين يقول تعالى : أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ .
وأهل الكتاب خانتهم ذاكرة المؤمن ، فنسي اليهود حظًّا مما ذكروا به ، فحرفوا الكلم عن مواضعه ، ولا تزال خياناتهم مستمرة ، وأما النصارى فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ .
ونسي كثير من بني إسرائيل واجب النصيحة ، فحلت بهم العقوبة ، ولم يفلت منها إلا من نَهَوا عن السوء فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ .
ويصور القرآن الكريم حقيقة هؤلاء المعرضين عن الذكر أسلوبًا ونتيجة ، فيقول تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فرسم القرآن الكريم صورة منفرة لإعراضهم ، كما أشار إلى موقفهم يوم القيامة عندما يواجهون العذاب بلا شفيع ولا نصير .
والوصف بعدم التذكر نراه سجية لكل منحرف عن دين الله ، يقول تعالى: وَإِذَا ذُكِّرُوا لاَ يَذْكُرُونَ ، ولا عجب فهو أساس الداء والباعث الأقوى على الانحراف ، فالذي لا يتذكر تختلط أمام بصيرته القيم ، يقول تعالى : وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ .
والذي لا يتذكر يتورط في أرجاس الشرك : اتَّبِعُوا مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ .
ووصف الكفار بقلة التذكر المعني به العدم ورد أيضًا في مواضع أخرى .
والذي لا يتذكر تختفي أمام عينيه الحقائق الساطعة وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ .
(4) يؤكد القرآن الكريم أن التذكر أو الانتفاع بالذكرى والاستفادة من التذكير لون من السلوك الأقوم لا يتيسر إلا لأنماط معينة من البشر:
(أ) من هم على درجة من العقل الراشد واللب النابه والبصيرة النافذة ، وقد ورد في السور والآيات الآتية ما يفيد أن التذكر مقصور على أولي الألباب وذوي البصيرة والعقول مثل : وما يذكر إلا أولوا الألباب ومثل لقوم يعقلون ومثل إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
(ب) من هم على صفة الإيمان أو التقوى أو العبادة أو الإنابة ، وهذه الصفات هي من أرفع المستويات التي يصل إليها المسلمون بإسلامهم ، وهذه الصفات ليست متباينة ، وإنما هي مترابطة متآخية ، ولا تتحقق- بصدق- إحداها إلا إذا تحققت أخواتها ، فلا إيمان بدون تقوى ، والعبادة جوهرهما ، والإنابة تضفي عليهما حيوية العقيدة ، وعمق تأثيرها .
وأكثر هذه الصفات ارتباطًا بالذكر والتذكر صفة التقوى؛ لأنها تقوم على مراقبة الله وخشيته ، ومن هنا كان المتقون أكثر الناس ذكرا لله وتذكرا لآياته .
ففي ارتباط الذكر بالتقوى وردت ثماني آيات تؤكد أن التذكر صفة لازمة للتقوى : إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا ، إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى
وجاءت ثلاث آيات تؤكد ارتباط التذكر بعقيدة الإيمان وهي [12 \ هود ، 51 \ العنكبوت ، 15 \ السجدة ] .
وفي علاقة الإنابة بالذكر ، يقول تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَـزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ .
وفي ارتباط العبادة بالذكر يقول تعالى: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ .
والذاكر هو الذي يتذكر ، وهذا الارتباط لغوي وقرآني أيضا ، إذ يقول تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ .
(5) التذكر منطلق المسئولية :
فعند الذكرى أو التذكر تتحدد المسئولية وتتأكد ، وتنتفي الأعذار والتعللات ، يبدو ذلك من خطاب الله لرسوله في هاتين الآيتين : وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا .
بواعث التذكر
من هذه الموضوعات التي أثرتها والنتائج التي استخلصتها نستطيع أن نقف على مدى أهمية التذكر في سلوك كل ذي دين ، وبخاصة دين الإسلام الذي اصطفاه الله وارتضاه .
وبالدراسة الواعية القائمة على استقراء دقيق لاستعمالات هذه الألفاظ في القرآن الكريم (التذكر والتذكير والذكرى) نرى أن الكتاب العزيز وضع تحت أيدينا وسائل التذكر وبواعثه ، وهي متعددة ومتنوعة حتى تغطي ميول البشر ، وتصيب نوازعهم وهي مختلفة ومتنوعة .
وهذه هي البواعث التي تدفع إلى التذكر ، معززة بآيات القرآن الكريم التي تناولتها.
(1) الكتاب السماوي بعامة باعث على التذكر ، والقرآن بخاصة يعد من أول الوسائل وأقوى البواعث والحوافز ، فهو من حيث الإطار يثير التذكر بلسانه العربي ، ومن حيث المضمون هو مليء بالمواعظ والعبر ، حافل بالدروس والقصص ، وهو - كما قلنا أول البحث - والذكر صنوان ، فالقرآن ذو الذكر ، وسماه الله ذكرا في أكثر من موضع ، وفي خمس عشرة آية منه يبين الله لنا أن كتاب السماءيحرك النفوس إلى التذكر ، فلا يضيع إيمانها في سُحُب الغفلة وركامها ، في ثلاثة مواضع منها حديث عن كتاب موسى ، وفي باقيها حديث من القرآن .
وهذه هي السور والآيات التي وصفت كتاب الله بأنه دافع إلى التذكر ووسيلة إلى التذكير: [41 \ الإسراء ، 48 \ الأنبياء ، 43 \ القصص ، 51 \ العنكبوت ، 29 \ ص ، 53 ، 54 \ غافر ، 58 \ الدخان] ، وفي سورة ق فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ، وفي سورة القمر جاءت هذه الآية: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أربع مرات ، وفي الحاقة : وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ .
(2) وجاء لفظ الآيات باعثًا على التذكر في نحو سبع آيات ، والآيات إما كونية وإما قرآنية ، والتذكير بالقرآن تحدثنا عنه ، والتذكير بآيات الكون سنتحدث عنه ، أما في هذه المواطن فقد جاءت الآيات عامة بدون تحديد ، لكن في بعض المواطن يغلب على الظن أنها القرآنية ، وفي بعضها الآخر يترجح أنها الكونية .
فمن الأولى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ الكهف والسجدة ، وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وراجع 15 \ السجدة و 221 البقرة .
ومن الثانية قوله تعالى: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ، والمشار إليه نعم الله على بني آدم باللباس والرياش ، ثم إرشادهم إلى أن لباس التقوى أجمل وأكمل .
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا : أي أن الحديث في إنشاء السحاب وإنزال المطر تنوع القول فيه بين الناس في القرآن وفي الكتب السماوية الأخرى ليتذكروا ويعتبروا .
(3) التأمل في مخلوقات الله وفي سننه الكونية ، وهذا من أقوى البواعث على التذكر ، ومن أنجح وسائل التذكير ، ولا عجب فهو المنهج الذي ارتضاه القرآن لهداية النفوس الضالة إلى الله ، وفي غرس جذور العقيدة ودعم سلطانها على قلوب البشر .
وقد أشرت في الفقرة السابقة إلى آيتين فيهما حديث عن آيات الله حافز على التذكير .
وتأمل معي هذه الآيات التي تعرض جوانب من الكون العظيم ، لتنتهي بالناس إلى ضرورة الإيمان والتوحيد : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، وراجع [57 \ الأعراف- 17 \ النحل- 62 \ الواقعة- 8 \ ق- 31 \ المدثر- 62 \ النمل] .
(4) التذكير بعبر التاريخ وأحداثه :
والتاريخ ذاكرة البشر وملهم المواعظ ، وكلما عرفت الأمم ماضيها أقامت على أصح التجارب مستقبلها ، ولذلك عني القرآن الكريم بدعوة الأمم إلى السير في الأرض والنظر في أخبار السابقين ، وكان القصص القرآني على كثرته وتنوعه بمثابة جذب لذاكرة النبي صلى الله عليه وسلم نحو عبر الماضي؛ لينتفع بها في الحاضر ، فالتجربة البشرية واحدة ، والتاريخ يعيد نفسه ، يقول تعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ قد مرت آيات فيها دعوة للرسل إلى تذكر التاريخ ، وتذكير أممهم به ، مثل قوله تعالى لنبيه موسى : وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ، كما يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ، وفي تذكير البشر بالقرون السابقة يقول تعالى : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ بعد قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ .
وللقصص القرآني هدف آخر ، وهو تذكير المعاندين والضالين وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ .
(5) يوم القيامة :
اليوم الحق ، ويوم الهول ويوم الزلزلة ، ويوم القارعة ، سيعيد للغافلين ذاكرتهم ، ويطلبون دنيا أخرى يستدركون فيها ما فات ، ويكون الجواب: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ، ووصف القرآن الكريم يوم القيامة بأنه يوم التذكر وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ، واقرأ الآيات [18 \ محمد ، 54 ، 55 \ المدثر ، 19 \ المزمل] .
(6) التذكير بالمحن والنعم :
قد يسلط الله على البغاة المحن- رحمة منه- رجاء أن يتذكروا ، يقول تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ، ومنهم الغارقون في الغفلة ، فلا تؤثر فيهم ضراوة المحنة ، وهم المنافقون أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ .
والنعم باعث آخر على التذكر ، وتبلغ من بعض النفوس أكثر مما تبلغ منها المحنة ، يقول تعالى: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ .
وفي نعم الله على الصالحين موعظة وتذكرة ، يقول عن نبيه أيوب: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ .
وفي سور ص ، يقول الله تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ .
وفي إنقاذ المؤمنين بنوح من الطوفان تذكرة بالغة ، إذ يقول تعالى مشيرا إلى السفينة : لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ .
وفي معرفة الإنسان للنار تذكرة ومتعة ، وتذكرة بنار الآخرة وبلائها وأهوالها ، ومتعة في الدار العاجلة ؛ إذ يستخدمها الإنسان في تحصيل الكثير من منافعه ، يقول تعالى: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ .
والمقوون: المسافرون .
(7) القول اللين ، والموعظة الحسنة ، وضرب الأمثال :
لين القول وحسن الموعظة ، والاستعانة على هذا وذاك بضرب المثل من أبلغ وسائل التذكير التي اعتمد عليها القرآن في نصح البشر .
فبالقول اللين وصى الله نبيه موسى وأخاه هارون: فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى .
وهذان نموذجان للقول اللين الذي يحفز إلى التذكر ، من واقع أسلوب القرآن:
الأول: في مجادلة من زعموا الملائكة بنات الله مع بغضهم للبنات: أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ والثاني : في محاورة من اتبعوا هواهم فضلوا السبيل: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وقد استعان القرآن الكريم على ذلك بضرب الأمثال ، وقد عرفنا مثل الفريقين: المؤمنين والكافرين ، وتشبيه الأولين بالبصير والسميع ، والآخرين بالأعمى والأصم ، وتعقيب الآية على ذلك بهذا التساؤل: هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ .
وفي القيمة التوجيهية والتأثيرية لضرب الأمثال ، وفي دفعها القوي إلى التذكر يقول تعالى : وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، كما يقول تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، ويقول تعالى : وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ .
والآية الأخيرة تكشف عن المقدرة الفكرية والعلمية الواسعة التي يتصف بها كل إنسان يستفيد من أمثال القرآن الكريم .
رب أعني على ذكرك ، وذكرني بآياتك حتى تذكرني يوم العرض عليك ، واجعل لكل مسلم يقرأ بوعي كفلا مما دعوت ، إنك سميع الدعاء .
مصادر البحث :
(1) القرآن الكريم .
(2) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم .
(3) معجم ألفاظ القرآن الكريم . مجمع اللغة العربية بالقاهرة .
(4) تفسير المنار . محمد رشيد رضا .
دراسة لغوية ومنهج جديد في تفسير الكتاب الحكيم
الدكتور : السيد رزق الطويل
(مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثالث عشر - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1405هـ)
مقدمة
باسم الله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
وبعد :
فهذا بحث ميدانه: كتاب رب العالمين .
وموضوعه: النسيان والذكر وتناول القرآن الكريم لهما .
ومنهجه: تتبع هذين اللفظين في الكتاب العزيز ، في صورهما المتنوعة ، واستخلاص النظرة الشاملة لهما بحيث يبدوان موضوعًا واحدًا متكاملا مدروسًا على ضوء المنهج الإسلامي .
ومن هنا نرى هذا البحث يحمل طابع الدراسة اللغوية للقرآن الكريم ، وفي الوقت نفسه أسلوب جديد في تفسير الكتاب العزيز .
والنسيان والذكر ظاهرتان بشريتان ، ولهما أثرهما الكبير في مسيرة البشر من هذه الحياة ، وهما أيضًا من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان ؛ ليستعين بها في أداء رسالته في الحياة ، رسالة العبودية الخالصة لله تعالى وحده .
وقد يتصور الإنسان بادئ الرأي أن هذين من الأمور البشرية التي لا يتعرض لها المنهج الإلهي بالبيان ، فماذا يُهم الإسلام إن نسي الإنسان في دنياه أو تذكر ؟!
لكن الحقيقة التي يؤكدها السلوك الإنساني أن ظاهرتي النسيان والذكر قد تصبحان موضوعًا إسلاميًّا عندما يتحول النسيان إلى غفلة ، وعندما يكون الذكر سياجًا يحمي عقيدة الإيمان .
ولهذا تحدث القرآن الكريم- كما سنرى- عن هاتين الظاهرتين كثيرًا ، وبشمول واستيعاب لجميع أوضاعهما الإنسانية والدينية .
وسنبدأ بالحديث عن النسيان اتباعًا لمنهج القرآن الذي يحارب الكفر كمقدمة للدعوة إلى الإيمان ، وينهى عن الشرك قبل الدعوة إلى التوحيد ، ويحارب الطاغوت قبل أن يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له .
وكلمة التوحيد: أولها نفي ، وآخرها إثبات .
قال تعالى : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
أسأل الله الكريم أن يمنحنا التوفيق والسداد ، وأن ييسر لنا أسباب القول ؛ ليتحقق الخير الذي نرجوه لأمتنا المسلمة ، والله يتولى الصالحين .
النسيان في القرآن
النسيان ظاهرة بشرية :
النسيان ظاهرة بشرية ، وسمة أصيلة من مسلك الإنسان ، وقد اختلف اللغويون في اشتقاق الإنسان ، فمنهم من رأى أن أصل الكلمة هو الأنس ، وآخرون منهم رأوا أصلها النسيان ، وقديما قال أحد الشعراء:
ومـــا سُـــمِّي الإنســان إلا لنســيه ولا القلـــــــب إلا أنـــــــه يتقلـــــــب
وهذا يؤكد أصالة هذه الصفة في سلوك البشر .
ويرى علماء النفس أن النسيان ضرورة بشرية؛ لأن الذاكرة لها درجة تشبع ، ومن رحمة الله بالإنسان أن منحه النسيان ليهمل ما لا يهمه ، ويختزنه في عقله الباطن ، ويحتفظ في منطقة الشعور بكل ما يهمه من شئون حياته .
والنسيان بهذه الصفة يخرج عن دائرة التكليف ، ويتجاوز حدود المسئولية ، ويعفي الإنسان مما يحدث منه وهو واقع تحت سلطانه ، خاضع بغير قصد لتأثيره .
أما النسيان المقصود ، وهو تعبير قد نجد من ظاهره لونًا من التناقض ، لكنه في حقيقة الأمر لا تناقض فيه ، إذ فيه نسيان وفيه قصد ، ونعني به الغفلة عن الواجب ، وإهمال ما لا ينبغي أن يهمل من حقوق ومسئوليات .
تناول القرآن لهذه الظاهرة الإنسانية:
ولنتجه الآن إلى القرآن الكريم لنرى كيف تناول هذه الظاهرة؟! وبإحصاء دقيق للفظ النسيان في القرآن الكريم في صوره الاشتقاقية المختلفة نجد أنه ورد في خمسة وأربعين موضعًا من الكتاب العزيز .
وبدراسة المواضع التي ورد فيها هذا اللفظ بمشتقاته ، نرى أن القرآن الكريم قد استخدمه بمعنييه جميعا: النسيان الحقيقي الذي يلم بالإنسان في غير قصد أو إرادة ، والنسيان المقصود الذي نعني به الغفلة عن الواجب وإهمال المسئوليات .
النوع الأول: النسيان الحقيقي ، كيف تناوله القرآن؟
عندما يكون النسيان قسرًا وجبرًا ، وعندما يلم بالإنسان بلا قصد منه أو إرادة يكون هو النسيان الحقيقي الذي أعطيناه صفة الظاهرة البشرية أو السمة الإنسانية ، إذ أن أي إنسان مهما كان لا يستطيع أن يتجرد منه .
وحديث القرآن عن هذا النوع حديث إخباري بحت ، يعرض فيه بعض صوره أو ينفيه في بعض المواضع التي ينبغي أن ينفى فيها؛ لأنه تجاوز إطار الظاهرة البشرية ، أو يتناوله في أسلوب دعاء على لسان المؤمنين يضرعون فيه إلى ربهم ألا يؤاخذهم بما وقع منهم تحت سلطانه ، وهذا أقصى ما ينبغي أن يتحدث به القرآن عن ظاهرة بشرية جبرية كهذه ، فهو إذن لا يحتاج إلى تحليل أو تقويم ، أو إصدار أحكام كما سنرى في النوع الثاني .
وتناول القرآن الكريم لهذا النوع من النسيان بصوره الثلاث: النفي والدعاء والإخبار جاء في أحد عشر موضعًا .
(1)- في صورة النفي:
(أ)- نفاه القرآن نفيًا قاطعًا عن رب العالمين ، الذي ربى الوجود كله بنعمه ، ورعاه بحكمته وخبرته ، وحفظه بقدرته ؛ إذ يقول تعالى: وَمَا نَتَنَـزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ونَفْي النسيان عن طريق نفي كينونته أروع وأوضح ، إذ هو بالنسبة لله لا وجود له ، لا أنه موجود ثم نفي ، وحاشا للحَكَم العدل اللطيف الخبير أن تلم به ظاهرة هو ركبها في الإنسان ؛ لتنسجم له أسباب الحياة .
(ب)- وفي موضع آخر يطمئن رب العالمين نبيه بأنه سيكون بمنجاة من هذه الظاهرة البشرية في مجال الوحي وتبليغ الشريعة ، فيقول له: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى ففي هذه الآية ينفي القرآن النسيان عن النبي عليه الصلاة والسلام في كل ما يتصل بالوحي ، وتبليغ الرسالة .
(ج)- وفي موضع ثالث ينفيه عن الكتاب أو اللوح المحفوظ الذي سجل فيه أقدار الخلق وأعمالهم ومصايرهم ، ووحي الله وأمره إليهم ، قال تعالى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى ، وإذا تصورنا نفي الضلال والنسيان منسوبًا لله في هذه الآية ، فإننا بهذا الاعتبار ندخلها في الموضع الأول .
(2)- في صورة الدعاء أو الالتماس:
في دعاء المؤمن لربه الذي علمه إياه نرى ضراعة خاشعة ، عادلة قويمة ، يرجو فيها ألا يؤاخذه بما سلف من تحت سلطان النسيان المبسوط على بني الإنسان ، فيقول تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، وفي موضع آخر يلتمس موسى من العبد الصالح ألا يؤاخذه بنسيانه ما اشترط عليه من عدم الاعتراض على تصرف يصدر منه ، يقول تعالى على لسان موسى: قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا .
(3)- أخبار قرآنية تتصل بالنسيان :
(أ)- مريم عليها السلام ، وقد اختارها ربها موضعًا لآيته ؛ ونفخ فيها من روحه ، وأحست بحكم نوازعها البشرية بكثير من الأسى ، ورأت في الأمر محنة لها ، إذ كيف يعلم الناس بحقيقة موقفها وبراءة ساحتها !! لذا كانت أمنيتها على الله تعبيرًا عن مدى الألم الذي أحاط بها ، تمنت أن قد كانت في عالم الموتى ، ومحيت من ذاكرة الناس قبل أن تعيش هذه المأساة ( كما تراها ) يقول تعالى: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا .
(ب)- وفي حديث القرآن الكريم عن عِجل السامري الذي فتن به بنو إسرائيل على أساس أنه رمز للإله ارتضاه لهم موسى ، لكنه ذهب إلى الموعد ، ونسيه مع السامري ، هكذا فهموا أو هكذا خدعهم المحتال الأثيم : فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (ج)- وفي موضع ثالث يحدثنا القرآن الكريم عن نسيان موسى عليه السلام وفتاه للحوت ، وقد كان نسيانه أمارة ، وميقاتًا للالتقاء بالعبد الصالح ، ولا يذكر أنه نسي إلا عندما يحل وقت الغداء ، ويفتقد فتاه الحوتَ فلا يجده ، ويتصور أن نسيانه من عمل الشيطان ، ولكن موسى يكشف الحقيقة لفتاه ، وأن ما حدث هو بغيتهما ، وارتدا إلى مجمع البحرين ، والتقيا بالعبد الصالح الذي وعد موسى بلقياه ، يقول تعالى: فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا .
بهذه الصور الثلاث المتقدمة كان تناول القرآن الكريم للنسيان الذي هو ظاهرة إنسانية لها صفة العموم والانتشار ، ولها صفة القهر والإلزام ، ومن هنا رفع الشارع الحكيم مسئولية البشر عما يحدث في ظلال هذا النوع من النسيان .
والنوع الثاني : النسيان المقصود:
وهو نسيان الغفلة عن الواجب ، وإهمال المسئوليات ، وهو أكثر النوعين ورودًا في القرآن الكريم ، تناول أنواعه ، وحلل أسبابه ، وحذر من مغبّته ، وبين عقوبته .
وتناول القرآن الكريم له بهذه الكثرة؛ لأنه ظاهرة بشرية منحرفة تحتاج إلى تحليل وعلاج ، وللشارع الحكيم منها موقف يحتاج إلى بيان وتفصيل . ولهذا أولاها الكتاب العزيز اهتمامًا بالغًا ، لما لها من خطورة بالغة تهدد الدين السماوي ، وتنحرف بالبشرية عن هديه وهداه .
ومن هنا ورد الحديث عن هذا النوع في أربعة وثلاثين موضعًا من كتاب الله ، وكل ما ورد في هذه المواضع من نسيان يحمل طابع الغفلة عن واجب أو التنصل من تبعة أو الإهمال لمسئولية لا ينبغي أن تهمل بحكم ما تلزم به عقيدة الإيمان .
ويمكن أن يصنف هذا النوع تصنيفًا يجعل من الآيات التي وردت فيه موضوعًا كاملا .
(1)- مظاهر النسيان المنحرف واتجاهاته
(2)- تحليل أسبابه
(3)- عقوبته
(4)- العلاج الذي وضعه القرآن له
(1)- مظاهر النسيان المنحرف واتجاهاته :
يتخذ هذا اللون من النسيان عدة مظاهر تؤكد انحرافه عن سنن النسيان البشري الذي رفعت المسئولية عن صاحبه ، وذلك لأن هذه الظواهر تؤكد أن للإنسان قصدًا وإرادة على نحو من الأنحاء وأن ما يتورط فيه الإنسان من أعمال نتيجة له إنما هو شيء مراد .
وهذه هي مظاهره:
(أ)- نسيان الذنوب والخطايا :
إذا وقع الإنسان في الذنب أو هوى إلى الخطيئة لأول مرة فله عذره ، والخطأ من حقه؛ لأن وراءه نوازع بشرية عميقة التأثير في توجيه السلوك ، ولذا شأنه إذا تاب قبل الله توبته ، وفرح بأوبته على أن يظل هذا الذنب الذي اقترفه درسًا يضيفه إلى تجاربه التي تحدد في الحياة فاعليته ومسلكه .
أما إذا نسي تجربة الذنب فستنتكس حياته ، ويتعثر سلوكه ، ويظل يهوي مع هواه حتى يكون من الغاوين ، وهذه هي صفته كما عرضها القرآن الكريم .
يقول الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ، فأسلوب الآية يشير إلى أن أشد الناس ظلمًا ذاك الباغية المنحرف ، الذي يُذكّر بآيات الله في كتابه وفي الحياة فيعرض عن الذكرى ، وينسى ما تورط فيه من ذنوب وآثام ، ومن هنا استحق ما وصف به في آخر الآية إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ، وإذا كان في طبع الآثِم نسيان ذنبه ، فهذا النسيان دعامة انحرافه ، ومن هنا يكشف القرآن الكريم هذه الظاهرة في سلوك طائفة أخرى من الآثمين الذين هَوُوا في وادي الشرك السحيق ، إذ ذكروا ربهم في الضراء ، ونسوا أنهم أشركوا به في السراء ، فيقول تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ فالفطرة السليمة التي شوهها الإنسان بانحرافه في السراء تعود نقية صافية ، تشد الإنسان المنحرف إلى ربه في الضراء؛ ولهذا ترشد الآية إليها ؛ لتؤكد للإنسان أن نداء الفطرة السليمة أهدى وأقوم .
على أن الحقيقة التي ينبغي أن يذكرها الآثِم أنه إن نسي فاستمرأ بالنسيان إثمه ، فإن وراءه الرقيب الذي يحصي عليه ما قد نسيه ، يقول تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ .
(ب)- نسيان يوم القيامة :
يوم القيامة الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين ، حيث يجد كل إنسان طائره في عنقه ، ويقرأ بنفسه صحائف أعماله ، ويرى بعينه مصيره ، وهو اليوم الحق ، حيت يفصل فيه بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون ، وينتهي أمر الباطل إلى جحيم ، وينعم المتقون في دار النعيم .
وقد عني القرآن الكريم بعرض مشاهد شتى من ذلك اليوم ، وطالما كان المؤمن على ذكر لذلك اليوم سيتخذ منه حافزًا يدفعه إلى الخير ، وينأى به عن الضلال ، ويثبته على طريق الهداية .
ولذا نجد في أكثر من آية في كتاب الله دعوة إلى اتقاء ذلك اليوم ، وما فيه من أهوال وبلاء ، وإذا نسي الإنسان ذلك اليوم فلم يعمل له حسابه فنسيانه بادرة إلى الانحراف الذي ينتهي بالإنسان إلى ضلال .
وها هو موقف الناس ليوم القيامة يعرضه القرآن الكريم في عدة صور .
يقول تعالى عن الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا ، وغرهم ما في دنياهم من زخرف ومتاع : فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فجزاؤهم عند الله إذن إهمال ووبال ؛ لأنهم نسوا يوم القيامة فلم يقدموا في دنياهم عملا ينفعهم ، والهوى يهوي بصاحبه ويضله فينسيه يوم الجزاء بما يقدم له من شواغل صارفة ، يقول تعالى في نصح نبيه داود عليه السلام : وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ .
فالضالون عن سبيل الله سر ضلالهم نسيانهم يوم الجزاء ، وهذا النسيان سر آفة الإنسان وضلاله ، ولذا عندما يقف المجرمون ناكسي رءوسهم عند ربهم ، وقد رأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم ما نسوه من حقائق ذكروا بها دنياهم فلم يتذكروا ، عند ذاك يدعون إلى العذاب الذي عرفوا يومئذ سبب وقوعهم فيه ، فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .
وفي الآية الأخرى يقال لهؤلاء الذين نسوا ما لا ينبغي أن ينسى : لقد نسيتم يوم الجزاء فكان أعدل جزاء لكم تلقونه في هذا اليوم من إهمال وازدراء وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ .
(جـ) - نسيانهم لله
هذان النوعان السابقان من النسيان : نسيان الذنوب ، أو نسيان يوم المصير ، آفتهما أن أولهما يحمل معنى عدم الاستفادة من التجربة ، وثانيهما يحمل معنى عدم الاعتداد بالدافع ، أما هذا النوع الثالث وهو الذي يتعلق بالله فهو شر بذاته ؛ لأنه يعني تقلص ظل الإيمان من نفوس البشر ، إذ لا يمكن أبدًا أن يصح إيمان أو يستقيم على أساسه سلوكٌ ما لم يكن القلب مشغولا بذكر الله منصرفًا إلى ما يهيئه له الذكر من مراقبة دقيقة لخالقه ومولاه .
وهذا النسيان قد يتعلق بأمر الله ، وقد يكون تعلقه بذات الله ، وهذا النسيان لذكر الله الذي يجب أن يكون سلاحاً للمؤمن يشهره في وجه الشيطان إذا أراد أن يهوي مزالق الخسران .
أما الأول منها: فقد عهد الله لآدم ألا يأكل من شجرة بعينها ، وحذره من وسوسة الشيطان وإغراءاته ، ونسي آدم عهده مع ربه ، وذهب عنه العزم الذي يثبت اليقين في أحلك الظروف ، يقول الله تعالى ، يعرض لنا هذا الموقف : وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا .
ثم نجد الآيات التالية تسجل أن هذا النسيان كان لونًا من الانحراف وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى وأن الله تاب على آدم وغفر له ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى
وأما الثاني: فقد أشار إليه القرآن الكريم ، وهو بصدد الحديث عن المنافقين إذ وصفهم بأنهم نسوا الله فيقول: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .
ووقوع ظاهرة النسيان منهم على الله دلالة بليغة على خفوت حرارة العقيدة ، وتبلد عاطفة الإيمان وصيرورتها مجرد دعوى بلا واقع ؛ إذ أن كل ما في الإنسان من جوارحه ، وما حوله من آيات في السماوات والأرض تذكره بالله ، فكيف ينساه؟ إنه شأن المنافقين ، ظاهرهم الذكر ، وباطنهم الغفلة ، ومن طبعهم الكذب ، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك اللون من النسيان في موضع آخر يحذر فيه المسلمين من سلوك المنافقين ؛ إذ يقول الله تعالى لهم : وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .
وكأن هذا النسيان من شأن المنافقين وحدهم ، إذ أن سلوكهم يقوم على نسيان بارئهم والحرص على شهواتهم ، وتضليل الناس من حولهم .
وثالث الأنواع من هذا النسيان الذي يتصل بالله: نسيان ذكر الله .
ومعنى هذا النسيان افتقاد سلاح لا يستقيم أمر المؤمن في الحياة بدونه ؛ إذ يقيه من الإغواء ، ويثبته في مواقف الإغراء ، ويحفظه من همزات الشياطين ولذا جعل القرآن الكريم ذكر الله صفة للمتقين الذين تتجه هممهم إلى خشية الله ومراقبته يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ، كما يقول تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ، ومن هنا كان نسيان الذكر مباءة للفساد ، ويزيد من فرص الانحراف في أمور الدنيا ، وعن أوامر الدين .
وهذا هو شأن من نسُوا ذكر الله ، توضحه عدة آيات ، وفي كل آية منها إشارة إلى باعث لهذا النسيان ، وهو إما استهواء الشيطان أو استعلاء الإنسان أو غرور لا يسمح بفهم واقعه البشري ، فيذكر ماديته وينسى ذكر ربه .
ولكون الآيات التي تتناول نسيان الذكر تعنى بتحليل أسباب هذه الظاهرة سأتناول هذه الآيات عند تناولي لأسباب هذه الظاهرة بعد قليل .
واقتران نسيان الذكر بتحليل بواعثه وبيان أسبابه دلالة على خطورة هذا النوع الذي يصرف الفكر عن ربه ويدفع الإنسان إلى مهاوي الضلال .
بواعث النسيان :
عندما يكون النسيان مجرد ظاهرة بشرية فبواعثه حينذاك نفسية بحتة ، تنبع من داخل الإنسان ، وتتمشى مع فطرته الإنسانية في استواء ، ليس فيه شذوذ أو نشاز أو التواء ، وهذه البواعث خارجة عن دائرة هذا البحث ، ومجال دراستها بحوث علماء النفس ، ولا يعنى القرآن الكريم في هذه الناحية الإنسانية إلا بتسجيل ظواهرها ، أما تحليل الأسباب فرب العالمين خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه ، ويفرض عليه من السلوك ما ينسجم مع بشريته ، وتعليل الظواهر البشرية الثابتة لا يفيد الإنسان في تدينه ، أي في علاقته بخالقه ومولاه .
أما النسيان المنحرف فهو الذي تعرضت له الآيات لما وراءه من بواعث ؛ لأنها تنبع من خارج الإنسان ، أو من داخله الذي خالف عن نداء الفطرة القويم ، وذكر البواعث حينذاك علامات هادية للإنسان على الطريق .
وهذه هي الأسباب:
في مقدمتها الشيطان ، وقد نسب إليه القرآن الكريم شغل الإنسان عن ربه ، وصرفه عن ذكره ، وذلك في عدة مواطن:
فيوسف في سجنه وقد طال به الأمد ، وفي نفسه شعور صارخ بالظلم ، وسجنه هو البديل الوحيد للرذيلة التي تطارده ، طلب إلى أحد رفيقيه- وقد يسرت له النجاة- أن يذكره عند الملك ، ونسي يوسف رب الملك ، إذا لا نجاة له إلا بتقديره ، ولكن الشيطان قد ينال من الإنسان وهو يعانى من ضراوة الامتحان ، قال تعالى : وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ .
وكان مكثه في السجن لمسة عقاب على غفوة يسيرة تولى أمرها الشيطان .
وفي حديث القرآن الكريم عن المنحرفين عن سمت الإسلام إما بفساد في العقيدة ، أو انحراف في السلوك نجد تعليلا لذلك يتمثل في تسلط الشيطان عليهم ، وسيطرته على نفوسهم ، فأنساهم خالقهم ، وبذلك تم لهم الانغماس في ضلالهم ، يقول تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ .
والشيطان وهو يؤدي رسالة الشر في البشرية لا يقصر جهده على الأشرار فهم جنوده وقد فرغ منهم ، ولكنه يبحث عن ضالته في السائرين على طريق الرشاد يحاول جذبهم إليه ، وقد تبلغ به الوقاحة مبلغًا كبيرًا ، فيطمع في أن ينال فرصة من رواد البشرية ، وأنى له ذلك؟ ولذا يقول الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام مذكرًا ومحذرًا ، يذكره بمحاولات الشيطان جذبه إليه في مجالس هؤلاء الضالين ، ويحذره من الجلوس معهم أكثر من فترة التذكير والتوجيه : وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ .
والغرور هو ثاني الأسباب:
وهو أن يسيء الإنسان فهم نفسه ، بأن ينسى الأصل الذي منه نشأ ، أو ينسى أن الأيام تدول ، وأن النعم تزول ، وأن النعمة قد تصير شقاء ، والجاه قد يتحول إلى بلاء .
وسوء الفهم الذي يوجد الغرور هو الذي ينسي الإنسان هذه الحقائق الثابتة من سنن الله في الحياة .
فأُبيّ بن خلف عندما وقف موقف التحدي من النبي صلى الله عليه وسلم منكرًا في تهكم عقيدة البعث ويأتي بعظام بالية ويفتنها بيده ويقول: أترى يا محمد أن الله يحيي العظام بعدما رمت؟!! من غير شك أن أبيًّا في موقفه الذي تبدو منه حماقة البغي وشراسة الجحود لم يدر بخلده الماء المهين الذي خلق منه!! ولو تذكره لراجع نفسه مرات قبل أن يقول ما قال ، وهذه هي الحقيقة التي يسجلها القرآن الكريم: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ .
فالغرور أنسى أمية إحدى بديهيات الوجود حتى تورط فيما تورط فيه من كفران وجحود ، والنعمة تأتي للإنسان بما وراءها من بهجة ومتاع ، فيعيش عيشة الرغد ، ويرفل في أفخر الثياب ، وينعم في سلطان المال والجاه ، وينسى أسس شقائه وبلائه ، وفقره وبأسائه .
إن الإنسان المغرور ، يفزع إلى ربه في الضراء ، وينسى ضراعته في السراء : وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ .
فغرور الإنسان أنساه صاحب الحق ، فضل السبيل إليه وأشرك .
وكم يؤدي غرور الإنعام بالإنسان إلى مهاوي الكفران عندما ينسى ما كان فيه من عسر وما صار إليه من يسر .
ويوم القيامة سيبرأ المعبودون من العبيد أمام رب الأرض والسماء معللين انحراف من عبدوهم بأن متاع النعمة أنساهم فضل المعبود الواحد ، يقول تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا .
ومن عجب أن تكون نعمته سببًا لجحود فضله ، والغفلة عن ذكره ، ثم ضلالهم طريق الوصول إليه .
وثالث الأسباب: شهوة التسلط عندما يشعلها إمعان الأتباع في الخضوع .
قد يجد المغرور من يستخزي لكبريائه ، وينصاع لغلوائه ، ويستذل لبغيه ، فيغريه ذلك بمزيد من الطغيان ، ويسمع كلمات الثناء وعبارات التمجيد من أفواه العبيد ، فيتصور أنه كبير ، وينسى أن فوقه الكبير المتعال .
وعندما وجد فرعون من يستذلهم أنساه ذل العبيد أنه عبد مثلهم ، وصدق رب العالمين إذ يقول: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً .
تتجلى حقيقة هذا السبب في قوله: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ فكما يحاول الفاتن أن يصرف مفتونه عن دينه ، ويبعده عن ربه نرى المفتون من ناحية أخرى ينسى فاتنه ذكر ربه عندما يظن سكوته عنه انصياعا له وذلا له ، فيغريه ذلك بمزيد من التجاوز والشطط .
عقوبة النسيان نسيان:
هؤلاء الذين وقعوا مطية للنسيان المنحرف الذي حللنا أسبابه ، كيف قوّم القرآن موقفهم؟ وماذا قال في عقوبتهم؟
إن سنة الله في عباده وقانونه في خلقه: الجزاء من جنس العمل ، فمن نسي يُنسى ، ونسيان الله لعبده يعني أنه في موقف الطرد من رحمته ، والبعد عن مغفرته ، وأنه موكول إلى نفسه ، ولذا فشقاء الحياة ينتظره ، وبؤسها سيلاقيه .
وهذه هي الآيات التي تشير إلى عاقبة النسيان الخاطئ ، يقول تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ، نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ، وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ، وفي هذه الآية الأخيرة لون آخر من العقوبة ، وهو أن من نسي ربه يوكل الله به ظاهرة النسيان البشري بصورة غير طبيعية تجعل حياته لا تحتمل ، ويقضي أيامه في الحياة بدون ذاكرة ، وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
وفي مثل هذه الآية كانت عقوبة النسيان من أجل نسيانهم يوم اللقاء ، ونسيان يوم اللقاء يعني نسيانهم الملك الحق الذي جعل هذا اليوم فَيصلا بين العباد .
هكذا تؤكد الآيات السابقة كلها بأوضح عبارة وأجلى بيان أن عقوبة النسيان نسيان.
والنسيان الذي هو عقوبة ليس كالنسيان الذي هو خطيئة لكنها المشاكلة في التعبير، وهي من خصائص بلاغة القرآن ، جاءت لتؤكد حتمية القانون الإلهي واستمراريته ، وهو أن جزاء العامل من جنس عمله .
الذكر في القرآن
ما صلة حديث الذكر بحديث النسيان ؟
إذا ذكرت ربك بصدق طهرت القلب من شواغله ، وأخلصته لبارئه ، وأنقذته من أدوائه ، وحرسته من بواعث النسيان الضال التي أسلفناها ، وكنت على ذكر لربك تنقشع أمامه بواعث الغفلة مهما كثرت .
وقد قدم لك القرآن العلاج من هذه الآفة القاتلة المدمرة للعقيدة والسلوك في آية واحدة هي قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا الذكر علاج للنسيان والغفلة ، هذه واحدة .
وهناك أمر آخر يدعونا إلى الحديث عن الذكر بعد النسيان ، وهو أن الحديث عن أي من المعاني يسوق إلى الحديث عن مقابله ، وتناول المعاني المتقابلة يزيدها وضوحًا ، ويكسبها في النفس بلاغًا ، وبضدها تتميز الأشياء .
ألفاظ الذكر في القرآن وأوضاعها اللغوية والنحوية :
وردت ألفاظ الذكر في القرآن في نحو مائتي موضع مختلفة الاشتقاق والموضع الإعرابي ونوع الضمائر الملحقة بها وفي التجرد والزيادة .
وقد رأيت أن الصيغة الثلاثية للذكر (ذكر) ومشتقاتها المختلفة تستعمل في معان معينة ، بينما الصيغ المزيدة تستخدم استخداما آخر .
فالذكر صورة حاضرة ماثلة في الذهن .
والتذكرة استحضارها بعد النسيان .
والتذكير حفز الغير على ذلك الاستحضار .
ولنبدأ بالحديث عن الذكر ، وما يشتق من مادته من صيغ ثلاثية .
وردت الصيغة الثلاثية للذكر من عدة صور متباينة ، وفي معان متنوعة :
*جاءت بالصيغة الفعلية (ذكر- يذكر- اذكُر ) مرادًا بها الحديث .
*وجاءت بالصيغة الاسمية مرادا بها الشرف أو الشأن ، ومرادًا بها العلم ، ومرادًا بها الكتاب المنزل أو النبي المرسل .
*وتناوله القرآن بالصيغة الفعلية واقعًا على لفظ الجلالة ، وبالصيغة الاسمية مُضافا إليه مثل: ذكروا الله- يذكرون الله- اذكروا الله- ذكر الله .
*وبنفس الصيغتين واقعًا على لفظ الرب أو مضافًا إليه . .
*وبالصيغة الفعلية واقعًا على اسم الله تعالى مثل: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى .
والذكر في الحالات الثلاث الأولى يدخل في دائرة الاستعمال اللغوي فحسب ، وفي الحالات الأربع الأخيرة مقصور على العبودية الخالصة ، والارتباط الوثيق بالله.
الذكر بمعنى الحديث :
تناول الإنسان لأمر من الأمور بلسانه يعني إخراجه من دائرة النسيان إلى عالم الشهود ، وقد ورد الذكر بهذا المعنى في ستة مواضع ، منها ما فيه تكريم ، ومنها ما فيه تحذير .
فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام التي ضل بها قومه ، وقالوا عنه كما حكى القرآن الكريم : أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ .
وذكر إبراهيم الأصنام التي ضلت بها شيعته ، وقالوا عنه كما حكى القرآن : سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ .
وطلب يوسف من رفيقه في السجن أن يذكره عند الملك وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ .
وظل يعقوب يذكر يوسف كثيرًا حتى لامه في إشفاق ، أو أشفق عليه في لوم بنوه الآخرون قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ .
وإذا تحدث القرآن عن الجهاد وذكر في آياته اسم القتال فزعت قلوب المنافقين وزاغت أبصارهم فَإِذَا أُنْـزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ .
والإنسان قبل أن يوجد أو يولد لم يكن شيئًا ذا بال يستحق أن يُتحدث عنه ، فهو كما قال تعالى : هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا .
الذكر بمعنى الشأن والشرف :
وقد امتن على نبيه برفعة الشأن وعلو المظهر ونباهة الذكر ، فقال تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ، كما شرف العرب برسالة الإسلام فيهم ، ونزول القرآن بلغتهم لَقَدْ أَنْـزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ .
الذكر بمعنى العلم :
والعلم أصول وقواعد مستحضرة في أذهان البشر يواجهون بها مشكلات الحياة والوجود ، والعالِمون بها هم أقدر الناس على بذل العون لغيرهم ممن لا يعلمون ، ولذا كان توجيه القرآن الكريم لغير العالِمين أن يسألوا العالِمين الذاكرين لهذه الأصول ، يقول تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ .
ووعد النبي صلى الله عليه وسلم قومه بشيء من العلم عن ذي القرنين عندما سألوه عنه ، قال تعالى : وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا .
وطلب الرجل الصالح من موسى عليه السلام أن يلوذ بالصمت حتى يذكر له فيما بعد شيئا من علم ذلك قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا .
ومن أهداف عروبة اللسان القرآني أن يقود قلوب العرب في رفق إلى الخوف من بارئها العظيم ، ويمنحها العلم به وَكَذَلِكَ أَنْـزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ، ويعلل الضالون لانحرافهم عن منهج الإخلاص بافتقادهم شيئًا من العلم الذي هدى به السابقون ، أو من التجارب التي مروا بها ، وهو استنتاج دقيق منهم ، لكن بعد فوات الأوان لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ .
الذكر بمعنى الكتاب المنزل أو النبي المرسل :
الكتاب المنزل مبادئ قويمة ، وشرائع مستقيمة ، ونصح رشيد ، وتوجيه سديد ، ولا عجب فهو كتاب رب العالمين ، الذي خلقهم ويعلم ما يصلحهم ويسددهم ، وعلى قدر بشريتهم شرع لهم من الدين ما وصى به رسله جميعا أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ .
والكتاب المنزل ذكر؛ لأنه يضع أمام ذاكرة البشر هذه المبادئ التي تحكم الحياة ، وتقود السلوك ، إنه ذكر حكيم ، وذكرى للمؤمنين .
وقد جاء الذكر بهذا المعنى في واحد وثلاثين موضعًا من القرآن الكريم ، من هذه المواضع ما كان الذكر فيه بمثابة العَلَم على القرآن وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُـزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ، إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ، وَأَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُـزِّلَ إِلَيْهِمْ ، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ، أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ، ومعنى هذه الآية أنهملكم فنحرمكم من هدي الكتاب لتجاوزكم حد الاعتدال . . وتتساءل قريش في استنكار: كيف ينزل هذا الذكر على محمد من بينهم؟ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ
وقد يترك القرآن ببيانه المعجز آثارا في القوم ، يندر في قلوبهم حقدا ، وفي أعينهم زيغا وغيظا وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ
وتسمية القرآن ذِكرًا فيه معنى الاسمية والوصفية ، على السواء ، غير أنه في بعض المواضع تغلب الاسمية ، وفي بعضها تغلب الوصفية .
فالقرآن من أبرز صفاته أنه ذِكر ، وأن رسالته هي الذِكر إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ويقول تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ، ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ فهو ليس ذِكرًا فحسب وإنما هو ذكر محكم يصيب كبد الحقيقة ، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ويقتحم القلب فيصيب الشغاف ، قال تعالى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وهو ذكر مبارك تسمو به حياة الناس ، وينمو في طريق الخير مجتمعهم وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْـزَلْنَاهُ .
ورسالة الذكر في القرآن تعم الوجود كله ، ففي أكثر من آية يقول رب العالمين عن كتابه: إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ يوسف ، ص ، التكوير ، الأنعام وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ، ومع عمومها تخص العرب بذواتهم ، يقول تعالى ممتنًا على النبي وقومه : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ، كما يقول: وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ولفظ لدنا: فيه إكبار لهذا الذكر أي إكبار ، ولذا ينتقد القرآن انصرافهم عنه ، وإعراضهم عن هديه أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ .
وأكبر خطأ يتورط فيه البشر أن يستبد بهم الغي ، فلا ينتفعون بحكمة هذا الذكر .
وهذا هو الكافر يلوم قرين السوء الذي أغواه لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ، كما يقول المعبودون من دون الله يتبرءون أمام ربهم من ضلال عابديهم : وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا .
والذي يتبع الذكر ويهتدي بآثاره هو الذي يستجيب للنذير ، ويؤثر فيه التبشير : إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ .
وأروع ما في الذكر القرآني - وكله رائع - أنه يحوي خلاصة التجربة البشرية ، يقول رب العالمين: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ .
وقد سمى القرآن الرسول "ذِكرًا" لأنه يحمل الذِكر للبشرية ، ويثير ذاكرتها نحو الاتجاه إلى المبادئ السماوية قَدْ أَنْـزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ .
وفي قَسَم رب العالمين بملائكته وهم العباد المكرمون ، يشير إلى جانب من فضلهم ، وأنهم يتلون الذكر ، ويلقونه على رسل الله وأنبيائه يقول تعالى: فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ، فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا .
ذكر الله
وهو أرفع مستوى تسمو إليه عقيدة الإنسان ؛ لأنه يعني استحضار عظمة الذات الإلهية والإحساس بها في كل موطن ، وفي كل موقف ، ومن هنا يكون الذكر جنة للمؤمنين ، وملاذا لقلوبهم فلا تعصف بها الأهواء ، وحصنا حصينا لإيمانهم فلا يزيغ به شرك أو رياء .
وهذه هي ثمرته: طمأنينة في القلب الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ .
والأسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم منهج كريم ، لكن الذي يعرف قيمة القدوة ، ويحرص عليها من كان رجاؤه في الله وثوابه ، وكان ذكر الله يملأ جوانب نفسه ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا .
والذكر صفة للمتقين لأنه باعث التقوى ووسيلتها وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ .
وذكر الله سمة تحكم مسلك العقلاء ، يقول تعالى : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .
وذكر العقلاء لله- كما تشير الآية- تأمل وتدبر ، واستحضار لعظمة الذات ، وليس مجرد ترديد عبارات باللسان والقلب عنها في شغل كبير .
والذكر صفة للمؤمنين . . فإذا تحدث القرآن عن الشعراء بأنهم يهيمون في أودية الغي ، فمنهم من نأى عن ذلك فنبذ تقاليد الجاهلية ومقاييسها الفاسدة ، واتجه إلى قيم أمثل تصلح الحياة والنفوس ، وهؤلاء هم شعراء المؤمنين أو مؤمنو الشعراء ، وأبرز صفاتهم الذكر الكثير لله ، والانتصار لدينه ، يقول تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ (226) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا
ولكون الذكر صفة للمؤمن وسمة للإيمان ، وجدنا هذه النداءات في القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ ذلك لأن الذكر أعظم سلاح يرفع من معنوية المجاهد عندما يشتد البأس ، وتحمر الحدق .
ويقول تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ، واستجابة القلب للذكر وتأثره به دليل على صدق الإيمان ، وقوة سلطانه على نفس الإنسان .
وكما أن الذكر سلاح فعال في ميادين القتال هو أيضًا سلاح مؤثر في معترك الحياة ، يقول تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .
وفي المواقف الصعبة ترى في الذكر تثبيتًا للذاكرين ، وبه وصى الله موسى وهارون وهما ذاهبان لمواجهة فرعون اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي.
الذكر عبادة والعبادة ذكر:
ومعنى العبادة لا يتحقق إلا به ، وهي في الوقت نفسه وسيلة إليه وأسلوب له ، والصلاة ذكر ، والذكر من أعظم ثمراتها إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي ، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ .
وفي تناول الصلاة ذِكرى وفي أعقابها ذِكر فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ .
والذكر ألزم سلوك لعبادة الحج ، ولذا تراه مطلوبًا من الحجيج في كل منسك فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ .
ذكر اسم الله :
وفي نحو أربعة وعشرين موضعًا من الكتاب العزيز ورد الذكر أو مشتقاته واقعًا على اسم الله ، وتتميز هذه المواضع بأنها عبادات ذات رسوم وحدود ، وأن المعنى فيها الإهلال باسم الله ، لأنه في هذه المواطن دليل الانصياع ، وبرهان الإذعان للخالق العظيم .
فالإهلال بذكر الله في الصلاة وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ، وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ، وفي الحج كذلك ترديد لاسم الله تعالى ، يقول جل شأنه : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ .
وعند الذكاة (الذبح) يتحتم الذكر فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ، وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، ويحرم ما ذبح من غير ذكر ، أو ذكر عليه غير اسم الله تعالى ، وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَأَنْعَامٌ لاَ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ .
ويجب الذكر عند وقوع الصيد في قبضة الحيوان المعلم فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ .
وذكر اسم الله شعار ينبغي للمؤمن أن يرفعه في كل حين ، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا .
هذه هي المواطن التي يحددها القرآن الكريم للذكر القولي: مواطن العبادات ، وأوقات الضراعة التي يهتف فيها العبد الخاشع الضارع لائذا مستجيرا بمن خلقه وسواه ، مرددا اسمه وحده في أدب واتزان دون تحريف وإلحاد ، يقول تعالى: أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ، وفي آية أخرى يقول: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ومن هنا ندرك مدى العبث الذي يتورط فيه بعض هؤلاء الذين يقفون صفوفًا يترنحون ذات اليمين وذات اليسار ، يرددون اسم الله بألفاظ غير مفهومة زايلها الوقار والاتزان ، زاعمين بهذا أنهم يذكرون الله . . ألا ساء ما يصنعون!! وما عدا مواطن العبادات والضراعة ، فالذكر استحضار لعظمة الله ، وتأمل وتفكير في أثار قدرته .
واذكر ربك:
وورد الذكر بمشتقاته واقعا على لفظ الرب في ثمانية مواضع ، وهذه المواضع فيها معنى التربية والامتنان والفضل والإنعام ، وهذه ظاهرة تعبيرية واضحة في كل مقام يذكر فيه القرآن لفظ الرب حيث يكون الإشعار بالتربية ألزم وأنسب من الإشعار بالعبودية ، ولأن إدراك معنى التربية- إذا صدق- يوصل إلى العبودية الخالصة .
وهذه الآيات تؤكد صحة هذا الاستنتاج يقول تعالى: وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ، ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ، ويقول تعالى لعبده زكريا : وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ .
ويقول تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً ، وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ، وعن يوسف يقول تعالى: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ، وعن سليمان يقول تعالى: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ، وفي تأنيب الكافرين الجاحدين يقول تعالى: بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ .
الإعراض عن الذكر . . وآثاره وبواعثه
الإعراض عن الذكر بادرة خطيرة تزعزع بنيان العقيدة ، ولذا نرى في القرآن الكريم تحذيرًا من اللهو الشاغل عنه ، ومن كل داعية إلى الانصراف عن هديه ، فالذين لا يذكرون هم المنافقون أو الكافرون وكفى !! يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا ، وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا .
والذين لا يؤمنون بالآخرة لا يرتاحون إلى الذكر الخالص لله وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ، ولقسوة قلوبهم وعدم تأثرها بالذكر استحقوا الويل فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ .
وفي هذه الآيات تحذير من الصوارف عن الذكر واتباع الضالين المنحرفين ، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا والشيطان أكبر صارف عن الذكر ، بل هو الذي ينمي كل الصوارف إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ .
والمؤمنون الصادقون لا تؤثر فيهم هذه الصوارف كما وصفهم ربهم فقال: رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ .
مصير الغافلين :
والغافلون عن ذكر الله ينتظرهم شقاء الدنيا وبلاؤها ، وعذاب الآخرة ونكالها ، فمن يعمَ عن ذكر ربه ييسر له شيطانًا في الدنيا يوغل به في متاهات الإغواء وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، وفي الآخرة يصف القرآن لنا
( الجزء رقم : 13، الصفحة رقم: 162)
عذابه فيقول: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ، وحسب الغافل تعاسة الدارين التي تصفها هذه الآية : وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى .
وهذه منزلة الذاكرين :
يعدهم الله من بين حملة القيم ، وأصحاب المثل السامية كالمسلمين والمؤمنين والصابرين والصادقين فيقول تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ . كما يعدهم الله تعالى بأن يذكرهم كما ذكروه فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وذكر الله لعبده تكريم ما بعده تكريم .
التذكير منهج لرسالات السماء :
والتذكير هو المنهج الذي يقوم عليه دين الله ، ومن أجله كانت وتعددت رسالات السماء في شتى مراحل التاريخ ، وتحمل الرسل عبء هذا المنهج ، ليذكروا البشر بأبعاد الهداية ، ويدلوهم على مواطن الخير في وحي الله ودين السماء ؛ ليستطيع الإنسان تحقيق الرسالة التي أرادها الله له في هذا الوجود .
وتدرك هذه الأهمية البالغة للتذكير عندما تقلب صفحات الكتاب العزيز ، إذ تستوقفك في مجال الدعوة إلى التذكير أمور ذات بال .
(1) يدعو رب العالمين نبيه ومصطفاه محمدا عليه الصلاة والسلام إلى أن يذكر ويتذكر ، أما التذكير فهو جوهر مهمته ومناط رسالته ، ولذا وجهه الله تعالى إليه في مواطن كثيرة ، وأرشده إلى وسائل شتى يستعين بها في تذكيره سنتناولها فيما بعد .
يقول الله تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ، فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ ، وفي الآية الأخيرة دعوة إلى التذكير بالقرآن مخافة أن ينتهي أمر القوم إلى الهلاك ، بما أسلفوه من بغي وانحراف .
وأما التذكر فقد دعا الله نبيه إليه لأنه سيكون جُنة له تحميه من نوازع البشرية ، وتضع نصب عينيه مثلا أعلى من حياة من سبقوه في طريق الدعوة ، فيهون أمامه البلاء ، ويخف عليه وقع المحن ، ويتحمل مئونة الصبر ، ومن هنا كان الأمر بالتذكر يدور كله في مجال القصص القرآني .
وقد جاء الأمر في سورة مريم وحدها خمس مرات ، يقول تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ الآيات .
كما جاء هذا الأمر في أربعة مواضع من سورة ص ، تحث النبي عليه الصلاة والسلام على تذكر أنبياء آخرين سبقوا في الدعوة إلى الله ، فيقول: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ ، وفي الأمر بالصبر قبل الذكر في الموضع الأول إشارة إلى أن مغزى التذكر أن يصل به النهي إلى قضية الصبر التي بها تنجح الدعوات .
وفي سورة الأحقاف يقول تعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ ، وأخو عاد كناية عن نبي الله هود عليه السلام ، والأحقاف موضع معروف ، في الجهة الجنوبية الشرقية من شبه الجزيرة العربية ، كما يقول تعالى في صدر الحديث عن موسى عليه السلام: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ .
وفي غير مجال القصص القرآني نجد توجيهًا للنبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى استلهام الذكرى من حادث عبد الله بن أم مكتوم الذي عبس في وجهه ، فقال الله لرسوله بعد عتاب غير يسير : كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ .
فالتذكر الذي يحمي البشرية من الهوى وينأى بها عن الزلل ، والتذكير الذي هو مهمة ورسالة لم يكونا مقصورين على خاتم الأنبياء وحده ، فهذا أمر الله لنبيه عيسى عليه السلام بالتذكر ، إذ يقول له: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، وهذا أمر آخر لنبيه موسى بالتذكير: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ، ويحدثنا القرآن عن عتاب نوح عليه السلام لقومه الذين ساءتهم الدعوة إلى الله والتذكير بآياته: يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ .
ويصف الله تعالى أنبياءه إبراهيم وإسحاق ويعقوب بصفة اختصهم بها ، وهي تذكرهم لدار الجزاء إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ .
فرسل الله جميعا ذكروا فتذكروا ، وقاموا بواجب التذكير كما أمرهم الله ، وإن لم تنسب إليهم الألفاظ صراحة بهذه الكثرة كخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم .
(2) الدعوة إلى التذكر في القرآن ملحة تهز عقول البشر هزا عنيفا ، وتزيح أستار الغفلة التي تلقيها عليها بين الحين والحين نوازع النفوس ومغريات الحياة ، وذلك ليعود للعقل البشري صفاؤه ، فيستجيب لدعوة الله ، ويذعن لرسالة الحق ، تبدو قوة هذه الدعوة إلى التذكر في الأسلوب التي عرضت به الآيات الداعية إليه ، إذ في ستة مواطن من القرآن الكريم وردت الدعوة بهذه الصورة: أفلا تذكرون ؟ التي تتضمن استنكار الغفلة الصارفة عن استحضار العبرة عندما تمر آية ، أو يلم حدث ، أو يطوف بالحياة أمر ذو شأن ، والذي يلفت النظر ، ويشد الانتباه أن هذه المواطن الستة تدور كلها حول التوحيد وتوطيد العقيدة الصحيحة للإسلام في نفوس البشر ، ففي محاجّة إبراهيم لقومه يؤكد لهم أنه لا يخشى إلا الله ، ثم يقول: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ .
ويضرب القرآن الكريم مثل الفريقين: الفريق الذي عقل الحق وعرف العقيدة الصحيحة ، والفريق الذي غفل فضَلّ ، واتبع هواه ، فالأول مثله مثل البصير والسميع ، والثاني مثله: مثل الأعمى والأصم ، وتنتهي الآية بهذا التساؤل هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ .
ويرد هود عليه السلام شهوة جامحة لقومه طلبوها في غفلة من العقل والبصيرة ، إذ رغبوا إليه أن يطرد المستضعفين من مجلسه ، ليخلوَ لهم وحدهم ما يريدون من شهوة الانفرادية : وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ .
وفي موازنة رائعة مقنعة تأخذ بتلابيب النفوس الضالة التي غشيتها سحابة الشرك يقول رب العالمين: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ .
الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء>اللغة العربية>مجلة البحوث الإسلامية بإشراف و مسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء>اعداد المجلة
تصفح برقم المجلد > العدد الثالث عشر - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1405هـ > بحوث في علوم القرآن > الذكر والنسيان في القرآن الكريم > التذكر والتذكير في القرآن > التذكير منهج لرسالات السماء
وفي مساءلة هادية راشدة بين الداعي وقومه ، جاءت الدعوة السادسة إلى التذكر ، يقول تعالى: قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ.
وفي غير هذه المواطن دعوات كثيرة للتذكر ، مقرونة بوسيلة أو الباعث عليها ، وقد قدمت للبشرية في ظروف مختلفة حتى تستمر على طريق الحق مسيرتها ، يقول تعالى في تأنيب الغافلين الضالين غداة الحسرة عندما تتبين الحقائق وينكشف عن العين الغطاء : أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ .
وهذه دعوة للمسلمين بعد النصر العظيم في بدر لأن يتذكروا ماضيهم الذي عاشوه مستضعفين ، مبغيا عليهم ، إذ أن هذه الذكرى تحفزهم على الشكر الذي يزيد النعم ويوثق العلاقة بخالقهم العظيم : وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .
وعلى لسان شعيب عليه السلام جاء النصح لقومه بأن يتذكروا : وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ .
وعلى لسان هود وصالح عليهما السلام جاء نفس النصح لقوميهما عاد وثمود ، يقول تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ، وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ .
وفي شأن بني إسرائيل يقول تعالى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .
(3) وبقدر ما كانت الدعوة إلى التذكر تحمل هذا القدر الكبير من التقدير والاهتمام؛ لما في التذكر من صحوة العقيدة ، ويقظة الضمير ، بقدر هذا كان التنديد عنيفا
وقاسيا بمن غفلوا ولم يعقلوا ، وسمحوا لغشاوة النسيان أن تحجب البصيرة ، وتتركهم في متاهات الضلال ، يتجلى عنف هذا التهديد من حديث القرآن عن المعرضين عن الذكر ، ووصفه لهم ، وتقويمه لعقيدتهم ، وكشفه عن مصائرهم وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وفي آية أخرى : ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا .
وفي وصف المنافقين يقول تعالى : أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ .
وأهل الكتاب خانتهم ذاكرة المؤمن ، فنسي اليهود حظًّا مما ذكروا به ، فحرفوا الكلم عن مواضعه ، ولا تزال خياناتهم مستمرة ، وأما النصارى فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ .
ونسي كثير من بني إسرائيل واجب النصيحة ، فحلت بهم العقوبة ، ولم يفلت منها إلا من نَهَوا عن السوء فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ .
ويصور القرآن الكريم حقيقة هؤلاء المعرضين عن الذكر أسلوبًا ونتيجة ، فيقول تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فرسم القرآن الكريم صورة منفرة لإعراضهم ، كما أشار إلى موقفهم يوم القيامة عندما يواجهون العذاب بلا شفيع ولا نصير .
والوصف بعدم التذكر نراه سجية لكل منحرف عن دين الله ، يقول تعالى: وَإِذَا ذُكِّرُوا لاَ يَذْكُرُونَ ، ولا عجب فهو أساس الداء والباعث الأقوى على الانحراف ، فالذي لا يتذكر تختلط أمام بصيرته القيم ، يقول تعالى : وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ .
والذي لا يتذكر يتورط في أرجاس الشرك : اتَّبِعُوا مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ .
ووصف الكفار بقلة التذكر المعني به العدم ورد أيضًا في مواضع أخرى .
والذي لا يتذكر تختفي أمام عينيه الحقائق الساطعة وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ .
(4) يؤكد القرآن الكريم أن التذكر أو الانتفاع بالذكرى والاستفادة من التذكير لون من السلوك الأقوم لا يتيسر إلا لأنماط معينة من البشر:
(أ) من هم على درجة من العقل الراشد واللب النابه والبصيرة النافذة ، وقد ورد في السور والآيات الآتية ما يفيد أن التذكر مقصور على أولي الألباب وذوي البصيرة والعقول مثل : وما يذكر إلا أولوا الألباب ومثل لقوم يعقلون ومثل إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
(ب) من هم على صفة الإيمان أو التقوى أو العبادة أو الإنابة ، وهذه الصفات هي من أرفع المستويات التي يصل إليها المسلمون بإسلامهم ، وهذه الصفات ليست متباينة ، وإنما هي مترابطة متآخية ، ولا تتحقق- بصدق- إحداها إلا إذا تحققت أخواتها ، فلا إيمان بدون تقوى ، والعبادة جوهرهما ، والإنابة تضفي عليهما حيوية العقيدة ، وعمق تأثيرها .
وأكثر هذه الصفات ارتباطًا بالذكر والتذكر صفة التقوى؛ لأنها تقوم على مراقبة الله وخشيته ، ومن هنا كان المتقون أكثر الناس ذكرا لله وتذكرا لآياته .
ففي ارتباط الذكر بالتقوى وردت ثماني آيات تؤكد أن التذكر صفة لازمة للتقوى : إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا ، إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى
وجاءت ثلاث آيات تؤكد ارتباط التذكر بعقيدة الإيمان وهي [12 \ هود ، 51 \ العنكبوت ، 15 \ السجدة ] .
وفي علاقة الإنابة بالذكر ، يقول تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَـزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ .
وفي ارتباط العبادة بالذكر يقول تعالى: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ .
والذاكر هو الذي يتذكر ، وهذا الارتباط لغوي وقرآني أيضا ، إذ يقول تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ .
(5) التذكر منطلق المسئولية :
فعند الذكرى أو التذكر تتحدد المسئولية وتتأكد ، وتنتفي الأعذار والتعللات ، يبدو ذلك من خطاب الله لرسوله في هاتين الآيتين : وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا .
بواعث التذكر
من هذه الموضوعات التي أثرتها والنتائج التي استخلصتها نستطيع أن نقف على مدى أهمية التذكر في سلوك كل ذي دين ، وبخاصة دين الإسلام الذي اصطفاه الله وارتضاه .
وبالدراسة الواعية القائمة على استقراء دقيق لاستعمالات هذه الألفاظ في القرآن الكريم (التذكر والتذكير والذكرى) نرى أن الكتاب العزيز وضع تحت أيدينا وسائل التذكر وبواعثه ، وهي متعددة ومتنوعة حتى تغطي ميول البشر ، وتصيب نوازعهم وهي مختلفة ومتنوعة .
وهذه هي البواعث التي تدفع إلى التذكر ، معززة بآيات القرآن الكريم التي تناولتها.
(1) الكتاب السماوي بعامة باعث على التذكر ، والقرآن بخاصة يعد من أول الوسائل وأقوى البواعث والحوافز ، فهو من حيث الإطار يثير التذكر بلسانه العربي ، ومن حيث المضمون هو مليء بالمواعظ والعبر ، حافل بالدروس والقصص ، وهو - كما قلنا أول البحث - والذكر صنوان ، فالقرآن ذو الذكر ، وسماه الله ذكرا في أكثر من موضع ، وفي خمس عشرة آية منه يبين الله لنا أن كتاب السماءيحرك النفوس إلى التذكر ، فلا يضيع إيمانها في سُحُب الغفلة وركامها ، في ثلاثة مواضع منها حديث عن كتاب موسى ، وفي باقيها حديث من القرآن .
وهذه هي السور والآيات التي وصفت كتاب الله بأنه دافع إلى التذكر ووسيلة إلى التذكير: [41 \ الإسراء ، 48 \ الأنبياء ، 43 \ القصص ، 51 \ العنكبوت ، 29 \ ص ، 53 ، 54 \ غافر ، 58 \ الدخان] ، وفي سورة ق فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ، وفي سورة القمر جاءت هذه الآية: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أربع مرات ، وفي الحاقة : وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ .
(2) وجاء لفظ الآيات باعثًا على التذكر في نحو سبع آيات ، والآيات إما كونية وإما قرآنية ، والتذكير بالقرآن تحدثنا عنه ، والتذكير بآيات الكون سنتحدث عنه ، أما في هذه المواطن فقد جاءت الآيات عامة بدون تحديد ، لكن في بعض المواطن يغلب على الظن أنها القرآنية ، وفي بعضها الآخر يترجح أنها الكونية .
فمن الأولى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ الكهف والسجدة ، وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وراجع 15 \ السجدة و 221 البقرة .
ومن الثانية قوله تعالى: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ، والمشار إليه نعم الله على بني آدم باللباس والرياش ، ثم إرشادهم إلى أن لباس التقوى أجمل وأكمل .
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا : أي أن الحديث في إنشاء السحاب وإنزال المطر تنوع القول فيه بين الناس في القرآن وفي الكتب السماوية الأخرى ليتذكروا ويعتبروا .
(3) التأمل في مخلوقات الله وفي سننه الكونية ، وهذا من أقوى البواعث على التذكر ، ومن أنجح وسائل التذكير ، ولا عجب فهو المنهج الذي ارتضاه القرآن لهداية النفوس الضالة إلى الله ، وفي غرس جذور العقيدة ودعم سلطانها على قلوب البشر .
وقد أشرت في الفقرة السابقة إلى آيتين فيهما حديث عن آيات الله حافز على التذكير .
وتأمل معي هذه الآيات التي تعرض جوانب من الكون العظيم ، لتنتهي بالناس إلى ضرورة الإيمان والتوحيد : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، وراجع [57 \ الأعراف- 17 \ النحل- 62 \ الواقعة- 8 \ ق- 31 \ المدثر- 62 \ النمل] .
(4) التذكير بعبر التاريخ وأحداثه :
والتاريخ ذاكرة البشر وملهم المواعظ ، وكلما عرفت الأمم ماضيها أقامت على أصح التجارب مستقبلها ، ولذلك عني القرآن الكريم بدعوة الأمم إلى السير في الأرض والنظر في أخبار السابقين ، وكان القصص القرآني على كثرته وتنوعه بمثابة جذب لذاكرة النبي صلى الله عليه وسلم نحو عبر الماضي؛ لينتفع بها في الحاضر ، فالتجربة البشرية واحدة ، والتاريخ يعيد نفسه ، يقول تعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ قد مرت آيات فيها دعوة للرسل إلى تذكر التاريخ ، وتذكير أممهم به ، مثل قوله تعالى لنبيه موسى : وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ، كما يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ، وفي تذكير البشر بالقرون السابقة يقول تعالى : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ بعد قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ .
وللقصص القرآني هدف آخر ، وهو تذكير المعاندين والضالين وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ .
(5) يوم القيامة :
اليوم الحق ، ويوم الهول ويوم الزلزلة ، ويوم القارعة ، سيعيد للغافلين ذاكرتهم ، ويطلبون دنيا أخرى يستدركون فيها ما فات ، ويكون الجواب: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ، ووصف القرآن الكريم يوم القيامة بأنه يوم التذكر وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ، واقرأ الآيات [18 \ محمد ، 54 ، 55 \ المدثر ، 19 \ المزمل] .
(6) التذكير بالمحن والنعم :
قد يسلط الله على البغاة المحن- رحمة منه- رجاء أن يتذكروا ، يقول تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ، ومنهم الغارقون في الغفلة ، فلا تؤثر فيهم ضراوة المحنة ، وهم المنافقون أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ .
والنعم باعث آخر على التذكر ، وتبلغ من بعض النفوس أكثر مما تبلغ منها المحنة ، يقول تعالى: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ .
وفي نعم الله على الصالحين موعظة وتذكرة ، يقول عن نبيه أيوب: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ .
وفي سور ص ، يقول الله تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ .
وفي إنقاذ المؤمنين بنوح من الطوفان تذكرة بالغة ، إذ يقول تعالى مشيرا إلى السفينة : لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ .
وفي معرفة الإنسان للنار تذكرة ومتعة ، وتذكرة بنار الآخرة وبلائها وأهوالها ، ومتعة في الدار العاجلة ؛ إذ يستخدمها الإنسان في تحصيل الكثير من منافعه ، يقول تعالى: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ .
والمقوون: المسافرون .
(7) القول اللين ، والموعظة الحسنة ، وضرب الأمثال :
لين القول وحسن الموعظة ، والاستعانة على هذا وذاك بضرب المثل من أبلغ وسائل التذكير التي اعتمد عليها القرآن في نصح البشر .
فبالقول اللين وصى الله نبيه موسى وأخاه هارون: فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى .
وهذان نموذجان للقول اللين الذي يحفز إلى التذكر ، من واقع أسلوب القرآن:
الأول: في مجادلة من زعموا الملائكة بنات الله مع بغضهم للبنات: أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ والثاني : في محاورة من اتبعوا هواهم فضلوا السبيل: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وقد استعان القرآن الكريم على ذلك بضرب الأمثال ، وقد عرفنا مثل الفريقين: المؤمنين والكافرين ، وتشبيه الأولين بالبصير والسميع ، والآخرين بالأعمى والأصم ، وتعقيب الآية على ذلك بهذا التساؤل: هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ .
وفي القيمة التوجيهية والتأثيرية لضرب الأمثال ، وفي دفعها القوي إلى التذكر يقول تعالى : وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، كما يقول تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، ويقول تعالى : وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ .
والآية الأخيرة تكشف عن المقدرة الفكرية والعلمية الواسعة التي يتصف بها كل إنسان يستفيد من أمثال القرآن الكريم .
رب أعني على ذكرك ، وذكرني بآياتك حتى تذكرني يوم العرض عليك ، واجعل لكل مسلم يقرأ بوعي كفلا مما دعوت ، إنك سميع الدعاء .
مصادر البحث :
(1) القرآن الكريم .
(2) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم .
(3) معجم ألفاظ القرآن الكريم . مجمع اللغة العربية بالقاهرة .
(4) تفسير المنار . محمد رشيد رضا .
النسيان والذكر في القرآن الكريم
دراسة لغوية ومنهج جديد في تفسير الكتاب الحكيم
الدكتور : السيد رزق الطويل
(مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثالث عشر - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1405هـ)
مقدمة
باسم الله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
وبعد :
فهذا بحث ميدانه: كتاب رب العالمين .
وموضوعه: النسيان والذكر وتناول القرآن الكريم لهما .
ومنهجه: تتبع هذين اللفظين في الكتاب العزيز ، في صورهما المتنوعة ، واستخلاص النظرة الشاملة لهما بحيث يبدوان موضوعًا واحدًا متكاملا مدروسًا على ضوء المنهج الإسلامي .
ومن هنا نرى هذا البحث يحمل طابع الدراسة اللغوية للقرآن الكريم ، وفي الوقت نفسه أسلوب جديد في تفسير الكتاب العزيز .
والنسيان والذكر ظاهرتان بشريتان ، ولهما أثرهما الكبير في مسيرة البشر من هذه الحياة ، وهما أيضًا من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان ؛ ليستعين بها في أداء رسالته في الحياة ، رسالة العبودية الخالصة لله تعالى وحده .
وقد يتصور الإنسان بادئ الرأي أن هذين من الأمور البشرية التي لا يتعرض لها المنهج الإلهي بالبيان ، فماذا يُهم الإسلام إن نسي الإنسان في دنياه أو تذكر ؟!
لكن الحقيقة التي يؤكدها السلوك الإنساني أن ظاهرتي النسيان والذكر قد تصبحان موضوعًا إسلاميًّا عندما يتحول النسيان إلى غفلة ، وعندما يكون الذكر سياجًا يحمي عقيدة الإيمان .
ولهذا تحدث القرآن الكريم- كما سنرى- عن هاتين الظاهرتين كثيرًا ، وبشمول واستيعاب لجميع أوضاعهما الإنسانية والدينية .
وسنبدأ بالحديث عن النسيان اتباعًا لمنهج القرآن الذي يحارب الكفر كمقدمة للدعوة إلى الإيمان ، وينهى عن الشرك قبل الدعوة إلى التوحيد ، ويحارب الطاغوت قبل أن يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له .
وكلمة التوحيد: أولها نفي ، وآخرها إثبات .
قال تعالى : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
أسأل الله الكريم أن يمنحنا التوفيق والسداد ، وأن ييسر لنا أسباب القول ؛ ليتحقق الخير الذي نرجوه لأمتنا المسلمة ، والله يتولى الصالحين .
النسيان في القرآن
النسيان ظاهرة بشرية :
النسيان ظاهرة بشرية ، وسمة أصيلة من مسلك الإنسان ، وقد اختلف اللغويون في اشتقاق الإنسان ، فمنهم من رأى أن أصل الكلمة هو الأنس ، وآخرون منهم رأوا أصلها النسيان ، وقديما قال أحد الشعراء:
ومـــا سُـــمِّي الإنســان إلا لنســيه ولا القلـــــــب إلا أنـــــــه يتقلـــــــب
وهذا يؤكد أصالة هذه الصفة في سلوك البشر .
ويرى علماء النفس أن النسيان ضرورة بشرية؛ لأن الذاكرة لها درجة تشبع ، ومن رحمة الله بالإنسان أن منحه النسيان ليهمل ما لا يهمه ، ويختزنه في عقله الباطن ، ويحتفظ في منطقة الشعور بكل ما يهمه من شئون حياته .
والنسيان بهذه الصفة يخرج عن دائرة التكليف ، ويتجاوز حدود المسئولية ، ويعفي الإنسان مما يحدث منه وهو واقع تحت سلطانه ، خاضع بغير قصد لتأثيره .
أما النسيان المقصود ، وهو تعبير قد نجد من ظاهره لونًا من التناقض ، لكنه في حقيقة الأمر لا تناقض فيه ، إذ فيه نسيان وفيه قصد ، ونعني به الغفلة عن الواجب ، وإهمال ما لا ينبغي أن يهمل من حقوق ومسئوليات .
تناول القرآن لهذه الظاهرة الإنسانية:
ولنتجه الآن إلى القرآن الكريم لنرى كيف تناول هذه الظاهرة؟! وبإحصاء دقيق للفظ النسيان في القرآن الكريم في صوره الاشتقاقية المختلفة نجد أنه ورد في خمسة وأربعين موضعًا من الكتاب العزيز .
وبدراسة المواضع التي ورد فيها هذا اللفظ بمشتقاته ، نرى أن القرآن الكريم قد استخدمه بمعنييه جميعا: النسيان الحقيقي الذي يلم بالإنسان في غير قصد أو إرادة ، والنسيان المقصود الذي نعني به الغفلة عن الواجب وإهمال المسئوليات .
النوع الأول: النسيان الحقيقي ، كيف تناوله القرآن؟
عندما يكون النسيان قسرًا وجبرًا ، وعندما يلم بالإنسان بلا قصد منه أو إرادة يكون هو النسيان الحقيقي الذي أعطيناه صفة الظاهرة البشرية أو السمة الإنسانية ، إذ أن أي إنسان مهما كان لا يستطيع أن يتجرد منه .
وحديث القرآن عن هذا النوع حديث إخباري بحت ، يعرض فيه بعض صوره أو ينفيه في بعض المواضع التي ينبغي أن ينفى فيها؛ لأنه تجاوز إطار الظاهرة البشرية ، أو يتناوله في أسلوب دعاء على لسان المؤمنين يضرعون فيه إلى ربهم ألا يؤاخذهم بما وقع منهم تحت سلطانه ، وهذا أقصى ما ينبغي أن يتحدث به القرآن عن ظاهرة بشرية جبرية كهذه ، فهو إذن لا يحتاج إلى تحليل أو تقويم ، أو إصدار أحكام كما سنرى في النوع الثاني .
وتناول القرآن الكريم لهذا النوع من النسيان بصوره الثلاث: النفي والدعاء والإخبار جاء في أحد عشر موضعًا .
(1)- في صورة النفي:
(أ)- نفاه القرآن نفيًا قاطعًا عن رب العالمين ، الذي ربى الوجود كله بنعمه ، ورعاه بحكمته وخبرته ، وحفظه بقدرته ؛ إذ يقول تعالى: وَمَا نَتَنَـزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ونَفْي النسيان عن طريق نفي كينونته أروع وأوضح ، إذ هو بالنسبة لله لا وجود له ، لا أنه موجود ثم نفي ، وحاشا للحَكَم العدل اللطيف الخبير أن تلم به ظاهرة هو ركبها في الإنسان ؛ لتنسجم له أسباب الحياة .
(ب)- وفي موضع آخر يطمئن رب العالمين نبيه بأنه سيكون بمنجاة من هذه الظاهرة البشرية في مجال الوحي وتبليغ الشريعة ، فيقول له: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى ففي هذه الآية ينفي القرآن النسيان عن النبي عليه الصلاة والسلام في كل ما يتصل بالوحي ، وتبليغ الرسالة .
(ج)- وفي موضع ثالث ينفيه عن الكتاب أو اللوح المحفوظ الذي سجل فيه أقدار الخلق وأعمالهم ومصايرهم ، ووحي الله وأمره إليهم ، قال تعالى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى ، وإذا تصورنا نفي الضلال والنسيان منسوبًا لله في هذه الآية ، فإننا بهذا الاعتبار ندخلها في الموضع الأول .
(2)- في صورة الدعاء أو الالتماس:
في دعاء المؤمن لربه الذي علمه إياه نرى ضراعة خاشعة ، عادلة قويمة ، يرجو فيها ألا يؤاخذه بما سلف من تحت سلطان النسيان المبسوط على بني الإنسان ، فيقول تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، وفي موضع آخر يلتمس موسى من العبد الصالح ألا يؤاخذه بنسيانه ما اشترط عليه من عدم الاعتراض على تصرف يصدر منه ، يقول تعالى على لسان موسى: قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا .
(3)- أخبار قرآنية تتصل بالنسيان :
(أ)- مريم عليها السلام ، وقد اختارها ربها موضعًا لآيته ؛ ونفخ فيها من روحه ، وأحست بحكم نوازعها البشرية بكثير من الأسى ، ورأت في الأمر محنة لها ، إذ كيف يعلم الناس بحقيقة موقفها وبراءة ساحتها !! لذا كانت أمنيتها على الله تعبيرًا عن مدى الألم الذي أحاط بها ، تمنت أن قد كانت في عالم الموتى ، ومحيت من ذاكرة الناس قبل أن تعيش هذه المأساة ( كما تراها ) يقول تعالى: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا .
(ب)- وفي حديث القرآن الكريم عن عِجل السامري الذي فتن به بنو إسرائيل على أساس أنه رمز للإله ارتضاه لهم موسى ، لكنه ذهب إلى الموعد ، ونسيه مع السامري ، هكذا فهموا أو هكذا خدعهم المحتال الأثيم : فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (ج)- وفي موضع ثالث يحدثنا القرآن الكريم عن نسيان موسى عليه السلام وفتاه للحوت ، وقد كان نسيانه أمارة ، وميقاتًا للالتقاء بالعبد الصالح ، ولا يذكر أنه نسي إلا عندما يحل وقت الغداء ، ويفتقد فتاه الحوتَ فلا يجده ، ويتصور أن نسيانه من عمل الشيطان ، ولكن موسى يكشف الحقيقة لفتاه ، وأن ما حدث هو بغيتهما ، وارتدا إلى مجمع البحرين ، والتقيا بالعبد الصالح الذي وعد موسى بلقياه ، يقول تعالى: فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا .
بهذه الصور الثلاث المتقدمة كان تناول القرآن الكريم للنسيان الذي هو ظاهرة إنسانية لها صفة العموم والانتشار ، ولها صفة القهر والإلزام ، ومن هنا رفع الشارع الحكيم مسئولية البشر عما يحدث في ظلال هذا النوع من النسيان .
والنوع الثاني : النسيان المقصود:
وهو نسيان الغفلة عن الواجب ، وإهمال المسئوليات ، وهو أكثر النوعين ورودًا في القرآن الكريم ، تناول أنواعه ، وحلل أسبابه ، وحذر من مغبّته ، وبين عقوبته .
وتناول القرآن الكريم له بهذه الكثرة؛ لأنه ظاهرة بشرية منحرفة تحتاج إلى تحليل وعلاج ، وللشارع الحكيم منها موقف يحتاج إلى بيان وتفصيل . ولهذا أولاها الكتاب العزيز اهتمامًا بالغًا ، لما لها من خطورة بالغة تهدد الدين السماوي ، وتنحرف بالبشرية عن هديه وهداه .
ومن هنا ورد الحديث عن هذا النوع في أربعة وثلاثين موضعًا من كتاب الله ، وكل ما ورد في هذه المواضع من نسيان يحمل طابع الغفلة عن واجب أو التنصل من تبعة أو الإهمال لمسئولية لا ينبغي أن تهمل بحكم ما تلزم به عقيدة الإيمان .
ويمكن أن يصنف هذا النوع تصنيفًا يجعل من الآيات التي وردت فيه موضوعًا كاملا .
(1)- مظاهر النسيان المنحرف واتجاهاته
(2)- تحليل أسبابه
(3)- عقوبته
(4)- العلاج الذي وضعه القرآن له
(1)- مظاهر النسيان المنحرف واتجاهاته :
يتخذ هذا اللون من النسيان عدة مظاهر تؤكد انحرافه عن سنن النسيان البشري الذي رفعت المسئولية عن صاحبه ، وذلك لأن هذه الظواهر تؤكد أن للإنسان قصدًا وإرادة على نحو من الأنحاء وأن ما يتورط فيه الإنسان من أعمال نتيجة له إنما هو شيء مراد .
وهذه هي مظاهره:
(أ)- نسيان الذنوب والخطايا :
إذا وقع الإنسان في الذنب أو هوى إلى الخطيئة لأول مرة فله عذره ، والخطأ من حقه؛ لأن وراءه نوازع بشرية عميقة التأثير في توجيه السلوك ، ولذا شأنه إذا تاب قبل الله توبته ، وفرح بأوبته على أن يظل هذا الذنب الذي اقترفه درسًا يضيفه إلى تجاربه التي تحدد في الحياة فاعليته ومسلكه .
أما إذا نسي تجربة الذنب فستنتكس حياته ، ويتعثر سلوكه ، ويظل يهوي مع هواه حتى يكون من الغاوين ، وهذه هي صفته كما عرضها القرآن الكريم .
يقول الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ، فأسلوب الآية يشير إلى أن أشد الناس ظلمًا ذاك الباغية المنحرف ، الذي يُذكّر بآيات الله في كتابه وفي الحياة فيعرض عن الذكرى ، وينسى ما تورط فيه من ذنوب وآثام ، ومن هنا استحق ما وصف به في آخر الآية إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ، وإذا كان في طبع الآثِم نسيان ذنبه ، فهذا النسيان دعامة انحرافه ، ومن هنا يكشف القرآن الكريم هذه الظاهرة في سلوك طائفة أخرى من الآثمين الذين هَوُوا في وادي الشرك السحيق ، إذ ذكروا ربهم في الضراء ، ونسوا أنهم أشركوا به في السراء ، فيقول تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ فالفطرة السليمة التي شوهها الإنسان بانحرافه في السراء تعود نقية صافية ، تشد الإنسان المنحرف إلى ربه في الضراء؛ ولهذا ترشد الآية إليها ؛ لتؤكد للإنسان أن نداء الفطرة السليمة أهدى وأقوم .
على أن الحقيقة التي ينبغي أن يذكرها الآثِم أنه إن نسي فاستمرأ بالنسيان إثمه ، فإن وراءه الرقيب الذي يحصي عليه ما قد نسيه ، يقول تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ .
(ب)- نسيان يوم القيامة :
يوم القيامة الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين ، حيث يجد كل إنسان طائره في عنقه ، ويقرأ بنفسه صحائف أعماله ، ويرى بعينه مصيره ، وهو اليوم الحق ، حيت يفصل فيه بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون ، وينتهي أمر الباطل إلى جحيم ، وينعم المتقون في دار النعيم .
وقد عني القرآن الكريم بعرض مشاهد شتى من ذلك اليوم ، وطالما كان المؤمن على ذكر لذلك اليوم سيتخذ منه حافزًا يدفعه إلى الخير ، وينأى به عن الضلال ، ويثبته على طريق الهداية .
ولذا نجد في أكثر من آية في كتاب الله دعوة إلى اتقاء ذلك اليوم ، وما فيه من أهوال وبلاء ، وإذا نسي الإنسان ذلك اليوم فلم يعمل له حسابه فنسيانه بادرة إلى الانحراف الذي ينتهي بالإنسان إلى ضلال .
وها هو موقف الناس ليوم القيامة يعرضه القرآن الكريم في عدة صور .
يقول تعالى عن الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا ، وغرهم ما في دنياهم من زخرف ومتاع : فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فجزاؤهم عند الله إذن إهمال ووبال ؛ لأنهم نسوا يوم القيامة فلم يقدموا في دنياهم عملا ينفعهم ، والهوى يهوي بصاحبه ويضله فينسيه يوم الجزاء بما يقدم له من شواغل صارفة ، يقول تعالى في نصح نبيه داود عليه السلام : وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ .
فالضالون عن سبيل الله سر ضلالهم نسيانهم يوم الجزاء ، وهذا النسيان سر آفة الإنسان وضلاله ، ولذا عندما يقف المجرمون ناكسي رءوسهم عند ربهم ، وقد رأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم ما نسوه من حقائق ذكروا بها دنياهم فلم يتذكروا ، عند ذاك يدعون إلى العذاب الذي عرفوا يومئذ سبب وقوعهم فيه ، فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .
وفي الآية الأخرى يقال لهؤلاء الذين نسوا ما لا ينبغي أن ينسى : لقد نسيتم يوم الجزاء فكان أعدل جزاء لكم تلقونه في هذا اليوم من إهمال وازدراء وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ .
(جـ) - نسيانهم لله
هذان النوعان السابقان من النسيان : نسيان الذنوب ، أو نسيان يوم المصير ، آفتهما أن أولهما يحمل معنى عدم الاستفادة من التجربة ، وثانيهما يحمل معنى عدم الاعتداد بالدافع ، أما هذا النوع الثالث وهو الذي يتعلق بالله فهو شر بذاته ؛ لأنه يعني تقلص ظل الإيمان من نفوس البشر ، إذ لا يمكن أبدًا أن يصح إيمان أو يستقيم على أساسه سلوكٌ ما لم يكن القلب مشغولا بذكر الله منصرفًا إلى ما يهيئه له الذكر من مراقبة دقيقة لخالقه ومولاه .
وهذا النسيان قد يتعلق بأمر الله ، وقد يكون تعلقه بذات الله ، وهذا النسيان لذكر الله الذي يجب أن يكون سلاحاً للمؤمن يشهره في وجه الشيطان إذا أراد أن يهوي مزالق الخسران .
أما الأول منها: فقد عهد الله لآدم ألا يأكل من شجرة بعينها ، وحذره من وسوسة الشيطان وإغراءاته ، ونسي آدم عهده مع ربه ، وذهب عنه العزم الذي يثبت اليقين في أحلك الظروف ، يقول الله تعالى ، يعرض لنا هذا الموقف : وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا .
ثم نجد الآيات التالية تسجل أن هذا النسيان كان لونًا من الانحراف وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى وأن الله تاب على آدم وغفر له ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى
وأما الثاني: فقد أشار إليه القرآن الكريم ، وهو بصدد الحديث عن المنافقين إذ وصفهم بأنهم نسوا الله فيقول: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .
ووقوع ظاهرة النسيان منهم على الله دلالة بليغة على خفوت حرارة العقيدة ، وتبلد عاطفة الإيمان وصيرورتها مجرد دعوى بلا واقع ؛ إذ أن كل ما في الإنسان من جوارحه ، وما حوله من آيات في السماوات والأرض تذكره بالله ، فكيف ينساه؟ إنه شأن المنافقين ، ظاهرهم الذكر ، وباطنهم الغفلة ، ومن طبعهم الكذب ، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك اللون من النسيان في موضع آخر يحذر فيه المسلمين من سلوك المنافقين ؛ إذ يقول الله تعالى لهم : وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .
وكأن هذا النسيان من شأن المنافقين وحدهم ، إذ أن سلوكهم يقوم على نسيان بارئهم والحرص على شهواتهم ، وتضليل الناس من حولهم .
وثالث الأنواع من هذا النسيان الذي يتصل بالله: نسيان ذكر الله .
ومعنى هذا النسيان افتقاد سلاح لا يستقيم أمر المؤمن في الحياة بدونه ؛ إذ يقيه من الإغواء ، ويثبته في مواقف الإغراء ، ويحفظه من همزات الشياطين ولذا جعل القرآن الكريم ذكر الله صفة للمتقين الذين تتجه هممهم إلى خشية الله ومراقبته يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ، كما يقول تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ، ومن هنا كان نسيان الذكر مباءة للفساد ، ويزيد من فرص الانحراف في أمور الدنيا ، وعن أوامر الدين .
وهذا هو شأن من نسُوا ذكر الله ، توضحه عدة آيات ، وفي كل آية منها إشارة إلى باعث لهذا النسيان ، وهو إما استهواء الشيطان أو استعلاء الإنسان أو غرور لا يسمح بفهم واقعه البشري ، فيذكر ماديته وينسى ذكر ربه .
ولكون الآيات التي تتناول نسيان الذكر تعنى بتحليل أسباب هذه الظاهرة سأتناول هذه الآيات عند تناولي لأسباب هذه الظاهرة بعد قليل .
واقتران نسيان الذكر بتحليل بواعثه وبيان أسبابه دلالة على خطورة هذا النوع الذي يصرف الفكر عن ربه ويدفع الإنسان إلى مهاوي الضلال .
بواعث النسيان :
عندما يكون النسيان مجرد ظاهرة بشرية فبواعثه حينذاك نفسية بحتة ، تنبع من داخل الإنسان ، وتتمشى مع فطرته الإنسانية في استواء ، ليس فيه شذوذ أو نشاز أو التواء ، وهذه البواعث خارجة عن دائرة هذا البحث ، ومجال دراستها بحوث علماء النفس ، ولا يعنى القرآن الكريم في هذه الناحية الإنسانية إلا بتسجيل ظواهرها ، أما تحليل الأسباب فرب العالمين خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه ، ويفرض عليه من السلوك ما ينسجم مع بشريته ، وتعليل الظواهر البشرية الثابتة لا يفيد الإنسان في تدينه ، أي في علاقته بخالقه ومولاه .
أما النسيان المنحرف فهو الذي تعرضت له الآيات لما وراءه من بواعث ؛ لأنها تنبع من خارج الإنسان ، أو من داخله الذي خالف عن نداء الفطرة القويم ، وذكر البواعث حينذاك علامات هادية للإنسان على الطريق .
وهذه هي الأسباب:
في مقدمتها الشيطان ، وقد نسب إليه القرآن الكريم شغل الإنسان عن ربه ، وصرفه عن ذكره ، وذلك في عدة مواطن:
فيوسف في سجنه وقد طال به الأمد ، وفي نفسه شعور صارخ بالظلم ، وسجنه هو البديل الوحيد للرذيلة التي تطارده ، طلب إلى أحد رفيقيه- وقد يسرت له النجاة- أن يذكره عند الملك ، ونسي يوسف رب الملك ، إذا لا نجاة له إلا بتقديره ، ولكن الشيطان قد ينال من الإنسان وهو يعانى من ضراوة الامتحان ، قال تعالى : وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ .
وكان مكثه في السجن لمسة عقاب على غفوة يسيرة تولى أمرها الشيطان .
وفي حديث القرآن الكريم عن المنحرفين عن سمت الإسلام إما بفساد في العقيدة ، أو انحراف في السلوك نجد تعليلا لذلك يتمثل في تسلط الشيطان عليهم ، وسيطرته على نفوسهم ، فأنساهم خالقهم ، وبذلك تم لهم الانغماس في ضلالهم ، يقول تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ .
والشيطان وهو يؤدي رسالة الشر في البشرية لا يقصر جهده على الأشرار فهم جنوده وقد فرغ منهم ، ولكنه يبحث عن ضالته في السائرين على طريق الرشاد يحاول جذبهم إليه ، وقد تبلغ به الوقاحة مبلغًا كبيرًا ، فيطمع في أن ينال فرصة من رواد البشرية ، وأنى له ذلك؟ ولذا يقول الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام مذكرًا ومحذرًا ، يذكره بمحاولات الشيطان جذبه إليه في مجالس هؤلاء الضالين ، ويحذره من الجلوس معهم أكثر من فترة التذكير والتوجيه : وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ .
والغرور هو ثاني الأسباب:
وهو أن يسيء الإنسان فهم نفسه ، بأن ينسى الأصل الذي منه نشأ ، أو ينسى أن الأيام تدول ، وأن النعم تزول ، وأن النعمة قد تصير شقاء ، والجاه قد يتحول إلى بلاء .
وسوء الفهم الذي يوجد الغرور هو الذي ينسي الإنسان هذه الحقائق الثابتة من سنن الله في الحياة .
فأُبيّ بن خلف عندما وقف موقف التحدي من النبي صلى الله عليه وسلم منكرًا في تهكم عقيدة البعث ويأتي بعظام بالية ويفتنها بيده ويقول: أترى يا محمد أن الله يحيي العظام بعدما رمت؟!! من غير شك أن أبيًّا في موقفه الذي تبدو منه حماقة البغي وشراسة الجحود لم يدر بخلده الماء المهين الذي خلق منه!! ولو تذكره لراجع نفسه مرات قبل أن يقول ما قال ، وهذه هي الحقيقة التي يسجلها القرآن الكريم: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ .
فالغرور أنسى أمية إحدى بديهيات الوجود حتى تورط فيما تورط فيه من كفران وجحود ، والنعمة تأتي للإنسان بما وراءها من بهجة ومتاع ، فيعيش عيشة الرغد ، ويرفل في أفخر الثياب ، وينعم في سلطان المال والجاه ، وينسى أسس شقائه وبلائه ، وفقره وبأسائه .
إن الإنسان المغرور ، يفزع إلى ربه في الضراء ، وينسى ضراعته في السراء : وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ .
فغرور الإنسان أنساه صاحب الحق ، فضل السبيل إليه وأشرك .
وكم يؤدي غرور الإنعام بالإنسان إلى مهاوي الكفران عندما ينسى ما كان فيه من عسر وما صار إليه من يسر .
ويوم القيامة سيبرأ المعبودون من العبيد أمام رب الأرض والسماء معللين انحراف من عبدوهم بأن متاع النعمة أنساهم فضل المعبود الواحد ، يقول تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا .
ومن عجب أن تكون نعمته سببًا لجحود فضله ، والغفلة عن ذكره ، ثم ضلالهم طريق الوصول إليه .
وثالث الأسباب: شهوة التسلط عندما يشعلها إمعان الأتباع في الخضوع .
قد يجد المغرور من يستخزي لكبريائه ، وينصاع لغلوائه ، ويستذل لبغيه ، فيغريه ذلك بمزيد من الطغيان ، ويسمع كلمات الثناء وعبارات التمجيد من أفواه العبيد ، فيتصور أنه كبير ، وينسى أن فوقه الكبير المتعال .
وعندما وجد فرعون من يستذلهم أنساه ذل العبيد أنه عبد مثلهم ، وصدق رب العالمين إذ يقول: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً .
تتجلى حقيقة هذا السبب في قوله: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ فكما يحاول الفاتن أن يصرف مفتونه عن دينه ، ويبعده عن ربه نرى المفتون من ناحية أخرى ينسى فاتنه ذكر ربه عندما يظن سكوته عنه انصياعا له وذلا له ، فيغريه ذلك بمزيد من التجاوز والشطط .
عقوبة النسيان نسيان:
هؤلاء الذين وقعوا مطية للنسيان المنحرف الذي حللنا أسبابه ، كيف قوّم القرآن موقفهم؟ وماذا قال في عقوبتهم؟
إن سنة الله في عباده وقانونه في خلقه: الجزاء من جنس العمل ، فمن نسي يُنسى ، ونسيان الله لعبده يعني أنه في موقف الطرد من رحمته ، والبعد عن مغفرته ، وأنه موكول إلى نفسه ، ولذا فشقاء الحياة ينتظره ، وبؤسها سيلاقيه .
وهذه هي الآيات التي تشير إلى عاقبة النسيان الخاطئ ، يقول تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ، نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ، وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ، وفي هذه الآية الأخيرة لون آخر من العقوبة ، وهو أن من نسي ربه يوكل الله به ظاهرة النسيان البشري بصورة غير طبيعية تجعل حياته لا تحتمل ، ويقضي أيامه في الحياة بدون ذاكرة ، وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
وفي مثل هذه الآية كانت عقوبة النسيان من أجل نسيانهم يوم اللقاء ، ونسيان يوم اللقاء يعني نسيانهم الملك الحق الذي جعل هذا اليوم فَيصلا بين العباد .
هكذا تؤكد الآيات السابقة كلها بأوضح عبارة وأجلى بيان أن عقوبة النسيان نسيان.
والنسيان الذي هو عقوبة ليس كالنسيان الذي هو خطيئة لكنها المشاكلة في التعبير، وهي من خصائص بلاغة القرآن ، جاءت لتؤكد حتمية القانون الإلهي واستمراريته ، وهو أن جزاء العامل من جنس عمله .
الذكر في القرآن
ما صلة حديث الذكر بحديث النسيان ؟
إذا ذكرت ربك بصدق طهرت القلب من شواغله ، وأخلصته لبارئه ، وأنقذته من أدوائه ، وحرسته من بواعث النسيان الضال التي أسلفناها ، وكنت على ذكر لربك تنقشع أمامه بواعث الغفلة مهما كثرت .
وقد قدم لك القرآن العلاج من هذه الآفة القاتلة المدمرة للعقيدة والسلوك في آية واحدة هي قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا الذكر علاج للنسيان والغفلة ، هذه واحدة .
وهناك أمر آخر يدعونا إلى الحديث عن الذكر بعد النسيان ، وهو أن الحديث عن أي من المعاني يسوق إلى الحديث عن مقابله ، وتناول المعاني المتقابلة يزيدها وضوحًا ، ويكسبها في النفس بلاغًا ، وبضدها تتميز الأشياء .
ألفاظ الذكر في القرآن وأوضاعها اللغوية والنحوية :
وردت ألفاظ الذكر في القرآن في نحو مائتي موضع مختلفة الاشتقاق والموضع الإعرابي ونوع الضمائر الملحقة بها وفي التجرد والزيادة .
وقد رأيت أن الصيغة الثلاثية للذكر (ذكر) ومشتقاتها المختلفة تستعمل في معان معينة ، بينما الصيغ المزيدة تستخدم استخداما آخر .
فالذكر صورة حاضرة ماثلة في الذهن .
والتذكرة استحضارها بعد النسيان .
والتذكير حفز الغير على ذلك الاستحضار .
ولنبدأ بالحديث عن الذكر ، وما يشتق من مادته من صيغ ثلاثية .
وردت الصيغة الثلاثية للذكر من عدة صور متباينة ، وفي معان متنوعة :
*جاءت بالصيغة الفعلية (ذكر- يذكر- اذكُر ) مرادًا بها الحديث .
*وجاءت بالصيغة الاسمية مرادا بها الشرف أو الشأن ، ومرادًا بها العلم ، ومرادًا بها الكتاب المنزل أو النبي المرسل .
*وتناوله القرآن بالصيغة الفعلية واقعًا على لفظ الجلالة ، وبالصيغة الاسمية مُضافا إليه مثل: ذكروا الله- يذكرون الله- اذكروا الله- ذكر الله .
*وبنفس الصيغتين واقعًا على لفظ الرب أو مضافًا إليه . .
*وبالصيغة الفعلية واقعًا على اسم الله تعالى مثل: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى .
والذكر في الحالات الثلاث الأولى يدخل في دائرة الاستعمال اللغوي فحسب ، وفي الحالات الأربع الأخيرة مقصور على العبودية الخالصة ، والارتباط الوثيق بالله.
الذكر بمعنى الحديث :
تناول الإنسان لأمر من الأمور بلسانه يعني إخراجه من دائرة النسيان إلى عالم الشهود ، وقد ورد الذكر بهذا المعنى في ستة مواضع ، منها ما فيه تكريم ، ومنها ما فيه تحذير .
فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام التي ضل بها قومه ، وقالوا عنه كما حكى القرآن الكريم : أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ .
وذكر إبراهيم الأصنام التي ضلت بها شيعته ، وقالوا عنه كما حكى القرآن : سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ .
وطلب يوسف من رفيقه في السجن أن يذكره عند الملك وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ .
وظل يعقوب يذكر يوسف كثيرًا حتى لامه في إشفاق ، أو أشفق عليه في لوم بنوه الآخرون قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ .
وإذا تحدث القرآن عن الجهاد وذكر في آياته اسم القتال فزعت قلوب المنافقين وزاغت أبصارهم فَإِذَا أُنْـزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ .
والإنسان قبل أن يوجد أو يولد لم يكن شيئًا ذا بال يستحق أن يُتحدث عنه ، فهو كما قال تعالى : هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا .
الذكر بمعنى الشأن والشرف :
وقد امتن على نبيه برفعة الشأن وعلو المظهر ونباهة الذكر ، فقال تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ، كما شرف العرب برسالة الإسلام فيهم ، ونزول القرآن بلغتهم لَقَدْ أَنْـزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ .
الذكر بمعنى العلم :
والعلم أصول وقواعد مستحضرة في أذهان البشر يواجهون بها مشكلات الحياة والوجود ، والعالِمون بها هم أقدر الناس على بذل العون لغيرهم ممن لا يعلمون ، ولذا كان توجيه القرآن الكريم لغير العالِمين أن يسألوا العالِمين الذاكرين لهذه الأصول ، يقول تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ .
ووعد النبي صلى الله عليه وسلم قومه بشيء من العلم عن ذي القرنين عندما سألوه عنه ، قال تعالى : وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا .
وطلب الرجل الصالح من موسى عليه السلام أن يلوذ بالصمت حتى يذكر له فيما بعد شيئا من علم ذلك قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا .
ومن أهداف عروبة اللسان القرآني أن يقود قلوب العرب في رفق إلى الخوف من بارئها العظيم ، ويمنحها العلم به وَكَذَلِكَ أَنْـزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ، ويعلل الضالون لانحرافهم عن منهج الإخلاص بافتقادهم شيئًا من العلم الذي هدى به السابقون ، أو من التجارب التي مروا بها ، وهو استنتاج دقيق منهم ، لكن بعد فوات الأوان لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ .
الذكر بمعنى الكتاب المنزل أو النبي المرسل :
الكتاب المنزل مبادئ قويمة ، وشرائع مستقيمة ، ونصح رشيد ، وتوجيه سديد ، ولا عجب فهو كتاب رب العالمين ، الذي خلقهم ويعلم ما يصلحهم ويسددهم ، وعلى قدر بشريتهم شرع لهم من الدين ما وصى به رسله جميعا أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ .
والكتاب المنزل ذكر؛ لأنه يضع أمام ذاكرة البشر هذه المبادئ التي تحكم الحياة ، وتقود السلوك ، إنه ذكر حكيم ، وذكرى للمؤمنين .
وقد جاء الذكر بهذا المعنى في واحد وثلاثين موضعًا من القرآن الكريم ، من هذه المواضع ما كان الذكر فيه بمثابة العَلَم على القرآن وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُـزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ، إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ، وَأَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُـزِّلَ إِلَيْهِمْ ، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ، أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ، ومعنى هذه الآية أنهملكم فنحرمكم من هدي الكتاب لتجاوزكم حد الاعتدال . . وتتساءل قريش في استنكار: كيف ينزل هذا الذكر على محمد من بينهم؟ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ
وقد يترك القرآن ببيانه المعجز آثارا في القوم ، يندر في قلوبهم حقدا ، وفي أعينهم زيغا وغيظا وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ
وتسمية القرآن ذِكرًا فيه معنى الاسمية والوصفية ، على السواء ، غير أنه في بعض المواضع تغلب الاسمية ، وفي بعضها تغلب الوصفية .
فالقرآن من أبرز صفاته أنه ذِكر ، وأن رسالته هي الذِكر إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ويقول تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ، ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ فهو ليس ذِكرًا فحسب وإنما هو ذكر محكم يصيب كبد الحقيقة ، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ويقتحم القلب فيصيب الشغاف ، قال تعالى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وهو ذكر مبارك تسمو به حياة الناس ، وينمو في طريق الخير مجتمعهم وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْـزَلْنَاهُ .
ورسالة الذكر في القرآن تعم الوجود كله ، ففي أكثر من آية يقول رب العالمين عن كتابه: إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ يوسف ، ص ، التكوير ، الأنعام وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ، ومع عمومها تخص العرب بذواتهم ، يقول تعالى ممتنًا على النبي وقومه : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ، كما يقول: وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ولفظ لدنا: فيه إكبار لهذا الذكر أي إكبار ، ولذا ينتقد القرآن انصرافهم عنه ، وإعراضهم عن هديه أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ .
وأكبر خطأ يتورط فيه البشر أن يستبد بهم الغي ، فلا ينتفعون بحكمة هذا الذكر .
وهذا هو الكافر يلوم قرين السوء الذي أغواه لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ، كما يقول المعبودون من دون الله يتبرءون أمام ربهم من ضلال عابديهم : وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا .
والذي يتبع الذكر ويهتدي بآثاره هو الذي يستجيب للنذير ، ويؤثر فيه التبشير : إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ .
وأروع ما في الذكر القرآني - وكله رائع - أنه يحوي خلاصة التجربة البشرية ، يقول رب العالمين: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ .
وقد سمى القرآن الرسول "ذِكرًا" لأنه يحمل الذِكر للبشرية ، ويثير ذاكرتها نحو الاتجاه إلى المبادئ السماوية قَدْ أَنْـزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ .
وفي قَسَم رب العالمين بملائكته وهم العباد المكرمون ، يشير إلى جانب من فضلهم ، وأنهم يتلون الذكر ، ويلقونه على رسل الله وأنبيائه يقول تعالى: فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ، فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا .
ذكر الله
وهو أرفع مستوى تسمو إليه عقيدة الإنسان ؛ لأنه يعني استحضار عظمة الذات الإلهية والإحساس بها في كل موطن ، وفي كل موقف ، ومن هنا يكون الذكر جنة للمؤمنين ، وملاذا لقلوبهم فلا تعصف بها الأهواء ، وحصنا حصينا لإيمانهم فلا يزيغ به شرك أو رياء .
وهذه هي ثمرته: طمأنينة في القلب الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ .
والأسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم منهج كريم ، لكن الذي يعرف قيمة القدوة ، ويحرص عليها من كان رجاؤه في الله وثوابه ، وكان ذكر الله يملأ جوانب نفسه ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا .
والذكر صفة للمتقين لأنه باعث التقوى ووسيلتها وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ .
وذكر الله سمة تحكم مسلك العقلاء ، يقول تعالى : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .
وذكر العقلاء لله- كما تشير الآية- تأمل وتدبر ، واستحضار لعظمة الذات ، وليس مجرد ترديد عبارات باللسان والقلب عنها في شغل كبير .
والذكر صفة للمؤمنين . . فإذا تحدث القرآن عن الشعراء بأنهم يهيمون في أودية الغي ، فمنهم من نأى عن ذلك فنبذ تقاليد الجاهلية ومقاييسها الفاسدة ، واتجه إلى قيم أمثل تصلح الحياة والنفوس ، وهؤلاء هم شعراء المؤمنين أو مؤمنو الشعراء ، وأبرز صفاتهم الذكر الكثير لله ، والانتصار لدينه ، يقول تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ (226) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا
ولكون الذكر صفة للمؤمن وسمة للإيمان ، وجدنا هذه النداءات في القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ ذلك لأن الذكر أعظم سلاح يرفع من معنوية المجاهد عندما يشتد البأس ، وتحمر الحدق .
ويقول تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ، واستجابة القلب للذكر وتأثره به دليل على صدق الإيمان ، وقوة سلطانه على نفس الإنسان .
وكما أن الذكر سلاح فعال في ميادين القتال هو أيضًا سلاح مؤثر في معترك الحياة ، يقول تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .
وفي المواقف الصعبة ترى في الذكر تثبيتًا للذاكرين ، وبه وصى الله موسى وهارون وهما ذاهبان لمواجهة فرعون اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي.
الذكر عبادة والعبادة ذكر:
ومعنى العبادة لا يتحقق إلا به ، وهي في الوقت نفسه وسيلة إليه وأسلوب له ، والصلاة ذكر ، والذكر من أعظم ثمراتها إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي ، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ .
وفي تناول الصلاة ذِكرى وفي أعقابها ذِكر فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ .
والذكر ألزم سلوك لعبادة الحج ، ولذا تراه مطلوبًا من الحجيج في كل منسك فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ .
ذكر اسم الله :
وفي نحو أربعة وعشرين موضعًا من الكتاب العزيز ورد الذكر أو مشتقاته واقعًا على اسم الله ، وتتميز هذه المواضع بأنها عبادات ذات رسوم وحدود ، وأن المعنى فيها الإهلال باسم الله ، لأنه في هذه المواطن دليل الانصياع ، وبرهان الإذعان للخالق العظيم .
فالإهلال بذكر الله في الصلاة وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ، وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ، وفي الحج كذلك ترديد لاسم الله تعالى ، يقول جل شأنه : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ .
وعند الذكاة (الذبح) يتحتم الذكر فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ، وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، ويحرم ما ذبح من غير ذكر ، أو ذكر عليه غير اسم الله تعالى ، وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَأَنْعَامٌ لاَ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ .
ويجب الذكر عند وقوع الصيد في قبضة الحيوان المعلم فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ .
وذكر اسم الله شعار ينبغي للمؤمن أن يرفعه في كل حين ، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا .
هذه هي المواطن التي يحددها القرآن الكريم للذكر القولي: مواطن العبادات ، وأوقات الضراعة التي يهتف فيها العبد الخاشع الضارع لائذا مستجيرا بمن خلقه وسواه ، مرددا اسمه وحده في أدب واتزان دون تحريف وإلحاد ، يقول تعالى: أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ، وفي آية أخرى يقول: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ومن هنا ندرك مدى العبث الذي يتورط فيه بعض هؤلاء الذين يقفون صفوفًا يترنحون ذات اليمين وذات اليسار ، يرددون اسم الله بألفاظ غير مفهومة زايلها الوقار والاتزان ، زاعمين بهذا أنهم يذكرون الله . . ألا ساء ما يصنعون!! وما عدا مواطن العبادات والضراعة ، فالذكر استحضار لعظمة الله ، وتأمل وتفكير في أثار قدرته .
واذكر ربك:
وورد الذكر بمشتقاته واقعا على لفظ الرب في ثمانية مواضع ، وهذه المواضع فيها معنى التربية والامتنان والفضل والإنعام ، وهذه ظاهرة تعبيرية واضحة في كل مقام يذكر فيه القرآن لفظ الرب حيث يكون الإشعار بالتربية ألزم وأنسب من الإشعار بالعبودية ، ولأن إدراك معنى التربية- إذا صدق- يوصل إلى العبودية الخالصة .
وهذه الآيات تؤكد صحة هذا الاستنتاج يقول تعالى: وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ، ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ، ويقول تعالى لعبده زكريا : وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ .
ويقول تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً ، وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ، وعن يوسف يقول تعالى: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ، وعن سليمان يقول تعالى: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ، وفي تأنيب الكافرين الجاحدين يقول تعالى: بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ .
الإعراض عن الذكر . . وآثاره وبواعثه
الإعراض عن الذكر بادرة خطيرة تزعزع بنيان العقيدة ، ولذا نرى في القرآن الكريم تحذيرًا من اللهو الشاغل عنه ، ومن كل داعية إلى الانصراف عن هديه ، فالذين لا يذكرون هم المنافقون أو الكافرون وكفى !! يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا ، وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا .
والذين لا يؤمنون بالآخرة لا يرتاحون إلى الذكر الخالص لله وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ، ولقسوة قلوبهم وعدم تأثرها بالذكر استحقوا الويل فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ .
وفي هذه الآيات تحذير من الصوارف عن الذكر واتباع الضالين المنحرفين ، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا والشيطان أكبر صارف عن الذكر ، بل هو الذي ينمي كل الصوارف إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ .
والمؤمنون الصادقون لا تؤثر فيهم هذه الصوارف كما وصفهم ربهم فقال: رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ .
مصير الغافلين :
والغافلون عن ذكر الله ينتظرهم شقاء الدنيا وبلاؤها ، وعذاب الآخرة ونكالها ، فمن يعمَ عن ذكر ربه ييسر له شيطانًا في الدنيا يوغل به في متاهات الإغواء وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، وفي الآخرة يصف القرآن لنا
( الجزء رقم : 13، الصفحة رقم: 162)
عذابه فيقول: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ، وحسب الغافل تعاسة الدارين التي تصفها هذه الآية : وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى .
وهذه منزلة الذاكرين :
يعدهم الله من بين حملة القيم ، وأصحاب المثل السامية كالمسلمين والمؤمنين والصابرين والصادقين فيقول تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ . كما يعدهم الله تعالى بأن يذكرهم كما ذكروه فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وذكر الله لعبده تكريم ما بعده تكريم .
التذكير منهج لرسالات السماء :
والتذكير هو المنهج الذي يقوم عليه دين الله ، ومن أجله كانت وتعددت رسالات السماء في شتى مراحل التاريخ ، وتحمل الرسل عبء هذا المنهج ، ليذكروا البشر بأبعاد الهداية ، ويدلوهم على مواطن الخير في وحي الله ودين السماء ؛ ليستطيع الإنسان تحقيق الرسالة التي أرادها الله له في هذا الوجود .
وتدرك هذه الأهمية البالغة للتذكير عندما تقلب صفحات الكتاب العزيز ، إذ تستوقفك في مجال الدعوة إلى التذكير أمور ذات بال .
(1) يدعو رب العالمين نبيه ومصطفاه محمدا عليه الصلاة والسلام إلى أن يذكر ويتذكر ، أما التذكير فهو جوهر مهمته ومناط رسالته ، ولذا وجهه الله تعالى إليه في مواطن كثيرة ، وأرشده إلى وسائل شتى يستعين بها في تذكيره سنتناولها فيما بعد .
يقول الله تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ، فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ ، وفي الآية الأخيرة دعوة إلى التذكير بالقرآن مخافة أن ينتهي أمر القوم إلى الهلاك ، بما أسلفوه من بغي وانحراف .
وأما التذكر فقد دعا الله نبيه إليه لأنه سيكون جُنة له تحميه من نوازع البشرية ، وتضع نصب عينيه مثلا أعلى من حياة من سبقوه في طريق الدعوة ، فيهون أمامه البلاء ، ويخف عليه وقع المحن ، ويتحمل مئونة الصبر ، ومن هنا كان الأمر بالتذكر يدور كله في مجال القصص القرآني .
وقد جاء الأمر في سورة مريم وحدها خمس مرات ، يقول تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ الآيات .
كما جاء هذا الأمر في أربعة مواضع من سورة ص ، تحث النبي عليه الصلاة والسلام على تذكر أنبياء آخرين سبقوا في الدعوة إلى الله ، فيقول: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ ، وفي الأمر بالصبر قبل الذكر في الموضع الأول إشارة إلى أن مغزى التذكر أن يصل به النهي إلى قضية الصبر التي بها تنجح الدعوات .
وفي سورة الأحقاف يقول تعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ ، وأخو عاد كناية عن نبي الله هود عليه السلام ، والأحقاف موضع معروف ، في الجهة الجنوبية الشرقية من شبه الجزيرة العربية ، كما يقول تعالى في صدر الحديث عن موسى عليه السلام: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ .
وفي غير مجال القصص القرآني نجد توجيهًا للنبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى استلهام الذكرى من حادث عبد الله بن أم مكتوم الذي عبس في وجهه ، فقال الله لرسوله بعد عتاب غير يسير : كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ .
فالتذكر الذي يحمي البشرية من الهوى وينأى بها عن الزلل ، والتذكير الذي هو مهمة ورسالة لم يكونا مقصورين على خاتم الأنبياء وحده ، فهذا أمر الله لنبيه عيسى عليه السلام بالتذكر ، إذ يقول له: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، وهذا أمر آخر لنبيه موسى بالتذكير: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ، ويحدثنا القرآن عن عتاب نوح عليه السلام لقومه الذين ساءتهم الدعوة إلى الله والتذكير بآياته: يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ .
ويصف الله تعالى أنبياءه إبراهيم وإسحاق ويعقوب بصفة اختصهم بها ، وهي تذكرهم لدار الجزاء إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ .
فرسل الله جميعا ذكروا فتذكروا ، وقاموا بواجب التذكير كما أمرهم الله ، وإن لم تنسب إليهم الألفاظ صراحة بهذه الكثرة كخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم .
(2) الدعوة إلى التذكر في القرآن ملحة تهز عقول البشر هزا عنيفا ، وتزيح أستار الغفلة التي تلقيها عليها بين الحين والحين نوازع النفوس ومغريات الحياة ، وذلك ليعود للعقل البشري صفاؤه ، فيستجيب لدعوة الله ، ويذعن لرسالة الحق ، تبدو قوة هذه الدعوة إلى التذكر في الأسلوب التي عرضت به الآيات الداعية إليه ، إذ في ستة مواطن من القرآن الكريم وردت الدعوة بهذه الصورة: أفلا تذكرون ؟ التي تتضمن استنكار الغفلة الصارفة عن استحضار العبرة عندما تمر آية ، أو يلم حدث ، أو يطوف بالحياة أمر ذو شأن ، والذي يلفت النظر ، ويشد الانتباه أن هذه المواطن الستة تدور كلها حول التوحيد وتوطيد العقيدة الصحيحة للإسلام في نفوس البشر ، ففي محاجّة إبراهيم لقومه يؤكد لهم أنه لا يخشى إلا الله ، ثم يقول: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ .
ويضرب القرآن الكريم مثل الفريقين: الفريق الذي عقل الحق وعرف العقيدة الصحيحة ، والفريق الذي غفل فضَلّ ، واتبع هواه ، فالأول مثله مثل البصير والسميع ، والثاني مثله: مثل الأعمى والأصم ، وتنتهي الآية بهذا التساؤل هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ .
ويرد هود عليه السلام شهوة جامحة لقومه طلبوها في غفلة من العقل والبصيرة ، إذ رغبوا إليه أن يطرد المستضعفين من مجلسه ، ليخلوَ لهم وحدهم ما يريدون من شهوة الانفرادية : وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ .
وفي موازنة رائعة مقنعة تأخذ بتلابيب النفوس الضالة التي غشيتها سحابة الشرك يقول رب العالمين: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ .
الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء>اللغة العربية>مجلة البحوث الإسلامية بإشراف و مسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء>اعداد المجلة
تصفح برقم المجلد > العدد الثالث عشر - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1405هـ > بحوث في علوم القرآن > الذكر والنسيان في القرآن الكريم > التذكر والتذكير في القرآن > التذكير منهج لرسالات السماء
وفي مساءلة هادية راشدة بين الداعي وقومه ، جاءت الدعوة السادسة إلى التذكر ، يقول تعالى: قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ.
وفي غير هذه المواطن دعوات كثيرة للتذكر ، مقرونة بوسيلة أو الباعث عليها ، وقد قدمت للبشرية في ظروف مختلفة حتى تستمر على طريق الحق مسيرتها ، يقول تعالى في تأنيب الغافلين الضالين غداة الحسرة عندما تتبين الحقائق وينكشف عن العين الغطاء : أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ .
وهذه دعوة للمسلمين بعد النصر العظيم في بدر لأن يتذكروا ماضيهم الذي عاشوه مستضعفين ، مبغيا عليهم ، إذ أن هذه الذكرى تحفزهم على الشكر الذي يزيد النعم ويوثق العلاقة بخالقهم العظيم : وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .
وعلى لسان شعيب عليه السلام جاء النصح لقومه بأن يتذكروا : وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ .
وعلى لسان هود وصالح عليهما السلام جاء نفس النصح لقوميهما عاد وثمود ، يقول تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ، وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ .
وفي شأن بني إسرائيل يقول تعالى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .
(3) وبقدر ما كانت الدعوة إلى التذكر تحمل هذا القدر الكبير من التقدير والاهتمام؛ لما في التذكر من صحوة العقيدة ، ويقظة الضمير ، بقدر هذا كان التنديد عنيفا
وقاسيا بمن غفلوا ولم يعقلوا ، وسمحوا لغشاوة النسيان أن تحجب البصيرة ، وتتركهم في متاهات الضلال ، يتجلى عنف هذا التهديد من حديث القرآن عن المعرضين عن الذكر ، ووصفه لهم ، وتقويمه لعقيدتهم ، وكشفه عن مصائرهم وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وفي آية أخرى : ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا .
وفي وصف المنافقين يقول تعالى : أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ .
وأهل الكتاب خانتهم ذاكرة المؤمن ، فنسي اليهود حظًّا مما ذكروا به ، فحرفوا الكلم عن مواضعه ، ولا تزال خياناتهم مستمرة ، وأما النصارى فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ .
ونسي كثير من بني إسرائيل واجب النصيحة ، فحلت بهم العقوبة ، ولم يفلت منها إلا من نَهَوا عن السوء فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ .
ويصور القرآن الكريم حقيقة هؤلاء المعرضين عن الذكر أسلوبًا ونتيجة ، فيقول تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فرسم القرآن الكريم صورة منفرة لإعراضهم ، كما أشار إلى موقفهم يوم القيامة عندما يواجهون العذاب بلا شفيع ولا نصير .
والوصف بعدم التذكر نراه سجية لكل منحرف عن دين الله ، يقول تعالى: وَإِذَا ذُكِّرُوا لاَ يَذْكُرُونَ ، ولا عجب فهو أساس الداء والباعث الأقوى على الانحراف ، فالذي لا يتذكر تختلط أمام بصيرته القيم ، يقول تعالى : وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ .
والذي لا يتذكر يتورط في أرجاس الشرك : اتَّبِعُوا مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ .
ووصف الكفار بقلة التذكر المعني به العدم ورد أيضًا في مواضع أخرى .
والذي لا يتذكر تختفي أمام عينيه الحقائق الساطعة وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ .
(4) يؤكد القرآن الكريم أن التذكر أو الانتفاع بالذكرى والاستفادة من التذكير لون من السلوك الأقوم لا يتيسر إلا لأنماط معينة من البشر:
(أ) من هم على درجة من العقل الراشد واللب النابه والبصيرة النافذة ، وقد ورد في السور والآيات الآتية ما يفيد أن التذكر مقصور على أولي الألباب وذوي البصيرة والعقول مثل : وما يذكر إلا أولوا الألباب ومثل لقوم يعقلون ومثل إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
(ب) من هم على صفة الإيمان أو التقوى أو العبادة أو الإنابة ، وهذه الصفات هي من أرفع المستويات التي يصل إليها المسلمون بإسلامهم ، وهذه الصفات ليست متباينة ، وإنما هي مترابطة متآخية ، ولا تتحقق- بصدق- إحداها إلا إذا تحققت أخواتها ، فلا إيمان بدون تقوى ، والعبادة جوهرهما ، والإنابة تضفي عليهما حيوية العقيدة ، وعمق تأثيرها .
وأكثر هذه الصفات ارتباطًا بالذكر والتذكر صفة التقوى؛ لأنها تقوم على مراقبة الله وخشيته ، ومن هنا كان المتقون أكثر الناس ذكرا لله وتذكرا لآياته .
ففي ارتباط الذكر بالتقوى وردت ثماني آيات تؤكد أن التذكر صفة لازمة للتقوى : إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا ، إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى
وجاءت ثلاث آيات تؤكد ارتباط التذكر بعقيدة الإيمان وهي [12 \ هود ، 51 \ العنكبوت ، 15 \ السجدة ] .
وفي علاقة الإنابة بالذكر ، يقول تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَـزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ .
وفي ارتباط العبادة بالذكر يقول تعالى: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ .
والذاكر هو الذي يتذكر ، وهذا الارتباط لغوي وقرآني أيضا ، إذ يقول تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ .
(5) التذكر منطلق المسئولية :
فعند الذكرى أو التذكر تتحدد المسئولية وتتأكد ، وتنتفي الأعذار والتعللات ، يبدو ذلك من خطاب الله لرسوله في هاتين الآيتين : وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا .
بواعث التذكر
من هذه الموضوعات التي أثرتها والنتائج التي استخلصتها نستطيع أن نقف على مدى أهمية التذكر في سلوك كل ذي دين ، وبخاصة دين الإسلام الذي اصطفاه الله وارتضاه .
وبالدراسة الواعية القائمة على استقراء دقيق لاستعمالات هذه الألفاظ في القرآن الكريم (التذكر والتذكير والذكرى) نرى أن الكتاب العزيز وضع تحت أيدينا وسائل التذكر وبواعثه ، وهي متعددة ومتنوعة حتى تغطي ميول البشر ، وتصيب نوازعهم وهي مختلفة ومتنوعة .
وهذه هي البواعث التي تدفع إلى التذكر ، معززة بآيات القرآن الكريم التي تناولتها.
(1) الكتاب السماوي بعامة باعث على التذكر ، والقرآن بخاصة يعد من أول الوسائل وأقوى البواعث والحوافز ، فهو من حيث الإطار يثير التذكر بلسانه العربي ، ومن حيث المضمون هو مليء بالمواعظ والعبر ، حافل بالدروس والقصص ، وهو - كما قلنا أول البحث - والذكر صنوان ، فالقرآن ذو الذكر ، وسماه الله ذكرا في أكثر من موضع ، وفي خمس عشرة آية منه يبين الله لنا أن كتاب السماءيحرك النفوس إلى التذكر ، فلا يضيع إيمانها في سُحُب الغفلة وركامها ، في ثلاثة مواضع منها حديث عن كتاب موسى ، وفي باقيها حديث من القرآن .
وهذه هي السور والآيات التي وصفت كتاب الله بأنه دافع إلى التذكر ووسيلة إلى التذكير: [41 \ الإسراء ، 48 \ الأنبياء ، 43 \ القصص ، 51 \ العنكبوت ، 29 \ ص ، 53 ، 54 \ غافر ، 58 \ الدخان] ، وفي سورة ق فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ، وفي سورة القمر جاءت هذه الآية: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أربع مرات ، وفي الحاقة : وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ .
(2) وجاء لفظ الآيات باعثًا على التذكر في نحو سبع آيات ، والآيات إما كونية وإما قرآنية ، والتذكير بالقرآن تحدثنا عنه ، والتذكير بآيات الكون سنتحدث عنه ، أما في هذه المواطن فقد جاءت الآيات عامة بدون تحديد ، لكن في بعض المواطن يغلب على الظن أنها القرآنية ، وفي بعضها الآخر يترجح أنها الكونية .
فمن الأولى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ الكهف والسجدة ، وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وراجع 15 \ السجدة و 221 البقرة .
ومن الثانية قوله تعالى: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ، والمشار إليه نعم الله على بني آدم باللباس والرياش ، ثم إرشادهم إلى أن لباس التقوى أجمل وأكمل .
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا : أي أن الحديث في إنشاء السحاب وإنزال المطر تنوع القول فيه بين الناس في القرآن وفي الكتب السماوية الأخرى ليتذكروا ويعتبروا .
(3) التأمل في مخلوقات الله وفي سننه الكونية ، وهذا من أقوى البواعث على التذكر ، ومن أنجح وسائل التذكير ، ولا عجب فهو المنهج الذي ارتضاه القرآن لهداية النفوس الضالة إلى الله ، وفي غرس جذور العقيدة ودعم سلطانها على قلوب البشر .
وقد أشرت في الفقرة السابقة إلى آيتين فيهما حديث عن آيات الله حافز على التذكير .
وتأمل معي هذه الآيات التي تعرض جوانب من الكون العظيم ، لتنتهي بالناس إلى ضرورة الإيمان والتوحيد : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، وراجع [57 \ الأعراف- 17 \ النحل- 62 \ الواقعة- 8 \ ق- 31 \ المدثر- 62 \ النمل] .
(4) التذكير بعبر التاريخ وأحداثه :
والتاريخ ذاكرة البشر وملهم المواعظ ، وكلما عرفت الأمم ماضيها أقامت على أصح التجارب مستقبلها ، ولذلك عني القرآن الكريم بدعوة الأمم إلى السير في الأرض والنظر في أخبار السابقين ، وكان القصص القرآني على كثرته وتنوعه بمثابة جذب لذاكرة النبي صلى الله عليه وسلم نحو عبر الماضي؛ لينتفع بها في الحاضر ، فالتجربة البشرية واحدة ، والتاريخ يعيد نفسه ، يقول تعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ قد مرت آيات فيها دعوة للرسل إلى تذكر التاريخ ، وتذكير أممهم به ، مثل قوله تعالى لنبيه موسى : وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ، كما يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ، وفي تذكير البشر بالقرون السابقة يقول تعالى : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ بعد قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ .
وللقصص القرآني هدف آخر ، وهو تذكير المعاندين والضالين وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ .
(5) يوم القيامة :
اليوم الحق ، ويوم الهول ويوم الزلزلة ، ويوم القارعة ، سيعيد للغافلين ذاكرتهم ، ويطلبون دنيا أخرى يستدركون فيها ما فات ، ويكون الجواب: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ، ووصف القرآن الكريم يوم القيامة بأنه يوم التذكر وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ، واقرأ الآيات [18 \ محمد ، 54 ، 55 \ المدثر ، 19 \ المزمل] .
(6) التذكير بالمحن والنعم :
قد يسلط الله على البغاة المحن- رحمة منه- رجاء أن يتذكروا ، يقول تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ، ومنهم الغارقون في الغفلة ، فلا تؤثر فيهم ضراوة المحنة ، وهم المنافقون أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ .
والنعم باعث آخر على التذكر ، وتبلغ من بعض النفوس أكثر مما تبلغ منها المحنة ، يقول تعالى: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ .
وفي نعم الله على الصالحين موعظة وتذكرة ، يقول عن نبيه أيوب: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ .
وفي سور ص ، يقول الله تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ .
وفي إنقاذ المؤمنين بنوح من الطوفان تذكرة بالغة ، إذ يقول تعالى مشيرا إلى السفينة : لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ .
وفي معرفة الإنسان للنار تذكرة ومتعة ، وتذكرة بنار الآخرة وبلائها وأهوالها ، ومتعة في الدار العاجلة ؛ إذ يستخدمها الإنسان في تحصيل الكثير من منافعه ، يقول تعالى: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ .
والمقوون: المسافرون .
(7) القول اللين ، والموعظة الحسنة ، وضرب الأمثال :
لين القول وحسن الموعظة ، والاستعانة على هذا وذاك بضرب المثل من أبلغ وسائل التذكير التي اعتمد عليها القرآن في نصح البشر .
فبالقول اللين وصى الله نبيه موسى وأخاه هارون: فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى .
وهذان نموذجان للقول اللين الذي يحفز إلى التذكر ، من واقع أسلوب القرآن:
الأول: في مجادلة من زعموا الملائكة بنات الله مع بغضهم للبنات: أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ والثاني : في محاورة من اتبعوا هواهم فضلوا السبيل: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وقد استعان القرآن الكريم على ذلك بضرب الأمثال ، وقد عرفنا مثل الفريقين: المؤمنين والكافرين ، وتشبيه الأولين بالبصير والسميع ، والآخرين بالأعمى والأصم ، وتعقيب الآية على ذلك بهذا التساؤل: هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ .
وفي القيمة التوجيهية والتأثيرية لضرب الأمثال ، وفي دفعها القوي إلى التذكر يقول تعالى : وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، كما يقول تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، ويقول تعالى : وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ .
والآية الأخيرة تكشف عن المقدرة الفكرية والعلمية الواسعة التي يتصف بها كل إنسان يستفيد من أمثال القرآن الكريم .
رب أعني على ذكرك ، وذكرني بآياتك حتى تذكرني يوم العرض عليك ، واجعل لكل مسلم يقرأ بوعي كفلا مما دعوت ، إنك سميع الدعاء .
مصادر البحث :
(1) القرآن الكريم .
(2) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم .
(3) معجم ألفاظ القرآن الكريم . مجمع اللغة العربية بالقاهرة .
(4) تفسير المنار . محمد رشيد رضا .