موسى عليه السلام في القرآن (4)

 

ميراث المستضعفين

 

قال تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾ [الأعراف: 137].

يخبر تعالى عن فرعون وقومه أنهم "لما عتوا وتمردوا مع ابتلائه إياهم بالآيات المتواترة واحدة بعد واحدة انتقم منهم بإغراقه إياهم في اليم وهو البحر الذي فرقه لموسى فجاوزه وبنو إسرائيل معه، ثم ورده فرعون وجنوده على أثرهم فلما استكملوا فيه ارتطم عليهم فغرقوا عن آخرهم؛ وذلك بسبب تكذيبهم بآيات الله وتغافلهم عنها، وأخبر تعالى أنه أورث القوم الذين كانوا يستضعفون وهم بنو إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها، كما قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ۝ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص: 5- 6] وقال تعالى: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ ۝ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ ۝ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ﴾ [الدخان: 25- 28] وعن الحسن البصري وقتادة في قوله: (مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها) يعني الشام.

وقوله: (وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا) قال مجاهد وابن جرير وهي قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ۝ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص: 5- 6].

وقوله: (ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه) أي وخربنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العمارات والمزارع.

(وما كانوا يعرشون) قال ابن عباس ومجاهد: (يعرشون) يبنون." ([1])

 

تبعات التقليد الأعمى

 

إذا كان التقليد الأعمى في جوهره مذموماً، فهو في مسائل الاعتقاد – على وجه الخصوص- أكثر ذماً وأشد سوءاً وفتكاً.

وقد كان هذا سبب عناد كثير من المشركين، وكفرهم، كما قال تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ۝ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 22 – 23].

ومع ما امتن الله به على بني إسرائيل، ونجاتهم من عدوهم، إلا أنهم نُكسوا على رؤوسهم بعد مجاوزتهم البحر لما رأوا قوماً يعكفون على أصنام لهم.

فكيف كان تفاعلهم مع هذا الموقف؟ وكيف ظهر التقليد الأعمى؟

قال تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ۝ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 138 – 139].

"يخبر تعالى عما قاله جهلة بني إسرائيل لموسى عليه السلام حين جاوزوا البحر وقد رأوا من آيات الله وعظيم سلطانه ما رأوا فأتوا أي فمروا على قوم يعكفون على أصنام لهم.

قال بعض المفسرين كانوا من الكنعانيين وقيل: كانوا من لخم، قال ابن جرير: وكانوا يعبدون أصناماً على صور البقر.

فلهذا أثار ذلك شبهة لهم في عبادتهم العجل بعد ذلك، فقالوا: (يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) أي تجهلون عظمة الله وجلاله، وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل.

(إن هؤلاء متبر ما هم فيه) أي هالك وباطل ما كانوا يعملون." ([2])

فهل ستقف آثار هذا الموقف على ما بدر بالأفواه؟ أم ستتجاوز ذلك إلى تبعات عملية؟

 

منة الرب الكريم بنجاة بني إسرائيل من البلاء العظيم

 

شتان بين موقف بني إسرائيل في حضرة فرعون وطغيانه، وبين موقفهم بعد أن شُفي غليلهم بغرقه أمامهم هو وجنوده بعد استكبارهم في الأرض بغير الحق.

ولما صدرت منهم بادرة التقليد الأعمى، وبدت من أفواههم، شرع موسى عليه السلام بتعداد نعم الله عليهم، وكيف نجاهم من عدوهم، ومن البلاء العظيم.

قال تعالى: ﴿وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ۝ وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [البقرة: 49 – 50].

وقال تعالى: ﴿قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ۝ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ [الأعراف: 140- 141].

"يذكرهم موسى عليه السلام نعم الله عليهم من إنقاذهم من أسر فرعون وقهره وما كانوا فيه من الهوان والذلة.

وما صاروا إليه من العزة والاشتفاء من عدوهم والنظر إليه في حال هوانه وهلاكه وغرقه ودماره وقد تقدم تفسيرها في البقرة." ([3])

 

كم ليلة كان الميقات؟

 

يحدثنا القرآن الكريم عن موعد موسى وميقات ربه، وتارة يبين أن الميقات 40 ليلة، ويحددها بثلاثين متممة بعشر تارة أخرى.

قال تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف: 142].

وقال تعالى: ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ [البقرة: 51].

"يقول تعالى ممتناً على بني إسرائيل بما حصل لهم من الهداية بتكليمه موسى عليه السلام وإعطائه التوراة وفيها أحكامهم وتفاصيل شرعهم، فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة، قال المفسرون: فصامها موسى عليه السلام وطواها، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة، فأمره الله تعالى أن يكمل بعشر أربعين.

وقد اختلف المفسرون في هذه العشر ما هي؟

فالأكثرون على أن الثلاثين هي: ذو القعدة والعشر عشر ذي الحجة قاله مجاهد ومسروق وابن جريج وروي عن ابن عباس وغيره.

فعلى هذا يكون قد كمل الميقات يوم النحر، وحصل فيه التكليم لموسى عليه السلام، وفيه أكمل الله الدين لمحمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً﴾ [المائدة: 3].

فلما تم الميقات وعزم موسى على الذهاب إلى الطور كما قال تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ﴾ [طه: 80] الآية، فحينئذ استخلف موسى عليه السلام على بني إسرائيل أخاه هارون، ووصاه بالإصلاح وعدم الإفساد وهذا تنبيه وتذكير، وإلا فهارون عليه السلام نبي شريف كريم على الله له وجاهة وجلالة صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء." ([4])

ومجموع الليالي الثلاثين المتممة بعشر، يساوي: أربعين ليلة.

 

خر موسى صعقاً

 

قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 143].

"يخبر تعالى عن موسى عليه السلام أنه لما جاء لميقات الله تعالى وحصل له التكليم من الله تعالى سأل الله تعالى أن ينظر إليه، فقال: (رب أرني أنظر إليك قال لن تراني) وقد أشكل حرف: (لن) هاهنا على كثير من العلماء؛ لأنها موضوعة لنفي التأبيد، فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة، وهذا أضعف الأقوال؛ لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة كما سنوردها عند قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22].

وقوله تعالى إخباراً عن الكفار: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: 15] وقيل: إنها لنفي التأبيد في الدنيا؛ جمعاً بين هذه الآية وبين الدليل القاطع على صحة الرؤيا في الدار الآخرة.

وقيل: إن هذا الكلام في هذا المقام كالكلام في قوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 103].

وقد تقدم ذلك في الأنعام وفي الكتب المتقدمة: إن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: (يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده) ولهذا قال تعالى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ [الأعراف: 143]." ([5])

 

الألواح وما كُتب فيها

 

قال تعالى: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ۝ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ۝ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ۝ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 144 – 147].

" يذكر تعالى أنه خاطب موسى بأنه اصطفاه على أهل زمانه برسالاته تعالى وبكلامه ولا شك أن محمداً صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم من الأولين والآخرين، ولهذا اختصه الله تعالى بأن جعله خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تستمر شريعته إلى قيام الساعة وأتباعه أكثر من أتباع سائر الأنبياء والمرسلين كلهم، وبعده في الشرف والفضل إبراهيم الخليل عليه السلام ثم موسى بن عمران كليم الرحمن عليه السلام ولهذا قال الله تعالى له: (فخذ ما آتيتك) أي من الكلام والمناجاة وكن من الشاكرين أي على ذلك ولا تطلب ما لا طاقة لك به.

ثم أخبر تعالى أنه كتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء، قيل: كانت الألواح من جوهر، وأن الله تعالى كتب له فيها مواعظ وأحكاماً مفصلة مبينة للحلال والحرام وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة التي قال الله تعالى فيها: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ﴾ [القصص: 43] وقيل: الألواح أعطيها موسى قبل التوراة والله أعلم، وعلى كل تقدير فكانت كالتعويض له عما سأل من الرؤية ومنع منها والله أعلم.

وقوله: (فخذها بقوة) أي بعزم على الطاعة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها قال سفيان بن عيينة: حدثنا أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس قال أمر موسى عليه السلام أن يأخذ بأشد ما أمر قومه.

وقوله: (سأريكم دار الفاسقين) أي سترون عاقبة من خالف أمري وخرج عن طاعتي كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب." ([6])

 

وعجلتُ إليك ربي لترضى

 

قال تعالى: ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ۝ قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [طه: 83 – 84].

" لما سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون، ﴿فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ۝ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 138 – 139].

 وواعده ربه ثلاثين ليلة، ثم أتبعها عشراً، فتمت أربعين ليلة.

أي: يصومها ليلا ونهاراً، وقد تقدم في حديث الفتون بيان ذلك.

فسارع موسى عليه السلام مبادراً إلى الطور، واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون.

ولهذا قال تعالى: ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ۝ قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي﴾ [طه: 83 – 84].

أي: قادمون ينزلون قريباً من الطور.

وعجلت إليك رب لترضى، أي لتزداد عني رضا." ([7])

وبعد ذهاب موسى عليه السلام إلى الطور، كان لرجل أثر كبير في تغيير حال بني إسرائيل، وإضلالهم.

فمن يكون؟ وماذا فعل؟

 

السامري

من يكون؟ وما علاقته بضلال بني إسرائيل؟

 

ظهرت بوادر الشرك على ألسنة بني إسرائيل، لما قالوا: ﴿يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [الأعراف: 138].

وما لبثوا أن ظهرت بوادر الشرك على أفعالهم.

قال تعالى: ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ۝ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ۝ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ﴾ [طه: 85- 87].

" يقول الله تعالى ذكره قال الله لموسى: فإنا يا موسى قد ابتلينا قومك من بعدك بعبادة العجل، وذلك كان فتنتهم من بعد موسى.

ويعني بقوله: (من بعدك) من بعد فراقك إياهم.

يقول الله تبارك وتعالى: (وأضلهم السامري) وكان إضلال السامري إياهم دعاءه إياهم إلى عبادة العجل." ([8])

فما هو العجل الذي عبدوه؟

وهل كان حياً أم مصنوعاً؟

وكيف اعتذر بنو إسرائيل عن خلفهم العهد؟

 

ما أخلفنا موعدك بملكنا

ما هو الموعد؟ وما هو المَلك هنا؟

 

قال تعالى: ﴿قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ﴾ [طه: 87].

"يقول تعالى ذكره: قال قوم موسى لموسى: ما أخلفنا موعدك، يعنون بموعده: عهده الذي كان عهده إليهم." ([9])

" وقوله: (بملكنا) يخبر جل ذكره عنهم أنهم أقروا على أنفسهم بالخطأ، وقالوا: إنا لم نطق حمل أنفسنا على الصواب، ولم نملك أمرنا حتى وقعنا في الذي وقعنا فيه من الفتنة." ([10])

واختُلف في معنى: (بملكنا) على أقوال، "وقال أبو جعفر: وكل هذه الأقوال الثلاثة في ذلك متقاربات المعنى؛ لأن من لم يملك نفسه، لغلبة هواه على ما أمر، فإنه لا يمتنع في اللغة أن يقول: فعل فلان هذا الأمر، وهو لا يملك نفسه وفعله، وهو لا يضبطها وفعله وهو لا يطيق تركه، فإذا كان ذلك كذلك، فسواء بأي القراءات الثلاث قرأ ذلك القارئ، وذلك أن من كسر الميم من الملك، فإنما يوجه معنى الكلام إلى ما أخلفنا موعدك، ونحن نملك الوفاء به لغلبة أنفسنا إيانا على خلافه، وجعله من قول القائل: هذا ملك فلان لما يملكه من المملوكات، وأن من فتحها، فإنه يوجه معنى الكلام إلى نحو ذلك، غير أنه يجعله مصدراً من قول القائل: ملكت الشيء أملكه ملكا وملكة، كما يقال: غلبت فلاناً أغلبه غلباً وغلبة، وأن من ضمها فإنه وجه معناه إلى ما أخلفنا موعدك بسلطاننا وقدرتنا، أي ونحن نقدر أن نمتنع منه؛ لأن كل من قهر شيئاً فقد صار له السلطان عليه، وقد أنكر بعض الناس قراءة من قرأه بالضم، فقال: أي ملك كان يومئذ لبني إسرائيل، وإنما كانوا بمصر مستضعفين، فأغفل معنى القوم وذهب غير مرادهم ذهاباً بعيداً، وقارئو ذلك بالضم لم يقصدوا المعنى الذي ظنه هذا المنكر عليهم ذلك، وإنما قصدوا إلى أن معناه: ما أخلفنا موعدك بسلطان كانت لنا على أنفسنا نقدر أن نردها عما أتت؛ لأن هواها غلبنا على إخلافك الموعد.

وقوله: (ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم) يقول: ولكنا حملنا أثقالاً وأحمالاً من زينة القوم، يعنون من حلي آل فرعون، وذلك أن بني إسرائيل لما أراد موسى أن يسير بهم ليلاً من مصر بأمر الله إياه بذلك، أمرهم أن يستعيروا من أمتعة آل فرعون وحليهم، وقال: إن الله مغنمكم ذلك، ففعلوا، واستعاروا من حلي نسائهم وأمتعتهم، فذلك قولهم لموسى حين قال لهم: (أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم)." ([11])

 

عجل له خوار

 

قال تعالى: ﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ۝ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ۝ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ۝ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى﴾ [طه: 88 – 91].

وقال تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ۝ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 148 – 149].

"قوله: (فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار) يقول: فأخرج لهم السامري مما قذفوه ومما ألقاه عجلاً جسداً له خوار، ويعني بالخوار: الصوت، وهو صوت البقر.

ثم اختلف أهل العلم في كيفية إخراج السامري العجل، فقال بعضهم: صاغه صياغة، ثم ألقى من تراب حافر فرس جبرائيل في فمه فخار." ([12])

وقيل: "أخذ السامري من تربة الحافر، حافر فرس جبرائيل، فانطلق موسى واستخلف هارون على بني إسرائيل وواعدهم ثلاثين ليلة، فأتمها الله بعشر، قال لهم هارون: يا بني إسرائيل إن الغنيمة لا تحل لكم، وإن حلي القبط إنما هو غنيمة، فاجمعوها جميعاً، فاحفروا لها حفرة فادفنوها، فإن جاء موسى فأحلها أخذتموها، وإلا كان شيئا لم تأكلوه، فجمعوا ذلك الحلي في تلك الحفرة، فجاء السامري بتلك القبضة فقذفها فأخرج الله من الحلي عجلاً جسداً له خوار، وعدت بنو إسرائيل موعد موسى، فعدوا الليلة يوماً، واليوم يوماً، فلما كان لعشرين خرج لهم العجل، فلما رأوه قال لهم السامري: (هذا إلهكم وإله موسى فنسي) فعكفوا عليه يعبدونه، وكان يخور ويمشي (فكذلك ألقى السامري) ذلك حين قال لهم هارون: احفروا لهذا الحلي حفرة واطرحوه فيها، فطرحوه، فقذف السامري تربته، وقوله: (فقالوا هذا إلهكم وإله موسى) يقول: فقال قوم موسى الذين عبدوا العجل: هذا معبودكم ومعبود موسى، وقوله (فنسي) يقول: فضل وترك." ([13])

 

واختلف في المراد بقوله: (فنسي):

" والذي هو أولى بتأويل ذلك القول الذي ذكرناه عن هؤلاء، وهو أن ذلك خبر من الله عز ذكره عن السامري أنه وصف موسى بأنه نسي ربه، وأنه ربه الذي ذهب يريده هو العجل الذي أخرجه السامري؛ لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه، وأنه عقيب ذكر موسى، وهو أن يكون خبرا من السامري عنه بذلك أشبه من غيره." ([14])

 

لماذا رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً؟

 

قال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ۝ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأعراف: 150 – 151].

وقال تعالى: ﴿قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ۝ أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ۝ قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ [طه: 92 – 94].

"يخبر تعالى أن موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه من مناجاة ربه تعالى وهو غضبان أسف، قال أبو الدرداء: الأسف أشد الغضب.

(قال بئسما خلفتموني من بعدي) يقول: بئس ما صنعتم في عبادة العجل بعد أن ذهبت وتركتكم، وقوله أعجلتم أمر ربكم يقول استعجلتم مجيئي إليكم وهو مقدر من الله تعالى." ([15])

"وقوله: (وأخذ برأس أخيه يجره إليه) خوفاً أن يكون قد قصر في نهيهم، كما قال في الآية الأخرى:

﴿قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ۝ أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ۝ قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ [طه: 92 – 94].

وقال هاهنا: (ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين) أي لا تسوقني سياقهم وتجعلني معهم وإنما قال: (ابن أم)؛ ليكون أرق وأنجع عنده وإلا فهو شقيقه لأبيه وأمه.

فلما تحقق موسى عليه السلام براءة ساحة هارون عليه السلام كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾ [طه: 90]، فعند ذلك قال موسى: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأعراف: 151]." ([16])

 

ما خطب السامري؟

 

ما حقيقة شأن السامري؟ وما هو فعله الذي تسبب عنه إضلال بني إسرائيل؟

قال تعالى: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ۝ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ۝ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ۝ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [طه: 95 – 98].

"يقول موسى عليه السلام للسامري: ما حملك على ما صنعت؟ وما الذي عرض لك حتى فعلت ما فعلت؟ قال محمد بن إسحاق عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان السامري رجلاً من أهل باجرما، وكان من قوم يعبدون البقر، وكان حب عبادة البقر في نفسه، وكان قد أظهر الإسلام مع بني إسرائيل، وكان اسمه موسى بن ظفر، وفي رواية عن ابن عباس أنه كان من كرمان، وقال قتادة: كان من قرية سامرا.

قال بصرت بما لم يبصروا به أي رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون فقبضت قبضة من أثر الرسول أي من أثر فرسه، وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم." ([17])

"وقال مجاهد: ﴿فقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ﴾ [طه: 96]: قال من تحت حافر فرس جبريل، قال: والقبضة ملء الكف، والقبضة بأطراف الأصابع، قال مجاهد: نبذ السامري، أي: ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل، فانسبك عجلاً جسداً له خوار حفيف الريح فيه فهو خواره." ([18])

 

جزاء متخذي العجل

 

قال تعالى: ﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۝ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ۝ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 52 – 54].

وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ۝ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأعراف: 152 – 153].

"أما الغضب الذي نال بني إسرائيل في عبادة العجل فهو أن الله تعالى: لم يقبل لهم توبة حتى قتل بعضهم بعضاً، كما تقدم في سورة البقرة: ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 54] وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلاً وصغاراً في الحياة الدنيا." ([19])

" ثم نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل توبة عباده من أي ذنب كان، حتى ولو كان من كفر أو شرك أو نفاق أو شقاق؛ ولهذا عقب هذه القصة بقوله: (والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك) أي: يا محمد يا رسول التوبة، ونبي الرحمة، (من بعدها) أي من بعد تلك الفعلة لغفور رحيم." ([20])

 

لما سكت الغضب

 

قال تعالى: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [الأعراف: 154].

"يقول تعالى: ولما سكت أي سكن عن موسى الغضب.

أي: غضبه على قومه.

أخذ الألواح أي التي كان ألقاها من شدة الغضب على عبادتهم العجل؛ غيرة لله، وغضباً له، (وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون) يقول كثير من المفسرين: إنها لما ألقاها تكسرت ثم جمعها بعد ذلك.

ولهذا قال بعض السلف فوجد فيها هدى ورحمة، وأما التفصيل فذهب وزعموا أن رضاضها لم يزل موجوداً في خزائن الملوك لبني إسرائيل إلى الدولة الإسلامية.

والله أعلم بصحة هذا.

وأما الدليل الواضح على أنها تكسرت حين ألقاها وهي من جوهر الجنة، فقد أخبر تعالى أنه لما أخذها بعد ما ألقاها وجد فيها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون ضمن الرهبة معنى الخضوع، ولهذا عداها باللام." ([21])

وبناء على ما تقدم:

سكوت الغضب يعني: سكونه.

والله سبحانه أعلى وأعلم.

 

70 رجلاً من قوم موسى

 

قال تعالى: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾ [الأعراف: 155].

"قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واختار موسى من قومه سبعين رجلاً للوقت والأجل الذي وعده الله أن يلقاه فيه بهم؛ للتوبة مما كان من فعل سفهائهم في أمر العجل." ([22])

واختلف في قوله: (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا):

  • قيل: "معنى ذلك: أتهلك هؤلاء الذين أهلكتهم بما فعل السفهاء منا، أي: بعبادة من عبد العجل؟ قالوا: وكان الله إنما أهلكهم؛ لأنهم كانوا ممن يعبد العجل، وقال موسى ما قال، ولا علم عنده بما كان منهم من ذلك." ([23])
  • وقيل: "معنى ذلك: إن إهلاكك هؤلاء الذين أهلكتهم، هلاك لمن وراءهم من بني إسرائيل، إذا انصرفت إليهم وليسوا معي، والسفهاء، على هذا القول، كانوا المهلكين الذين سألوا موسى أن يريهم ربهم." ([24])

" قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال: إن موسى إنما حزن على هلاك السبعين بقوله: (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا)، وأنه إنما عنى بـ: السفهاء: عبدة العجل.

وذلك أنه محال أن يكون موسى صلى الله عليه وسلم كان تخير من قومه لمسألة ربه ما أراه أن يسأل لهم إلا الأفضل فالأفضل منهم، ومحال أن يكون الأفضل كان عنده من أشرك في عبادة العجل واتخذه دون الله إلهاً.

قال: فإن قال قائل: فجائز أن يكون موسى عليه السلام كان معتقداً أن الله سبحانه يعاقب قوماً بذنوب غيرهم، فيقول: أتهلكنا بذنوب من عبد العجل، ونحن من ذلك برآء؟ قيل: جائز أن يكون معنى: (الإهلاك) قبض الأرواح على غير وجه العقوبة، كما قال جل ثناؤه: ﴿إن امرؤٌ هلك﴾ [النساء: 176] يعني: مات، فيقول: أتميتنا بما فعل السفهاء منا؟

وأما قوله: (إن هي إلا فتنتك)، فإنه يقول جل ثناؤه: ما هذه الفعلة التي فعلها قومي، من عبادتهم ما عبدوا دونك، إلا فتنة منك أصابتهم.

ويعني بـ: الفتنة، الابتلاء والاختبار، قول: ابتليتهم بها؛ ليتبين الذي يضل عن الحق بعبادته إياه، والذي يهتدي بترك عبادته.

وأضاف إضلالهم وهدايتهم إلى الله، إذ كان ما كان منهم من ذلك عن سبب منه جل ثناؤه." ([25])

 

جرأة بني إسرائيل في طلبهم رؤية الله تعالى جهرة

 

لم يكن لجرأة بني إسرائيل حد؛ بل بلغ بهم الأمر أن طلبوا من نبيهم أن يروا الله جهرة.

قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ۝ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 55 – 56].

"قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: واذكروا أيضاً إذ قلتم: يا موسى لن نصدقك ولن نقر بما جئتنا به، حتى نرى الله جهرة - عياناً برفع الساتر بيننا وبينه، وكشف الغطاء دوننا ودونه، حتى ننظر إليه بأبصارنا، كما تجهر الركية، وذلك إذا كان ماؤها قد غطاه الطين، فنقي ما قد غطاه حتى ظهر الماء وصفا.

يقال منه: قد جهرت الركية أجهرها جهراً وجهرة.

ولذلك قيل: قد جاهر فلان بهذا الأمر مجاهرة وجهاراً، إذا أظهره لرأي العين وأعلنه." ([26])

واختلف في قوله: (فأخذتكم الصاعقة):

  • قيل: ماتوا، والصاعقة نار.
  • قيل: ماتوا، والصاعقة رجفة.

ويعني بقوله: (وأنتم تنظرون)، وأنتم تنظرون إلى الصاعقة التي أصابتكم، يقول: أخذتكم الصاعقة عياناً جهاراً وأنتم تنظرون إليها. ([27])

بعث بعد الموت هو منة أخرى:

"يعني بقوله: (من بعد موتكم)، من بعد موتكم بالصاعقة التي أهلكتكم.

وقوله: (لعلكم تشكرون)، يقول: فعلنا بكم ذلك لتشكروني على ما أوليتكم من نعمتي عليكم، بإحيائي إياكم، استبقاء مني لكم، لتراجعوا التوبة من عظيم ذنبكم، بعد إحلالي العقوبة بكم بالصاعقة التي أحللتها بكم، فأماتتكم بعظيم خطئكم الذي كان منكم فيما بينكم وبين ربكم.

وهذا القول على تأويل من تأول قوله قول: (ثم بعثناكم) ثم أحييناكم.

وقال آخرون: معنى قوله: (ثم بعثناكم)، أي بعثناكم أنبياء." ([28])

 

بين الغمام والمن والسلوى

 

لا تزال النعم الربانية والمنن الإلهية تتوالى على بني إسرائيل، نعمة بعد أخرى، لعلهم يشكرون.

قال تعالى: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [البقرة: 57].

"(وظللنا عليكم الغمام) عطف على قوله: (ثم بعثناكم من بعد موتكم).

فتأويل الآية: ثم بعثناكم من بعد موتكم، وظللنا عليكم الغمام - وعدد عليهم سائر ما أنعم به عليهم - لعلكم تشكرون.

والغمام: جمع غمامة، كما السحاب جمع سحابة، والغمام هو ما غم السماء فألبسها من سحاب وقتام، وغير ذلك مما يسترها عن أعين الناظرين.

وكل مغطى فالعرب تسميه مغموماً.

وقد قيل: إن الغمام التي ظللها الله على بني إسرائيل لم تكن سحاباً." ([29])

المن والسلوى:

اختلف في المن على أقوال:

  • صمغة.
  • شراب.
  • عسل.
  • الخبز الرقاق.
  • الزنجبيل.
  • الترنجبين.

وقيل غيرها. ([30])

"والسلوى: اسم طائر يشبه السُّمانَى، واحده وجِماعه بلفظ واحد، كذلك السماني لفظ جماعها وواحدها سواء، وقد قيل: إن واحدة السلوى سلواة." ([31])

 

دخول القرية

(الأرض المقدسة)

 

قال تعالى: ﴿وإذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ۝ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [البقرة: 58 – 59].

"تأويل الآية: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية مباحاً لكم كل ما فيها من الطيبات، موسعاً عليكم بغير حساب؛ وادخلوا الباب سجداً، وقولوا: سجودنا هذا لله حطة من ربنا لذنوبنا يحط به آثامنا، نتغمد لكم ذنوب المذنب منكم فنسترها عليه، ونحط أوزاره عنه، وسنزيد المحسن منكم - إلى إحساننا السالف عنده - إحساناً.

ثم أخبر الله جل ثناؤه عن عظيم جهالتهم، وسوء طاعتهم ربهم وعصيانهم لأنبيائهم، واستهزائهم برسله، مع عظيم آلاء الله عز وجل عندهم، وعجائب ما أراهم من آياته وعبره، موبخاً بذلك أبناءهم الذين خوطبوا بهذه الآيات، ومعلمهم أنهم إن تعدوا في تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم، وجحودهم نبوته، مع عظيم إحسان الله بمبعثه فيهم إليهم، وعجائب ما أظهر على يده من الحجج بين أظهرهم - أن يكونوا كأسلافهم الذين وصف صفتهم، وقص علينا أنباءهم في

هذه الآيات، فقال جل ثناؤه: (فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء) الآية." ([32])

"وتأويل قوله: (حطة)، فعلة، من قول القائل: حط الله عنك خطاياك فهو يحطها حطة." ([33])

 

كيف دخل اليهود الأرض المقدسة؟

وكيف بدلوا قولاً غير الذي قيل لهم؟

 

قال تعالى: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [البقرة: 59].

"تأويل قوله: (فبدل)، فغير.

ويعني بقوله: (الذين ظلموا)، الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله.

ويعني بقوله: (قولاً غير الذي قيل لهم)، بدلوا قولاً غير الذي أمروا أن يقولوه، فقالوا خلافه.

وذلك هو التبديل والتغيير الذي كان منهم." ([34])

تبديل القول:

أنهم قالوا بدل حطة: حنطة، حبة في شعيرة.

ولم يسجدوا؛ بل دخلوا على أدبارهم. ([35])

رِجز من السماء:

كانت عاقبة ما فعلوه أن أنزل الله عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون.

"والرِّجز في لغة العرب: العذاب، وهو غير (الرُّجز)." ([36])

 

اثنتا عشرة عيناً

 

قال تعالى: ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: 60].

"يعني بقوله: (وإذ استسقى موسى لقومه): وإذ استسقانا موسى لقومه، أي: سألنا أن نسقي قومه ماء.

فترك ذكر المسؤول ذلك، والمعنى الذي سأل موسى، إذ كان فيما ذكر من الكلام الظاهر دلالة على معنى ما ترك.

وكذلك قوله: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً)، مما استغني بدلالة الظاهر على المتروك منه.

وذلك أن معنى الكلام: فقلنا اضرب بعصاك الحجر، فضربه، فانفجرت.

فترك ذكر الخبر عن ضرب موسى الحجر، إذ كان فيما ذكر دلالة على المراد منه.

وكذلك قوله: (قد علم كل أناس مشربهم)، إنما معناه: قد علم كل أناس منهم مشربهم، فترك ذكر: (منهم) لدلالة الكلام عليه.

وقد دللنا فيما مضى على أن (أناس) جمع لا واحد له من لفظه، وأن (الإنسان) لو جمع على لفظه لقيل: أناسيّ وأناسية." ([37])

" وأما قوله: (قد علم كل أناس مشربهم)، فإنما أخبر الله عنهم بذلك؛ لأن معناهم -في الذي أخرج الله جل وعز لهم من الحجر، الذي وصف جل ذكره في هذه الآية صفته- من الشرب كان مخالفاً معاني سائر الخلق فيما أخرج الله لهم من المياه من الجبال والأرضين، التي لا مالك لها سوى الله عز وجل. وذلك أن الله كان جعل لكل سبط من الأسباط الاثني عشر، عيناً من الحجر الذي وصف صفته في هذه الآية، يشرب منها دون سائر الأسباط غيره، لا يدخل سبط منهم في شرب سبط غيره، وكان مع ذلك لكل عين من تلك العيون الاثنتي عشرة، موضع من الحجر قد عرفه السبط الذي منه شربه، فلذلك خص جل ثناؤه هؤلاء بالخبر عنهم: أن كل أناس منهم كانوا عالمين بمشربهم دون غيرهم من الناس؛ إذ كان غيرهم -في الماء الذي لا يملكه أحد- شركاء في منابعه ومسايله، وكان كل سبط من هؤلاء مفرداً بشرب منبع من منابع الحجر - دون سائر منابعه - خاص لهم دون سائر الأسباط غيرهم، فلذلك خصوا بالخبر عنهم: أن كل أناس منهم قد علموا مشربهم." ([38])

وكانت هذه العيون والمشارب رزقاً من الله، امتن به على بني إسرائيل، وأمرهم ألّا يعثوا في الأرض مفسدين.

فهل سيشكرون لربهم رزقه ويستجيبون لأوامره؟

 

ميثاق بني إسرائيل ورفع الطور

 

قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [البقرة: 62 – 64].

وقال تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 154].

وقال تعالى: ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: 171].

" قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر، يا محمد، إذ اقتلعنا الجبل فرفعناه فوق بني إسرائيل، كأنه ظلة غمام من الظلال، وقلنا لهم: (خذوا ما آتيناكم بقوة)، من فرائضنا، وألزمناكم من أحكام كتابنا، فاقبلوه، اعملوا باجتهاد منكم في أدائه، من غير تقصير ولا توان، (واذكروا ما فيه)، يقول ما في كتابنا من العهود والمواثيق التي أخذنا عليكم بالعمل بما فيه.

(لعلكم تتقون)، يقول: كي تتقوا ربكم، فتخافوا عقابه بترككم العمل به إذا ذكرتم ما أخذ عليكم فيه من المواثيق." ([39])

فهل رعى بنو إسرائيل الميثاق؟

 

نقض الميثاق وقتل الأنبياء بغير حق

 

قال تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 155].

وقال تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ۝ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [آل عمران: 181 – 182].

"قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: فبنقض هؤلاء الذين وصفت صفتهم من أهل الكتاب ميثاقهم، يعني: عهودهم التي عاهدوا الله أن يعملوا بما في التوراة، وكفرهم بآيات الله، يقول: وجحودهم بآيات الله، يعني: بأعلام الله وأدلته التي احتج بها عليهم في صدق أنبيائه ورسله وحقيقة ما جاءوهم به من عنده.

(وقتلهم الأنبياء بغير حق)، يقول: وبقتلهم الأنبياء بعد قيام الحجة عليهم بنبوتهم، (بغير حق)، يعني: بغير استحقاق منهم ذلك لكبيرة أتوها، ولا خطيئة استوجبوا القتل عليها، وقولهم قلوبنا غلف، يعني: وبقولهم: (قلوبنا غلف)، يعني: يقولون: عليها غشاوة وأغطية عما تدعونا إليه، فلا نفقه ما تقول ولا نعقله.

وقد بينا معنى: (الغلف)، وذكرنا ما في ذلك من الرواية فيما مضى قبل.

(بل طبع الله عليها بكفرهم)، يقول جل ثناؤه: كذبوا في قولهم: (قلوبنا غلف)، ما هي بغلف، ولا عليها أغطية؛ ولكن الله جل ثناؤه جعل عليها طابعاً بكفرهم بالله.

وقد بينا صفة الطبع على القلب، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.

(فلا يؤمنون إلا قليلاً)، يقول: فلا يؤمن -هؤلاء الذين وصف الله صفتهم؛ لطبعه على قلوبهم، فيصدقوا بالله ورسله وما جاءتهم به من عند الله- إلا إيماناً قليلاً يعني: تصديقاً قليلاً وإنما صار قليلاً؛ لأنهم لم يصدقوا على ما أمرهم الله به؛ ولكن صدقوا ببعض الأنبياء وببعض الكتب، وكذبوا ببعض، فكان تصديقهم بما صدقوا به قليلاً؛ لأنهم وإن صدقوا به من وجه، فهم به مكذبون من وجه آخر، وذلك من وجه تكذيبهم من كذبوا به من الأنبياء وما جاءوا به من كتب الله، ورسل الله يصدق بعضهم بعضاً، وبذلك أمر كل نبي أمته، وكذلك كتب الله يصدق بعضها بعضاً، ويحقق بعض بعضاً، فالمكذب ببعضها مكذب بجميعها، من جهة جحوده ما صدقه الكتاب الذي يقر بصحته، فلذلك صار إيمانهم بما آمنوا من ذلك قليلاً." ([40])

 

لن نصبر على طعام واحد

(استبدال المن والسلوى)

 

أنعم الله على بني إسرائيل بكثير من النعم، ومنها المن والسلوى، إلا أنهم لم يشكروا لله هذه النعمة؛ بل طلبوا من نبيهم أن يستبدلها، فما هو الطعام الذي رغبوا في أن يكون بديلاً عنها؟

قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [البقرة: 61].

" قد دللنا فيما مضى قبل على معنى الصبر، وأنه كف النفس وحبسها عن الشيء.

 فإذ كان ذلك كذلك، فمعنى الآية إذا: واذكروا إذا قلتم -يا معشر بني إسرائيل-: لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد، وذلك الطعام الواحد، هو ما أخبر الله جل ثناؤه أنه أطعمهموه في تيههم، وهو السلوى في قول بعض أهل التأويل، وفي قول وهب بن منبه هو الخبز النقي مع اللحم.

فاسأل لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من البقل والقثاء، وما سمى الله مع ذلك، وذكر أنهم سألوه موسى." ([41])

" قال أبو جعفر: وقال قتادة: إنهم لما قدموا الشام فقدوا أطعمتهم التي كانوا يأكلونها، فقالوا: (ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها)، وكانوا قد ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيشاً كانوا فيه بمصر." ([42])

" والبقل والقثاء والعدس والبصل، هو ما قد عرفه الناس بينهم من نبات الأرض وحبها.

وأما الفوم، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو الحنطة والخبز." ([43])

"وقال آخرون: هو الثوم." ([44])

 

المسكنة والذلة التي ضربت على بني إسرائيل

 

قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [البقرة: 61].

الاستبدال الأدنى بالخير:

" يعني بقوله: (قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)، قال: لهم موسى: أتأخذون الذي هو أخس خطراً وقيمة وقدراً من العيش، بدلاً بالذي هو خير منه خطراً وقيمة وقدراً؟ وذلك كان استبدالهم.

وأصل الاستبدال: هو ترك شيء لآخر غيره مكان المتروك.

ومعنى قوله: (أدنى) أخس وأوضع وأصغر قدراً وخطراً، وأصله من قولهم: هذا رجل دني بين الدناءة، وإنه ليدني في الأمور، بغير همز، إذا كان يتتبع خسيسهاً، وقد ذكر الهمز عن بعض العرب في ذلك، سماعاً منهم، يقولون: ما كنت دانئاً، ولقد دنأت، وأنشدني بعض أصحابنا عن غيره، أنه سمع بعض بني كلاب ينشد بيت الأعشى:

باسلة الوقع سرابيلها             بيض إلى دانئها الظاهر

بهمز الدانئ، وأنه سمعهم يقولون: إنه لدانئ خبيث، بالهمز، فإن كان ذلك عنهم صحيحاً، فالهمز فيه لغة، وتركه أخرى.

ولا شك أن من استبدل بالمن والسلوى البقل والقثاء والعدس والبصل والثوم، فقد استبدل الوضيع من العيش الرفيع منه.

وقد تأول بعضهم قوله: (الذي هو أدنى) بمعنى: الذي هو أقرب، ووجه قوله: (أدنى)، إلى أنه أفعل من الدنو الذي هو بمعنى القرب." ([45])

" فتأويل الآية إذاً: وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، قال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أخس وأردأ من العيش، بالذي هو خير منه، فدعا لهم موسى ربه أن يعطيهم ما سألوه، فاستجاب الله له دعاءه، فأعطاهم ما طلبوا، وقال الله لهم: (اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم)." ([46])

الذلة والمسكنة:

"قال أبو جعفر: يعنى بقوله: (وضربت) أي فرضت، ووضعت عليهم الذلة وألزموها، من قول القائل: ضرب الإمام الجزية على أهل الذمة، وضرب الرجل على عبده الخراج، يعني بذلك وضعه فألزمه إياه، ومن قولهم: ضرب الأمير على الجيش البعث، يراد به: ألزمهموه.

وأما الذلة: فهي الفعلة من قول القائل: ذل فلان يذل ذلاً وذلة، كـالصغرة من: صغر الأمر، والقعدة من: قعد.

والذلة: هي الصغار الذي أمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن لا يعطوهم أماناً على القرار على ما هم عليه من كفرهم به وبرسوله - إلا أن يبذلوا الجزية عليه لهم، فقال عز وجل: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: 29]." ([47])

"وأما المسكنة: فإنها مصدر المسكين، يقال: ما فيهم أسكن من فلان، وما كان مسكيناً، ولقد تمسكن مسكنة، ومن العرب من يقول: تمسكن تمسكناً، والمسكنة في هذا الموضع مسكنة الفاقة والحاجة، وهي خشوعها وذلها." ([48])

" قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وباءوا بغضب من الله)، انصرفوا ورجعوا، ولا يقال: (باؤوا) إلا موصولاً إما بخير، وإما بشر، يقال منه: باء فلان بذنبه يبوء به بوءاً وبواء، ومنه قول الله عز وجل ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ﴾ [المائدة: 29] يعني: تنصرف متحملهما وترجع بهما، قد صارا عليك دوني.

فمعنى الكلام إذاً: ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله، قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم منه سخط." ([49])

 

بنو إسرائيل والاعتداء في السبت

 

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ۝ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 65 – 66].

"قوله: (الذين اعتدوا منكم في السبت)، أي الذين تجاوزوا حدي، وركبوا ما نهيتهم عنه في يوم السبت، وعصوا أمري.

وقد دللت -فيما مضى- على أن الاعتداء، أصله تجاوز الحد في كل شيء، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

قال أبو جعفر: وهذه الآية وآيات بعدها تتلوها، مما عدد جل ثناؤه فيها على بني إسرائيل - الذين كانوا بين خلال دور الأنصار زمان النبي صلى الله عليه وسلم، الذين ابتدأ بذكرهم في أول هذه السورة من نكث أسلافهم عهد الله وميثاقه - ما كانوا يبرمون من العقود، وحذر المخاطبين بها أن يحل بهم - بإصرارهم على كفرهم، ومقامهم على جحود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم اتباعه والتصديق بما جاءهم به من عند ربه - مثل الذي حل بأوائلهم من المسخ والرجف والصعق، وما لا قبل لهم به من غضب الله وسخطه." ([50])

"معنى قوله: (كونوا قردة خاسئين) أي، مبعدين من الخير أذلاء صغراء." ([51])

وقد ورد ذكر قصة أصحاب السبت في قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف: 163].

قال ابن كثير: "هذا السياق هو بسط لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ [البقرة: 65] الآية، يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: (واسألهم) أي واسأل هؤلاء اليهود الذين بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله، ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة، وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم؛ لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم وهذه القرية هي أيلة وهي على شاطئ بحر القلزم." ([52])

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 79 - 80، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([2]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 80، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([3]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 81، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([4]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 81، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([5]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 82، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([6]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 86 - 87، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([7]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 5/ 302، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([8]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 18/ 349 - 350، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([9]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 18/ 351، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([10]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 18/ 351.

([11]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 18/ 352 - 353.

([12]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 18/ 354 - 355، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([13]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 18/ 355 - 356.

([14]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 18/ 357.

([15]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 89، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([16]) تفسير القرآن العظيم، 4/ 89 - 90.

([17]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 5/ 305، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([18]) تفسير القرآن العظيم، 5/ 306.

([19]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 90، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([20]) تفسير القرآن العظيم، 4/ 90.

([21]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 91، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([22]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 13/ 140، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([23]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 13/ 149.

([24]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 13/ 149.

([25]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 13/ 150 - 151.

([26]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 2/ 80، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([27]) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 82 - 84.

([28]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 85.

([29]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 2/ 90، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([30]) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 91 - 95.

([31]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 96.

([32]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 2/ 111 - 112، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([33]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 105.

([34]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 2/ 112، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([35]) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 114.

([36]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 116.

([37]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 2/ 119، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([38]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 121 - 122.

([39]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 13/ 217، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([40]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 9/ 363 - 364، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([41]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 2/ 124 - 125، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([42]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 125.

([43]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 127.

([44]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 129.

([45]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 2/ 130 - 131، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([46]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 132.

([47]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 136 - 137.

([48]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 137.

([49]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 138.

([50]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 2/ 167، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([51]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 174.

([52]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 104، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.