نوح عليه السلام في القرآن الكريم

 

إعداد مركز المحتوى القرآني

 

سلام على نوح في العالمين

 

الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، مبشرين ومنذرين، داعين إلى توحيد الخالق، ونبذ عبادة المخلوقين، ومن عباد الله الذي اصطفى: نوح عليه السلام.

قال تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحً‍‍ا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 33].

ودعوة نوح عليه السلام هي دعوة كل نبي مرسَل، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ [النساء: 163].

وقال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحً‍‍ا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشورى: 13].

وهي الدعوة إلى التوحيد:

قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحً‍‍ا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: 59].

وقال تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحً‍‍ا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [سورة نوح: 1].

وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحً‍‍ا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [المؤمنون: 23].

فما هي صفات قومه الذين أُرسِل إليهم؟

وصفهم القرآن الكريم بعدة صفات، من أبرزها أنهم:

  • فاسقون.
  • ظالمون.
  • طاغون.

قال تعالى: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [الذاريات: 46].

وقال تعالى: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى﴾ [النجم: 52].

فكم مكث يدعوهم؟ وكيف كان جوابهم؟ ولم استحقوا هذه الصفات؟

 

ألف سنة إلا خمسين عاماً

(بين شدة ورخاء)

 

بعد إرسال نوح إلى قومه، ظل يدعوهم إلى توحيد الخالق عز وجل، ونبذ الشرك، ولبث فيهم دهراً طويلاً، يدعوهم بشتى الطرق، والوسائل.

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحً‍‍ا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 14].

أولاً: زمن دعوة نوح عليه السلام وبعض حِكَم ذكرها في القرآن الكريم:

الكافر والمعاند لا يصرفه عن كفره طول زمن الدعوة، ما لم يكتب الله له الهداية.

فهؤلاء قوم نوح عليه السلام، لبث نبيّهم يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فلم يعتبروا ولم يهتدوا؛ بل ازدادوا على كفرهم وعنادهم إصراراً، ولم يزدهم دعاؤه إلا فراراً.

وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتهديد للكافرين به، والمعاندين لدعوته، ولدعوة الأنبياء من قبله.

قال الطبري: "وهذا وعيد من الله تعالى ذكره هؤلاء المشركين من قريش، القائلين للذين آمنوا: اتبعوا سبيلنا، ولنحمل خطاياكم، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا يحزننك يا محمد ما تلقى من هؤلاء المشركين أنت وأصحابك من الأذى، فإني وإن أمليتُ لهم، فأطلت إملاءهم، فإن مصيرَ أمرِهم إلى البوار، ومصير أمرك وأمر أصحابك إلى العلوّ والظفر بهم، والنجاة مما يحلّ بهم من العقاب، كفعلنا ذلك بنوح، إذ أرسلناه إلى قومه، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى التوحيد، وفراق الآلهة والأوثان، فلم يزدهم ذلك من دعائه إياهم إلى الله من الإقبال إليه، وقبول ما أتاهم به من النصيحة من عند الله إلا فراراً." ([1])

ثانياً: دلالة السنة والعام في قصة نوح عليه السلام:

العدد المقصود هنا هو: 950 سنة.

واستخرج بعض العلماء لطيفة في التفريق بين السنة والعام استناداً على ما ورد في قصة نوح عليه السلام، وغيرها من قصص القرآن، ومن ذلك:

قال الراغب الأصفهاني: "العام كالسنة؛ لكن كثيراً ما تُستعمل السنة في الحول الذي يكون فيه الشدة أو الجدب.

ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة، والعام بما فيه الرخاء والخصب، قال: ﴿عامٌ فيه يُغاثُ النَّاسُ وفيه يَعصِرُون﴾ [يوسف: 49].

وقوله:﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾ [العنكبوت: 14].

ففي كون المستثنى منه بالسنة، والمستثنى بالعام لطيفة موضعها فيما بعد هذا الكتاب إن شاء الله." ([2])

وقال البقاعي: "وعبَّر بلفظ (سنة) ذماً لأيام الكفر، وقال: (إلا خمسين) فحقق أن ذلك الزمان تسعمائة وخمسون من غير زيادة ولا نقص، مع الاختصار والعذوبة، وقال: (عاماً) إشارة إلى أن زمان حياته عليه الصلاة والسلام بعد إغراقهم، كان رغداً واسعاً حسناً، بإيمان المؤمنين، وخصب الأرض." ([3])

 

الهدي العظيم في المنهج الدعوي القويم

(عن قصة نوح عليه السلام ودعوته لقومه)

 

مضت ألف سنة إلا خمسين عاماً، ونوح عليه السلام لم يدعْ فيها سبيلاً إلى الدعوة إلا وسلكه، ومن المسالك التي توضح منهجه الدعوي، ووسائله التي ذكرها القرآن الكريم، ما يلي:

  • إيضاح المقاصد والغايات:

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحً‍‍ا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [هود: 25].

وقال تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ۝أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ۝يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [نوح: 2-4].

  • اغتنام كافة الأوقات:

قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا﴾ [نوح: 5].

  • الدعوة على كافة الأنماط والهيئات:

قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ۝ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [نوح: 8- 9].

  • حسن الخطاب وجميل العبارات:

قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحً‍‍ا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: 59].

وقال تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ۝ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ۝ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح: 10- 12].

  • إقامة البينات والحجج الواضحات:

قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [التوبة: 70].

وبين القرآن عدداً من هذه البينات على لسان نوح عليه السلام، قال تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ۝ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ۝ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۝ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ۝وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ۝ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ۝ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ۝ لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا﴾ [نوح: 13- 20].

 

قال الطبري: "يقول تعالى ذكره مخبراً عن قيل نوح صلوات الله وسلامه عليه، لقومه المشركين بربهم، محتجاً عليهم بحجج الله في وحدانيته: (ألم تروا) أيها القوم فتعتبروا (كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً) بعضها فوق بعض، والطباق: مصدر من قولهم: طابقت مطابقة وطباقاً، وإنما عني بذلك: كيف خلق الله سبع سماوات، سماء فوق سماء مطابقة." ([4])

 

كيف كان جواب قومه؟

 

قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: 105].

مع تطاول زمن الدعوة، وتنوع مسالكها، كان حرياً بقوم نوح عليه السلام التسليم والتصديق، إلا أنهم أمعنوا في غيّهم، ولم يزدادوا إلا فراراً.

وقد تمثل جواب قومه في صور ثلاث:

أولاً: الصورة القلبية/ النفسية:

قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحً‍‍ا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشورى: 13].

"أنكرها المشركون، وكبر عليهم شهادة أن لا إله إلا الله، فصادمها إبليس وجنوده، فأبى الله تبارك وتعالى إلا أن يمضيها وينصرها ويفلجها ويظهرها على من ناوأها." ([5])

ثانياً: الصورة اللفظية/ القولية:

قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾ [القمر: 9].

وقال تعالى: ﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [هود: 32].

وقال تعالى: ﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ [الشعراء: 116].

"أي المقتولين". ([6])

وقال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ [غافر: 5].

وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: 23].

ثالثاً: الصورة العملية/ الحركية:

قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ [إبراهيم: 9].

وقال تعالى:﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾ [نوح: 7].

كما في الإيمان الذي لا يقوم إلا إذا وقر في القلب، ونطق به اللسان، وصدقه العمل.

إلا أن قوم نوح عليه السلام لم يتركوا منفذاً محتملاً للإيمان إلا وفروا منه، ومرقوا كما يمرق السهم من الرمية.

 

وما آمن معه إلا قليل

(رُفِعَت الأقلامُ وجَفَّت الصُّحُف)

 

أظهر قوم نوح عليه السلام بوادر الكفر قولاً، واعتقاداً، وعملاً، ولم يبقَ معه إلا قليل.

قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: 40].

"يقول الله: (وما آمن معه إلا قليل)، يقول: وما أقرَّ بوحدانية الله مع نوح من قومه إلا قليل." ([7])

قال تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [هود: 36].

قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: وأوحى الله إلى نوح، لما حق على قومه القول، وأظلهم أمر الله، أنه لن يؤمن يا نوح بالله فيوحده، ويتبعك على ما تدعوه إليه (من قومك إلا من قد آمن)، فصدق بذلك واتبعك.

(فلا تبتئس)، يقول: فلا تستكن ولا تحزن (بما كانوا يفعلون)، فإني مهلكهم، ومنقذك منهم ومن اتبعك.

وأوحى الله ذلك إليه، بعد ما دعا عليهم نوح بالهلاك، فقال: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح: 26]". ([8])

كمُل نصاب المؤمنين، ولم يبقَ لكافر منفذ، أو فرصة للّحَاق بركبهم، فيؤمن مع من قد آمن.

فما حدث بعد ذلك للقليل المؤمنين؟ وما هو مصير الكافرين؟ وما قصة السفينة والطوفان؟

 

ذات ألواح ودُسُر

 

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ [الصافات: 75].

لم يؤمن مع نوح عليه السلام إلا قليل، وتحققت دعوته:﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح: 26].

وبدأ تحقيقها بمقدمات، وأحداث هامة، لعل من أبرزها: الأمر بصناعة الفلك، وقد وردت في قصة نوح عليه السلام بعدة أسماء وأوصاف: الفلك، السفينة، ذات ألواح ودُسر.

قال تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ [المؤمنون: 27].

فكيف تم لهم بناء السفينة؟ وما هي الظروف المحيطة بهم؟

أولاً: رعاية ربانية محيطة بنوح ومن معه:

إجابة الأمر الرباني بصناعة الفلك، محفوفٌ بعناية تامة، قال تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾ [المؤمنون: 27].

وتضمنت هذه الرعاية التسليم التام لأمر الله، وهذا التسليم تجلّى في صور، منها:

  • أن الله عز وجل تولى تعليمه:

قال الطبري: وقوله: (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا) يقول: فقلنا له حين استنصرنا على كفرة قومه: اصنع الفلك، وهي السفينة؛ بأعيننا، يقول: بمرأى منا، ومنظر، ووحينا، يقول: وبتعليمنا إياك صنعتها."([9])

  • ترك أمر الظالمين وتفويض مصيرهم لله وحده:

قال تعالى: ﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ [المؤمنون: 27].

ثانياً: صناعة الفلك:

  • التكوين المادي للسفينة:

حدّثنا القرآن عن مصدر تعليم نوح وقومه صناعة السفينة، وهو المصدر الرباني، أما عن تكوينها، ومادة تصنيعها، فقال عنها: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾ [القمر: 13].

قال البقاعي: "ألواح: أي أخشاب نُجرت حتى صارت عريضة، (ودُسُر): جمع دسار، وهو ما يشد به السفينة، وتوصل بها ألواحها، ويلج بعضها ببعض بمسمار من حديد، أو خشب، أو من خيوط الليف على وجه الضخامة، والقوة والدفع والمتانة، ولعله عبر عن السفينة بما شرحها؛ تنبيهاً على قدرته على ما يريد من فتق الرتق، ورتق الفتق، بحيث يصير ذلك المصنوع، فكان إلى ما هيأه، ليراد منه، وإن كان ذلك المراد عظيماً وذلك المصنوع." ([10])

  • الأوضاع الاجتماعية المحيطة:

قال تعالى: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ۝ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ [هود: 38 – 39].

هذا كان جواب قومه عن صناعة السفينة؟ فكيف سارت؟ وكيف كانت الرحلة؟

 

رحلة الفلك ولوازمها الإيمانية

 

قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: 40].

أمر الله عز وجل نوحاً عليه السلام أن يحمل في السفينة من كل شيء زوجين اثنين، وأهله ومن آمن، وذكر أن هؤلاء المؤمنين قليل، واختُلف في تحديد عددهم على أقوال.

"والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله: (وما آمن معه إلا قليل)، يصفهم بأنهم كانوا قليلاً، ولم يحدّ عددهم بمقدار، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح، فلا ينبغي أن يتجاوز في ذلك حد الله، إذ لم يكن لمبلغ عدد ذلك حد من كتاب الله، أو أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم." ([11])

وقد مرّ المؤمنون بأحداث جِسام، وجاءهم النصر، واستووا على سفينتهم، وتكشف لنا قصتهم مع السفينة عن بعض لوازم الرحلة الإيمانية، ومنها:

  • الاستعانة بالله:

قال تعالى: ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [هود: 41].

  • حمد الله على النجاة:

قال تعالى: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [المؤمنون: 28].

  • رعاية ربانية تامة أثناء العبور:

كانت سفينتهم: ﴿تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾ [هود: 42]، فكما كانت صناعة الفلك (بأعيننا) كما قال تعالى، كذلك كان مجراها، قال تعالى: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ﴾[القمر: 14].

"أي: محفوظة أن تدخل بحر الظلمات، أو يأتي عليها غير ذلك من الآفات، بحفظنا على ما لنا من العظمة، حفظ من ينظر الشيءَ كثرة، ولا يغيب عنه أصلاً." ([12])

فكيف صور القرآن الكريم هذا الطوفان الذي أغرق الله به القوم الكافرين ونجّى منه المؤمنين الطائعين؟

 

الطوفان

 

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 14].

كان الناس بين مؤمن وكافر، أما المؤمنون فقد استووا على الفلك، وأما الكافرون فقد غرقوا في الطوفان.

فما هو الطوفان؟ وما هو التنور؟ وكيف صوره القرآن الكريم؟

قال تعالى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ۝ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ۝ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر: 10- 12].

"(بماء منهمر): أي منصبّ بأبلغ ما يكون من السيلان، والصب عظماً وكثرة، ولذلك لم يقل: بمطر؛ لأنه خارج عن تلك العادة، واستمر ذلك أربعين يوماً.

(وفجّرنا) أي: صدعنا بما لنا من العظمة، وشققنا، وبعثنا، وأرسلنا (الأرض عيوناً) أي: جميع عيون الأرض؛ ولكنهعدل عنه؛ للتهويل بالإبهام، ثم البيان، وإفادة لأن وجه الأرض صار كله عيوناً.

ولما كان الماء اسم جنس يقع على الأنواع المختلفة كما يقع على النوع الواحد، وكان قد ذكر ماء السماء والأرض، سبب عن ذلك قوله: (فالتقى الماء) أي المعهود، وهو ماء السماء وماء الأرض بسبب فعلنا هذا، وزاد في تعظيمه بأداة الاستعلاء، فقال: (على أمر) ولما تقررت هذه العظمة لهذه الواقعة، فكان ربما ظن أنه صار جزافاً، وزاد على الحد المأمور به، أشار إلى أنه بالنسبة إلى عظمته في غاية الحقارة فقال: (قد قُدر) أي: مع كونه مقدوراً عليه في كل وقت بغاية السهولة قد وقع تقديره في الأزل، فلم يستطع أن يزيد على ذلك قطرة فما فوقها، ولا أن يهلك غير من أمرناه بإهلاكه، وأشار بالتخفيف إلى غاية السهولة في ذلك سبحانه." ([13])

أما التنور: قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: 40].

فقد اختُلف فيه على أقوال، فمن معاني قوله: (فار التنور):

  • معناه: انبجس الماء من وجه الأرض، وفار التنور، وهو وجه الأرض.
  • هو تنوير الصبح، من قولهم: (نور الصبح تنويراَ).
  • وفار أعلى الأرض وأشرف مكان فيها بالماء، وقال: (التنور) أشرف الأرض.
  • هو التنور الذي يختبز فيه.

والرابع من الأقوال هو الذي صوّبه الطبري؛ معللاً ذلك بأنه المعروف من كلام العرب. ([14])

من هم الأهل الذين نجوا من الطوفان؟ وهل كان من أهل نوح عليه السلام من غرق؟

قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: 40].

"أي: واحمل فيها أهلك، وهم: أهل بيته وقرابته إلا من سبق عليه القول منهم ممن لم يؤمن بالله، فكان منهم ابنه: (يام) الذي انعزل وحده، وامرأة نوح، وكانت كافرة بالله ورسوله." ([15])

وقد جعلها الله مثلاً للكافرين، قال تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ [التحريم: 10].

أما ابن نوح، فقد صوّر القرآن الكريم حواره مع أبيه واستكباره عن الإيمان، وكيف كان رد نوح عليه السلام، قال تعالى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ۝قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ [هود: 42- 43].

ويناجي نوح ربه، قال تعالى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ۝قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ۝قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [هود: 45- 47].

فماذا حدث بعد الطوفان؟

 

المرسى

 

انقضى الطوفان، واستقرت السفينة، واستوت، فأين كان مرساها؟ وكيف صوّر القرآن الكريم الأحداث التالية بعد الطوفان؟

  • جبل الجودي:

قال تعالى:﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 44].

"يخبِر تعالى أنه لما أغرق أهل الأرض كلهم إلا أصحاب السفينة، أمر الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها، واجتمع عليها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر، (وغيض الماء) أي شرع في النقص، (وقُضي الأمر) أي: فرغ من أهل الأرض قاطبة ممن كفر بالله لم يبقَ منهم ديّار، (واستوت) السفينة بمن فيها (على الجودي) قال مجاهد: وهو جبل بالجزيرة تشامخت الجبال يومئذ من الغرق وتطاولت، وتواضع هو لله عز وجل، فلم يغرق، وأرسلت عليه سفينة نوح عليه السلام." ([16])

  • سلام وبركات على نوح ومن معه:

قال تعالى: ﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [هود: 48].

"يقول تعالى ذكره: يا نوح، اهبط من الفلك إلى الأرض.

(بسلام منا)، يقول: بأمن منا أنت ومن معك من إهلاكنا.

(وبركات عليك)، يقول: وببركات عليك، (وعلى أمم ممن معك)، يقول: وعلى قرون تجيء من ذرية من معك من ولدك.

فهؤلاء المؤمنون من ذرية نوح الذين سبقت لهم من الله السعادة، وبارك عليهم قبل أن يخلقهم في بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم.

ثم أخبر تعالى ذكره نوحاً عمّا هو فاعل بأهل الشقاء من ذريته."([17])

وتحقق الوعد الرباني، ونجّى الله نوحاً عليه السلام، ومن معه، قال تعالى: ﴿وَنُوحً‍‍ا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنبياء: 76].

 

هدايات وعبر من قصة نوح عليه السلام مع قومه

 

صور لنا القرآن الكريم جوانب عديدة، ومراحل كثيرة من حياة نوح عليه السلام ورحلته في دعوة قومه إلى الإيمان والتوحيد، ومنها:

زمن الدعوة، المنهج الدعوي النبوي، جواب قومه وغلظتهم، كفر زوجه وابنه، بناء السفينة، ورحلتها الآمنة، إجابة دعائه عليه السلام، الطوفان وعذاب الكافرين.

ومن حِكم القصص القرآني الاعتبار والنظر، ومن العبر والهدايات في هذه القصة:

  • ذكر الله تعالى في البدء والانتهاء والذهاب والإياب:

ابتداء أي عمل بذكر الله والانتهاء به والإقرار بفضله ونعمته شأن الأنبياء والمؤمنين:

قال تعالى: ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [هود: 41].

وقال تعالى: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [المؤمنون: 28].

  • ضرورة الأخذ بالأسباب:

قال تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾ [المؤمنون: 27].

فيتآزر التعلّم مع التوكل على الله والأخذ بالأسباب.

وقد أخذ نوح عليه السلام بكافة الأساليب والأسباب لدعوة قومه إلى الهدى والصواب،

قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا﴾ [نوح: 5].

وقال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ۝ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [نوح: 8- 9].

  • عذاب الكافرين جاء بالاكتساب:

قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [التوبة: 70].

  • العبرة الحقيقية ليست بالمادة وإنما بتوفيق رب الأرباب:

قال تعالى: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ۝تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ﴾ [القمر: 13- 14].

مع أن الأخذ بالأسباب ضرورة كما تقرر، إلا أن العبرة ليست في المواد ذاتها، بل بالرعاية الربانية المحيطة بها، وتهيئتها للأسباب، ولا تنافي بين هذا وذاك.

 

إعداد: 
جمانة بنت خالد
مراجعة وتدقيق:
عادل الشميري 
إشراف: 
الشيخ غازي بن بنيدر العمري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 20/ 16، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([2]) مفردات ألفاظ القرآن: الراغب الأصفهاني، كتاب العين، مادة: (عوم)،598، تحقيق: صفوان عدنان داودي، دار القلم، دمشق، الطبعة الخامسة، 1433 هـ - 2011م.

([3]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 5/ 543، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([4]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 23/ 636، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([5]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 21/ 514، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([6]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 5/ 376، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([7]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 15/ 325، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([8]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 15/ 306، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([9]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 19/ 26، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([10]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 7/ 351، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([11]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 15/ 327، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([12]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 7/ 351، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([13]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 7/ 350، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([14]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 15/ 318 - 321، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([15])  تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 448، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([16]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 450، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([17]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 15/ 353، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.