عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام
إعداد مركز المحتوى القرآني
آل عمران واصطفاؤهم على العالمين
اصطفى الله آدم وذريته على سائر خلقه، واصطفى من هذه الذرية أنبياء ورسلاً مبشرين ومنذرين، كما اصطفى آل عمران على العالمين.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 33- 34].
ومن آل عمران كانت مريم بنت عمران، ومن مريم كان المسيح عيسى عليه السلام.
وقبل الحديث عن عيسى عليه السلام تلزم الإشارة إلى نشأة أمه مريم بنت عمران الصديقة التي أنبتها الله نباتاً حسناً، وزادها شرفاً بأن كفلها زكريا.
وقبل الحديث عن نشأة هذه الأم لزم الحديث عن بيتها الذي تنتمي إليه والذي اصطفاه الله تعالى على العالمين.
فلماذا خصهم الله بالذكر؟ وما أثرهم في تنشئة ابنتهم نشأة صالحة؟ وما هي علاقتهم بزكريا عليه السلام؟
"إن الله اجتبى آدم ونوحاً واختارهما لدينهما، وآل إبراهيم وآل عمران لدينهم الذي كانوا عليه؛ لأنهم كانوا أهل الإسلام.
فأخبر الله عز وجل أنه اختار دين من ذكرنا على سائر الأديان التي خالفته.
وإنما عنى بـ: (آل إبراهيم وآل عمران): المؤمنين. ([1]
نذر امرأة عمران
كانت امرأة عمران حاملاً، وقد نذرت ما في بطنها لله تعالى ولطاعته.
قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [آل عمران: 35- 36].
والمراد: "إني جعلت لك يا رب نذراً أن لك الذي في بطني محرراً لعبادتك.
يعني بذلك: حبسته على خدمتك وخدمة قدسك في الكنيسة، عتيقة من خدمة كل شيء سواك، مفرغة لك خاصة. ([2]) "
كانت أنثى وليس الذكر كالأنثى:
قالت امرأة عمران بعد أن ولدت ابنتها: "اعتذاراً إلى ربها مما كانت نذرت في حملها فحررته لخدمة ربها: (وليس الذكر كالأنثى)؛ لأن الذكر أقوى على الخدمة وأقوم بها، وأن الأنثى لا تصلح في بعض الأحوال لدخول القدس والقيام بخدمة الكنيسة، لما يعتريها من الحيض والنفاس. ([3]) "
فسمتها مريم، وأعاذتها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم.
"تعني بقولها: (وإني أعيذها بك وذريتها)، وإني أجعل معاذها ومعاذ ذريتها من الشيطان الرجيم، بك.
وأصل المعاذ: الموئل والملجأ والمعقل.
فاستجاب الله لها، فأعاذها الله وذريتها من الشيطان الرجيم، فلم يجعل له عليها سبيلاً. ([4]) "
فهل تقبل الله تعالى نذر امرأة عمران؟ وكيف كانت نشأة مريم عليها السلام؟
النذر
بين القبول الحسن والإنبات الحسن
لما نذرت امرأة عمران ما في بطنها لله عز وجل، ثم وضعتها أنثى، اعتذرت إلى ربها بأن الذكر ليس كالأنثى، وهو أعلم بذلك سبحانه، وقد تقّبل نذرها بقبول حسن، وأنبت ابنتها مريم نباتاً حسناً.
قال تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 37].
القبول الحسن:
"يعني بذلك: أن الله جل ثناؤه تقبّل مريمَ من أمها حَنَّة، وتحريرَها إياها للكنيسة وخدمتها وخدمة ربها بقبول حسن. ([5]) "
النبات الحسن:
قال ابن جرير: " وأما قوله: (وأنبتها نباتًا حسنًا)، فإن معناه: وأنبتها رَبُّها في غذائه ورزقه نباتاً حسناً، حتى تمّت فكملت امرأةً بالغةً تامة. ([6]) "
وقال ابن كثير: " أي جعلها شكلاً مليحاً ومنظراً بهيجاً، ويسر لها أسباب القبول، وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم العلم والخير والدين. ([7]) "
فمن هم العباد الصالحون الذين اقترنت بهم مريم عليها السلام؟ وكيف يسّر الله تعالى لها أسباب ذلك؟
اختصام الملأ في كفالة مريم
اختصم الملأ في مريم، كل منهم يريد ضمها إلى كفالته؛ طلباً للأجر، ولما كان هذا الخبر خفياً على بعض أهل زمانهم، امتن الله به على نبيه صلى الله عليه وسلم، فكانت أنباء الغيب أحد أدلة نبوته، وصدق ما جاء به من الوحي.
قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران: 44].
"ويعني بـ: الغيب: أنها من خفيّ أخبار القوم التي لم تطَّلع أنت، يا محمد، عليها ولا قومك، ولم يعلمها إلا قليلٌ من أحبار أهل الكتابين ورهبانهم.
ثم أخبر تعالى ذكره نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أنه أوحى ذلك إليه، حجةً على نبوته، وتحقيقاً لصدقه، وقطعًا منه به عذرَ منكري رسالته من كفار أهل الكتابين، الذين يعلمون أنّ محمداً لم يصل إلى علم هذه الأنباء مع خفائها، ولم يدرك معرفتها مع خُمولها عند أهلها، إلا بإعلام الله ذلك إياه.
إذ كان معلوماً عندهم أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم أميٌّ لا يكتب فيقرأ الكتب، فيصل إلى علم ذلك من قِبَل الكتب، ولا صاحبَ أهل الكتُب فيأخذ علمه من قِبَلهم. ([8]) "
المراد بـأقلامهم:
"سهامهم التي استهم بها المتسهمون من بني إسرائيل على كفالة مريم. ([9]) "
وذلك حين "اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفلها، وذلك لرغبتهم في الأجر. ([10]) "
فمن الذي قرعهم وكفل مريم؟
زكريا عليه السلام كفيل مريم
قال تعالى: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 37].
ضم زكريا مريم إليه بالقُرْعة التي أخرجها اللهُ له، والآية التي أظهرَها لخصومه فيها، فجعله بها أولى منهم، إذ قَرَعَ فيها من شاحَّه فيها.
فقد تنازع زكريا وخصومه في مريم أيهم يكفلها، فتساهموا بقداحهم، فرموا بها في نهر الأردن، فارتز قدح زكريا عليه السلام، كما قال بعض أهل العلم.
فقام ولم يجرِ به الماء، وجرى بقداح الآخرين، فكانت علماً على أن زكريا عليه السلام أحق المتنازعين في مريم بكفالتها.
وبيّن ابن جرير أن ذلك كان قضاءً من الله بها لزكريا على خصومه، بأنه أولاهم بها، وإذْ كان ذلك كذلك، فإنما ضمها زكريا إلى نفسه بضمّ الله إياها إليه بقضائه له بها على خصومه عند تَشاحِّهم فيها، واختصامهم في أولاهم بها. ([11])
فازداد تشريف مريم عليها السلام، وكانت نعمة امتن الله عليها وعلى أهلها أن كان كافلها نبي كريم من أنبياء الله تعالى، وهو زكريا عليه السلام.
فنشأت نشأة صالحة، وتعلمت الخير والعبادة والدين؛ لاقترانها بالصالحين.
وكان تعبدها في المحراب، ويقينها بالله عز وجل، والرزق الذي جاءها في غير ميعاده، آية لزكريا عليه السلام فتحت له أبواب الخير والرجاء والطمع في كرم الله سبحانه، واليقين بإنعامه وإحسانه.
قال تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: 38- 39].
فما هي الحال التي كان يجدها عليها زكريا كلما دخل عليها المحراب؟ وما كان جواب مريم عن ذلك؟
إن الله يرزق من يشاء بغير حساب
تحمل قص مريم وابنها المسيح عليهما السلام من العجائب والمعجزات شيئاً كثيراً، ومن ذلك أن الرزق يأتيها في المحراب مع انقطاعها للعبادة فيه؛ بل يأتيها في غير الأوان الذي اعتاده الناس.
قال تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 37].
"قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أن زكريا كان كلما دخل عليها المحرابَ، بعد إدخاله إياها المحراب، وجد عندها رزقاً من الله لغذائها.
فقيل إن ذلك الرزقَ الذي كان يجده زكريا عندها، فاكهةُ الشتاء في الصيف، وفاكهةُ الصيف في الشتاء." ([12])
"وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن زكريا كان إذا دخل إليها المحراب وجد عندها من الرزق فضلاً عما كان يأتيها به، الذي كان يَمُونها في تلك الأيام. ([13])"
والمحراب:
"مقدم كل مجلس ومصلًّى، وهو سيد المجالس وأشرفُها وأكرمُها، وكذلك هو من المساجد. ([14])"
حسن الجواب واليقين بما عند العزيز الوهاب:
"قال زكريا: يا مريم: أنَّى لك هذا؟ من أي وجه لك هذا الذي أرَى عندك من الرزقَ؟
قالت مريم مجيبة له: (هو من عند الله)، تعني: أن الله هو الذي رزقها ذلك فساقه إليها وأعطاها.
وإنما كان زكريا يقول ذلك لها؛ لأنه كان - فيما ذكر لنا - يُغلِق عليها سبعة أبواب، ويخرج، ثم يدخل عليها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فكان يعجب مما يرى من ذلك، ويقول لها تعجباً مما يرى: أنَّى لك هذا؟ فتقول: من عند الله. ([15])"
اصطفاء مريم على نساء العالمين
لم يكن اصطفاء مريم تبعاً لاصطفاء آل عمران وحسب؛ بل اصطفاها المولى سبحانه وتعالى اصطفاءً بعد اصطفاء.
فلماذا ورد الاصطفاء مرتين في الآية ذاتها؟ وهل هما بمعنى؟
قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [آل عمران: 42- 43].
اصطفاك:
"اختارك واجتباك لطاعته وما خصك به من كرامته.
وقوله: (وطهرك)، يعني: طهر دينك من الريب والأدناس التي في أديان نساء بني آدم.
(واصطفاك على نساء العالمين)، يعني: اختارك على نساء العالمين في زمانك، بطاعتك إياه، ففضلك عليهم، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد) [صحيح البخاري، ح 3432] يعني بقوله: (خير نسائها)، خير نساء أهل الجنة. ([16]) "
قال ابن كثير: "هذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم عليها السلام عن أمر الله لهم بذلك، أن الله قد اصطفاها أي اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وطهارتها من الأكدار والوساوس، واصطفاها ثانياً مرة بعد مرة لجلالتها على نساء العالمين." ([17])
قنوت مريم:
"(يا مريم اقنتي لربك): أخلصي الطاعة لربك وحده. ([18]) "
اقتران العبادة بالشكر:
"يا مريم أخلصي عبادة ربك لوجهه خالصاً، واخشعي لطاعته وعبادته مع من خشع له من خلقه، شكراً له على ما أكرمك به من الاصطفاء والتطهير من الأدناس، والتفضيل على نساء عالم دهرك. ([19]) "
ويتبين مما سبق أن الاصطفاء الأول لمريم عليها السلام غير الاصطفاء الثاني؛ لأن العطف يقتضي التغاير في المعنى، ولم يقع تكرار بين متجاورين في القرآن الكريم.
وهذا يدل على مزيد تشريف لهذه الصدّيقة، ومزيد عناية بها.
والله سبحانه أعلى وأعلم.
مريم إذ انتبذت من أهلها مكان شرقياً
قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم: 16- 17].
"لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولداً زكياً طاهراً مباركاً، عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى عليهما السلام منها من غير أب، فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة، ولهذا ذكرهما في آل عمران وهاهنا، وفي سورة الأنبياء يقرن بين القصتين؛ لتقارب ما بينهما في المعنى، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه، وأنه على ما يشاء قادر، فقال: (واذكر في الكتاب مريم).
وهي مريم بنت عمران من سلالة داود عليه السلام، وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل، وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمها لها في سورة آل عمران، وأنها نذرتها محررة، أي تخدم مسجد بيت المقدس، وكانوا يتقربون بذلك ﴿فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً﴾ [آل عمران: 37] ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة، فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب، وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك، وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم، ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره.
﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 37].
فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف، وثمر الصيف في الشتاء، كما تقدم بيانه في سورة آل عمران، فلما أراد الله تعالى وله الحكمة والحجة البالغة، أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، أي اعتزلتهم وتنحت عنهم، وذهبت إلى شرق المسجد المقدس. ([20]) "
"وقوله: (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا) يقول: فاتخذت من دون أهلها ستراً يسترها عنهم وعن الناس، وذُكر عن ابن عباس، أنها صارت بمكان يلي المشرق؛ لأن الله أظلها بالشمس، وجعل لها منها حجاباً. ([21]) ".
بين مريم وجبريل عليهما السلام
حوار وبشرى
لما استترت مريم عن أهلها، أرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام على صورة إنسان كامل، ودار بينهما حوار صورته الآيات الكريمة التالية:
قال تعالى: ﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم: 17- 21].
وقال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ﴾ [آل عمران: 45- 48].
فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام فتمثل لها بشراً سوياً، أي على صورة إنسان تام كامل. والروح هنا هو جبريل عليه السلام وهو ظاهر القرآن، وقال تعالى في الآية الأخرى: ﴿نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين﴾ [الشعراء: 193- 194]. ([22])
تضمن الحوار:
1- استعاذة مريم بالرحمن.
2- بيان جبريل عليه السلام عن نفسه، وأنه مرسل من عند الله تعالى.
3- بيان مضمون الرسالة، وهو هبة مريم غلاماً زكياً وبشارتها به، وبما يكون عليه، وهو المسيح عيسى عليه السلام.
ولأنها لم تكن ذات زوج، ولم تكن بغياً أنكرت أن يكون لها هذا الغلام، فأجابها جبريل عليه السلام بالحكمة الربانية من ذلك، قال تعالى: ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم: 21].
استعاذة مريم بالرحمن:
{قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً}.
"أي إن كنتَ تخاف الله تذكيراً له بالله وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل، فالأسهل، فخوفته أولا بالله عز وجل. ([23]) "
(قال إنما أنا رسول ربك):
"أي فقال لها الملك مجيباً لها ومزيلاً لما حصل عندها من الخوف على نفسها لست مما تظنين ولكني رسول ربك أي بعثني الله إليك. ([24]) "
(لأهب لك غلاماً زكياً):
"(قالت أنى يكون لي غلام): أي فتعجبت مريم من هذا وقالت: كيف يكون لي غلام؟ أي على أي صفة يوجد هذا الغلام مني، ولست بذات زوج، ولا يتصور مني الفجور، ولهذا قالت: ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً، والبغي هي الزانية. ([25]) "
(قال كذلك قال ربك هو علي هين):
"أي فقال لها الملك مجيباً لها عما سألت: إن الله قد قال إنه سيوجد منك غلاماً وإن لم يكن لك بعل، ولا توجد منك فاحشة، فإنه على ما يشاء قادر، ولهذا قال: (ولنجعله آية للناس) أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع في خلقهم، فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى إلا عيسى، فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر، فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه.
وقوله: (ورحمة منا) أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله ونبياً من الأنبياء، يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده، كما قال تعالى في الآية الأخرى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: 45- 46] أي يدعو إلى عبادة ربه في مهده وكهولته. ([26]) "
ولادة المسيح عيسى عليه السلام
وُلد نبي الله عيسى عليه السلام، ولادة معجزة من أم دون أب، وقد كفى الله مريم مؤونة الرد على قومها إذا سألوها عن هذا الولد، فأنطقه الله وهو في المهد.
قال تعالى: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [مريم: 27- 37].
"يقول تعالى مخبراً عن مريم حين أُمرت أن تصوم يومها ذلك، وألّا تُكلم أحداً من البشر، فإنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها، فسلمت لأمر الله عز وجل واستسلمت لقضائه، فأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله، فلما رأوها كذلك أعظموا أمرها واستنكروه جداً، وقالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً، أي أمراً عظيماً. ([27]) "
أخت هارون:
قد يظن بعضهم أن المراد بـ: (أخت هارون) أي: شقيقته، والمراد هو شبيهته في العبادة، وقد يأتي لفظ: (الأخوة) في القرآن الكريم للدلالة على القرناء المتشابهين في النهج والأفعال، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء: 27].
قال ابن كثير: "يا أخت هارون أي يا شبيهة هارون في العبادة، ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً، أي: أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة، فكيف صدر هذا منك؟ ([28]) "
فما كان منها إلا أن أشارت إلى ولدها، فاستنكر قومها وقالوا:
كيف نكلم من كان في المهد صبياً؟
"أي إنهم لما استرابوا في أمرها، واستنكروا قضيتها، وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرية، وقد كانت يومها ذلك صائمة صامتة، فأحالت الكلام عليه، وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه، فقالوا متهكمين بها ظانين أنها تزدري بهم وتلعب بهم كيف نكلم من كان في المهد صبياً. ([29]) "
"أي من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره، كيف يتكلم؟ قال: إني عبد الله، أول شيء تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى وبرأه عن الولد، وأثبت لنفسه العبودية لربه.
وقوله: (آتاني الكتاب وجعلني نبياً) تبرئة لأمه مما نسبت إليه من الفاحشة.([30])"
فكان في كلام عيسى عليه السلام في المهد معجزة دالة على قدرة الخالق جل وعلا من جهة، ومن جهة أخرى شهادة براءة لأمه الصدّيقة مما رُميت به.
فأفحم قومها، وألجم أفواههم، وكلّ من جاء بعدهم.
الثناء القرآني على مريم بنت عمران
لم ترد امرأة باسمها الصريح في القرآن الكريم سوى مريم عليها السلام، وشرّف الله ذكرها في كثير من آياته، كما في سورة آل عمران، وسورة مريم، وكان من جملة ما أثنى الله عليها به أن جعلها مثلاً يضرب للذين آمنوا، ووصفها بالصّدّيقة.
مثل للمؤمنين:
لما اصطفى الله تبارك وتعالى مريم على نساء العالمين، ضربها مثلاً للمؤمنين.
قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ [التحريم: 11- 12].
"يقول تعالى ذكره: (وضرب الله مثلا للذين آمنوا) (ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها) يقول: التي منعت جيب درعها جبريل عليه السلام، وكل ما كان في الدرع من خرق أو فتق، فإنه يسمى فرجاً، وكذلك كل صدع وشق في حائط، أو فرج سقف فهو فرج.
وقوله: (فنفخنا فيه من روحنا) يقول: فنفخنا فيه في جيب درعها، وذلك فرجها، من روحنا من جبرئيل، وهو الروح. ([31]) "
وقال ابن كثير: "وقوله تعالى: (ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها) أي حفظته وصانته، والإحصان هو العفاف والحرية، (فنفخنا فيه من روحنا) أي بواسطة الملك وهو جبريل فإن الله بعثه إليها فتمثل لها في صورة بشر سوي، وأمره الله تعالى أن ينفخ بفيه في جيب درعها، فنزلت النفخة فولجت في فرجها فكان منه الحمل بعيسى عليه السلام، ولهذا قال تعالى: (فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه) أي بقدره وشرعه وكانت من القانتين. ([32]) "
مريم الصِّدِّيقة:
قال تعالى: ﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المائدة: 75].
ومعنى صدّيقة: " أي بليغة الصدق في نفسها، والتصديق لما ينبغي أن يصدق، فرتبتها تلي رتبة الأنبياء. ([33]) "
وهذا تشريف لها، وتكريم، ورفعة لمقامها، إذ جعل رتبتها تلي رتبة الأنبياء عليهم السلام.
معجزات المسيح عليه السلام
جاء عيسى عليه السلام بالبينات، وأيده الله تعالى بروح القدس، وهو جبريل عليه السلام، وكانت المعجزات التي أجراها الله تعالى على يدي المسيح عليه السلام من جنس ما برع فيه القوم الذين أُرسل إليهم.
وفي معرض الحديث عن معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ضرب ابن جرير مثالاً على معجزات الأنبياء عليهم السلام بـمعجزات عيسى عليه السلام: "إحياء الموتى وإبراء الأبرص وذوي العمى، بارتفاع ذلك عن مقادير أعلى منازل طبّ المتطببين وأرفع مراتب عِلاج المعالجين، إلى ما يعجز عنه جميع العالَمِين. ([34]) "
قال تعالى: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ [آل عمران: 46- 50].
وقال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة: 110].
ومن المعجزات التي حدثتنا عنها الآيات:
1- إحياء الموتى بإذن الله تعالى.
3- إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى.
والأكمه هو: "الأعمى الذي لا يبصر شيئاً، المطموس البصر. ([35]) "
3- يخلق من الطين كهيئة الطير فيكون طيراً بإذن الله تعالى.
"أي تصوره وتشكله على هيئة الطائر بإذني لك في ذلك، (فتكون طيراً بإذني) أي فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك فتكون طيراً ذا روح تطير بإذن الله وخلقه. ([36]) "
مناسبة معجزات المسيح عليه السلام لأهل زمانه:
بُعث عيسى عليه السلام "في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيداً من الذي شرع الشريعة، فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه والأبرص، وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد. ([37]) "
الحواريون
أنصار عيسى عليه السلام إلى الله
لما أرسل الله نبيّه عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل، " فأتم لهم الدلائل، ونفى الشبه على ما أمره به الذي أرسله سبحانه وتعالى، وعلموا أنه ناسخ لا مقرر، فتابعه قوم وخالفه آخرون، فغطوا جميع الآيات، وأعرضوا عن الهدى والبينات، ونصبوا له الأشراك والحبائل، وبغوه الدواهي والغوائل، فضلوا على علم، وظهر منهم الكفر البين، واعوجوا عن الصراط المستقيم. ([38]) "
﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 52- 54].
الحواريون:
اختلف في معنى الحواريين على أقوال، ومنها ما رجحه الطبري: " قولُ من قال: سموا بذلك لبياض ثيابهم، ولأنهم كانوا غسّالين.
وذلك أن الحوَر عند العرب شدة البياض، ولذلك سمي الحُوَّارَى من الطعام حُوّارَى؛ لشدة بياضه، ومنه قيل للرجل الشديد البياض مقلة العينين: (أحور)، وللمرأة (حوراء).
وقد يجوز أن يكون حواريو عيسى كانوا سُمُّوا بالذي ذكرنا، من تبييضهم الثيابَ، وأنهم كانوا قصّارين، فعرفوا بصحبة عيسى، واختياره إياهم لنفسه أصحابًا وأنصارًا، فجرى ذلك الاسم لهم، واستُعمل، حتى صار كل خاصّة للرجل من أصحابه وأنصاره: حواريُّه. ([39]) "
فأظهر الحواريون إيمانهم، ونصرتهم، وأشهدوا نبيهم على إسلامهم.
قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ [المائدة: 111].
المائدة
كان من الآيات التي طلبها الحواريون من نبيهم عيسى عليه السلام: المائدة، وكشفت الآيات عن أغراضهم من هذا الطلب، وهي:
1- أن يأكلوا منها.
2- تطمئن قلوبهم.
3- يعلموا صدق نبيهم عليه السلام، ويوقنوا بذلك.
4- أن يكونوا عليها من الشاهدين.
قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: 112- 115].
"هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة، فيقال سورة المائدة، وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها، فأنزلها الله آية باهرة وحجة قاطعة، وقد ذكر بعض الأئمة أن قصتها ليست مذكورة في الإنجيل، ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين، فالله أعلم، فقوله تعالى: (إذ قال الحواريون) وهم أتباع عيسى عليه السلام، (يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك) هذه قراءة كثيرين، وقرأ آخرون: (هل تستطيع ربَّك) أي: هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء والمائدة هي الخوان عليه الطعام، وذكر بعضهم:
أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم، فسألوه أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها ويتقوون بها على العبادة، (قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) أي فأجابهم المسيح عليه السلام قائلاً لهم: اتقوا الله ولا تسألوا هذا، فعساه أن يكون فتنة لكم، وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين، (قالوا نريد أن نأكل منها) أي نحن محتاجون إلى الأكل منها، وتطمئن قلوبنا إذا شاهدنا نزولها رزقاً لنا من السماء، ونعلم أن قد صدقتنا، أي ونزداد إيماناً بك وعلماً برسالتك ونكون عليها من الشاهدين أي ونشهد أنها الآية من عند الله، ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به. قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا. ([40]) "
بشارة عيسى عليه السلام بمحمد صلى الله عليه وسلم
كان عيسى عليه السلام حلقة متصلة في سلسلة الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى، وأرسلهم إلى خلقه؛ ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور.
قال تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 163- 164].
وقد بشّر هذا النبي الكريم ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الصف: 6- 7].
يعني عيسى عليه السلام بقوله هذا: "التوراة قد بشرت بي وأنا مصداق ما أخبرت عنه، وأنا مبشر بمن بعدي وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد.
فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملإ بني إسرائيل مبشراً بمحمد وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبوة. ([41]) "
محمد هو أحمد:
ذكر الله تعالى في محكم تنزيله أن عيسى عليه السلام بشّر بنبي يأتي من بعده اسمه أحمد، وهو نبينا الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث الشريف مصداق هذه الآية الكريمة، وبيان أن محمداً عليه الصلاة والسلام له أسماء، ومنها: (أحمد).
قال صلى الله عليه وسلم: (إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب). [البخاري 4896، مسلم 2354]
غلو النصارى في المسيح عليه السلام
كان لعيسى عليه السلام أنصار آمنوا بالله تعالى.
كما كان بدعوته كفار.
وهناك فئات أخرى غالت في هذا النبي الكريم، وهم في ذلك مذاهب ثلاثة:
1- القائلون بأن المسيح عليه السلام هو الله.
2- القائلون بأن المسيح عليه السلام هو ابن الله.
قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة: 30- 32].
3- القائلون بأن الله ثالث ثلاثة.
تعالى الله عمّا يقول الظالمون علواً كبيراً.
وقد عرض القرآن الكريم هذه الأقاويل الباطلة، ودحضها بالحجة والبرهان.
من ملامح المنهج القرآني في دحض دعوى الغالين في المسيح عيسى عليه السلام:
أولاً: إثبات القدرة الإلهية فلا راد لمشيئته ولا قاضي بعد قضائه ولا متصرف في ملكه:
قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [المائدة: 17].
ثانياً: بيان منهج المسيح عليه السلام على لسانه وبراءته من المشركين:
قال تعالى ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: 72- 79].
وقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [المائدة: 116- 120].
ثالثاً: الاستدلال ببشرية المسيح عليه السلام وأمه:
قال تعالى: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [المائدة: 75- 76].
والمراد: بقوله" (كانا يأكلان الطعام) أي يحتاجان إلى التغذية به، وإلى خروجه منهما، فهما عبدان كسائر الناس، وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة. ([42]) "
رابعاً: عدم استكبار المسيح عليه السلام عن عبادة الله عز وجل:
قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾ [النساء: 171- 172].
ومعنى يستنكف:
"لن يأنف ولن يستكبر المسيح أن يكون عبدا لله، يعني: من أن يكون عبدا لله. ([43]) "
الإنجيل
كتاب الله المنزل على عيسى عليه السلام
كان الكتاب الذي آتاه الله تعالى نبيه الكريم عيسى عليه السلام، هو الإنجيل.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: 27].
"(وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) يعني: الذين اتبعوا عيسى على منهاجه وشريعته، (رَأْفَة) وهو أشدّ الرحمة، (وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا) يقول: أحدثوها (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) يقول: ما افترضنا تلك الرهبانية عليهم، (إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) يقول: لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا). ([44]) "
وقد وصف الله تعالى الإنجيل بأن فيه هدى ونور.
قال تعالى: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 46].
"(وقفينا) أي أتبعنا على آثارهم، يعني أنبياء بني إسرائيل (بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة) أي مؤمناً بها حاكماً بما فيها، (وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور) أي هدى إلى الحق ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات، (ومصدقاً لما بين يديه من التوراة) أي متبعاً لها غير مخالف لما فيها إلا في القليل مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخباراً عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران: 50].([45]) "
وأمر أتباعه بأن يحكموا بما أنزل الله تعالى فيه.
قال تعالى: ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 47].
ويلاحظ مدى دقة التعبير القرآني، وبلاغته، فالأمر بالحكم بما في الإنجيل مقيد بما أنزل الله فيه؛ لأنه قد حُرّف فيما بعد، وجيء فيه بما لم يُنزل الله تبارك وتعالى.
إقامة التوراة والإنجيل سبيل النجاة والرزق والفلاح:
قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 65- 66].
وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 68].
مثل عيسى عند الله كمثل آدم
قال تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران: 59- 61].
"ذكر أهل التأويل أن الله عز وجل أنزل هذه الآية احتجاجاً لنبيه صلى الله عليه وسلم على الوفد من نصارى نجران الذين حاجوه في عيسى. ([46]) "
قال ابن كثير: " يقول جلا وعلا: إن مثل عيسى عند الله في قدرة الله حيث خلقه من غير أب كمثل آدم حيث خلقه من غير أب ولا أم؛ بل خلقه من تراب (ثم قال له كن فيكون) فالذي خلق آدم من غير أب، قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى، وإن جاز ادعاء النبوة في عيسى؛ لكونه مخلوقاً من غير أب، فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل، فدعواه في عيسى أشد بطلاناً وأظهر فساداً؛ ولكن الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أثنى بلا ذكر، كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى، ولهذا قال تعالى في سورة مريم: ﴿ولنجعلَهُ آيةً للناسِ﴾ [مريم: 21] وقال هاهنا: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [آل عمران: 60]، أي هذا هو القول الحق في عيسى الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
ثم قال تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾ [آل عمران: 61]:
أي نحضرهم في حال المباهلة، ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران: 61]،أي منا أو منكم. ([47]) "
هل مات المسيح عليه السلام؟
ادعى اليهود أكاذيب على مريم وابنها عيسى عليهما السلام، فرموها بالبهتان العظيم، وادعوا أنهم قتلوا عيسى عليه السلام، رسول الله، وأنهم صلبوه.
حقيقة الصلب والمصلوب:
قال تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ [النساء: 157- 159].
"قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وبقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، ثم كذبهم الله في قيلهم، فقال: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم)، يعني: وما قتلوا عيسى وما صلبوه ولكن شبه لهم. ([48]) "
بل رفعه الله إليه ولم يُمكن أعداءه من قتله أو الوصول إليه:
قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 55- 57].
ومعنى الوفاة هنا على قول الأكثرين: " النَّوْمُ، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ [الأنعام:60].
وقال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها﴾ [الزمر: 42]. ([49]) "
ثم ينزل عليه السلام في آخر الزمان، ويكون نزوله علماً للساعة، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ۚ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُون َ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [الزخرف: 57- 61].
ربوة ذات قرار ومعين
إيواء الكريم الرحمن لعيسى وأمه مريم بنت عمران
جعل الله تبارك وتعالى عبده ونبيه عيسى عليه السلام وأمه مريم آية، وحفظهما من المكائد والغوائل، وآواهما إلى ربوة ذات قرار ومعين.
قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ [المؤمنون: 50].
"ولما كان أهل الغلو في عيسى وأمه عليهما الصلاة والسلام ربما تشبثوا من هذه العبارة بشيء، حقق بشريتهما واحتياجهما المنافي لرتبة الإلهية فقال: (وآويناهما) أي بعظمتنا لما قصد ملوك البلاد الشامية إهلاكهما.
(إلى ربوة) أي مكان عال من الأرض، وأحسن ما يكون النبات في الأماكن المرتفعة، والظاهر أن المراد بها عين شمس في بلاد مصر؛ قال ابن كثير: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ليس الربى إلا بمصر والماء حين يرسل تكون الربى عليها القرى، ولولا الربى غرقت القرى، وروي عن وهب بن منبه نحو هذا -انتهى.
(ذات قرار) أي منبسط صالح لأن يستقر فيه لما فيه من المرافق (ومعين) أي ماء ظاهر للعين، ونافع كالماعون، فرع اشتق من أصلين، ولم يقدر من خالفه من الملوك وغيرهم على كثرتهم وقوتهم على قتله لا في حال صغره، ولا في حال كبره. ([50]) "
وبذلك تمت النعمة، وكمُلت المنة على مريم بنت عمران، وابنها عيسى عليه السلام.
وكما أن في الإيواء نعمة، فكذلك في وجود الربى منة على الخلائق أجمعين.
هدايات وعبر من قصة المسيح عليه السلام وأمه مريم
نقلنا القرآن الكريم في مراحل مختلفة من قصة مريم الصديقة، قبل ميلادها، وبعده، وأثناء تنشئتها النشأة الحسنة، وصلاحها الذي جُعلت به مضرب مثل للعالمين.
واصطفاؤها لتكون أماً لمعجزة من معجزات رب العالمين، وهو عيسى عليه السلام، كلمة الله ألقاها إلى مريم، وروح منه.
ومن الهدايات والعبر التي أفادتنا بها هذه القصة العظيمة:
أولاً: لا شيء يعجز خالق هذا الكون وإذا قضى أمراً قال له كن فيكون:
قال تعالى: ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم: 21].
وقال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [مريم: 35].
وقال تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 59].
ثانياً: دعوة القرآن إلى التوازن والثبات وقت المصاعب والأزمات:
قال تعالى: ﴿فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم: 23- 25].
ثالثاً: تطييب الأنفس والخواطر منهج قرآني وقت الشدائد والمخاطر:
قال تعالى: ﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ [مريم: 26].
رابعاً: اليقين والإيمان بنسبة الرزق والفضل إلى العظيم المنان:
قال تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [آل عمران: 37- 38].
خامساً: الدور الكبير للبيئة المحيطة في التربية والتأثير:
قال تعالى: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ [مريم: 28].
إعداد:
جمانة بنت خالد
مراجعة وتدقيق:
عادل الشميري
إشراف:
الشيخ غازي بن بنيدر العمري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 6/ 326، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
[2] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 6/ 329، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
[3] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 6/ 334.
[4] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 6/ 336.
[5] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 6/ 344، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000م.
[6] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 6/ 344.
[7] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 2/ 29، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419 هـ.
[8] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 6/ 404- 405، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
[9] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 6/ 407.
[10] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 2/ 35، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419 هـ.
[11] انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 6/ 345- 347، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
[12] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 6/ 353، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000م.
[13] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 6/ 356.
[14] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 6/ 357.
[15] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 6/ 357- 358.
[16] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 6/ 393- 394، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
[17] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 2/ 33، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419 هـ.
[18] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 6/ 401.
[19] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 6/ 404.
[20] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 5/ 193- 194، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419 هـ.
[21] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 18/ 162، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000م.
[22] انظر: تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 5/ 194، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419 هـ.
[23] تفسير القرآن العظيم، 5/ 195.
[24] تفسير القرآن العظيم، 5/ 195.
[25] تفسير القرآن العظيم، 5/ 195.
[26] تفسير القرآن العظيم، 5/ 195.
[27] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 5/ 200، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ.
[28] تفسير القرآن العظيم، 5/ 200- 201.
[29] تفسير القرآن العظيم، 5/ 202.
[30] تفسير القرآن العظيم، 5/ 202.
[31] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 23/ 500، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
[32] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 8/ 194، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ.
[33] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 6/ 255، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
[34] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 1/ 9، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
[35] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 11/ 215.
[36] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 3/ 200- 201، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419 هـ.
[37] تفسير القرآن العظيم، 2/ 37.
[38] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 4/ 416، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
[39] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 6/ 450- 451، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
[40] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 3/ 202، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419 هـ.
[41] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 8/ 136، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ.
[42] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 3/ 143، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419 هـ.
[43] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 9/ 424، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
[44] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 23/ 202، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
[45] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 3/ 114، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ.
[46] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 6/ 468، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
[47] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 2/ 41- 42، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ.
[48] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 9/ 367، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
[49] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 2/ 39، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ.
[50] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 13/ 149- 150، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.