رسالة لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية
أجاب فيها عن أسئلة في علم القراءات

حققها وقدم لها الدكتور : محمد علي سلطاني

(مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثالث عشر - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1405هـ)

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين . وبعد :
فإن القراءات القرآنية من أكثر علوم القرآن والعربية أهمية وأجلها شأنا . . أما أهميتها من حيث اللغة فتعود إلى جانبين كبيرين:
- أولهما ما تقدمه للباحثين في نشأة اللغات وتطورها وتاريخها من الظواهر اللغوية الحية على اختلاف صنوفها: في الحرف والصوت والكلمة والتركيب . .
- وثانيهما ما تقدمه للنحو وفقه اللغة من الشواهد والنماذج مما لا يبلغ بعض شأوه شواهد العربية الأخرى في الشعر والخطب والأمثال والأقوال . . وذلك بسبب مما حظيت به القراءات منذ نشأتها من عناية وضبط وتوثيق . . بالتلقي المتثبت ، والمشافهة الواعية ، والرواية المتواترة أو النقل المستفيض ، والتدوين المقرون بالوصف الدقيق والأسانيد المدروسة الموثوقة . .
وأما رفعة شأنها فلارتباطها بالقرآن العظيم منهاج المتقين ومعراج المرتقين ، مصداقًا لقوله عليه الصلاة والسلام: خيركم من تعلم القرآن وعلمه .
غير أن هذا الميدان الجليل بما اتسم به من الغنى اللغوي الفريد ، نتيجة التيسير الذي عبر عنه الحديث النبوي : أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه ؛ أثار قدرًا غير قليل من القضايا التي ارتبطت بعلم القراءات ، وغدت مع الزمن أقرب إلى المشكلات ، فشغلت العلماء والباحثين عبر القرون - وما يزال بعضها يشغلهم- للوصول إلى المعرفة اليقينية بشأنها . . من ذلك قولهم: ما تفسير الأحرف السبعة؟ أهي للتكثير أم لتحديد؟ وإن كانت الأخيرة فما المقصود بها على الدقة أهي القبائل أم الطرائق أم الظواهر؟
ما مدى شيوع التواتر بين القراءات ، أهو مقصور على السبع أم العشر أم ما فوق ذلك؟
أهي سواء في الفصاحة أم أن بينها فصيحًا وأفصح؟ ما موقف النحو والقياس من هذا التفاوت في الفصاحة؟ . .
هذه وغيرها أسئلة كثيرة تتردد بينهم لا تفتر ، تبحث لها عن الجواب الأخير .
وقد أحدث اختلاف القراءات وتعددها حركة علمية مباركة ، أسفرت عن أعداد من مجموعات الكتب القيمة . . بدأت بكتب جمعت القراءات ، فأخرى نهضت بالاحتجاج لها بلغة العرب ، وثالثة وصفت مرسوم مصاحف الأمصار ، ورابعة اهتمت بالنقط والشكل . . وبقي في الميدان زوايا يلفها بعض الغموض والاختلاف وتباين الآراء ، مما تعد رسالة شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية الآتي نصها حلقة في سلسلة الردود على تساؤلات الباحثين عن الحقيقة ، حيث أجاب فيها عن عدد من هذه التساؤلات .
أما الرسالة فهي واحدة مما تضمه مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض من نفائس المخطوطات ، وتقع في سبع صفحات تضمها أربع ورقات ضمن مجموع يحمل رقم 3653 \ ف مصور عن الأصل في مكتبة تشستربتي ، كتبه بخط نسخي دقيق علي عبد الله الغزي سنة 859 هـ .
ومما يعد نسخة قيمة أخرى لهذا النص ، ما تم نشره بعنوان (فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ) جـ13 \ 389- 404 فقد ضم الفاضل الشيخ عبد الرحمن العاصمي هذا النص إلى الكتاب بوصفه إحدى الفتاوى التي صدرت عن شيخ الإسلام آنذاك . . وقد أفدت منه في تصويب المواضع التي تأثرت بالرطوبة في الأصل لديّ .
ولم يذكر الشيخ العاصمي مصادره ، غير أن الاختلاف الطفيف في بعض ألفاظ النصين يثبت أنه نسخة أخرى لهذه الرسالة ، مما تجد ثماره وأثره في المتن وبعض حواشي التحقيق .
ومما يعد طرفا في هذا التوثيق نقول مطولة لمقاطع تامة من هذا النص ، احتج بها ابن الجزري مقرونة بنسبتها إلى ابن تيمية في كتابه (النشر في القراءات العشر 1 \ 39 وما بعدها) مما تجد الإشارة إليه في مواضعه بعد .
وتبدأ الرسالة بالبسملة والدعاء فالنص على الأثر بلا عنوان يتقدمه ، ولا ضير في هذا ، لأن النص نفسه وما ورد فيه من عبارات صريحة أدلة ناصعة على صحة نسبته إلى الشيخ الإمام ابن تيمية ، مما يطالع القارئ منذ السطور الأولى .
وقد لقيت هذه الرسالة من عناية العلماء عبر القرون ما يبدو أثره في الخاتم الرابض في نهايتها ، وجاء في نقشه للواقف ما نصه:
"وقف سيد يوسف فضل الله ، إمام جامع سلطان محمد خان ، للولاة وللمدرسين المتأهلين ، في جامع المزبور 1145 " .
أما مؤلف الرسالة فغني عن التعريف ، فهو أبرز قوة فاعلة في صياغة الحياة في دولة المماليك في القرن الثامن الهجري بميادينها: العلمية والفكرية والعامة . . مما تجده مبسوطا في مظانه ، وتؤكده مئات الكتب والرسائل التي كتبها بخطه في معالجة قضايا عصره ، رافعًا بقوة صوت الدين وموقفه منها ، مما يتأبى على الحصر " فكان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن ، وحكم أن أحدًا لا يعرف مثله " .
ومات رحمه الله معتقلا بقلعة دمشق سنة 728 هـ ، فخرجت دمشق كلها في جنازته رضي الله تعالى عنه وأرضاه .

النص المحقق

(1 \ أ) بسم الله الرحمن الرحيم ، رب يسر

ما يقول سيدي الشيخ- جمع الله له خير الدنيا والآخرة- في قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف .

- ما المراد بهذه السبعة ؟
- وهل هذه القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم وغيرهما هي الأحرف السبعة أو واحد منها ؟
- وما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف؟
- وهل تجوز القراءة برواية الأعمش وابن محيصن وغيرهما من القراءات الشاذة أو لا .
- وإذا جازت القراءة بها ، فهل تجوز الصلاة بها أو لا ؟
أفتونا مأجورين .

أجاب ( الشيخ تقي الدين بن تيمية ) : .
الحمد لله رب العالمين . هذه مسألة كبيرة ، فقد تكلم فيها أصناف العلماء من الفقهاء والقراء وأهل الحديث والتفسير والكلام وشرح الغريب وغيرهم حتى صنف فيها التصنيف المفرد ، ومن آخر ما أفرد في ذلك ما صنفه الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي المعروف بأبي شامة صاحب شرح الشاطبية .
فأما ذكر أقاويل الناس وأدلتهم وتقرير الحق فيها مبسوطًا ؛ فيحتاج من ذكر الأحاديث الواردة في ذلك وذكر ألفاظها وسائر الأدلة ، إلى ما لا يتسع له هذا المكان . . ولا يليق بمثل هذا الجواب ، ولكن نذكر النكت الجامعة التي تنبه على المقصود بالجواب ، فنقول: لا نزاع بين العلماء المعتبرين بأن الأحرف السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها ليست هي قراءات القراء السبعة المشهورة ، بل أول من جمع قراءات هؤلاء هو الإمام أبو بكر بن مجاهد ، وكان على رأس المائة الثالثة ببغداد ، فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات: الحرمين والعراقين والشام ، إذ هذه الأمصار الخمسة [هي] التي خرج منها علم النبوة: من القرآن وتفسيره ، والحديث ، والفقه في الأعمال الباطنة والظاهرة ، وسائر العلوم الدينية .
فلما أراد ذلك ، جمع قراءات سبعة مشاهير من أئمة قراء هذه الأمصار ، ليكون ذلك موافقًا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن ، لا لاعتقاده أو اعتماد غيره من العلماء أن القراءات السبع هي الحروف السبعة ، أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم .
ولهذا قال من قال من أئمة القراء: لولا أن ابن مجاهد سبقني إلى حمزة لجعلت مكانه يعقوب الحضرمي إمام جامع البصرة ، وإمام قراء البصرة في زمانه في رأس المئتين .
[و] لا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده ، بل قد يكون معناهما متفقًا أو متقاربًا . كما قال عبد الله بن مسعود : "إنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال " .
وقد يكون معنى أحدهما ليس هو معنى الآخر ، لكن كلا المعنيين حق ، وهذا اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض . وهذا كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى (1 \ ب) الله عليه وسلم في هذا ، حديث: أنزل القرآن على سبعة أحرف : إن قلت : غفورا رحيما ، أو قلت : عزيزا حكيما ؛ فالله كذلك ، ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب ، أو آية عذاب بآية رحمة" ، وهذا كما في القراءات المشهورة: .
إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا و {إلا أن يُخافا ألا يقيما} .
و {وإن كان مكرهم لتَزول - ولتزول - من الجبال} .
و {بل عجبتُ} و بَلْ عَجِبْتَ . ونحو ذلك .
ومن القراءات ما يكون المعنى فيها: متفقا من وجه ، متباينا من وجه ، كقوله:
{يخدعون} و {يخادعون} .
و {يُكَذِّبون} و {يَكذِبون} .
و {لمستم} و { لامستم } .
حَتَّى يَطْهُرْنَ و {يَطَّهَرْن} .
ونحو ذلك .
فهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلها حق ، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية ، يجب الإيمان بها كلها ، واتباع ما تضمنه من المعنى علمًا وعملا ، لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظنا أن ذلك تعارض ، بل كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " من كفر بحرف منه فقد كفر به كله " .
وأما ما اتحد لفظه ومعناه ، وإنما يتنوع صفة النطق به ، كالهمزات والمدَّات والإمالات ونقل الحركات والإظهار والإدغام والاختلاس وترقيق اللامات والراءات أو تغليظها ، ونحو ذلك مما تسمى القَرَأَة عامته الأصول ، فهذا أظهر وأبين في أنه ليس فيه تناقض ولا تضاد مما تنوع فيه اللفظ أو المعنى .
إذ هذه الصفات المتنوعة في أداء اللفظ لا تخرجه عن أن يكون لفظًا واحدًا ولا يعد ذلك فيما اختلف لفظه واتحد معناه ، أو اختلف معناه من المترادف ونحوه ، ولهذا كان دخول هذا في حرف واحد من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها ؛ مما يتنوع فيه اللفظ أو المعنى وإن وافق رسم المصحف وهو ما يختلف فيه النَقْط أو الشكل .
ولذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتبوعون من السلف والأئمة في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة في جميع أمصار المسلمين ، بل من ثبت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة ، أو قراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي ونحوهما ، كما ثبت عنده قراءة حمزة والكسائي - فله أن يقرأ بها بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع والخلاف .
بل أكثر العلماء الأئمة - الذين أدركوا قراءة [ حمزة ] كسفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل وبشر بن الحارث وغيرهم- يختارون قراءة أبي جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح المدنيين ، وقراءة البصريين كشيوخ يعقوب بن إسحاق وغيرهم - على قراءة حمزة والكسائي . وللعلماء [الأئمة] في ذلك من الكلام ما هو معروف عند العلماء .
ولهذا كان أئمة أهل العراق الذين ثبتت عندهم قراءات العشرة أو الأحد عشر كثبوت هذه السبعة- يجمعون ذلك في الكتب ، ويقرأونه في الصلاة وخارج الصلاة، وذلك متفق عليه بين العلماء لم ينكره أحد منهم .
وأما الذي ذكره القاضي عياض ومن نقل (2 \ أ) من كلامه من الإنكار على ابن شنبوذ الذي كان يقرأ بالشواذ في الصلاة في أثناء المائة الرابعة ، وجرت له قضية مشهورة ، فإنما كان ذلك في القراءات الشاذة الخارجة عن المصحف كما سنبينه .
ولم ينكر أحد من العلماء قراءة العشرة ، ولكن من لم يكن عالما بها ، أو لم تثبت عنده - كمن يكون في بلد من بلاد الإسلام بالمغرب أو غيره ، ولم يتصل به بعض هذه القراءات- فليس له أن يقرأ بما لا يعلمه منها ، [فإن] القراءة - كما قال زيد بن ثابت : سنة يأخذها الآخر عن الأول .
كما أن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع الاستفتاحات في الصلاة ، ومن أنواع صفة الأذان والإقامة وصفة صلاة الخوف وغير ذلك ، كله حسن ، يشرع العمل به لمن علمه .
وأما من علم نوعا ولم يعلم غيره فليس له أن يعدل عما علمه إلى ما لم يعلم ، وليس له أن ينكر على من علم ما لم يعلمه من ذلك ، ولا أن يخالفه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تختلفوا ، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا .
وأما القراءة الشاذة الخارجة عن رسم المصحف العثماني ، مثل قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهما: ( والليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، والذكر والأنثى ) كما قد ثبت ذلك في الصحيحين .
ومثل قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . وكقراءته: (إن كانت إلا زقية واحدة) ونحو ذلك ، فهذه إذا ثبتت عن بعض الصحابة فهل يجوز أن يقرأ بها في الصلاة؟ [ذلك] على قولين للعلماء - هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد - وروايتان عن مالك : :
- إحداهما يجوز ذلك ، لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرأون بهذه الحروف في الصلاة .
- والثانية : لا يجوز ذلك ، وهو قول أكثر العلماء؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن ثبتت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة ، فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم ، أن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل عام مرة ، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين .
والعرضة الآخرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره ، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها في المصاحف ، وكتبها أبو بكر وعمر في خلافة أبي بكر في صحف أمر زيد بن ثابت بكتابتها .
ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار ، وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة علي وغيره .
وهذا النزاع لا بد أن يبنى على الأصل الذي سأل عنه السائل ، وهو أن القراءات السبع: هل هي حرف من الحروف السبعة أو ، لا ؟ . فالذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة أنها حرف من الحروف السبعة ، بل يقولون: إن مصحف عثمان هو أحد الحروف السبعة ، وهو متضمن للعرضة الآخرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل ، والأحاديث (2 \ ب) والآثار المشهورة المستفيضة تدل على هذا القول .
وذهب طوائف من الفقهاء والقراء وأهل الكلام إلى أن هذا المصحف مشتمل على الأحرف السبعة ، وقرر ذلك طوائف من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر بن الباقلاني وغيره ، بناء على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الأحرف السبعة ، وقد اتفقوا على نقل هذا المصحف الإمام العثماني وترك ما سواه ، حيث أمر عثمان بنقل القرآن من الصحف التي كان أبو بكر وعمر كتبا القرآن فيها . ثم أرسل عثمان - بمشاورة الصحابة - إلى كل مصر من أمصار المسلمين بمصحف ، وأمر بترك ما سوى ذلك . قال هؤلاء: ولا يجوز أن ينهى عن القراءة ببعض الأحرف السبعة .
ومن نصر قول الأولين يجيب تارة بما ذكره محمد بن جرير وغيره من أن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبًا على الأمة ، إنما كان جائزا لهم مرخصا لهم فيه ، وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه ، كما أن ترتيب السور لم يكن واجبًا عليهم منصوصًا ، بل مفوضًا إلى اجتهادهم ، ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب مصحف زيد ، وكذلك مصحف غيره ، وأما ترتيب آي السور فهو منزل منصوص عليه ، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية في الرسم كما قدموا سورة على سورة ، لأن ترتيب الآيات مأمور به نصًّا ، وأما ترتيب السور فمفوض إلى اجتهادهم ، قالوا: فكذلك الأحرف السبعة . فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على حرف واحد ، اجتمعوا على ذلك اجتماعًا سائغًا- وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة- ولم يكن في ذلك ترك لواجب ولا فعل لمحظور .
ومن هؤلاء من يقول: إن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام ، لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا ، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة ، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم وهو أرفق بهم- أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الآخرة ، ويقولون: إنه نسخ ما سوى ذلك ، وهؤلاء يوافق قولهم قول من يقول: إن حروف أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهما - مما يخالف رسم هذا المصحف- منسوخة .
وأما من قال عن ابن مسعود : إنه يجوز القراءة بالمعنى ؛ فقد كذب عليه . وإنما قال: "قد نظرت إلى القرأة فرأيت قراءتهم متقاربة ، وإنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال . فاقرءوا كما علمتم " أو كما قال .
فمن جوز القراءة بما يخرج عن المصحف مما ثبت عن الصحابة قال: يجوز ذلك لأنه من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها .
ومن لم يجوزه فله أربعة مآخذ:
- تارة يقول: ليس هو من الحروف السبعة .
- وتارة يقول: هو من الحروف المنسوخة .
- وتارة يقول: هو مما انعقد إجماع الصحابة على الإعراض عنه .
- وتارة يقول: لم ينقل إلينا نقلا يثبت بمثله القرآن .
وهذا هو الفرق بين المتقدمين والمتأخرين (3 \ أ) .
ولهذا كان في المسألة قول ثالث وهو اختيار جدي أبي البركات أنه: إن قرأ بهذه القراءات في القراءة الواجبة - وهي الفاتحة عند القدرة عليها - لم تصح صلاته ، لأنه لم يتيقن أنه أدى الواجب من القراءة ، لعدم ثبوت القرآن بذلك . وإن قرأ بها فيما لا يجب لم تبطل صلاته ، لأنه لم يتيقن أنه أتى في الصلاة بمبطل ، لجواز أن يكون ذلك من الحروف السبعة التي أنزل عليها .
وهذا القول ينبني على أصل ، وهو أن ما لم يثبت كونه من الحروف السبعة فهل يجب القطع بكونه ليس منها؟
فالذي عليه جمهور العلماء أنه لا يجب القطع بذلك ، إذ ليس ذلك مما أوجب علينا أن يكون العلم به في النفي والإثبات قطعيا .
وذهب فريق من أهل الكلام إلى وجوب القطع بنفيه ، حتى قطع بعض هؤلاء كالقاضي أبي بكر بخطأ الشافعي وغيره ممن أثبت البسملة [آية] ، من القرآن في غير سورة النمل لزعمهم أن ما كان من موارد الاجتهاد في القرآن فإنه يجب القطع بنفيه .
والصواب القطع بخطأ هؤلاء ، وأن البسملة آية من كتاب الله حيث كتبها الصحابة في المصحف ؛ إذا لم يكتبوا فيه إلا القرآن وجردوه مما ليس منه كالتخميس والتعشير وأسماء السور . ولكن مع ذلك لا يقال: هي من السورة التي بعدها ، كما [أنها] ليست من السورة التي قبلها ، بل هي كما كتبت - آية أنزلها الله في أول كل سورة وإن لم تكن من السورة ، وهذا أعدل الأقوال الثلاثة في هذه المسألة .
وسواء قيل بالقطع في النفي أو الإثبات ؛ فذلك لا يمنع كونها من موارد الاجتهاد التي لا تكفير ولا تفسيق فيها للنافي ولا للمثبت . بل قد يقال ما قاله طائفة من العلماء: إن كل واحد من القولين حق ، وإنها آية من القرآن في بعض القراءات- وهي قراءة الذين يفصلون بها بين السورتين - وليست آية في بعض القراءات ، وهي قراءة الذين يصلون ولا يفصلون بها
وأما قول السائل: ما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف؟
فهذا مرجعه إلى النقل واللغة العربية لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك كله ، إذ ليس لأحد أن يقرأ برأيه المجرد ، بل القراءة سنة متبعة وهم إذا اتفقوا على اتباع القرآن المكتوب في المصحف الإمام وقد أقرأ بعضهم بالياء وبعضهم بالتاء- لم يكن واحد منهما خارجا عن المصحف .
ومما يوضح ذلك أنهم يتفقون في بعض المواضع على ياء أو تاء ، ويتنوعون في بعض ، كما اتفقوا في قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ في موضع ، وتنوعوا في موضعين .
وقد بينا أن القراءتين كالآيتين ، فزيادة القراءات كزيادة الآيات ، لكن إذا كان الخط واحدا واللفظ محتملا كان ذاك أخصر في الرسم ، والاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب لا على حفظ المصاحف ، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم . فقلت: أي رب إذن يثلغوا رأسي ، فقال: إني مبتليك ومبتل بك ، ومنزل عليك كتابًا لا يغسله الماء ، تقرأه (3 \ ب) نائما ويقظان . فابعث جندا أبعث مثليهم ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، وأنفق أنفق عليك .
فأخبر أن كتابه لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء ، بل يقرأه في كل حال ، كما جاء في نعت أمته: أناجيلهم في صدورهم بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب ولا يقرءونه كله إلا نظرا ، لا عن ظهر قلب .
وقد ثبت في الصحيح أنه جمع القرآن كله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة: كالأربعة الذين من الأنصار ، وكعبد الله بن عمرو ، فتبين بما ذكرناه أن القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم . . ليست هي الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها ، وذلك باتفاق علماء السلف والخلف ، وكذلك ليست هذه القراءات السبع هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها ، باتفاق العلماء المعتبرين ، بل القراءات الثابتة عن أئمة القراءة كالأعمش ويعقوب وخلف وأبي جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح ونحوهم هي بمنزلة القراءات الثابتة عن هؤلاء السبعة ، عند من ثبت ذلك عنده كما ثبت ذلك .
وهذا أيضًا مما لم يتنازع فيه الأئمة المتبوعون من أئمة الفقهاء والقراء وغيرهم ، وإنما تنازع الناس من الخلف في المصحف العثماني الإمام ، الذي أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان والأمة بعدهم- (هل هو بما فيه من قراءة السبعة وتمام العشرة وغير ذلك ، حرف من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها) أو هو مجموع الأحرف السبعة؟ على قولين مشهورين:
- الأول: قول أئمة السلف والعلماء .
- الثاني: قول طوائف من أهل الكلام والقراء وغيرهم .
وهم متفقون على أن الأحرف السبعة لا يخالف بعضها بعضًا خلافا يتضاد فيه المعنى ويتناقض ، بل يصدق بعضها بعضًا كما تصدق الآيات بعضها بعضًا .
وسبب تنوع القراءات فيما احتمله خط المصحف هو تجويز الشارع وتسويغه ذلك لهم ، إذ مرجع ذلك إلى السنة والاتباع لا إلى الرأي والابتداع .
أما إذا قيل: إن ذلك هي الأحرف السبعة فظاهر ، وكذلك بطريق الأولى إذا قيل: إن ذلك حرف من الأحرف السبعة . فإنه إذا كان قد سوغ لهم أن يقرءوه على سبعة أحرف كلها شاف كاف مع تنوع الأحرف في الرسم - فلأن يسوغ ذلك مع اتفاق ذلك في الرسم وتنوعه في اللفظ أولى وأحرى .
وهذا من أسباب تركهم المصاحف - أول ما كتبت - غير مشكولة ولا منقوطة ، لتكون صورة الرسم محتملة لأمرين: كالتاء والياء ، والفتح والضم . وهم يضبطون
المنقولين المسموعين المتلوين - شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المنقولين المعقولين المفهومين .
فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلقوا عنه ما أمره الله بتبليغه إليهم من القرآن لفظه ومعناه جميعًا ، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي .
- وهو الذي روى عن عثمان رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه كما رواه البخاري في صحيحه ، وكان يقرئ القرآن أربعين سنة ، قال : -
"حدثنا الذين كانوا يقرئوننا: عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما ، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل . . قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا" .
ولهذا دخل في معنى قوله : خيركم من تعلم القرآن وعلمه تعليم حروفه ومعانيه جميعا ، بل تعليم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه ، وذلك هو الذي يزيد الإيمان . كما قال جندب بن عبد الله وعبد الله بن عمر (10) وغيرهما:
"تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا ، وإنكم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان " .
وفي الصحيحين عن حذيفة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين ، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر ؛ حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ونزل القرآن . . . وذكر الحديث بطوله ، ولا تتسع هذه الورقة لذكر ذلك .
وإنما المقصود التنبيه على أن ذلك كله مما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس ، وبلغنا أصحابه عنه الإيمان والقرآن حروفه ومعانيه ، وذلك مما أوحاه الله إليه . كما قال تعالى : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا .
وتجوز القراءة في الصلاة وخارجها بالقراءات الثابتة الموافقة لرسم المصحف كما ثبتت هذه القراءات وليست بشاذة حينئذ . والله أعلم بالصواب .
تمت بحمد الله وعونه وحسن توفيقه في يوم الثلاثاء سادس عشرين جماد[ى] الأولى من شهور سنة تسع وخمسين وثمانمائة .

مصادر البحث والتحقيق

* الإبانة عن معاني القراءات . لمكي القيسي . تح د . محيي الدين رمضان . دار المأمون للتراث بدمشق 1399 هـ - 1979 م .
* إبراز المعاني من حرز الأماني لأبي شامة الدمشقي . البابي الحلبي بمصر 1349 هـ.
* الإصابة في تمييز الصحابة . لابن حجر العسقلاني .
الطبعة الأولى - مطبعة السعادة بمصر 1328 هـ .
* الأعلام . للزركلي . الطبعة الثالثة .
* تاريخ بغداد . للخطيب البغدادي . دار الكتاب العربي - بيروت .
* تفسير القرطبي - مصورة عن طبعة دار الكتب .
* التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو الداني . تح أوتوبرتزل ط . استانبول 1930 م .
* السبعة لابن مجاهد . تح د . شوقي ضيف ط . الثانية - دار المعارف بالقاهرة 1400 هـ * الشاطبية . وشرحها للشيخ علي الضباع .
مكتبة صبيح بالقاهرة 1381 هـ - 1961م .
* صحيح البخاري . مصورة الطبعة الأولى 1315 هـ بمصر .
* صحيح مسلم بشرح النووي - المطبعة المصرية ومكتبتها .
* غاية النهاية في طبقات القراء . لابن الجزري . تح . برجستراسر . مصورة الطبعة الأولى 1351م هـ - 1932 .
* كتاب سيبويه . مصورة طبعة بولاق .
* لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني تح الشيخ عامر عثمان ود . عبد الصبور شاهين بالقاهرة 1392 هـ - 1972 .
* لسان العرب لابن منظور . مصورة طبعة بولاق 1300 هـ .
* مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية . جمع وترتيب عبد الرحمن العاصمي وابنه محمد .
مصورة الطبعة الأولى 1398 هـ .
* المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز . لأبي شامة الدمشقي تح طيار آلتي قولاج ط . دار صادر - بيروت 1395 هـ - 1975م .
* مسند الإمام أحمد . مصورة الطبعة الأولى . الميمنية بمصر 1313 هـ .
* منجد المقرئين ومرشد الطالبين . لابن الجزري . مكتبة القدسي 1350 هـ .
* النشر في القراءات العشر . لابن الجزري . تح الشيخ علي الضباع .
* وفيات الأعيان لابن خلكان . تح د . إحسان عباس . دار الثقافة ببيروت .
رسالة لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية أجاب فيها عن أسئلة في علم القراءات حققها وقدم لها الدكتور : محمد علي سلطاني (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثالث عشر - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1405هـ) الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين . وبعد : فإن القراءات القرآنية من أكثر علوم القرآن والعربية أهمية وأجلها شأنا . . أما أهميتها من حيث اللغة فتعود إلى جانبين كبيرين: - أولهما ما تقدمه للباحثين في نشأة اللغات وتطورها وتاريخها من الظواهر اللغوية الحية على اختلاف صنوفها: في الحرف والصوت والكلمة والتركيب . . - وثانيهما ما تقدمه للنحو وفقه اللغة من الشواهد والنماذج مما لا يبلغ بعض شأوه شواهد العربية الأخرى في الشعر والخطب والأمثال والأقوال . . وذلك بسبب مما حظيت به القراءات منذ نشأتها من عناية وضبط وتوثيق . . بالتلقي المتثبت ، والمشافهة الواعية ، والرواية المتواترة أو النقل المستفيض ، والتدوين المقرون بالوصف الدقيق والأسانيد المدروسة الموثوقة . . وأما رفعة شأنها فلارتباطها بالقرآن العظيم منهاج المتقين ومعراج المرتقين ، مصداقًا لقوله عليه الصلاة والسلام: خيركم من تعلم القرآن وعلمه . غير أن هذا الميدان الجليل بما اتسم به من الغنى اللغوي الفريد ، نتيجة التيسير الذي عبر عنه الحديث النبوي : أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه ؛ أثار قدرًا غير قليل من القضايا التي ارتبطت بعلم القراءات ، وغدت مع الزمن أقرب إلى المشكلات ، فشغلت العلماء والباحثين عبر القرون - وما يزال بعضها يشغلهم- للوصول إلى المعرفة اليقينية بشأنها . . من ذلك قولهم: ما تفسير الأحرف السبعة؟ أهي للتكثير أم لتحديد؟ وإن كانت الأخيرة فما المقصود بها على الدقة أهي القبائل أم الطرائق أم الظواهر؟ ما مدى شيوع التواتر بين القراءات ، أهو مقصور على السبع أم العشر أم ما فوق ذلك؟ أهي سواء في الفصاحة أم أن بينها فصيحًا وأفصح؟ ما موقف النحو والقياس من هذا التفاوت في الفصاحة؟ . . هذه وغيرها أسئلة كثيرة تتردد بينهم لا تفتر ، تبحث لها عن الجواب الأخير . وقد أحدث اختلاف القراءات وتعددها حركة علمية مباركة ، أسفرت عن أعداد من مجموعات الكتب القيمة . . بدأت بكتب جمعت القراءات ، فأخرى نهضت بالاحتجاج لها بلغة العرب ، وثالثة وصفت مرسوم مصاحف الأمصار ، ورابعة اهتمت بالنقط والشكل . . وبقي في الميدان زوايا يلفها بعض الغموض والاختلاف وتباين الآراء ، مما تعد رسالة شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية الآتي نصها حلقة في سلسلة الردود على تساؤلات الباحثين عن الحقيقة ، حيث أجاب فيها عن عدد من هذه التساؤلات . أما الرسالة فهي واحدة مما تضمه مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض من نفائس المخطوطات ، وتقع في سبع صفحات تضمها أربع ورقات ضمن مجموع يحمل رقم 3653 \ ف مصور عن الأصل في مكتبة تشستربتي ، كتبه بخط نسخي دقيق علي عبد الله الغزي سنة 859 هـ . ومما يعد نسخة قيمة أخرى لهذا النص ، ما تم نشره بعنوان (فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ) جـ13 \ 389- 404 فقد ضم الفاضل الشيخ عبد الرحمن العاصمي هذا النص إلى الكتاب بوصفه إحدى الفتاوى التي صدرت عن شيخ الإسلام آنذاك . . وقد أفدت منه في تصويب المواضع التي تأثرت بالرطوبة في الأصل لديّ . ولم يذكر الشيخ العاصمي مصادره ، غير أن الاختلاف الطفيف في بعض ألفاظ النصين يثبت أنه نسخة أخرى لهذه الرسالة ، مما تجد ثماره وأثره في المتن وبعض حواشي التحقيق . ومما يعد طرفا في هذا التوثيق نقول مطولة لمقاطع تامة من هذا النص ، احتج بها ابن الجزري مقرونة بنسبتها إلى ابن تيمية في كتابه (النشر في القراءات العشر 1 \ 39 وما بعدها) مما تجد الإشارة إليه في مواضعه بعد . وتبدأ الرسالة بالبسملة والدعاء فالنص على الأثر بلا عنوان يتقدمه ، ولا ضير في هذا ، لأن النص نفسه وما ورد فيه من عبارات صريحة أدلة ناصعة على صحة نسبته إلى الشيخ الإمام ابن تيمية ، مما يطالع القارئ منذ السطور الأولى . وقد لقيت هذه الرسالة من عناية العلماء عبر القرون ما يبدو أثره في الخاتم الرابض في نهايتها ، وجاء في نقشه للواقف ما نصه: "وقف سيد يوسف فضل الله ، إمام جامع سلطان محمد خان ، للولاة وللمدرسين المتأهلين ، في جامع المزبور 1145 " . أما مؤلف الرسالة فغني عن التعريف ، فهو أبرز قوة فاعلة في صياغة الحياة في دولة المماليك في القرن الثامن الهجري بميادينها: العلمية والفكرية والعامة . . مما تجده مبسوطا في مظانه ، وتؤكده مئات الكتب والرسائل التي كتبها بخطه في معالجة قضايا عصره ، رافعًا بقوة صوت الدين وموقفه منها ، مما يتأبى على الحصر " فكان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن ، وحكم أن أحدًا لا يعرف مثله " . ومات رحمه الله معتقلا بقلعة دمشق سنة 728 هـ ، فخرجت دمشق كلها في جنازته رضي الله تعالى عنه وأرضاه . النص المحقق (1 \ أ) بسم الله الرحمن الرحيم ، رب يسر ما يقول سيدي الشيخ- جمع الله له خير الدنيا والآخرة- في قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف . - ما المراد بهذه السبعة ؟ - وهل هذه القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم وغيرهما هي الأحرف السبعة أو واحد منها ؟ - وما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف؟ - وهل تجوز القراءة برواية الأعمش وابن محيصن وغيرهما من القراءات الشاذة أو لا . - وإذا جازت القراءة بها ، فهل تجوز الصلاة بها أو لا ؟ أفتونا مأجورين . أجاب ( الشيخ تقي الدين بن تيمية ) : . الحمد لله رب العالمين . هذه مسألة كبيرة ، فقد تكلم فيها أصناف العلماء من الفقهاء والقراء وأهل الحديث والتفسير والكلام وشرح الغريب وغيرهم حتى صنف فيها التصنيف المفرد ، ومن آخر ما أفرد في ذلك ما صنفه الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي المعروف بأبي شامة صاحب شرح الشاطبية . فأما ذكر أقاويل الناس وأدلتهم وتقرير الحق فيها مبسوطًا ؛ فيحتاج من ذكر الأحاديث الواردة في ذلك وذكر ألفاظها وسائر الأدلة ، إلى ما لا يتسع له هذا المكان . . ولا يليق بمثل هذا الجواب ، ولكن نذكر النكت الجامعة التي تنبه على المقصود بالجواب ، فنقول: لا نزاع بين العلماء المعتبرين بأن الأحرف السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها ليست هي قراءات القراء السبعة المشهورة ، بل أول من جمع قراءات هؤلاء هو الإمام أبو بكر بن مجاهد ، وكان على رأس المائة الثالثة ببغداد ، فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات: الحرمين والعراقين والشام ، إذ هذه الأمصار الخمسة [هي] التي خرج منها علم النبوة: من القرآن وتفسيره ، والحديث ، والفقه في الأعمال الباطنة والظاهرة ، وسائر العلوم الدينية . فلما أراد ذلك ، جمع قراءات سبعة مشاهير من أئمة قراء هذه الأمصار ، ليكون ذلك موافقًا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن ، لا لاعتقاده أو اعتماد غيره من العلماء أن القراءات السبع هي الحروف السبعة ، أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم . ولهذا قال من قال من أئمة القراء: لولا أن ابن مجاهد سبقني إلى حمزة لجعلت مكانه يعقوب الحضرمي إمام جامع البصرة ، وإمام قراء البصرة في زمانه في رأس المئتين . [و] لا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده ، بل قد يكون معناهما متفقًا أو متقاربًا . كما قال عبد الله بن مسعود : "إنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال " . وقد يكون معنى أحدهما ليس هو معنى الآخر ، لكن كلا المعنيين حق ، وهذا اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض . وهذا كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى (1 \ ب) الله عليه وسلم في هذا ، حديث: أنزل القرآن على سبعة أحرف : إن قلت : غفورا رحيما ، أو قلت : عزيزا حكيما ؛ فالله كذلك ، ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب ، أو آية عذاب بآية رحمة" ، وهذا كما في القراءات المشهورة: . إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا و {إلا أن يُخافا ألا يقيما} . و {وإن كان مكرهم لتَزول - ولتزول - من الجبال} . و {بل عجبتُ} و بَلْ عَجِبْتَ . ونحو ذلك . ومن القراءات ما يكون المعنى فيها: متفقا من وجه ، متباينا من وجه ، كقوله: {يخدعون} و {يخادعون} . و {يُكَذِّبون} و {يَكذِبون} . و {لمستم} و { لامستم } . حَتَّى يَطْهُرْنَ و {يَطَّهَرْن} . ونحو ذلك . فهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلها حق ، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية ، يجب الإيمان بها كلها ، واتباع ما تضمنه من المعنى علمًا وعملا ، لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظنا أن ذلك تعارض ، بل كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " من كفر بحرف منه فقد كفر به كله " . وأما ما اتحد لفظه ومعناه ، وإنما يتنوع صفة النطق به ، كالهمزات والمدَّات والإمالات ونقل الحركات والإظهار والإدغام والاختلاس وترقيق اللامات والراءات أو تغليظها ، ونحو ذلك مما تسمى القَرَأَة عامته الأصول ، فهذا أظهر وأبين في أنه ليس فيه تناقض ولا تضاد مما تنوع فيه اللفظ أو المعنى . إذ هذه الصفات المتنوعة في أداء اللفظ لا تخرجه عن أن يكون لفظًا واحدًا ولا يعد ذلك فيما اختلف لفظه واتحد معناه ، أو اختلف معناه من المترادف ونحوه ، ولهذا كان دخول هذا في حرف واحد من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها ؛ مما يتنوع فيه اللفظ أو المعنى وإن وافق رسم المصحف وهو ما يختلف فيه النَقْط أو الشكل . ولذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتبوعون من السلف والأئمة في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة في جميع أمصار المسلمين ، بل من ثبت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة ، أو قراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي ونحوهما ، كما ثبت عنده قراءة حمزة والكسائي - فله أن يقرأ بها بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع والخلاف . بل أكثر العلماء الأئمة - الذين أدركوا قراءة [ حمزة ] كسفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل وبشر بن الحارث وغيرهم- يختارون قراءة أبي جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح المدنيين ، وقراءة البصريين كشيوخ يعقوب بن إسحاق وغيرهم - على قراءة حمزة والكسائي . وللعلماء [الأئمة] في ذلك من الكلام ما هو معروف عند العلماء . ولهذا كان أئمة أهل العراق الذين ثبتت عندهم قراءات العشرة أو الأحد عشر كثبوت هذه السبعة- يجمعون ذلك في الكتب ، ويقرأونه في الصلاة وخارج الصلاة، وذلك متفق عليه بين العلماء لم ينكره أحد منهم . وأما الذي ذكره القاضي عياض ومن نقل (2 \ أ) من كلامه من الإنكار على ابن شنبوذ الذي كان يقرأ بالشواذ في الصلاة في أثناء المائة الرابعة ، وجرت له قضية مشهورة ، فإنما كان ذلك في القراءات الشاذة الخارجة عن المصحف كما سنبينه . ولم ينكر أحد من العلماء قراءة العشرة ، ولكن من لم يكن عالما بها ، أو لم تثبت عنده - كمن يكون في بلد من بلاد الإسلام بالمغرب أو غيره ، ولم يتصل به بعض هذه القراءات- فليس له أن يقرأ بما لا يعلمه منها ، [فإن] القراءة - كما قال زيد بن ثابت : سنة يأخذها الآخر عن الأول . كما أن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع الاستفتاحات في الصلاة ، ومن أنواع صفة الأذان والإقامة وصفة صلاة الخوف وغير ذلك ، كله حسن ، يشرع العمل به لمن علمه . وأما من علم نوعا ولم يعلم غيره فليس له أن يعدل عما علمه إلى ما لم يعلم ، وليس له أن ينكر على من علم ما لم يعلمه من ذلك ، ولا أن يخالفه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تختلفوا ، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا . وأما القراءة الشاذة الخارجة عن رسم المصحف العثماني ، مثل قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهما: ( والليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، والذكر والأنثى ) كما قد ثبت ذلك في الصحيحين . ومثل قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . وكقراءته: (إن كانت إلا زقية واحدة) ونحو ذلك ، فهذه إذا ثبتت عن بعض الصحابة فهل يجوز أن يقرأ بها في الصلاة؟ [ذلك] على قولين للعلماء - هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد - وروايتان عن مالك : : - إحداهما يجوز ذلك ، لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرأون بهذه الحروف في الصلاة . - والثانية : لا يجوز ذلك ، وهو قول أكثر العلماء؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن ثبتت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة ، فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم ، أن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل عام مرة ، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين . والعرضة الآخرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره ، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها في المصاحف ، وكتبها أبو بكر وعمر في خلافة أبي بكر في صحف أمر زيد بن ثابت بكتابتها . ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار ، وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة علي وغيره . وهذا النزاع لا بد أن يبنى على الأصل الذي سأل عنه السائل ، وهو أن القراءات السبع: هل هي حرف من الحروف السبعة أو ، لا ؟ . فالذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة أنها حرف من الحروف السبعة ، بل يقولون: إن مصحف عثمان هو أحد الحروف السبعة ، وهو متضمن للعرضة الآخرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل ، والأحاديث (2 \ ب) والآثار المشهورة المستفيضة تدل على هذا القول . وذهب طوائف من الفقهاء والقراء وأهل الكلام إلى أن هذا المصحف مشتمل على الأحرف السبعة ، وقرر ذلك طوائف من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر بن الباقلاني وغيره ، بناء على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الأحرف السبعة ، وقد اتفقوا على نقل هذا المصحف الإمام العثماني وترك ما سواه ، حيث أمر عثمان بنقل القرآن من الصحف التي كان أبو بكر وعمر كتبا القرآن فيها . ثم أرسل عثمان - بمشاورة الصحابة - إلى كل مصر من أمصار المسلمين بمصحف ، وأمر بترك ما سوى ذلك . قال هؤلاء: ولا يجوز أن ينهى عن القراءة ببعض الأحرف السبعة . ومن نصر قول الأولين يجيب تارة بما ذكره محمد بن جرير وغيره من أن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبًا على الأمة ، إنما كان جائزا لهم مرخصا لهم فيه ، وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه ، كما أن ترتيب السور لم يكن واجبًا عليهم منصوصًا ، بل مفوضًا إلى اجتهادهم ، ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب مصحف زيد ، وكذلك مصحف غيره ، وأما ترتيب آي السور فهو منزل منصوص عليه ، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية في الرسم كما قدموا سورة على سورة ، لأن ترتيب الآيات مأمور به نصًّا ، وأما ترتيب السور فمفوض إلى اجتهادهم ، قالوا: فكذلك الأحرف السبعة . فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على حرف واحد ، اجتمعوا على ذلك اجتماعًا سائغًا- وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة- ولم يكن في ذلك ترك لواجب ولا فعل لمحظور . ومن هؤلاء من يقول: إن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام ، لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا ، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة ، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم وهو أرفق بهم- أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الآخرة ، ويقولون: إنه نسخ ما سوى ذلك ، وهؤلاء يوافق قولهم قول من يقول: إن حروف أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهما - مما يخالف رسم هذا المصحف- منسوخة . وأما من قال عن ابن مسعود : إنه يجوز القراءة بالمعنى ؛ فقد كذب عليه . وإنما قال: "قد نظرت إلى القرأة فرأيت قراءتهم متقاربة ، وإنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال . فاقرءوا كما علمتم " أو كما قال . فمن جوز القراءة بما يخرج عن المصحف مما ثبت عن الصحابة قال: يجوز ذلك لأنه من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها . ومن لم يجوزه فله أربعة مآخذ: - تارة يقول: ليس هو من الحروف السبعة . - وتارة يقول: هو من الحروف المنسوخة . - وتارة يقول: هو مما انعقد إجماع الصحابة على الإعراض عنه . - وتارة يقول: لم ينقل إلينا نقلا يثبت بمثله القرآن . وهذا هو الفرق بين المتقدمين والمتأخرين (3 \ أ) . ولهذا كان في المسألة قول ثالث وهو اختيار جدي أبي البركات أنه: إن قرأ بهذه القراءات في القراءة الواجبة - وهي الفاتحة عند القدرة عليها - لم تصح صلاته ، لأنه لم يتيقن أنه أدى الواجب من القراءة ، لعدم ثبوت القرآن بذلك . وإن قرأ بها فيما لا يجب لم تبطل صلاته ، لأنه لم يتيقن أنه أتى في الصلاة بمبطل ، لجواز أن يكون ذلك من الحروف السبعة التي أنزل عليها . وهذا القول ينبني على أصل ، وهو أن ما لم يثبت كونه من الحروف السبعة فهل يجب القطع بكونه ليس منها؟ فالذي عليه جمهور العلماء أنه لا يجب القطع بذلك ، إذ ليس ذلك مما أوجب علينا أن يكون العلم به في النفي والإثبات قطعيا . وذهب فريق من أهل الكلام إلى وجوب القطع بنفيه ، حتى قطع بعض هؤلاء كالقاضي أبي بكر بخطأ الشافعي وغيره ممن أثبت البسملة [آية] ، من القرآن في غير سورة النمل لزعمهم أن ما كان من موارد الاجتهاد في القرآن فإنه يجب القطع بنفيه . والصواب القطع بخطأ هؤلاء ، وأن البسملة آية من كتاب الله حيث كتبها الصحابة في المصحف ؛ إذا لم يكتبوا فيه إلا القرآن وجردوه مما ليس منه كالتخميس والتعشير وأسماء السور . ولكن مع ذلك لا يقال: هي من السورة التي بعدها ، كما [أنها] ليست من السورة التي قبلها ، بل هي كما كتبت - آية أنزلها الله في أول كل سورة وإن لم تكن من السورة ، وهذا أعدل الأقوال الثلاثة في هذه المسألة . وسواء قيل بالقطع في النفي أو الإثبات ؛ فذلك لا يمنع كونها من موارد الاجتهاد التي لا تكفير ولا تفسيق فيها للنافي ولا للمثبت . بل قد يقال ما قاله طائفة من العلماء: إن كل واحد من القولين حق ، وإنها آية من القرآن في بعض القراءات- وهي قراءة الذين يفصلون بها بين السورتين - وليست آية في بعض القراءات ، وهي قراءة الذين يصلون ولا يفصلون بها وأما قول السائل: ما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف؟ فهذا مرجعه إلى النقل واللغة العربية لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك كله ، إذ ليس لأحد أن يقرأ برأيه المجرد ، بل القراءة سنة متبعة وهم إذا اتفقوا على اتباع القرآن المكتوب في المصحف الإمام وقد أقرأ بعضهم بالياء وبعضهم بالتاء- لم يكن واحد منهما خارجا عن المصحف . ومما يوضح ذلك أنهم يتفقون في بعض المواضع على ياء أو تاء ، ويتنوعون في بعض ، كما اتفقوا في قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ في موضع ، وتنوعوا في موضعين . وقد بينا أن القراءتين كالآيتين ، فزيادة القراءات كزيادة الآيات ، لكن إذا كان الخط واحدا واللفظ محتملا كان ذاك أخصر في الرسم ، والاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب لا على حفظ المصاحف ، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم . فقلت: أي رب إذن يثلغوا رأسي ، فقال: إني مبتليك ومبتل بك ، ومنزل عليك كتابًا لا يغسله الماء ، تقرأه (3 \ ب) نائما ويقظان . فابعث جندا أبعث مثليهم ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، وأنفق أنفق عليك . فأخبر أن كتابه لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء ، بل يقرأه في كل حال ، كما جاء في نعت أمته: أناجيلهم في صدورهم بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب ولا يقرءونه كله إلا نظرا ، لا عن ظهر قلب . وقد ثبت في الصحيح أنه جمع القرآن كله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة: كالأربعة الذين من الأنصار ، وكعبد الله بن عمرو ، فتبين بما ذكرناه أن القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم . . ليست هي الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها ، وذلك باتفاق علماء السلف والخلف ، وكذلك ليست هذه القراءات السبع هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها ، باتفاق العلماء المعتبرين ، بل القراءات الثابتة عن أئمة القراءة كالأعمش ويعقوب وخلف وأبي جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح ونحوهم هي بمنزلة القراءات الثابتة عن هؤلاء السبعة ، عند من ثبت ذلك عنده كما ثبت ذلك . وهذا أيضًا مما لم يتنازع فيه الأئمة المتبوعون من أئمة الفقهاء والقراء وغيرهم ، وإنما تنازع الناس من الخلف في المصحف العثماني الإمام ، الذي أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان والأمة بعدهم- (هل هو بما فيه من قراءة السبعة وتمام العشرة وغير ذلك ، حرف من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها) أو هو مجموع الأحرف السبعة؟ على قولين مشهورين: - الأول: قول أئمة السلف والعلماء . - الثاني: قول طوائف من أهل الكلام والقراء وغيرهم . وهم متفقون على أن الأحرف السبعة لا يخالف بعضها بعضًا خلافا يتضاد فيه المعنى ويتناقض ، بل يصدق بعضها بعضًا كما تصدق الآيات بعضها بعضًا . وسبب تنوع القراءات فيما احتمله خط المصحف هو تجويز الشارع وتسويغه ذلك لهم ، إذ مرجع ذلك إلى السنة والاتباع لا إلى الرأي والابتداع . أما إذا قيل: إن ذلك هي الأحرف السبعة فظاهر ، وكذلك بطريق الأولى إذا قيل: إن ذلك حرف من الأحرف السبعة . فإنه إذا كان قد سوغ لهم أن يقرءوه على سبعة أحرف كلها شاف كاف مع تنوع الأحرف في الرسم - فلأن يسوغ ذلك مع اتفاق ذلك في الرسم وتنوعه في اللفظ أولى وأحرى . وهذا من أسباب تركهم المصاحف - أول ما كتبت - غير مشكولة ولا منقوطة ، لتكون صورة الرسم محتملة لأمرين: كالتاء والياء ، والفتح والضم . وهم يضبطون المنقولين المسموعين المتلوين - شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المنقولين المعقولين المفهومين . فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلقوا عنه ما أمره الله بتبليغه إليهم من القرآن لفظه ومعناه جميعًا ، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي . - وهو الذي روى عن عثمان رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه كما رواه البخاري في صحيحه ، وكان يقرئ القرآن أربعين سنة ، قال : - "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا: عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما ، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل . . قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا" . ولهذا دخل في معنى قوله : خيركم من تعلم القرآن وعلمه تعليم حروفه ومعانيه جميعا ، بل تعليم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه ، وذلك هو الذي يزيد الإيمان . كما قال جندب بن عبد الله وعبد الله بن عمر (10) وغيرهما: "تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا ، وإنكم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان " . وفي الصحيحين عن حذيفة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين ، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر ؛ حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ونزل القرآن . . . وذكر الحديث بطوله ، ولا تتسع هذه الورقة لذكر ذلك . وإنما المقصود التنبيه على أن ذلك كله مما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس ، وبلغنا أصحابه عنه الإيمان والقرآن حروفه ومعانيه ، وذلك مما أوحاه الله إليه . كما قال تعالى : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا . وتجوز القراءة في الصلاة وخارجها بالقراءات الثابتة الموافقة لرسم المصحف كما ثبتت هذه القراءات وليست بشاذة حينئذ . والله أعلم بالصواب . تمت بحمد الله وعونه وحسن توفيقه في يوم الثلاثاء سادس عشرين جماد[ى] الأولى من شهور سنة تسع وخمسين وثمانمائة . مصادر البحث والتحقيق * الإبانة عن معاني القراءات . لمكي القيسي . تح د . محيي الدين رمضان . دار المأمون للتراث بدمشق 1399 هـ - 1979 م . * إبراز المعاني من حرز الأماني لأبي شامة الدمشقي . البابي الحلبي بمصر 1349 هـ. * الإصابة في تمييز الصحابة . لابن حجر العسقلاني . الطبعة الأولى - مطبعة السعادة بمصر 1328 هـ . * الأعلام . للزركلي . الطبعة الثالثة . * تاريخ بغداد . للخطيب البغدادي . دار الكتاب العربي - بيروت . * تفسير القرطبي - مصورة عن طبعة دار الكتب . * التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو الداني . تح أوتوبرتزل ط . استانبول 1930 م . * السبعة لابن مجاهد . تح د . شوقي ضيف ط . الثانية - دار المعارف بالقاهرة 1400 هـ * الشاطبية . وشرحها للشيخ علي الضباع . مكتبة صبيح بالقاهرة 1381 هـ - 1961م . * صحيح البخاري . مصورة الطبعة الأولى 1315 هـ بمصر . * صحيح مسلم بشرح النووي - المطبعة المصرية ومكتبتها . * غاية النهاية في طبقات القراء . لابن الجزري . تح . برجستراسر . مصورة الطبعة الأولى 1351م هـ - 1932 . * كتاب سيبويه . مصورة طبعة بولاق . * لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني تح الشيخ عامر عثمان ود . عبد الصبور شاهين بالقاهرة 1392 هـ - 1972 . * لسان العرب لابن منظور . مصورة طبعة بولاق 1300 هـ . * مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية . جمع وترتيب عبد الرحمن العاصمي وابنه محمد . مصورة الطبعة الأولى 1398 هـ . * المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز . لأبي شامة الدمشقي تح طيار آلتي قولاج ط . دار صادر - بيروت 1395 هـ - 1975م . * مسند الإمام أحمد . مصورة الطبعة الأولى . الميمنية بمصر 1313 هـ . * منجد المقرئين ومرشد الطالبين . لابن الجزري . مكتبة القدسي 1350 هـ . * النشر في القراءات العشر . لابن الجزري . تح الشيخ علي الضباع . * وفيات الأعيان لابن خلكان . تح د . إحسان عباس . دار الثقافة ببيروت .
0