النسخ في القرآن الكريم
إعداد : الشيخ عبد الله بن حمد بن عبد الله الشبانة
الأمين العام المساعد لهيئة كبار العلماء
(مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد التاسع والعشرون - الإصدار : من ذو القعدة إلى صفر لسنة 1410هـ 1411هــ)
مقدمة
الحمد لله الملك الحق المبين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد : فإن خير الكلام كلام الله جل جلاله ، وأحسن الحديث حديثه عز وجل ، فلا غرو إذًا أن يكون الاشتغال به تَعَلُّما وتعليما ودراسة وتَفَهُّما أشرف ما عمرت به الأوقات ، وأعظم ما اشتغل به الأفراد والجماعات ؛ ذلك أنه الدليل إلى كل خير ، والعاصم من كل شر ؛ لأنه حبل الله المتين الذي من تمسك به نجا وسعد في الدارين ، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكا ، ويحشر يوم القيامة أعمى ، فيكون نصيبه والعياذ بالله خسارة الحال وخسارة المآل . وقد اشتغل بكتاب الله الكريم وتفسيره وسائر علومه نفر غير قليل من العلماء قديما وحديثا فألَّفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة ، وكتبوا البحوث المستفيضة في تفسير كلام الله تبارك وتعالى ، وإيضاح مبهمه وتفصيل مجمله ، وشرح ألفاظه وبيان معانيه ، واستنباط الأحكام من آياته وبيان ناسخه ومنسوخه ومكيه ومدنيه ، وغير ذلك مما يندرج تحت ما يسمى بعلوم القرآن الكريم .
وقد عدَّ الدكتور حاتم صالح الضامن محقق كتاب ( الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى ) لقتادة بن دعامة السدوسي واحدا وسبعين مؤلَّفا في هذا الباب مما يدل على عظم شأن هذا العلم من علوم كتاب الله العزيز ، وأنه مدخل من أهم مداخل تفسيره ، والبحث في لجته والغوص في أعماقه .
يدل على ذلك ما ذكره العلماء اتفاقا من أن معرفة هذا العلم واجبة على كل من تصدى لتفسير القرآن الكريم ، أو استنباط الأحكام منه ، أو تصدى للإفتاء أو للقضاء بين الناس ؛ لئلا يوجب على خلق الله ما لم يوجبه الله عليهم ، أو يسقط عنهم أمرا أوجبه عليهم . فقد روى ابن عبد البر بسنده عن يحيى بن أكثم قال : ( ليس من العلوم كلها علم هو واجب على العلماء وعلى المتعلمين وعلى كافة المسلمين من علم ناسخ القرآن ومنسوخه ؛ لأن الأخذ بناسخه واجب فرضا ، والعمل به واجب ديانة ، والمنسوخ لا يعمل به ولا ينتهى إليه ، فالواجب على كل عالم علم ذلك ؛ لئلا يوجب على نفسه وعلى عباد الله أمرا لم يوجبه الله ، أو يضع عنهم فرضا أوجبه الله ) اهـ .
وقال الإمام العلامة مكي بن أبي طالب القيسي في كتابه ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) ص 45 ( نشر دار المنارة ) : ( وإن من آكد ما عني أهل العلم والقرآن بفهمه وحفظه والنظر فيه من علوم القرآن ، وسارعوا إلى البحث عن فهمه وعلمه وأصوله علم ناسخ القرآن ومنسوخه ، فهو علم لا يسع كل من تعلق بأدنى علم من علوم الديانة جهله ) . اهـ .
وقد قال علي رضي الله عنه : ( لا يفتي الناس إلا من عرف الناسخ والمنسوخ ) . وروي عنه رضي الله عنه أنه دخل المسجد فرأى رجلا يُذكّر الناس فقال له : أتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا . قال : فاخرج من مسجدنا ولا تُذكّر فيه . وفي لفظ آخر أنه قال له : من أنت ؟ قال : أنا أبو يحيى قال : بل أنت أبو اعرفوني وجاء عنه في خبر آخر أنه رضي الله عنه مر بقاضٍ فقال له : أتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالحكمة في قوله تعالى : يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ هو معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره ونحو ذلك وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي ( ابن راهويه ) رحمه الله : ( من لم يعرف الصحيح والسقيم من الحديث والناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة لم يكن عالما ) وقال أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله فيمن يتصدر لمهمة الإفتاء : ( لا يحل له أن يفتي حتى يعرف أحكام الكتاب والسنة والناسخ والمنسوخ وأقاويل الصحابة والمتشابه ووجوه الكلام ) .
فمن ذلك تظهر لنا قيمة هذا العلم وأهميته البالغة لعموم المسلمين ، ولمن تصدى منهم لتفسير كتاب الله أو للقضاء ، أو لفتيا على وجه الخصوص ؛ إذ حاجة هؤلاء إليه أمس ، وضرورة إحاطتهم به أشد .
وسأحاول في هذه العجالة المتمثلة في هذا البحث المتواضع عن ( النسخ في القرآن الكريم ) أن ألم بكامل الموضوع إلمامة عجلى ، فأوضح معنى النسخ في اللغة وفي الاصطلاح ، ثم أذكر الفرق بينه وبين التخصيص . ثم أشير إلى شروط النسخ التي ذكرها العلماء ، ثم أعرج على بيان آراء العلماء في حكم النسخ ووقوعه أصلا من عدمه ، مع مناقشتها وترجيح ما يترجح لدي منهما . بعد ذلك سأورد تفسيرا تحليليا للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم . ثم أبين ما يقع فيه النسخ في القرآن ، ثم أتحدث عن أنواع النسخ في القرآن الكريم ، مختتما ذلك بإيراد أمثلة للنسخ في القرآن ، وأمثلة لما قيل أنه نسخ وليس كذلك ، جاعلا الحديث عن كل قسم من ذلك في فصل مستقل إيضاحا له ، وتركيزا عليه ، وفي نهاية البحث سأورد خاتمة له تتضمن نتائج البحث وخلاصة له .
وأرجو من الله سبحانه العون وأستمد التوفيق . وهو المسئول سبحانه أن يعلمنا ما ينفعنا ، وأن ينفعنا بما علمنا ، وأن يزيدنا من لدنه علما .
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الفصل الأول
النسخ لغة واصطلاحا
قال الجوهري في الصحاح : نسخت الشمس الظل وانتسخته : أزالته ونسخت الريح آثار الدار : غيرتها ونسختُ الكتاب وانتسختُه واستنسختُه كله بمعنى . والنسخة بالضم : اسم المنتسخ منه ، ونسخ الآية بالآية إزالة مثل حكمها ، فالثانية ناسخة والأولى منسوخة ، والتناسخ في الميراث : أن يموت ورثة بعد ورثة ، وأصل الميراث قائم لم يقسم اهـ .
وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة : النون والسين والخاء أصل واحد إلا أنه مختلف في قياسه . قال قوم : قياسه رفع شيء وإثبات غيره مكانه وقال آخرون : قياسه تحويل شيء إلى شيء : قالوا : النسخ : نسخ الكتاب والنسخ : أمر كان يعمل به من قبل ثم ينسخ بحادث غيره كالآية ينزل فيها أمر ثم تنسخ بآية أخرى . وكل شيء خلف شيئا فقد انتسخه وانتسخت الشمس الظل والشيب الشباب . وتناسخ الورثة : أن يموت ورثة بعد ورثة وأصل الإرث قائم لم يقسم ، ومنه تناسخ الأزمنة والقرون .
قال السجستاني : النسخ : أن تحول ما في الخلية من العسل والنحل في أخرى قال ومنه نسخ الكتاب اهـ .
وجاء في المعجم الوسيط الذي وضعه مجمع اللغة العربية بالقاهرة في مادة نسخ : نسخ الشيء نسخا أزاله يقال : نسخت الريح آثار الديار ونسخت الشمس الظل ونسخ الشيب الشباب . ويقال : نسخ الله الآية : أزال حكمها وفي التنزيل العزيز مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ويقال : نسخ الحاكم الحكم أو القانون : أبطله . والكتاب : نقله وكتبه حرفا بحرف .
انتسخ الشيء : نسخه والكتاب نسخه وتناسخ الشيئان : نسخ أحدهما الآخر يقال : أبلاه تناسخ الملوين . وتناسخت الأشياء : تداولت فكان بعضها مكان بعض . . . إلى آخر ما قال في ذلك مما لا يعنينا إيراده هنا .
وجاء في المصباح المنير للمقري الفيومي في مادة نسخ . قوله : نسخت الكتاب نسخا من باب نفع : نقلته ، وانتسخته كذلك ، ثم نقل عن ابن فارس قوله المتقدم : إن كل شيء خلف شيئا فقد انتسخه . إلى أن قال المقري : و( النسخ ) الشرعي إزالة ما كان ثابتا بنص شرعي ، ويكون في اللفظ والحكم وفي أحدهما ، سواء فُعل كما في أكثر الأحكام أو لم يُفعل كنسخ ذبح إسماعيل بالفداء ؛ لأن الخليل عليه السلام أمر بذبحه ثم ( نسخ ) قبل وقوع الفعل . إلى آخر ما أورده مما مر ذكره فيما قدمنا .
وعلى هذا فيكون معنى النسخ في اللغة دائرا حول ثلاثة أوجه :
أولها : أن يكون بمعنى النقل ( نسخت الكتاب ) أي نقلت ما فيه إلى كتاب آخر فهذا لم يغير المنسوخ منه وإنما صار نظيرا له أي نسخة ثانية منه ، وهو بهذا المعنى لا يدخل في النسخ الذي هو موضوع بحثنا .
وثانيها : أن يكون بمعنى الإزالة وحلول المزيل محل المزال كقولهم ( نسخت الشمس الظل ) إذا أزالته وحلت محله ، وهذا المعنى هو الذي يدخل في موضوع ناسخ القرآن ومنسوخه الذي هو مدار بحثنا .
وثالثها : أن يكون بمعنى الإزالة مع عدم حلول المزيل محل المزال فكأنه بمعنى المحو كقولهم ( نسخت الريح الآثار ) إذا أزالتها فلم يبق منها عوض ولا حلت الريح محل الآثار فهذا هو معنى النسخ في اللغة وأما في الاصطلاح فإن معناه ( رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ) ، فالحكم المرفوع يسمى ( المنسوخ ) والدليل الرافع له يسمى ( الناسخ ) ، ويسمى الرفع ( النسخ ) ، فالنسخ إذا يقتضي ( منسوخا ) وهو الحكم الذي كان مقررا سابقا وهو الدليل اللاحق .
وعرف الإمام العلامة مكي بن أبي طالب النسخ في الاصطلاح بأنه ( إزالة حكم المنسوخ كله بغير حرف متوسط ببدل حكم آخر أو بغير بدل في وقت معين فهو بيان الأزمان التي انتهى إليها العمل بالفرض الأول ، ومنها ابتدأ الفرض الثاني الناسخ للأول ) وعرفه العلامة عبد القاهر البغدادي بقوله ( وقال أصحابنا : إن النسخ بيان انتهاء مدة التعبد ) وعرفه ابن حزم في الإحكام بأنه بيان انتهاء
( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 213)
زمان الأمر الأول فيما لا يتكرر . وهو قريب من تعريف البغدادي . وإليه ذهب الجصاص وأبو إسحاق الإسفرائيني وغيرهم وتابعهم القرافي حيث عرفوه بأنه ( بيان لانتهاء مدة الحكم ) زاد الجصاص ( والتلاوة ) وهناك تعريفات أخرى كثيرة غير ما أوردنا تقترب مما أوردناه حينا وتبتعد عنه أحيانا ، ولا نرى المجال يتسع لسردها جميعا وفيما ذكرناه غنية وكفاية
الفصل الثاني
الفرق بين النسخ والتخصيص
سبق أن عرفنا النسخ في الاصطلاح بأنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي في حين أنهم يعرفون التخصيص بأنه ( قصر العام على بعض أفراده ) أو أنه ( إزالة بعض الحكم بغير حرف متوسط فهو بيان الأعيان ) وأنه إنما يجوز على قول من أجاز تأخير البيان ، وهو أن يأتي لفظ ظاهره العموم لما وقع تحته ، ثم يأتي لفظ نص آخر أو دليل أو قرينة أو إجماع يدل على أن ذلك اللفظ الذي ظاهره عام ليس بعام ، والتخصيص إنما هو بيان اللفظ الأول أنه ليس بعام في كل ما تضمنه ظاهر اللفظ ، فهو بيان الأعيان ، فهذا هو الأصل الذي يعتمد عليه في الفرق بين النسخ والتخصيص . فالنسخ بيان الأزمان التي انتهى إليها العمل بالفرض الأول ، وابتدأ منها الفرض الثاني ، والتخصيص بيان الأعيان الذين عمهم اللفظ أن بعضهم غير داخل تحت ذلك اللفظ ، فالنسخ لا يكون إلا منفصلا من المنسوخ ، والتخصيص يكون منفصلا ومتصلا بالمخصص وقد ذكر العلماء عددا من الفروق بين النسخ والتخصيص يجعلها بعضهم خمسة ويوصلها آخرون إلى سبعة فروق نجملها فيما يلي :
الأول : إن العام بعد تخصيصه خاص ، لأن مدلوله وقتئذ بعض أفراده مع أن لفظه موضوع للكل والقرينة هي المخصص ، وكل ما كان كذلك فهو خاص . أما النص المنسوخ فما زال كما كان مستعملا فيما وضع له ، غايته أن الناسخ دل على أن إرادة الله تعلقت أزلا باستمرار هذا الحكم إلى وقت معين ، وإن كان النص المنسوخ متناولا جميع الأزمان ، ويظهر ذلك جليا فيما إذا قال الشارع مثلا : افعلوا كذا أبدا ، ثم نسخه بعد زمن قصير ، فإنه لا يعقل أن يكون مدلوله ذلك الزمن القصير دون غيره ، بل هو ما زال كما كان مستعملا في جميع الأزمان نصا بديل قوله ( أبدا ) غير أن العمل بهذا النص الشامل لجميع الأزمان لفظا قد أبطله الناسخ ؛ لأن استمرار العمل بالنص مشروط بعدم ورود ناسخ ينسخه أيا كان ذلك النص وأيا كان ناسخه . فإن سأل سائل ما حكمة تأبيد النص لفظا بينما هو مؤقت في علم الله أزلا ؟ أجبناه بأن حكمته ابتلاء الله لعباده أيخضعون لحكمه مع تأبيده عليهم هذا التأبيد الظاهري أم لا ؟ فإذا ماز الله الخبيث من الطيب والمطمئن لحكمه من المتمرد عليه ، جاء النسخ لحكمة أخرى من التخفيف ونحوه .
الثاني : إن حكم ما خرج بالتخصيص لم يك مرادا من العام أصلا ، بخلاف ما خرج بالنسخ ، فإنه كان مرادا من المنسوخ لفظا .
الثالث : إن التخصيص لا يتأتى أن يأتي على الأمر لمأمور واحد ، ولا على النهي لمنهي واحد ، أما النسخ فيمكن أن يعرض لهذا كما يعرض لغيره ، ومن ذلك نسخ بعض الأحكام الخاصة به صلى الله عليه وسلم .
الرابع : إن النسخ يبطل حجية المنسوخ ، إذا كان رافعا للحكم بالنسبة إلى جميع أفراد العام ، ويبقى على شيء من حجيته إذا كان رافعا للحكم عن بعض أفراد العام دون بعض ، أما التخصيص فلا يبطل حجية العام أبدا ، بل العمل به قائم فيما بقي من أفراده بعد تخصيصه .
الخامس : إن النسخ لا يكون إلا بالكتاب والسنة بخلاف التخصيص ، فإنه يكون بهما وبغيرهما كدليل الحس والعقل فقول الله سبحانه : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا قد خصصه قوله صلى الله عليه وسلم لا قطع إلا في ربع دينار . وهذا قوله سبحانه : تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا قد خصصه ما شهد به الحس من سلامة السماء والأرض وعدم تدمير الريح لهما .
السادس : إن النسخ لا يكون إلا بدليل متراخ عن المنسوخ أما التخصيص فيكون بالسابق واللاحق والمقارن ، وقال قوم : لا يكون التخصيص إلا بمقارن فلو تأخر عن وقت العمل بالعام كان هذا المخصص ناسخا للعام بالنسبة لما تعارضا فيه ، كما إذا قال الشارع : ( اقتلوا المشركين ) وبعد وقت العمل به قال : ( ولا تقتلوا أهل الذمة ) ، ووجهة نظر هؤلاء أن المقصود بالمخصص بيان المراد بالعام ، فلو تأخر وقت العمل به لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وذلك لا يجوز ، فلم يبق إلا اعتباره ناسخا .
السابع : إن النسخ لا يقع في الأخبار بخلاف التخصيص فإنه يكون في الأخبار وفي غيرها .
وقد نقل الشيخ محمد حمزة في كتابه (دراسات في الإحكام والنسخ ) عن الإمام الغزالي أنه حصر الفرق بين التخصيص والنسخ في خمسة أمور . ولا نجد فيها غير ما أورده غيره من الفروق التي أجملناها آنفا إلا ما كان من قوله الخامس : إن تخصيص العام المقطوع بأصله جائز بالقياس وبخبر الواحد وسائر الأدلة ، ونسخ القاطع لا يجوز إلا بقاطع ( وقد علق الشيخ محمد حمزة على ذلك بقوله : أقول تفريق ممتاز على ما في ذلك من الخلاف ، فإن الأحناف اشترطوا المقارنة في المخصص للعام ، فإذا تراخى عنه فهو نسخ لا تخصيص ، كما تقدم ولا يجوز عند الأحناف تخصيص الكتاب بخبر الواحد ؛ لأن دلالة العام على عمومه قطعية عندهم وخبر الآحاد ظني ، أما الحديث المشهور فهو عندهم قطعي الثبوت كالمتواتر ، فيجوز تخصيص الكتاب به وتقييد مطلقه ) اهـ .
الفصل الثالث
شروط النسخ
للنسخ شروط لا بد من توافرها لكي يعتبر من قبيل النسخ لا من قبيل غيره كتخصيص العام أو تقييد المطلق أو الاستثناء . . . إلخ . وكل ما لم تتوافر فيه هذه الشروط التي سنذكرها هنا أُرجع إلى نوع من تلك الأنواع التي ذكرناها أو إلى غيرها .
وما توافرت فيه تلك الشروط اعتبر نسخا . وشروط النسخ نوعان :
أحدهما : شروط متفق عليها والنوع الثاني : شروط مختلف فيها .
فأما الشروط المتفق عليها فمنها :
1 - أن يكون المنسوخ حكما شرعيا؛ لأن الأمور العقلية التي مستندها البراءة الأصلية لم تنسخ وإنما ارتفعت بإيجاب العبادات .
2 - أن يكون النسخ بخطاب شرعي لا بموت المكلف؛ لأن الموت مزيل للحكم لا ناسخ له .
3 - ألا يكون الحكم السابق مقيدا بزمان مخصوص نحو قوله عليه الصلاة والسلام لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس .
فإن الوقت الذي يجوز فيه أداء النوافل التي لا سبب لها مؤقت ، فلا يكون نهيه عن هذه النوافل في الوقت المخصوص نسخا لما قبل ذلك من الجواز؛ لأن التوقيت يمنع النسخ .
4 - أن يكون الناسخ متراخيا عن المنسوخ .
وأما الشروط المختلف فيها فمنها :
1 - أن يكون الناسخ مثل المنسوخ في القوة أو أقوى منه لا دونه؛ لأن الضعيف لا ينسخ القوي .
2 - أن يكون ناسخ القرآن قرآنا وناسخ السنة سنة .
3 - أن يكون قد ورد الخطاب الدال على بيان انتهاء الحكم بعد التمكن من الفعل .
4 - أن يكون الناسخ مقابلا للمنسوخ مقابلة الأمر للنهي والمضيق للموسع .
5 - أن يكون الناسخ والمنسوخ نصين قاطعين .
6 - أن يكون النسخ ببدل مساو أو مما هو أخف منه .
7 - أن يكون الخطاب المنسوخ حكمه مما لا يدخله الاستثناء أو التخصيص .
وقد نقل صاحب كتاب ( نظرية النسخ في الشرائع السماوية ) عن الآمدي في الإحكام والزرقاني في مناهل العرفان أن الراجح كونه لا داعي لهذه الشروط السبعة .
وقد عد صاحب ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) من شروط الناسخ أن يكون منفصلا من المنسوخ منقطعا منه ، فإن كان متصلا به غير منقطع عنه لم يكن ناسخا لما قبله مما هو متصل به ، نحو قوله تعالى : وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فليس قوله فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ ناسخا لقوله حَتَّى يَطْهُرْنَ في قراءة من خفف يَطْهُرْنَ ؛ لأنه متصل به ، فالأول يراد به ارتفاع الدم والثاني التطهير بالماء .
كما عد من شروط المنسوخ أن يكون غير متعلق بوقت معلوم لا يعلم انتهاء وقت فرضه إلا بنص ثان يبين أن فرض الأول إلى الوقت الذي فرض فيه الثاني ولذلك قيل في قوله تعالى فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ : إنه غير منسوخ بالأمر بالقتال في (براءة) ؛ لأن الله جعل له أجلا ووقتا وهو إتيان أمره بالقتال وترك الصفح والعفو ، وإنما كان يكون منسوخا بالقتال لو قال : فاعفوا واصفحوا أمرا غير مؤقت ، كما قال : فاعف عنهم واصفح . فهذا منسوخ بالقتال وقيل : إنه منسوخ بالقتال؛ لأن الأجل غير معلوم ، ولو قال : فاعفوا واصفحوا إلى وقت كذا . وذكر الأمر لكان النسخ غير جائز فيه ، ولكنه أبهم الوقت ولم يحده ، فالنسخ فيه جائز وعلى ذلك أكثر العلماء .
ومضى صاحب الإيضاح يعدد شروطا للنسخ فقال : ومن شروط الناسخ أن يكون موجبا للعلم والعمل كالمنسوخ ومن هاهنا منع نسخ القرآن بخبر الآحاد؛ لأن أخبار الآحاد توجب العمل ولا توجب العلم والقرآن يوجبهما جميعا . وإنما وقع الاختلاف في جواز نسخ القرآن بالأخبار المتواترة التي توجب العلم والعمل كالقرآن .
وقد عد الإمام العلامة مكي بن أبي طالب جواز نسخ الأثقل بالأخف من شروط الناسخ ، ومثل لذلك بتخفيف قوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ بقوله سبحانه : فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وأنه لذلك قال تعالى : نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أي بأخف منها عليكم أو مثلها في الثقل وأعظم في الأجر .
وكذلك نسخ الأخف بالأثقل نحو نسخ صيام يوم عاشوراء أو صيام ثلاثة أيام من كل شهر بصوم شهر رمضان وقال بعد أن ساق أمثلة أخرى لهذا الوجه ( وقد ذهب بعض المؤلفين للناسخ والمنسوخ إلى أنه لا يجوز أن ينسخ الأخف بالأثقل وتأول فيما ذكرنا تأويلات تخرجه من النسخ ، والعمل عند أكثرهم على ما بيناه ) كما عد الإمام العلامة أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) من شرط الناسخ والمنسوخ أن يكونا شرعيين يجوز في العقل ورود الأمر بكل واحد منهما على البدل ، فأما الذي لا يجوز ورود الشرع بخلافه ؛ كاعتقاد توحيد الصانع واعتقاد صفاته وعدله وحكمته ، واعتقاد فساد الكفر فلا يجري في هذا النوع نسخ ولا تبديل ، وكذلك كل ما دل العقل على كونه على وجه مخصوص ، فلا يجوز أن يكون الناسخ والمنسوخ كلاهما منصوصا عليه أو مدلولا عليه بدليل الخطاب أو مفهومه ، فأما الذي ثبت بالإجماع فلا يجوز نسخه؛ لأن الإجماع إنما يستقر بعد انقضاء زمان النسخ ، فإذا اجتمعت الأمة على حكم ووجد خبر بخلافه استدللنا بالإجماع على سقوط الخبر أو نسخه ، أو تأويله على غير ظاهره .
الفصل الرابع
الآراء في حكم النسخ ومناقشتها
هنالك إجماع من علماء المسلمين بل أجمعت الأمة كلها على جواز النسخ عقلا ووقوعه سمعا ، كما أن جميع الملل تكاد تتفق على ذلك ، إلا من بعض الطوائف التي أنكرت ذلك وأوردت شبها كثيرة لمنعه ، واستدلت بأدلة لا تقوى على الصمود عند مناقشتها ، وسنفصل القول في بيان ذلك في ثنايا هذا الفصل إن شاء الله تعالى ، وقد عني كثير من العلماء ببيان وجه الحق في ذلك وقرروا إمكان وقوع النسخ في شريعة الإسلام ، وكذلك في الشرائع السابقة ، وقاموا بتفنيد شبه المنكرين للنسخ والرد عليها وإبطالها .
فقد استدلوا على جواز وقوع النسخ في القرآن بقوله تعالى يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ قال ابن عباس وغيره : معناه يمحو ما يشاء من أحكام كتابه ، فينسخه ببدل أو بغير بدل ، ويثبت ما يشاء فلا يمحوه ولا ينسخه ، ثم قال : وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ قال ابن عباس : معناه عنده ما ينسخ ويبدل من الآية والأحكام ، وعنده ما لا ينسخ ولا يبدل ، كل في أم الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ ، ومثل هذا المعنى قال قتادة وابن زيد وابن جريج وغيرهم في هذه الآية ، وقد قيل غير ذلك . فهذا يدل على جواز النسخ بنص القرآن .
وقد اعترض مكي بن أبي طالب على استدلال جماعة على جواز النسخ في القرآن بقوله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ قائلا : إن هذا إنما يدل على جواز النسخ فيما يزيد الشيطان في تلاوة النبي أو الرسول من الباطل ، خاصة وليس يدل علي جواز النسخ فيما ينزله الله ويأمر به ، فلا حجة فيه لمن استدل به على جواز نسخ ما هو من عند الله من الحق .
ومضى مكي يستعرض الأدلة القرآنية على جواز النسخ في القرآن فقال :
( ويدل على جواز النسخ للقرآن أيضا قوله تعالى : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ( 101 ) النحل فهذا نص ظاهر في جواز زوال حكم آية ووضع أخرى موضعها . إلى أن قال : ويدل على جواز النسخ للقرآن أيضا قوله تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ( 106 ) البقرة . فهذا نص ظاهر في جواز النسخ للقرآن بالقرآن . إلى أن قال : ويدل على جواز النسخ أيضا قوله تعالى : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ( 48 ) المائدة . فمعلوم أن شريعة كل رسول نسخت شريعة من كان قبله .
ورد مكي كذلك استدلال من استدل بقوله تعالى : وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ( 86 ) الإسراء على جواز النسخ بقوله : فهذا إنما يراد به إذهاب ما لا يجوز نسخه من الأخبار وغيرها . وما لا يجوز نسخه لو شاء الله لأذهب حفظه كله من القلوب بغير عوض وما تقدم واقع في دائرة الاستدلال القرآني بيد أن هناك استدلالات عقلية أوردها المثبتون للنسخ القائلون بجوازه وقد أجملها صاحب ( مناهل العرفان ) في الأدلة الأربعة التالية :
أولا : إن النسخ لا محظور فيه عقلا وكل ما كان كذلك جائز عقلا . أما الكبرى فمسلمة وأما الصغرى فيختلف دليلها عند أهل السنة عن دليلها عند المعتزلة تبعا لاختلاف الفرقتين في أن أحكام الله تعالى يجب أن تتبع المصلحة لعباده أو لا يجب أن تتبعها ، فأهل السنة يقولون : إنه لا يجب على الله تعالى لعباده شيء بل هو سبحانه الفاعل المختار والكبير المتعال ، وله بناء على اختياره ومشيئته وكبريائه وعظمته أن يأمر عباده بما شاء وينهاهم عما شاء ، وأن يبقي من أحكامه على ما شاء وأن ينسخ منها ما شاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ، ولا ملزم يلزمه برعاية مصالح عباده ، ولكن ليس معنى هذا أنه عابث أو مستبد أو ظالم ، بل إن أحكامه وأفعاله كلها جل جلاله لا تخلو عن حكمة بالغة وعلم واسع وتنزه عن البغي والظلم وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ( 46 فصلت ) . وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ( 49 ) الكهف .
إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 83 ) و( 128 ) الأنعام . والمعتزلة يقولون : إنه تعالى يجب أن يتبع في أحكامه مصالح عباده فما كان فيه مصلحة لهم أمرهم به وما كان فيه مضرة عليهم نهاهم عنه . وما دار بين المصلحة تارة والمفسدة تارة أمرهم به تارة ، ونهاهم عنه أخرى . وإذا تقرر هذا فإن صغرى ذلك الدليل نستدل عليها من مذهب أهل السنة هكذا : النسخ تصرف في التشريع من الفاعل المختار الكبير المتعال ، الذي لا يجب عليه رعاية مصالح عباده في تشريعه ، وإن كان تشريعه لا يخلو من حكمه ، وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا .
وأما على مذهب الاعتزال فننظم الدليل هكذا : النسخ مبني على أن الله تعالى يعلم مصلحة عباده في نوع من أفعالهم وقتا ما ، فيأمرهم به في ذلك الوقت ويعلم ضرر عباده في هذا النوع نفسه من أفعالهم ولكن في وقت آخر ، فينهاهم عنه في ذلك الوقت الآخر ، وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا . وكيف يكون محظورا عقلا ونحن نشاهد أن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال . إلى أن قال : وإلى هذا الدليل تشير الآية الكريمة مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ( 106 ) البقرة . . . إلخ .
ثانيا وهو دليل إلزامي للمنكرين : إن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما جوزوا أن يأمر الشارع عباده بأمر مؤقت ينتهي بانتهاء وقته ، لكنهم يجوزون هذا عقلا ، ويقولون بوقوعه سمعا ، فليجوزوا هذا ؛ لأنه لا معنى للنسخ إلا انتهاء الحكم الأول لميقات معلوم عند الله ، بيد أنه لم يكن معلوما لنا من قبل ثم أعلمنا الله إياه بالنسخ ، وهذا ليس بفارق مؤثر ، فقول الشارع مثلا أول يوم من رمضان : ( صوموا إلى نهاية هذا الشهر ) مساو لأن يقول أول يوم من رمضان : ( صوموا ) من غير تقييد بغاية حتى إذا ما انتهى شهر رمضان ، قال أول يوم شوال : ( أفطروا ) ، وهذا الأخير نسخ لا ريب فيه وقد جوز منكروه المثال الأول فليجوزوا هذا المثال الثاني لأنه مساويه والمتساويان يجب أن يتحد حكمهما وإلا لما كانا متساويين .
ثالثا : إن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما ثبتت رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ، لكن رسالته العامة للناس ثابتة بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي يطول شرحها . إذن فالشرائع السابقة ليست باقية بل هي منسوخة بهذه الشريعة الختامية . وإذن فالنسخ جائز وواقع . أما ملازمة هذا الدليل فنبرهن عليها بأن النسخ لو لم يكن جائزا وواقعا ، لكانت الشرائع الأولى باقية ، ولو كانت باقية ما ثبتت رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة .
رابعا : ما يأتي من أدلة الوقوع السمعي؛ لأن الوقوع يستلزم الجواز وزيادة ، والأدلة السمعية على وقوع النسخ نوعان : أحدهما : تقوم به الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى من غير توقف على إثبات نبوة الرسول لهم . والثاني : تقوم به الحجة على من آمن بنبوته صلى الله عليه وسلم كأبي مسلم الأصفهاني من المسلمين ، وكالعيسوية من اليهود ، فإنهم يعترفون برسالته عليه الصلاة والسلام ، ولكن يقولون : إلى العرب خاصة ، وهؤلاء تلزمهم بأنهم متى سلموا برسالته وجب أن يصدقوه في كل ما جاء به ، ومن ذلك عموم دعوته ، والنسخ الوارد في الكتاب والسنة .
فأمثلة النوع الأول كثيرة منها :
1 - ما جاء في السفر الأول من التوراة أن الله تعالى قال لنوح عند خروجه من السفينة : ( إني جعلت كل دابة حية مأكلا لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ) ثم اعترفوا بعد ذلك بأن الله حرم كثيرا من الدواب على أصحاب الشرائع من بعد نوح ومنهم موسى نفسه كما جاء في السفر الثالث من توراتهم .
2 - جاء في التوراة أن الله تعالى أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه وورد أنه كان يولد في كل بطن من البطون ذكر وأنثى فكان يزوج توأمة هذا للآخر ويزوج توأمة الآخر لهذا ، وهكذا إقامةً لاختلاف البطون مقام اختلاف الآباء والأمهات والأنساب ، ثم حرم الله ذلك بإجماع المتدينين من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم .
3 - إن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده - عليهما السلام - ثم قال الله له لا تذبحه وقد اعترف منكرو النسخ بذلك .
4 - إن عمل الدنيا كان مباحا يوم السبت لليهود ومنه الاصطياد ثم حرم الله الاصطياد على اليهود باعترافهم .
5 - إن الله أمر بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم أمرهم برفع السيف عنهم إلى غير ذلك من الأدلة السمعية التي تقوم بها الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى .
وأما أمثلة النوع الثاني وهو الذي تقوم به الحجة على منكري النسخ من المسلمين ومن يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم كالعيسوية من اليهود فهي كثيرة أيضا ، وأوردنا طرفا منها في مستهل هذا الفصل نقلا عن الإمام العلامة مكي بن أبي طالب القيسي في كتابه ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) .
ويتبين مما ذكرناه أن أهل الأديان على مذاهب ثلاثة في النسخ :
أولها : إنه جائز عقلا وواقع سمعا . وعليه إجماع المسلمين من قبل أن يظهر أبو مسلم الأصفهاني ومن شايعه ، وعليه أيضا إجماع النصارى من قبل معاصريهم الذين خرقوا الإجماع وركبوا رءوسهم فأنكروا النسخ ؛ ليصلوا من هذا الإنكار إلى بقاء ديانتهم بجانب الديانة الإسلامية بدعوى أن الشريعة لا تنسخ الشريعة قبلها ، وهو رأي العيسوية إحدى طوائف اليهود الثلاث .
ثانيها : إن النسخ ممتنع عقلا وسمعا وهو ما جنح إليه نصارى هذا العصر وتقول به أيضا الشمعونية ، وهم طائفة ثانية من طوائف اليهود .
ثالثها : إن النسخ جائز عقلا ممتنع سمعا وبه تقول العنانية وهي الطائفة الثالثة من طوائف اليهود . كما يعزى هذا الرأي إلى أبي مسلم الأصفهاني من المسلمين ، ولكن على اضطراب في النقل عنه وعلى تأويل يجعل خلافه لجمهور المسلمين أشبه بالخلاف اللفظي إن لم يكن كذلك فعلا .
كما يتبين أيضا أن النسخ مجمع على جوازه عقلا ولم يخرج عن هذا الإجماع إلا " الشمعونية " إحدى فرق اليهود وبعض نصارى هذا الزمان ، ولا شك أن مذهب هؤلاء المنكرين هو أخطر المذاهب وأشنعها في هذا الباب وأبعدها عن الحق وأكثرها مجانبة للصواب وولوغا في الباطل . إذ إن مجرد إنكار الجواز العقلي إنكار للوقوع الشرعي بالضرورة ؛ إذ لا يمكن أن يقع في الوجود ما أحاله العقل .
شبهات المنكرين للجواز العقلي وإبطالها
وسنستعرض فيما يلي أبرز شبهات أولئك المنكرين مع تفنيدها وإبطالها فنقول وبالله التوفيق :
1 - الشبهة الأولى التي يسوقونها لتمسكهم بمنع النسخ أن النسخ إما لحكمة ظهرت بعد أن لم تكن فيكون بداء ، وإما أن يكون لغير حكمة فيكون عبثا ، وكلا البداء والعبث على الله تعالى مستحيل . والرد عليهم إنما هو من خلال ما أثبتناه في بداية هذا المبحث من أدلة عقلية وسمعية على جواز النسخ عقلا ، وأنه لا يترتب على النسخ محال عقلي ؛ إذ هو فعل من أفعال الله الذي يفعل ما يشاء سبحانه ، وليس النسخ من قبيل البداء ، بل الفرق بينهما ظاهر ، فالبداء تبديل في العلم بينما النسخ تبديل في المعلوم .
وبعد أن أورد الشيخ محمد حمزة في كتابه ( دراسات في الإحكام والنسخ في القرآن الكريم ) رأي كل من اليهود والمعتزلة والماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي ومن أخذ برأيه من جمهور الأحناف ومن تبعهم ، قال : وبعد ما تقدم نجيب بجواب محكم على فرية اليهود وشبهة المستشبهين فنقول : إنما يكون كل من العبث والبداء من لوازم النسخ إن ورد النسخ على حسن لا يقبل حسنه القبح ، أو قبيح لا يقبل قبحه الحسن ، كالإيمان والكفر ، أما في الأفعال التي حسنها وقبحها باعتبار ما يترتب عليها من المصالح المختلفة باختلاف الأزمان والأمم ، فإن الله تعالى يبدل ما شاء من الأحكام ؛ رعاية لتلك المصالح التي يعلمها ، ولا يلزم من ذلك بداء ولا عبث ، وعلى ضوء ما تقدم أيضا يبطل قول المنكرين أن ما طلبه الله لحسنه ، فلو نهى عنه لأدى إلى أن ينقلب الحسن قبيحا وهو محال ، فنقول : إن الإحالة إنما تكون إذا اجتمع الأمر والنهي في فعل واحد من مأمور واحد في زمن واحد ، وفرض المسألة غير ذلك فإن المصالح تختلف باختلاف الأوقات ، كشرب الدواء فإنه قد يكون نافعا في وقت دون وقت ، فيختلف حسن الشيء وقبحه باختلاف الأوقات ، وباختلاف الأشخاص أيضا ، فالشرع للأديان كالطب للأبدان .
2 - ويثيرون شبهة أخرى فيقولون لو جاز على الله تعالى أن ينسخ حكما بحكم للزم على ذلك أحد باطلين : جهله جل وعلا ، وتحصيل الحاصل .
وبيان ذلك أن الله تعالى إما أن يكون قد علم الحكم الأول المنسوخ على أنه مؤبد ، وإما يكون قد علمه على أنه مؤقت . فإن كان قد علمه على أنه مستمر إلى الأبد ثم نسخه وصيره غير مستمر انقلب علمه جهلا والجهل عليه تعالى محال ، وإن كان علمه على أنه مؤقت بوقت معين ثم نسخه عند ذلك الوقت ، ورد عليه أن المؤقت ينتهي بمجرد انتهاء وقته فإنهاؤه بالنسخ تحصيل للحاصل وهو باطل ، وتُدفع هذه الشبهة بأن الله تعالى قد سبق في علمه أن الحكم المنسوخ مؤقت لا مؤبد ، ولكنه علم بجانب ذلك أن توقيته إنما هو بورود الناسخ ، لا بشيء آخر كالتقييد بغاية في دليل الحكم الأول ، وإذن فعلمه بانتهائه بالناسخ لا يمنع النسخ بل يوجبه . وورود الناسخ محقق لما في علمه لا مخالف له شأنه تعالى في الأسباب ومسبباتها ، وقد تعلق علمه بها كلها مع ملاحظة أن النسخ بيان بالنسبة إلى الله تعالى ورفع بالنسبة إلينا .
3 - والشبهة الثالثة التي يثيرونها هي قولهم لو جاز النسخ للزم أحد باطلين وما هو في معناه .
وبيان ذلك أن الحكم المنسوخ إما أن يكون دليله قد غياه بغاية ينتهي عندها أو يكون قد أبد نصا ، فإن كان قد غياه بغاية ، فإنه ينتهي بمجرد وجود هذه الغاية ، وإذن لا سبيل إلى إنهائه بالنسخ وإلا لزم تحصيل الحاصل . وإن كان دليل الحكم الأول قد نص على تأبيده ، ثم جاء الناسخ على رغم هذا التأبيد لزم المحال من وجوه ثلاثة :
أ- التناقض؛ لأن التأبيد يقتضي بقاء الحكم ولا ريب أن النسخ ينافيه .
ب- تعذر إفادة التأبيد من الله للناس؛ لأن كل نص يمكن أن يفيده تبطل إفادته باحتمال نسخه ، وذلك يفضي إلى القول بعجز الله وعيه عن بيان التأبيد لعباده فيما أبده لهم تعالى الله عن ذلك .
ج- استلزام ذلك لجواز نسخ الشريعة الإسلامية مع أنها باقية إلى يوم القيامة عند القائلين بالنسخ ويمكن دفع هذه الشبهة بما يلي :
أولا : بأن حصر الحكم المنسوخ في هذين الوجهين اللذين ذكرهما المانع غير صحيح؛ لأن الحكم المنسوخ يجوز ألا يكون مؤقتا ولا مؤبدا ، بل يجيء مطلقا عن التوقيت والتأبيد كليهما ، وعليه فلا يستلزم طروء النسخ عليه شيئا من المحالات التي ذكروها ، وإطلاق هذا الحكم كاف في صحة نسخه ؛ لأنه يدل على الاستمرار بحسب الظاهر وإن لم يعرض له النص .
ثانيا : إن ما ذكروه من امتناع نسخ الحكم المؤبد غير صحيح أيضا وما استندوا إليه منقوض لوجوه ثلاثة :
الأول منها : إن استدلالهم بأنه يؤدي إلى التناقض مدفوع بأن الخطابات الشرعية مقيدة من أول الأمر بألا يرد ناسخ ، كما أنها مقيدة بأهلية المكلف للتكليف ، وألا يطرأ عليه جنون أو غفلة أو موت ، وإذن فمجيء الناسخ لا يفضي إلى تناقض بينه وبين المنسوخ بحال .
والثاني : إن استدلالهم بأنه يؤدي إلى أن يتعذر على الله بيان التأبيد لعباده مدفوع بأن التأبيد يفهمه الناس بسهولة من مجرد خطابات الله الشرعية المشتملة على التأبيد ، وهو ما يشعر به كل واحد منا ؛ ذلك لأن الأصل بقاء الحكم الأول وما اتصل به من توقيت أو تأبيد ، وطرد الناسخ احتمال مرجوح ، واستصحاب الأصل أمر يميل إليه الطبع كما يؤيده العقل والشرع .
والثالث : إن جواز نسخ الشريعة الإسلامية إن لزمنا معاشر القائلين بالنسخ ، فإنه يلزمنا على اعتبار أنه احتمال عقلي لا شرعي بدليل أننا نتكلم في الجواز العقلي لا الشرعي . أما نسخ الشريعة الإسلامية بغيرها من الشرائع فهو من المحالات الظاهرة بتضافر الأدلة على أن الإسلام دين خالد عام ، ولا يضير المحال في حكم الشرع أن يكون من قبيل الجائز في حكم العقل .
4 - وشبهتهم الرابعة هي قولهم :
إن النسخ يستلزم اجتماع الضدين واجتماعهما محال ، وبيان ذلك أن الأمر بالشيء يقتضي أنه حسن وطاعة ومحبوب لله ، والنهي عنه يقتضي أنه قبيح ومعصية ومكروه له تعالى فلو أمر الله بالشيء ثم نهى عنه ، أو نهى عن الشيء ثم أمر به لاجتمعت هذه الصفات المتضادة في الفعل الواحد الذي تعلق به الأمر والنهي .
وندفع هذه الشبهة بأن الحسن والقبح وما اتصل بهما ليست من صفات الفعل الذاتية حتى تكون ثابتة فيها لا تتغير بل هي تابعة لتعلق أمر الله ونهيه بالفعل وعلى هذا يكون الفعل حسنا وطاعة ومحبوبا لله ما دام مأمورا به من الله ، ثم يكون هذا الفعل نفسه قبيحا ومعصية ومكروها له تعالى ما دام منهيا عنه منه سبحانه ، وحتى القائلون بالحسن والقبح العقليين من المعتزلة يقرون بأنهما يختلفان باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال ، وبهذا التوجيه ينتفي اجتماع الضدين لاختلاف الوقت الذي يكون فيه الفعل حسنا عن الوقت الذي يكون فيه الفعل نفسه قبيحا ، فلم يجتمع الحسن والقبح في وقت واحد على فعل واحد .
وقريب من هذا ما نقلناه فيما تقدم من كلام الشيخ محمد حمزة في كتابه ( دراسات في الإحكام والنسخ ) من جوابه المحكم على فرية اليهود وشبهة المستشبهين وما انتهى إليه من أن قول المنكرين : إن ما طلبه الله لحسنه ، فلو نهى عنه لأدى ذلك إلى أن ينقلب الحسن قبحا ، وهو محال مردود - بأن الإحالة إنما تكون إذا اجتمع الأمر والنهي في فعل واحد من مأمور واحد في زمن واحد ، وفرض المسألة غير ذلك ، فإن المصالح تختلف باختلاف الأوقات . . . إلخ .
شبهات المنكرين للنسخ سمعا
1 - شبهة العنانية والشمعونية :
وتتمثل شبهتهم في قولهم : إن التوراة التي أنزلها الله على موسى لم تزل محفوظة لدينا منقولة بالتواتر فيما بيننا وقد جاء فيها ( هذه شريعة مؤبدة ما دامت السماوات والأرض ) وجاء فيها أيضا ( الزموا يوم السبت أبدا ) وذلك يفيد امتناع النسخ؛ لأن النسخ لشيء من أحكام التوراة - لا سيما تعظيم يوم السبت - إبطال لما هو من عنده تعالى وتدفع هذه الشبهة بوجوه خمسة :
أولها : إن شبهتهم هذه أقصر من مدَّعاهم قصورا بينا؛ لأن قصارى ما تقتضيه - إن سلمت - هو امتناع نسخ شريعة موسى عليه السلام لشريعة أخرى . أما تناسخ شرائع سواها فلا تدل هذه الشبهة على امتناعه ، بل يبعد أن ينكر اليهود انتساخ شرائع الإسرائيليين قبل اليهودية بشريعة موسى . فكان المنظور أن تجيء دعواهم أقصر مما هو محكي عنهم بحيث تتكافأ ودليلهم الذي زعموه ، أو أن يجيء دليلهم الذي زعموه أعم من هذا حتى يتكافأ ودعواهم التي ادعوها .
ثانيها : إنا لا نسلم لهم ما زعموه من أن التوراة لم تزل محفوظة في أيديهم حتى يصح استدلالهم بها بل الأدلة متضافرة على أن التوراة الصحيحة لم يعد لها وجود ، وأنه أصابها من التغيير والتبديل والتحريف ما جعلها في خبر كان .
من تلك الأدلة أن نسخة التوراة التي بأيدي السامريين تزيد في عمر الدنيا نحوا من ألف سنة على ما جاء في نسخة العنانيين ، وأن نسخة النصارى تزيد ألفا وثلاثمائة سنة . ومنها أن نسخ التوراة التي بأيديهم تحكي عن الله وعن أنبيائه وملائكته أمورا ينكرها العقل ويمجها الطبع ويتأذى بها السمع مما يستحيل معه كونها صادرة عن مؤمن ، فضلا عن ولي ، فضلا عن نبي ، فضلا عن نسبتها إلى الله رب العالمين . من مثل ندم الله على إرسال الطوفان إلى العالم ، وأنه بكى حتى رمدت عيناه ، وأن يعقوب صارعه فصرعه ، تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا . وأن لوطا سكر فثمل فزنى بابنتيه ، وأن هارون هو الذي اتخذ العجل لبني إسرائيل ودعاهم لعبادته من دون الله .
ومن الأدلة أيضا على فساد دعوى بقاء التوراة وحفظها ما ثبت بالتواتر عند المؤرخين ، بل عند اليهود أنفسهم من أن بني إسرائيل - وهم حملة التوراة وحفاظها - قد ارتدوا عن الدين مرات كثيرة ، وعبدوا الأصنام ، وقتلوا أنبياءهم شر تقتيل ، ولا ريب أن هذه مطاعن شنيعة جارحة لا تبقي لأي منهم أي نصيب من عدالة أو ثقة ، ولا تحمل لهذه النسخ التي زعموا أنها التوراة أقل شيء من القيمة أو الصحة .
ثالثها : إن التواتر الذي خلعوه على التوراة لا يسلم لهم أيضا ؛ لأنها لو كانت متواترة لحاجوا بها أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم ، ولعارضوا دعواه عموم رسالته بقول التوراة التي يؤمن بها ولا يجحدها ، بل يجهر بأنه جاء مصدقا لها ، ولكن ذلك لم يكن ولو كان لنقل واشتهر ، بل إن الذي نقل واشتهر هو إسلام كثير من أحبار اليهود وعلمائهم ، كعبد الله بن سلام وغيره واعترافهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الرسول الذي بشرت به التوراة والإنجيل .
رابعها : إن لفظ التأبيد الذي اعتمدوا عليه فيما نقلوه لا يصح حجة لهم ؛ لأنه يستعمل كثيرا عند اليهود معدولا به عن حقيقته ، من ذلك ما جاء في البقرة التي أمروا بذبحها : ( هذه سنة لكم أبدا ) وما جاء في القربان : ( قربوا كل يوم خروفين قربانا دائما ) مع أن هذين الحكمين منسوخان باعتراف اليهود أنفسهم رغم التصريح فيهما بما يفيد التأبيد .
خامسها : إن نسخ الحكم المؤبد لفظا جائز على الصحيح ، فلتكن هاتان العبارتان اللتان اعتمدوا عليهما منسوختين أيضا ، وشبهة التناقض تندفع بأن التأبيد مشروط بعدم ورود ناسخ ، فإذا ورد الناسخ انتفى ذلك التأبيد .
2 - شبهة النصارى :
يقولون إن المسيح عليه السلام قال : ( السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول ) وهذا يدل على امتناع النسخ سمعا وندفع هذه الشبهة أولا : بأنا لا نسلم أن الكتاب الذي بأيديهم هو الإنجيل الذي أنزل على عيسى ، وإنما هو قصة تاريخية وضعها بعض المسيحيين يبين فيها حياة المسيح وولادته ونشأته ودعوته . . . إلخ . ورغم أنها قصة فقد عجزوا عن إقامة الدليل على صحتها وعدالة كاتبها وأمانته وضبطه ، كما أعياهم اتصال السند وسلامته من الشذوذ والعلة . بل ثبت علميا تناقض نسخ هذه القصة التي أسموها الإنجيل ، مما يدل على أنها ليست من عند الله ، وصدق الله في قوله في القرآن الكريم : وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا
ثانيا : إن سياق هذه الكلمة في إنجيلهم يدل على أن مراده بها تأييد تنبؤاته ، وتأكيد أنها ستقع لا محالة ، أما النسخ فلا صلة لها به نفيا ولا إثباتا .
ثالثا : إن هذه الجملة على التسليم بصحتها وصحة رواتها وكتابها الذي جاءت فيه لا تدل على امتناع النسخ مطلقا ، وإنما تدل على امتناع نسخ شيء من شريعة المسيح فقط فشبهتهم على ما فيه قاصرة قصورا بينا عن مُدَّعاهم .
3 - شبهة العيسوية :
يقول هؤلاء اليهود أتباع أبي عيسى الأصفهاني : لا سبيل إلى إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى قد أيده بالمعجزات الكثيرة القاهرة ولأن التوراة قد بشرت بمجيئه ولا سبيل أيضا إلى القول بعموم رسالته؛ لأن ذلك يؤدي إلى انتساخ شريعة إسرائيل بشريعته . وشريعة إسرائيل مؤبدة بدليل ما جاء في التوراة من مثل . " هذه شريعة مؤبدة عليكم ما دامت السماوات والأرض " وإنما هو رسول إلى العرب خاصة . وعلى هذا فالخلاف بينهم وبين من سبقهم أن دعواهم مقصورة على منع انتساخ شريعة موسى بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وشبهتهم التي ساقوها متكافئة مع دعواهم هذه ، ويفهم من اقتصارهم على هذا أنهم يجوزون تناسخ الشرائع سمعا فيما عدا هذه الصورة . وندفع شبهتهم هذه بأمرين :
أولهما : إن دليلهم الذي زعموه هو دليل العنانية والشمعونية من قبلهم وقد أشبعناه تزييفا وتوهينا بالوجوه التي أسلفناها آنفا فالدفع هنا هو عين الدفع هناك فيما عدا الوجه الأول .
ثانيهما : إن اعترافهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول أيده الله بالمعجزات وجاءت البشارة به في التوراة يقضي عليهم لا محالة أن يصدقوه في كل ما جاء به ، ومن ذلك أن رسالته عامة وأنها ناسخة للشرائع قبله حتى شريعة موسى نفسه الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي أما أن يؤمنوا برسالته ثم لا يصدقوه في عموم دعوته ، فذلك تناقض منهم لأنفسهم ومكابرة للحجة الظاهرة لهم .
4 - شبهة أبي مسلم :
النقل عن أبي مسلم مضطرب : فمِن قائل : إنه يمنع وقوع النسخ سمعا على الإطلاق ، ومِن قائل : إنه ينكر وقوعه في شريعة واحدة ، ومن قائل : إنه ينكر وقوعه في القرآن خاصة ، ورجحت هذه الرواية الأخيرة بأنها أصح الروايات ، وبأن التأويلات المنقولة عنه لم تخرج عن حدود ما نسخ من القرآن ، وأبعد الروايات عن الرجل هي الرواية الأولى ؛ لأنه لا يعقل أن مسلما فضلا عن عالم كأبي مسلم ينكر وقوع النسخ جملة ، إلا إذا كانت المسألة ترجع إلى التسمية فقط ، فإنها تهون حينئذ على معنى أن ما نسميه نحن نسخا يسميه هو تخصيصا بالزمان مثلا ، وإلى ذلك ذهب بعض المحققين . قال التاج السبكي : ( إن أبا مسلم لا ينكر وقوع المعنى الذي نسميه نحن نسخا ، ولكنه يتحاشى أن يسميه باسمه ، ويسميه تخصيصا ) اهـ .
وقد احتج أبو مسلم بقوله سبحانه : لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْـزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ وشبهته في الاستدلال أن هذه الآية تفيد أن أحكام القرآن لا تبطل أبدا ، والنسخ فيه إبطال لحكم سابق . وندفع مذهب أبي مسلم وشبهته بأمور أربعة . . .
أولها : أنه لو كان معنى الباطل في الآية هو متروك العمل به مع بقاء قرآنيته ، لكان دليله قاصرا عن مدعاه؛ لأن الآية لا تفيد حينئذ إلا امتناع نوع خاص من النسخ ، وهو نسخ الحكم دون التلاوة ، فإنه وحده هو الذي يترتب عليه وجود متروك العمل في القرآن ، أما نسخ التلاوة مع الحكم ، أو مع بقائه ، فلا تدل الآية على امتناعه بهذا التأويل .
ثانيها : إن معنى الباطل في الآية ما خالف الحق ، والنسخ حق ، ومعنى الآية أن عقائد القرآن موافقة للعقل ، وأحكامه مسايرة للحكمة ، وأخباره مطابقة للواقع ، وألفاظه محفوظة من التغيير والتبديل ، ولا يمكن أن يتطرق إلى ساحته الخطأ بأي حال : إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وَبِالْحَقِّ أَنْـزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَـزَلَ وتفسير الآية بهذا المعنى يجعلها أقرب إلى إثبات النسخ ووقوعه منها إلى نفيه وامتناعه؛ لأن النسخ كما تقرر تصرف إلهي حكيم تقتضيه الحكمة وترتبط به المصلحة .
ثالثها : إن أبا مسلم على فرض أن خلافه مع الجمهور لفظي لا يعدو حدود التسمية نأخذ عليه أنه أساء مع الله في تحمسه لرأي قائم على تحاشي لفظ اختاره جلت حكمته ، ودفع عن معناه بمثل قوله : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا وهل بعد اختيار الله اختيار؟ وهل بعد تعبير الله تعبير؟ .
رابعا : إن هناك فروقا بين النسخ والتخصيص وقد فصلناها فيما سبق .
الفصل الخامس
تفسير تحليلي للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم .
يستدل المجيزون للنسخ عقلا القائلون بوقوعه سمعا ببعض الآيات التي وردت فيها الإشارة إلى ذلك إما صراحة أو ضمنا .
فمما أشار إلى النسخ صراحة قوله تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ( البقرة : 106 ) وما أشار إليه ضمنا قوله تعالى : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ( المائدة : 48 ) . وقوله تعالى : يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ( الرعد : 39 ) ، وقوله تعالى : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ( النحل : 101 ) فهذه أربع آيات دلت إحداها دلالة صريحة على النسخ بمعنى أنها اشتملت على لفظه ودلت الثلاث الباقية عليه دلالة ضمنية .
وسنستعرض -تتميما للفائدة- ما قاله في تفسيرها بعض المفسرين لزيادة إيضاح المقصود من الاستدلال بها على جواز وقوع النسخ فنبدأ بالآية الأولى وهي آية البقرة ( 106 ) حيث يقول تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فنبين أنهم اختلفوا في قراءتها في موضعين:
أحدهما : في قوله مَا نَنْسَخْ فإنهم اختلفوا فيه على وجهين فقرأ عبد الله بن عامر الشامي وحده ( ما ننسخ ) بضم النون وكسر السين . وقرأ الباقون مَا نَنْسَخْ بفتح النون والسين .
والموضع الثاني : قوله تعالى أَوْ نُنْسِهَا وقد اختلفوا في قراءته على خمسة أوجه بعضها معروف وبعضها شاذ . فقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( أو ننساها ) . بألف وكذلك قرأ النخعي ومجاهد وعبيد بن عمير وعبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء وقرأها علي رضي الله عنه أَوْ نُنْسِهَا بنون مضمون من غير ألف ومن غير همزة وبه قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب الحضرمي وهي أيضا قراءة الحسن وسعيد بن المسيب وقتادة .
وقرأ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ( تنساها ) بالتاء لقوله عز وجل : سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى وقوله تعالى : وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ، وكذلك رواه شبابة عن أبي عمرو بن العلاء البصري وقرأها أبي بن كعب رضي الله عنه ( أو ننسك ) وحده . وقرأها عطاء بن أبي رباح ( أو ننسئها ) بياء مهموزة مكان الألف واختلاف هذه القراءة كلها معروفها وشاذها إن صحت الروايات فيها لاختلاف الغرض فتكون هذه الآية نازلة على هذه الوجوه كلها ويكون حكم ما اختلف لفظه واتفق معناه منها كقوله تعالى فَانْفَجَرَتْ و" انْبَجَسَتْ " وما اختلف لفظه ومعناه منها كقوله تعالى وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ بالضاد واتفق معناه : البخيل . و( بظنين ) بالظاء ومعناه المتهم ومعنى هذه الآية على قراءة الجماعة أن الله جل ذكره يخبر عن نفسه يقول ما نرفع من حكم آية ونبق تلاوتها أو ننسكها يا محمد لا تحفظ تلاوتها نأت بخير منها لكم أي نأت بآية أخرى هي أصلح لكم وأسهل في التعبد أو نأت بمثلها في العمل وأعظم في الأجر فهذا قول صحيح معروف وقد قيل : إن معناها : ما نرفع من حكم آية وتلاوتها نأت بخير منها أي أصلح لكم منها : وقال ابن زيد : إنساؤها محوها وتركها .
فأما قراءة من قرأ ( أو ننساها ) بالألف والنون فمعناه نؤخرها ويقال نسأت إذا أخرت ومنه قوله تعالى إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ وإنما أراد به تأخيرهم الوقوف بعرفة عن ذي الحجة في كل عام بعشرة أيام ليقع حجهم أبدا في الربيع ويقال : أنسأت الشيء أنسأ ، والنسيء اسم وضع موضع المصدر ، ونسأ الله في أجله ، وأنسأ الله أجله ، أي أخره ، وفي الحديث من أحب أن ينسأ الله في أجله فليصل رحمه والنسأ التأخير وفي حديث عمر ( ارموا فإن الرمي عدة ، فإذا رميتم فانتسئوا عن البيوت ) أي تأخروا عن البيوت . والمنسأة العصا لأنه يوخز بها الدابة يقال : نسأت الدابة إذا ضربتها بالمنسأة . قلت : ومنه قوله تعالى في عصا سليمان عليه السلام فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ونسأت اللبن إذا جعلت فيه الماء ليكثر وهو النسوء وامرأة نسوء إذا كان مظنونا بها الحمل ونسوة نساء وإنما قيل لها نسوء؛ لأن الحمل زيادة فيها وإنما قيل نسأت اللبن؛ لأن الماء زيادة فيه .
والتأخير زيادة في أجل الشيء ومدته فقوله ( ننسأها ) معناها نؤخرها كما بينا ومن قرأ نُنْسِهَا بضم النون وكسر السين فمعناه ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن ابن عباس رضي الله عنهما ( كان القرآن ينزل فيثبت الله منه ما يشاء وينسخ منه ما يشاء وعنده أم الكتاب ) .
ومن قرأ ( أو تنساها ) بالتاء أو قرأ ( أو ننسك ) أراد به نسيان النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن النسيان جائز عليه في صفته وغير جائز في صفة الله تعالى ، ومن قرأها بياء مهموزة بدل الألف أراد به التأخير أيضا لأنه قرأها بالإمالة .
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ما نبدل من آية . وقال ابن جريج عن مجاهد : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أي ما نمحو من آية . وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ قال : نثبت خطها ونبدل حكمها . حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم . وقال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي العالية محمد بن كعب القرظي نحو ذلك . وقال الضحاك مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ما ننسك . وقال عطاء أما مَا نَنْسَخْ فما نترك من القرآن . وقال ابن أبي حاتم يعني ترك فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم وقال السدي مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ نسخها قبضها وقال ابن أبي حاتم : يعني قبضها رفعها مثل قوله ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) وقوله لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا وقال ابن جرير مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره وذلك أن يحول الحلال حراما والحرام حلالا والمباح محظورا والمحظور مباحا ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها وكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها وسواء نسخ حكمها أو خطها إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة . وأما علماء الأصول فاختلفت عبارتهم في حد النسخ ، والأمر في ذلك قريب؛ لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولحظ بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه والنسخ لا إلى بدله ولم يشأ رحمه الله أن يتوسع في تفصيل ذلك فقال وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة في أصول الفقه . ثم قال : وقوله تعالى مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا يقول ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها وقال عطية العوفي : أو ننسأها نؤخرها فلا ننسخها . وقال السدي مثله أيضا ، وكذا الربيع بن أنس وقال الضحاك : ( ما ننسخ من آية أو ننسأها ) يعني الناسخ من المنسوخ . وقال أبو العالية : ( ما ننسخ من آية أو ننسأها) نؤخرها عندنا . وروى ابن جرير عن الحسن أنه قال في قوله أَوْ نُنْسِهَا إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قرأ قرآنا ثم نسيه وعن قتادة أيضا أنه قال : كان الله عز وجل ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء وينسخ ما يشاء .
وقوله تعالى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا يقول : خير لكم في المنفعة وأرفق بكم . وقال أبو العالية : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ فلا نعمل بها ( أو ننساها ) أي نرجئها عندنا نأت بها أو نظيرها . وقال السدي نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا يقول : نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه . وقال قتادة نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا يقول آية فيها رخصة فيها أمر فيها نهي اهـ .
وقال الإمام أبو الفرج بن الجوزي في تفسيره ( زاد المسير ) : قوله تعالى مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ سبب نزولها أن اليهود قالت لما نسخت القبلة : إن محمدا يحل لأصحابه إذا شاء ويحرم عليهم إذا شاء فنزلت هذه الآية . قال الزجاج : النسخ في اللغة إبطال شيء وإقامة آخر مقامه تقول العرب : نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله وفي المراد بهذا النسخ ثلاثة أقوال : أحدها : رفع اللفظ والثاني : تبديل الآية بغيرها رويا عن ابن عباس ، والأول قول السدي والثاني قول مقاتل ، والثالث : رفع الحكم مع بقاء اللفظ رواه مجاهد عن أصحاب ابن مسعود وقال أبو العالية : وقرأ ابن عامر ( ما ننسخ ) بضم النون وكسر السين . قال أبو علي : أي ما نجده منسوخا كقولك : أحمدت فلانا أي وجدته محمودا وإنما يجده منسوخا بنسخه إياه . قوله تعالى أَوْ نُنْسِهَا قرأ ابن كثير وأبو عمرو ( ننسأها ) بفتح النون مع الهمزة والمعنى نؤخرها . قال أبو زيد : نسأت الإبل عن الحوض فأنا أنسأها إذا أخرتها ، ومنه النسيئة في البيع وفي معنى نؤخرها ثلاثة أقوال : أحدها : نؤخرها عن النسخ فلا ننسخها قاله الفراء . والثاني : نؤخر إنزالها فلا ننزلها ألبتة . والثالث : نؤخرها عن العمل بها بنسخنا إياها حكاهما أبو علي الفارسي . وقرأ سعد بن أبي وقاص ( تَنسها ) بتاء مفتوحة ونون وقرأ سعيد بن المسيب والضحاك ( تُنسها ) بضم التاء وقرأ نافع ( أَوْ نُنْسِهَا ) بنونين الأولى مضمومة والثانية ساكنة أراد ( أو ننسكها ) من النسيان . قوله تعالى : نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا قال ابن عباس بألْيَنَ مِنها وأيسر على الناس . قوله تعالى أَوْ مِثْلِهَا أي في الثواب والمنفعة فتكون الحكمة في تبديلها بمثلها الاختبار . اهـ وجاء في تفسير العلامة أبي السعود ( إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ) في تفسير هذه الآية قوله رحمه الله : ما ننسخ من آية أو ننسها . كلام مستأنف مسوق لبيان سر النسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي وإبطال مقالة الطاغين فيه إثر تحقيق حقيقة الوحي ورد كلام الكارهين له رأسا ، قيل : نزلت حين قال المشركون أو اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه . والنسخ في اللغة الإزالة والنقل يقال : نسخت الريح الأثر أي أزالته ، ونسخت الكتاب أي نقلته ، ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها أو بالحكم المستفاد منها أو بِهِما جميعا .
وإنساؤها إذهابها من القلوب و( ما ) شرطية جازمة ( لننسخ ) منتصبة به على المفعولية ، وقرئ ( ننسخ من انسخ ) أي : نأمرك أو جبريل بنسخها أو تجدها منسوخة ، وننسأها من النسيء أي نؤخرها ، وننسّها بالتشديد وتَنسَها وتُنسَها على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم مبنيا للفاعل وللمفعول ، وقرئ ( ما ننسخ من آية أو ننسكها ) وقرئ ( ما نُنْسِك من آية أو ننسخها ) والمعنى : عن كل آية نذهب بها على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معا إلى بدل أو إلى غير بدل .
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أي نوع آخر هو خير للعباد ، وبحسب الحال في النفع والثواب من الذاهبة ، وقرئ بقلب الهمزة ألفا أَوْ مِثْلِهَا أي فيما ذكر من النفع والثواب وهذا الحكم غير مختص بنسخ الآية التامة فما فوقها بل جار فيما دونها أيضا ، وتخصيصها بالذكر باعتبار الغالب . والنص كما ترى دال على جواز النسخ ، كيف لا وتنزيل الآيات التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية إنما هو بحسب ما يقتضيه من الحكم والمصالح ، وذلك يختلف باختلاف الأحوال ويتبدل حسب تبدل الأشخاص والأبصار كأحوال المعاش فرب حكم تقتضيه الحكمة في حال تقتضي في حال أخرى نقيضه ، فلو لم يجز النسخ لاختل ما بين الحكمة والأحكام من النظام . اهـ وقال العلامة الشوكاني في تفسيره ( فتح القدير ) في معرض تفسيره لهذه الآية بعد أن عدد وجوه القراءات في نُنْسِهَا وقرأ الباقون نُنْسِهَا بضم النون من النسيان الذي بمعنى الترك أي نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها ومنه قوله تعالى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ أي تركوا عبادته فتركهم في العذاب ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم ، وحكى الأزهري أن معناه نأمر بتركها ، يقال : أنسيته الشيء أي أمرته بتركه ونسيته تركته ومنه قول الشاعر :
إن علــــــــي عقبــــــــة أقضيهـــــــا لســــــت بناســــــيها ولا منســـــيها
أي ولا آمر بتركها . وقال الزجاج : إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك . لا يقال أُنسي بمعنى ترك ، قال : وما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أَوْ نُنْسِهَا قال : نتركها لا نبدلها فلا يصح . والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى أَوْ نُنْسِهَا نبح لكم تركها ، من نسي إذا ترك ثم تعديه ، ومعنى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا نأت بما هو أنفع للناس منها في العاجل والآجل أو في أحدهما أو بما هو مماثل لها من غير زيادة ، ومرجع ذلك إلى إعمال النظر في المنسوخ والناسخ ، فقد يكون الناسخ أخف فيكون أنفع لهم في العاجل ، وقد يكون أثقل وثوابه أكثر فيكون أنفع لهم في الآجل ، وقد يستويان فتحصل المماثلة . وقوله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يفيد أن النسخ من مقدوراته وأن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية . وهكذا قوله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أي له التصرف في السماوات والأرض بالإيجاد والاختراع ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته فهو أعلم بمصالح عباده وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها وشرعها لهم ، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص ، وهذا صنع من لا ولي لهم غيره ولا نصير سواه ، فعليهم أن يتلقوه بالقبول والامتثال والتعظيم والإجلال . ثم قال رحمه الله في آخر تفسيره لهذه الآية : وقد ثبت في البخاري وغيره عن أنس : أن الله أنزل في الذين قتلوا في بئر معونة ( أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم نسخ . وهكذا ثبت في مسلم وغيره ، عن أبي موسى قال : كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها ( ولو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثا ولا يملأ جوفه إلا التراب ) وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات أولها ( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ) فأنسيناها غير أني حفظت منها ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألوا عنها يوم القيامة ) وقد روي مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة ومنه آية الرجم كما رواه عبد الرزاق وأحمد وابن حبان عن عمر اهـ .
وقال العلامة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تفسيره الموسوم ( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ) عند تفسيره لهذه الآية : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ النسخ هو النقل ، فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع إلى حكم آخر أو إلى إسقاطه وكان اليهود ينكرون النسخ ويزعمون أنه لا يجوز ، وهو مذكور عندهم في التوراة ، فإنكارهم له كفر وهوى محض ، فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ فقال : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا أي ننسها العباد فنزيلها من قلوبهم ، نأت بخير منها وأنفع لكم أَوْ مِثْلِهَا فدل على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول ؛ لأن فضله تعالى يزداد خصوصا على هذه الأمة التي سهل عليها دينها غاية التسهيل ، وأخبر أن من قدح في النسخ قدح في ملكه وقدرته ، فقال : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فإذا كان مالكا لكم متصرفا فيكم تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه ، فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير ، كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام ، فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية فما له والاعتراض ، وهو أيضا ولي عباده فيتولاهم في تحصيل منافعهم وينصرهم في دفع مضارهم ، فمن ولايته لهم أن يشرع لهم من الأحكام ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم . ومن تأمل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ عرف بذلك حكمة الله ورحمتَه عباده وإيصالهم إلى مصالحهم من حيث لا يشعرون بلطفه اهـ .
2 - والآية الثانية التي سنذكر ما قاله بعض المفسرين في تفسيرها مما استدلوا به على جواز وقوع النسخ هي قوله تعالى : وَأَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا الآية .
وشاهدنا منها قوله عز وجل : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا قال ابن الجوزي رحمه الله في تفسيره عند كلامه على هذه الآية وللمفسرين في معنى الكلام قولان : أحدهما : لكل ملة جعلنا شرعة ومنهاجا فلأهل التوراة شريعة ولأهل الإنجيل شريعة ولأهل القرآن شريعة . هذا قول الأكثرين . قال قتادة : الخطاب للأمم الثلاث أمة موسى وعيسى وأمة محمد فللتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللفرقان شريعة يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء بلاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل . والقول الثاني : إن المعنى لكل من دخل في دين محمد جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا . هذا قول مجاهد .
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وقال ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سبيلا وعنه أيضا " مِنْهَاجًا " قال سُنّة . وكذا رواه العوفي عن ابن عباس شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا سبيلا وسنة وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وقتادة والضحاك والسدي وأبي إسحاق السبيعي أنهم قالوا في قوله : شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أي سبيلا وسنة . إلى أن قال رحمه الله بعد أن نقل قولا حكاه ابن جرير عن مجاهد : إن المخاطب بهذه الآية هذه الأمة ، ومعناه لكل جعلنا القرآن منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجا أي هو لكم كلكم تقتدون به . . . إلخ . قال : ( والصحيح القول الأول ) ويعني به ما قاله قبل ذلك من أن هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد ، ويدل على ذلك قوله تعالى بعده : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً فلو كان هذا الخطاب لهذه الأمة لما صح أن يقول وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وهم أمة واحدة ولكن هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ شيء منها ، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعةً على حدة ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة وجعله خاتم الأنبياء كلهم اهـ .
وقال العلامة الشوكاني في تفسير هذه الآية : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا الشرعة والشريعة في الأصل : الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء ثم استعملت فيما شرعه الله لعباده من الدين . والمنهاج : الطريقة الواضحة البينة . وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد . الشريعة ابتداء الطريق ، والمنهاج الطريق المستمر ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها والإنجيل لأهله والقرآن لأهله وهذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن وأما بعده فلا شرعة ولا منهاج إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم اهـ .
وقال العلامة ابن سعدي في تفسيره لهذه الآية لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ أيها الأمم شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أي سبيلا وسنة وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها وأما الأصول الكبار التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان فإنها لا تختلف فتشرع في جميع الشرائع اهـ .
وقال صاحب تفسير المنار محمد رشيد رضا رحمه الله في تفسيره عند كلامه على هذه الآية لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا فهذه الجملة بيان لتعليل الأمر والنهي قبلها أي لكل رسول أو كل أمة منكم أيها المسلمون والكتابيون أو أيها الناس جعلنا شريعة أوجبنا عليهم إقامة أحكامها وطريقا للهداية فرضنا عليهم سلوكه لتزكية أنفسهم وإصلاحها؛ لأن الشرائع العملية وطرق التزكية الأدبية تختلف باختلاف أحوال الاجتماع واستعداد البشر ، وإنما اتفق جميع الرسل في أصل الدين وهو توحيد الله وإسلام الوجه له بالإخلاص والإحسان . ثم استعرض معاني الشرعة والمنهاج في اللغة واستعرض ما أخرجه غير واحد من رواة التفسير المأثور في تفسير الآية إلى أن قال رحمه الله : وظاهرٌ من قول قتادة أن الشريعة أخص من الدين إن لم تكن مباينة له وأنها الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل وينسخ لاحقها سابقها وأن الدين هو الأصول الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأنبياء اهـ .
3 - الآية الثالثة التي نريد استعراض أقوال بعض المفسرين في تفسيرها مما استدلوا به على جواز وقوع النسخ هي قوله تعالى في سورة الرعد آية 39 يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ فقد قال أبو الفرج بن الجوزي عند تفسيره لهذه الآية : قوله تعالى : يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وَيُثْبِتُ ساكنة الثاء خفيفة الباء . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ( ويثبت ) مشددة الباء مفتوحة الثاء قال أبو علي : المعنى ويثبته فاستغنى بتعدية الأول من الفعلين عن تعدية الثاني .
واختلف المفسرون في المراد بالذي يمحو ويثبت على ثمانية أقوال ، ثم مضى رحمه الله يعدد تلك الأقوال الثمانية وكلها لا صلة لها بمبحثنا إلا الثاني منها فهو المتعلق بموضوعنا حيث قال : والثاني أنه الناسخ والمنسوخ فيمحو المنسوخ ويثبت الناسخ روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والقرظي وابن زيد وقال ابن قتيبة يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ أي ينسخ من القرآن ما يشاء ويثبت أي يدعه ثابتا لا ينسخه وهو المحكم اهـ .
وقال الحافظ أبو الفداء بن كثير في تفسيره عند كلامه على هذه الآية يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ منها ، أي من الكتب المنزلة من السماء من عند الله حيث نقل في تفسيره للآية التي قبلها وهي قوله تعالى : لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ قول الضحاك بن مزاحم : أي لكل كتاب أجل يعني لكل كتاب أنزله من السماء مدة مضروبة عند الله ومقدار معين فلهذا يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ منها ويثبت يعني حتى نسخت بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه ، ثم أورد رحمه الله اختلافات المفسرين في تفسير الآية التي نحن بصددها إلى أن قال : ومعنى هذه الأقوال أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء . ثم مضى بعد ذلك إلى أن قال : وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ يقول يبدل ما يشاء فينسخه ويثبت ما يشاء فلا يبدله وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ وما يبدل وما يثبت كل ذلك في كتاب .
وقال قتادة في قوله يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ كقوله مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا الآية اهـ .
وقال أبو السعود في تفسيره لهذه الآية يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ أي ينسخ ما يشاء نسخه من الأحكام لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت ويثبت بدله المصلحة أو يبقيه على حاله غير منسوخ اهـ .
وكذلك أورد الشوكاني في ( فتح القدير ) ما أورد الحافظ ابن كثير في تفسيره الذي نقلناه آنفا عن ابن عباس للآية من أن المراد : يبدل ما يشاء فينسخه . . . إلخ . وقد قال في إسناده : وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في المدخل عن ابن عباس ثم حكاه اهـ .
4 - والآية الرابعة والأخيرة من الآيات التي استدلوا بها على جواز النسخ هي قوله سبحانه وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ النحل ( 101 ) والمعنى وإذا نسخنا آية بآية إما نسخ الحكم والتلاوة أو نسخ الحكم مع بقاء التلاوة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ من ناسخ ومنسوخ وتشديد وتخفيف فهو عليم بالمصلحة في ذلك قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ أي كاذب بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ فيه قولان : أحدهما : لا يعلمون أن الله أنزله . والثاني : لا يعلمون فائدة النسخ اهـ .
وقال الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية : يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم وأنه لا يتصور منهم الإيمان وقد كتبت عليهم الشقاوة وذلك أنهم إذا رأوا تغير الأحكام ناسخها بمنسوخها قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ أي كذاب وإنما هو الرب تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . وقال مجاهد : بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ أي رفعناها وأثبتنا غيرها . وقال قتادة هو كقوله تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا الآية وقال العلامة أبو السعود بن محمد العمادي الحنفي في تفسيره عند هذه الآية وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ أي إذا أنزلنا آية من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلا منها بأن نسخناها بها وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ أولا وآخِرًا وبأن كلا من ذلك ما نزلت حيثما نزلت إلا حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن كل وقت له مقتضى غير مقتضى الآخر فكم من مصلحة في وقت تنقلب في وقت آخر مفسدة وبالعكس لانقلاب الأمور الداعية إلى ذلك وما الشرائع إلا مصلحة للعباد في المعاش والمعاد تدور حسبما تدور المصالح . والجملة إما معترضة لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم . وفي الالتفات إلى الغيبة مع إسناد الخبر إلى الاسم الجليل المستجمع للصفات ما لا يخفى من تربية المهابة وتحقيق معنى الاعتراض أو حالية وقرئ بالتخفيف من الإنزال قَالُوا أي الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ أي متقول على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه وحكاية هذا القول عنهم هاهنا للإيذان بأن ذلك كفرة ناشئة من نزغات الشيطان وأنه وليهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون شيئا أصلا أو لا يعلمون أن في النسخ حكما بالغة وإسناد هذا الحكم إلى الأكثر لما أن منهم من يعلم ذلك وإنما ينكره عنادا اهـ .
وقال العلامة الشوكاني في تناوله لتفسير هذه الآية وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ هذا شروع منه سبحانه في حكاية شبه كفرية ودفعها ومعنى التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه . وتبديل الآية رفعها بأخرى غيرها وهي نسخها بآية سواها . وقد تقدم الكلام في النسخ في البقرة قَالُوا أي كفار قريش الجاهلون للحكمة في النسخ : إِنَّمَا أَنْتَ يا محمد مُفْتَرٍ أي كاذب مختلق على الله متقول عليه بما لم يقل حيث تزعم أنه أمرك بشيء ثم تزعم أنه أمرك بخلافه فرد الله سبحانه عليهم بما يفيد جهلهم فقال بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شيئا من العلم أصلا أو لا يعلمون الحكمة في النسخ فإنه مبني على المصالح التي يعلمها الله سبحانه ، فقد يكون في شرع هذا الشيء مصلحة مؤقتة بوقت ثم تكون المصلحة بعد ذلك الوقت في شرع غيره . لو انكشف الغطاء لهؤلاء الكفرة لعرفوا أن ذلك وجه الصواب ومنهج العدل والرفق واللطف ثم بين سبحانه لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله وأن رسوله صلى الله عليه وسلم افتراه فقال قُلْ نَـزَّلَهُ أي القرآن المدلول عليه بذكر الآية رُوحُ الْقُدُسِ أي جبريل والقدس التطهير والمعنى : نزله الروح المطهر من أدناس البشرية فهو من إضاف الموصوف إلى الصفة مِنْ رَبِّكَ أي ابتداء تنزيله من عنده سبحانه و بِالْحَقِّ في محل نصب على الحال أي متلبسا بكونه حقا ثابتا لحكمة بالغة لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا على الإيمان فيقولون : كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا ولأنهم أيضا إذا عرفوا ما في النسخ من المصالح ثبتت أقدامهم على الإيمان ورسخت عقائدهم اهـ .
وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ الآية . يذكر تعالى أن المكذبين بهذا القرآن يتتبعون ما يرونه حجة لهم وهو أن الله تعالى هو الحاكم الحكيم الذي يشرع الأحكام ويبدل حكما مكان آخر لحكمته ورحمته فإذا رأوه كذلك قدحوا في الرسول وبما جاء به و قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ قال الله تعالى : بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ منهم جهال لا علم لهم بربهم ولا بشرعه . إلى أن قال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى بعد ذلك لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا عند نزول آياته وتواردها عليهم وقتا بعد وقت فلا يزال الحق يصل إلى قلوبهم شيئا فشيئا حتى يكون إيمانهم أثبت من الجبال الرواسي وأيضا فإنهم يعلمون أنه الحق وإذا شرع حكما من الأحكام ثم نسخه علموا أنه أبدله بما هو مثله أو خير منه لهم وأن نسخه هو المناسب للحكمة الربانية والمناسبة العقلية
الفصل السادس
ما يقع فيه النسخ في القرآن
قال بدر الدين الزركشي في ( البرهان ) : الجمهور على أنه لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي وزاد بعضهم الأخبار وأطلق وقيدها آخرون بالتي يراد بها الأمر والنهي .
وقال أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي في ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) اعلم أنه جائز أن ينسخ الله جل ذكره جميع القرآن بأن يرفعه من صدور عباده ويرفع حكمه بغير عوض وقد جاءت في ذلك أخبار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم دليله قوله تعالى وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ . وقد كان من ذلك بعضه على ما روي من سورة الأحزاب ، وإنما يؤخذ ما كان من ذلك من طريق الأخبار والله أعلم بصحته ومنه ما رفع لفظه أن يتلى وبقي حفظه غير متلو على أنه قرآن وثبت حكمه بالإجماع كآية الرجم فالرواية المشهورة أنه كان فيما يتلى ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) فرفع رسم ذلك من المصحف المجمع عليه ولم تثبت تلاوته وبقي حكمه ولم ينس لفظه .
والذي هو عمدة هذا الباب هو ما يزيل الله جل ذكره حكمه ويبدله بغيره من حكم متلو ويبقى المنسوخ متلوا غير معمول به وقد ذكرنا مثاله ، أو يزيل حكمه ولفظه بحكم آخر متلو ، وهذا كله إنما يجوز في الأحكام والفرائض والأوامر والنواهي والحدود والعقوبات من أحكام الدنيا فهذا قول عامة العلماء وعليه العمل عند فقهاء الأمصار وهو الذي لا يجوز في النظر غيره ، فأما ما لا يجوز نسخه فهو كل ما أخبرنا الله تعالى عنه أنه سيكون أو أنه كان أو وعدنا به أو قص علينا من أخبار الأمم الماضيـة وما قـص علينا مـن أخبار الجنة والنار والحساب والعقاب والبعث والحشر وخلق السماوات والأرضين وتخليد الكفار في النار والمؤمنين في الجنة هذا كله وشبهه من الأخبار لا يجوز نسخه ؛ لأنه يتعالى أن يخبر عن الشيء على غير ما هو به . وكذلك ما أعلمنا به من صفاته لا يجوز في ذلك كله أن ينسخ ببدل منه فأما جواز أن ينسخ ذلك كله بإزالة حفظه من الصدور -ونعوذ بالله من ذلك- فذلك جائز في قدرته تعالى يفعل ما يشاء وقال الزرقاني في مناهل العرفان : إن تعريف النسخ بأنه ( رفع حكم شرعي بدليل شرعي ) يفيد في وضوح أن النسخ لا يكون إلا في الأحكام وذلك موضع اتفاق بين القائلين بالنسخ لكن في خصوص ما كان من فروع العبادات والمعاملات أما غير هذه الفروع من العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات . . . ومدلولات الأخبار المحضة فلا نسخ فيها على الرأي السديد الذي عليه جمهور العلماء .
أما العقائد فلأنها حقائق صحيحة ثابتة لا تقبل التغير والتبديل فبدهي ألا يتعلق بها نسخ ، وأما أمهات الأخلاق فلأن حكمة الله في شرعها ومصلحة الناس في التخلق بها أمر ظاهر لا يتأثر بمرور الزمن ولا يختلف باختلاف الأشخاص والأمم حتى يتناولها النسخ بالتبديل والتغيير . وأما أصول العبادات والمعاملات فلوضوح حاجة الخلق إليها باستمرار لتزكية النفوس وتطهيرها ولتنظيم علاقة المخلوق بالخالق والخلق على أساسهما فلا يظهر وجه من وجوه الحكمة في رفعها بالنسخ .
وأما مدلولات الأخبار المحضة فلأن نسخها يؤدي إلى كذب الشارع في أحد خبرية الناسخ أو المنسوخ وهو محال عقلا ونقلا . أما عقلا فلأن الكذب نقص والنقص عليه تعالى محال . وأما نقلا فلمثل قوله سبحانه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا . وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا .
نعم إن نسخ لفظ الخبر دون مدلوله جائز بإجماع من قالوا بالنسخ ولذلك صورتان : إحداهما : أن تنزل الآية مخبرة عن شيء ثم تنسخ تلاوتها فقط .
والأخرى : إن يأمرنا الشارع بالتحدث عن شيء ثم ينهانا أن نتحدث به .
وأما الخبر الذي ليس محضا بأن كان في معنى الإنشاء ودل على أمر ونهي متصلين بأحكام فرعية عملية فلا نزاع في جواز نسخه والنسخ به؛ لأن العبرة بالمعنى لا باللفظ ، مثال الخبر بمعنى الأمر تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فإن معناه ازرعوا . ومثال الخبر بمعنى النهي قوله سبحانه : الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ فإن معناه لا تنكحوا مشركة ولا زانية ( بفتح التاء ) ولا تنكحوا زانيا ولا مشركا ( بضم التاء ) لكن على بعض وجوه الاحتمالات دون بعض والفرق بين أصول العبادات والمعاملات وبين فروعها أن فروعها هي ما تتعلق بالهيئات والأشكال والأمكنة والأزمنة والعدد أو هي كمياتها وكيفياتها وأما أصولها فهي ذوات العبادات والمعاملات بقطع النظر عن الكم والكيف .
واعلم أن ما قررناه هنا من قصر النسخ على ما كان من قبيل الأحكام الفرعية العلمية دون سواها هو الرأي السائد الذي ترتاح إليه النفس ويؤيده الدليل وقد نازع في ذلك قوم لا وجه لهم فلنضرب عن كلامهم صفحا .
ويتصل بما ذكرنا أن الأديان الإلهية لا تناسخ بينها فيما بيناه من الأمور التي لا يتناولها النسخ بل هي متحدة في العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات وفي صدق الأخبار المحضة فيها صدقا لا يقبل النسخ والنقض اهـ . فالذي يقع عليه النسخ إذا هو الحكم الشرعي العملي الذي لم يلحقه تأبيد ولا توقيت كالأحكام التكليفية من وجوب وندب وإباحة وتحريم وكراهة .
وقال صاحب التقرير والتحبير : ( محل النسخ عند الحنفية حكم شرعي فرعي يحتمل في نفسه الوجود والعدم وعند طائفة منهم غير مقيد بتأبيد ولا توقيت قبل مضيه خلافا للآخرين ) وقد اتفقت كلمة القائلين بالنسخ المجيزين لوقوعه على عدم وقوعه في الأحكام العقلية كلمة القائلين بالنسخ المجيزين لوقوعه على عدم وقوعه في الأحكام العقلية وهي الأحكام التي يدركها العقل بنور البصيرة ويأتي الشرع مؤيدا لها كالإيمان بواحدانية الله تعالى وحسن الصدق والوفاء بالعهد وقبح الكفر والكذب وإخلاف الوعد .
وفي معرض حديثه عن نسخ الأخبار يقول الآمدي في الإحكام : ( إن الخبر إما أن تنسخ تلاوته أو تكليفنا بأن نكون قد كلفنا أن نخبر بشيء فينسخ عنا التكليف بذلك الإخبار ) ويقول البدخشي في ذلك أيضا ( لا خلاف في أن التكليف بالأخبار بشيء من عقلي أو عادي أو شرعي ثم نسخه بعد ذلك جائز ) .
وقد ذهب ابن حزم رحمه الله إلى أن النسخ لا يقع إلا في الأوامر والنواهي فأما الأخبار فلا يقع فيها النسخ إطلاقا ولا يصح أن يقع في مدلول الخبر إلا إن كان المراد من الخبر والأخبار الأمر والنهي . وقد قسم حين تكلم عن نسخ الأخبار الكلام إلى أربعة أقسام أمر ورغبة وخبر واستفهام وبين أن
( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 255)
القسم الأول هو الذي يقع فيه النسخ أما ما سواه فلا يقع فيها . وقد سمى الرجوع عن الأمر بإحداث أمر غيره نسخا وإذا ورد لفظ الكلام كلفظ الخبر ومعناه معنى الأمر جاز النسخ فيه مثل قوله تعالى : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ وقوله تعالى : فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا .
وإذا كان مضمون الخبر مما يتغير جاز نسخه مطلقا وإليه يذهب أبو عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري وهو المختار عند الآمدي ، سواء كان ماضيا أو مستقبلا وقد علل هذا الاختيار بقوله : ( وذلك لأنه إذا ما دل عليه كان الإخبار متكررا والخبر عام فيه فأمكن أن يكون الناسخ مبينا لإخراج بعض ما تناوله اللفظ وأن المراد بعض ذلك المذكور كما في الأوامر والنواهي ) واختار هذا القول ابن تيمية أيضا وذهب فخر الدين الرازي إلى جواز النسخ في مدلول الخبر الذي يتغير . أما أبو الحسين البصري فيجيز نسخ تلاوة الخبر كنسخ تلاوة أخبار التوراة كما يجيز نسخ الابتداء بالخبر نحو أن يأمرنا الله سبحانه أن نخبر عن شيء فيجوز أن ينسخ عنا وجوب الإخبار عنه سواء كان الخبر مما يجوز أن يتغير أو مما لا يجوز أن يتغير كالإخبار عن صفات الله سبحانه ؛ لأنه لا يمتنع أن يكون في الإخبار عن ذلك مفسدة كما كان في تلاوة الجنب والحائض للقرآن مفسدة أما ابن أمير الحاج صاحب ( التقرير والتحبير على تحرير الكمال بن الهمام ) فيقسم مدلول الخبر إلي قسمين :
الأول : إن ترتب على جواز نسخه الكذب والخلف في حق من لا يجوز عليه ذلك فلا يجوز نسخه ويلحق هذا القسم بالأخبار التي يوجبها العقل في عدم جواز نسخها .
الثاني : أنه إن لم يترتب على نسخه الكذب فلا يكون خبرا ويجوز نسخه .
ولقد لخص ابن أمير الحاج موقف العلماء من وقوع النسخ في الأخبار بقوله :
قال الجمهور : لا يجري النسخ في الأخبار سواء كانت ماضية أو مستقبلة؛ لأن النسخ فيها هو الكذب والشارع منزه عنه والحد فيه أن النسخ لا يجري في واجبات العقل بل في جائزاتها وتحقق المخبر به في خبر من لا يجوز عليه الكذب والخلف من الواجبات والنسخ فيه يؤدي إلى الكذب فلا يجوز . ثم ذكر أن هناك من العلماء من قال بجواز نسخ الأخبار مطلقا سواء كانت ماضية أو مستقبلة وعدا أو وعيدا ونسب هذه القول إلى الإمام الرازي والآمدي إذا كان مدلول الخبر مما يتغير . كما ذكر أن صاحب ( كشف الأسرار ) قد أسند هذا القول إلى بعض المعتزلة والأشعرية إذا كان مدلوله متكررا والإخبار عنه عاما . وهناك من العلماء من فرق بين أخبار الوعد وأخبار الوعيد فمنع النسخ في خبر الوعد؛ لأن فيه إخلافا في الإنعام والخلف في الإنعام محال على الله تبارك وتعالى . وأما الوعيد ففي جواز وقوع النسخ فيه حكمة بالغة وهو دليل على عفو الله وكرمه لا على خلفه وخلاصة القول فيما يقع فيه النسخ في القرآن الكريم أنه يقع في الأحكام والفرائض والأوامر والنواهي والحدود والعقوبات من أحكام الدنيا باتفاق عامة العلماء وهو الذي عليه العمل عند فقهاء الأمصار وأما الأخبار فإن لعلماء الأصول في وقوع النسخ فيها من عدمه ثلاثة مذاهب :
1 - منع نسخها مطلقا .
2 - جواز نسخها مطلقا .
3 - التفصيل في ذلك على الوجه الذي أسلفناه مجملا . .
الفصل السابع
أنواع النسخ في القرآن
يقرر الباحثون في علوم القرآن باتفاق أن أنواع النسخ في القرآن الكريم ثلاثة هي :
الأول : ما نسخ رسمه وبقي حكمه كآية الرجم ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لولا أن يقول الناس زاد ابن الخطاب في كتاب الله لكتبت في حاشيته ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) رواه أحمد ومالك في الموطأ وأبو داود . وكذلك آية الرضاع في قول أصحاب الشافعي رحمه الله وقد قالت عائشة رضي الله عنها : ( كان فيما أنزل الله تعالى عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخن بخمس معلومات ) . رواه مالك في الموطأ ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي . فالخمس منها منسوخ الرسم ثابت الحكم عند الشافعي وأصحابه . وقال مالك وأصحاب الرأي بنسخها بالرضعة الواحدة .
والقسم الثاني : ما نسخ حكمه ورسمه معا كالعشر من الرضعات عند الشافعي وأصحابه .
والقسم الثالث : ما نسخ حكمه وبقي رسمه كالآيات المنسوخة أحكامها مع بقاء نظمها في القرآن وقال الزركشي في البرهان حين كر القسم الأول : ( فيعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول ) فجعل شرط العمل به أن يكون مجمعا عليه . ثم قال بعد أن أورد خبر عمر رضي الله عنه الذي ذكر أن البخاري رواه في صحيحه معلقا : ( وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بن كعب : كانت سورة الأحزاب توازي سورة النور فكان فيها ( الشيخ والشيخة ) . . . إلخ . إلى أن قال : وذكر الإمام المحدث أبو الحسين أحمد بن جعفر المنادي في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) مما رفع رسمه من القرآن ولم يرفع من القلوب حفظه سورتا القنوت في الوتر قال : ولا خلاف بين الماضين والغابرين أنهما مكتوبتان في المصاحف المنسوبة إلى أبي بن كعب وأنه ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقرأه إياهما وتسمى سورتي الخلع والحفد . . . ) اهـ .
ثم افترض سؤالا هو : ما الحكمة في رفعه التلاوة مع بقاء الحكم وهلا أبقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟ وذكر أن أبا الفرج بن الجوزي قد أجاب على هذا السؤال المفترض في كتابه ( فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن ) بقوله : إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام والمنام أدنى طرق الوحي .
وقد ذكر الزركشي أن النوع الثاني من الأنواع الثلاثة ورد في ثلاث وستين سورة ثم عاد إلى الأسئلة الافتراضية فقال بعد إيراده بعض الأمثلة على نسخ الحكم وبقاء التلاوة والجواب من وجهين :
أحدهما : إن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه والعمل به فيتلى لكونه كلام الله تعالى فيثاب عليه فتركت التلاوة لهذه الحكمة .
وثانيهما : إن النسخ غالبا يكون للتخفيف فأبقيت التلاوة تذكيرا بالنعمة ورفع المشقة وأما حكمة النسخ قبل العمل كالصدقة عند النجوى فيثاب على الإيمان به وعلى نية طاعة الأمر . وعند كلامه على نسخ الحكم والتلاوة معا قال رحمه الله تعليقا على قول عائشة رضي الله عنها في حديث الرضعات : فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مما يقرأ من القرآن حسب رواية مسلم رحمه الله وقد تكلموا في قولها (وهي مما يقرأ) فإن ظاهره بقاء التلاوة وليس كذلك . فمنهم من أجاب بأن المراد قارب الوفاة . والأظهر أن التلاوة نسخت أيضا ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي وبعض الناس يقرؤها .
وقال أبو موسى الأشعري : نزلت ثم رفعت اهـ وعلق على خبر عائشة أيضا مكي بن أبي طالب بقوله : ( فهذا قول عائشة غريب في الناسخ والمنسوخ ، والناسخ غير متلو والمنسوخ غير متلو وحكم الناسخ قائم ) .
وهذه الأنواع الثلاثة التي ذكرناها إنما هي للنسخ في القرآن الكريم من حيث هو بيد أن مكي بن أبي طالب رحمه الله تعالى قد ذكر في ( الإيضاح ) تقسيما آخر للنسخ باعتبار المنسوخ فأثبت ستة أقسام للمنسوخ من القرآن فيما يلي بيانها :
الأول : ما رفع جل ذكره رسمه من كتابه بغير بدل منه وبقي حفظه في الصدور ومنه الإجماع على ما في المصحف من تلاوته على أنه قرآن وبقي حكمه مجمعا عليه نحو آية الرجم التي تقدم ذكرها .
الثاني : ما رفع الله حكمه من الآي بحكم آية أخرى وكلاهما ثابت في المصحف المجمع عليه متلو وهذا هو الأكثر في المنسوخ ولا يكون في الأخبار على ما قدمنا وقد مضى تمثيله في آية الزواني المنسوخة بالجلد المجمع عليه في سورة النور كلاهما باق متلو كله .
الثالث : ما فرض العمل به لعلة ثم زال العمل به لزوال تلك العلة وبقي متلوا ثابتا في المصحف نحو قوله وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ الآية وقوله تعالى : وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا وقوله : فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا أمروا بذلك كله وفرض عليهم بسبب المهادنة التي كانت بين النبي - عليه الصلاة والسلام- وبين قريش في سنة ست في غزاة الحديبية إذ صدوه عن البيت فلما ذهبت المهادنة وزال وقتها سقط العمل بذلك كله وبقي اللفظ متلوا وثابتا في المصحف الرابع : ما رفع الله رسمه وحكمه وزال حفظه من القلوب . وهذا النوع إنما يؤخذ بأخبار الآحاد وذلك نحو ما روى عاصم ابن بهدلة المقري - وكان ثقة مأمونا- عن زر أنه قال : قال لي أبي : يا زر إن كانت سورة الأحزاب لتعدل سورة البقرة . ومنه ما روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال : نزلت سورة نحو سورة براءة ثم رفعت وذكر أنه حُفظ منها شيء . يقول مكي : أضربت أنا عن ذكره؛ لأن القرآن لا يؤخذ بالأخبار وقد ذكر من نحو هذا أشياء كثيرة اخترت أنا الإضراب عن نصها إشفاقا والله أعلم بذلك كله .
الخامس : ما رفع الله -جل ذكره- رسمه من كتابه فلا يتلى وأزال حكمه ولم يرفع حفظه من القلوب ومنع الإجماع من تلاوته على أنه قرآن . وهذا أيضا إنما يؤخذ من طريق الأخبار نحو ما ذكرنا من حديث عائشة رضي الله عنها في العشر الرضعات والخمس فالأمة مجمعة على أن حكم العشر غير لازم ولا معمول به عند أحد . وإنما وقع الاختلاف في التحريم برضعة على نص القرآن في قوله : وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ أو بخمس رضعات على قول عائشة أنها نسخت العشر وكانت مما يتلى وقد ذكرنا هذا .
السادس : ما حصل من مفهوم الخطاب فنسخ بقرآن متلو وبقي المفهوم ذلك منه متلوا نحو قوله لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى فهم من هذا الخطاب أن السكر في غير وقت الصلاة جائز فنسخ ذلك المفهوم قوله فَاجْتَنِبُوهُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فحرم الخمر والسكر مثل الخمر وبقي المفهوم ذلك منه متلوا قد نسخ أيضا بما نسخ ما فهم منه فيكون فيه نسخان : نسخ حكم ظاهر متلو ونسخ حكم ما فهم من متلوه . وكما قسم مكي رحمه الله النسخ باعتبار المنسوخ فقد قسمه أيضا من حيث الناسخ إلى ثلاثة أقسام هي :
الأول : أن يكون الناسخ فرضا نسخ ما كان فرضا ولا يجوز فعل المنسوخ نحو قوله تعالى وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فرض الله فيها حبس الزانية حتى تموت أو يجعل الله لها سبيلا ثم جعل السبيل بالحدود في سورة النور بقوله فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ فكان الأول فرضا فنسخه فرض آخر ولا يجوز فعل الأول المنسوخ وكلاهما متلو مدني .
الثاني : أن يكون الناسخ فرضا ونحن مخيرون في فعل الأول وتركه وكلاهما متلو وذلك نحو قوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا ففرض الله على الواحد المؤمن ألا ينهزم لعشرة من المشركين ثم نسخ ذلك بقوله الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ ففرض على الواحد المؤمن ألا ينهزم لاثنين من المشركين فنسخ فرض فرضا وكلاهما متلو ولو وقف الواحد لعشرة من المشركين فأكثر لجاز فنحن مخيرون في فعل المنسوخ وتركه .
الثالث : أن يكون الناسخ أمر بترك العمل بالمنسوخ الذي كان فرضا من غير بدل ونحن مخيرون في فعل المنسوخ وتركه وفعله أفضل وذلك كنسخ الله-جل ذكره- قيام الليل وقد كان فرضا فنسخه بالأمر بالترك تخفيفا ورفقا بعباده ونحن مخيرون في قيام الليل وتركه وفعله أفضل وأشرف وأعظم أجرا . ثم ذكر مكي أن قوما قد زادوا في أقسام الناسخ قسما رابعا وهو أن يكون الناسخ فرضا نسخ ما كان ندبا غير فرض كالقتال كان ندبا ثم صار فرضا
آراء العلماء في أنواع النسخ
أما نسخ التلاوة والحكم معا فمما اتفق عليه سائر مجيزي النسخ . وأما نسخ الحكم وبقاء التلاوة فهو رأي الجمهور ومنعه بعض المعتزلة لعدم إدراكهم الحكمة في ذلك . وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فهو رأي الجمهور أيضا مع خلاف بعض المعتزلة . كما خالف رأي الجمهور أيضا في هذا النوع الشيخ محمد الخضري في كتابه ( الأصول ) حيث يقول : أنا لا أفهم معنى آية أنزلها الله لتفيد حكما ثم يرفعها مع بقاء حكمها فما هي المصلحة في رفع آية مع بقاء حكمها؟ إن ذلك غير مفهوم . وفي رأيي ليس هناك ما يلجئني إلى القول به ثم قال (وحجة الجمهور أخبار آحاد لا يقوم برهانا على ذلك) وقد رد صاحب كتاب ( دراسات في الإحكام والنسخ في القرآن الكريم ) الشيخ محمد حمزة على استشكال الخضري بعد إيراده له بقوله : حجة الجمهور أحاديث صحيحة مشهورة لا يبعد أن يدعى تواترها . كما قال شارح مسلم الثبوت وهي تكفي حجة في كل حكم شرعي بل إن آية الرجم ثابتة بالتواتر؛ لأن الإجماع ظاهرها وليس بعد ذلك قول لقائل؛ لأن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعلن ذلك على المنبر على مسمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخالفه أحد ، وعدم مخالفة أحد من الصحابة يعد إجماعا سكوتيا كما اختلفوا في الاحتجاج بحديث الرضعات الخمس الذي روته عائشة رضي الله عنها ومثلنا به لما نسخ حكمه وتلاوته معا حيث إنه آحاد وإذا كان كذلك فإنه لا يثبت به قرآن ناسخا أو منسوخا . وإذا لم يثبت به قرآن فهل يجوز الاحتجاج به أم لا؟ قولان . فالشافعية قالوا نعم والأحناف قالوا : لا وقال الذين يرون الاحتجاج به أنه قد عمل به من الصحابة ابن مسعود وابن الزبير رضي الله عنهما وعمل به من الأئمة الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى .
الفصل الثامن
أمثلة للنسخ وما قيل إنه نسخ وليس بنسخ
أولا : أمثلة للنسخ :
1 - قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ منسوخة قيل بآية المواريث وقيل بحديث ألا لا وصية لوارث وقيل بالإجماع حكاه ابن العربي .
2 - قوله تعالى يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ منسوخة بقوله تعالى وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً أخرجه ابن جرير عن عطاء بن ميسر .
3 - قوله تعالى وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ منسوخة بقوله بعده لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا .
4 - قوله تعالى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ منسوخة بقوله سبحانه وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ .
5 - قوله تعالى وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ
( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 265)
الآية منسوخة بآية النور الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ الآية.
6 - قوله تعالى وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ في آية المائدة منسوخة بإباحة القتال فيه .
7 - قوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ الآية منسوخة بالآية بعدها .
8 - قوله تعالى فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ منسوخة بقولة تعالى وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ الآية .
9 - قوله تعالى أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ منسوخ بقوله وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ .
10 - قوله تعالى انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا منسوخة بآيات العذر كقوله تعالى لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ الآية . وقوله لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ومنسوخة كذلك بقوله تعالى وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً .
11 - قوله تعالى لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ منسوخة بقوله سبحانه يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ الآية .
12 - قوله تعالى إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً منسوخة بقوله تعالى بعدها أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الآية .
13 - قوله تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ منسوخة بقوله فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ على رأي ابن عباس ثانيا : ما توهم أنه نسخ وليس كذلك .
هناك آيات ذكرها بعض من ألفوا في علم الناسخ والمنسوخ على سبيل التوهم منهم إذ لا يصح أن تكون منسوخة ولا علاقة لها بالنسخ يوجه من الوجوه وسنذكر فيما يلي أمثلة لما توهم أنه نسخ وليس كذلك :
1 - قوله تعالى وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وقوله سبحانه أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ونحو ذلك . قالوا : إنه منسوخ بآية الزكاة وليس كذلك بل هو باق .
أما الأولى فإنها خبر في معرض الثناء عليهم بالإنفاق وذلك يصلح أن يفسر بالزكاة وبالإنفاق على الأهل وبالإنفاق في الأمور المندوبة كالإعانة والإضافة وليس في الآية ما يدل على أنها نفقة واجبة غير الزكاة والآية الثانية يصح حملها على الزكاة وقد فسرت بذلك .
2 - قوله تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ . قيل : إنها مما نسخ بآية السيف وليس كذلك لأنه تعالى أحكم الحاكمين أبدا لا يقبل هذا الكلام النسخ وإن كان معناه الأمر بالتفويض وترك المعاقبة .
3 - قوله تعالى وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا عده بعضهم من المنسوخ بآية السيف وقد غلطه ابن الحصار بأن الآية حكاية عما أخذه على بني إسرائيل من الميثاق فهو خبر لا نسخ فيه .
4 - قوله تعالى إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا الآية . وكذلك قوله تعالى وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا الآية وكذلك قوله تعالى فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وهذه الآيات ليس فيها نسخ وليست من بابه وإنما هي من قبيل التخصيص باستثناء أو غاية . وقد أخطأ من أدخلها في المنسوخ .
5 - وكذلك قوله تعالى وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ . قيل : إنه نسخ بقوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ . وليس كذلك وإنما هو مخصوص به .
( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 268)
6 - قوله تعالى فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ . الآية . توهم قوم أن هذا منسوخ بقوله تعالى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ . وليس الأمر كذلك وإنما هو على أحد وجهين :
الأول : أن يكون تحريم وطء الحائض نزل قبل إباحة الوطء ليلة الصيام فنزل ذلك وقد استقر في أنفسهم تحريم وطء الحائض فصارت المباشرة المباحة مخصوصة ليل الصوم في غير الحائض من زوجة وأمة .
الثاني : أن يكون تحريم وطء الحائض نزل بعد هذه الآية فتكون مبينة لها ومخصصة أنها في غير ذوات الحيض فلا يجب أن يدخل هذا في الناسخ والمنسوخ وممن وهم في هذا الباب ابن خزيمة في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) فقد اشتبه عليه التخصيص بالنسخ فعد كثيرا منه نسخا كاعتباره آية إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْـزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ . الآية منسوخة بالاستثناء كلها؛ لأن الله تعالى حرم جميع ذلك ثم أباحها للمضطر بقوله فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وهذا تخصيص لا نسخ كما عد الاستثناء في مواضع كثيرة نسخا أيضا مثل ما جاء في قوله تعالى : أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (159) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا وهو كسابقه من قبيل التخصيص لا النسخ وقد عقد ابن خزيمة بابا خاصا في كتابه المومى إليه لذكر المنسوخ بالاستثناء فحصر الآيات من هذا القبيل بثلاث وعشرين آية .
كما عقد بابين في كتابه المذكور أحدهما لذكر الآيات المنسوخة بآية السيف وهي قوله تعالى فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فعد في هذا مائة وثلاثا وعشرين آية لا تصح دعوى النسخ في واحدة منها .
قال الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير : وأكثر المفسرين يقولون إن كل ما في القرآن من قوله فَأَعْرِضْ منسوخ بآية القتال . وهو باطل؛ لأن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ بها ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم في الأول كان مأمورا بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أمر بإزالة شبههم والجواب عنها فقيل له وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ثم لما لم ينفع ذلك فيهم قيل له أعرض عنهم ولا تقابلهم بالدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به وقاتلهم . والإعراض عن المناظرة شرط لجواز المقاتلة فكيف يكون منسوخا بها . والباب الثاني الذي عقده ابن خزيمة في كتابه هو باب ما نسخ من القرآن بآية القتال وذكر فيه تسع آيات لا تصح دعوى النسخ في أي منها كذلك .
ولعل من المناسب بعد أن ذكرنا بعض الأمثلة لما توهم أنه نسخ وليس بنسخ أن نشير بإيجاز إلى أبرز أسباب توهم النسخ فيما توهموه فيه فنقول :
أولا : اشتباه التخصيص بالنسخ عليهم وقد تقدم مثاله .
ثانيا : ظنهم أن ما شرع لسبب ثم زال لزوال سببه من المنسوخ فعدوا الآيات التي وردت في الحث والصبر وتحمل أذى الكفار أيام ضعف المسلمين منسوخة بآيات القتال وليس الأمر كذلك تحقيقا .
ثالثا : اعتبروا كل قيد لآية من قبيل النسخ كقوله تعالى وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ . فعده ابن خزيمة وغيره ناسخا لعموم المشركين في قوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ مع أنه تخصيص بالقيد .
رابعا : إدخال كثير من الآيات الخبرية في باب المنسوخ مع أنه لا يجوز نسخ الخبر إلا إذا تضمن حكما شرعيا أما إذا كان خبرا محضا فلا ، كما تقدم في موضعه من هذا البحث ومثاله ما قدمناه من اعتبارهم قوله تعالى وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ و أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ منسوخا بآية الزكاة وليس كذلك ومثله أيضا قوله تعالى وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ حيث عدها هبة الدين بن سلامة منسوخة بقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وليس كذلك إذ هما خبران محضان لا يجري النسخ فيهما .
خامسا : اشتباه البيان بالنسخ عليهم كقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا حيث عدها هبة الله بن سلامة منسوخة بقوله تعالى وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ الآية . ثم اعتبر هذه أيضا منسوخة بقوله : وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ حيث قال : فصارت هذه ناسخة لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا الآية . وليس هذا بنسخ وإنما هو بيان لما ليس بظلم ، وببيان ما ليس بظلم يتبين الظلم .
سادسا : توهم وجود تعارض بين نصين ولا تعارض بينهما في الحقيقة كتوهم التعارض بين آية الزكاة وآيات الصدقات الواردة في القرآن الكريم مما حدا بابن سلامة في الناسخ والمنسوخ وابن الجوزي في نواسخه أن يقولا : قال أبو جعفر يزيد بن القعقاع : ( نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن فصارت آية الزكاة ناسخة لكل صدقة ) . مع أنه لا يوجد في الواقع تعارض ولا تناف بين هذه وتلك حيث يصح حمل الإنفاق في آيات الصدقات على ما يشمل الزكاة وصدقة التطوع ونفقة الأهل والأقربين ونحو ذلك وتكون آيات الزكاة من قبيل ذكر فرد من أفراد العام بحكم العام وهذا لا يخصص العام ولا ينسخه وذلك لعدم وجود تعارض حقيقي لا بالنسبة إلى كل فرد من أفراد العام حتى يكون ناسخا ولا بالنسبة إلى بعضها حتى يكون مخصصا .
هذه أبرز أسباب توهم من توهم ما ليس بنسخ نسخا وإلا فإن هناك أسبابا أخرى لا يتسع المجال لذكرها .
خاتمة البحث
وهكذا يتبين لنا بعد التجوال في ميدان هذا العلم من علوم القرآن الكريم أعني ( الناسخ والمنسوخ ) أنه علم من آكد العلوم وأوجبها تعلما وحفظا وبحثا وفهما وخاصة لمن أراد أن يخوض غمار تفسير كتاب الله تعالى وأن يغوص في لجته لاستخراج الدرر الثمينة والجواهر النفيسة . بل إنه علم لا يسع كل من تعلق بأدنى علم من علوم الديانة جهله كما قال ذلك مكي بن أبي طالب القيسي رحمه الله تعالى .
وإن مما يدل على عظم شأن هذا العلم وجليل خطره أن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه عداه شرطا لكون الإنسان عالما . وأن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة اعتبره شرطا للإفتاء بل قال : إنه لا يحل لأحد أن يفتي حتى يعرفه .
وتبين لنا من خلال بحثنا أن النسخ في اللغة معناه الإزالة والتغيير تقول ( نسخت الشمس الظل ) أي أزالته ( ونسخت الريح آثار الدار ) أي غيرتها كما يأتي بمعنى النقل كقولك ( نسخت الكتاب ) إذا نقلت ما فيه . وهو بهذا دائر في ثلاثة أوجه هي : النقل ، والإزالة مع حلول المزيل محل المزال ، والإزالة مع عدم حلول المزيل محل المزال فكأنه بمعنى المحو .
وأنه في الاصطلاح ( رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ) كما هو عند جمهور المحققين .
وهنالك تعريفات اصطلاحية أخرى للنسخ أثبتناها في موضعها لا تخرج في جملتها عن مضمون هذا التعريف .
كما بينا في ثنايا هذا البحث الفرق بين النسخ والتخصيص وقلنا : إن هنالك فروقا سبعة بينهما ذكرناها في موضوعها بالتفصيل مع أمثلتها التي توضحها .
ثم عرجنا على ما يتعلق بشروط النسخ فبينا في الفصل الثالث أن شروط النسخ نوعان : نوع متفق عليه . ونوع مختلف فيه وذكرنا أربعة من الشروط المتفق عليها وسبعة من الشروط المختلف فيها وذكرنا أن صاحب ( نظرية النسخ في الشرائع السماوية ) قد نقل عن الآمدي في ( الأحكام ) والزرقاني في ( مناهل العرفان ) أن الراجح كونه لا داعي لهذه الشروط السبعة المختلف فيها .
ونقلنا عن كل من مكي بن أبي طالب وعبد القاهر بن طاهر البغدادي عددا من الشروط التي يشترطانها لتحقيق النسخ .
ثم انتقلنا إلى استعراض آراء العلماء أفرادا وطوائف في حكم النسخ مع مناقشة تلك الآراء وتفنيد ما تستدعي الحال تفنيده منها وبيان وجه الحق في ذلك مستعرضين أدلة وحجج المجيزين والمانعين له على السواء وقد رأينا أن أدلة المجيزين له هي الأظهر وأن حجتهم هي الأبلغ والأقوى لانطلاقها من كون الله تعالى هو الفعال لما يريد يأمر عباده بما شاء وينهاهم عما يشاء يبقي من أحكامه على ما يشاء وينسخ منها ما يشاء بناء على اختياره ومشيئته وكبريائه وعظمته سبحانه إذ لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا ملزم يلزمه جل وعلا .
وقلنا : إن مذهب هؤلاء المنكرين للنسخ هو أخطر المذاهب وأشنعها في هذا الباب وأبعدها عن الحق وأكثرها مجانبة للصواب وولوغا في الباطل .
واتضح لنا أن هنالك إجماعا على جواز النسخ عقلا ووقوعه سمعا لم يخرج عليه سوى من لا يعتد به كالشمعونية إحدى فرق اليهود الثلاث وبعض نصارى هذا الزمان وأبي مسلم الأصفهاني ومن شايعه الذي يرى أن النسخ جائز عقلا ممتنع سمعا في حين يرى بعض النصارى المعاصرين وكذلك الشمعونيون من اليهود استحالة النسخ وامتناعه عقلا وسمعا .
ورأينا كيف يثير المانعون شبها كثيرة تولى العلماء المختصون رحمهم الله ردها وتفنيدها وإبطالها بكل جلد وقوة وعلم .
أما في الفصل الخامس فقد قمنا بتفسير تحليلي للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم معتمدين في ذلك على النقل عن بعض التفاسير المعتمدة والمعتبرة مشيرين إلى الاختلاف الواقع في قراءة الآية إن وجد موضحين دلالة كل آية منها على النسخ مشيرين إلى الأوجه اللغوية وما حكاه أئمة اللغة وأئمة التفسير معا في إيضاح وبيان معاني تلك الآيات بتفصيل واف لكافة وجوهها وناقشنا بعد ذلك ما يقع فيه النسخ في القرآن الكريم فخلصنا إلى أنه لا يقع إلا في الأوامر والنواهي والأحكام والفرائض والحدود والعقوبات من أحكام الدنيا وهو قول عامة العلماء والذي عليه العمل عند فقهاء الأمصار . وأما الأخبار المحضة وما قص الله علينا من أخبار الجنة والنار والحساب والعقاب والبعث والحشر ونحو ذلك من الأخبار فلا يجوز نسخه ؛ لأن الله سبحانه يتعالى أن يخبر عن الشيء على غير ما هو به .
وقد أطلنا في بيان عدم وقوع النسخ في الأخبار المحضة وذكرنا آراء من شذ عن الإجماع فأجاز النسخ في الأخبار سواء من قيد ذلك بما إذا كان مدلول الخبر مما يتغير كالرازي والآمدي . أو من لم يقيد ذلك بشيء بل أجاز وقوعه فيها مطلقا كأبي الحسين البصري .
وفي الفصل السابع من هذا المبحث تناولنا أنواع النسخ في القرآن وتقرر أنها ثلاثة هي :
ما - نسخ تلاوة وبقي حكما .
ما - نسخ تلاوة وحكما .
ما - نسخ حكما وبقي تلاوة .
كما استعرضنا تقسيما للنسخ باعتبار آخر هو اعتبار المنسوخ فرأينا أن مكي بن أبي طالب قد عد بهذا الاعتبار ستة أقسام .
وكذلك قسم رحمه الله النسخ باعتبار الناسخ إلى ثلاثة أقسام :
وختمنا هذا الفصل ببيان أراء العلماء في أنواع النسخ حيث اتفق سائر مجيزي النسخ على نسخ التلاوة والحكم معا بينما منع بعض المعتزلة نسخ الحكم وبقاء التلاوة وهو النوع الذي يراه الجمهور وكذلك يرى الجمهور أيضا نسخ التلاوة مع بقاء الحكم في الوقت الذي نجد الشيخ محمد الخضري في كتابه ( الأصول ) يخالف رأي الجمهور في ذلك قائلا : ( إن ذلك غير مفهوم وفي رأيي ليس هناك ما يلجئني إلى القول به ) ورد حجة الجمهور في إثبات ذلك النوع بأنها أخبار آحاد لا تقوم برهانا على ذلك .
وقد نقلنا رد الشيخ محمد حمزة في كتابه ( دراسات في الإحكام والنسخ ) على ما أورده الشيخ الخضري .
وأخيرا ختمنا هذا البحث بإيراد أمثلة للنسخ في كتاب الله تعالى وكذلك لما توهم أنه نسخ وليس بنسخ فذكرنا للنسخ ثلاثة عشر مثالا ولما توهموه نسخا وليس كذلك ستة أمثلة .
وأشرنا إلى أن ابن خزيمة ممن وهم في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) فأورد شيئا كثيرا مما عده نسخا وليس به لاشتباه التخصيص والاستثناء لديه بالنسخ .
وأنهينا الفصل الثامن والأخير الذي اشتمل على الأمثلة للنسخ الصحيح والنسخ المتوهم بذكر أبرز أسباب توهم النسخ وقد عددنا منها ستة أسباب رئيسة وأشرنا إلى أن الحيز يضيق عن استقصاء جميع أسباب ذلك التوهم .
والخلاصة أن علم الناسخ والمنسوخ أحد علوم القرآن الكريم التي ينبغي العناية بها وأنه غير التخصيص وأن له شروطا وأنواعا وأن الناس قد اختلفوا حوله بين مجيز ومانع وأن ما عليه جمهور العلماء المحقيقين أنه لا يقع إلا في
( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 276)
الأمر والنهي لا في الخبر المحض وأن من توهم في النسخ ما ليس منه إنما توهم ذلك بسبب من أسباب عديدة بينها أهل الاختصاص . . .
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
المراجع
1 - كتاب الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى لقتادة بن دعامة السدوسي تحقيق د \ حاتم صالح الضامن ، الطبعة االثانية 1406هـ الناشر مؤسسة الرسالة .
2 - الناسخ والمنسوخ من كتاب الله عز وجل لهبة الله بن سلامة بن نصر المقري تحقيق زهير الشاويش ومحمد كنعان الطبعة الثانية 1406هـ الناشر المكتب الإسلامي .
3 - الناسخ والمنسوخ للإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي تحقيق د \ حلمي كامل أسعد عبد الهادي . الطبعة الأولى سنة 1407هـ الناشر دار العدوي عمان الأردن .
1 - الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي بن أبي طالب . الطبعة الأولى سنة 1406هـ تحقيق الدكتور أحمد حسن فرحات . الناشر دار المنارة بجدة .
2 - ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه لابن البارزي . تحقيق د \ حاتم الضامن . الطبعة الثالثة 1405 هـ مؤسسة الرسالة .
3 - الموافقات للشاطبي . نشر المكتبة التجارية الكبرى بمصر .
4 - البرهان في علوم القرآن للزركشي . الطبعة الثالثة . نشر وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد .
5 - الإتقان في علوم القرآن للسيوطي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم . الطبعة الثالثة 1405 هـ . نشر وتوزيع دار التراث بالقاهرة .
6 - مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني . الطبعة الثالثة مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه .
10 - مباحث العرفان في علوم القرآن للشيخ مناع القطان . الطبعة التاسعة عشرة 1406 هـ مؤسسة الرسالة .
11 - نظرية النسخ في الشرائع السماوية لشعبان إسماعيل . مطابع الدجوي القاهرة . عابدين .
12 - دراسات في الإحكام والنسخ لمحمد حمزة . الطبعة الأولى . نشر دار قتيبة .
13 - تفسير ابن الجوزي ( زاد المسير ) الطبعة الثالثة 1404هـ . المكتب الإسلامي .
14 - تفسير القرآن العظيم لابن كثير نشر دار المعرفة . بيروت . لبنان سنة 1401هـ .
15 - تفسير أبي السعود . الناشر مكتبة الرياض الحديثة سنة 1401هـ نشر وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد .
16 - فتح القدير للشوكاني . الناشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع سنة 1401هـ .
17 - تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار لمحمد رشيد رضا . الطبعة الثانية . الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر . بيروت . لبنان .
18 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لابن سعدي . طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد . الرياض سنة 1404هـ .
19 - معجم مقاييس اللغة لابن فارس . تحقيق وضبط عبد السلام محمد هارون . الناشر دار الفكر سنة 1399هـ .
20 - الصحاح للجوهري . الطبعة الثانية 1399هـ . الناشر دار العلم للملايين بيروت .
21 - المصباح المنير للمقري الفيومي . نشر المكتبة العلمية . بيروت . لبنان .
22 - المعجم الوسيط من وضع وإعداد مجمع اللغة العربية بالقاهرة الطبعة الثانية . مطابع دار المعارف بمصر 1393 هـ . توزيع دار الباز بمكة .
23 - التقرير والتحبير على تحرير الكمال بن الهمام .
24 - شرح البدخشي على شرح الإسنوي على منهاج الأصول للبيضاوي . مطبعة محمد علي صبح بمصر .
25 - الإحكام للآمدي . الطبعة الأولى 1378هـ .
26 - الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم . تحقيق أحمد شاكر . مطبعة العاصمة بالقاهرة .
27 - المسودة لابن تيمية . مطبعة المدني بالقاهرة 1384 هـ تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد .
28 - المعتمد لأبي الحسين البصري تحقيق محمد حميد الله طبع دمشق 1384 هـ .
29 - النسخ في دراسات الأصوليين . الطبعة الأولى 1405هـ الناشر مؤسسة الرسالة .
عبد الله بن حمد بن عبد الله الشبانة .
- من مواليد مدينة المجمعة عام 1367 هـ .
- حصل على شهادة الابتدائية في الرياض عام 1379 هـ .
- تخرج من معهد الرياض العلمي عام 1384 هـ .
- تخرج من كلية اللغة العربية عام 1389هـ .
- عمل بالتدريس في المعاهد العلمية مدة ثلاث سنوات ، ثم التحق بديوان الموظفين العام ( ديوان الخدمة المدنية - حاليا - عام 1393هـ ، ثم التحق بوزارة الإعلام عام 1394هـ ، ثم التحق للعمل في مجال الدعوة بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، مديرا لمركز الدعوة والإرشاد بظفار في المنطقة الجنوبية لسلطنة عمان عام 1399هـ ثم مديرا لمركز الدعوة والإرشاد بالفجيرة بدولة الإمارات العربية المتحدة عام 1401هـ ، ثم رشح مديرا عاما للرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عام 1403هـ ، ثم عين أمينا عاما مساعدا لهيئة كبار العلماء عام 1406هـ وهو عمله الحالي .
له من المؤلفات :
1- كتاب : موجز القول .
2- كتاب : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء .
3- كتاب : خطرات ونظرات .
4- كتاب : المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية .
5- الزفرات الحرى " ديوان شعر " .
6- تحية للوطن " ديوان شعر " .
كما أن له بعض البحوث والمقالات المنشورة في الصحف والمجلات المحلية والإسلامية .
إعداد : الشيخ عبد الله بن حمد بن عبد الله الشبانة
الأمين العام المساعد لهيئة كبار العلماء
(مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد التاسع والعشرون - الإصدار : من ذو القعدة إلى صفر لسنة 1410هـ 1411هــ)
مقدمة
الحمد لله الملك الحق المبين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد : فإن خير الكلام كلام الله جل جلاله ، وأحسن الحديث حديثه عز وجل ، فلا غرو إذًا أن يكون الاشتغال به تَعَلُّما وتعليما ودراسة وتَفَهُّما أشرف ما عمرت به الأوقات ، وأعظم ما اشتغل به الأفراد والجماعات ؛ ذلك أنه الدليل إلى كل خير ، والعاصم من كل شر ؛ لأنه حبل الله المتين الذي من تمسك به نجا وسعد في الدارين ، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكا ، ويحشر يوم القيامة أعمى ، فيكون نصيبه والعياذ بالله خسارة الحال وخسارة المآل . وقد اشتغل بكتاب الله الكريم وتفسيره وسائر علومه نفر غير قليل من العلماء قديما وحديثا فألَّفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة ، وكتبوا البحوث المستفيضة في تفسير كلام الله تبارك وتعالى ، وإيضاح مبهمه وتفصيل مجمله ، وشرح ألفاظه وبيان معانيه ، واستنباط الأحكام من آياته وبيان ناسخه ومنسوخه ومكيه ومدنيه ، وغير ذلك مما يندرج تحت ما يسمى بعلوم القرآن الكريم .
وقد عدَّ الدكتور حاتم صالح الضامن محقق كتاب ( الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى ) لقتادة بن دعامة السدوسي واحدا وسبعين مؤلَّفا في هذا الباب مما يدل على عظم شأن هذا العلم من علوم كتاب الله العزيز ، وأنه مدخل من أهم مداخل تفسيره ، والبحث في لجته والغوص في أعماقه .
يدل على ذلك ما ذكره العلماء اتفاقا من أن معرفة هذا العلم واجبة على كل من تصدى لتفسير القرآن الكريم ، أو استنباط الأحكام منه ، أو تصدى للإفتاء أو للقضاء بين الناس ؛ لئلا يوجب على خلق الله ما لم يوجبه الله عليهم ، أو يسقط عنهم أمرا أوجبه عليهم . فقد روى ابن عبد البر بسنده عن يحيى بن أكثم قال : ( ليس من العلوم كلها علم هو واجب على العلماء وعلى المتعلمين وعلى كافة المسلمين من علم ناسخ القرآن ومنسوخه ؛ لأن الأخذ بناسخه واجب فرضا ، والعمل به واجب ديانة ، والمنسوخ لا يعمل به ولا ينتهى إليه ، فالواجب على كل عالم علم ذلك ؛ لئلا يوجب على نفسه وعلى عباد الله أمرا لم يوجبه الله ، أو يضع عنهم فرضا أوجبه الله ) اهـ .
وقال الإمام العلامة مكي بن أبي طالب القيسي في كتابه ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) ص 45 ( نشر دار المنارة ) : ( وإن من آكد ما عني أهل العلم والقرآن بفهمه وحفظه والنظر فيه من علوم القرآن ، وسارعوا إلى البحث عن فهمه وعلمه وأصوله علم ناسخ القرآن ومنسوخه ، فهو علم لا يسع كل من تعلق بأدنى علم من علوم الديانة جهله ) . اهـ .
وقد قال علي رضي الله عنه : ( لا يفتي الناس إلا من عرف الناسخ والمنسوخ ) . وروي عنه رضي الله عنه أنه دخل المسجد فرأى رجلا يُذكّر الناس فقال له : أتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا . قال : فاخرج من مسجدنا ولا تُذكّر فيه . وفي لفظ آخر أنه قال له : من أنت ؟ قال : أنا أبو يحيى قال : بل أنت أبو اعرفوني وجاء عنه في خبر آخر أنه رضي الله عنه مر بقاضٍ فقال له : أتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالحكمة في قوله تعالى : يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ هو معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره ونحو ذلك وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي ( ابن راهويه ) رحمه الله : ( من لم يعرف الصحيح والسقيم من الحديث والناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة لم يكن عالما ) وقال أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله فيمن يتصدر لمهمة الإفتاء : ( لا يحل له أن يفتي حتى يعرف أحكام الكتاب والسنة والناسخ والمنسوخ وأقاويل الصحابة والمتشابه ووجوه الكلام ) .
فمن ذلك تظهر لنا قيمة هذا العلم وأهميته البالغة لعموم المسلمين ، ولمن تصدى منهم لتفسير كتاب الله أو للقضاء ، أو لفتيا على وجه الخصوص ؛ إذ حاجة هؤلاء إليه أمس ، وضرورة إحاطتهم به أشد .
وسأحاول في هذه العجالة المتمثلة في هذا البحث المتواضع عن ( النسخ في القرآن الكريم ) أن ألم بكامل الموضوع إلمامة عجلى ، فأوضح معنى النسخ في اللغة وفي الاصطلاح ، ثم أذكر الفرق بينه وبين التخصيص . ثم أشير إلى شروط النسخ التي ذكرها العلماء ، ثم أعرج على بيان آراء العلماء في حكم النسخ ووقوعه أصلا من عدمه ، مع مناقشتها وترجيح ما يترجح لدي منهما . بعد ذلك سأورد تفسيرا تحليليا للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم . ثم أبين ما يقع فيه النسخ في القرآن ، ثم أتحدث عن أنواع النسخ في القرآن الكريم ، مختتما ذلك بإيراد أمثلة للنسخ في القرآن ، وأمثلة لما قيل أنه نسخ وليس كذلك ، جاعلا الحديث عن كل قسم من ذلك في فصل مستقل إيضاحا له ، وتركيزا عليه ، وفي نهاية البحث سأورد خاتمة له تتضمن نتائج البحث وخلاصة له .
وأرجو من الله سبحانه العون وأستمد التوفيق . وهو المسئول سبحانه أن يعلمنا ما ينفعنا ، وأن ينفعنا بما علمنا ، وأن يزيدنا من لدنه علما .
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الفصل الأول
النسخ لغة واصطلاحا
قال الجوهري في الصحاح : نسخت الشمس الظل وانتسخته : أزالته ونسخت الريح آثار الدار : غيرتها ونسختُ الكتاب وانتسختُه واستنسختُه كله بمعنى . والنسخة بالضم : اسم المنتسخ منه ، ونسخ الآية بالآية إزالة مثل حكمها ، فالثانية ناسخة والأولى منسوخة ، والتناسخ في الميراث : أن يموت ورثة بعد ورثة ، وأصل الميراث قائم لم يقسم اهـ .
وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة : النون والسين والخاء أصل واحد إلا أنه مختلف في قياسه . قال قوم : قياسه رفع شيء وإثبات غيره مكانه وقال آخرون : قياسه تحويل شيء إلى شيء : قالوا : النسخ : نسخ الكتاب والنسخ : أمر كان يعمل به من قبل ثم ينسخ بحادث غيره كالآية ينزل فيها أمر ثم تنسخ بآية أخرى . وكل شيء خلف شيئا فقد انتسخه وانتسخت الشمس الظل والشيب الشباب . وتناسخ الورثة : أن يموت ورثة بعد ورثة وأصل الإرث قائم لم يقسم ، ومنه تناسخ الأزمنة والقرون .
قال السجستاني : النسخ : أن تحول ما في الخلية من العسل والنحل في أخرى قال ومنه نسخ الكتاب اهـ .
وجاء في المعجم الوسيط الذي وضعه مجمع اللغة العربية بالقاهرة في مادة نسخ : نسخ الشيء نسخا أزاله يقال : نسخت الريح آثار الديار ونسخت الشمس الظل ونسخ الشيب الشباب . ويقال : نسخ الله الآية : أزال حكمها وفي التنزيل العزيز مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ويقال : نسخ الحاكم الحكم أو القانون : أبطله . والكتاب : نقله وكتبه حرفا بحرف .
انتسخ الشيء : نسخه والكتاب نسخه وتناسخ الشيئان : نسخ أحدهما الآخر يقال : أبلاه تناسخ الملوين . وتناسخت الأشياء : تداولت فكان بعضها مكان بعض . . . إلى آخر ما قال في ذلك مما لا يعنينا إيراده هنا .
وجاء في المصباح المنير للمقري الفيومي في مادة نسخ . قوله : نسخت الكتاب نسخا من باب نفع : نقلته ، وانتسخته كذلك ، ثم نقل عن ابن فارس قوله المتقدم : إن كل شيء خلف شيئا فقد انتسخه . إلى أن قال المقري : و( النسخ ) الشرعي إزالة ما كان ثابتا بنص شرعي ، ويكون في اللفظ والحكم وفي أحدهما ، سواء فُعل كما في أكثر الأحكام أو لم يُفعل كنسخ ذبح إسماعيل بالفداء ؛ لأن الخليل عليه السلام أمر بذبحه ثم ( نسخ ) قبل وقوع الفعل . إلى آخر ما أورده مما مر ذكره فيما قدمنا .
وعلى هذا فيكون معنى النسخ في اللغة دائرا حول ثلاثة أوجه :
أولها : أن يكون بمعنى النقل ( نسخت الكتاب ) أي نقلت ما فيه إلى كتاب آخر فهذا لم يغير المنسوخ منه وإنما صار نظيرا له أي نسخة ثانية منه ، وهو بهذا المعنى لا يدخل في النسخ الذي هو موضوع بحثنا .
وثانيها : أن يكون بمعنى الإزالة وحلول المزيل محل المزال كقولهم ( نسخت الشمس الظل ) إذا أزالته وحلت محله ، وهذا المعنى هو الذي يدخل في موضوع ناسخ القرآن ومنسوخه الذي هو مدار بحثنا .
وثالثها : أن يكون بمعنى الإزالة مع عدم حلول المزيل محل المزال فكأنه بمعنى المحو كقولهم ( نسخت الريح الآثار ) إذا أزالتها فلم يبق منها عوض ولا حلت الريح محل الآثار فهذا هو معنى النسخ في اللغة وأما في الاصطلاح فإن معناه ( رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ) ، فالحكم المرفوع يسمى ( المنسوخ ) والدليل الرافع له يسمى ( الناسخ ) ، ويسمى الرفع ( النسخ ) ، فالنسخ إذا يقتضي ( منسوخا ) وهو الحكم الذي كان مقررا سابقا وهو الدليل اللاحق .
وعرف الإمام العلامة مكي بن أبي طالب النسخ في الاصطلاح بأنه ( إزالة حكم المنسوخ كله بغير حرف متوسط ببدل حكم آخر أو بغير بدل في وقت معين فهو بيان الأزمان التي انتهى إليها العمل بالفرض الأول ، ومنها ابتدأ الفرض الثاني الناسخ للأول ) وعرفه العلامة عبد القاهر البغدادي بقوله ( وقال أصحابنا : إن النسخ بيان انتهاء مدة التعبد ) وعرفه ابن حزم في الإحكام بأنه بيان انتهاء
( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 213)
زمان الأمر الأول فيما لا يتكرر . وهو قريب من تعريف البغدادي . وإليه ذهب الجصاص وأبو إسحاق الإسفرائيني وغيرهم وتابعهم القرافي حيث عرفوه بأنه ( بيان لانتهاء مدة الحكم ) زاد الجصاص ( والتلاوة ) وهناك تعريفات أخرى كثيرة غير ما أوردنا تقترب مما أوردناه حينا وتبتعد عنه أحيانا ، ولا نرى المجال يتسع لسردها جميعا وفيما ذكرناه غنية وكفاية
الفصل الثاني
الفرق بين النسخ والتخصيص
سبق أن عرفنا النسخ في الاصطلاح بأنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي في حين أنهم يعرفون التخصيص بأنه ( قصر العام على بعض أفراده ) أو أنه ( إزالة بعض الحكم بغير حرف متوسط فهو بيان الأعيان ) وأنه إنما يجوز على قول من أجاز تأخير البيان ، وهو أن يأتي لفظ ظاهره العموم لما وقع تحته ، ثم يأتي لفظ نص آخر أو دليل أو قرينة أو إجماع يدل على أن ذلك اللفظ الذي ظاهره عام ليس بعام ، والتخصيص إنما هو بيان اللفظ الأول أنه ليس بعام في كل ما تضمنه ظاهر اللفظ ، فهو بيان الأعيان ، فهذا هو الأصل الذي يعتمد عليه في الفرق بين النسخ والتخصيص . فالنسخ بيان الأزمان التي انتهى إليها العمل بالفرض الأول ، وابتدأ منها الفرض الثاني ، والتخصيص بيان الأعيان الذين عمهم اللفظ أن بعضهم غير داخل تحت ذلك اللفظ ، فالنسخ لا يكون إلا منفصلا من المنسوخ ، والتخصيص يكون منفصلا ومتصلا بالمخصص وقد ذكر العلماء عددا من الفروق بين النسخ والتخصيص يجعلها بعضهم خمسة ويوصلها آخرون إلى سبعة فروق نجملها فيما يلي :
الأول : إن العام بعد تخصيصه خاص ، لأن مدلوله وقتئذ بعض أفراده مع أن لفظه موضوع للكل والقرينة هي المخصص ، وكل ما كان كذلك فهو خاص . أما النص المنسوخ فما زال كما كان مستعملا فيما وضع له ، غايته أن الناسخ دل على أن إرادة الله تعلقت أزلا باستمرار هذا الحكم إلى وقت معين ، وإن كان النص المنسوخ متناولا جميع الأزمان ، ويظهر ذلك جليا فيما إذا قال الشارع مثلا : افعلوا كذا أبدا ، ثم نسخه بعد زمن قصير ، فإنه لا يعقل أن يكون مدلوله ذلك الزمن القصير دون غيره ، بل هو ما زال كما كان مستعملا في جميع الأزمان نصا بديل قوله ( أبدا ) غير أن العمل بهذا النص الشامل لجميع الأزمان لفظا قد أبطله الناسخ ؛ لأن استمرار العمل بالنص مشروط بعدم ورود ناسخ ينسخه أيا كان ذلك النص وأيا كان ناسخه . فإن سأل سائل ما حكمة تأبيد النص لفظا بينما هو مؤقت في علم الله أزلا ؟ أجبناه بأن حكمته ابتلاء الله لعباده أيخضعون لحكمه مع تأبيده عليهم هذا التأبيد الظاهري أم لا ؟ فإذا ماز الله الخبيث من الطيب والمطمئن لحكمه من المتمرد عليه ، جاء النسخ لحكمة أخرى من التخفيف ونحوه .
الثاني : إن حكم ما خرج بالتخصيص لم يك مرادا من العام أصلا ، بخلاف ما خرج بالنسخ ، فإنه كان مرادا من المنسوخ لفظا .
الثالث : إن التخصيص لا يتأتى أن يأتي على الأمر لمأمور واحد ، ولا على النهي لمنهي واحد ، أما النسخ فيمكن أن يعرض لهذا كما يعرض لغيره ، ومن ذلك نسخ بعض الأحكام الخاصة به صلى الله عليه وسلم .
الرابع : إن النسخ يبطل حجية المنسوخ ، إذا كان رافعا للحكم بالنسبة إلى جميع أفراد العام ، ويبقى على شيء من حجيته إذا كان رافعا للحكم عن بعض أفراد العام دون بعض ، أما التخصيص فلا يبطل حجية العام أبدا ، بل العمل به قائم فيما بقي من أفراده بعد تخصيصه .
الخامس : إن النسخ لا يكون إلا بالكتاب والسنة بخلاف التخصيص ، فإنه يكون بهما وبغيرهما كدليل الحس والعقل فقول الله سبحانه : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا قد خصصه قوله صلى الله عليه وسلم لا قطع إلا في ربع دينار . وهذا قوله سبحانه : تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا قد خصصه ما شهد به الحس من سلامة السماء والأرض وعدم تدمير الريح لهما .
السادس : إن النسخ لا يكون إلا بدليل متراخ عن المنسوخ أما التخصيص فيكون بالسابق واللاحق والمقارن ، وقال قوم : لا يكون التخصيص إلا بمقارن فلو تأخر عن وقت العمل بالعام كان هذا المخصص ناسخا للعام بالنسبة لما تعارضا فيه ، كما إذا قال الشارع : ( اقتلوا المشركين ) وبعد وقت العمل به قال : ( ولا تقتلوا أهل الذمة ) ، ووجهة نظر هؤلاء أن المقصود بالمخصص بيان المراد بالعام ، فلو تأخر وقت العمل به لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وذلك لا يجوز ، فلم يبق إلا اعتباره ناسخا .
السابع : إن النسخ لا يقع في الأخبار بخلاف التخصيص فإنه يكون في الأخبار وفي غيرها .
وقد نقل الشيخ محمد حمزة في كتابه (دراسات في الإحكام والنسخ ) عن الإمام الغزالي أنه حصر الفرق بين التخصيص والنسخ في خمسة أمور . ولا نجد فيها غير ما أورده غيره من الفروق التي أجملناها آنفا إلا ما كان من قوله الخامس : إن تخصيص العام المقطوع بأصله جائز بالقياس وبخبر الواحد وسائر الأدلة ، ونسخ القاطع لا يجوز إلا بقاطع ( وقد علق الشيخ محمد حمزة على ذلك بقوله : أقول تفريق ممتاز على ما في ذلك من الخلاف ، فإن الأحناف اشترطوا المقارنة في المخصص للعام ، فإذا تراخى عنه فهو نسخ لا تخصيص ، كما تقدم ولا يجوز عند الأحناف تخصيص الكتاب بخبر الواحد ؛ لأن دلالة العام على عمومه قطعية عندهم وخبر الآحاد ظني ، أما الحديث المشهور فهو عندهم قطعي الثبوت كالمتواتر ، فيجوز تخصيص الكتاب به وتقييد مطلقه ) اهـ .
الفصل الثالث
شروط النسخ
للنسخ شروط لا بد من توافرها لكي يعتبر من قبيل النسخ لا من قبيل غيره كتخصيص العام أو تقييد المطلق أو الاستثناء . . . إلخ . وكل ما لم تتوافر فيه هذه الشروط التي سنذكرها هنا أُرجع إلى نوع من تلك الأنواع التي ذكرناها أو إلى غيرها .
وما توافرت فيه تلك الشروط اعتبر نسخا . وشروط النسخ نوعان :
أحدهما : شروط متفق عليها والنوع الثاني : شروط مختلف فيها .
فأما الشروط المتفق عليها فمنها :
1 - أن يكون المنسوخ حكما شرعيا؛ لأن الأمور العقلية التي مستندها البراءة الأصلية لم تنسخ وإنما ارتفعت بإيجاب العبادات .
2 - أن يكون النسخ بخطاب شرعي لا بموت المكلف؛ لأن الموت مزيل للحكم لا ناسخ له .
3 - ألا يكون الحكم السابق مقيدا بزمان مخصوص نحو قوله عليه الصلاة والسلام لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس .
فإن الوقت الذي يجوز فيه أداء النوافل التي لا سبب لها مؤقت ، فلا يكون نهيه عن هذه النوافل في الوقت المخصوص نسخا لما قبل ذلك من الجواز؛ لأن التوقيت يمنع النسخ .
4 - أن يكون الناسخ متراخيا عن المنسوخ .
وأما الشروط المختلف فيها فمنها :
1 - أن يكون الناسخ مثل المنسوخ في القوة أو أقوى منه لا دونه؛ لأن الضعيف لا ينسخ القوي .
2 - أن يكون ناسخ القرآن قرآنا وناسخ السنة سنة .
3 - أن يكون قد ورد الخطاب الدال على بيان انتهاء الحكم بعد التمكن من الفعل .
4 - أن يكون الناسخ مقابلا للمنسوخ مقابلة الأمر للنهي والمضيق للموسع .
5 - أن يكون الناسخ والمنسوخ نصين قاطعين .
6 - أن يكون النسخ ببدل مساو أو مما هو أخف منه .
7 - أن يكون الخطاب المنسوخ حكمه مما لا يدخله الاستثناء أو التخصيص .
وقد نقل صاحب كتاب ( نظرية النسخ في الشرائع السماوية ) عن الآمدي في الإحكام والزرقاني في مناهل العرفان أن الراجح كونه لا داعي لهذه الشروط السبعة .
وقد عد صاحب ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) من شروط الناسخ أن يكون منفصلا من المنسوخ منقطعا منه ، فإن كان متصلا به غير منقطع عنه لم يكن ناسخا لما قبله مما هو متصل به ، نحو قوله تعالى : وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فليس قوله فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ ناسخا لقوله حَتَّى يَطْهُرْنَ في قراءة من خفف يَطْهُرْنَ ؛ لأنه متصل به ، فالأول يراد به ارتفاع الدم والثاني التطهير بالماء .
كما عد من شروط المنسوخ أن يكون غير متعلق بوقت معلوم لا يعلم انتهاء وقت فرضه إلا بنص ثان يبين أن فرض الأول إلى الوقت الذي فرض فيه الثاني ولذلك قيل في قوله تعالى فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ : إنه غير منسوخ بالأمر بالقتال في (براءة) ؛ لأن الله جعل له أجلا ووقتا وهو إتيان أمره بالقتال وترك الصفح والعفو ، وإنما كان يكون منسوخا بالقتال لو قال : فاعفوا واصفحوا أمرا غير مؤقت ، كما قال : فاعف عنهم واصفح . فهذا منسوخ بالقتال وقيل : إنه منسوخ بالقتال؛ لأن الأجل غير معلوم ، ولو قال : فاعفوا واصفحوا إلى وقت كذا . وذكر الأمر لكان النسخ غير جائز فيه ، ولكنه أبهم الوقت ولم يحده ، فالنسخ فيه جائز وعلى ذلك أكثر العلماء .
ومضى صاحب الإيضاح يعدد شروطا للنسخ فقال : ومن شروط الناسخ أن يكون موجبا للعلم والعمل كالمنسوخ ومن هاهنا منع نسخ القرآن بخبر الآحاد؛ لأن أخبار الآحاد توجب العمل ولا توجب العلم والقرآن يوجبهما جميعا . وإنما وقع الاختلاف في جواز نسخ القرآن بالأخبار المتواترة التي توجب العلم والعمل كالقرآن .
وقد عد الإمام العلامة مكي بن أبي طالب جواز نسخ الأثقل بالأخف من شروط الناسخ ، ومثل لذلك بتخفيف قوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ بقوله سبحانه : فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وأنه لذلك قال تعالى : نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أي بأخف منها عليكم أو مثلها في الثقل وأعظم في الأجر .
وكذلك نسخ الأخف بالأثقل نحو نسخ صيام يوم عاشوراء أو صيام ثلاثة أيام من كل شهر بصوم شهر رمضان وقال بعد أن ساق أمثلة أخرى لهذا الوجه ( وقد ذهب بعض المؤلفين للناسخ والمنسوخ إلى أنه لا يجوز أن ينسخ الأخف بالأثقل وتأول فيما ذكرنا تأويلات تخرجه من النسخ ، والعمل عند أكثرهم على ما بيناه ) كما عد الإمام العلامة أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) من شرط الناسخ والمنسوخ أن يكونا شرعيين يجوز في العقل ورود الأمر بكل واحد منهما على البدل ، فأما الذي لا يجوز ورود الشرع بخلافه ؛ كاعتقاد توحيد الصانع واعتقاد صفاته وعدله وحكمته ، واعتقاد فساد الكفر فلا يجري في هذا النوع نسخ ولا تبديل ، وكذلك كل ما دل العقل على كونه على وجه مخصوص ، فلا يجوز أن يكون الناسخ والمنسوخ كلاهما منصوصا عليه أو مدلولا عليه بدليل الخطاب أو مفهومه ، فأما الذي ثبت بالإجماع فلا يجوز نسخه؛ لأن الإجماع إنما يستقر بعد انقضاء زمان النسخ ، فإذا اجتمعت الأمة على حكم ووجد خبر بخلافه استدللنا بالإجماع على سقوط الخبر أو نسخه ، أو تأويله على غير ظاهره .
الفصل الرابع
الآراء في حكم النسخ ومناقشتها
هنالك إجماع من علماء المسلمين بل أجمعت الأمة كلها على جواز النسخ عقلا ووقوعه سمعا ، كما أن جميع الملل تكاد تتفق على ذلك ، إلا من بعض الطوائف التي أنكرت ذلك وأوردت شبها كثيرة لمنعه ، واستدلت بأدلة لا تقوى على الصمود عند مناقشتها ، وسنفصل القول في بيان ذلك في ثنايا هذا الفصل إن شاء الله تعالى ، وقد عني كثير من العلماء ببيان وجه الحق في ذلك وقرروا إمكان وقوع النسخ في شريعة الإسلام ، وكذلك في الشرائع السابقة ، وقاموا بتفنيد شبه المنكرين للنسخ والرد عليها وإبطالها .
فقد استدلوا على جواز وقوع النسخ في القرآن بقوله تعالى يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ قال ابن عباس وغيره : معناه يمحو ما يشاء من أحكام كتابه ، فينسخه ببدل أو بغير بدل ، ويثبت ما يشاء فلا يمحوه ولا ينسخه ، ثم قال : وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ قال ابن عباس : معناه عنده ما ينسخ ويبدل من الآية والأحكام ، وعنده ما لا ينسخ ولا يبدل ، كل في أم الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ ، ومثل هذا المعنى قال قتادة وابن زيد وابن جريج وغيرهم في هذه الآية ، وقد قيل غير ذلك . فهذا يدل على جواز النسخ بنص القرآن .
وقد اعترض مكي بن أبي طالب على استدلال جماعة على جواز النسخ في القرآن بقوله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ قائلا : إن هذا إنما يدل على جواز النسخ فيما يزيد الشيطان في تلاوة النبي أو الرسول من الباطل ، خاصة وليس يدل علي جواز النسخ فيما ينزله الله ويأمر به ، فلا حجة فيه لمن استدل به على جواز نسخ ما هو من عند الله من الحق .
ومضى مكي يستعرض الأدلة القرآنية على جواز النسخ في القرآن فقال :
( ويدل على جواز النسخ للقرآن أيضا قوله تعالى : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ( 101 ) النحل فهذا نص ظاهر في جواز زوال حكم آية ووضع أخرى موضعها . إلى أن قال : ويدل على جواز النسخ للقرآن أيضا قوله تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ( 106 ) البقرة . فهذا نص ظاهر في جواز النسخ للقرآن بالقرآن . إلى أن قال : ويدل على جواز النسخ أيضا قوله تعالى : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ( 48 ) المائدة . فمعلوم أن شريعة كل رسول نسخت شريعة من كان قبله .
ورد مكي كذلك استدلال من استدل بقوله تعالى : وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ( 86 ) الإسراء على جواز النسخ بقوله : فهذا إنما يراد به إذهاب ما لا يجوز نسخه من الأخبار وغيرها . وما لا يجوز نسخه لو شاء الله لأذهب حفظه كله من القلوب بغير عوض وما تقدم واقع في دائرة الاستدلال القرآني بيد أن هناك استدلالات عقلية أوردها المثبتون للنسخ القائلون بجوازه وقد أجملها صاحب ( مناهل العرفان ) في الأدلة الأربعة التالية :
أولا : إن النسخ لا محظور فيه عقلا وكل ما كان كذلك جائز عقلا . أما الكبرى فمسلمة وأما الصغرى فيختلف دليلها عند أهل السنة عن دليلها عند المعتزلة تبعا لاختلاف الفرقتين في أن أحكام الله تعالى يجب أن تتبع المصلحة لعباده أو لا يجب أن تتبعها ، فأهل السنة يقولون : إنه لا يجب على الله تعالى لعباده شيء بل هو سبحانه الفاعل المختار والكبير المتعال ، وله بناء على اختياره ومشيئته وكبريائه وعظمته أن يأمر عباده بما شاء وينهاهم عما شاء ، وأن يبقي من أحكامه على ما شاء وأن ينسخ منها ما شاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ، ولا ملزم يلزمه برعاية مصالح عباده ، ولكن ليس معنى هذا أنه عابث أو مستبد أو ظالم ، بل إن أحكامه وأفعاله كلها جل جلاله لا تخلو عن حكمة بالغة وعلم واسع وتنزه عن البغي والظلم وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ( 46 فصلت ) . وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ( 49 ) الكهف .
إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 83 ) و( 128 ) الأنعام . والمعتزلة يقولون : إنه تعالى يجب أن يتبع في أحكامه مصالح عباده فما كان فيه مصلحة لهم أمرهم به وما كان فيه مضرة عليهم نهاهم عنه . وما دار بين المصلحة تارة والمفسدة تارة أمرهم به تارة ، ونهاهم عنه أخرى . وإذا تقرر هذا فإن صغرى ذلك الدليل نستدل عليها من مذهب أهل السنة هكذا : النسخ تصرف في التشريع من الفاعل المختار الكبير المتعال ، الذي لا يجب عليه رعاية مصالح عباده في تشريعه ، وإن كان تشريعه لا يخلو من حكمه ، وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا .
وأما على مذهب الاعتزال فننظم الدليل هكذا : النسخ مبني على أن الله تعالى يعلم مصلحة عباده في نوع من أفعالهم وقتا ما ، فيأمرهم به في ذلك الوقت ويعلم ضرر عباده في هذا النوع نفسه من أفعالهم ولكن في وقت آخر ، فينهاهم عنه في ذلك الوقت الآخر ، وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا . وكيف يكون محظورا عقلا ونحن نشاهد أن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال . إلى أن قال : وإلى هذا الدليل تشير الآية الكريمة مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ( 106 ) البقرة . . . إلخ .
ثانيا وهو دليل إلزامي للمنكرين : إن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما جوزوا أن يأمر الشارع عباده بأمر مؤقت ينتهي بانتهاء وقته ، لكنهم يجوزون هذا عقلا ، ويقولون بوقوعه سمعا ، فليجوزوا هذا ؛ لأنه لا معنى للنسخ إلا انتهاء الحكم الأول لميقات معلوم عند الله ، بيد أنه لم يكن معلوما لنا من قبل ثم أعلمنا الله إياه بالنسخ ، وهذا ليس بفارق مؤثر ، فقول الشارع مثلا أول يوم من رمضان : ( صوموا إلى نهاية هذا الشهر ) مساو لأن يقول أول يوم من رمضان : ( صوموا ) من غير تقييد بغاية حتى إذا ما انتهى شهر رمضان ، قال أول يوم شوال : ( أفطروا ) ، وهذا الأخير نسخ لا ريب فيه وقد جوز منكروه المثال الأول فليجوزوا هذا المثال الثاني لأنه مساويه والمتساويان يجب أن يتحد حكمهما وإلا لما كانا متساويين .
ثالثا : إن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما ثبتت رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ، لكن رسالته العامة للناس ثابتة بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي يطول شرحها . إذن فالشرائع السابقة ليست باقية بل هي منسوخة بهذه الشريعة الختامية . وإذن فالنسخ جائز وواقع . أما ملازمة هذا الدليل فنبرهن عليها بأن النسخ لو لم يكن جائزا وواقعا ، لكانت الشرائع الأولى باقية ، ولو كانت باقية ما ثبتت رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة .
رابعا : ما يأتي من أدلة الوقوع السمعي؛ لأن الوقوع يستلزم الجواز وزيادة ، والأدلة السمعية على وقوع النسخ نوعان : أحدهما : تقوم به الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى من غير توقف على إثبات نبوة الرسول لهم . والثاني : تقوم به الحجة على من آمن بنبوته صلى الله عليه وسلم كأبي مسلم الأصفهاني من المسلمين ، وكالعيسوية من اليهود ، فإنهم يعترفون برسالته عليه الصلاة والسلام ، ولكن يقولون : إلى العرب خاصة ، وهؤلاء تلزمهم بأنهم متى سلموا برسالته وجب أن يصدقوه في كل ما جاء به ، ومن ذلك عموم دعوته ، والنسخ الوارد في الكتاب والسنة .
فأمثلة النوع الأول كثيرة منها :
1 - ما جاء في السفر الأول من التوراة أن الله تعالى قال لنوح عند خروجه من السفينة : ( إني جعلت كل دابة حية مأكلا لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ) ثم اعترفوا بعد ذلك بأن الله حرم كثيرا من الدواب على أصحاب الشرائع من بعد نوح ومنهم موسى نفسه كما جاء في السفر الثالث من توراتهم .
2 - جاء في التوراة أن الله تعالى أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه وورد أنه كان يولد في كل بطن من البطون ذكر وأنثى فكان يزوج توأمة هذا للآخر ويزوج توأمة الآخر لهذا ، وهكذا إقامةً لاختلاف البطون مقام اختلاف الآباء والأمهات والأنساب ، ثم حرم الله ذلك بإجماع المتدينين من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم .
3 - إن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده - عليهما السلام - ثم قال الله له لا تذبحه وقد اعترف منكرو النسخ بذلك .
4 - إن عمل الدنيا كان مباحا يوم السبت لليهود ومنه الاصطياد ثم حرم الله الاصطياد على اليهود باعترافهم .
5 - إن الله أمر بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم أمرهم برفع السيف عنهم إلى غير ذلك من الأدلة السمعية التي تقوم بها الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى .
وأما أمثلة النوع الثاني وهو الذي تقوم به الحجة على منكري النسخ من المسلمين ومن يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم كالعيسوية من اليهود فهي كثيرة أيضا ، وأوردنا طرفا منها في مستهل هذا الفصل نقلا عن الإمام العلامة مكي بن أبي طالب القيسي في كتابه ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) .
ويتبين مما ذكرناه أن أهل الأديان على مذاهب ثلاثة في النسخ :
أولها : إنه جائز عقلا وواقع سمعا . وعليه إجماع المسلمين من قبل أن يظهر أبو مسلم الأصفهاني ومن شايعه ، وعليه أيضا إجماع النصارى من قبل معاصريهم الذين خرقوا الإجماع وركبوا رءوسهم فأنكروا النسخ ؛ ليصلوا من هذا الإنكار إلى بقاء ديانتهم بجانب الديانة الإسلامية بدعوى أن الشريعة لا تنسخ الشريعة قبلها ، وهو رأي العيسوية إحدى طوائف اليهود الثلاث .
ثانيها : إن النسخ ممتنع عقلا وسمعا وهو ما جنح إليه نصارى هذا العصر وتقول به أيضا الشمعونية ، وهم طائفة ثانية من طوائف اليهود .
ثالثها : إن النسخ جائز عقلا ممتنع سمعا وبه تقول العنانية وهي الطائفة الثالثة من طوائف اليهود . كما يعزى هذا الرأي إلى أبي مسلم الأصفهاني من المسلمين ، ولكن على اضطراب في النقل عنه وعلى تأويل يجعل خلافه لجمهور المسلمين أشبه بالخلاف اللفظي إن لم يكن كذلك فعلا .
كما يتبين أيضا أن النسخ مجمع على جوازه عقلا ولم يخرج عن هذا الإجماع إلا " الشمعونية " إحدى فرق اليهود وبعض نصارى هذا الزمان ، ولا شك أن مذهب هؤلاء المنكرين هو أخطر المذاهب وأشنعها في هذا الباب وأبعدها عن الحق وأكثرها مجانبة للصواب وولوغا في الباطل . إذ إن مجرد إنكار الجواز العقلي إنكار للوقوع الشرعي بالضرورة ؛ إذ لا يمكن أن يقع في الوجود ما أحاله العقل .
شبهات المنكرين للجواز العقلي وإبطالها
وسنستعرض فيما يلي أبرز شبهات أولئك المنكرين مع تفنيدها وإبطالها فنقول وبالله التوفيق :
1 - الشبهة الأولى التي يسوقونها لتمسكهم بمنع النسخ أن النسخ إما لحكمة ظهرت بعد أن لم تكن فيكون بداء ، وإما أن يكون لغير حكمة فيكون عبثا ، وكلا البداء والعبث على الله تعالى مستحيل . والرد عليهم إنما هو من خلال ما أثبتناه في بداية هذا المبحث من أدلة عقلية وسمعية على جواز النسخ عقلا ، وأنه لا يترتب على النسخ محال عقلي ؛ إذ هو فعل من أفعال الله الذي يفعل ما يشاء سبحانه ، وليس النسخ من قبيل البداء ، بل الفرق بينهما ظاهر ، فالبداء تبديل في العلم بينما النسخ تبديل في المعلوم .
وبعد أن أورد الشيخ محمد حمزة في كتابه ( دراسات في الإحكام والنسخ في القرآن الكريم ) رأي كل من اليهود والمعتزلة والماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي ومن أخذ برأيه من جمهور الأحناف ومن تبعهم ، قال : وبعد ما تقدم نجيب بجواب محكم على فرية اليهود وشبهة المستشبهين فنقول : إنما يكون كل من العبث والبداء من لوازم النسخ إن ورد النسخ على حسن لا يقبل حسنه القبح ، أو قبيح لا يقبل قبحه الحسن ، كالإيمان والكفر ، أما في الأفعال التي حسنها وقبحها باعتبار ما يترتب عليها من المصالح المختلفة باختلاف الأزمان والأمم ، فإن الله تعالى يبدل ما شاء من الأحكام ؛ رعاية لتلك المصالح التي يعلمها ، ولا يلزم من ذلك بداء ولا عبث ، وعلى ضوء ما تقدم أيضا يبطل قول المنكرين أن ما طلبه الله لحسنه ، فلو نهى عنه لأدى إلى أن ينقلب الحسن قبيحا وهو محال ، فنقول : إن الإحالة إنما تكون إذا اجتمع الأمر والنهي في فعل واحد من مأمور واحد في زمن واحد ، وفرض المسألة غير ذلك فإن المصالح تختلف باختلاف الأوقات ، كشرب الدواء فإنه قد يكون نافعا في وقت دون وقت ، فيختلف حسن الشيء وقبحه باختلاف الأوقات ، وباختلاف الأشخاص أيضا ، فالشرع للأديان كالطب للأبدان .
2 - ويثيرون شبهة أخرى فيقولون لو جاز على الله تعالى أن ينسخ حكما بحكم للزم على ذلك أحد باطلين : جهله جل وعلا ، وتحصيل الحاصل .
وبيان ذلك أن الله تعالى إما أن يكون قد علم الحكم الأول المنسوخ على أنه مؤبد ، وإما يكون قد علمه على أنه مؤقت . فإن كان قد علمه على أنه مستمر إلى الأبد ثم نسخه وصيره غير مستمر انقلب علمه جهلا والجهل عليه تعالى محال ، وإن كان علمه على أنه مؤقت بوقت معين ثم نسخه عند ذلك الوقت ، ورد عليه أن المؤقت ينتهي بمجرد انتهاء وقته فإنهاؤه بالنسخ تحصيل للحاصل وهو باطل ، وتُدفع هذه الشبهة بأن الله تعالى قد سبق في علمه أن الحكم المنسوخ مؤقت لا مؤبد ، ولكنه علم بجانب ذلك أن توقيته إنما هو بورود الناسخ ، لا بشيء آخر كالتقييد بغاية في دليل الحكم الأول ، وإذن فعلمه بانتهائه بالناسخ لا يمنع النسخ بل يوجبه . وورود الناسخ محقق لما في علمه لا مخالف له شأنه تعالى في الأسباب ومسبباتها ، وقد تعلق علمه بها كلها مع ملاحظة أن النسخ بيان بالنسبة إلى الله تعالى ورفع بالنسبة إلينا .
3 - والشبهة الثالثة التي يثيرونها هي قولهم لو جاز النسخ للزم أحد باطلين وما هو في معناه .
وبيان ذلك أن الحكم المنسوخ إما أن يكون دليله قد غياه بغاية ينتهي عندها أو يكون قد أبد نصا ، فإن كان قد غياه بغاية ، فإنه ينتهي بمجرد وجود هذه الغاية ، وإذن لا سبيل إلى إنهائه بالنسخ وإلا لزم تحصيل الحاصل . وإن كان دليل الحكم الأول قد نص على تأبيده ، ثم جاء الناسخ على رغم هذا التأبيد لزم المحال من وجوه ثلاثة :
أ- التناقض؛ لأن التأبيد يقتضي بقاء الحكم ولا ريب أن النسخ ينافيه .
ب- تعذر إفادة التأبيد من الله للناس؛ لأن كل نص يمكن أن يفيده تبطل إفادته باحتمال نسخه ، وذلك يفضي إلى القول بعجز الله وعيه عن بيان التأبيد لعباده فيما أبده لهم تعالى الله عن ذلك .
ج- استلزام ذلك لجواز نسخ الشريعة الإسلامية مع أنها باقية إلى يوم القيامة عند القائلين بالنسخ ويمكن دفع هذه الشبهة بما يلي :
أولا : بأن حصر الحكم المنسوخ في هذين الوجهين اللذين ذكرهما المانع غير صحيح؛ لأن الحكم المنسوخ يجوز ألا يكون مؤقتا ولا مؤبدا ، بل يجيء مطلقا عن التوقيت والتأبيد كليهما ، وعليه فلا يستلزم طروء النسخ عليه شيئا من المحالات التي ذكروها ، وإطلاق هذا الحكم كاف في صحة نسخه ؛ لأنه يدل على الاستمرار بحسب الظاهر وإن لم يعرض له النص .
ثانيا : إن ما ذكروه من امتناع نسخ الحكم المؤبد غير صحيح أيضا وما استندوا إليه منقوض لوجوه ثلاثة :
الأول منها : إن استدلالهم بأنه يؤدي إلى التناقض مدفوع بأن الخطابات الشرعية مقيدة من أول الأمر بألا يرد ناسخ ، كما أنها مقيدة بأهلية المكلف للتكليف ، وألا يطرأ عليه جنون أو غفلة أو موت ، وإذن فمجيء الناسخ لا يفضي إلى تناقض بينه وبين المنسوخ بحال .
والثاني : إن استدلالهم بأنه يؤدي إلى أن يتعذر على الله بيان التأبيد لعباده مدفوع بأن التأبيد يفهمه الناس بسهولة من مجرد خطابات الله الشرعية المشتملة على التأبيد ، وهو ما يشعر به كل واحد منا ؛ ذلك لأن الأصل بقاء الحكم الأول وما اتصل به من توقيت أو تأبيد ، وطرد الناسخ احتمال مرجوح ، واستصحاب الأصل أمر يميل إليه الطبع كما يؤيده العقل والشرع .
والثالث : إن جواز نسخ الشريعة الإسلامية إن لزمنا معاشر القائلين بالنسخ ، فإنه يلزمنا على اعتبار أنه احتمال عقلي لا شرعي بدليل أننا نتكلم في الجواز العقلي لا الشرعي . أما نسخ الشريعة الإسلامية بغيرها من الشرائع فهو من المحالات الظاهرة بتضافر الأدلة على أن الإسلام دين خالد عام ، ولا يضير المحال في حكم الشرع أن يكون من قبيل الجائز في حكم العقل .
4 - وشبهتهم الرابعة هي قولهم :
إن النسخ يستلزم اجتماع الضدين واجتماعهما محال ، وبيان ذلك أن الأمر بالشيء يقتضي أنه حسن وطاعة ومحبوب لله ، والنهي عنه يقتضي أنه قبيح ومعصية ومكروه له تعالى فلو أمر الله بالشيء ثم نهى عنه ، أو نهى عن الشيء ثم أمر به لاجتمعت هذه الصفات المتضادة في الفعل الواحد الذي تعلق به الأمر والنهي .
وندفع هذه الشبهة بأن الحسن والقبح وما اتصل بهما ليست من صفات الفعل الذاتية حتى تكون ثابتة فيها لا تتغير بل هي تابعة لتعلق أمر الله ونهيه بالفعل وعلى هذا يكون الفعل حسنا وطاعة ومحبوبا لله ما دام مأمورا به من الله ، ثم يكون هذا الفعل نفسه قبيحا ومعصية ومكروها له تعالى ما دام منهيا عنه منه سبحانه ، وحتى القائلون بالحسن والقبح العقليين من المعتزلة يقرون بأنهما يختلفان باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال ، وبهذا التوجيه ينتفي اجتماع الضدين لاختلاف الوقت الذي يكون فيه الفعل حسنا عن الوقت الذي يكون فيه الفعل نفسه قبيحا ، فلم يجتمع الحسن والقبح في وقت واحد على فعل واحد .
وقريب من هذا ما نقلناه فيما تقدم من كلام الشيخ محمد حمزة في كتابه ( دراسات في الإحكام والنسخ ) من جوابه المحكم على فرية اليهود وشبهة المستشبهين وما انتهى إليه من أن قول المنكرين : إن ما طلبه الله لحسنه ، فلو نهى عنه لأدى ذلك إلى أن ينقلب الحسن قبحا ، وهو محال مردود - بأن الإحالة إنما تكون إذا اجتمع الأمر والنهي في فعل واحد من مأمور واحد في زمن واحد ، وفرض المسألة غير ذلك ، فإن المصالح تختلف باختلاف الأوقات . . . إلخ .
شبهات المنكرين للنسخ سمعا
1 - شبهة العنانية والشمعونية :
وتتمثل شبهتهم في قولهم : إن التوراة التي أنزلها الله على موسى لم تزل محفوظة لدينا منقولة بالتواتر فيما بيننا وقد جاء فيها ( هذه شريعة مؤبدة ما دامت السماوات والأرض ) وجاء فيها أيضا ( الزموا يوم السبت أبدا ) وذلك يفيد امتناع النسخ؛ لأن النسخ لشيء من أحكام التوراة - لا سيما تعظيم يوم السبت - إبطال لما هو من عنده تعالى وتدفع هذه الشبهة بوجوه خمسة :
أولها : إن شبهتهم هذه أقصر من مدَّعاهم قصورا بينا؛ لأن قصارى ما تقتضيه - إن سلمت - هو امتناع نسخ شريعة موسى عليه السلام لشريعة أخرى . أما تناسخ شرائع سواها فلا تدل هذه الشبهة على امتناعه ، بل يبعد أن ينكر اليهود انتساخ شرائع الإسرائيليين قبل اليهودية بشريعة موسى . فكان المنظور أن تجيء دعواهم أقصر مما هو محكي عنهم بحيث تتكافأ ودليلهم الذي زعموه ، أو أن يجيء دليلهم الذي زعموه أعم من هذا حتى يتكافأ ودعواهم التي ادعوها .
ثانيها : إنا لا نسلم لهم ما زعموه من أن التوراة لم تزل محفوظة في أيديهم حتى يصح استدلالهم بها بل الأدلة متضافرة على أن التوراة الصحيحة لم يعد لها وجود ، وأنه أصابها من التغيير والتبديل والتحريف ما جعلها في خبر كان .
من تلك الأدلة أن نسخة التوراة التي بأيدي السامريين تزيد في عمر الدنيا نحوا من ألف سنة على ما جاء في نسخة العنانيين ، وأن نسخة النصارى تزيد ألفا وثلاثمائة سنة . ومنها أن نسخ التوراة التي بأيديهم تحكي عن الله وعن أنبيائه وملائكته أمورا ينكرها العقل ويمجها الطبع ويتأذى بها السمع مما يستحيل معه كونها صادرة عن مؤمن ، فضلا عن ولي ، فضلا عن نبي ، فضلا عن نسبتها إلى الله رب العالمين . من مثل ندم الله على إرسال الطوفان إلى العالم ، وأنه بكى حتى رمدت عيناه ، وأن يعقوب صارعه فصرعه ، تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا . وأن لوطا سكر فثمل فزنى بابنتيه ، وأن هارون هو الذي اتخذ العجل لبني إسرائيل ودعاهم لعبادته من دون الله .
ومن الأدلة أيضا على فساد دعوى بقاء التوراة وحفظها ما ثبت بالتواتر عند المؤرخين ، بل عند اليهود أنفسهم من أن بني إسرائيل - وهم حملة التوراة وحفاظها - قد ارتدوا عن الدين مرات كثيرة ، وعبدوا الأصنام ، وقتلوا أنبياءهم شر تقتيل ، ولا ريب أن هذه مطاعن شنيعة جارحة لا تبقي لأي منهم أي نصيب من عدالة أو ثقة ، ولا تحمل لهذه النسخ التي زعموا أنها التوراة أقل شيء من القيمة أو الصحة .
ثالثها : إن التواتر الذي خلعوه على التوراة لا يسلم لهم أيضا ؛ لأنها لو كانت متواترة لحاجوا بها أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم ، ولعارضوا دعواه عموم رسالته بقول التوراة التي يؤمن بها ولا يجحدها ، بل يجهر بأنه جاء مصدقا لها ، ولكن ذلك لم يكن ولو كان لنقل واشتهر ، بل إن الذي نقل واشتهر هو إسلام كثير من أحبار اليهود وعلمائهم ، كعبد الله بن سلام وغيره واعترافهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الرسول الذي بشرت به التوراة والإنجيل .
رابعها : إن لفظ التأبيد الذي اعتمدوا عليه فيما نقلوه لا يصح حجة لهم ؛ لأنه يستعمل كثيرا عند اليهود معدولا به عن حقيقته ، من ذلك ما جاء في البقرة التي أمروا بذبحها : ( هذه سنة لكم أبدا ) وما جاء في القربان : ( قربوا كل يوم خروفين قربانا دائما ) مع أن هذين الحكمين منسوخان باعتراف اليهود أنفسهم رغم التصريح فيهما بما يفيد التأبيد .
خامسها : إن نسخ الحكم المؤبد لفظا جائز على الصحيح ، فلتكن هاتان العبارتان اللتان اعتمدوا عليهما منسوختين أيضا ، وشبهة التناقض تندفع بأن التأبيد مشروط بعدم ورود ناسخ ، فإذا ورد الناسخ انتفى ذلك التأبيد .
2 - شبهة النصارى :
يقولون إن المسيح عليه السلام قال : ( السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول ) وهذا يدل على امتناع النسخ سمعا وندفع هذه الشبهة أولا : بأنا لا نسلم أن الكتاب الذي بأيديهم هو الإنجيل الذي أنزل على عيسى ، وإنما هو قصة تاريخية وضعها بعض المسيحيين يبين فيها حياة المسيح وولادته ونشأته ودعوته . . . إلخ . ورغم أنها قصة فقد عجزوا عن إقامة الدليل على صحتها وعدالة كاتبها وأمانته وضبطه ، كما أعياهم اتصال السند وسلامته من الشذوذ والعلة . بل ثبت علميا تناقض نسخ هذه القصة التي أسموها الإنجيل ، مما يدل على أنها ليست من عند الله ، وصدق الله في قوله في القرآن الكريم : وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا
ثانيا : إن سياق هذه الكلمة في إنجيلهم يدل على أن مراده بها تأييد تنبؤاته ، وتأكيد أنها ستقع لا محالة ، أما النسخ فلا صلة لها به نفيا ولا إثباتا .
ثالثا : إن هذه الجملة على التسليم بصحتها وصحة رواتها وكتابها الذي جاءت فيه لا تدل على امتناع النسخ مطلقا ، وإنما تدل على امتناع نسخ شيء من شريعة المسيح فقط فشبهتهم على ما فيه قاصرة قصورا بينا عن مُدَّعاهم .
3 - شبهة العيسوية :
يقول هؤلاء اليهود أتباع أبي عيسى الأصفهاني : لا سبيل إلى إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى قد أيده بالمعجزات الكثيرة القاهرة ولأن التوراة قد بشرت بمجيئه ولا سبيل أيضا إلى القول بعموم رسالته؛ لأن ذلك يؤدي إلى انتساخ شريعة إسرائيل بشريعته . وشريعة إسرائيل مؤبدة بدليل ما جاء في التوراة من مثل . " هذه شريعة مؤبدة عليكم ما دامت السماوات والأرض " وإنما هو رسول إلى العرب خاصة . وعلى هذا فالخلاف بينهم وبين من سبقهم أن دعواهم مقصورة على منع انتساخ شريعة موسى بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وشبهتهم التي ساقوها متكافئة مع دعواهم هذه ، ويفهم من اقتصارهم على هذا أنهم يجوزون تناسخ الشرائع سمعا فيما عدا هذه الصورة . وندفع شبهتهم هذه بأمرين :
أولهما : إن دليلهم الذي زعموه هو دليل العنانية والشمعونية من قبلهم وقد أشبعناه تزييفا وتوهينا بالوجوه التي أسلفناها آنفا فالدفع هنا هو عين الدفع هناك فيما عدا الوجه الأول .
ثانيهما : إن اعترافهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول أيده الله بالمعجزات وجاءت البشارة به في التوراة يقضي عليهم لا محالة أن يصدقوه في كل ما جاء به ، ومن ذلك أن رسالته عامة وأنها ناسخة للشرائع قبله حتى شريعة موسى نفسه الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي أما أن يؤمنوا برسالته ثم لا يصدقوه في عموم دعوته ، فذلك تناقض منهم لأنفسهم ومكابرة للحجة الظاهرة لهم .
4 - شبهة أبي مسلم :
النقل عن أبي مسلم مضطرب : فمِن قائل : إنه يمنع وقوع النسخ سمعا على الإطلاق ، ومِن قائل : إنه ينكر وقوعه في شريعة واحدة ، ومن قائل : إنه ينكر وقوعه في القرآن خاصة ، ورجحت هذه الرواية الأخيرة بأنها أصح الروايات ، وبأن التأويلات المنقولة عنه لم تخرج عن حدود ما نسخ من القرآن ، وأبعد الروايات عن الرجل هي الرواية الأولى ؛ لأنه لا يعقل أن مسلما فضلا عن عالم كأبي مسلم ينكر وقوع النسخ جملة ، إلا إذا كانت المسألة ترجع إلى التسمية فقط ، فإنها تهون حينئذ على معنى أن ما نسميه نحن نسخا يسميه هو تخصيصا بالزمان مثلا ، وإلى ذلك ذهب بعض المحققين . قال التاج السبكي : ( إن أبا مسلم لا ينكر وقوع المعنى الذي نسميه نحن نسخا ، ولكنه يتحاشى أن يسميه باسمه ، ويسميه تخصيصا ) اهـ .
وقد احتج أبو مسلم بقوله سبحانه : لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْـزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ وشبهته في الاستدلال أن هذه الآية تفيد أن أحكام القرآن لا تبطل أبدا ، والنسخ فيه إبطال لحكم سابق . وندفع مذهب أبي مسلم وشبهته بأمور أربعة . . .
أولها : أنه لو كان معنى الباطل في الآية هو متروك العمل به مع بقاء قرآنيته ، لكان دليله قاصرا عن مدعاه؛ لأن الآية لا تفيد حينئذ إلا امتناع نوع خاص من النسخ ، وهو نسخ الحكم دون التلاوة ، فإنه وحده هو الذي يترتب عليه وجود متروك العمل في القرآن ، أما نسخ التلاوة مع الحكم ، أو مع بقائه ، فلا تدل الآية على امتناعه بهذا التأويل .
ثانيها : إن معنى الباطل في الآية ما خالف الحق ، والنسخ حق ، ومعنى الآية أن عقائد القرآن موافقة للعقل ، وأحكامه مسايرة للحكمة ، وأخباره مطابقة للواقع ، وألفاظه محفوظة من التغيير والتبديل ، ولا يمكن أن يتطرق إلى ساحته الخطأ بأي حال : إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وَبِالْحَقِّ أَنْـزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَـزَلَ وتفسير الآية بهذا المعنى يجعلها أقرب إلى إثبات النسخ ووقوعه منها إلى نفيه وامتناعه؛ لأن النسخ كما تقرر تصرف إلهي حكيم تقتضيه الحكمة وترتبط به المصلحة .
ثالثها : إن أبا مسلم على فرض أن خلافه مع الجمهور لفظي لا يعدو حدود التسمية نأخذ عليه أنه أساء مع الله في تحمسه لرأي قائم على تحاشي لفظ اختاره جلت حكمته ، ودفع عن معناه بمثل قوله : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا وهل بعد اختيار الله اختيار؟ وهل بعد تعبير الله تعبير؟ .
رابعا : إن هناك فروقا بين النسخ والتخصيص وقد فصلناها فيما سبق .
الفصل الخامس
تفسير تحليلي للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم .
يستدل المجيزون للنسخ عقلا القائلون بوقوعه سمعا ببعض الآيات التي وردت فيها الإشارة إلى ذلك إما صراحة أو ضمنا .
فمما أشار إلى النسخ صراحة قوله تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ( البقرة : 106 ) وما أشار إليه ضمنا قوله تعالى : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ( المائدة : 48 ) . وقوله تعالى : يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ( الرعد : 39 ) ، وقوله تعالى : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ( النحل : 101 ) فهذه أربع آيات دلت إحداها دلالة صريحة على النسخ بمعنى أنها اشتملت على لفظه ودلت الثلاث الباقية عليه دلالة ضمنية .
وسنستعرض -تتميما للفائدة- ما قاله في تفسيرها بعض المفسرين لزيادة إيضاح المقصود من الاستدلال بها على جواز وقوع النسخ فنبدأ بالآية الأولى وهي آية البقرة ( 106 ) حيث يقول تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فنبين أنهم اختلفوا في قراءتها في موضعين:
أحدهما : في قوله مَا نَنْسَخْ فإنهم اختلفوا فيه على وجهين فقرأ عبد الله بن عامر الشامي وحده ( ما ننسخ ) بضم النون وكسر السين . وقرأ الباقون مَا نَنْسَخْ بفتح النون والسين .
والموضع الثاني : قوله تعالى أَوْ نُنْسِهَا وقد اختلفوا في قراءته على خمسة أوجه بعضها معروف وبعضها شاذ . فقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( أو ننساها ) . بألف وكذلك قرأ النخعي ومجاهد وعبيد بن عمير وعبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء وقرأها علي رضي الله عنه أَوْ نُنْسِهَا بنون مضمون من غير ألف ومن غير همزة وبه قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب الحضرمي وهي أيضا قراءة الحسن وسعيد بن المسيب وقتادة .
وقرأ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ( تنساها ) بالتاء لقوله عز وجل : سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى وقوله تعالى : وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ، وكذلك رواه شبابة عن أبي عمرو بن العلاء البصري وقرأها أبي بن كعب رضي الله عنه ( أو ننسك ) وحده . وقرأها عطاء بن أبي رباح ( أو ننسئها ) بياء مهموزة مكان الألف واختلاف هذه القراءة كلها معروفها وشاذها إن صحت الروايات فيها لاختلاف الغرض فتكون هذه الآية نازلة على هذه الوجوه كلها ويكون حكم ما اختلف لفظه واتفق معناه منها كقوله تعالى فَانْفَجَرَتْ و" انْبَجَسَتْ " وما اختلف لفظه ومعناه منها كقوله تعالى وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ بالضاد واتفق معناه : البخيل . و( بظنين ) بالظاء ومعناه المتهم ومعنى هذه الآية على قراءة الجماعة أن الله جل ذكره يخبر عن نفسه يقول ما نرفع من حكم آية ونبق تلاوتها أو ننسكها يا محمد لا تحفظ تلاوتها نأت بخير منها لكم أي نأت بآية أخرى هي أصلح لكم وأسهل في التعبد أو نأت بمثلها في العمل وأعظم في الأجر فهذا قول صحيح معروف وقد قيل : إن معناها : ما نرفع من حكم آية وتلاوتها نأت بخير منها أي أصلح لكم منها : وقال ابن زيد : إنساؤها محوها وتركها .
فأما قراءة من قرأ ( أو ننساها ) بالألف والنون فمعناه نؤخرها ويقال نسأت إذا أخرت ومنه قوله تعالى إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ وإنما أراد به تأخيرهم الوقوف بعرفة عن ذي الحجة في كل عام بعشرة أيام ليقع حجهم أبدا في الربيع ويقال : أنسأت الشيء أنسأ ، والنسيء اسم وضع موضع المصدر ، ونسأ الله في أجله ، وأنسأ الله أجله ، أي أخره ، وفي الحديث من أحب أن ينسأ الله في أجله فليصل رحمه والنسأ التأخير وفي حديث عمر ( ارموا فإن الرمي عدة ، فإذا رميتم فانتسئوا عن البيوت ) أي تأخروا عن البيوت . والمنسأة العصا لأنه يوخز بها الدابة يقال : نسأت الدابة إذا ضربتها بالمنسأة . قلت : ومنه قوله تعالى في عصا سليمان عليه السلام فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ونسأت اللبن إذا جعلت فيه الماء ليكثر وهو النسوء وامرأة نسوء إذا كان مظنونا بها الحمل ونسوة نساء وإنما قيل لها نسوء؛ لأن الحمل زيادة فيها وإنما قيل نسأت اللبن؛ لأن الماء زيادة فيه .
والتأخير زيادة في أجل الشيء ومدته فقوله ( ننسأها ) معناها نؤخرها كما بينا ومن قرأ نُنْسِهَا بضم النون وكسر السين فمعناه ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن ابن عباس رضي الله عنهما ( كان القرآن ينزل فيثبت الله منه ما يشاء وينسخ منه ما يشاء وعنده أم الكتاب ) .
ومن قرأ ( أو تنساها ) بالتاء أو قرأ ( أو ننسك ) أراد به نسيان النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن النسيان جائز عليه في صفته وغير جائز في صفة الله تعالى ، ومن قرأها بياء مهموزة بدل الألف أراد به التأخير أيضا لأنه قرأها بالإمالة .
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ما نبدل من آية . وقال ابن جريج عن مجاهد : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أي ما نمحو من آية . وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ قال : نثبت خطها ونبدل حكمها . حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم . وقال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي العالية محمد بن كعب القرظي نحو ذلك . وقال الضحاك مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ما ننسك . وقال عطاء أما مَا نَنْسَخْ فما نترك من القرآن . وقال ابن أبي حاتم يعني ترك فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم وقال السدي مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ نسخها قبضها وقال ابن أبي حاتم : يعني قبضها رفعها مثل قوله ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) وقوله لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا وقال ابن جرير مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره وذلك أن يحول الحلال حراما والحرام حلالا والمباح محظورا والمحظور مباحا ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها وكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها وسواء نسخ حكمها أو خطها إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة . وأما علماء الأصول فاختلفت عبارتهم في حد النسخ ، والأمر في ذلك قريب؛ لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولحظ بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه والنسخ لا إلى بدله ولم يشأ رحمه الله أن يتوسع في تفصيل ذلك فقال وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة في أصول الفقه . ثم قال : وقوله تعالى مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا يقول ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها وقال عطية العوفي : أو ننسأها نؤخرها فلا ننسخها . وقال السدي مثله أيضا ، وكذا الربيع بن أنس وقال الضحاك : ( ما ننسخ من آية أو ننسأها ) يعني الناسخ من المنسوخ . وقال أبو العالية : ( ما ننسخ من آية أو ننسأها) نؤخرها عندنا . وروى ابن جرير عن الحسن أنه قال في قوله أَوْ نُنْسِهَا إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قرأ قرآنا ثم نسيه وعن قتادة أيضا أنه قال : كان الله عز وجل ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء وينسخ ما يشاء .
وقوله تعالى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا يقول : خير لكم في المنفعة وأرفق بكم . وقال أبو العالية : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ فلا نعمل بها ( أو ننساها ) أي نرجئها عندنا نأت بها أو نظيرها . وقال السدي نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا يقول : نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه . وقال قتادة نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا يقول آية فيها رخصة فيها أمر فيها نهي اهـ .
وقال الإمام أبو الفرج بن الجوزي في تفسيره ( زاد المسير ) : قوله تعالى مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ سبب نزولها أن اليهود قالت لما نسخت القبلة : إن محمدا يحل لأصحابه إذا شاء ويحرم عليهم إذا شاء فنزلت هذه الآية . قال الزجاج : النسخ في اللغة إبطال شيء وإقامة آخر مقامه تقول العرب : نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله وفي المراد بهذا النسخ ثلاثة أقوال : أحدها : رفع اللفظ والثاني : تبديل الآية بغيرها رويا عن ابن عباس ، والأول قول السدي والثاني قول مقاتل ، والثالث : رفع الحكم مع بقاء اللفظ رواه مجاهد عن أصحاب ابن مسعود وقال أبو العالية : وقرأ ابن عامر ( ما ننسخ ) بضم النون وكسر السين . قال أبو علي : أي ما نجده منسوخا كقولك : أحمدت فلانا أي وجدته محمودا وإنما يجده منسوخا بنسخه إياه . قوله تعالى أَوْ نُنْسِهَا قرأ ابن كثير وأبو عمرو ( ننسأها ) بفتح النون مع الهمزة والمعنى نؤخرها . قال أبو زيد : نسأت الإبل عن الحوض فأنا أنسأها إذا أخرتها ، ومنه النسيئة في البيع وفي معنى نؤخرها ثلاثة أقوال : أحدها : نؤخرها عن النسخ فلا ننسخها قاله الفراء . والثاني : نؤخر إنزالها فلا ننزلها ألبتة . والثالث : نؤخرها عن العمل بها بنسخنا إياها حكاهما أبو علي الفارسي . وقرأ سعد بن أبي وقاص ( تَنسها ) بتاء مفتوحة ونون وقرأ سعيد بن المسيب والضحاك ( تُنسها ) بضم التاء وقرأ نافع ( أَوْ نُنْسِهَا ) بنونين الأولى مضمومة والثانية ساكنة أراد ( أو ننسكها ) من النسيان . قوله تعالى : نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا قال ابن عباس بألْيَنَ مِنها وأيسر على الناس . قوله تعالى أَوْ مِثْلِهَا أي في الثواب والمنفعة فتكون الحكمة في تبديلها بمثلها الاختبار . اهـ وجاء في تفسير العلامة أبي السعود ( إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ) في تفسير هذه الآية قوله رحمه الله : ما ننسخ من آية أو ننسها . كلام مستأنف مسوق لبيان سر النسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي وإبطال مقالة الطاغين فيه إثر تحقيق حقيقة الوحي ورد كلام الكارهين له رأسا ، قيل : نزلت حين قال المشركون أو اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه . والنسخ في اللغة الإزالة والنقل يقال : نسخت الريح الأثر أي أزالته ، ونسخت الكتاب أي نقلته ، ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها أو بالحكم المستفاد منها أو بِهِما جميعا .
وإنساؤها إذهابها من القلوب و( ما ) شرطية جازمة ( لننسخ ) منتصبة به على المفعولية ، وقرئ ( ننسخ من انسخ ) أي : نأمرك أو جبريل بنسخها أو تجدها منسوخة ، وننسأها من النسيء أي نؤخرها ، وننسّها بالتشديد وتَنسَها وتُنسَها على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم مبنيا للفاعل وللمفعول ، وقرئ ( ما ننسخ من آية أو ننسكها ) وقرئ ( ما نُنْسِك من آية أو ننسخها ) والمعنى : عن كل آية نذهب بها على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معا إلى بدل أو إلى غير بدل .
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أي نوع آخر هو خير للعباد ، وبحسب الحال في النفع والثواب من الذاهبة ، وقرئ بقلب الهمزة ألفا أَوْ مِثْلِهَا أي فيما ذكر من النفع والثواب وهذا الحكم غير مختص بنسخ الآية التامة فما فوقها بل جار فيما دونها أيضا ، وتخصيصها بالذكر باعتبار الغالب . والنص كما ترى دال على جواز النسخ ، كيف لا وتنزيل الآيات التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية إنما هو بحسب ما يقتضيه من الحكم والمصالح ، وذلك يختلف باختلاف الأحوال ويتبدل حسب تبدل الأشخاص والأبصار كأحوال المعاش فرب حكم تقتضيه الحكمة في حال تقتضي في حال أخرى نقيضه ، فلو لم يجز النسخ لاختل ما بين الحكمة والأحكام من النظام . اهـ وقال العلامة الشوكاني في تفسيره ( فتح القدير ) في معرض تفسيره لهذه الآية بعد أن عدد وجوه القراءات في نُنْسِهَا وقرأ الباقون نُنْسِهَا بضم النون من النسيان الذي بمعنى الترك أي نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها ومنه قوله تعالى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ أي تركوا عبادته فتركهم في العذاب ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم ، وحكى الأزهري أن معناه نأمر بتركها ، يقال : أنسيته الشيء أي أمرته بتركه ونسيته تركته ومنه قول الشاعر :
إن علــــــــي عقبــــــــة أقضيهـــــــا لســــــت بناســــــيها ولا منســـــيها
أي ولا آمر بتركها . وقال الزجاج : إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك . لا يقال أُنسي بمعنى ترك ، قال : وما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أَوْ نُنْسِهَا قال : نتركها لا نبدلها فلا يصح . والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى أَوْ نُنْسِهَا نبح لكم تركها ، من نسي إذا ترك ثم تعديه ، ومعنى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا نأت بما هو أنفع للناس منها في العاجل والآجل أو في أحدهما أو بما هو مماثل لها من غير زيادة ، ومرجع ذلك إلى إعمال النظر في المنسوخ والناسخ ، فقد يكون الناسخ أخف فيكون أنفع لهم في العاجل ، وقد يكون أثقل وثوابه أكثر فيكون أنفع لهم في الآجل ، وقد يستويان فتحصل المماثلة . وقوله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يفيد أن النسخ من مقدوراته وأن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية . وهكذا قوله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أي له التصرف في السماوات والأرض بالإيجاد والاختراع ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته فهو أعلم بمصالح عباده وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها وشرعها لهم ، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص ، وهذا صنع من لا ولي لهم غيره ولا نصير سواه ، فعليهم أن يتلقوه بالقبول والامتثال والتعظيم والإجلال . ثم قال رحمه الله في آخر تفسيره لهذه الآية : وقد ثبت في البخاري وغيره عن أنس : أن الله أنزل في الذين قتلوا في بئر معونة ( أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم نسخ . وهكذا ثبت في مسلم وغيره ، عن أبي موسى قال : كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها ( ولو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثا ولا يملأ جوفه إلا التراب ) وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات أولها ( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ) فأنسيناها غير أني حفظت منها ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألوا عنها يوم القيامة ) وقد روي مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة ومنه آية الرجم كما رواه عبد الرزاق وأحمد وابن حبان عن عمر اهـ .
وقال العلامة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تفسيره الموسوم ( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ) عند تفسيره لهذه الآية : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ النسخ هو النقل ، فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع إلى حكم آخر أو إلى إسقاطه وكان اليهود ينكرون النسخ ويزعمون أنه لا يجوز ، وهو مذكور عندهم في التوراة ، فإنكارهم له كفر وهوى محض ، فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ فقال : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا أي ننسها العباد فنزيلها من قلوبهم ، نأت بخير منها وأنفع لكم أَوْ مِثْلِهَا فدل على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول ؛ لأن فضله تعالى يزداد خصوصا على هذه الأمة التي سهل عليها دينها غاية التسهيل ، وأخبر أن من قدح في النسخ قدح في ملكه وقدرته ، فقال : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فإذا كان مالكا لكم متصرفا فيكم تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه ، فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير ، كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام ، فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية فما له والاعتراض ، وهو أيضا ولي عباده فيتولاهم في تحصيل منافعهم وينصرهم في دفع مضارهم ، فمن ولايته لهم أن يشرع لهم من الأحكام ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم . ومن تأمل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ عرف بذلك حكمة الله ورحمتَه عباده وإيصالهم إلى مصالحهم من حيث لا يشعرون بلطفه اهـ .
2 - والآية الثانية التي سنذكر ما قاله بعض المفسرين في تفسيرها مما استدلوا به على جواز وقوع النسخ هي قوله تعالى : وَأَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا الآية .
وشاهدنا منها قوله عز وجل : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا قال ابن الجوزي رحمه الله في تفسيره عند كلامه على هذه الآية وللمفسرين في معنى الكلام قولان : أحدهما : لكل ملة جعلنا شرعة ومنهاجا فلأهل التوراة شريعة ولأهل الإنجيل شريعة ولأهل القرآن شريعة . هذا قول الأكثرين . قال قتادة : الخطاب للأمم الثلاث أمة موسى وعيسى وأمة محمد فللتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللفرقان شريعة يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء بلاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل . والقول الثاني : إن المعنى لكل من دخل في دين محمد جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا . هذا قول مجاهد .
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وقال ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سبيلا وعنه أيضا " مِنْهَاجًا " قال سُنّة . وكذا رواه العوفي عن ابن عباس شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا سبيلا وسنة وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وقتادة والضحاك والسدي وأبي إسحاق السبيعي أنهم قالوا في قوله : شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أي سبيلا وسنة . إلى أن قال رحمه الله بعد أن نقل قولا حكاه ابن جرير عن مجاهد : إن المخاطب بهذه الآية هذه الأمة ، ومعناه لكل جعلنا القرآن منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجا أي هو لكم كلكم تقتدون به . . . إلخ . قال : ( والصحيح القول الأول ) ويعني به ما قاله قبل ذلك من أن هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد ، ويدل على ذلك قوله تعالى بعده : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً فلو كان هذا الخطاب لهذه الأمة لما صح أن يقول وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وهم أمة واحدة ولكن هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ شيء منها ، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعةً على حدة ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة وجعله خاتم الأنبياء كلهم اهـ .
وقال العلامة الشوكاني في تفسير هذه الآية : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا الشرعة والشريعة في الأصل : الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء ثم استعملت فيما شرعه الله لعباده من الدين . والمنهاج : الطريقة الواضحة البينة . وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد . الشريعة ابتداء الطريق ، والمنهاج الطريق المستمر ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها والإنجيل لأهله والقرآن لأهله وهذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن وأما بعده فلا شرعة ولا منهاج إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم اهـ .
وقال العلامة ابن سعدي في تفسيره لهذه الآية لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ أيها الأمم شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أي سبيلا وسنة وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها وأما الأصول الكبار التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان فإنها لا تختلف فتشرع في جميع الشرائع اهـ .
وقال صاحب تفسير المنار محمد رشيد رضا رحمه الله في تفسيره عند كلامه على هذه الآية لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا فهذه الجملة بيان لتعليل الأمر والنهي قبلها أي لكل رسول أو كل أمة منكم أيها المسلمون والكتابيون أو أيها الناس جعلنا شريعة أوجبنا عليهم إقامة أحكامها وطريقا للهداية فرضنا عليهم سلوكه لتزكية أنفسهم وإصلاحها؛ لأن الشرائع العملية وطرق التزكية الأدبية تختلف باختلاف أحوال الاجتماع واستعداد البشر ، وإنما اتفق جميع الرسل في أصل الدين وهو توحيد الله وإسلام الوجه له بالإخلاص والإحسان . ثم استعرض معاني الشرعة والمنهاج في اللغة واستعرض ما أخرجه غير واحد من رواة التفسير المأثور في تفسير الآية إلى أن قال رحمه الله : وظاهرٌ من قول قتادة أن الشريعة أخص من الدين إن لم تكن مباينة له وأنها الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل وينسخ لاحقها سابقها وأن الدين هو الأصول الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأنبياء اهـ .
3 - الآية الثالثة التي نريد استعراض أقوال بعض المفسرين في تفسيرها مما استدلوا به على جواز وقوع النسخ هي قوله تعالى في سورة الرعد آية 39 يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ فقد قال أبو الفرج بن الجوزي عند تفسيره لهذه الآية : قوله تعالى : يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وَيُثْبِتُ ساكنة الثاء خفيفة الباء . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ( ويثبت ) مشددة الباء مفتوحة الثاء قال أبو علي : المعنى ويثبته فاستغنى بتعدية الأول من الفعلين عن تعدية الثاني .
واختلف المفسرون في المراد بالذي يمحو ويثبت على ثمانية أقوال ، ثم مضى رحمه الله يعدد تلك الأقوال الثمانية وكلها لا صلة لها بمبحثنا إلا الثاني منها فهو المتعلق بموضوعنا حيث قال : والثاني أنه الناسخ والمنسوخ فيمحو المنسوخ ويثبت الناسخ روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والقرظي وابن زيد وقال ابن قتيبة يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ أي ينسخ من القرآن ما يشاء ويثبت أي يدعه ثابتا لا ينسخه وهو المحكم اهـ .
وقال الحافظ أبو الفداء بن كثير في تفسيره عند كلامه على هذه الآية يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ منها ، أي من الكتب المنزلة من السماء من عند الله حيث نقل في تفسيره للآية التي قبلها وهي قوله تعالى : لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ قول الضحاك بن مزاحم : أي لكل كتاب أجل يعني لكل كتاب أنزله من السماء مدة مضروبة عند الله ومقدار معين فلهذا يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ منها ويثبت يعني حتى نسخت بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه ، ثم أورد رحمه الله اختلافات المفسرين في تفسير الآية التي نحن بصددها إلى أن قال : ومعنى هذه الأقوال أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء . ثم مضى بعد ذلك إلى أن قال : وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ يقول يبدل ما يشاء فينسخه ويثبت ما يشاء فلا يبدله وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ وما يبدل وما يثبت كل ذلك في كتاب .
وقال قتادة في قوله يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ كقوله مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا الآية اهـ .
وقال أبو السعود في تفسيره لهذه الآية يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ أي ينسخ ما يشاء نسخه من الأحكام لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت ويثبت بدله المصلحة أو يبقيه على حاله غير منسوخ اهـ .
وكذلك أورد الشوكاني في ( فتح القدير ) ما أورد الحافظ ابن كثير في تفسيره الذي نقلناه آنفا عن ابن عباس للآية من أن المراد : يبدل ما يشاء فينسخه . . . إلخ . وقد قال في إسناده : وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في المدخل عن ابن عباس ثم حكاه اهـ .
4 - والآية الرابعة والأخيرة من الآيات التي استدلوا بها على جواز النسخ هي قوله سبحانه وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ النحل ( 101 ) والمعنى وإذا نسخنا آية بآية إما نسخ الحكم والتلاوة أو نسخ الحكم مع بقاء التلاوة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ من ناسخ ومنسوخ وتشديد وتخفيف فهو عليم بالمصلحة في ذلك قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ أي كاذب بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ فيه قولان : أحدهما : لا يعلمون أن الله أنزله . والثاني : لا يعلمون فائدة النسخ اهـ .
وقال الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية : يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم وأنه لا يتصور منهم الإيمان وقد كتبت عليهم الشقاوة وذلك أنهم إذا رأوا تغير الأحكام ناسخها بمنسوخها قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ أي كذاب وإنما هو الرب تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . وقال مجاهد : بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ أي رفعناها وأثبتنا غيرها . وقال قتادة هو كقوله تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا الآية وقال العلامة أبو السعود بن محمد العمادي الحنفي في تفسيره عند هذه الآية وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ أي إذا أنزلنا آية من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلا منها بأن نسخناها بها وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ أولا وآخِرًا وبأن كلا من ذلك ما نزلت حيثما نزلت إلا حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن كل وقت له مقتضى غير مقتضى الآخر فكم من مصلحة في وقت تنقلب في وقت آخر مفسدة وبالعكس لانقلاب الأمور الداعية إلى ذلك وما الشرائع إلا مصلحة للعباد في المعاش والمعاد تدور حسبما تدور المصالح . والجملة إما معترضة لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم . وفي الالتفات إلى الغيبة مع إسناد الخبر إلى الاسم الجليل المستجمع للصفات ما لا يخفى من تربية المهابة وتحقيق معنى الاعتراض أو حالية وقرئ بالتخفيف من الإنزال قَالُوا أي الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ أي متقول على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه وحكاية هذا القول عنهم هاهنا للإيذان بأن ذلك كفرة ناشئة من نزغات الشيطان وأنه وليهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون شيئا أصلا أو لا يعلمون أن في النسخ حكما بالغة وإسناد هذا الحكم إلى الأكثر لما أن منهم من يعلم ذلك وإنما ينكره عنادا اهـ .
وقال العلامة الشوكاني في تناوله لتفسير هذه الآية وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ هذا شروع منه سبحانه في حكاية شبه كفرية ودفعها ومعنى التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه . وتبديل الآية رفعها بأخرى غيرها وهي نسخها بآية سواها . وقد تقدم الكلام في النسخ في البقرة قَالُوا أي كفار قريش الجاهلون للحكمة في النسخ : إِنَّمَا أَنْتَ يا محمد مُفْتَرٍ أي كاذب مختلق على الله متقول عليه بما لم يقل حيث تزعم أنه أمرك بشيء ثم تزعم أنه أمرك بخلافه فرد الله سبحانه عليهم بما يفيد جهلهم فقال بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شيئا من العلم أصلا أو لا يعلمون الحكمة في النسخ فإنه مبني على المصالح التي يعلمها الله سبحانه ، فقد يكون في شرع هذا الشيء مصلحة مؤقتة بوقت ثم تكون المصلحة بعد ذلك الوقت في شرع غيره . لو انكشف الغطاء لهؤلاء الكفرة لعرفوا أن ذلك وجه الصواب ومنهج العدل والرفق واللطف ثم بين سبحانه لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله وأن رسوله صلى الله عليه وسلم افتراه فقال قُلْ نَـزَّلَهُ أي القرآن المدلول عليه بذكر الآية رُوحُ الْقُدُسِ أي جبريل والقدس التطهير والمعنى : نزله الروح المطهر من أدناس البشرية فهو من إضاف الموصوف إلى الصفة مِنْ رَبِّكَ أي ابتداء تنزيله من عنده سبحانه و بِالْحَقِّ في محل نصب على الحال أي متلبسا بكونه حقا ثابتا لحكمة بالغة لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا على الإيمان فيقولون : كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا ولأنهم أيضا إذا عرفوا ما في النسخ من المصالح ثبتت أقدامهم على الإيمان ورسخت عقائدهم اهـ .
وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ الآية . يذكر تعالى أن المكذبين بهذا القرآن يتتبعون ما يرونه حجة لهم وهو أن الله تعالى هو الحاكم الحكيم الذي يشرع الأحكام ويبدل حكما مكان آخر لحكمته ورحمته فإذا رأوه كذلك قدحوا في الرسول وبما جاء به و قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ قال الله تعالى : بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ منهم جهال لا علم لهم بربهم ولا بشرعه . إلى أن قال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى بعد ذلك لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا عند نزول آياته وتواردها عليهم وقتا بعد وقت فلا يزال الحق يصل إلى قلوبهم شيئا فشيئا حتى يكون إيمانهم أثبت من الجبال الرواسي وأيضا فإنهم يعلمون أنه الحق وإذا شرع حكما من الأحكام ثم نسخه علموا أنه أبدله بما هو مثله أو خير منه لهم وأن نسخه هو المناسب للحكمة الربانية والمناسبة العقلية
الفصل السادس
ما يقع فيه النسخ في القرآن
قال بدر الدين الزركشي في ( البرهان ) : الجمهور على أنه لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي وزاد بعضهم الأخبار وأطلق وقيدها آخرون بالتي يراد بها الأمر والنهي .
وقال أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي في ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) اعلم أنه جائز أن ينسخ الله جل ذكره جميع القرآن بأن يرفعه من صدور عباده ويرفع حكمه بغير عوض وقد جاءت في ذلك أخبار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم دليله قوله تعالى وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ . وقد كان من ذلك بعضه على ما روي من سورة الأحزاب ، وإنما يؤخذ ما كان من ذلك من طريق الأخبار والله أعلم بصحته ومنه ما رفع لفظه أن يتلى وبقي حفظه غير متلو على أنه قرآن وثبت حكمه بالإجماع كآية الرجم فالرواية المشهورة أنه كان فيما يتلى ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) فرفع رسم ذلك من المصحف المجمع عليه ولم تثبت تلاوته وبقي حكمه ولم ينس لفظه .
والذي هو عمدة هذا الباب هو ما يزيل الله جل ذكره حكمه ويبدله بغيره من حكم متلو ويبقى المنسوخ متلوا غير معمول به وقد ذكرنا مثاله ، أو يزيل حكمه ولفظه بحكم آخر متلو ، وهذا كله إنما يجوز في الأحكام والفرائض والأوامر والنواهي والحدود والعقوبات من أحكام الدنيا فهذا قول عامة العلماء وعليه العمل عند فقهاء الأمصار وهو الذي لا يجوز في النظر غيره ، فأما ما لا يجوز نسخه فهو كل ما أخبرنا الله تعالى عنه أنه سيكون أو أنه كان أو وعدنا به أو قص علينا من أخبار الأمم الماضيـة وما قـص علينا مـن أخبار الجنة والنار والحساب والعقاب والبعث والحشر وخلق السماوات والأرضين وتخليد الكفار في النار والمؤمنين في الجنة هذا كله وشبهه من الأخبار لا يجوز نسخه ؛ لأنه يتعالى أن يخبر عن الشيء على غير ما هو به . وكذلك ما أعلمنا به من صفاته لا يجوز في ذلك كله أن ينسخ ببدل منه فأما جواز أن ينسخ ذلك كله بإزالة حفظه من الصدور -ونعوذ بالله من ذلك- فذلك جائز في قدرته تعالى يفعل ما يشاء وقال الزرقاني في مناهل العرفان : إن تعريف النسخ بأنه ( رفع حكم شرعي بدليل شرعي ) يفيد في وضوح أن النسخ لا يكون إلا في الأحكام وذلك موضع اتفاق بين القائلين بالنسخ لكن في خصوص ما كان من فروع العبادات والمعاملات أما غير هذه الفروع من العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات . . . ومدلولات الأخبار المحضة فلا نسخ فيها على الرأي السديد الذي عليه جمهور العلماء .
أما العقائد فلأنها حقائق صحيحة ثابتة لا تقبل التغير والتبديل فبدهي ألا يتعلق بها نسخ ، وأما أمهات الأخلاق فلأن حكمة الله في شرعها ومصلحة الناس في التخلق بها أمر ظاهر لا يتأثر بمرور الزمن ولا يختلف باختلاف الأشخاص والأمم حتى يتناولها النسخ بالتبديل والتغيير . وأما أصول العبادات والمعاملات فلوضوح حاجة الخلق إليها باستمرار لتزكية النفوس وتطهيرها ولتنظيم علاقة المخلوق بالخالق والخلق على أساسهما فلا يظهر وجه من وجوه الحكمة في رفعها بالنسخ .
وأما مدلولات الأخبار المحضة فلأن نسخها يؤدي إلى كذب الشارع في أحد خبرية الناسخ أو المنسوخ وهو محال عقلا ونقلا . أما عقلا فلأن الكذب نقص والنقص عليه تعالى محال . وأما نقلا فلمثل قوله سبحانه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا . وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا .
نعم إن نسخ لفظ الخبر دون مدلوله جائز بإجماع من قالوا بالنسخ ولذلك صورتان : إحداهما : أن تنزل الآية مخبرة عن شيء ثم تنسخ تلاوتها فقط .
والأخرى : إن يأمرنا الشارع بالتحدث عن شيء ثم ينهانا أن نتحدث به .
وأما الخبر الذي ليس محضا بأن كان في معنى الإنشاء ودل على أمر ونهي متصلين بأحكام فرعية عملية فلا نزاع في جواز نسخه والنسخ به؛ لأن العبرة بالمعنى لا باللفظ ، مثال الخبر بمعنى الأمر تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فإن معناه ازرعوا . ومثال الخبر بمعنى النهي قوله سبحانه : الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ فإن معناه لا تنكحوا مشركة ولا زانية ( بفتح التاء ) ولا تنكحوا زانيا ولا مشركا ( بضم التاء ) لكن على بعض وجوه الاحتمالات دون بعض والفرق بين أصول العبادات والمعاملات وبين فروعها أن فروعها هي ما تتعلق بالهيئات والأشكال والأمكنة والأزمنة والعدد أو هي كمياتها وكيفياتها وأما أصولها فهي ذوات العبادات والمعاملات بقطع النظر عن الكم والكيف .
واعلم أن ما قررناه هنا من قصر النسخ على ما كان من قبيل الأحكام الفرعية العلمية دون سواها هو الرأي السائد الذي ترتاح إليه النفس ويؤيده الدليل وقد نازع في ذلك قوم لا وجه لهم فلنضرب عن كلامهم صفحا .
ويتصل بما ذكرنا أن الأديان الإلهية لا تناسخ بينها فيما بيناه من الأمور التي لا يتناولها النسخ بل هي متحدة في العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات وفي صدق الأخبار المحضة فيها صدقا لا يقبل النسخ والنقض اهـ . فالذي يقع عليه النسخ إذا هو الحكم الشرعي العملي الذي لم يلحقه تأبيد ولا توقيت كالأحكام التكليفية من وجوب وندب وإباحة وتحريم وكراهة .
وقال صاحب التقرير والتحبير : ( محل النسخ عند الحنفية حكم شرعي فرعي يحتمل في نفسه الوجود والعدم وعند طائفة منهم غير مقيد بتأبيد ولا توقيت قبل مضيه خلافا للآخرين ) وقد اتفقت كلمة القائلين بالنسخ المجيزين لوقوعه على عدم وقوعه في الأحكام العقلية كلمة القائلين بالنسخ المجيزين لوقوعه على عدم وقوعه في الأحكام العقلية وهي الأحكام التي يدركها العقل بنور البصيرة ويأتي الشرع مؤيدا لها كالإيمان بواحدانية الله تعالى وحسن الصدق والوفاء بالعهد وقبح الكفر والكذب وإخلاف الوعد .
وفي معرض حديثه عن نسخ الأخبار يقول الآمدي في الإحكام : ( إن الخبر إما أن تنسخ تلاوته أو تكليفنا بأن نكون قد كلفنا أن نخبر بشيء فينسخ عنا التكليف بذلك الإخبار ) ويقول البدخشي في ذلك أيضا ( لا خلاف في أن التكليف بالأخبار بشيء من عقلي أو عادي أو شرعي ثم نسخه بعد ذلك جائز ) .
وقد ذهب ابن حزم رحمه الله إلى أن النسخ لا يقع إلا في الأوامر والنواهي فأما الأخبار فلا يقع فيها النسخ إطلاقا ولا يصح أن يقع في مدلول الخبر إلا إن كان المراد من الخبر والأخبار الأمر والنهي . وقد قسم حين تكلم عن نسخ الأخبار الكلام إلى أربعة أقسام أمر ورغبة وخبر واستفهام وبين أن
( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 255)
القسم الأول هو الذي يقع فيه النسخ أما ما سواه فلا يقع فيها . وقد سمى الرجوع عن الأمر بإحداث أمر غيره نسخا وإذا ورد لفظ الكلام كلفظ الخبر ومعناه معنى الأمر جاز النسخ فيه مثل قوله تعالى : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ وقوله تعالى : فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا .
وإذا كان مضمون الخبر مما يتغير جاز نسخه مطلقا وإليه يذهب أبو عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري وهو المختار عند الآمدي ، سواء كان ماضيا أو مستقبلا وقد علل هذا الاختيار بقوله : ( وذلك لأنه إذا ما دل عليه كان الإخبار متكررا والخبر عام فيه فأمكن أن يكون الناسخ مبينا لإخراج بعض ما تناوله اللفظ وأن المراد بعض ذلك المذكور كما في الأوامر والنواهي ) واختار هذا القول ابن تيمية أيضا وذهب فخر الدين الرازي إلى جواز النسخ في مدلول الخبر الذي يتغير . أما أبو الحسين البصري فيجيز نسخ تلاوة الخبر كنسخ تلاوة أخبار التوراة كما يجيز نسخ الابتداء بالخبر نحو أن يأمرنا الله سبحانه أن نخبر عن شيء فيجوز أن ينسخ عنا وجوب الإخبار عنه سواء كان الخبر مما يجوز أن يتغير أو مما لا يجوز أن يتغير كالإخبار عن صفات الله سبحانه ؛ لأنه لا يمتنع أن يكون في الإخبار عن ذلك مفسدة كما كان في تلاوة الجنب والحائض للقرآن مفسدة أما ابن أمير الحاج صاحب ( التقرير والتحبير على تحرير الكمال بن الهمام ) فيقسم مدلول الخبر إلي قسمين :
الأول : إن ترتب على جواز نسخه الكذب والخلف في حق من لا يجوز عليه ذلك فلا يجوز نسخه ويلحق هذا القسم بالأخبار التي يوجبها العقل في عدم جواز نسخها .
الثاني : أنه إن لم يترتب على نسخه الكذب فلا يكون خبرا ويجوز نسخه .
ولقد لخص ابن أمير الحاج موقف العلماء من وقوع النسخ في الأخبار بقوله :
قال الجمهور : لا يجري النسخ في الأخبار سواء كانت ماضية أو مستقبلة؛ لأن النسخ فيها هو الكذب والشارع منزه عنه والحد فيه أن النسخ لا يجري في واجبات العقل بل في جائزاتها وتحقق المخبر به في خبر من لا يجوز عليه الكذب والخلف من الواجبات والنسخ فيه يؤدي إلى الكذب فلا يجوز . ثم ذكر أن هناك من العلماء من قال بجواز نسخ الأخبار مطلقا سواء كانت ماضية أو مستقبلة وعدا أو وعيدا ونسب هذه القول إلى الإمام الرازي والآمدي إذا كان مدلول الخبر مما يتغير . كما ذكر أن صاحب ( كشف الأسرار ) قد أسند هذا القول إلى بعض المعتزلة والأشعرية إذا كان مدلوله متكررا والإخبار عنه عاما . وهناك من العلماء من فرق بين أخبار الوعد وأخبار الوعيد فمنع النسخ في خبر الوعد؛ لأن فيه إخلافا في الإنعام والخلف في الإنعام محال على الله تبارك وتعالى . وأما الوعيد ففي جواز وقوع النسخ فيه حكمة بالغة وهو دليل على عفو الله وكرمه لا على خلفه وخلاصة القول فيما يقع فيه النسخ في القرآن الكريم أنه يقع في الأحكام والفرائض والأوامر والنواهي والحدود والعقوبات من أحكام الدنيا باتفاق عامة العلماء وهو الذي عليه العمل عند فقهاء الأمصار وأما الأخبار فإن لعلماء الأصول في وقوع النسخ فيها من عدمه ثلاثة مذاهب :
1 - منع نسخها مطلقا .
2 - جواز نسخها مطلقا .
3 - التفصيل في ذلك على الوجه الذي أسلفناه مجملا . .
الفصل السابع
أنواع النسخ في القرآن
يقرر الباحثون في علوم القرآن باتفاق أن أنواع النسخ في القرآن الكريم ثلاثة هي :
الأول : ما نسخ رسمه وبقي حكمه كآية الرجم ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لولا أن يقول الناس زاد ابن الخطاب في كتاب الله لكتبت في حاشيته ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) رواه أحمد ومالك في الموطأ وأبو داود . وكذلك آية الرضاع في قول أصحاب الشافعي رحمه الله وقد قالت عائشة رضي الله عنها : ( كان فيما أنزل الله تعالى عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخن بخمس معلومات ) . رواه مالك في الموطأ ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي . فالخمس منها منسوخ الرسم ثابت الحكم عند الشافعي وأصحابه . وقال مالك وأصحاب الرأي بنسخها بالرضعة الواحدة .
والقسم الثاني : ما نسخ حكمه ورسمه معا كالعشر من الرضعات عند الشافعي وأصحابه .
والقسم الثالث : ما نسخ حكمه وبقي رسمه كالآيات المنسوخة أحكامها مع بقاء نظمها في القرآن وقال الزركشي في البرهان حين كر القسم الأول : ( فيعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول ) فجعل شرط العمل به أن يكون مجمعا عليه . ثم قال بعد أن أورد خبر عمر رضي الله عنه الذي ذكر أن البخاري رواه في صحيحه معلقا : ( وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بن كعب : كانت سورة الأحزاب توازي سورة النور فكان فيها ( الشيخ والشيخة ) . . . إلخ . إلى أن قال : وذكر الإمام المحدث أبو الحسين أحمد بن جعفر المنادي في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) مما رفع رسمه من القرآن ولم يرفع من القلوب حفظه سورتا القنوت في الوتر قال : ولا خلاف بين الماضين والغابرين أنهما مكتوبتان في المصاحف المنسوبة إلى أبي بن كعب وأنه ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقرأه إياهما وتسمى سورتي الخلع والحفد . . . ) اهـ .
ثم افترض سؤالا هو : ما الحكمة في رفعه التلاوة مع بقاء الحكم وهلا أبقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟ وذكر أن أبا الفرج بن الجوزي قد أجاب على هذا السؤال المفترض في كتابه ( فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن ) بقوله : إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام والمنام أدنى طرق الوحي .
وقد ذكر الزركشي أن النوع الثاني من الأنواع الثلاثة ورد في ثلاث وستين سورة ثم عاد إلى الأسئلة الافتراضية فقال بعد إيراده بعض الأمثلة على نسخ الحكم وبقاء التلاوة والجواب من وجهين :
أحدهما : إن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه والعمل به فيتلى لكونه كلام الله تعالى فيثاب عليه فتركت التلاوة لهذه الحكمة .
وثانيهما : إن النسخ غالبا يكون للتخفيف فأبقيت التلاوة تذكيرا بالنعمة ورفع المشقة وأما حكمة النسخ قبل العمل كالصدقة عند النجوى فيثاب على الإيمان به وعلى نية طاعة الأمر . وعند كلامه على نسخ الحكم والتلاوة معا قال رحمه الله تعليقا على قول عائشة رضي الله عنها في حديث الرضعات : فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مما يقرأ من القرآن حسب رواية مسلم رحمه الله وقد تكلموا في قولها (وهي مما يقرأ) فإن ظاهره بقاء التلاوة وليس كذلك . فمنهم من أجاب بأن المراد قارب الوفاة . والأظهر أن التلاوة نسخت أيضا ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي وبعض الناس يقرؤها .
وقال أبو موسى الأشعري : نزلت ثم رفعت اهـ وعلق على خبر عائشة أيضا مكي بن أبي طالب بقوله : ( فهذا قول عائشة غريب في الناسخ والمنسوخ ، والناسخ غير متلو والمنسوخ غير متلو وحكم الناسخ قائم ) .
وهذه الأنواع الثلاثة التي ذكرناها إنما هي للنسخ في القرآن الكريم من حيث هو بيد أن مكي بن أبي طالب رحمه الله تعالى قد ذكر في ( الإيضاح ) تقسيما آخر للنسخ باعتبار المنسوخ فأثبت ستة أقسام للمنسوخ من القرآن فيما يلي بيانها :
الأول : ما رفع جل ذكره رسمه من كتابه بغير بدل منه وبقي حفظه في الصدور ومنه الإجماع على ما في المصحف من تلاوته على أنه قرآن وبقي حكمه مجمعا عليه نحو آية الرجم التي تقدم ذكرها .
الثاني : ما رفع الله حكمه من الآي بحكم آية أخرى وكلاهما ثابت في المصحف المجمع عليه متلو وهذا هو الأكثر في المنسوخ ولا يكون في الأخبار على ما قدمنا وقد مضى تمثيله في آية الزواني المنسوخة بالجلد المجمع عليه في سورة النور كلاهما باق متلو كله .
الثالث : ما فرض العمل به لعلة ثم زال العمل به لزوال تلك العلة وبقي متلوا ثابتا في المصحف نحو قوله وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ الآية وقوله تعالى : وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا وقوله : فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا أمروا بذلك كله وفرض عليهم بسبب المهادنة التي كانت بين النبي - عليه الصلاة والسلام- وبين قريش في سنة ست في غزاة الحديبية إذ صدوه عن البيت فلما ذهبت المهادنة وزال وقتها سقط العمل بذلك كله وبقي اللفظ متلوا وثابتا في المصحف الرابع : ما رفع الله رسمه وحكمه وزال حفظه من القلوب . وهذا النوع إنما يؤخذ بأخبار الآحاد وذلك نحو ما روى عاصم ابن بهدلة المقري - وكان ثقة مأمونا- عن زر أنه قال : قال لي أبي : يا زر إن كانت سورة الأحزاب لتعدل سورة البقرة . ومنه ما روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال : نزلت سورة نحو سورة براءة ثم رفعت وذكر أنه حُفظ منها شيء . يقول مكي : أضربت أنا عن ذكره؛ لأن القرآن لا يؤخذ بالأخبار وقد ذكر من نحو هذا أشياء كثيرة اخترت أنا الإضراب عن نصها إشفاقا والله أعلم بذلك كله .
الخامس : ما رفع الله -جل ذكره- رسمه من كتابه فلا يتلى وأزال حكمه ولم يرفع حفظه من القلوب ومنع الإجماع من تلاوته على أنه قرآن . وهذا أيضا إنما يؤخذ من طريق الأخبار نحو ما ذكرنا من حديث عائشة رضي الله عنها في العشر الرضعات والخمس فالأمة مجمعة على أن حكم العشر غير لازم ولا معمول به عند أحد . وإنما وقع الاختلاف في التحريم برضعة على نص القرآن في قوله : وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ أو بخمس رضعات على قول عائشة أنها نسخت العشر وكانت مما يتلى وقد ذكرنا هذا .
السادس : ما حصل من مفهوم الخطاب فنسخ بقرآن متلو وبقي المفهوم ذلك منه متلوا نحو قوله لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى فهم من هذا الخطاب أن السكر في غير وقت الصلاة جائز فنسخ ذلك المفهوم قوله فَاجْتَنِبُوهُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فحرم الخمر والسكر مثل الخمر وبقي المفهوم ذلك منه متلوا قد نسخ أيضا بما نسخ ما فهم منه فيكون فيه نسخان : نسخ حكم ظاهر متلو ونسخ حكم ما فهم من متلوه . وكما قسم مكي رحمه الله النسخ باعتبار المنسوخ فقد قسمه أيضا من حيث الناسخ إلى ثلاثة أقسام هي :
الأول : أن يكون الناسخ فرضا نسخ ما كان فرضا ولا يجوز فعل المنسوخ نحو قوله تعالى وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فرض الله فيها حبس الزانية حتى تموت أو يجعل الله لها سبيلا ثم جعل السبيل بالحدود في سورة النور بقوله فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ فكان الأول فرضا فنسخه فرض آخر ولا يجوز فعل الأول المنسوخ وكلاهما متلو مدني .
الثاني : أن يكون الناسخ فرضا ونحن مخيرون في فعل الأول وتركه وكلاهما متلو وذلك نحو قوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا ففرض الله على الواحد المؤمن ألا ينهزم لعشرة من المشركين ثم نسخ ذلك بقوله الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ ففرض على الواحد المؤمن ألا ينهزم لاثنين من المشركين فنسخ فرض فرضا وكلاهما متلو ولو وقف الواحد لعشرة من المشركين فأكثر لجاز فنحن مخيرون في فعل المنسوخ وتركه .
الثالث : أن يكون الناسخ أمر بترك العمل بالمنسوخ الذي كان فرضا من غير بدل ونحن مخيرون في فعل المنسوخ وتركه وفعله أفضل وذلك كنسخ الله-جل ذكره- قيام الليل وقد كان فرضا فنسخه بالأمر بالترك تخفيفا ورفقا بعباده ونحن مخيرون في قيام الليل وتركه وفعله أفضل وأشرف وأعظم أجرا . ثم ذكر مكي أن قوما قد زادوا في أقسام الناسخ قسما رابعا وهو أن يكون الناسخ فرضا نسخ ما كان ندبا غير فرض كالقتال كان ندبا ثم صار فرضا
آراء العلماء في أنواع النسخ
أما نسخ التلاوة والحكم معا فمما اتفق عليه سائر مجيزي النسخ . وأما نسخ الحكم وبقاء التلاوة فهو رأي الجمهور ومنعه بعض المعتزلة لعدم إدراكهم الحكمة في ذلك . وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فهو رأي الجمهور أيضا مع خلاف بعض المعتزلة . كما خالف رأي الجمهور أيضا في هذا النوع الشيخ محمد الخضري في كتابه ( الأصول ) حيث يقول : أنا لا أفهم معنى آية أنزلها الله لتفيد حكما ثم يرفعها مع بقاء حكمها فما هي المصلحة في رفع آية مع بقاء حكمها؟ إن ذلك غير مفهوم . وفي رأيي ليس هناك ما يلجئني إلى القول به ثم قال (وحجة الجمهور أخبار آحاد لا يقوم برهانا على ذلك) وقد رد صاحب كتاب ( دراسات في الإحكام والنسخ في القرآن الكريم ) الشيخ محمد حمزة على استشكال الخضري بعد إيراده له بقوله : حجة الجمهور أحاديث صحيحة مشهورة لا يبعد أن يدعى تواترها . كما قال شارح مسلم الثبوت وهي تكفي حجة في كل حكم شرعي بل إن آية الرجم ثابتة بالتواتر؛ لأن الإجماع ظاهرها وليس بعد ذلك قول لقائل؛ لأن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعلن ذلك على المنبر على مسمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخالفه أحد ، وعدم مخالفة أحد من الصحابة يعد إجماعا سكوتيا كما اختلفوا في الاحتجاج بحديث الرضعات الخمس الذي روته عائشة رضي الله عنها ومثلنا به لما نسخ حكمه وتلاوته معا حيث إنه آحاد وإذا كان كذلك فإنه لا يثبت به قرآن ناسخا أو منسوخا . وإذا لم يثبت به قرآن فهل يجوز الاحتجاج به أم لا؟ قولان . فالشافعية قالوا نعم والأحناف قالوا : لا وقال الذين يرون الاحتجاج به أنه قد عمل به من الصحابة ابن مسعود وابن الزبير رضي الله عنهما وعمل به من الأئمة الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى .
الفصل الثامن
أمثلة للنسخ وما قيل إنه نسخ وليس بنسخ
أولا : أمثلة للنسخ :
1 - قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ منسوخة قيل بآية المواريث وقيل بحديث ألا لا وصية لوارث وقيل بالإجماع حكاه ابن العربي .
2 - قوله تعالى يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ منسوخة بقوله تعالى وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً أخرجه ابن جرير عن عطاء بن ميسر .
3 - قوله تعالى وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ منسوخة بقوله بعده لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا .
4 - قوله تعالى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ منسوخة بقوله سبحانه وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ .
5 - قوله تعالى وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ
( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 265)
الآية منسوخة بآية النور الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ الآية.
6 - قوله تعالى وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ في آية المائدة منسوخة بإباحة القتال فيه .
7 - قوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ الآية منسوخة بالآية بعدها .
8 - قوله تعالى فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ منسوخة بقولة تعالى وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ الآية .
9 - قوله تعالى أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ منسوخ بقوله وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ .
10 - قوله تعالى انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا منسوخة بآيات العذر كقوله تعالى لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ الآية . وقوله لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ومنسوخة كذلك بقوله تعالى وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً .
11 - قوله تعالى لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ منسوخة بقوله سبحانه يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ الآية .
12 - قوله تعالى إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً منسوخة بقوله تعالى بعدها أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الآية .
13 - قوله تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ منسوخة بقوله فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ على رأي ابن عباس ثانيا : ما توهم أنه نسخ وليس كذلك .
هناك آيات ذكرها بعض من ألفوا في علم الناسخ والمنسوخ على سبيل التوهم منهم إذ لا يصح أن تكون منسوخة ولا علاقة لها بالنسخ يوجه من الوجوه وسنذكر فيما يلي أمثلة لما توهم أنه نسخ وليس كذلك :
1 - قوله تعالى وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وقوله سبحانه أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ونحو ذلك . قالوا : إنه منسوخ بآية الزكاة وليس كذلك بل هو باق .
أما الأولى فإنها خبر في معرض الثناء عليهم بالإنفاق وذلك يصلح أن يفسر بالزكاة وبالإنفاق على الأهل وبالإنفاق في الأمور المندوبة كالإعانة والإضافة وليس في الآية ما يدل على أنها نفقة واجبة غير الزكاة والآية الثانية يصح حملها على الزكاة وقد فسرت بذلك .
2 - قوله تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ . قيل : إنها مما نسخ بآية السيف وليس كذلك لأنه تعالى أحكم الحاكمين أبدا لا يقبل هذا الكلام النسخ وإن كان معناه الأمر بالتفويض وترك المعاقبة .
3 - قوله تعالى وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا عده بعضهم من المنسوخ بآية السيف وقد غلطه ابن الحصار بأن الآية حكاية عما أخذه على بني إسرائيل من الميثاق فهو خبر لا نسخ فيه .
4 - قوله تعالى إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا الآية . وكذلك قوله تعالى وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا الآية وكذلك قوله تعالى فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وهذه الآيات ليس فيها نسخ وليست من بابه وإنما هي من قبيل التخصيص باستثناء أو غاية . وقد أخطأ من أدخلها في المنسوخ .
5 - وكذلك قوله تعالى وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ . قيل : إنه نسخ بقوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ . وليس كذلك وإنما هو مخصوص به .
( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 268)
6 - قوله تعالى فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ . الآية . توهم قوم أن هذا منسوخ بقوله تعالى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ . وليس الأمر كذلك وإنما هو على أحد وجهين :
الأول : أن يكون تحريم وطء الحائض نزل قبل إباحة الوطء ليلة الصيام فنزل ذلك وقد استقر في أنفسهم تحريم وطء الحائض فصارت المباشرة المباحة مخصوصة ليل الصوم في غير الحائض من زوجة وأمة .
الثاني : أن يكون تحريم وطء الحائض نزل بعد هذه الآية فتكون مبينة لها ومخصصة أنها في غير ذوات الحيض فلا يجب أن يدخل هذا في الناسخ والمنسوخ وممن وهم في هذا الباب ابن خزيمة في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) فقد اشتبه عليه التخصيص بالنسخ فعد كثيرا منه نسخا كاعتباره آية إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْـزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ . الآية منسوخة بالاستثناء كلها؛ لأن الله تعالى حرم جميع ذلك ثم أباحها للمضطر بقوله فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وهذا تخصيص لا نسخ كما عد الاستثناء في مواضع كثيرة نسخا أيضا مثل ما جاء في قوله تعالى : أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (159) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا وهو كسابقه من قبيل التخصيص لا النسخ وقد عقد ابن خزيمة بابا خاصا في كتابه المومى إليه لذكر المنسوخ بالاستثناء فحصر الآيات من هذا القبيل بثلاث وعشرين آية .
كما عقد بابين في كتابه المذكور أحدهما لذكر الآيات المنسوخة بآية السيف وهي قوله تعالى فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فعد في هذا مائة وثلاثا وعشرين آية لا تصح دعوى النسخ في واحدة منها .
قال الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير : وأكثر المفسرين يقولون إن كل ما في القرآن من قوله فَأَعْرِضْ منسوخ بآية القتال . وهو باطل؛ لأن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ بها ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم في الأول كان مأمورا بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أمر بإزالة شبههم والجواب عنها فقيل له وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ثم لما لم ينفع ذلك فيهم قيل له أعرض عنهم ولا تقابلهم بالدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به وقاتلهم . والإعراض عن المناظرة شرط لجواز المقاتلة فكيف يكون منسوخا بها . والباب الثاني الذي عقده ابن خزيمة في كتابه هو باب ما نسخ من القرآن بآية القتال وذكر فيه تسع آيات لا تصح دعوى النسخ في أي منها كذلك .
ولعل من المناسب بعد أن ذكرنا بعض الأمثلة لما توهم أنه نسخ وليس بنسخ أن نشير بإيجاز إلى أبرز أسباب توهم النسخ فيما توهموه فيه فنقول :
أولا : اشتباه التخصيص بالنسخ عليهم وقد تقدم مثاله .
ثانيا : ظنهم أن ما شرع لسبب ثم زال لزوال سببه من المنسوخ فعدوا الآيات التي وردت في الحث والصبر وتحمل أذى الكفار أيام ضعف المسلمين منسوخة بآيات القتال وليس الأمر كذلك تحقيقا .
ثالثا : اعتبروا كل قيد لآية من قبيل النسخ كقوله تعالى وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ . فعده ابن خزيمة وغيره ناسخا لعموم المشركين في قوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ مع أنه تخصيص بالقيد .
رابعا : إدخال كثير من الآيات الخبرية في باب المنسوخ مع أنه لا يجوز نسخ الخبر إلا إذا تضمن حكما شرعيا أما إذا كان خبرا محضا فلا ، كما تقدم في موضعه من هذا البحث ومثاله ما قدمناه من اعتبارهم قوله تعالى وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ و أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ منسوخا بآية الزكاة وليس كذلك ومثله أيضا قوله تعالى وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ حيث عدها هبة الدين بن سلامة منسوخة بقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وليس كذلك إذ هما خبران محضان لا يجري النسخ فيهما .
خامسا : اشتباه البيان بالنسخ عليهم كقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا حيث عدها هبة الله بن سلامة منسوخة بقوله تعالى وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ الآية . ثم اعتبر هذه أيضا منسوخة بقوله : وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ حيث قال : فصارت هذه ناسخة لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا الآية . وليس هذا بنسخ وإنما هو بيان لما ليس بظلم ، وببيان ما ليس بظلم يتبين الظلم .
سادسا : توهم وجود تعارض بين نصين ولا تعارض بينهما في الحقيقة كتوهم التعارض بين آية الزكاة وآيات الصدقات الواردة في القرآن الكريم مما حدا بابن سلامة في الناسخ والمنسوخ وابن الجوزي في نواسخه أن يقولا : قال أبو جعفر يزيد بن القعقاع : ( نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن فصارت آية الزكاة ناسخة لكل صدقة ) . مع أنه لا يوجد في الواقع تعارض ولا تناف بين هذه وتلك حيث يصح حمل الإنفاق في آيات الصدقات على ما يشمل الزكاة وصدقة التطوع ونفقة الأهل والأقربين ونحو ذلك وتكون آيات الزكاة من قبيل ذكر فرد من أفراد العام بحكم العام وهذا لا يخصص العام ولا ينسخه وذلك لعدم وجود تعارض حقيقي لا بالنسبة إلى كل فرد من أفراد العام حتى يكون ناسخا ولا بالنسبة إلى بعضها حتى يكون مخصصا .
هذه أبرز أسباب توهم من توهم ما ليس بنسخ نسخا وإلا فإن هناك أسبابا أخرى لا يتسع المجال لذكرها .
خاتمة البحث
وهكذا يتبين لنا بعد التجوال في ميدان هذا العلم من علوم القرآن الكريم أعني ( الناسخ والمنسوخ ) أنه علم من آكد العلوم وأوجبها تعلما وحفظا وبحثا وفهما وخاصة لمن أراد أن يخوض غمار تفسير كتاب الله تعالى وأن يغوص في لجته لاستخراج الدرر الثمينة والجواهر النفيسة . بل إنه علم لا يسع كل من تعلق بأدنى علم من علوم الديانة جهله كما قال ذلك مكي بن أبي طالب القيسي رحمه الله تعالى .
وإن مما يدل على عظم شأن هذا العلم وجليل خطره أن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه عداه شرطا لكون الإنسان عالما . وأن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة اعتبره شرطا للإفتاء بل قال : إنه لا يحل لأحد أن يفتي حتى يعرفه .
وتبين لنا من خلال بحثنا أن النسخ في اللغة معناه الإزالة والتغيير تقول ( نسخت الشمس الظل ) أي أزالته ( ونسخت الريح آثار الدار ) أي غيرتها كما يأتي بمعنى النقل كقولك ( نسخت الكتاب ) إذا نقلت ما فيه . وهو بهذا دائر في ثلاثة أوجه هي : النقل ، والإزالة مع حلول المزيل محل المزال ، والإزالة مع عدم حلول المزيل محل المزال فكأنه بمعنى المحو .
وأنه في الاصطلاح ( رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ) كما هو عند جمهور المحققين .
وهنالك تعريفات اصطلاحية أخرى للنسخ أثبتناها في موضعها لا تخرج في جملتها عن مضمون هذا التعريف .
كما بينا في ثنايا هذا البحث الفرق بين النسخ والتخصيص وقلنا : إن هنالك فروقا سبعة بينهما ذكرناها في موضوعها بالتفصيل مع أمثلتها التي توضحها .
ثم عرجنا على ما يتعلق بشروط النسخ فبينا في الفصل الثالث أن شروط النسخ نوعان : نوع متفق عليه . ونوع مختلف فيه وذكرنا أربعة من الشروط المتفق عليها وسبعة من الشروط المختلف فيها وذكرنا أن صاحب ( نظرية النسخ في الشرائع السماوية ) قد نقل عن الآمدي في ( الأحكام ) والزرقاني في ( مناهل العرفان ) أن الراجح كونه لا داعي لهذه الشروط السبعة المختلف فيها .
ونقلنا عن كل من مكي بن أبي طالب وعبد القاهر بن طاهر البغدادي عددا من الشروط التي يشترطانها لتحقيق النسخ .
ثم انتقلنا إلى استعراض آراء العلماء أفرادا وطوائف في حكم النسخ مع مناقشة تلك الآراء وتفنيد ما تستدعي الحال تفنيده منها وبيان وجه الحق في ذلك مستعرضين أدلة وحجج المجيزين والمانعين له على السواء وقد رأينا أن أدلة المجيزين له هي الأظهر وأن حجتهم هي الأبلغ والأقوى لانطلاقها من كون الله تعالى هو الفعال لما يريد يأمر عباده بما شاء وينهاهم عما يشاء يبقي من أحكامه على ما يشاء وينسخ منها ما يشاء بناء على اختياره ومشيئته وكبريائه وعظمته سبحانه إذ لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا ملزم يلزمه جل وعلا .
وقلنا : إن مذهب هؤلاء المنكرين للنسخ هو أخطر المذاهب وأشنعها في هذا الباب وأبعدها عن الحق وأكثرها مجانبة للصواب وولوغا في الباطل .
واتضح لنا أن هنالك إجماعا على جواز النسخ عقلا ووقوعه سمعا لم يخرج عليه سوى من لا يعتد به كالشمعونية إحدى فرق اليهود الثلاث وبعض نصارى هذا الزمان وأبي مسلم الأصفهاني ومن شايعه الذي يرى أن النسخ جائز عقلا ممتنع سمعا في حين يرى بعض النصارى المعاصرين وكذلك الشمعونيون من اليهود استحالة النسخ وامتناعه عقلا وسمعا .
ورأينا كيف يثير المانعون شبها كثيرة تولى العلماء المختصون رحمهم الله ردها وتفنيدها وإبطالها بكل جلد وقوة وعلم .
أما في الفصل الخامس فقد قمنا بتفسير تحليلي للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم معتمدين في ذلك على النقل عن بعض التفاسير المعتمدة والمعتبرة مشيرين إلى الاختلاف الواقع في قراءة الآية إن وجد موضحين دلالة كل آية منها على النسخ مشيرين إلى الأوجه اللغوية وما حكاه أئمة اللغة وأئمة التفسير معا في إيضاح وبيان معاني تلك الآيات بتفصيل واف لكافة وجوهها وناقشنا بعد ذلك ما يقع فيه النسخ في القرآن الكريم فخلصنا إلى أنه لا يقع إلا في الأوامر والنواهي والأحكام والفرائض والحدود والعقوبات من أحكام الدنيا وهو قول عامة العلماء والذي عليه العمل عند فقهاء الأمصار . وأما الأخبار المحضة وما قص الله علينا من أخبار الجنة والنار والحساب والعقاب والبعث والحشر ونحو ذلك من الأخبار فلا يجوز نسخه ؛ لأن الله سبحانه يتعالى أن يخبر عن الشيء على غير ما هو به .
وقد أطلنا في بيان عدم وقوع النسخ في الأخبار المحضة وذكرنا آراء من شذ عن الإجماع فأجاز النسخ في الأخبار سواء من قيد ذلك بما إذا كان مدلول الخبر مما يتغير كالرازي والآمدي . أو من لم يقيد ذلك بشيء بل أجاز وقوعه فيها مطلقا كأبي الحسين البصري .
وفي الفصل السابع من هذا المبحث تناولنا أنواع النسخ في القرآن وتقرر أنها ثلاثة هي :
ما - نسخ تلاوة وبقي حكما .
ما - نسخ تلاوة وحكما .
ما - نسخ حكما وبقي تلاوة .
كما استعرضنا تقسيما للنسخ باعتبار آخر هو اعتبار المنسوخ فرأينا أن مكي بن أبي طالب قد عد بهذا الاعتبار ستة أقسام .
وكذلك قسم رحمه الله النسخ باعتبار الناسخ إلى ثلاثة أقسام :
وختمنا هذا الفصل ببيان أراء العلماء في أنواع النسخ حيث اتفق سائر مجيزي النسخ على نسخ التلاوة والحكم معا بينما منع بعض المعتزلة نسخ الحكم وبقاء التلاوة وهو النوع الذي يراه الجمهور وكذلك يرى الجمهور أيضا نسخ التلاوة مع بقاء الحكم في الوقت الذي نجد الشيخ محمد الخضري في كتابه ( الأصول ) يخالف رأي الجمهور في ذلك قائلا : ( إن ذلك غير مفهوم وفي رأيي ليس هناك ما يلجئني إلى القول به ) ورد حجة الجمهور في إثبات ذلك النوع بأنها أخبار آحاد لا تقوم برهانا على ذلك .
وقد نقلنا رد الشيخ محمد حمزة في كتابه ( دراسات في الإحكام والنسخ ) على ما أورده الشيخ الخضري .
وأخيرا ختمنا هذا البحث بإيراد أمثلة للنسخ في كتاب الله تعالى وكذلك لما توهم أنه نسخ وليس بنسخ فذكرنا للنسخ ثلاثة عشر مثالا ولما توهموه نسخا وليس كذلك ستة أمثلة .
وأشرنا إلى أن ابن خزيمة ممن وهم في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) فأورد شيئا كثيرا مما عده نسخا وليس به لاشتباه التخصيص والاستثناء لديه بالنسخ .
وأنهينا الفصل الثامن والأخير الذي اشتمل على الأمثلة للنسخ الصحيح والنسخ المتوهم بذكر أبرز أسباب توهم النسخ وقد عددنا منها ستة أسباب رئيسة وأشرنا إلى أن الحيز يضيق عن استقصاء جميع أسباب ذلك التوهم .
والخلاصة أن علم الناسخ والمنسوخ أحد علوم القرآن الكريم التي ينبغي العناية بها وأنه غير التخصيص وأن له شروطا وأنواعا وأن الناس قد اختلفوا حوله بين مجيز ومانع وأن ما عليه جمهور العلماء المحقيقين أنه لا يقع إلا في
( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 276)
الأمر والنهي لا في الخبر المحض وأن من توهم في النسخ ما ليس منه إنما توهم ذلك بسبب من أسباب عديدة بينها أهل الاختصاص . . .
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
المراجع
1 - كتاب الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى لقتادة بن دعامة السدوسي تحقيق د \ حاتم صالح الضامن ، الطبعة االثانية 1406هـ الناشر مؤسسة الرسالة .
2 - الناسخ والمنسوخ من كتاب الله عز وجل لهبة الله بن سلامة بن نصر المقري تحقيق زهير الشاويش ومحمد كنعان الطبعة الثانية 1406هـ الناشر المكتب الإسلامي .
3 - الناسخ والمنسوخ للإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي تحقيق د \ حلمي كامل أسعد عبد الهادي . الطبعة الأولى سنة 1407هـ الناشر دار العدوي عمان الأردن .
1 - الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي بن أبي طالب . الطبعة الأولى سنة 1406هـ تحقيق الدكتور أحمد حسن فرحات . الناشر دار المنارة بجدة .
2 - ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه لابن البارزي . تحقيق د \ حاتم الضامن . الطبعة الثالثة 1405 هـ مؤسسة الرسالة .
3 - الموافقات للشاطبي . نشر المكتبة التجارية الكبرى بمصر .
4 - البرهان في علوم القرآن للزركشي . الطبعة الثالثة . نشر وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد .
5 - الإتقان في علوم القرآن للسيوطي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم . الطبعة الثالثة 1405 هـ . نشر وتوزيع دار التراث بالقاهرة .
6 - مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني . الطبعة الثالثة مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه .
10 - مباحث العرفان في علوم القرآن للشيخ مناع القطان . الطبعة التاسعة عشرة 1406 هـ مؤسسة الرسالة .
11 - نظرية النسخ في الشرائع السماوية لشعبان إسماعيل . مطابع الدجوي القاهرة . عابدين .
12 - دراسات في الإحكام والنسخ لمحمد حمزة . الطبعة الأولى . نشر دار قتيبة .
13 - تفسير ابن الجوزي ( زاد المسير ) الطبعة الثالثة 1404هـ . المكتب الإسلامي .
14 - تفسير القرآن العظيم لابن كثير نشر دار المعرفة . بيروت . لبنان سنة 1401هـ .
15 - تفسير أبي السعود . الناشر مكتبة الرياض الحديثة سنة 1401هـ نشر وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد .
16 - فتح القدير للشوكاني . الناشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع سنة 1401هـ .
17 - تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار لمحمد رشيد رضا . الطبعة الثانية . الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر . بيروت . لبنان .
18 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لابن سعدي . طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد . الرياض سنة 1404هـ .
19 - معجم مقاييس اللغة لابن فارس . تحقيق وضبط عبد السلام محمد هارون . الناشر دار الفكر سنة 1399هـ .
20 - الصحاح للجوهري . الطبعة الثانية 1399هـ . الناشر دار العلم للملايين بيروت .
21 - المصباح المنير للمقري الفيومي . نشر المكتبة العلمية . بيروت . لبنان .
22 - المعجم الوسيط من وضع وإعداد مجمع اللغة العربية بالقاهرة الطبعة الثانية . مطابع دار المعارف بمصر 1393 هـ . توزيع دار الباز بمكة .
23 - التقرير والتحبير على تحرير الكمال بن الهمام .
24 - شرح البدخشي على شرح الإسنوي على منهاج الأصول للبيضاوي . مطبعة محمد علي صبح بمصر .
25 - الإحكام للآمدي . الطبعة الأولى 1378هـ .
26 - الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم . تحقيق أحمد شاكر . مطبعة العاصمة بالقاهرة .
27 - المسودة لابن تيمية . مطبعة المدني بالقاهرة 1384 هـ تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد .
28 - المعتمد لأبي الحسين البصري تحقيق محمد حميد الله طبع دمشق 1384 هـ .
29 - النسخ في دراسات الأصوليين . الطبعة الأولى 1405هـ الناشر مؤسسة الرسالة .
عبد الله بن حمد بن عبد الله الشبانة .
- من مواليد مدينة المجمعة عام 1367 هـ .
- حصل على شهادة الابتدائية في الرياض عام 1379 هـ .
- تخرج من معهد الرياض العلمي عام 1384 هـ .
- تخرج من كلية اللغة العربية عام 1389هـ .
- عمل بالتدريس في المعاهد العلمية مدة ثلاث سنوات ، ثم التحق بديوان الموظفين العام ( ديوان الخدمة المدنية - حاليا - عام 1393هـ ، ثم التحق بوزارة الإعلام عام 1394هـ ، ثم التحق للعمل في مجال الدعوة بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، مديرا لمركز الدعوة والإرشاد بظفار في المنطقة الجنوبية لسلطنة عمان عام 1399هـ ثم مديرا لمركز الدعوة والإرشاد بالفجيرة بدولة الإمارات العربية المتحدة عام 1401هـ ، ثم رشح مديرا عاما للرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عام 1403هـ ، ثم عين أمينا عاما مساعدا لهيئة كبار العلماء عام 1406هـ وهو عمله الحالي .
له من المؤلفات :
1- كتاب : موجز القول .
2- كتاب : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء .
3- كتاب : خطرات ونظرات .
4- كتاب : المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية .
5- الزفرات الحرى " ديوان شعر " .
6- تحية للوطن " ديوان شعر " .
كما أن له بعض البحوث والمقالات المنشورة في الصحف والمجلات المحلية والإسلامية .
النسخ في القرآن الكريم
إعداد : الشيخ عبد الله بن حمد بن عبد الله الشبانة
الأمين العام المساعد لهيئة كبار العلماء
(مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد التاسع والعشرون - الإصدار : من ذو القعدة إلى صفر لسنة 1410هـ 1411هــ)
مقدمة
الحمد لله الملك الحق المبين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد : فإن خير الكلام كلام الله جل جلاله ، وأحسن الحديث حديثه عز وجل ، فلا غرو إذًا أن يكون الاشتغال به تَعَلُّما وتعليما ودراسة وتَفَهُّما أشرف ما عمرت به الأوقات ، وأعظم ما اشتغل به الأفراد والجماعات ؛ ذلك أنه الدليل إلى كل خير ، والعاصم من كل شر ؛ لأنه حبل الله المتين الذي من تمسك به نجا وسعد في الدارين ، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكا ، ويحشر يوم القيامة أعمى ، فيكون نصيبه والعياذ بالله خسارة الحال وخسارة المآل . وقد اشتغل بكتاب الله الكريم وتفسيره وسائر علومه نفر غير قليل من العلماء قديما وحديثا فألَّفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة ، وكتبوا البحوث المستفيضة في تفسير كلام الله تبارك وتعالى ، وإيضاح مبهمه وتفصيل مجمله ، وشرح ألفاظه وبيان معانيه ، واستنباط الأحكام من آياته وبيان ناسخه ومنسوخه ومكيه ومدنيه ، وغير ذلك مما يندرج تحت ما يسمى بعلوم القرآن الكريم .
وقد عدَّ الدكتور حاتم صالح الضامن محقق كتاب ( الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى ) لقتادة بن دعامة السدوسي واحدا وسبعين مؤلَّفا في هذا الباب مما يدل على عظم شأن هذا العلم من علوم كتاب الله العزيز ، وأنه مدخل من أهم مداخل تفسيره ، والبحث في لجته والغوص في أعماقه .
يدل على ذلك ما ذكره العلماء اتفاقا من أن معرفة هذا العلم واجبة على كل من تصدى لتفسير القرآن الكريم ، أو استنباط الأحكام منه ، أو تصدى للإفتاء أو للقضاء بين الناس ؛ لئلا يوجب على خلق الله ما لم يوجبه الله عليهم ، أو يسقط عنهم أمرا أوجبه عليهم . فقد روى ابن عبد البر بسنده عن يحيى بن أكثم قال : ( ليس من العلوم كلها علم هو واجب على العلماء وعلى المتعلمين وعلى كافة المسلمين من علم ناسخ القرآن ومنسوخه ؛ لأن الأخذ بناسخه واجب فرضا ، والعمل به واجب ديانة ، والمنسوخ لا يعمل به ولا ينتهى إليه ، فالواجب على كل عالم علم ذلك ؛ لئلا يوجب على نفسه وعلى عباد الله أمرا لم يوجبه الله ، أو يضع عنهم فرضا أوجبه الله ) اهـ .
وقال الإمام العلامة مكي بن أبي طالب القيسي في كتابه ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) ص 45 ( نشر دار المنارة ) : ( وإن من آكد ما عني أهل العلم والقرآن بفهمه وحفظه والنظر فيه من علوم القرآن ، وسارعوا إلى البحث عن فهمه وعلمه وأصوله علم ناسخ القرآن ومنسوخه ، فهو علم لا يسع كل من تعلق بأدنى علم من علوم الديانة جهله ) . اهـ .
وقد قال علي رضي الله عنه : ( لا يفتي الناس إلا من عرف الناسخ والمنسوخ ) . وروي عنه رضي الله عنه أنه دخل المسجد فرأى رجلا يُذكّر الناس فقال له : أتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا . قال : فاخرج من مسجدنا ولا تُذكّر فيه . وفي لفظ آخر أنه قال له : من أنت ؟ قال : أنا أبو يحيى قال : بل أنت أبو اعرفوني وجاء عنه في خبر آخر أنه رضي الله عنه مر بقاضٍ فقال له : أتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالحكمة في قوله تعالى : يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ هو معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره ونحو ذلك وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي ( ابن راهويه ) رحمه الله : ( من لم يعرف الصحيح والسقيم من الحديث والناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة لم يكن عالما ) وقال أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله فيمن يتصدر لمهمة الإفتاء : ( لا يحل له أن يفتي حتى يعرف أحكام الكتاب والسنة والناسخ والمنسوخ وأقاويل الصحابة والمتشابه ووجوه الكلام ) .
فمن ذلك تظهر لنا قيمة هذا العلم وأهميته البالغة لعموم المسلمين ، ولمن تصدى منهم لتفسير كتاب الله أو للقضاء ، أو لفتيا على وجه الخصوص ؛ إذ حاجة هؤلاء إليه أمس ، وضرورة إحاطتهم به أشد .
وسأحاول في هذه العجالة المتمثلة في هذا البحث المتواضع عن ( النسخ في القرآن الكريم ) أن ألم بكامل الموضوع إلمامة عجلى ، فأوضح معنى النسخ في اللغة وفي الاصطلاح ، ثم أذكر الفرق بينه وبين التخصيص . ثم أشير إلى شروط النسخ التي ذكرها العلماء ، ثم أعرج على بيان آراء العلماء في حكم النسخ ووقوعه أصلا من عدمه ، مع مناقشتها وترجيح ما يترجح لدي منهما . بعد ذلك سأورد تفسيرا تحليليا للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم . ثم أبين ما يقع فيه النسخ في القرآن ، ثم أتحدث عن أنواع النسخ في القرآن الكريم ، مختتما ذلك بإيراد أمثلة للنسخ في القرآن ، وأمثلة لما قيل أنه نسخ وليس كذلك ، جاعلا الحديث عن كل قسم من ذلك في فصل مستقل إيضاحا له ، وتركيزا عليه ، وفي نهاية البحث سأورد خاتمة له تتضمن نتائج البحث وخلاصة له .
وأرجو من الله سبحانه العون وأستمد التوفيق . وهو المسئول سبحانه أن يعلمنا ما ينفعنا ، وأن ينفعنا بما علمنا ، وأن يزيدنا من لدنه علما .
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الفصل الأول
النسخ لغة واصطلاحا
قال الجوهري في الصحاح : نسخت الشمس الظل وانتسخته : أزالته ونسخت الريح آثار الدار : غيرتها ونسختُ الكتاب وانتسختُه واستنسختُه كله بمعنى . والنسخة بالضم : اسم المنتسخ منه ، ونسخ الآية بالآية إزالة مثل حكمها ، فالثانية ناسخة والأولى منسوخة ، والتناسخ في الميراث : أن يموت ورثة بعد ورثة ، وأصل الميراث قائم لم يقسم اهـ .
وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة : النون والسين والخاء أصل واحد إلا أنه مختلف في قياسه . قال قوم : قياسه رفع شيء وإثبات غيره مكانه وقال آخرون : قياسه تحويل شيء إلى شيء : قالوا : النسخ : نسخ الكتاب والنسخ : أمر كان يعمل به من قبل ثم ينسخ بحادث غيره كالآية ينزل فيها أمر ثم تنسخ بآية أخرى . وكل شيء خلف شيئا فقد انتسخه وانتسخت الشمس الظل والشيب الشباب . وتناسخ الورثة : أن يموت ورثة بعد ورثة وأصل الإرث قائم لم يقسم ، ومنه تناسخ الأزمنة والقرون .
قال السجستاني : النسخ : أن تحول ما في الخلية من العسل والنحل في أخرى قال ومنه نسخ الكتاب اهـ .
وجاء في المعجم الوسيط الذي وضعه مجمع اللغة العربية بالقاهرة في مادة نسخ : نسخ الشيء نسخا أزاله يقال : نسخت الريح آثار الديار ونسخت الشمس الظل ونسخ الشيب الشباب . ويقال : نسخ الله الآية : أزال حكمها وفي التنزيل العزيز مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ويقال : نسخ الحاكم الحكم أو القانون : أبطله . والكتاب : نقله وكتبه حرفا بحرف .
انتسخ الشيء : نسخه والكتاب نسخه وتناسخ الشيئان : نسخ أحدهما الآخر يقال : أبلاه تناسخ الملوين . وتناسخت الأشياء : تداولت فكان بعضها مكان بعض . . . إلى آخر ما قال في ذلك مما لا يعنينا إيراده هنا .
وجاء في المصباح المنير للمقري الفيومي في مادة نسخ . قوله : نسخت الكتاب نسخا من باب نفع : نقلته ، وانتسخته كذلك ، ثم نقل عن ابن فارس قوله المتقدم : إن كل شيء خلف شيئا فقد انتسخه . إلى أن قال المقري : و( النسخ ) الشرعي إزالة ما كان ثابتا بنص شرعي ، ويكون في اللفظ والحكم وفي أحدهما ، سواء فُعل كما في أكثر الأحكام أو لم يُفعل كنسخ ذبح إسماعيل بالفداء ؛ لأن الخليل عليه السلام أمر بذبحه ثم ( نسخ ) قبل وقوع الفعل . إلى آخر ما أورده مما مر ذكره فيما قدمنا .
وعلى هذا فيكون معنى النسخ في اللغة دائرا حول ثلاثة أوجه :
أولها : أن يكون بمعنى النقل ( نسخت الكتاب ) أي نقلت ما فيه إلى كتاب آخر فهذا لم يغير المنسوخ منه وإنما صار نظيرا له أي نسخة ثانية منه ، وهو بهذا المعنى لا يدخل في النسخ الذي هو موضوع بحثنا .
وثانيها : أن يكون بمعنى الإزالة وحلول المزيل محل المزال كقولهم ( نسخت الشمس الظل ) إذا أزالته وحلت محله ، وهذا المعنى هو الذي يدخل في موضوع ناسخ القرآن ومنسوخه الذي هو مدار بحثنا .
وثالثها : أن يكون بمعنى الإزالة مع عدم حلول المزيل محل المزال فكأنه بمعنى المحو كقولهم ( نسخت الريح الآثار ) إذا أزالتها فلم يبق منها عوض ولا حلت الريح محل الآثار فهذا هو معنى النسخ في اللغة وأما في الاصطلاح فإن معناه ( رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ) ، فالحكم المرفوع يسمى ( المنسوخ ) والدليل الرافع له يسمى ( الناسخ ) ، ويسمى الرفع ( النسخ ) ، فالنسخ إذا يقتضي ( منسوخا ) وهو الحكم الذي كان مقررا سابقا وهو الدليل اللاحق .
وعرف الإمام العلامة مكي بن أبي طالب النسخ في الاصطلاح بأنه ( إزالة حكم المنسوخ كله بغير حرف متوسط ببدل حكم آخر أو بغير بدل في وقت معين فهو بيان الأزمان التي انتهى إليها العمل بالفرض الأول ، ومنها ابتدأ الفرض الثاني الناسخ للأول ) وعرفه العلامة عبد القاهر البغدادي بقوله ( وقال أصحابنا : إن النسخ بيان انتهاء مدة التعبد ) وعرفه ابن حزم في الإحكام بأنه بيان انتهاء
( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 213)
زمان الأمر الأول فيما لا يتكرر . وهو قريب من تعريف البغدادي . وإليه ذهب الجصاص وأبو إسحاق الإسفرائيني وغيرهم وتابعهم القرافي حيث عرفوه بأنه ( بيان لانتهاء مدة الحكم ) زاد الجصاص ( والتلاوة ) وهناك تعريفات أخرى كثيرة غير ما أوردنا تقترب مما أوردناه حينا وتبتعد عنه أحيانا ، ولا نرى المجال يتسع لسردها جميعا وفيما ذكرناه غنية وكفاية
الفصل الثاني
الفرق بين النسخ والتخصيص
سبق أن عرفنا النسخ في الاصطلاح بأنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي في حين أنهم يعرفون التخصيص بأنه ( قصر العام على بعض أفراده ) أو أنه ( إزالة بعض الحكم بغير حرف متوسط فهو بيان الأعيان ) وأنه إنما يجوز على قول من أجاز تأخير البيان ، وهو أن يأتي لفظ ظاهره العموم لما وقع تحته ، ثم يأتي لفظ نص آخر أو دليل أو قرينة أو إجماع يدل على أن ذلك اللفظ الذي ظاهره عام ليس بعام ، والتخصيص إنما هو بيان اللفظ الأول أنه ليس بعام في كل ما تضمنه ظاهر اللفظ ، فهو بيان الأعيان ، فهذا هو الأصل الذي يعتمد عليه في الفرق بين النسخ والتخصيص . فالنسخ بيان الأزمان التي انتهى إليها العمل بالفرض الأول ، وابتدأ منها الفرض الثاني ، والتخصيص بيان الأعيان الذين عمهم اللفظ أن بعضهم غير داخل تحت ذلك اللفظ ، فالنسخ لا يكون إلا منفصلا من المنسوخ ، والتخصيص يكون منفصلا ومتصلا بالمخصص وقد ذكر العلماء عددا من الفروق بين النسخ والتخصيص يجعلها بعضهم خمسة ويوصلها آخرون إلى سبعة فروق نجملها فيما يلي :
الأول : إن العام بعد تخصيصه خاص ، لأن مدلوله وقتئذ بعض أفراده مع أن لفظه موضوع للكل والقرينة هي المخصص ، وكل ما كان كذلك فهو خاص . أما النص المنسوخ فما زال كما كان مستعملا فيما وضع له ، غايته أن الناسخ دل على أن إرادة الله تعلقت أزلا باستمرار هذا الحكم إلى وقت معين ، وإن كان النص المنسوخ متناولا جميع الأزمان ، ويظهر ذلك جليا فيما إذا قال الشارع مثلا : افعلوا كذا أبدا ، ثم نسخه بعد زمن قصير ، فإنه لا يعقل أن يكون مدلوله ذلك الزمن القصير دون غيره ، بل هو ما زال كما كان مستعملا في جميع الأزمان نصا بديل قوله ( أبدا ) غير أن العمل بهذا النص الشامل لجميع الأزمان لفظا قد أبطله الناسخ ؛ لأن استمرار العمل بالنص مشروط بعدم ورود ناسخ ينسخه أيا كان ذلك النص وأيا كان ناسخه . فإن سأل سائل ما حكمة تأبيد النص لفظا بينما هو مؤقت في علم الله أزلا ؟ أجبناه بأن حكمته ابتلاء الله لعباده أيخضعون لحكمه مع تأبيده عليهم هذا التأبيد الظاهري أم لا ؟ فإذا ماز الله الخبيث من الطيب والمطمئن لحكمه من المتمرد عليه ، جاء النسخ لحكمة أخرى من التخفيف ونحوه .
الثاني : إن حكم ما خرج بالتخصيص لم يك مرادا من العام أصلا ، بخلاف ما خرج بالنسخ ، فإنه كان مرادا من المنسوخ لفظا .
الثالث : إن التخصيص لا يتأتى أن يأتي على الأمر لمأمور واحد ، ولا على النهي لمنهي واحد ، أما النسخ فيمكن أن يعرض لهذا كما يعرض لغيره ، ومن ذلك نسخ بعض الأحكام الخاصة به صلى الله عليه وسلم .
الرابع : إن النسخ يبطل حجية المنسوخ ، إذا كان رافعا للحكم بالنسبة إلى جميع أفراد العام ، ويبقى على شيء من حجيته إذا كان رافعا للحكم عن بعض أفراد العام دون بعض ، أما التخصيص فلا يبطل حجية العام أبدا ، بل العمل به قائم فيما بقي من أفراده بعد تخصيصه .
الخامس : إن النسخ لا يكون إلا بالكتاب والسنة بخلاف التخصيص ، فإنه يكون بهما وبغيرهما كدليل الحس والعقل فقول الله سبحانه : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا قد خصصه قوله صلى الله عليه وسلم لا قطع إلا في ربع دينار . وهذا قوله سبحانه : تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا قد خصصه ما شهد به الحس من سلامة السماء والأرض وعدم تدمير الريح لهما .
السادس : إن النسخ لا يكون إلا بدليل متراخ عن المنسوخ أما التخصيص فيكون بالسابق واللاحق والمقارن ، وقال قوم : لا يكون التخصيص إلا بمقارن فلو تأخر عن وقت العمل بالعام كان هذا المخصص ناسخا للعام بالنسبة لما تعارضا فيه ، كما إذا قال الشارع : ( اقتلوا المشركين ) وبعد وقت العمل به قال : ( ولا تقتلوا أهل الذمة ) ، ووجهة نظر هؤلاء أن المقصود بالمخصص بيان المراد بالعام ، فلو تأخر وقت العمل به لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وذلك لا يجوز ، فلم يبق إلا اعتباره ناسخا .
السابع : إن النسخ لا يقع في الأخبار بخلاف التخصيص فإنه يكون في الأخبار وفي غيرها .
وقد نقل الشيخ محمد حمزة في كتابه (دراسات في الإحكام والنسخ ) عن الإمام الغزالي أنه حصر الفرق بين التخصيص والنسخ في خمسة أمور . ولا نجد فيها غير ما أورده غيره من الفروق التي أجملناها آنفا إلا ما كان من قوله الخامس : إن تخصيص العام المقطوع بأصله جائز بالقياس وبخبر الواحد وسائر الأدلة ، ونسخ القاطع لا يجوز إلا بقاطع ( وقد علق الشيخ محمد حمزة على ذلك بقوله : أقول تفريق ممتاز على ما في ذلك من الخلاف ، فإن الأحناف اشترطوا المقارنة في المخصص للعام ، فإذا تراخى عنه فهو نسخ لا تخصيص ، كما تقدم ولا يجوز عند الأحناف تخصيص الكتاب بخبر الواحد ؛ لأن دلالة العام على عمومه قطعية عندهم وخبر الآحاد ظني ، أما الحديث المشهور فهو عندهم قطعي الثبوت كالمتواتر ، فيجوز تخصيص الكتاب به وتقييد مطلقه ) اهـ .
الفصل الثالث
شروط النسخ
للنسخ شروط لا بد من توافرها لكي يعتبر من قبيل النسخ لا من قبيل غيره كتخصيص العام أو تقييد المطلق أو الاستثناء . . . إلخ . وكل ما لم تتوافر فيه هذه الشروط التي سنذكرها هنا أُرجع إلى نوع من تلك الأنواع التي ذكرناها أو إلى غيرها .
وما توافرت فيه تلك الشروط اعتبر نسخا . وشروط النسخ نوعان :
أحدهما : شروط متفق عليها والنوع الثاني : شروط مختلف فيها .
فأما الشروط المتفق عليها فمنها :
1 - أن يكون المنسوخ حكما شرعيا؛ لأن الأمور العقلية التي مستندها البراءة الأصلية لم تنسخ وإنما ارتفعت بإيجاب العبادات .
2 - أن يكون النسخ بخطاب شرعي لا بموت المكلف؛ لأن الموت مزيل للحكم لا ناسخ له .
3 - ألا يكون الحكم السابق مقيدا بزمان مخصوص نحو قوله عليه الصلاة والسلام لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس .
فإن الوقت الذي يجوز فيه أداء النوافل التي لا سبب لها مؤقت ، فلا يكون نهيه عن هذه النوافل في الوقت المخصوص نسخا لما قبل ذلك من الجواز؛ لأن التوقيت يمنع النسخ .
4 - أن يكون الناسخ متراخيا عن المنسوخ .
وأما الشروط المختلف فيها فمنها :
1 - أن يكون الناسخ مثل المنسوخ في القوة أو أقوى منه لا دونه؛ لأن الضعيف لا ينسخ القوي .
2 - أن يكون ناسخ القرآن قرآنا وناسخ السنة سنة .
3 - أن يكون قد ورد الخطاب الدال على بيان انتهاء الحكم بعد التمكن من الفعل .
4 - أن يكون الناسخ مقابلا للمنسوخ مقابلة الأمر للنهي والمضيق للموسع .
5 - أن يكون الناسخ والمنسوخ نصين قاطعين .
6 - أن يكون النسخ ببدل مساو أو مما هو أخف منه .
7 - أن يكون الخطاب المنسوخ حكمه مما لا يدخله الاستثناء أو التخصيص .
وقد نقل صاحب كتاب ( نظرية النسخ في الشرائع السماوية ) عن الآمدي في الإحكام والزرقاني في مناهل العرفان أن الراجح كونه لا داعي لهذه الشروط السبعة .
وقد عد صاحب ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) من شروط الناسخ أن يكون منفصلا من المنسوخ منقطعا منه ، فإن كان متصلا به غير منقطع عنه لم يكن ناسخا لما قبله مما هو متصل به ، نحو قوله تعالى : وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فليس قوله فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ ناسخا لقوله حَتَّى يَطْهُرْنَ في قراءة من خفف يَطْهُرْنَ ؛ لأنه متصل به ، فالأول يراد به ارتفاع الدم والثاني التطهير بالماء .
كما عد من شروط المنسوخ أن يكون غير متعلق بوقت معلوم لا يعلم انتهاء وقت فرضه إلا بنص ثان يبين أن فرض الأول إلى الوقت الذي فرض فيه الثاني ولذلك قيل في قوله تعالى فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ : إنه غير منسوخ بالأمر بالقتال في (براءة) ؛ لأن الله جعل له أجلا ووقتا وهو إتيان أمره بالقتال وترك الصفح والعفو ، وإنما كان يكون منسوخا بالقتال لو قال : فاعفوا واصفحوا أمرا غير مؤقت ، كما قال : فاعف عنهم واصفح . فهذا منسوخ بالقتال وقيل : إنه منسوخ بالقتال؛ لأن الأجل غير معلوم ، ولو قال : فاعفوا واصفحوا إلى وقت كذا . وذكر الأمر لكان النسخ غير جائز فيه ، ولكنه أبهم الوقت ولم يحده ، فالنسخ فيه جائز وعلى ذلك أكثر العلماء .
ومضى صاحب الإيضاح يعدد شروطا للنسخ فقال : ومن شروط الناسخ أن يكون موجبا للعلم والعمل كالمنسوخ ومن هاهنا منع نسخ القرآن بخبر الآحاد؛ لأن أخبار الآحاد توجب العمل ولا توجب العلم والقرآن يوجبهما جميعا . وإنما وقع الاختلاف في جواز نسخ القرآن بالأخبار المتواترة التي توجب العلم والعمل كالقرآن .
وقد عد الإمام العلامة مكي بن أبي طالب جواز نسخ الأثقل بالأخف من شروط الناسخ ، ومثل لذلك بتخفيف قوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ بقوله سبحانه : فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وأنه لذلك قال تعالى : نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أي بأخف منها عليكم أو مثلها في الثقل وأعظم في الأجر .
وكذلك نسخ الأخف بالأثقل نحو نسخ صيام يوم عاشوراء أو صيام ثلاثة أيام من كل شهر بصوم شهر رمضان وقال بعد أن ساق أمثلة أخرى لهذا الوجه ( وقد ذهب بعض المؤلفين للناسخ والمنسوخ إلى أنه لا يجوز أن ينسخ الأخف بالأثقل وتأول فيما ذكرنا تأويلات تخرجه من النسخ ، والعمل عند أكثرهم على ما بيناه ) كما عد الإمام العلامة أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) من شرط الناسخ والمنسوخ أن يكونا شرعيين يجوز في العقل ورود الأمر بكل واحد منهما على البدل ، فأما الذي لا يجوز ورود الشرع بخلافه ؛ كاعتقاد توحيد الصانع واعتقاد صفاته وعدله وحكمته ، واعتقاد فساد الكفر فلا يجري في هذا النوع نسخ ولا تبديل ، وكذلك كل ما دل العقل على كونه على وجه مخصوص ، فلا يجوز أن يكون الناسخ والمنسوخ كلاهما منصوصا عليه أو مدلولا عليه بدليل الخطاب أو مفهومه ، فأما الذي ثبت بالإجماع فلا يجوز نسخه؛ لأن الإجماع إنما يستقر بعد انقضاء زمان النسخ ، فإذا اجتمعت الأمة على حكم ووجد خبر بخلافه استدللنا بالإجماع على سقوط الخبر أو نسخه ، أو تأويله على غير ظاهره .
الفصل الرابع
الآراء في حكم النسخ ومناقشتها
هنالك إجماع من علماء المسلمين بل أجمعت الأمة كلها على جواز النسخ عقلا ووقوعه سمعا ، كما أن جميع الملل تكاد تتفق على ذلك ، إلا من بعض الطوائف التي أنكرت ذلك وأوردت شبها كثيرة لمنعه ، واستدلت بأدلة لا تقوى على الصمود عند مناقشتها ، وسنفصل القول في بيان ذلك في ثنايا هذا الفصل إن شاء الله تعالى ، وقد عني كثير من العلماء ببيان وجه الحق في ذلك وقرروا إمكان وقوع النسخ في شريعة الإسلام ، وكذلك في الشرائع السابقة ، وقاموا بتفنيد شبه المنكرين للنسخ والرد عليها وإبطالها .
فقد استدلوا على جواز وقوع النسخ في القرآن بقوله تعالى يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ قال ابن عباس وغيره : معناه يمحو ما يشاء من أحكام كتابه ، فينسخه ببدل أو بغير بدل ، ويثبت ما يشاء فلا يمحوه ولا ينسخه ، ثم قال : وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ قال ابن عباس : معناه عنده ما ينسخ ويبدل من الآية والأحكام ، وعنده ما لا ينسخ ولا يبدل ، كل في أم الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ ، ومثل هذا المعنى قال قتادة وابن زيد وابن جريج وغيرهم في هذه الآية ، وقد قيل غير ذلك . فهذا يدل على جواز النسخ بنص القرآن .
وقد اعترض مكي بن أبي طالب على استدلال جماعة على جواز النسخ في القرآن بقوله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ قائلا : إن هذا إنما يدل على جواز النسخ فيما يزيد الشيطان في تلاوة النبي أو الرسول من الباطل ، خاصة وليس يدل علي جواز النسخ فيما ينزله الله ويأمر به ، فلا حجة فيه لمن استدل به على جواز نسخ ما هو من عند الله من الحق .
ومضى مكي يستعرض الأدلة القرآنية على جواز النسخ في القرآن فقال :
( ويدل على جواز النسخ للقرآن أيضا قوله تعالى : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ( 101 ) النحل فهذا نص ظاهر في جواز زوال حكم آية ووضع أخرى موضعها . إلى أن قال : ويدل على جواز النسخ للقرآن أيضا قوله تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ( 106 ) البقرة . فهذا نص ظاهر في جواز النسخ للقرآن بالقرآن . إلى أن قال : ويدل على جواز النسخ أيضا قوله تعالى : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ( 48 ) المائدة . فمعلوم أن شريعة كل رسول نسخت شريعة من كان قبله .
ورد مكي كذلك استدلال من استدل بقوله تعالى : وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ( 86 ) الإسراء على جواز النسخ بقوله : فهذا إنما يراد به إذهاب ما لا يجوز نسخه من الأخبار وغيرها . وما لا يجوز نسخه لو شاء الله لأذهب حفظه كله من القلوب بغير عوض وما تقدم واقع في دائرة الاستدلال القرآني بيد أن هناك استدلالات عقلية أوردها المثبتون للنسخ القائلون بجوازه وقد أجملها صاحب ( مناهل العرفان ) في الأدلة الأربعة التالية :
أولا : إن النسخ لا محظور فيه عقلا وكل ما كان كذلك جائز عقلا . أما الكبرى فمسلمة وأما الصغرى فيختلف دليلها عند أهل السنة عن دليلها عند المعتزلة تبعا لاختلاف الفرقتين في أن أحكام الله تعالى يجب أن تتبع المصلحة لعباده أو لا يجب أن تتبعها ، فأهل السنة يقولون : إنه لا يجب على الله تعالى لعباده شيء بل هو سبحانه الفاعل المختار والكبير المتعال ، وله بناء على اختياره ومشيئته وكبريائه وعظمته أن يأمر عباده بما شاء وينهاهم عما شاء ، وأن يبقي من أحكامه على ما شاء وأن ينسخ منها ما شاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ، ولا ملزم يلزمه برعاية مصالح عباده ، ولكن ليس معنى هذا أنه عابث أو مستبد أو ظالم ، بل إن أحكامه وأفعاله كلها جل جلاله لا تخلو عن حكمة بالغة وعلم واسع وتنزه عن البغي والظلم وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ( 46 فصلت ) . وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ( 49 ) الكهف .
إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 83 ) و( 128 ) الأنعام . والمعتزلة يقولون : إنه تعالى يجب أن يتبع في أحكامه مصالح عباده فما كان فيه مصلحة لهم أمرهم به وما كان فيه مضرة عليهم نهاهم عنه . وما دار بين المصلحة تارة والمفسدة تارة أمرهم به تارة ، ونهاهم عنه أخرى . وإذا تقرر هذا فإن صغرى ذلك الدليل نستدل عليها من مذهب أهل السنة هكذا : النسخ تصرف في التشريع من الفاعل المختار الكبير المتعال ، الذي لا يجب عليه رعاية مصالح عباده في تشريعه ، وإن كان تشريعه لا يخلو من حكمه ، وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا .
وأما على مذهب الاعتزال فننظم الدليل هكذا : النسخ مبني على أن الله تعالى يعلم مصلحة عباده في نوع من أفعالهم وقتا ما ، فيأمرهم به في ذلك الوقت ويعلم ضرر عباده في هذا النوع نفسه من أفعالهم ولكن في وقت آخر ، فينهاهم عنه في ذلك الوقت الآخر ، وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا . وكيف يكون محظورا عقلا ونحن نشاهد أن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال . إلى أن قال : وإلى هذا الدليل تشير الآية الكريمة مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ( 106 ) البقرة . . . إلخ .
ثانيا وهو دليل إلزامي للمنكرين : إن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما جوزوا أن يأمر الشارع عباده بأمر مؤقت ينتهي بانتهاء وقته ، لكنهم يجوزون هذا عقلا ، ويقولون بوقوعه سمعا ، فليجوزوا هذا ؛ لأنه لا معنى للنسخ إلا انتهاء الحكم الأول لميقات معلوم عند الله ، بيد أنه لم يكن معلوما لنا من قبل ثم أعلمنا الله إياه بالنسخ ، وهذا ليس بفارق مؤثر ، فقول الشارع مثلا أول يوم من رمضان : ( صوموا إلى نهاية هذا الشهر ) مساو لأن يقول أول يوم من رمضان : ( صوموا ) من غير تقييد بغاية حتى إذا ما انتهى شهر رمضان ، قال أول يوم شوال : ( أفطروا ) ، وهذا الأخير نسخ لا ريب فيه وقد جوز منكروه المثال الأول فليجوزوا هذا المثال الثاني لأنه مساويه والمتساويان يجب أن يتحد حكمهما وإلا لما كانا متساويين .
ثالثا : إن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما ثبتت رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ، لكن رسالته العامة للناس ثابتة بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي يطول شرحها . إذن فالشرائع السابقة ليست باقية بل هي منسوخة بهذه الشريعة الختامية . وإذن فالنسخ جائز وواقع . أما ملازمة هذا الدليل فنبرهن عليها بأن النسخ لو لم يكن جائزا وواقعا ، لكانت الشرائع الأولى باقية ، ولو كانت باقية ما ثبتت رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة .
رابعا : ما يأتي من أدلة الوقوع السمعي؛ لأن الوقوع يستلزم الجواز وزيادة ، والأدلة السمعية على وقوع النسخ نوعان : أحدهما : تقوم به الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى من غير توقف على إثبات نبوة الرسول لهم . والثاني : تقوم به الحجة على من آمن بنبوته صلى الله عليه وسلم كأبي مسلم الأصفهاني من المسلمين ، وكالعيسوية من اليهود ، فإنهم يعترفون برسالته عليه الصلاة والسلام ، ولكن يقولون : إلى العرب خاصة ، وهؤلاء تلزمهم بأنهم متى سلموا برسالته وجب أن يصدقوه في كل ما جاء به ، ومن ذلك عموم دعوته ، والنسخ الوارد في الكتاب والسنة .
فأمثلة النوع الأول كثيرة منها :
1 - ما جاء في السفر الأول من التوراة أن الله تعالى قال لنوح عند خروجه من السفينة : ( إني جعلت كل دابة حية مأكلا لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ) ثم اعترفوا بعد ذلك بأن الله حرم كثيرا من الدواب على أصحاب الشرائع من بعد نوح ومنهم موسى نفسه كما جاء في السفر الثالث من توراتهم .
2 - جاء في التوراة أن الله تعالى أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه وورد أنه كان يولد في كل بطن من البطون ذكر وأنثى فكان يزوج توأمة هذا للآخر ويزوج توأمة الآخر لهذا ، وهكذا إقامةً لاختلاف البطون مقام اختلاف الآباء والأمهات والأنساب ، ثم حرم الله ذلك بإجماع المتدينين من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم .
3 - إن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده - عليهما السلام - ثم قال الله له لا تذبحه وقد اعترف منكرو النسخ بذلك .
4 - إن عمل الدنيا كان مباحا يوم السبت لليهود ومنه الاصطياد ثم حرم الله الاصطياد على اليهود باعترافهم .
5 - إن الله أمر بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم أمرهم برفع السيف عنهم إلى غير ذلك من الأدلة السمعية التي تقوم بها الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى .
وأما أمثلة النوع الثاني وهو الذي تقوم به الحجة على منكري النسخ من المسلمين ومن يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم كالعيسوية من اليهود فهي كثيرة أيضا ، وأوردنا طرفا منها في مستهل هذا الفصل نقلا عن الإمام العلامة مكي بن أبي طالب القيسي في كتابه ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) .
ويتبين مما ذكرناه أن أهل الأديان على مذاهب ثلاثة في النسخ :
أولها : إنه جائز عقلا وواقع سمعا . وعليه إجماع المسلمين من قبل أن يظهر أبو مسلم الأصفهاني ومن شايعه ، وعليه أيضا إجماع النصارى من قبل معاصريهم الذين خرقوا الإجماع وركبوا رءوسهم فأنكروا النسخ ؛ ليصلوا من هذا الإنكار إلى بقاء ديانتهم بجانب الديانة الإسلامية بدعوى أن الشريعة لا تنسخ الشريعة قبلها ، وهو رأي العيسوية إحدى طوائف اليهود الثلاث .
ثانيها : إن النسخ ممتنع عقلا وسمعا وهو ما جنح إليه نصارى هذا العصر وتقول به أيضا الشمعونية ، وهم طائفة ثانية من طوائف اليهود .
ثالثها : إن النسخ جائز عقلا ممتنع سمعا وبه تقول العنانية وهي الطائفة الثالثة من طوائف اليهود . كما يعزى هذا الرأي إلى أبي مسلم الأصفهاني من المسلمين ، ولكن على اضطراب في النقل عنه وعلى تأويل يجعل خلافه لجمهور المسلمين أشبه بالخلاف اللفظي إن لم يكن كذلك فعلا .
كما يتبين أيضا أن النسخ مجمع على جوازه عقلا ولم يخرج عن هذا الإجماع إلا " الشمعونية " إحدى فرق اليهود وبعض نصارى هذا الزمان ، ولا شك أن مذهب هؤلاء المنكرين هو أخطر المذاهب وأشنعها في هذا الباب وأبعدها عن الحق وأكثرها مجانبة للصواب وولوغا في الباطل . إذ إن مجرد إنكار الجواز العقلي إنكار للوقوع الشرعي بالضرورة ؛ إذ لا يمكن أن يقع في الوجود ما أحاله العقل .
شبهات المنكرين للجواز العقلي وإبطالها
وسنستعرض فيما يلي أبرز شبهات أولئك المنكرين مع تفنيدها وإبطالها فنقول وبالله التوفيق :
1 - الشبهة الأولى التي يسوقونها لتمسكهم بمنع النسخ أن النسخ إما لحكمة ظهرت بعد أن لم تكن فيكون بداء ، وإما أن يكون لغير حكمة فيكون عبثا ، وكلا البداء والعبث على الله تعالى مستحيل . والرد عليهم إنما هو من خلال ما أثبتناه في بداية هذا المبحث من أدلة عقلية وسمعية على جواز النسخ عقلا ، وأنه لا يترتب على النسخ محال عقلي ؛ إذ هو فعل من أفعال الله الذي يفعل ما يشاء سبحانه ، وليس النسخ من قبيل البداء ، بل الفرق بينهما ظاهر ، فالبداء تبديل في العلم بينما النسخ تبديل في المعلوم .
وبعد أن أورد الشيخ محمد حمزة في كتابه ( دراسات في الإحكام والنسخ في القرآن الكريم ) رأي كل من اليهود والمعتزلة والماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي ومن أخذ برأيه من جمهور الأحناف ومن تبعهم ، قال : وبعد ما تقدم نجيب بجواب محكم على فرية اليهود وشبهة المستشبهين فنقول : إنما يكون كل من العبث والبداء من لوازم النسخ إن ورد النسخ على حسن لا يقبل حسنه القبح ، أو قبيح لا يقبل قبحه الحسن ، كالإيمان والكفر ، أما في الأفعال التي حسنها وقبحها باعتبار ما يترتب عليها من المصالح المختلفة باختلاف الأزمان والأمم ، فإن الله تعالى يبدل ما شاء من الأحكام ؛ رعاية لتلك المصالح التي يعلمها ، ولا يلزم من ذلك بداء ولا عبث ، وعلى ضوء ما تقدم أيضا يبطل قول المنكرين أن ما طلبه الله لحسنه ، فلو نهى عنه لأدى إلى أن ينقلب الحسن قبيحا وهو محال ، فنقول : إن الإحالة إنما تكون إذا اجتمع الأمر والنهي في فعل واحد من مأمور واحد في زمن واحد ، وفرض المسألة غير ذلك فإن المصالح تختلف باختلاف الأوقات ، كشرب الدواء فإنه قد يكون نافعا في وقت دون وقت ، فيختلف حسن الشيء وقبحه باختلاف الأوقات ، وباختلاف الأشخاص أيضا ، فالشرع للأديان كالطب للأبدان .
2 - ويثيرون شبهة أخرى فيقولون لو جاز على الله تعالى أن ينسخ حكما بحكم للزم على ذلك أحد باطلين : جهله جل وعلا ، وتحصيل الحاصل .
وبيان ذلك أن الله تعالى إما أن يكون قد علم الحكم الأول المنسوخ على أنه مؤبد ، وإما يكون قد علمه على أنه مؤقت . فإن كان قد علمه على أنه مستمر إلى الأبد ثم نسخه وصيره غير مستمر انقلب علمه جهلا والجهل عليه تعالى محال ، وإن كان علمه على أنه مؤقت بوقت معين ثم نسخه عند ذلك الوقت ، ورد عليه أن المؤقت ينتهي بمجرد انتهاء وقته فإنهاؤه بالنسخ تحصيل للحاصل وهو باطل ، وتُدفع هذه الشبهة بأن الله تعالى قد سبق في علمه أن الحكم المنسوخ مؤقت لا مؤبد ، ولكنه علم بجانب ذلك أن توقيته إنما هو بورود الناسخ ، لا بشيء آخر كالتقييد بغاية في دليل الحكم الأول ، وإذن فعلمه بانتهائه بالناسخ لا يمنع النسخ بل يوجبه . وورود الناسخ محقق لما في علمه لا مخالف له شأنه تعالى في الأسباب ومسبباتها ، وقد تعلق علمه بها كلها مع ملاحظة أن النسخ بيان بالنسبة إلى الله تعالى ورفع بالنسبة إلينا .
3 - والشبهة الثالثة التي يثيرونها هي قولهم لو جاز النسخ للزم أحد باطلين وما هو في معناه .
وبيان ذلك أن الحكم المنسوخ إما أن يكون دليله قد غياه بغاية ينتهي عندها أو يكون قد أبد نصا ، فإن كان قد غياه بغاية ، فإنه ينتهي بمجرد وجود هذه الغاية ، وإذن لا سبيل إلى إنهائه بالنسخ وإلا لزم تحصيل الحاصل . وإن كان دليل الحكم الأول قد نص على تأبيده ، ثم جاء الناسخ على رغم هذا التأبيد لزم المحال من وجوه ثلاثة :
أ- التناقض؛ لأن التأبيد يقتضي بقاء الحكم ولا ريب أن النسخ ينافيه .
ب- تعذر إفادة التأبيد من الله للناس؛ لأن كل نص يمكن أن يفيده تبطل إفادته باحتمال نسخه ، وذلك يفضي إلى القول بعجز الله وعيه عن بيان التأبيد لعباده فيما أبده لهم تعالى الله عن ذلك .
ج- استلزام ذلك لجواز نسخ الشريعة الإسلامية مع أنها باقية إلى يوم القيامة عند القائلين بالنسخ ويمكن دفع هذه الشبهة بما يلي :
أولا : بأن حصر الحكم المنسوخ في هذين الوجهين اللذين ذكرهما المانع غير صحيح؛ لأن الحكم المنسوخ يجوز ألا يكون مؤقتا ولا مؤبدا ، بل يجيء مطلقا عن التوقيت والتأبيد كليهما ، وعليه فلا يستلزم طروء النسخ عليه شيئا من المحالات التي ذكروها ، وإطلاق هذا الحكم كاف في صحة نسخه ؛ لأنه يدل على الاستمرار بحسب الظاهر وإن لم يعرض له النص .
ثانيا : إن ما ذكروه من امتناع نسخ الحكم المؤبد غير صحيح أيضا وما استندوا إليه منقوض لوجوه ثلاثة :
الأول منها : إن استدلالهم بأنه يؤدي إلى التناقض مدفوع بأن الخطابات الشرعية مقيدة من أول الأمر بألا يرد ناسخ ، كما أنها مقيدة بأهلية المكلف للتكليف ، وألا يطرأ عليه جنون أو غفلة أو موت ، وإذن فمجيء الناسخ لا يفضي إلى تناقض بينه وبين المنسوخ بحال .
والثاني : إن استدلالهم بأنه يؤدي إلى أن يتعذر على الله بيان التأبيد لعباده مدفوع بأن التأبيد يفهمه الناس بسهولة من مجرد خطابات الله الشرعية المشتملة على التأبيد ، وهو ما يشعر به كل واحد منا ؛ ذلك لأن الأصل بقاء الحكم الأول وما اتصل به من توقيت أو تأبيد ، وطرد الناسخ احتمال مرجوح ، واستصحاب الأصل أمر يميل إليه الطبع كما يؤيده العقل والشرع .
والثالث : إن جواز نسخ الشريعة الإسلامية إن لزمنا معاشر القائلين بالنسخ ، فإنه يلزمنا على اعتبار أنه احتمال عقلي لا شرعي بدليل أننا نتكلم في الجواز العقلي لا الشرعي . أما نسخ الشريعة الإسلامية بغيرها من الشرائع فهو من المحالات الظاهرة بتضافر الأدلة على أن الإسلام دين خالد عام ، ولا يضير المحال في حكم الشرع أن يكون من قبيل الجائز في حكم العقل .
4 - وشبهتهم الرابعة هي قولهم :
إن النسخ يستلزم اجتماع الضدين واجتماعهما محال ، وبيان ذلك أن الأمر بالشيء يقتضي أنه حسن وطاعة ومحبوب لله ، والنهي عنه يقتضي أنه قبيح ومعصية ومكروه له تعالى فلو أمر الله بالشيء ثم نهى عنه ، أو نهى عن الشيء ثم أمر به لاجتمعت هذه الصفات المتضادة في الفعل الواحد الذي تعلق به الأمر والنهي .
وندفع هذه الشبهة بأن الحسن والقبح وما اتصل بهما ليست من صفات الفعل الذاتية حتى تكون ثابتة فيها لا تتغير بل هي تابعة لتعلق أمر الله ونهيه بالفعل وعلى هذا يكون الفعل حسنا وطاعة ومحبوبا لله ما دام مأمورا به من الله ، ثم يكون هذا الفعل نفسه قبيحا ومعصية ومكروها له تعالى ما دام منهيا عنه منه سبحانه ، وحتى القائلون بالحسن والقبح العقليين من المعتزلة يقرون بأنهما يختلفان باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال ، وبهذا التوجيه ينتفي اجتماع الضدين لاختلاف الوقت الذي يكون فيه الفعل حسنا عن الوقت الذي يكون فيه الفعل نفسه قبيحا ، فلم يجتمع الحسن والقبح في وقت واحد على فعل واحد .
وقريب من هذا ما نقلناه فيما تقدم من كلام الشيخ محمد حمزة في كتابه ( دراسات في الإحكام والنسخ ) من جوابه المحكم على فرية اليهود وشبهة المستشبهين وما انتهى إليه من أن قول المنكرين : إن ما طلبه الله لحسنه ، فلو نهى عنه لأدى ذلك إلى أن ينقلب الحسن قبحا ، وهو محال مردود - بأن الإحالة إنما تكون إذا اجتمع الأمر والنهي في فعل واحد من مأمور واحد في زمن واحد ، وفرض المسألة غير ذلك ، فإن المصالح تختلف باختلاف الأوقات . . . إلخ .
شبهات المنكرين للنسخ سمعا
1 - شبهة العنانية والشمعونية :
وتتمثل شبهتهم في قولهم : إن التوراة التي أنزلها الله على موسى لم تزل محفوظة لدينا منقولة بالتواتر فيما بيننا وقد جاء فيها ( هذه شريعة مؤبدة ما دامت السماوات والأرض ) وجاء فيها أيضا ( الزموا يوم السبت أبدا ) وذلك يفيد امتناع النسخ؛ لأن النسخ لشيء من أحكام التوراة - لا سيما تعظيم يوم السبت - إبطال لما هو من عنده تعالى وتدفع هذه الشبهة بوجوه خمسة :
أولها : إن شبهتهم هذه أقصر من مدَّعاهم قصورا بينا؛ لأن قصارى ما تقتضيه - إن سلمت - هو امتناع نسخ شريعة موسى عليه السلام لشريعة أخرى . أما تناسخ شرائع سواها فلا تدل هذه الشبهة على امتناعه ، بل يبعد أن ينكر اليهود انتساخ شرائع الإسرائيليين قبل اليهودية بشريعة موسى . فكان المنظور أن تجيء دعواهم أقصر مما هو محكي عنهم بحيث تتكافأ ودليلهم الذي زعموه ، أو أن يجيء دليلهم الذي زعموه أعم من هذا حتى يتكافأ ودعواهم التي ادعوها .
ثانيها : إنا لا نسلم لهم ما زعموه من أن التوراة لم تزل محفوظة في أيديهم حتى يصح استدلالهم بها بل الأدلة متضافرة على أن التوراة الصحيحة لم يعد لها وجود ، وأنه أصابها من التغيير والتبديل والتحريف ما جعلها في خبر كان .
من تلك الأدلة أن نسخة التوراة التي بأيدي السامريين تزيد في عمر الدنيا نحوا من ألف سنة على ما جاء في نسخة العنانيين ، وأن نسخة النصارى تزيد ألفا وثلاثمائة سنة . ومنها أن نسخ التوراة التي بأيديهم تحكي عن الله وعن أنبيائه وملائكته أمورا ينكرها العقل ويمجها الطبع ويتأذى بها السمع مما يستحيل معه كونها صادرة عن مؤمن ، فضلا عن ولي ، فضلا عن نبي ، فضلا عن نسبتها إلى الله رب العالمين . من مثل ندم الله على إرسال الطوفان إلى العالم ، وأنه بكى حتى رمدت عيناه ، وأن يعقوب صارعه فصرعه ، تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا . وأن لوطا سكر فثمل فزنى بابنتيه ، وأن هارون هو الذي اتخذ العجل لبني إسرائيل ودعاهم لعبادته من دون الله .
ومن الأدلة أيضا على فساد دعوى بقاء التوراة وحفظها ما ثبت بالتواتر عند المؤرخين ، بل عند اليهود أنفسهم من أن بني إسرائيل - وهم حملة التوراة وحفاظها - قد ارتدوا عن الدين مرات كثيرة ، وعبدوا الأصنام ، وقتلوا أنبياءهم شر تقتيل ، ولا ريب أن هذه مطاعن شنيعة جارحة لا تبقي لأي منهم أي نصيب من عدالة أو ثقة ، ولا تحمل لهذه النسخ التي زعموا أنها التوراة أقل شيء من القيمة أو الصحة .
ثالثها : إن التواتر الذي خلعوه على التوراة لا يسلم لهم أيضا ؛ لأنها لو كانت متواترة لحاجوا بها أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم ، ولعارضوا دعواه عموم رسالته بقول التوراة التي يؤمن بها ولا يجحدها ، بل يجهر بأنه جاء مصدقا لها ، ولكن ذلك لم يكن ولو كان لنقل واشتهر ، بل إن الذي نقل واشتهر هو إسلام كثير من أحبار اليهود وعلمائهم ، كعبد الله بن سلام وغيره واعترافهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الرسول الذي بشرت به التوراة والإنجيل .
رابعها : إن لفظ التأبيد الذي اعتمدوا عليه فيما نقلوه لا يصح حجة لهم ؛ لأنه يستعمل كثيرا عند اليهود معدولا به عن حقيقته ، من ذلك ما جاء في البقرة التي أمروا بذبحها : ( هذه سنة لكم أبدا ) وما جاء في القربان : ( قربوا كل يوم خروفين قربانا دائما ) مع أن هذين الحكمين منسوخان باعتراف اليهود أنفسهم رغم التصريح فيهما بما يفيد التأبيد .
خامسها : إن نسخ الحكم المؤبد لفظا جائز على الصحيح ، فلتكن هاتان العبارتان اللتان اعتمدوا عليهما منسوختين أيضا ، وشبهة التناقض تندفع بأن التأبيد مشروط بعدم ورود ناسخ ، فإذا ورد الناسخ انتفى ذلك التأبيد .
2 - شبهة النصارى :
يقولون إن المسيح عليه السلام قال : ( السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول ) وهذا يدل على امتناع النسخ سمعا وندفع هذه الشبهة أولا : بأنا لا نسلم أن الكتاب الذي بأيديهم هو الإنجيل الذي أنزل على عيسى ، وإنما هو قصة تاريخية وضعها بعض المسيحيين يبين فيها حياة المسيح وولادته ونشأته ودعوته . . . إلخ . ورغم أنها قصة فقد عجزوا عن إقامة الدليل على صحتها وعدالة كاتبها وأمانته وضبطه ، كما أعياهم اتصال السند وسلامته من الشذوذ والعلة . بل ثبت علميا تناقض نسخ هذه القصة التي أسموها الإنجيل ، مما يدل على أنها ليست من عند الله ، وصدق الله في قوله في القرآن الكريم : وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا
ثانيا : إن سياق هذه الكلمة في إنجيلهم يدل على أن مراده بها تأييد تنبؤاته ، وتأكيد أنها ستقع لا محالة ، أما النسخ فلا صلة لها به نفيا ولا إثباتا .
ثالثا : إن هذه الجملة على التسليم بصحتها وصحة رواتها وكتابها الذي جاءت فيه لا تدل على امتناع النسخ مطلقا ، وإنما تدل على امتناع نسخ شيء من شريعة المسيح فقط فشبهتهم على ما فيه قاصرة قصورا بينا عن مُدَّعاهم .
3 - شبهة العيسوية :
يقول هؤلاء اليهود أتباع أبي عيسى الأصفهاني : لا سبيل إلى إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى قد أيده بالمعجزات الكثيرة القاهرة ولأن التوراة قد بشرت بمجيئه ولا سبيل أيضا إلى القول بعموم رسالته؛ لأن ذلك يؤدي إلى انتساخ شريعة إسرائيل بشريعته . وشريعة إسرائيل مؤبدة بدليل ما جاء في التوراة من مثل . " هذه شريعة مؤبدة عليكم ما دامت السماوات والأرض " وإنما هو رسول إلى العرب خاصة . وعلى هذا فالخلاف بينهم وبين من سبقهم أن دعواهم مقصورة على منع انتساخ شريعة موسى بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وشبهتهم التي ساقوها متكافئة مع دعواهم هذه ، ويفهم من اقتصارهم على هذا أنهم يجوزون تناسخ الشرائع سمعا فيما عدا هذه الصورة . وندفع شبهتهم هذه بأمرين :
أولهما : إن دليلهم الذي زعموه هو دليل العنانية والشمعونية من قبلهم وقد أشبعناه تزييفا وتوهينا بالوجوه التي أسلفناها آنفا فالدفع هنا هو عين الدفع هناك فيما عدا الوجه الأول .
ثانيهما : إن اعترافهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول أيده الله بالمعجزات وجاءت البشارة به في التوراة يقضي عليهم لا محالة أن يصدقوه في كل ما جاء به ، ومن ذلك أن رسالته عامة وأنها ناسخة للشرائع قبله حتى شريعة موسى نفسه الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي أما أن يؤمنوا برسالته ثم لا يصدقوه في عموم دعوته ، فذلك تناقض منهم لأنفسهم ومكابرة للحجة الظاهرة لهم .
4 - شبهة أبي مسلم :
النقل عن أبي مسلم مضطرب : فمِن قائل : إنه يمنع وقوع النسخ سمعا على الإطلاق ، ومِن قائل : إنه ينكر وقوعه في شريعة واحدة ، ومن قائل : إنه ينكر وقوعه في القرآن خاصة ، ورجحت هذه الرواية الأخيرة بأنها أصح الروايات ، وبأن التأويلات المنقولة عنه لم تخرج عن حدود ما نسخ من القرآن ، وأبعد الروايات عن الرجل هي الرواية الأولى ؛ لأنه لا يعقل أن مسلما فضلا عن عالم كأبي مسلم ينكر وقوع النسخ جملة ، إلا إذا كانت المسألة ترجع إلى التسمية فقط ، فإنها تهون حينئذ على معنى أن ما نسميه نحن نسخا يسميه هو تخصيصا بالزمان مثلا ، وإلى ذلك ذهب بعض المحققين . قال التاج السبكي : ( إن أبا مسلم لا ينكر وقوع المعنى الذي نسميه نحن نسخا ، ولكنه يتحاشى أن يسميه باسمه ، ويسميه تخصيصا ) اهـ .
وقد احتج أبو مسلم بقوله سبحانه : لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْـزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ وشبهته في الاستدلال أن هذه الآية تفيد أن أحكام القرآن لا تبطل أبدا ، والنسخ فيه إبطال لحكم سابق . وندفع مذهب أبي مسلم وشبهته بأمور أربعة . . .
أولها : أنه لو كان معنى الباطل في الآية هو متروك العمل به مع بقاء قرآنيته ، لكان دليله قاصرا عن مدعاه؛ لأن الآية لا تفيد حينئذ إلا امتناع نوع خاص من النسخ ، وهو نسخ الحكم دون التلاوة ، فإنه وحده هو الذي يترتب عليه وجود متروك العمل في القرآن ، أما نسخ التلاوة مع الحكم ، أو مع بقائه ، فلا تدل الآية على امتناعه بهذا التأويل .
ثانيها : إن معنى الباطل في الآية ما خالف الحق ، والنسخ حق ، ومعنى الآية أن عقائد القرآن موافقة للعقل ، وأحكامه مسايرة للحكمة ، وأخباره مطابقة للواقع ، وألفاظه محفوظة من التغيير والتبديل ، ولا يمكن أن يتطرق إلى ساحته الخطأ بأي حال : إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وَبِالْحَقِّ أَنْـزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَـزَلَ وتفسير الآية بهذا المعنى يجعلها أقرب إلى إثبات النسخ ووقوعه منها إلى نفيه وامتناعه؛ لأن النسخ كما تقرر تصرف إلهي حكيم تقتضيه الحكمة وترتبط به المصلحة .
ثالثها : إن أبا مسلم على فرض أن خلافه مع الجمهور لفظي لا يعدو حدود التسمية نأخذ عليه أنه أساء مع الله في تحمسه لرأي قائم على تحاشي لفظ اختاره جلت حكمته ، ودفع عن معناه بمثل قوله : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا وهل بعد اختيار الله اختيار؟ وهل بعد تعبير الله تعبير؟ .
رابعا : إن هناك فروقا بين النسخ والتخصيص وقد فصلناها فيما سبق .
الفصل الخامس
تفسير تحليلي للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم .
يستدل المجيزون للنسخ عقلا القائلون بوقوعه سمعا ببعض الآيات التي وردت فيها الإشارة إلى ذلك إما صراحة أو ضمنا .
فمما أشار إلى النسخ صراحة قوله تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ( البقرة : 106 ) وما أشار إليه ضمنا قوله تعالى : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ( المائدة : 48 ) . وقوله تعالى : يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ( الرعد : 39 ) ، وقوله تعالى : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ( النحل : 101 ) فهذه أربع آيات دلت إحداها دلالة صريحة على النسخ بمعنى أنها اشتملت على لفظه ودلت الثلاث الباقية عليه دلالة ضمنية .
وسنستعرض -تتميما للفائدة- ما قاله في تفسيرها بعض المفسرين لزيادة إيضاح المقصود من الاستدلال بها على جواز وقوع النسخ فنبدأ بالآية الأولى وهي آية البقرة ( 106 ) حيث يقول تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فنبين أنهم اختلفوا في قراءتها في موضعين:
أحدهما : في قوله مَا نَنْسَخْ فإنهم اختلفوا فيه على وجهين فقرأ عبد الله بن عامر الشامي وحده ( ما ننسخ ) بضم النون وكسر السين . وقرأ الباقون مَا نَنْسَخْ بفتح النون والسين .
والموضع الثاني : قوله تعالى أَوْ نُنْسِهَا وقد اختلفوا في قراءته على خمسة أوجه بعضها معروف وبعضها شاذ . فقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( أو ننساها ) . بألف وكذلك قرأ النخعي ومجاهد وعبيد بن عمير وعبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء وقرأها علي رضي الله عنه أَوْ نُنْسِهَا بنون مضمون من غير ألف ومن غير همزة وبه قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب الحضرمي وهي أيضا قراءة الحسن وسعيد بن المسيب وقتادة .
وقرأ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ( تنساها ) بالتاء لقوله عز وجل : سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى وقوله تعالى : وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ، وكذلك رواه شبابة عن أبي عمرو بن العلاء البصري وقرأها أبي بن كعب رضي الله عنه ( أو ننسك ) وحده . وقرأها عطاء بن أبي رباح ( أو ننسئها ) بياء مهموزة مكان الألف واختلاف هذه القراءة كلها معروفها وشاذها إن صحت الروايات فيها لاختلاف الغرض فتكون هذه الآية نازلة على هذه الوجوه كلها ويكون حكم ما اختلف لفظه واتفق معناه منها كقوله تعالى فَانْفَجَرَتْ و" انْبَجَسَتْ " وما اختلف لفظه ومعناه منها كقوله تعالى وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ بالضاد واتفق معناه : البخيل . و( بظنين ) بالظاء ومعناه المتهم ومعنى هذه الآية على قراءة الجماعة أن الله جل ذكره يخبر عن نفسه يقول ما نرفع من حكم آية ونبق تلاوتها أو ننسكها يا محمد لا تحفظ تلاوتها نأت بخير منها لكم أي نأت بآية أخرى هي أصلح لكم وأسهل في التعبد أو نأت بمثلها في العمل وأعظم في الأجر فهذا قول صحيح معروف وقد قيل : إن معناها : ما نرفع من حكم آية وتلاوتها نأت بخير منها أي أصلح لكم منها : وقال ابن زيد : إنساؤها محوها وتركها .
فأما قراءة من قرأ ( أو ننساها ) بالألف والنون فمعناه نؤخرها ويقال نسأت إذا أخرت ومنه قوله تعالى إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ وإنما أراد به تأخيرهم الوقوف بعرفة عن ذي الحجة في كل عام بعشرة أيام ليقع حجهم أبدا في الربيع ويقال : أنسأت الشيء أنسأ ، والنسيء اسم وضع موضع المصدر ، ونسأ الله في أجله ، وأنسأ الله أجله ، أي أخره ، وفي الحديث من أحب أن ينسأ الله في أجله فليصل رحمه والنسأ التأخير وفي حديث عمر ( ارموا فإن الرمي عدة ، فإذا رميتم فانتسئوا عن البيوت ) أي تأخروا عن البيوت . والمنسأة العصا لأنه يوخز بها الدابة يقال : نسأت الدابة إذا ضربتها بالمنسأة . قلت : ومنه قوله تعالى في عصا سليمان عليه السلام فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ونسأت اللبن إذا جعلت فيه الماء ليكثر وهو النسوء وامرأة نسوء إذا كان مظنونا بها الحمل ونسوة نساء وإنما قيل لها نسوء؛ لأن الحمل زيادة فيها وإنما قيل نسأت اللبن؛ لأن الماء زيادة فيه .
والتأخير زيادة في أجل الشيء ومدته فقوله ( ننسأها ) معناها نؤخرها كما بينا ومن قرأ نُنْسِهَا بضم النون وكسر السين فمعناه ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن ابن عباس رضي الله عنهما ( كان القرآن ينزل فيثبت الله منه ما يشاء وينسخ منه ما يشاء وعنده أم الكتاب ) .
ومن قرأ ( أو تنساها ) بالتاء أو قرأ ( أو ننسك ) أراد به نسيان النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن النسيان جائز عليه في صفته وغير جائز في صفة الله تعالى ، ومن قرأها بياء مهموزة بدل الألف أراد به التأخير أيضا لأنه قرأها بالإمالة .
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ما نبدل من آية . وقال ابن جريج عن مجاهد : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أي ما نمحو من آية . وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ قال : نثبت خطها ونبدل حكمها . حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم . وقال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي العالية محمد بن كعب القرظي نحو ذلك . وقال الضحاك مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ما ننسك . وقال عطاء أما مَا نَنْسَخْ فما نترك من القرآن . وقال ابن أبي حاتم يعني ترك فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم وقال السدي مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ نسخها قبضها وقال ابن أبي حاتم : يعني قبضها رفعها مثل قوله ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) وقوله لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا وقال ابن جرير مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره وذلك أن يحول الحلال حراما والحرام حلالا والمباح محظورا والمحظور مباحا ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها وكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها وسواء نسخ حكمها أو خطها إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة . وأما علماء الأصول فاختلفت عبارتهم في حد النسخ ، والأمر في ذلك قريب؛ لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولحظ بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه والنسخ لا إلى بدله ولم يشأ رحمه الله أن يتوسع في تفصيل ذلك فقال وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة في أصول الفقه . ثم قال : وقوله تعالى مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا يقول ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها وقال عطية العوفي : أو ننسأها نؤخرها فلا ننسخها . وقال السدي مثله أيضا ، وكذا الربيع بن أنس وقال الضحاك : ( ما ننسخ من آية أو ننسأها ) يعني الناسخ من المنسوخ . وقال أبو العالية : ( ما ننسخ من آية أو ننسأها) نؤخرها عندنا . وروى ابن جرير عن الحسن أنه قال في قوله أَوْ نُنْسِهَا إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قرأ قرآنا ثم نسيه وعن قتادة أيضا أنه قال : كان الله عز وجل ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء وينسخ ما يشاء .
وقوله تعالى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا يقول : خير لكم في المنفعة وأرفق بكم . وقال أبو العالية : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ فلا نعمل بها ( أو ننساها ) أي نرجئها عندنا نأت بها أو نظيرها . وقال السدي نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا يقول : نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه . وقال قتادة نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا يقول آية فيها رخصة فيها أمر فيها نهي اهـ .
وقال الإمام أبو الفرج بن الجوزي في تفسيره ( زاد المسير ) : قوله تعالى مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ سبب نزولها أن اليهود قالت لما نسخت القبلة : إن محمدا يحل لأصحابه إذا شاء ويحرم عليهم إذا شاء فنزلت هذه الآية . قال الزجاج : النسخ في اللغة إبطال شيء وإقامة آخر مقامه تقول العرب : نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله وفي المراد بهذا النسخ ثلاثة أقوال : أحدها : رفع اللفظ والثاني : تبديل الآية بغيرها رويا عن ابن عباس ، والأول قول السدي والثاني قول مقاتل ، والثالث : رفع الحكم مع بقاء اللفظ رواه مجاهد عن أصحاب ابن مسعود وقال أبو العالية : وقرأ ابن عامر ( ما ننسخ ) بضم النون وكسر السين . قال أبو علي : أي ما نجده منسوخا كقولك : أحمدت فلانا أي وجدته محمودا وإنما يجده منسوخا بنسخه إياه . قوله تعالى أَوْ نُنْسِهَا قرأ ابن كثير وأبو عمرو ( ننسأها ) بفتح النون مع الهمزة والمعنى نؤخرها . قال أبو زيد : نسأت الإبل عن الحوض فأنا أنسأها إذا أخرتها ، ومنه النسيئة في البيع وفي معنى نؤخرها ثلاثة أقوال : أحدها : نؤخرها عن النسخ فلا ننسخها قاله الفراء . والثاني : نؤخر إنزالها فلا ننزلها ألبتة . والثالث : نؤخرها عن العمل بها بنسخنا إياها حكاهما أبو علي الفارسي . وقرأ سعد بن أبي وقاص ( تَنسها ) بتاء مفتوحة ونون وقرأ سعيد بن المسيب والضحاك ( تُنسها ) بضم التاء وقرأ نافع ( أَوْ نُنْسِهَا ) بنونين الأولى مضمومة والثانية ساكنة أراد ( أو ننسكها ) من النسيان . قوله تعالى : نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا قال ابن عباس بألْيَنَ مِنها وأيسر على الناس . قوله تعالى أَوْ مِثْلِهَا أي في الثواب والمنفعة فتكون الحكمة في تبديلها بمثلها الاختبار . اهـ وجاء في تفسير العلامة أبي السعود ( إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ) في تفسير هذه الآية قوله رحمه الله : ما ننسخ من آية أو ننسها . كلام مستأنف مسوق لبيان سر النسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي وإبطال مقالة الطاغين فيه إثر تحقيق حقيقة الوحي ورد كلام الكارهين له رأسا ، قيل : نزلت حين قال المشركون أو اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه . والنسخ في اللغة الإزالة والنقل يقال : نسخت الريح الأثر أي أزالته ، ونسخت الكتاب أي نقلته ، ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها أو بالحكم المستفاد منها أو بِهِما جميعا .
وإنساؤها إذهابها من القلوب و( ما ) شرطية جازمة ( لننسخ ) منتصبة به على المفعولية ، وقرئ ( ننسخ من انسخ ) أي : نأمرك أو جبريل بنسخها أو تجدها منسوخة ، وننسأها من النسيء أي نؤخرها ، وننسّها بالتشديد وتَنسَها وتُنسَها على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم مبنيا للفاعل وللمفعول ، وقرئ ( ما ننسخ من آية أو ننسكها ) وقرئ ( ما نُنْسِك من آية أو ننسخها ) والمعنى : عن كل آية نذهب بها على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معا إلى بدل أو إلى غير بدل .
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أي نوع آخر هو خير للعباد ، وبحسب الحال في النفع والثواب من الذاهبة ، وقرئ بقلب الهمزة ألفا أَوْ مِثْلِهَا أي فيما ذكر من النفع والثواب وهذا الحكم غير مختص بنسخ الآية التامة فما فوقها بل جار فيما دونها أيضا ، وتخصيصها بالذكر باعتبار الغالب . والنص كما ترى دال على جواز النسخ ، كيف لا وتنزيل الآيات التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية إنما هو بحسب ما يقتضيه من الحكم والمصالح ، وذلك يختلف باختلاف الأحوال ويتبدل حسب تبدل الأشخاص والأبصار كأحوال المعاش فرب حكم تقتضيه الحكمة في حال تقتضي في حال أخرى نقيضه ، فلو لم يجز النسخ لاختل ما بين الحكمة والأحكام من النظام . اهـ وقال العلامة الشوكاني في تفسيره ( فتح القدير ) في معرض تفسيره لهذه الآية بعد أن عدد وجوه القراءات في نُنْسِهَا وقرأ الباقون نُنْسِهَا بضم النون من النسيان الذي بمعنى الترك أي نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها ومنه قوله تعالى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ أي تركوا عبادته فتركهم في العذاب ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم ، وحكى الأزهري أن معناه نأمر بتركها ، يقال : أنسيته الشيء أي أمرته بتركه ونسيته تركته ومنه قول الشاعر :
إن علــــــــي عقبــــــــة أقضيهـــــــا لســــــت بناســــــيها ولا منســـــيها
أي ولا آمر بتركها . وقال الزجاج : إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك . لا يقال أُنسي بمعنى ترك ، قال : وما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أَوْ نُنْسِهَا قال : نتركها لا نبدلها فلا يصح . والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى أَوْ نُنْسِهَا نبح لكم تركها ، من نسي إذا ترك ثم تعديه ، ومعنى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا نأت بما هو أنفع للناس منها في العاجل والآجل أو في أحدهما أو بما هو مماثل لها من غير زيادة ، ومرجع ذلك إلى إعمال النظر في المنسوخ والناسخ ، فقد يكون الناسخ أخف فيكون أنفع لهم في العاجل ، وقد يكون أثقل وثوابه أكثر فيكون أنفع لهم في الآجل ، وقد يستويان فتحصل المماثلة . وقوله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يفيد أن النسخ من مقدوراته وأن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية . وهكذا قوله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أي له التصرف في السماوات والأرض بالإيجاد والاختراع ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته فهو أعلم بمصالح عباده وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها وشرعها لهم ، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص ، وهذا صنع من لا ولي لهم غيره ولا نصير سواه ، فعليهم أن يتلقوه بالقبول والامتثال والتعظيم والإجلال . ثم قال رحمه الله في آخر تفسيره لهذه الآية : وقد ثبت في البخاري وغيره عن أنس : أن الله أنزل في الذين قتلوا في بئر معونة ( أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم نسخ . وهكذا ثبت في مسلم وغيره ، عن أبي موسى قال : كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها ( ولو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثا ولا يملأ جوفه إلا التراب ) وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات أولها ( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ) فأنسيناها غير أني حفظت منها ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألوا عنها يوم القيامة ) وقد روي مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة ومنه آية الرجم كما رواه عبد الرزاق وأحمد وابن حبان عن عمر اهـ .
وقال العلامة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تفسيره الموسوم ( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ) عند تفسيره لهذه الآية : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ النسخ هو النقل ، فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع إلى حكم آخر أو إلى إسقاطه وكان اليهود ينكرون النسخ ويزعمون أنه لا يجوز ، وهو مذكور عندهم في التوراة ، فإنكارهم له كفر وهوى محض ، فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ فقال : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا أي ننسها العباد فنزيلها من قلوبهم ، نأت بخير منها وأنفع لكم أَوْ مِثْلِهَا فدل على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول ؛ لأن فضله تعالى يزداد خصوصا على هذه الأمة التي سهل عليها دينها غاية التسهيل ، وأخبر أن من قدح في النسخ قدح في ملكه وقدرته ، فقال : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فإذا كان مالكا لكم متصرفا فيكم تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه ، فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير ، كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام ، فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية فما له والاعتراض ، وهو أيضا ولي عباده فيتولاهم في تحصيل منافعهم وينصرهم في دفع مضارهم ، فمن ولايته لهم أن يشرع لهم من الأحكام ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم . ومن تأمل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ عرف بذلك حكمة الله ورحمتَه عباده وإيصالهم إلى مصالحهم من حيث لا يشعرون بلطفه اهـ .
2 - والآية الثانية التي سنذكر ما قاله بعض المفسرين في تفسيرها مما استدلوا به على جواز وقوع النسخ هي قوله تعالى : وَأَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا الآية .
وشاهدنا منها قوله عز وجل : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا قال ابن الجوزي رحمه الله في تفسيره عند كلامه على هذه الآية وللمفسرين في معنى الكلام قولان : أحدهما : لكل ملة جعلنا شرعة ومنهاجا فلأهل التوراة شريعة ولأهل الإنجيل شريعة ولأهل القرآن شريعة . هذا قول الأكثرين . قال قتادة : الخطاب للأمم الثلاث أمة موسى وعيسى وأمة محمد فللتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللفرقان شريعة يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء بلاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل . والقول الثاني : إن المعنى لكل من دخل في دين محمد جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا . هذا قول مجاهد .
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وقال ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سبيلا وعنه أيضا " مِنْهَاجًا " قال سُنّة . وكذا رواه العوفي عن ابن عباس شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا سبيلا وسنة وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وقتادة والضحاك والسدي وأبي إسحاق السبيعي أنهم قالوا في قوله : شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أي سبيلا وسنة . إلى أن قال رحمه الله بعد أن نقل قولا حكاه ابن جرير عن مجاهد : إن المخاطب بهذه الآية هذه الأمة ، ومعناه لكل جعلنا القرآن منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجا أي هو لكم كلكم تقتدون به . . . إلخ . قال : ( والصحيح القول الأول ) ويعني به ما قاله قبل ذلك من أن هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد ، ويدل على ذلك قوله تعالى بعده : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً فلو كان هذا الخطاب لهذه الأمة لما صح أن يقول وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وهم أمة واحدة ولكن هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ شيء منها ، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعةً على حدة ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة وجعله خاتم الأنبياء كلهم اهـ .
وقال العلامة الشوكاني في تفسير هذه الآية : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا الشرعة والشريعة في الأصل : الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء ثم استعملت فيما شرعه الله لعباده من الدين . والمنهاج : الطريقة الواضحة البينة . وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد . الشريعة ابتداء الطريق ، والمنهاج الطريق المستمر ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها والإنجيل لأهله والقرآن لأهله وهذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن وأما بعده فلا شرعة ولا منهاج إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم اهـ .
وقال العلامة ابن سعدي في تفسيره لهذه الآية لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ أيها الأمم شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أي سبيلا وسنة وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها وأما الأصول الكبار التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان فإنها لا تختلف فتشرع في جميع الشرائع اهـ .
وقال صاحب تفسير المنار محمد رشيد رضا رحمه الله في تفسيره عند كلامه على هذه الآية لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا فهذه الجملة بيان لتعليل الأمر والنهي قبلها أي لكل رسول أو كل أمة منكم أيها المسلمون والكتابيون أو أيها الناس جعلنا شريعة أوجبنا عليهم إقامة أحكامها وطريقا للهداية فرضنا عليهم سلوكه لتزكية أنفسهم وإصلاحها؛ لأن الشرائع العملية وطرق التزكية الأدبية تختلف باختلاف أحوال الاجتماع واستعداد البشر ، وإنما اتفق جميع الرسل في أصل الدين وهو توحيد الله وإسلام الوجه له بالإخلاص والإحسان . ثم استعرض معاني الشرعة والمنهاج في اللغة واستعرض ما أخرجه غير واحد من رواة التفسير المأثور في تفسير الآية إلى أن قال رحمه الله : وظاهرٌ من قول قتادة أن الشريعة أخص من الدين إن لم تكن مباينة له وأنها الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل وينسخ لاحقها سابقها وأن الدين هو الأصول الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأنبياء اهـ .
3 - الآية الثالثة التي نريد استعراض أقوال بعض المفسرين في تفسيرها مما استدلوا به على جواز وقوع النسخ هي قوله تعالى في سورة الرعد آية 39 يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ فقد قال أبو الفرج بن الجوزي عند تفسيره لهذه الآية : قوله تعالى : يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وَيُثْبِتُ ساكنة الثاء خفيفة الباء . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ( ويثبت ) مشددة الباء مفتوحة الثاء قال أبو علي : المعنى ويثبته فاستغنى بتعدية الأول من الفعلين عن تعدية الثاني .
واختلف المفسرون في المراد بالذي يمحو ويثبت على ثمانية أقوال ، ثم مضى رحمه الله يعدد تلك الأقوال الثمانية وكلها لا صلة لها بمبحثنا إلا الثاني منها فهو المتعلق بموضوعنا حيث قال : والثاني أنه الناسخ والمنسوخ فيمحو المنسوخ ويثبت الناسخ روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والقرظي وابن زيد وقال ابن قتيبة يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ أي ينسخ من القرآن ما يشاء ويثبت أي يدعه ثابتا لا ينسخه وهو المحكم اهـ .
وقال الحافظ أبو الفداء بن كثير في تفسيره عند كلامه على هذه الآية يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ منها ، أي من الكتب المنزلة من السماء من عند الله حيث نقل في تفسيره للآية التي قبلها وهي قوله تعالى : لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ قول الضحاك بن مزاحم : أي لكل كتاب أجل يعني لكل كتاب أنزله من السماء مدة مضروبة عند الله ومقدار معين فلهذا يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ منها ويثبت يعني حتى نسخت بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه ، ثم أورد رحمه الله اختلافات المفسرين في تفسير الآية التي نحن بصددها إلى أن قال : ومعنى هذه الأقوال أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء . ثم مضى بعد ذلك إلى أن قال : وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ يقول يبدل ما يشاء فينسخه ويثبت ما يشاء فلا يبدله وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ وما يبدل وما يثبت كل ذلك في كتاب .
وقال قتادة في قوله يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ كقوله مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا الآية اهـ .
وقال أبو السعود في تفسيره لهذه الآية يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ أي ينسخ ما يشاء نسخه من الأحكام لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت ويثبت بدله المصلحة أو يبقيه على حاله غير منسوخ اهـ .
وكذلك أورد الشوكاني في ( فتح القدير ) ما أورد الحافظ ابن كثير في تفسيره الذي نقلناه آنفا عن ابن عباس للآية من أن المراد : يبدل ما يشاء فينسخه . . . إلخ . وقد قال في إسناده : وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في المدخل عن ابن عباس ثم حكاه اهـ .
4 - والآية الرابعة والأخيرة من الآيات التي استدلوا بها على جواز النسخ هي قوله سبحانه وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ النحل ( 101 ) والمعنى وإذا نسخنا آية بآية إما نسخ الحكم والتلاوة أو نسخ الحكم مع بقاء التلاوة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ من ناسخ ومنسوخ وتشديد وتخفيف فهو عليم بالمصلحة في ذلك قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ أي كاذب بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ فيه قولان : أحدهما : لا يعلمون أن الله أنزله . والثاني : لا يعلمون فائدة النسخ اهـ .
وقال الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية : يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم وأنه لا يتصور منهم الإيمان وقد كتبت عليهم الشقاوة وذلك أنهم إذا رأوا تغير الأحكام ناسخها بمنسوخها قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ أي كذاب وإنما هو الرب تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . وقال مجاهد : بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ أي رفعناها وأثبتنا غيرها . وقال قتادة هو كقوله تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا الآية وقال العلامة أبو السعود بن محمد العمادي الحنفي في تفسيره عند هذه الآية وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ أي إذا أنزلنا آية من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلا منها بأن نسخناها بها وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ أولا وآخِرًا وبأن كلا من ذلك ما نزلت حيثما نزلت إلا حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن كل وقت له مقتضى غير مقتضى الآخر فكم من مصلحة في وقت تنقلب في وقت آخر مفسدة وبالعكس لانقلاب الأمور الداعية إلى ذلك وما الشرائع إلا مصلحة للعباد في المعاش والمعاد تدور حسبما تدور المصالح . والجملة إما معترضة لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم . وفي الالتفات إلى الغيبة مع إسناد الخبر إلى الاسم الجليل المستجمع للصفات ما لا يخفى من تربية المهابة وتحقيق معنى الاعتراض أو حالية وقرئ بالتخفيف من الإنزال قَالُوا أي الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ أي متقول على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه وحكاية هذا القول عنهم هاهنا للإيذان بأن ذلك كفرة ناشئة من نزغات الشيطان وأنه وليهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون شيئا أصلا أو لا يعلمون أن في النسخ حكما بالغة وإسناد هذا الحكم إلى الأكثر لما أن منهم من يعلم ذلك وإنما ينكره عنادا اهـ .
وقال العلامة الشوكاني في تناوله لتفسير هذه الآية وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ هذا شروع منه سبحانه في حكاية شبه كفرية ودفعها ومعنى التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه . وتبديل الآية رفعها بأخرى غيرها وهي نسخها بآية سواها . وقد تقدم الكلام في النسخ في البقرة قَالُوا أي كفار قريش الجاهلون للحكمة في النسخ : إِنَّمَا أَنْتَ يا محمد مُفْتَرٍ أي كاذب مختلق على الله متقول عليه بما لم يقل حيث تزعم أنه أمرك بشيء ثم تزعم أنه أمرك بخلافه فرد الله سبحانه عليهم بما يفيد جهلهم فقال بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شيئا من العلم أصلا أو لا يعلمون الحكمة في النسخ فإنه مبني على المصالح التي يعلمها الله سبحانه ، فقد يكون في شرع هذا الشيء مصلحة مؤقتة بوقت ثم تكون المصلحة بعد ذلك الوقت في شرع غيره . لو انكشف الغطاء لهؤلاء الكفرة لعرفوا أن ذلك وجه الصواب ومنهج العدل والرفق واللطف ثم بين سبحانه لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله وأن رسوله صلى الله عليه وسلم افتراه فقال قُلْ نَـزَّلَهُ أي القرآن المدلول عليه بذكر الآية رُوحُ الْقُدُسِ أي جبريل والقدس التطهير والمعنى : نزله الروح المطهر من أدناس البشرية فهو من إضاف الموصوف إلى الصفة مِنْ رَبِّكَ أي ابتداء تنزيله من عنده سبحانه و بِالْحَقِّ في محل نصب على الحال أي متلبسا بكونه حقا ثابتا لحكمة بالغة لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا على الإيمان فيقولون : كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا ولأنهم أيضا إذا عرفوا ما في النسخ من المصالح ثبتت أقدامهم على الإيمان ورسخت عقائدهم اهـ .
وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ الآية . يذكر تعالى أن المكذبين بهذا القرآن يتتبعون ما يرونه حجة لهم وهو أن الله تعالى هو الحاكم الحكيم الذي يشرع الأحكام ويبدل حكما مكان آخر لحكمته ورحمته فإذا رأوه كذلك قدحوا في الرسول وبما جاء به و قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ قال الله تعالى : بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ منهم جهال لا علم لهم بربهم ولا بشرعه . إلى أن قال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى بعد ذلك لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا عند نزول آياته وتواردها عليهم وقتا بعد وقت فلا يزال الحق يصل إلى قلوبهم شيئا فشيئا حتى يكون إيمانهم أثبت من الجبال الرواسي وأيضا فإنهم يعلمون أنه الحق وإذا شرع حكما من الأحكام ثم نسخه علموا أنه أبدله بما هو مثله أو خير منه لهم وأن نسخه هو المناسب للحكمة الربانية والمناسبة العقلية
الفصل السادس
ما يقع فيه النسخ في القرآن
قال بدر الدين الزركشي في ( البرهان ) : الجمهور على أنه لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي وزاد بعضهم الأخبار وأطلق وقيدها آخرون بالتي يراد بها الأمر والنهي .
وقال أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي في ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) اعلم أنه جائز أن ينسخ الله جل ذكره جميع القرآن بأن يرفعه من صدور عباده ويرفع حكمه بغير عوض وقد جاءت في ذلك أخبار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم دليله قوله تعالى وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ . وقد كان من ذلك بعضه على ما روي من سورة الأحزاب ، وإنما يؤخذ ما كان من ذلك من طريق الأخبار والله أعلم بصحته ومنه ما رفع لفظه أن يتلى وبقي حفظه غير متلو على أنه قرآن وثبت حكمه بالإجماع كآية الرجم فالرواية المشهورة أنه كان فيما يتلى ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) فرفع رسم ذلك من المصحف المجمع عليه ولم تثبت تلاوته وبقي حكمه ولم ينس لفظه .
والذي هو عمدة هذا الباب هو ما يزيل الله جل ذكره حكمه ويبدله بغيره من حكم متلو ويبقى المنسوخ متلوا غير معمول به وقد ذكرنا مثاله ، أو يزيل حكمه ولفظه بحكم آخر متلو ، وهذا كله إنما يجوز في الأحكام والفرائض والأوامر والنواهي والحدود والعقوبات من أحكام الدنيا فهذا قول عامة العلماء وعليه العمل عند فقهاء الأمصار وهو الذي لا يجوز في النظر غيره ، فأما ما لا يجوز نسخه فهو كل ما أخبرنا الله تعالى عنه أنه سيكون أو أنه كان أو وعدنا به أو قص علينا من أخبار الأمم الماضيـة وما قـص علينا مـن أخبار الجنة والنار والحساب والعقاب والبعث والحشر وخلق السماوات والأرضين وتخليد الكفار في النار والمؤمنين في الجنة هذا كله وشبهه من الأخبار لا يجوز نسخه ؛ لأنه يتعالى أن يخبر عن الشيء على غير ما هو به . وكذلك ما أعلمنا به من صفاته لا يجوز في ذلك كله أن ينسخ ببدل منه فأما جواز أن ينسخ ذلك كله بإزالة حفظه من الصدور -ونعوذ بالله من ذلك- فذلك جائز في قدرته تعالى يفعل ما يشاء وقال الزرقاني في مناهل العرفان : إن تعريف النسخ بأنه ( رفع حكم شرعي بدليل شرعي ) يفيد في وضوح أن النسخ لا يكون إلا في الأحكام وذلك موضع اتفاق بين القائلين بالنسخ لكن في خصوص ما كان من فروع العبادات والمعاملات أما غير هذه الفروع من العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات . . . ومدلولات الأخبار المحضة فلا نسخ فيها على الرأي السديد الذي عليه جمهور العلماء .
أما العقائد فلأنها حقائق صحيحة ثابتة لا تقبل التغير والتبديل فبدهي ألا يتعلق بها نسخ ، وأما أمهات الأخلاق فلأن حكمة الله في شرعها ومصلحة الناس في التخلق بها أمر ظاهر لا يتأثر بمرور الزمن ولا يختلف باختلاف الأشخاص والأمم حتى يتناولها النسخ بالتبديل والتغيير . وأما أصول العبادات والمعاملات فلوضوح حاجة الخلق إليها باستمرار لتزكية النفوس وتطهيرها ولتنظيم علاقة المخلوق بالخالق والخلق على أساسهما فلا يظهر وجه من وجوه الحكمة في رفعها بالنسخ .
وأما مدلولات الأخبار المحضة فلأن نسخها يؤدي إلى كذب الشارع في أحد خبرية الناسخ أو المنسوخ وهو محال عقلا ونقلا . أما عقلا فلأن الكذب نقص والنقص عليه تعالى محال . وأما نقلا فلمثل قوله سبحانه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا . وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا .
نعم إن نسخ لفظ الخبر دون مدلوله جائز بإجماع من قالوا بالنسخ ولذلك صورتان : إحداهما : أن تنزل الآية مخبرة عن شيء ثم تنسخ تلاوتها فقط .
والأخرى : إن يأمرنا الشارع بالتحدث عن شيء ثم ينهانا أن نتحدث به .
وأما الخبر الذي ليس محضا بأن كان في معنى الإنشاء ودل على أمر ونهي متصلين بأحكام فرعية عملية فلا نزاع في جواز نسخه والنسخ به؛ لأن العبرة بالمعنى لا باللفظ ، مثال الخبر بمعنى الأمر تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فإن معناه ازرعوا . ومثال الخبر بمعنى النهي قوله سبحانه : الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ فإن معناه لا تنكحوا مشركة ولا زانية ( بفتح التاء ) ولا تنكحوا زانيا ولا مشركا ( بضم التاء ) لكن على بعض وجوه الاحتمالات دون بعض والفرق بين أصول العبادات والمعاملات وبين فروعها أن فروعها هي ما تتعلق بالهيئات والأشكال والأمكنة والأزمنة والعدد أو هي كمياتها وكيفياتها وأما أصولها فهي ذوات العبادات والمعاملات بقطع النظر عن الكم والكيف .
واعلم أن ما قررناه هنا من قصر النسخ على ما كان من قبيل الأحكام الفرعية العلمية دون سواها هو الرأي السائد الذي ترتاح إليه النفس ويؤيده الدليل وقد نازع في ذلك قوم لا وجه لهم فلنضرب عن كلامهم صفحا .
ويتصل بما ذكرنا أن الأديان الإلهية لا تناسخ بينها فيما بيناه من الأمور التي لا يتناولها النسخ بل هي متحدة في العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات وفي صدق الأخبار المحضة فيها صدقا لا يقبل النسخ والنقض اهـ . فالذي يقع عليه النسخ إذا هو الحكم الشرعي العملي الذي لم يلحقه تأبيد ولا توقيت كالأحكام التكليفية من وجوب وندب وإباحة وتحريم وكراهة .
وقال صاحب التقرير والتحبير : ( محل النسخ عند الحنفية حكم شرعي فرعي يحتمل في نفسه الوجود والعدم وعند طائفة منهم غير مقيد بتأبيد ولا توقيت قبل مضيه خلافا للآخرين ) وقد اتفقت كلمة القائلين بالنسخ المجيزين لوقوعه على عدم وقوعه في الأحكام العقلية كلمة القائلين بالنسخ المجيزين لوقوعه على عدم وقوعه في الأحكام العقلية وهي الأحكام التي يدركها العقل بنور البصيرة ويأتي الشرع مؤيدا لها كالإيمان بواحدانية الله تعالى وحسن الصدق والوفاء بالعهد وقبح الكفر والكذب وإخلاف الوعد .
وفي معرض حديثه عن نسخ الأخبار يقول الآمدي في الإحكام : ( إن الخبر إما أن تنسخ تلاوته أو تكليفنا بأن نكون قد كلفنا أن نخبر بشيء فينسخ عنا التكليف بذلك الإخبار ) ويقول البدخشي في ذلك أيضا ( لا خلاف في أن التكليف بالأخبار بشيء من عقلي أو عادي أو شرعي ثم نسخه بعد ذلك جائز ) .
وقد ذهب ابن حزم رحمه الله إلى أن النسخ لا يقع إلا في الأوامر والنواهي فأما الأخبار فلا يقع فيها النسخ إطلاقا ولا يصح أن يقع في مدلول الخبر إلا إن كان المراد من الخبر والأخبار الأمر والنهي . وقد قسم حين تكلم عن نسخ الأخبار الكلام إلى أربعة أقسام أمر ورغبة وخبر واستفهام وبين أن
( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 255)
القسم الأول هو الذي يقع فيه النسخ أما ما سواه فلا يقع فيها . وقد سمى الرجوع عن الأمر بإحداث أمر غيره نسخا وإذا ورد لفظ الكلام كلفظ الخبر ومعناه معنى الأمر جاز النسخ فيه مثل قوله تعالى : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ وقوله تعالى : فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا .
وإذا كان مضمون الخبر مما يتغير جاز نسخه مطلقا وإليه يذهب أبو عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري وهو المختار عند الآمدي ، سواء كان ماضيا أو مستقبلا وقد علل هذا الاختيار بقوله : ( وذلك لأنه إذا ما دل عليه كان الإخبار متكررا والخبر عام فيه فأمكن أن يكون الناسخ مبينا لإخراج بعض ما تناوله اللفظ وأن المراد بعض ذلك المذكور كما في الأوامر والنواهي ) واختار هذا القول ابن تيمية أيضا وذهب فخر الدين الرازي إلى جواز النسخ في مدلول الخبر الذي يتغير . أما أبو الحسين البصري فيجيز نسخ تلاوة الخبر كنسخ تلاوة أخبار التوراة كما يجيز نسخ الابتداء بالخبر نحو أن يأمرنا الله سبحانه أن نخبر عن شيء فيجوز أن ينسخ عنا وجوب الإخبار عنه سواء كان الخبر مما يجوز أن يتغير أو مما لا يجوز أن يتغير كالإخبار عن صفات الله سبحانه ؛ لأنه لا يمتنع أن يكون في الإخبار عن ذلك مفسدة كما كان في تلاوة الجنب والحائض للقرآن مفسدة أما ابن أمير الحاج صاحب ( التقرير والتحبير على تحرير الكمال بن الهمام ) فيقسم مدلول الخبر إلي قسمين :
الأول : إن ترتب على جواز نسخه الكذب والخلف في حق من لا يجوز عليه ذلك فلا يجوز نسخه ويلحق هذا القسم بالأخبار التي يوجبها العقل في عدم جواز نسخها .
الثاني : أنه إن لم يترتب على نسخه الكذب فلا يكون خبرا ويجوز نسخه .
ولقد لخص ابن أمير الحاج موقف العلماء من وقوع النسخ في الأخبار بقوله :
قال الجمهور : لا يجري النسخ في الأخبار سواء كانت ماضية أو مستقبلة؛ لأن النسخ فيها هو الكذب والشارع منزه عنه والحد فيه أن النسخ لا يجري في واجبات العقل بل في جائزاتها وتحقق المخبر به في خبر من لا يجوز عليه الكذب والخلف من الواجبات والنسخ فيه يؤدي إلى الكذب فلا يجوز . ثم ذكر أن هناك من العلماء من قال بجواز نسخ الأخبار مطلقا سواء كانت ماضية أو مستقبلة وعدا أو وعيدا ونسب هذه القول إلى الإمام الرازي والآمدي إذا كان مدلول الخبر مما يتغير . كما ذكر أن صاحب ( كشف الأسرار ) قد أسند هذا القول إلى بعض المعتزلة والأشعرية إذا كان مدلوله متكررا والإخبار عنه عاما . وهناك من العلماء من فرق بين أخبار الوعد وأخبار الوعيد فمنع النسخ في خبر الوعد؛ لأن فيه إخلافا في الإنعام والخلف في الإنعام محال على الله تبارك وتعالى . وأما الوعيد ففي جواز وقوع النسخ فيه حكمة بالغة وهو دليل على عفو الله وكرمه لا على خلفه وخلاصة القول فيما يقع فيه النسخ في القرآن الكريم أنه يقع في الأحكام والفرائض والأوامر والنواهي والحدود والعقوبات من أحكام الدنيا باتفاق عامة العلماء وهو الذي عليه العمل عند فقهاء الأمصار وأما الأخبار فإن لعلماء الأصول في وقوع النسخ فيها من عدمه ثلاثة مذاهب :
1 - منع نسخها مطلقا .
2 - جواز نسخها مطلقا .
3 - التفصيل في ذلك على الوجه الذي أسلفناه مجملا . .
الفصل السابع
أنواع النسخ في القرآن
يقرر الباحثون في علوم القرآن باتفاق أن أنواع النسخ في القرآن الكريم ثلاثة هي :
الأول : ما نسخ رسمه وبقي حكمه كآية الرجم ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لولا أن يقول الناس زاد ابن الخطاب في كتاب الله لكتبت في حاشيته ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) رواه أحمد ومالك في الموطأ وأبو داود . وكذلك آية الرضاع في قول أصحاب الشافعي رحمه الله وقد قالت عائشة رضي الله عنها : ( كان فيما أنزل الله تعالى عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخن بخمس معلومات ) . رواه مالك في الموطأ ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي . فالخمس منها منسوخ الرسم ثابت الحكم عند الشافعي وأصحابه . وقال مالك وأصحاب الرأي بنسخها بالرضعة الواحدة .
والقسم الثاني : ما نسخ حكمه ورسمه معا كالعشر من الرضعات عند الشافعي وأصحابه .
والقسم الثالث : ما نسخ حكمه وبقي رسمه كالآيات المنسوخة أحكامها مع بقاء نظمها في القرآن وقال الزركشي في البرهان حين كر القسم الأول : ( فيعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول ) فجعل شرط العمل به أن يكون مجمعا عليه . ثم قال بعد أن أورد خبر عمر رضي الله عنه الذي ذكر أن البخاري رواه في صحيحه معلقا : ( وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بن كعب : كانت سورة الأحزاب توازي سورة النور فكان فيها ( الشيخ والشيخة ) . . . إلخ . إلى أن قال : وذكر الإمام المحدث أبو الحسين أحمد بن جعفر المنادي في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) مما رفع رسمه من القرآن ولم يرفع من القلوب حفظه سورتا القنوت في الوتر قال : ولا خلاف بين الماضين والغابرين أنهما مكتوبتان في المصاحف المنسوبة إلى أبي بن كعب وأنه ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقرأه إياهما وتسمى سورتي الخلع والحفد . . . ) اهـ .
ثم افترض سؤالا هو : ما الحكمة في رفعه التلاوة مع بقاء الحكم وهلا أبقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟ وذكر أن أبا الفرج بن الجوزي قد أجاب على هذا السؤال المفترض في كتابه ( فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن ) بقوله : إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام والمنام أدنى طرق الوحي .
وقد ذكر الزركشي أن النوع الثاني من الأنواع الثلاثة ورد في ثلاث وستين سورة ثم عاد إلى الأسئلة الافتراضية فقال بعد إيراده بعض الأمثلة على نسخ الحكم وبقاء التلاوة والجواب من وجهين :
أحدهما : إن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه والعمل به فيتلى لكونه كلام الله تعالى فيثاب عليه فتركت التلاوة لهذه الحكمة .
وثانيهما : إن النسخ غالبا يكون للتخفيف فأبقيت التلاوة تذكيرا بالنعمة ورفع المشقة وأما حكمة النسخ قبل العمل كالصدقة عند النجوى فيثاب على الإيمان به وعلى نية طاعة الأمر . وعند كلامه على نسخ الحكم والتلاوة معا قال رحمه الله تعليقا على قول عائشة رضي الله عنها في حديث الرضعات : فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مما يقرأ من القرآن حسب رواية مسلم رحمه الله وقد تكلموا في قولها (وهي مما يقرأ) فإن ظاهره بقاء التلاوة وليس كذلك . فمنهم من أجاب بأن المراد قارب الوفاة . والأظهر أن التلاوة نسخت أيضا ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي وبعض الناس يقرؤها .
وقال أبو موسى الأشعري : نزلت ثم رفعت اهـ وعلق على خبر عائشة أيضا مكي بن أبي طالب بقوله : ( فهذا قول عائشة غريب في الناسخ والمنسوخ ، والناسخ غير متلو والمنسوخ غير متلو وحكم الناسخ قائم ) .
وهذه الأنواع الثلاثة التي ذكرناها إنما هي للنسخ في القرآن الكريم من حيث هو بيد أن مكي بن أبي طالب رحمه الله تعالى قد ذكر في ( الإيضاح ) تقسيما آخر للنسخ باعتبار المنسوخ فأثبت ستة أقسام للمنسوخ من القرآن فيما يلي بيانها :
الأول : ما رفع جل ذكره رسمه من كتابه بغير بدل منه وبقي حفظه في الصدور ومنه الإجماع على ما في المصحف من تلاوته على أنه قرآن وبقي حكمه مجمعا عليه نحو آية الرجم التي تقدم ذكرها .
الثاني : ما رفع الله حكمه من الآي بحكم آية أخرى وكلاهما ثابت في المصحف المجمع عليه متلو وهذا هو الأكثر في المنسوخ ولا يكون في الأخبار على ما قدمنا وقد مضى تمثيله في آية الزواني المنسوخة بالجلد المجمع عليه في سورة النور كلاهما باق متلو كله .
الثالث : ما فرض العمل به لعلة ثم زال العمل به لزوال تلك العلة وبقي متلوا ثابتا في المصحف نحو قوله وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ الآية وقوله تعالى : وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا وقوله : فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا أمروا بذلك كله وفرض عليهم بسبب المهادنة التي كانت بين النبي - عليه الصلاة والسلام- وبين قريش في سنة ست في غزاة الحديبية إذ صدوه عن البيت فلما ذهبت المهادنة وزال وقتها سقط العمل بذلك كله وبقي اللفظ متلوا وثابتا في المصحف الرابع : ما رفع الله رسمه وحكمه وزال حفظه من القلوب . وهذا النوع إنما يؤخذ بأخبار الآحاد وذلك نحو ما روى عاصم ابن بهدلة المقري - وكان ثقة مأمونا- عن زر أنه قال : قال لي أبي : يا زر إن كانت سورة الأحزاب لتعدل سورة البقرة . ومنه ما روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال : نزلت سورة نحو سورة براءة ثم رفعت وذكر أنه حُفظ منها شيء . يقول مكي : أضربت أنا عن ذكره؛ لأن القرآن لا يؤخذ بالأخبار وقد ذكر من نحو هذا أشياء كثيرة اخترت أنا الإضراب عن نصها إشفاقا والله أعلم بذلك كله .
الخامس : ما رفع الله -جل ذكره- رسمه من كتابه فلا يتلى وأزال حكمه ولم يرفع حفظه من القلوب ومنع الإجماع من تلاوته على أنه قرآن . وهذا أيضا إنما يؤخذ من طريق الأخبار نحو ما ذكرنا من حديث عائشة رضي الله عنها في العشر الرضعات والخمس فالأمة مجمعة على أن حكم العشر غير لازم ولا معمول به عند أحد . وإنما وقع الاختلاف في التحريم برضعة على نص القرآن في قوله : وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ أو بخمس رضعات على قول عائشة أنها نسخت العشر وكانت مما يتلى وقد ذكرنا هذا .
السادس : ما حصل من مفهوم الخطاب فنسخ بقرآن متلو وبقي المفهوم ذلك منه متلوا نحو قوله لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى فهم من هذا الخطاب أن السكر في غير وقت الصلاة جائز فنسخ ذلك المفهوم قوله فَاجْتَنِبُوهُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فحرم الخمر والسكر مثل الخمر وبقي المفهوم ذلك منه متلوا قد نسخ أيضا بما نسخ ما فهم منه فيكون فيه نسخان : نسخ حكم ظاهر متلو ونسخ حكم ما فهم من متلوه . وكما قسم مكي رحمه الله النسخ باعتبار المنسوخ فقد قسمه أيضا من حيث الناسخ إلى ثلاثة أقسام هي :
الأول : أن يكون الناسخ فرضا نسخ ما كان فرضا ولا يجوز فعل المنسوخ نحو قوله تعالى وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فرض الله فيها حبس الزانية حتى تموت أو يجعل الله لها سبيلا ثم جعل السبيل بالحدود في سورة النور بقوله فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ فكان الأول فرضا فنسخه فرض آخر ولا يجوز فعل الأول المنسوخ وكلاهما متلو مدني .
الثاني : أن يكون الناسخ فرضا ونحن مخيرون في فعل الأول وتركه وكلاهما متلو وذلك نحو قوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا ففرض الله على الواحد المؤمن ألا ينهزم لعشرة من المشركين ثم نسخ ذلك بقوله الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ ففرض على الواحد المؤمن ألا ينهزم لاثنين من المشركين فنسخ فرض فرضا وكلاهما متلو ولو وقف الواحد لعشرة من المشركين فأكثر لجاز فنحن مخيرون في فعل المنسوخ وتركه .
الثالث : أن يكون الناسخ أمر بترك العمل بالمنسوخ الذي كان فرضا من غير بدل ونحن مخيرون في فعل المنسوخ وتركه وفعله أفضل وذلك كنسخ الله-جل ذكره- قيام الليل وقد كان فرضا فنسخه بالأمر بالترك تخفيفا ورفقا بعباده ونحن مخيرون في قيام الليل وتركه وفعله أفضل وأشرف وأعظم أجرا . ثم ذكر مكي أن قوما قد زادوا في أقسام الناسخ قسما رابعا وهو أن يكون الناسخ فرضا نسخ ما كان ندبا غير فرض كالقتال كان ندبا ثم صار فرضا
آراء العلماء في أنواع النسخ
أما نسخ التلاوة والحكم معا فمما اتفق عليه سائر مجيزي النسخ . وأما نسخ الحكم وبقاء التلاوة فهو رأي الجمهور ومنعه بعض المعتزلة لعدم إدراكهم الحكمة في ذلك . وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فهو رأي الجمهور أيضا مع خلاف بعض المعتزلة . كما خالف رأي الجمهور أيضا في هذا النوع الشيخ محمد الخضري في كتابه ( الأصول ) حيث يقول : أنا لا أفهم معنى آية أنزلها الله لتفيد حكما ثم يرفعها مع بقاء حكمها فما هي المصلحة في رفع آية مع بقاء حكمها؟ إن ذلك غير مفهوم . وفي رأيي ليس هناك ما يلجئني إلى القول به ثم قال (وحجة الجمهور أخبار آحاد لا يقوم برهانا على ذلك) وقد رد صاحب كتاب ( دراسات في الإحكام والنسخ في القرآن الكريم ) الشيخ محمد حمزة على استشكال الخضري بعد إيراده له بقوله : حجة الجمهور أحاديث صحيحة مشهورة لا يبعد أن يدعى تواترها . كما قال شارح مسلم الثبوت وهي تكفي حجة في كل حكم شرعي بل إن آية الرجم ثابتة بالتواتر؛ لأن الإجماع ظاهرها وليس بعد ذلك قول لقائل؛ لأن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعلن ذلك على المنبر على مسمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخالفه أحد ، وعدم مخالفة أحد من الصحابة يعد إجماعا سكوتيا كما اختلفوا في الاحتجاج بحديث الرضعات الخمس الذي روته عائشة رضي الله عنها ومثلنا به لما نسخ حكمه وتلاوته معا حيث إنه آحاد وإذا كان كذلك فإنه لا يثبت به قرآن ناسخا أو منسوخا . وإذا لم يثبت به قرآن فهل يجوز الاحتجاج به أم لا؟ قولان . فالشافعية قالوا نعم والأحناف قالوا : لا وقال الذين يرون الاحتجاج به أنه قد عمل به من الصحابة ابن مسعود وابن الزبير رضي الله عنهما وعمل به من الأئمة الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى .
الفصل الثامن
أمثلة للنسخ وما قيل إنه نسخ وليس بنسخ
أولا : أمثلة للنسخ :
1 - قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ منسوخة قيل بآية المواريث وقيل بحديث ألا لا وصية لوارث وقيل بالإجماع حكاه ابن العربي .
2 - قوله تعالى يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ منسوخة بقوله تعالى وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً أخرجه ابن جرير عن عطاء بن ميسر .
3 - قوله تعالى وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ منسوخة بقوله بعده لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا .
4 - قوله تعالى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ منسوخة بقوله سبحانه وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ .
5 - قوله تعالى وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ
( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 265)
الآية منسوخة بآية النور الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ الآية.
6 - قوله تعالى وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ في آية المائدة منسوخة بإباحة القتال فيه .
7 - قوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ الآية منسوخة بالآية بعدها .
8 - قوله تعالى فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ منسوخة بقولة تعالى وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ الآية .
9 - قوله تعالى أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ منسوخ بقوله وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ .
10 - قوله تعالى انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا منسوخة بآيات العذر كقوله تعالى لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ الآية . وقوله لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ومنسوخة كذلك بقوله تعالى وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً .
11 - قوله تعالى لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ منسوخة بقوله سبحانه يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ الآية .
12 - قوله تعالى إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً منسوخة بقوله تعالى بعدها أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الآية .
13 - قوله تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ منسوخة بقوله فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ على رأي ابن عباس ثانيا : ما توهم أنه نسخ وليس كذلك .
هناك آيات ذكرها بعض من ألفوا في علم الناسخ والمنسوخ على سبيل التوهم منهم إذ لا يصح أن تكون منسوخة ولا علاقة لها بالنسخ يوجه من الوجوه وسنذكر فيما يلي أمثلة لما توهم أنه نسخ وليس كذلك :
1 - قوله تعالى وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وقوله سبحانه أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ونحو ذلك . قالوا : إنه منسوخ بآية الزكاة وليس كذلك بل هو باق .
أما الأولى فإنها خبر في معرض الثناء عليهم بالإنفاق وذلك يصلح أن يفسر بالزكاة وبالإنفاق على الأهل وبالإنفاق في الأمور المندوبة كالإعانة والإضافة وليس في الآية ما يدل على أنها نفقة واجبة غير الزكاة والآية الثانية يصح حملها على الزكاة وقد فسرت بذلك .
2 - قوله تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ . قيل : إنها مما نسخ بآية السيف وليس كذلك لأنه تعالى أحكم الحاكمين أبدا لا يقبل هذا الكلام النسخ وإن كان معناه الأمر بالتفويض وترك المعاقبة .
3 - قوله تعالى وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا عده بعضهم من المنسوخ بآية السيف وقد غلطه ابن الحصار بأن الآية حكاية عما أخذه على بني إسرائيل من الميثاق فهو خبر لا نسخ فيه .
4 - قوله تعالى إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا الآية . وكذلك قوله تعالى وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا الآية وكذلك قوله تعالى فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وهذه الآيات ليس فيها نسخ وليست من بابه وإنما هي من قبيل التخصيص باستثناء أو غاية . وقد أخطأ من أدخلها في المنسوخ .
5 - وكذلك قوله تعالى وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ . قيل : إنه نسخ بقوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ . وليس كذلك وإنما هو مخصوص به .
( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 268)
6 - قوله تعالى فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ . الآية . توهم قوم أن هذا منسوخ بقوله تعالى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ . وليس الأمر كذلك وإنما هو على أحد وجهين :
الأول : أن يكون تحريم وطء الحائض نزل قبل إباحة الوطء ليلة الصيام فنزل ذلك وقد استقر في أنفسهم تحريم وطء الحائض فصارت المباشرة المباحة مخصوصة ليل الصوم في غير الحائض من زوجة وأمة .
الثاني : أن يكون تحريم وطء الحائض نزل بعد هذه الآية فتكون مبينة لها ومخصصة أنها في غير ذوات الحيض فلا يجب أن يدخل هذا في الناسخ والمنسوخ وممن وهم في هذا الباب ابن خزيمة في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) فقد اشتبه عليه التخصيص بالنسخ فعد كثيرا منه نسخا كاعتباره آية إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْـزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ . الآية منسوخة بالاستثناء كلها؛ لأن الله تعالى حرم جميع ذلك ثم أباحها للمضطر بقوله فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وهذا تخصيص لا نسخ كما عد الاستثناء في مواضع كثيرة نسخا أيضا مثل ما جاء في قوله تعالى : أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (159) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا وهو كسابقه من قبيل التخصيص لا النسخ وقد عقد ابن خزيمة بابا خاصا في كتابه المومى إليه لذكر المنسوخ بالاستثناء فحصر الآيات من هذا القبيل بثلاث وعشرين آية .
كما عقد بابين في كتابه المذكور أحدهما لذكر الآيات المنسوخة بآية السيف وهي قوله تعالى فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فعد في هذا مائة وثلاثا وعشرين آية لا تصح دعوى النسخ في واحدة منها .
قال الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير : وأكثر المفسرين يقولون إن كل ما في القرآن من قوله فَأَعْرِضْ منسوخ بآية القتال . وهو باطل؛ لأن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ بها ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم في الأول كان مأمورا بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أمر بإزالة شبههم والجواب عنها فقيل له وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ثم لما لم ينفع ذلك فيهم قيل له أعرض عنهم ولا تقابلهم بالدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به وقاتلهم . والإعراض عن المناظرة شرط لجواز المقاتلة فكيف يكون منسوخا بها . والباب الثاني الذي عقده ابن خزيمة في كتابه هو باب ما نسخ من القرآن بآية القتال وذكر فيه تسع آيات لا تصح دعوى النسخ في أي منها كذلك .
ولعل من المناسب بعد أن ذكرنا بعض الأمثلة لما توهم أنه نسخ وليس بنسخ أن نشير بإيجاز إلى أبرز أسباب توهم النسخ فيما توهموه فيه فنقول :
أولا : اشتباه التخصيص بالنسخ عليهم وقد تقدم مثاله .
ثانيا : ظنهم أن ما شرع لسبب ثم زال لزوال سببه من المنسوخ فعدوا الآيات التي وردت في الحث والصبر وتحمل أذى الكفار أيام ضعف المسلمين منسوخة بآيات القتال وليس الأمر كذلك تحقيقا .
ثالثا : اعتبروا كل قيد لآية من قبيل النسخ كقوله تعالى وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ . فعده ابن خزيمة وغيره ناسخا لعموم المشركين في قوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ مع أنه تخصيص بالقيد .
رابعا : إدخال كثير من الآيات الخبرية في باب المنسوخ مع أنه لا يجوز نسخ الخبر إلا إذا تضمن حكما شرعيا أما إذا كان خبرا محضا فلا ، كما تقدم في موضعه من هذا البحث ومثاله ما قدمناه من اعتبارهم قوله تعالى وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ و أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ منسوخا بآية الزكاة وليس كذلك ومثله أيضا قوله تعالى وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ حيث عدها هبة الدين بن سلامة منسوخة بقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وليس كذلك إذ هما خبران محضان لا يجري النسخ فيهما .
خامسا : اشتباه البيان بالنسخ عليهم كقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا حيث عدها هبة الله بن سلامة منسوخة بقوله تعالى وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ الآية . ثم اعتبر هذه أيضا منسوخة بقوله : وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ حيث قال : فصارت هذه ناسخة لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا الآية . وليس هذا بنسخ وإنما هو بيان لما ليس بظلم ، وببيان ما ليس بظلم يتبين الظلم .
سادسا : توهم وجود تعارض بين نصين ولا تعارض بينهما في الحقيقة كتوهم التعارض بين آية الزكاة وآيات الصدقات الواردة في القرآن الكريم مما حدا بابن سلامة في الناسخ والمنسوخ وابن الجوزي في نواسخه أن يقولا : قال أبو جعفر يزيد بن القعقاع : ( نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن فصارت آية الزكاة ناسخة لكل صدقة ) . مع أنه لا يوجد في الواقع تعارض ولا تناف بين هذه وتلك حيث يصح حمل الإنفاق في آيات الصدقات على ما يشمل الزكاة وصدقة التطوع ونفقة الأهل والأقربين ونحو ذلك وتكون آيات الزكاة من قبيل ذكر فرد من أفراد العام بحكم العام وهذا لا يخصص العام ولا ينسخه وذلك لعدم وجود تعارض حقيقي لا بالنسبة إلى كل فرد من أفراد العام حتى يكون ناسخا ولا بالنسبة إلى بعضها حتى يكون مخصصا .
هذه أبرز أسباب توهم من توهم ما ليس بنسخ نسخا وإلا فإن هناك أسبابا أخرى لا يتسع المجال لذكرها .
خاتمة البحث
وهكذا يتبين لنا بعد التجوال في ميدان هذا العلم من علوم القرآن الكريم أعني ( الناسخ والمنسوخ ) أنه علم من آكد العلوم وأوجبها تعلما وحفظا وبحثا وفهما وخاصة لمن أراد أن يخوض غمار تفسير كتاب الله تعالى وأن يغوص في لجته لاستخراج الدرر الثمينة والجواهر النفيسة . بل إنه علم لا يسع كل من تعلق بأدنى علم من علوم الديانة جهله كما قال ذلك مكي بن أبي طالب القيسي رحمه الله تعالى .
وإن مما يدل على عظم شأن هذا العلم وجليل خطره أن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه عداه شرطا لكون الإنسان عالما . وأن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة اعتبره شرطا للإفتاء بل قال : إنه لا يحل لأحد أن يفتي حتى يعرفه .
وتبين لنا من خلال بحثنا أن النسخ في اللغة معناه الإزالة والتغيير تقول ( نسخت الشمس الظل ) أي أزالته ( ونسخت الريح آثار الدار ) أي غيرتها كما يأتي بمعنى النقل كقولك ( نسخت الكتاب ) إذا نقلت ما فيه . وهو بهذا دائر في ثلاثة أوجه هي : النقل ، والإزالة مع حلول المزيل محل المزال ، والإزالة مع عدم حلول المزيل محل المزال فكأنه بمعنى المحو .
وأنه في الاصطلاح ( رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ) كما هو عند جمهور المحققين .
وهنالك تعريفات اصطلاحية أخرى للنسخ أثبتناها في موضعها لا تخرج في جملتها عن مضمون هذا التعريف .
كما بينا في ثنايا هذا البحث الفرق بين النسخ والتخصيص وقلنا : إن هنالك فروقا سبعة بينهما ذكرناها في موضوعها بالتفصيل مع أمثلتها التي توضحها .
ثم عرجنا على ما يتعلق بشروط النسخ فبينا في الفصل الثالث أن شروط النسخ نوعان : نوع متفق عليه . ونوع مختلف فيه وذكرنا أربعة من الشروط المتفق عليها وسبعة من الشروط المختلف فيها وذكرنا أن صاحب ( نظرية النسخ في الشرائع السماوية ) قد نقل عن الآمدي في ( الأحكام ) والزرقاني في ( مناهل العرفان ) أن الراجح كونه لا داعي لهذه الشروط السبعة المختلف فيها .
ونقلنا عن كل من مكي بن أبي طالب وعبد القاهر بن طاهر البغدادي عددا من الشروط التي يشترطانها لتحقيق النسخ .
ثم انتقلنا إلى استعراض آراء العلماء أفرادا وطوائف في حكم النسخ مع مناقشة تلك الآراء وتفنيد ما تستدعي الحال تفنيده منها وبيان وجه الحق في ذلك مستعرضين أدلة وحجج المجيزين والمانعين له على السواء وقد رأينا أن أدلة المجيزين له هي الأظهر وأن حجتهم هي الأبلغ والأقوى لانطلاقها من كون الله تعالى هو الفعال لما يريد يأمر عباده بما شاء وينهاهم عما يشاء يبقي من أحكامه على ما يشاء وينسخ منها ما يشاء بناء على اختياره ومشيئته وكبريائه وعظمته سبحانه إذ لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا ملزم يلزمه جل وعلا .
وقلنا : إن مذهب هؤلاء المنكرين للنسخ هو أخطر المذاهب وأشنعها في هذا الباب وأبعدها عن الحق وأكثرها مجانبة للصواب وولوغا في الباطل .
واتضح لنا أن هنالك إجماعا على جواز النسخ عقلا ووقوعه سمعا لم يخرج عليه سوى من لا يعتد به كالشمعونية إحدى فرق اليهود الثلاث وبعض نصارى هذا الزمان وأبي مسلم الأصفهاني ومن شايعه الذي يرى أن النسخ جائز عقلا ممتنع سمعا في حين يرى بعض النصارى المعاصرين وكذلك الشمعونيون من اليهود استحالة النسخ وامتناعه عقلا وسمعا .
ورأينا كيف يثير المانعون شبها كثيرة تولى العلماء المختصون رحمهم الله ردها وتفنيدها وإبطالها بكل جلد وقوة وعلم .
أما في الفصل الخامس فقد قمنا بتفسير تحليلي للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم معتمدين في ذلك على النقل عن بعض التفاسير المعتمدة والمعتبرة مشيرين إلى الاختلاف الواقع في قراءة الآية إن وجد موضحين دلالة كل آية منها على النسخ مشيرين إلى الأوجه اللغوية وما حكاه أئمة اللغة وأئمة التفسير معا في إيضاح وبيان معاني تلك الآيات بتفصيل واف لكافة وجوهها وناقشنا بعد ذلك ما يقع فيه النسخ في القرآن الكريم فخلصنا إلى أنه لا يقع إلا في الأوامر والنواهي والأحكام والفرائض والحدود والعقوبات من أحكام الدنيا وهو قول عامة العلماء والذي عليه العمل عند فقهاء الأمصار . وأما الأخبار المحضة وما قص الله علينا من أخبار الجنة والنار والحساب والعقاب والبعث والحشر ونحو ذلك من الأخبار فلا يجوز نسخه ؛ لأن الله سبحانه يتعالى أن يخبر عن الشيء على غير ما هو به .
وقد أطلنا في بيان عدم وقوع النسخ في الأخبار المحضة وذكرنا آراء من شذ عن الإجماع فأجاز النسخ في الأخبار سواء من قيد ذلك بما إذا كان مدلول الخبر مما يتغير كالرازي والآمدي . أو من لم يقيد ذلك بشيء بل أجاز وقوعه فيها مطلقا كأبي الحسين البصري .
وفي الفصل السابع من هذا المبحث تناولنا أنواع النسخ في القرآن وتقرر أنها ثلاثة هي :
ما - نسخ تلاوة وبقي حكما .
ما - نسخ تلاوة وحكما .
ما - نسخ حكما وبقي تلاوة .
كما استعرضنا تقسيما للنسخ باعتبار آخر هو اعتبار المنسوخ فرأينا أن مكي بن أبي طالب قد عد بهذا الاعتبار ستة أقسام .
وكذلك قسم رحمه الله النسخ باعتبار الناسخ إلى ثلاثة أقسام :
وختمنا هذا الفصل ببيان أراء العلماء في أنواع النسخ حيث اتفق سائر مجيزي النسخ على نسخ التلاوة والحكم معا بينما منع بعض المعتزلة نسخ الحكم وبقاء التلاوة وهو النوع الذي يراه الجمهور وكذلك يرى الجمهور أيضا نسخ التلاوة مع بقاء الحكم في الوقت الذي نجد الشيخ محمد الخضري في كتابه ( الأصول ) يخالف رأي الجمهور في ذلك قائلا : ( إن ذلك غير مفهوم وفي رأيي ليس هناك ما يلجئني إلى القول به ) ورد حجة الجمهور في إثبات ذلك النوع بأنها أخبار آحاد لا تقوم برهانا على ذلك .
وقد نقلنا رد الشيخ محمد حمزة في كتابه ( دراسات في الإحكام والنسخ ) على ما أورده الشيخ الخضري .
وأخيرا ختمنا هذا البحث بإيراد أمثلة للنسخ في كتاب الله تعالى وكذلك لما توهم أنه نسخ وليس بنسخ فذكرنا للنسخ ثلاثة عشر مثالا ولما توهموه نسخا وليس كذلك ستة أمثلة .
وأشرنا إلى أن ابن خزيمة ممن وهم في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) فأورد شيئا كثيرا مما عده نسخا وليس به لاشتباه التخصيص والاستثناء لديه بالنسخ .
وأنهينا الفصل الثامن والأخير الذي اشتمل على الأمثلة للنسخ الصحيح والنسخ المتوهم بذكر أبرز أسباب توهم النسخ وقد عددنا منها ستة أسباب رئيسة وأشرنا إلى أن الحيز يضيق عن استقصاء جميع أسباب ذلك التوهم .
والخلاصة أن علم الناسخ والمنسوخ أحد علوم القرآن الكريم التي ينبغي العناية بها وأنه غير التخصيص وأن له شروطا وأنواعا وأن الناس قد اختلفوا حوله بين مجيز ومانع وأن ما عليه جمهور العلماء المحقيقين أنه لا يقع إلا في
( الجزء رقم : 29، الصفحة رقم: 276)
الأمر والنهي لا في الخبر المحض وأن من توهم في النسخ ما ليس منه إنما توهم ذلك بسبب من أسباب عديدة بينها أهل الاختصاص . . .
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
المراجع
1 - كتاب الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى لقتادة بن دعامة السدوسي تحقيق د \ حاتم صالح الضامن ، الطبعة االثانية 1406هـ الناشر مؤسسة الرسالة .
2 - الناسخ والمنسوخ من كتاب الله عز وجل لهبة الله بن سلامة بن نصر المقري تحقيق زهير الشاويش ومحمد كنعان الطبعة الثانية 1406هـ الناشر المكتب الإسلامي .
3 - الناسخ والمنسوخ للإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي تحقيق د \ حلمي كامل أسعد عبد الهادي . الطبعة الأولى سنة 1407هـ الناشر دار العدوي عمان الأردن .
1 - الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي بن أبي طالب . الطبعة الأولى سنة 1406هـ تحقيق الدكتور أحمد حسن فرحات . الناشر دار المنارة بجدة .
2 - ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه لابن البارزي . تحقيق د \ حاتم الضامن . الطبعة الثالثة 1405 هـ مؤسسة الرسالة .
3 - الموافقات للشاطبي . نشر المكتبة التجارية الكبرى بمصر .
4 - البرهان في علوم القرآن للزركشي . الطبعة الثالثة . نشر وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد .
5 - الإتقان في علوم القرآن للسيوطي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم . الطبعة الثالثة 1405 هـ . نشر وتوزيع دار التراث بالقاهرة .
6 - مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني . الطبعة الثالثة مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه .
10 - مباحث العرفان في علوم القرآن للشيخ مناع القطان . الطبعة التاسعة عشرة 1406 هـ مؤسسة الرسالة .
11 - نظرية النسخ في الشرائع السماوية لشعبان إسماعيل . مطابع الدجوي القاهرة . عابدين .
12 - دراسات في الإحكام والنسخ لمحمد حمزة . الطبعة الأولى . نشر دار قتيبة .
13 - تفسير ابن الجوزي ( زاد المسير ) الطبعة الثالثة 1404هـ . المكتب الإسلامي .
14 - تفسير القرآن العظيم لابن كثير نشر دار المعرفة . بيروت . لبنان سنة 1401هـ .
15 - تفسير أبي السعود . الناشر مكتبة الرياض الحديثة سنة 1401هـ نشر وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد .
16 - فتح القدير للشوكاني . الناشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع سنة 1401هـ .
17 - تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار لمحمد رشيد رضا . الطبعة الثانية . الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر . بيروت . لبنان .
18 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لابن سعدي . طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد . الرياض سنة 1404هـ .
19 - معجم مقاييس اللغة لابن فارس . تحقيق وضبط عبد السلام محمد هارون . الناشر دار الفكر سنة 1399هـ .
20 - الصحاح للجوهري . الطبعة الثانية 1399هـ . الناشر دار العلم للملايين بيروت .
21 - المصباح المنير للمقري الفيومي . نشر المكتبة العلمية . بيروت . لبنان .
22 - المعجم الوسيط من وضع وإعداد مجمع اللغة العربية بالقاهرة الطبعة الثانية . مطابع دار المعارف بمصر 1393 هـ . توزيع دار الباز بمكة .
23 - التقرير والتحبير على تحرير الكمال بن الهمام .
24 - شرح البدخشي على شرح الإسنوي على منهاج الأصول للبيضاوي . مطبعة محمد علي صبح بمصر .
25 - الإحكام للآمدي . الطبعة الأولى 1378هـ .
26 - الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم . تحقيق أحمد شاكر . مطبعة العاصمة بالقاهرة .
27 - المسودة لابن تيمية . مطبعة المدني بالقاهرة 1384 هـ تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد .
28 - المعتمد لأبي الحسين البصري تحقيق محمد حميد الله طبع دمشق 1384 هـ .
29 - النسخ في دراسات الأصوليين . الطبعة الأولى 1405هـ الناشر مؤسسة الرسالة .
عبد الله بن حمد بن عبد الله الشبانة .
- من مواليد مدينة المجمعة عام 1367 هـ .
- حصل على شهادة الابتدائية في الرياض عام 1379 هـ .
- تخرج من معهد الرياض العلمي عام 1384 هـ .
- تخرج من كلية اللغة العربية عام 1389هـ .
- عمل بالتدريس في المعاهد العلمية مدة ثلاث سنوات ، ثم التحق بديوان الموظفين العام ( ديوان الخدمة المدنية - حاليا - عام 1393هـ ، ثم التحق بوزارة الإعلام عام 1394هـ ، ثم التحق للعمل في مجال الدعوة بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، مديرا لمركز الدعوة والإرشاد بظفار في المنطقة الجنوبية لسلطنة عمان عام 1399هـ ثم مديرا لمركز الدعوة والإرشاد بالفجيرة بدولة الإمارات العربية المتحدة عام 1401هـ ، ثم رشح مديرا عاما للرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عام 1403هـ ، ثم عين أمينا عاما مساعدا لهيئة كبار العلماء عام 1406هـ وهو عمله الحالي .
له من المؤلفات :
1- كتاب : موجز القول .
2- كتاب : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء .
3- كتاب : خطرات ونظرات .
4- كتاب : المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية .
5- الزفرات الحرى " ديوان شعر " .
6- تحية للوطن " ديوان شعر " .
كما أن له بعض البحوث والمقالات المنشورة في الصحف والمجلات المحلية والإسلامية .