البحث

  • رسالة لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية
    أجاب فيها عن أسئلة في علم القراءات

    حققها وقدم لها الدكتور : محمد علي سلطاني

    (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثالث عشر - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1405هـ)

    الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين . وبعد :
    فإن القراءات القرآنية من أكثر علوم القرآن والعربية أهمية وأجلها شأنا . . أما أهميتها من حيث اللغة فتعود إلى جانبين كبيرين:
    - أولهما ما تقدمه للباحثين في نشأة اللغات وتطورها وتاريخها من الظواهر اللغوية الحية على اختلاف صنوفها: في الحرف والصوت والكلمة والتركيب . .
    - وثانيهما ما تقدمه للنحو وفقه اللغة من الشواهد والنماذج مما لا يبلغ بعض شأوه شواهد العربية الأخرى في الشعر والخطب والأمثال والأقوال . . وذلك بسبب مما حظيت به القراءات منذ نشأتها من عناية وضبط وتوثيق . . بالتلقي المتثبت ، والمشافهة الواعية ، والرواية المتواترة أو النقل المستفيض ، والتدوين المقرون بالوصف الدقيق والأسانيد المدروسة الموثوقة . .
    وأما رفعة شأنها فلارتباطها بالقرآن العظيم منهاج المتقين ومعراج المرتقين ، مصداقًا لقوله عليه الصلاة والسلام: خيركم من تعلم القرآن وعلمه .
    غير أن هذا الميدان الجليل بما اتسم به من الغنى اللغوي الفريد ، نتيجة التيسير الذي عبر عنه الحديث النبوي : أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه ؛ أثار قدرًا غير قليل من القضايا التي ارتبطت بعلم القراءات ، وغدت مع الزمن أقرب إلى المشكلات ، فشغلت العلماء والباحثين عبر القرون - وما يزال بعضها يشغلهم- للوصول إلى المعرفة اليقينية بشأنها . . من ذلك قولهم: ما تفسير الأحرف السبعة؟ أهي للتكثير أم لتحديد؟ وإن كانت الأخيرة فما المقصود بها على الدقة أهي القبائل أم الطرائق أم الظواهر؟
    ما مدى شيوع التواتر بين القراءات ، أهو مقصور على السبع أم العشر أم ما فوق ذلك؟
    أهي سواء في الفصاحة أم أن بينها فصيحًا وأفصح؟ ما موقف النحو والقياس من هذا التفاوت في الفصاحة؟ . .
    هذه وغيرها أسئلة كثيرة تتردد بينهم لا تفتر ، تبحث لها عن الجواب الأخير .
    وقد أحدث اختلاف القراءات وتعددها حركة علمية مباركة ، أسفرت عن أعداد من مجموعات الكتب القيمة . . بدأت بكتب جمعت القراءات ، فأخرى نهضت بالاحتجاج لها بلغة العرب ، وثالثة وصفت مرسوم مصاحف الأمصار ، ورابعة اهتمت بالنقط والشكل . . وبقي في الميدان زوايا يلفها بعض الغموض والاختلاف وتباين الآراء ، مما تعد رسالة شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية الآتي نصها حلقة في سلسلة الردود على تساؤلات الباحثين عن الحقيقة ، حيث أجاب فيها عن عدد من هذه التساؤلات .
    أما الرسالة فهي واحدة مما تضمه مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض من نفائس المخطوطات ، وتقع في سبع صفحات تضمها أربع ورقات ضمن مجموع يحمل رقم 3653 \ ف مصور عن الأصل في مكتبة تشستربتي ، كتبه بخط نسخي دقيق علي عبد الله الغزي سنة 859 هـ .
    ومما يعد نسخة قيمة أخرى لهذا النص ، ما تم نشره بعنوان (فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ) جـ13 \ 389- 404 فقد ضم الفاضل الشيخ عبد الرحمن العاصمي هذا النص إلى الكتاب بوصفه إحدى الفتاوى التي صدرت عن شيخ الإسلام آنذاك . . وقد أفدت منه في تصويب المواضع التي تأثرت بالرطوبة في الأصل لديّ .
    ولم يذكر الشيخ العاصمي مصادره ، غير أن الاختلاف الطفيف في بعض ألفاظ النصين يثبت أنه نسخة أخرى لهذه الرسالة ، مما تجد ثماره وأثره في المتن وبعض حواشي التحقيق .
    ومما يعد طرفا في هذا التوثيق نقول مطولة لمقاطع تامة من هذا النص ، احتج بها ابن الجزري مقرونة بنسبتها إلى ابن تيمية في كتابه (النشر في القراءات العشر 1 \ 39 وما بعدها) مما تجد الإشارة إليه في مواضعه بعد .
    وتبدأ الرسالة بالبسملة والدعاء فالنص على الأثر بلا عنوان يتقدمه ، ولا ضير في هذا ، لأن النص نفسه وما ورد فيه من عبارات صريحة أدلة ناصعة على صحة نسبته إلى الشيخ الإمام ابن تيمية ، مما يطالع القارئ منذ السطور الأولى .
    وقد لقيت هذه الرسالة من عناية العلماء عبر القرون ما يبدو أثره في الخاتم الرابض في نهايتها ، وجاء في نقشه للواقف ما نصه:
    "وقف سيد يوسف فضل الله ، إمام جامع سلطان محمد خان ، للولاة وللمدرسين المتأهلين ، في جامع المزبور 1145 " .
    أما مؤلف الرسالة فغني عن التعريف ، فهو أبرز قوة فاعلة في صياغة الحياة في دولة المماليك في القرن الثامن الهجري بميادينها: العلمية والفكرية والعامة . . مما تجده مبسوطا في مظانه ، وتؤكده مئات الكتب والرسائل التي كتبها بخطه في معالجة قضايا عصره ، رافعًا بقوة صوت الدين وموقفه منها ، مما يتأبى على الحصر " فكان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن ، وحكم أن أحدًا لا يعرف مثله " .
    ومات رحمه الله معتقلا بقلعة دمشق سنة 728 هـ ، فخرجت دمشق كلها في جنازته رضي الله تعالى عنه وأرضاه .

    النص المحقق

    (1 \ أ) بسم الله الرحمن الرحيم ، رب يسر

    ما يقول سيدي الشيخ- جمع الله له خير الدنيا والآخرة- في قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف .

    - ما المراد بهذه السبعة ؟
    - وهل هذه القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم وغيرهما هي الأحرف السبعة أو واحد منها ؟
    - وما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف؟
    - وهل تجوز القراءة برواية الأعمش وابن محيصن وغيرهما من القراءات الشاذة أو لا .
    - وإذا جازت القراءة بها ، فهل تجوز الصلاة بها أو لا ؟
    أفتونا مأجورين .

    أجاب ( الشيخ تقي الدين بن تيمية ) : .
    الحمد لله رب العالمين . هذه مسألة كبيرة ، فقد تكلم فيها أصناف العلماء من الفقهاء والقراء وأهل الحديث والتفسير والكلام وشرح الغريب وغيرهم حتى صنف فيها التصنيف المفرد ، ومن آخر ما أفرد في ذلك ما صنفه الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي المعروف بأبي شامة صاحب شرح الشاطبية .
    فأما ذكر أقاويل الناس وأدلتهم وتقرير الحق فيها مبسوطًا ؛ فيحتاج من ذكر الأحاديث الواردة في ذلك وذكر ألفاظها وسائر الأدلة ، إلى ما لا يتسع له هذا المكان . . ولا يليق بمثل هذا الجواب ، ولكن نذكر النكت الجامعة التي تنبه على المقصود بالجواب ، فنقول: لا نزاع بين العلماء المعتبرين بأن الأحرف السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها ليست هي قراءات القراء السبعة المشهورة ، بل أول من جمع قراءات هؤلاء هو الإمام أبو بكر بن مجاهد ، وكان على رأس المائة الثالثة ببغداد ، فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات: الحرمين والعراقين والشام ، إذ هذه الأمصار الخمسة [هي] التي خرج منها علم النبوة: من القرآن وتفسيره ، والحديث ، والفقه في الأعمال الباطنة والظاهرة ، وسائر العلوم الدينية .
    فلما أراد ذلك ، جمع قراءات سبعة مشاهير من أئمة قراء هذه الأمصار ، ليكون ذلك موافقًا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن ، لا لاعتقاده أو اعتماد غيره من العلماء أن القراءات السبع هي الحروف السبعة ، أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم .
    ولهذا قال من قال من أئمة القراء: لولا أن ابن مجاهد سبقني إلى حمزة لجعلت مكانه يعقوب الحضرمي إمام جامع البصرة ، وإمام قراء البصرة في زمانه في رأس المئتين .
    [و] لا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده ، بل قد يكون معناهما متفقًا أو متقاربًا . كما قال عبد الله بن مسعود : "إنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال " .
    وقد يكون معنى أحدهما ليس هو معنى الآخر ، لكن كلا المعنيين حق ، وهذا اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض . وهذا كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى (1 \ ب) الله عليه وسلم في هذا ، حديث: أنزل القرآن على سبعة أحرف : إن قلت : غفورا رحيما ، أو قلت : عزيزا حكيما ؛ فالله كذلك ، ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب ، أو آية عذاب بآية رحمة" ، وهذا كما في القراءات المشهورة: .
    إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا و {إلا أن يُخافا ألا يقيما} .
    و {وإن كان مكرهم لتَزول - ولتزول - من الجبال} .
    و {بل عجبتُ} و بَلْ عَجِبْتَ . ونحو ذلك .
    ومن القراءات ما يكون المعنى فيها: متفقا من وجه ، متباينا من وجه ، كقوله:
    {يخدعون} و {يخادعون} .
    و {يُكَذِّبون} و {يَكذِبون} .
    و {لمستم} و { لامستم } .
    حَتَّى يَطْهُرْنَ و {يَطَّهَرْن} .
    ونحو ذلك .
    فهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلها حق ، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية ، يجب الإيمان بها كلها ، واتباع ما تضمنه من المعنى علمًا وعملا ، لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظنا أن ذلك تعارض ، بل كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " من كفر بحرف منه فقد كفر به كله " .
    وأما ما اتحد لفظه ومعناه ، وإنما يتنوع صفة النطق به ، كالهمزات والمدَّات والإمالات ونقل الحركات والإظهار والإدغام والاختلاس وترقيق اللامات والراءات أو تغليظها ، ونحو ذلك مما تسمى القَرَأَة عامته الأصول ، فهذا أظهر وأبين في أنه ليس فيه تناقض ولا تضاد مما تنوع فيه اللفظ أو المعنى .
    إذ هذه الصفات المتنوعة في أداء اللفظ لا تخرجه عن أن يكون لفظًا واحدًا ولا يعد ذلك فيما اختلف لفظه واتحد معناه ، أو اختلف معناه من المترادف ونحوه ، ولهذا كان دخول هذا في حرف واحد من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها ؛ مما يتنوع فيه اللفظ أو المعنى وإن وافق رسم المصحف وهو ما يختلف فيه النَقْط أو الشكل .
    ولذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتبوعون من السلف والأئمة في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة في جميع أمصار المسلمين ، بل من ثبت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة ، أو قراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي ونحوهما ، كما ثبت عنده قراءة حمزة والكسائي - فله أن يقرأ بها بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع والخلاف .
    بل أكثر العلماء الأئمة - الذين أدركوا قراءة [ حمزة ] كسفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل وبشر بن الحارث وغيرهم- يختارون قراءة أبي جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح المدنيين ، وقراءة البصريين كشيوخ يعقوب بن إسحاق وغيرهم - على قراءة حمزة والكسائي . وللعلماء [الأئمة] في ذلك من الكلام ما هو معروف عند العلماء .
    ولهذا كان أئمة أهل العراق الذين ثبتت عندهم قراءات العشرة أو الأحد عشر كثبوت هذه السبعة- يجمعون ذلك في الكتب ، ويقرأونه في الصلاة وخارج الصلاة، وذلك متفق عليه بين العلماء لم ينكره أحد منهم .
    وأما الذي ذكره القاضي عياض ومن نقل (2 \ أ) من كلامه من الإنكار على ابن شنبوذ الذي كان يقرأ بالشواذ في الصلاة في أثناء المائة الرابعة ، وجرت له قضية مشهورة ، فإنما كان ذلك في القراءات الشاذة الخارجة عن المصحف كما سنبينه .
    ولم ينكر أحد من العلماء قراءة العشرة ، ولكن من لم يكن عالما بها ، أو لم تثبت عنده - كمن يكون في بلد من بلاد الإسلام بالمغرب أو غيره ، ولم يتصل به بعض هذه القراءات- فليس له أن يقرأ بما لا يعلمه منها ، [فإن] القراءة - كما قال زيد بن ثابت : سنة يأخذها الآخر عن الأول .
    كما أن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع الاستفتاحات في الصلاة ، ومن أنواع صفة الأذان والإقامة وصفة صلاة الخوف وغير ذلك ، كله حسن ، يشرع العمل به لمن علمه .
    وأما من علم نوعا ولم يعلم غيره فليس له أن يعدل عما علمه إلى ما لم يعلم ، وليس له أن ينكر على من علم ما لم يعلمه من ذلك ، ولا أن يخالفه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تختلفوا ، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا .
    وأما القراءة الشاذة الخارجة عن رسم المصحف العثماني ، مثل قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهما: ( والليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، والذكر والأنثى ) كما قد ثبت ذلك في الصحيحين .
    ومثل قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . وكقراءته: (إن كانت إلا زقية واحدة) ونحو ذلك ، فهذه إذا ثبتت عن بعض الصحابة فهل يجوز أن يقرأ بها في الصلاة؟ [ذلك] على قولين للعلماء - هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد - وروايتان عن مالك : :
    - إحداهما يجوز ذلك ، لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرأون بهذه الحروف في الصلاة .
    - والثانية : لا يجوز ذلك ، وهو قول أكثر العلماء؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن ثبتت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة ، فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم ، أن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل عام مرة ، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين .
    والعرضة الآخرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره ، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها في المصاحف ، وكتبها أبو بكر وعمر في خلافة أبي بكر في صحف أمر زيد بن ثابت بكتابتها .
    ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار ، وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة علي وغيره .
    وهذا النزاع لا بد أن يبنى على الأصل الذي سأل عنه السائل ، وهو أن القراءات السبع: هل هي حرف من الحروف السبعة أو ، لا ؟ . فالذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة أنها حرف من الحروف السبعة ، بل يقولون: إن مصحف عثمان هو أحد الحروف السبعة ، وهو متضمن للعرضة الآخرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل ، والأحاديث (2 \ ب) والآثار المشهورة المستفيضة تدل على هذا القول .
    وذهب طوائف من الفقهاء والقراء وأهل الكلام إلى أن هذا المصحف مشتمل على الأحرف السبعة ، وقرر ذلك طوائف من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر بن الباقلاني وغيره ، بناء على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الأحرف السبعة ، وقد اتفقوا على نقل هذا المصحف الإمام العثماني وترك ما سواه ، حيث أمر عثمان بنقل القرآن من الصحف التي كان أبو بكر وعمر كتبا القرآن فيها . ثم أرسل عثمان - بمشاورة الصحابة - إلى كل مصر من أمصار المسلمين بمصحف ، وأمر بترك ما سوى ذلك . قال هؤلاء: ولا يجوز أن ينهى عن القراءة ببعض الأحرف السبعة .
    ومن نصر قول الأولين يجيب تارة بما ذكره محمد بن جرير وغيره من أن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبًا على الأمة ، إنما كان جائزا لهم مرخصا لهم فيه ، وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه ، كما أن ترتيب السور لم يكن واجبًا عليهم منصوصًا ، بل مفوضًا إلى اجتهادهم ، ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب مصحف زيد ، وكذلك مصحف غيره ، وأما ترتيب آي السور فهو منزل منصوص عليه ، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية في الرسم كما قدموا سورة على سورة ، لأن ترتيب الآيات مأمور به نصًّا ، وأما ترتيب السور فمفوض إلى اجتهادهم ، قالوا: فكذلك الأحرف السبعة . فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على حرف واحد ، اجتمعوا على ذلك اجتماعًا سائغًا- وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة- ولم يكن في ذلك ترك لواجب ولا فعل لمحظور .
    ومن هؤلاء من يقول: إن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام ، لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا ، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة ، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم وهو أرفق بهم- أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الآخرة ، ويقولون: إنه نسخ ما سوى ذلك ، وهؤلاء يوافق قولهم قول من يقول: إن حروف أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهما - مما يخالف رسم هذا المصحف- منسوخة .
    وأما من قال عن ابن مسعود : إنه يجوز القراءة بالمعنى ؛ فقد كذب عليه . وإنما قال: "قد نظرت إلى القرأة فرأيت قراءتهم متقاربة ، وإنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال . فاقرءوا كما علمتم " أو كما قال .
    فمن جوز القراءة بما يخرج عن المصحف مما ثبت عن الصحابة قال: يجوز ذلك لأنه من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها .
    ومن لم يجوزه فله أربعة مآخذ:
    - تارة يقول: ليس هو من الحروف السبعة .
    - وتارة يقول: هو من الحروف المنسوخة .
    - وتارة يقول: هو مما انعقد إجماع الصحابة على الإعراض عنه .
    - وتارة يقول: لم ينقل إلينا نقلا يثبت بمثله القرآن .
    وهذا هو الفرق بين المتقدمين والمتأخرين (3 \ أ) .
    ولهذا كان في المسألة قول ثالث وهو اختيار جدي أبي البركات أنه: إن قرأ بهذه القراءات في القراءة الواجبة - وهي الفاتحة عند القدرة عليها - لم تصح صلاته ، لأنه لم يتيقن أنه أدى الواجب من القراءة ، لعدم ثبوت القرآن بذلك . وإن قرأ بها فيما لا يجب لم تبطل صلاته ، لأنه لم يتيقن أنه أتى في الصلاة بمبطل ، لجواز أن يكون ذلك من الحروف السبعة التي أنزل عليها .
    وهذا القول ينبني على أصل ، وهو أن ما لم يثبت كونه من الحروف السبعة فهل يجب القطع بكونه ليس منها؟
    فالذي عليه جمهور العلماء أنه لا يجب القطع بذلك ، إذ ليس ذلك مما أوجب علينا أن يكون العلم به في النفي والإثبات قطعيا .
    وذهب فريق من أهل الكلام إلى وجوب القطع بنفيه ، حتى قطع بعض هؤلاء كالقاضي أبي بكر بخطأ الشافعي وغيره ممن أثبت البسملة [آية] ، من القرآن في غير سورة النمل لزعمهم أن ما كان من موارد الاجتهاد في القرآن فإنه يجب القطع بنفيه .
    والصواب القطع بخطأ هؤلاء ، وأن البسملة آية من كتاب الله حيث كتبها الصحابة في المصحف ؛ إذا لم يكتبوا فيه إلا القرآن وجردوه مما ليس منه كالتخميس والتعشير وأسماء السور . ولكن مع ذلك لا يقال: هي من السورة التي بعدها ، كما [أنها] ليست من السورة التي قبلها ، بل هي كما كتبت - آية أنزلها الله في أول كل سورة وإن لم تكن من السورة ، وهذا أعدل الأقوال الثلاثة في هذه المسألة .
    وسواء قيل بالقطع في النفي أو الإثبات ؛ فذلك لا يمنع كونها من موارد الاجتهاد التي لا تكفير ولا تفسيق فيها للنافي ولا للمثبت . بل قد يقال ما قاله طائفة من العلماء: إن كل واحد من القولين حق ، وإنها آية من القرآن في بعض القراءات- وهي قراءة الذين يفصلون بها بين السورتين - وليست آية في بعض القراءات ، وهي قراءة الذين يصلون ولا يفصلون بها
    وأما قول السائل: ما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف؟
    فهذا مرجعه إلى النقل واللغة العربية لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك كله ، إذ ليس لأحد أن يقرأ برأيه المجرد ، بل القراءة سنة متبعة وهم إذا اتفقوا على اتباع القرآن المكتوب في المصحف الإمام وقد أقرأ بعضهم بالياء وبعضهم بالتاء- لم يكن واحد منهما خارجا عن المصحف .
    ومما يوضح ذلك أنهم يتفقون في بعض المواضع على ياء أو تاء ، ويتنوعون في بعض ، كما اتفقوا في قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ في موضع ، وتنوعوا في موضعين .
    وقد بينا أن القراءتين كالآيتين ، فزيادة القراءات كزيادة الآيات ، لكن إذا كان الخط واحدا واللفظ محتملا كان ذاك أخصر في الرسم ، والاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب لا على حفظ المصاحف ، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم . فقلت: أي رب إذن يثلغوا رأسي ، فقال: إني مبتليك ومبتل بك ، ومنزل عليك كتابًا لا يغسله الماء ، تقرأه (3 \ ب) نائما ويقظان . فابعث جندا أبعث مثليهم ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، وأنفق أنفق عليك .
    فأخبر أن كتابه لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء ، بل يقرأه في كل حال ، كما جاء في نعت أمته: أناجيلهم في صدورهم بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب ولا يقرءونه كله إلا نظرا ، لا عن ظهر قلب .
    وقد ثبت في الصحيح أنه جمع القرآن كله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة: كالأربعة الذين من الأنصار ، وكعبد الله بن عمرو ، فتبين بما ذكرناه أن القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم . . ليست هي الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها ، وذلك باتفاق علماء السلف والخلف ، وكذلك ليست هذه القراءات السبع هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها ، باتفاق العلماء المعتبرين ، بل القراءات الثابتة عن أئمة القراءة كالأعمش ويعقوب وخلف وأبي جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح ونحوهم هي بمنزلة القراءات الثابتة عن هؤلاء السبعة ، عند من ثبت ذلك عنده كما ثبت ذلك .
    وهذا أيضًا مما لم يتنازع فيه الأئمة المتبوعون من أئمة الفقهاء والقراء وغيرهم ، وإنما تنازع الناس من الخلف في المصحف العثماني الإمام ، الذي أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان والأمة بعدهم- (هل هو بما فيه من قراءة السبعة وتمام العشرة وغير ذلك ، حرف من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها) أو هو مجموع الأحرف السبعة؟ على قولين مشهورين:
    - الأول: قول أئمة السلف والعلماء .
    - الثاني: قول طوائف من أهل الكلام والقراء وغيرهم .
    وهم متفقون على أن الأحرف السبعة لا يخالف بعضها بعضًا خلافا يتضاد فيه المعنى ويتناقض ، بل يصدق بعضها بعضًا كما تصدق الآيات بعضها بعضًا .
    وسبب تنوع القراءات فيما احتمله خط المصحف هو تجويز الشارع وتسويغه ذلك لهم ، إذ مرجع ذلك إلى السنة والاتباع لا إلى الرأي والابتداع .
    أما إذا قيل: إن ذلك هي الأحرف السبعة فظاهر ، وكذلك بطريق الأولى إذا قيل: إن ذلك حرف من الأحرف السبعة . فإنه إذا كان قد سوغ لهم أن يقرءوه على سبعة أحرف كلها شاف كاف مع تنوع الأحرف في الرسم - فلأن يسوغ ذلك مع اتفاق ذلك في الرسم وتنوعه في اللفظ أولى وأحرى .
    وهذا من أسباب تركهم المصاحف - أول ما كتبت - غير مشكولة ولا منقوطة ، لتكون صورة الرسم محتملة لأمرين: كالتاء والياء ، والفتح والضم . وهم يضبطون
    المنقولين المسموعين المتلوين - شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المنقولين المعقولين المفهومين .
    فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلقوا عنه ما أمره الله بتبليغه إليهم من القرآن لفظه ومعناه جميعًا ، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي .
    - وهو الذي روى عن عثمان رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه كما رواه البخاري في صحيحه ، وكان يقرئ القرآن أربعين سنة ، قال : -
    "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا: عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما ، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل . . قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا" .
    ولهذا دخل في معنى قوله : خيركم من تعلم القرآن وعلمه تعليم حروفه ومعانيه جميعا ، بل تعليم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه ، وذلك هو الذي يزيد الإيمان . كما قال جندب بن عبد الله وعبد الله بن عمر (10) وغيرهما:
    "تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا ، وإنكم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان " .
    وفي الصحيحين عن حذيفة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين ، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر ؛ حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ونزل القرآن . . . وذكر الحديث بطوله ، ولا تتسع هذه الورقة لذكر ذلك .
    وإنما المقصود التنبيه على أن ذلك كله مما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس ، وبلغنا أصحابه عنه الإيمان والقرآن حروفه ومعانيه ، وذلك مما أوحاه الله إليه . كما قال تعالى : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا .
    وتجوز القراءة في الصلاة وخارجها بالقراءات الثابتة الموافقة لرسم المصحف كما ثبتت هذه القراءات وليست بشاذة حينئذ . والله أعلم بالصواب .
    تمت بحمد الله وعونه وحسن توفيقه في يوم الثلاثاء سادس عشرين جماد[ى] الأولى من شهور سنة تسع وخمسين وثمانمائة .

    مصادر البحث والتحقيق

    * الإبانة عن معاني القراءات . لمكي القيسي . تح د . محيي الدين رمضان . دار المأمون للتراث بدمشق 1399 هـ - 1979 م .
    * إبراز المعاني من حرز الأماني لأبي شامة الدمشقي . البابي الحلبي بمصر 1349 هـ.
    * الإصابة في تمييز الصحابة . لابن حجر العسقلاني .
    الطبعة الأولى - مطبعة السعادة بمصر 1328 هـ .
    * الأعلام . للزركلي . الطبعة الثالثة .
    * تاريخ بغداد . للخطيب البغدادي . دار الكتاب العربي - بيروت .
    * تفسير القرطبي - مصورة عن طبعة دار الكتب .
    * التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو الداني . تح أوتوبرتزل ط . استانبول 1930 م .
    * السبعة لابن مجاهد . تح د . شوقي ضيف ط . الثانية - دار المعارف بالقاهرة 1400 هـ * الشاطبية . وشرحها للشيخ علي الضباع .
    مكتبة صبيح بالقاهرة 1381 هـ - 1961م .
    * صحيح البخاري . مصورة الطبعة الأولى 1315 هـ بمصر .
    * صحيح مسلم بشرح النووي - المطبعة المصرية ومكتبتها .
    * غاية النهاية في طبقات القراء . لابن الجزري . تح . برجستراسر . مصورة الطبعة الأولى 1351م هـ - 1932 .
    * كتاب سيبويه . مصورة طبعة بولاق .
    * لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني تح الشيخ عامر عثمان ود . عبد الصبور شاهين بالقاهرة 1392 هـ - 1972 .
    * لسان العرب لابن منظور . مصورة طبعة بولاق 1300 هـ .
    * مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية . جمع وترتيب عبد الرحمن العاصمي وابنه محمد .
    مصورة الطبعة الأولى 1398 هـ .
    * المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز . لأبي شامة الدمشقي تح طيار آلتي قولاج ط . دار صادر - بيروت 1395 هـ - 1975م .
    * مسند الإمام أحمد . مصورة الطبعة الأولى . الميمنية بمصر 1313 هـ .
    * منجد المقرئين ومرشد الطالبين . لابن الجزري . مكتبة القدسي 1350 هـ .
    * النشر في القراءات العشر . لابن الجزري . تح الشيخ علي الضباع .
    * وفيات الأعيان لابن خلكان . تح د . إحسان عباس . دار الثقافة ببيروت .
    رسالة لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية أجاب فيها عن أسئلة في علم القراءات حققها وقدم لها الدكتور : محمد علي سلطاني (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثالث عشر - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1405هـ) الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين . وبعد : فإن القراءات القرآنية من أكثر علوم القرآن والعربية أهمية وأجلها شأنا . . أما أهميتها من حيث اللغة فتعود إلى جانبين كبيرين: - أولهما ما تقدمه للباحثين في نشأة اللغات وتطورها وتاريخها من الظواهر اللغوية الحية على اختلاف صنوفها: في الحرف والصوت والكلمة والتركيب . . - وثانيهما ما تقدمه للنحو وفقه اللغة من الشواهد والنماذج مما لا يبلغ بعض شأوه شواهد العربية الأخرى في الشعر والخطب والأمثال والأقوال . . وذلك بسبب مما حظيت به القراءات منذ نشأتها من عناية وضبط وتوثيق . . بالتلقي المتثبت ، والمشافهة الواعية ، والرواية المتواترة أو النقل المستفيض ، والتدوين المقرون بالوصف الدقيق والأسانيد المدروسة الموثوقة . . وأما رفعة شأنها فلارتباطها بالقرآن العظيم منهاج المتقين ومعراج المرتقين ، مصداقًا لقوله عليه الصلاة والسلام: خيركم من تعلم القرآن وعلمه . غير أن هذا الميدان الجليل بما اتسم به من الغنى اللغوي الفريد ، نتيجة التيسير الذي عبر عنه الحديث النبوي : أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه ؛ أثار قدرًا غير قليل من القضايا التي ارتبطت بعلم القراءات ، وغدت مع الزمن أقرب إلى المشكلات ، فشغلت العلماء والباحثين عبر القرون - وما يزال بعضها يشغلهم- للوصول إلى المعرفة اليقينية بشأنها . . من ذلك قولهم: ما تفسير الأحرف السبعة؟ أهي للتكثير أم لتحديد؟ وإن كانت الأخيرة فما المقصود بها على الدقة أهي القبائل أم الطرائق أم الظواهر؟ ما مدى شيوع التواتر بين القراءات ، أهو مقصور على السبع أم العشر أم ما فوق ذلك؟ أهي سواء في الفصاحة أم أن بينها فصيحًا وأفصح؟ ما موقف النحو والقياس من هذا التفاوت في الفصاحة؟ . . هذه وغيرها أسئلة كثيرة تتردد بينهم لا تفتر ، تبحث لها عن الجواب الأخير . وقد أحدث اختلاف القراءات وتعددها حركة علمية مباركة ، أسفرت عن أعداد من مجموعات الكتب القيمة . . بدأت بكتب جمعت القراءات ، فأخرى نهضت بالاحتجاج لها بلغة العرب ، وثالثة وصفت مرسوم مصاحف الأمصار ، ورابعة اهتمت بالنقط والشكل . . وبقي في الميدان زوايا يلفها بعض الغموض والاختلاف وتباين الآراء ، مما تعد رسالة شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية الآتي نصها حلقة في سلسلة الردود على تساؤلات الباحثين عن الحقيقة ، حيث أجاب فيها عن عدد من هذه التساؤلات . أما الرسالة فهي واحدة مما تضمه مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض من نفائس المخطوطات ، وتقع في سبع صفحات تضمها أربع ورقات ضمن مجموع يحمل رقم 3653 \ ف مصور عن الأصل في مكتبة تشستربتي ، كتبه بخط نسخي دقيق علي عبد الله الغزي سنة 859 هـ . ومما يعد نسخة قيمة أخرى لهذا النص ، ما تم نشره بعنوان (فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ) جـ13 \ 389- 404 فقد ضم الفاضل الشيخ عبد الرحمن العاصمي هذا النص إلى الكتاب بوصفه إحدى الفتاوى التي صدرت عن شيخ الإسلام آنذاك . . وقد أفدت منه في تصويب المواضع التي تأثرت بالرطوبة في الأصل لديّ . ولم يذكر الشيخ العاصمي مصادره ، غير أن الاختلاف الطفيف في بعض ألفاظ النصين يثبت أنه نسخة أخرى لهذه الرسالة ، مما تجد ثماره وأثره في المتن وبعض حواشي التحقيق . ومما يعد طرفا في هذا التوثيق نقول مطولة لمقاطع تامة من هذا النص ، احتج بها ابن الجزري مقرونة بنسبتها إلى ابن تيمية في كتابه (النشر في القراءات العشر 1 \ 39 وما بعدها) مما تجد الإشارة إليه في مواضعه بعد . وتبدأ الرسالة بالبسملة والدعاء فالنص على الأثر بلا عنوان يتقدمه ، ولا ضير في هذا ، لأن النص نفسه وما ورد فيه من عبارات صريحة أدلة ناصعة على صحة نسبته إلى الشيخ الإمام ابن تيمية ، مما يطالع القارئ منذ السطور الأولى . وقد لقيت هذه الرسالة من عناية العلماء عبر القرون ما يبدو أثره في الخاتم الرابض في نهايتها ، وجاء في نقشه للواقف ما نصه: "وقف سيد يوسف فضل الله ، إمام جامع سلطان محمد خان ، للولاة وللمدرسين المتأهلين ، في جامع المزبور 1145 " . أما مؤلف الرسالة فغني عن التعريف ، فهو أبرز قوة فاعلة في صياغة الحياة في دولة المماليك في القرن الثامن الهجري بميادينها: العلمية والفكرية والعامة . . مما تجده مبسوطا في مظانه ، وتؤكده مئات الكتب والرسائل التي كتبها بخطه في معالجة قضايا عصره ، رافعًا بقوة صوت الدين وموقفه منها ، مما يتأبى على الحصر " فكان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن ، وحكم أن أحدًا لا يعرف مثله " . ومات رحمه الله معتقلا بقلعة دمشق سنة 728 هـ ، فخرجت دمشق كلها في جنازته رضي الله تعالى عنه وأرضاه . النص المحقق (1 \ أ) بسم الله الرحمن الرحيم ، رب يسر ما يقول سيدي الشيخ- جمع الله له خير الدنيا والآخرة- في قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف . - ما المراد بهذه السبعة ؟ - وهل هذه القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم وغيرهما هي الأحرف السبعة أو واحد منها ؟ - وما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف؟ - وهل تجوز القراءة برواية الأعمش وابن محيصن وغيرهما من القراءات الشاذة أو لا . - وإذا جازت القراءة بها ، فهل تجوز الصلاة بها أو لا ؟ أفتونا مأجورين . أجاب ( الشيخ تقي الدين بن تيمية ) : . الحمد لله رب العالمين . هذه مسألة كبيرة ، فقد تكلم فيها أصناف العلماء من الفقهاء والقراء وأهل الحديث والتفسير والكلام وشرح الغريب وغيرهم حتى صنف فيها التصنيف المفرد ، ومن آخر ما أفرد في ذلك ما صنفه الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي المعروف بأبي شامة صاحب شرح الشاطبية . فأما ذكر أقاويل الناس وأدلتهم وتقرير الحق فيها مبسوطًا ؛ فيحتاج من ذكر الأحاديث الواردة في ذلك وذكر ألفاظها وسائر الأدلة ، إلى ما لا يتسع له هذا المكان . . ولا يليق بمثل هذا الجواب ، ولكن نذكر النكت الجامعة التي تنبه على المقصود بالجواب ، فنقول: لا نزاع بين العلماء المعتبرين بأن الأحرف السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها ليست هي قراءات القراء السبعة المشهورة ، بل أول من جمع قراءات هؤلاء هو الإمام أبو بكر بن مجاهد ، وكان على رأس المائة الثالثة ببغداد ، فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات: الحرمين والعراقين والشام ، إذ هذه الأمصار الخمسة [هي] التي خرج منها علم النبوة: من القرآن وتفسيره ، والحديث ، والفقه في الأعمال الباطنة والظاهرة ، وسائر العلوم الدينية . فلما أراد ذلك ، جمع قراءات سبعة مشاهير من أئمة قراء هذه الأمصار ، ليكون ذلك موافقًا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن ، لا لاعتقاده أو اعتماد غيره من العلماء أن القراءات السبع هي الحروف السبعة ، أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم . ولهذا قال من قال من أئمة القراء: لولا أن ابن مجاهد سبقني إلى حمزة لجعلت مكانه يعقوب الحضرمي إمام جامع البصرة ، وإمام قراء البصرة في زمانه في رأس المئتين . [و] لا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده ، بل قد يكون معناهما متفقًا أو متقاربًا . كما قال عبد الله بن مسعود : "إنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال " . وقد يكون معنى أحدهما ليس هو معنى الآخر ، لكن كلا المعنيين حق ، وهذا اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض . وهذا كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى (1 \ ب) الله عليه وسلم في هذا ، حديث: أنزل القرآن على سبعة أحرف : إن قلت : غفورا رحيما ، أو قلت : عزيزا حكيما ؛ فالله كذلك ، ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب ، أو آية عذاب بآية رحمة" ، وهذا كما في القراءات المشهورة: . إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا و {إلا أن يُخافا ألا يقيما} . و {وإن كان مكرهم لتَزول - ولتزول - من الجبال} . و {بل عجبتُ} و بَلْ عَجِبْتَ . ونحو ذلك . ومن القراءات ما يكون المعنى فيها: متفقا من وجه ، متباينا من وجه ، كقوله: {يخدعون} و {يخادعون} . و {يُكَذِّبون} و {يَكذِبون} . و {لمستم} و { لامستم } . حَتَّى يَطْهُرْنَ و {يَطَّهَرْن} . ونحو ذلك . فهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلها حق ، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية ، يجب الإيمان بها كلها ، واتباع ما تضمنه من المعنى علمًا وعملا ، لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظنا أن ذلك تعارض ، بل كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " من كفر بحرف منه فقد كفر به كله " . وأما ما اتحد لفظه ومعناه ، وإنما يتنوع صفة النطق به ، كالهمزات والمدَّات والإمالات ونقل الحركات والإظهار والإدغام والاختلاس وترقيق اللامات والراءات أو تغليظها ، ونحو ذلك مما تسمى القَرَأَة عامته الأصول ، فهذا أظهر وأبين في أنه ليس فيه تناقض ولا تضاد مما تنوع فيه اللفظ أو المعنى . إذ هذه الصفات المتنوعة في أداء اللفظ لا تخرجه عن أن يكون لفظًا واحدًا ولا يعد ذلك فيما اختلف لفظه واتحد معناه ، أو اختلف معناه من المترادف ونحوه ، ولهذا كان دخول هذا في حرف واحد من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها ؛ مما يتنوع فيه اللفظ أو المعنى وإن وافق رسم المصحف وهو ما يختلف فيه النَقْط أو الشكل . ولذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتبوعون من السلف والأئمة في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة في جميع أمصار المسلمين ، بل من ثبت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة ، أو قراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي ونحوهما ، كما ثبت عنده قراءة حمزة والكسائي - فله أن يقرأ بها بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع والخلاف . بل أكثر العلماء الأئمة - الذين أدركوا قراءة [ حمزة ] كسفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل وبشر بن الحارث وغيرهم- يختارون قراءة أبي جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح المدنيين ، وقراءة البصريين كشيوخ يعقوب بن إسحاق وغيرهم - على قراءة حمزة والكسائي . وللعلماء [الأئمة] في ذلك من الكلام ما هو معروف عند العلماء . ولهذا كان أئمة أهل العراق الذين ثبتت عندهم قراءات العشرة أو الأحد عشر كثبوت هذه السبعة- يجمعون ذلك في الكتب ، ويقرأونه في الصلاة وخارج الصلاة، وذلك متفق عليه بين العلماء لم ينكره أحد منهم . وأما الذي ذكره القاضي عياض ومن نقل (2 \ أ) من كلامه من الإنكار على ابن شنبوذ الذي كان يقرأ بالشواذ في الصلاة في أثناء المائة الرابعة ، وجرت له قضية مشهورة ، فإنما كان ذلك في القراءات الشاذة الخارجة عن المصحف كما سنبينه . ولم ينكر أحد من العلماء قراءة العشرة ، ولكن من لم يكن عالما بها ، أو لم تثبت عنده - كمن يكون في بلد من بلاد الإسلام بالمغرب أو غيره ، ولم يتصل به بعض هذه القراءات- فليس له أن يقرأ بما لا يعلمه منها ، [فإن] القراءة - كما قال زيد بن ثابت : سنة يأخذها الآخر عن الأول . كما أن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع الاستفتاحات في الصلاة ، ومن أنواع صفة الأذان والإقامة وصفة صلاة الخوف وغير ذلك ، كله حسن ، يشرع العمل به لمن علمه . وأما من علم نوعا ولم يعلم غيره فليس له أن يعدل عما علمه إلى ما لم يعلم ، وليس له أن ينكر على من علم ما لم يعلمه من ذلك ، ولا أن يخالفه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تختلفوا ، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا . وأما القراءة الشاذة الخارجة عن رسم المصحف العثماني ، مثل قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهما: ( والليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، والذكر والأنثى ) كما قد ثبت ذلك في الصحيحين . ومثل قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . وكقراءته: (إن كانت إلا زقية واحدة) ونحو ذلك ، فهذه إذا ثبتت عن بعض الصحابة فهل يجوز أن يقرأ بها في الصلاة؟ [ذلك] على قولين للعلماء - هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد - وروايتان عن مالك : : - إحداهما يجوز ذلك ، لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرأون بهذه الحروف في الصلاة . - والثانية : لا يجوز ذلك ، وهو قول أكثر العلماء؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن ثبتت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة ، فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم ، أن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل عام مرة ، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين . والعرضة الآخرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره ، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها في المصاحف ، وكتبها أبو بكر وعمر في خلافة أبي بكر في صحف أمر زيد بن ثابت بكتابتها . ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار ، وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة علي وغيره . وهذا النزاع لا بد أن يبنى على الأصل الذي سأل عنه السائل ، وهو أن القراءات السبع: هل هي حرف من الحروف السبعة أو ، لا ؟ . فالذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة أنها حرف من الحروف السبعة ، بل يقولون: إن مصحف عثمان هو أحد الحروف السبعة ، وهو متضمن للعرضة الآخرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل ، والأحاديث (2 \ ب) والآثار المشهورة المستفيضة تدل على هذا القول . وذهب طوائف من الفقهاء والقراء وأهل الكلام إلى أن هذا المصحف مشتمل على الأحرف السبعة ، وقرر ذلك طوائف من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر بن الباقلاني وغيره ، بناء على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الأحرف السبعة ، وقد اتفقوا على نقل هذا المصحف الإمام العثماني وترك ما سواه ، حيث أمر عثمان بنقل القرآن من الصحف التي كان أبو بكر وعمر كتبا القرآن فيها . ثم أرسل عثمان - بمشاورة الصحابة - إلى كل مصر من أمصار المسلمين بمصحف ، وأمر بترك ما سوى ذلك . قال هؤلاء: ولا يجوز أن ينهى عن القراءة ببعض الأحرف السبعة . ومن نصر قول الأولين يجيب تارة بما ذكره محمد بن جرير وغيره من أن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبًا على الأمة ، إنما كان جائزا لهم مرخصا لهم فيه ، وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه ، كما أن ترتيب السور لم يكن واجبًا عليهم منصوصًا ، بل مفوضًا إلى اجتهادهم ، ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب مصحف زيد ، وكذلك مصحف غيره ، وأما ترتيب آي السور فهو منزل منصوص عليه ، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية في الرسم كما قدموا سورة على سورة ، لأن ترتيب الآيات مأمور به نصًّا ، وأما ترتيب السور فمفوض إلى اجتهادهم ، قالوا: فكذلك الأحرف السبعة . فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على حرف واحد ، اجتمعوا على ذلك اجتماعًا سائغًا- وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة- ولم يكن في ذلك ترك لواجب ولا فعل لمحظور . ومن هؤلاء من يقول: إن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام ، لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا ، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة ، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم وهو أرفق بهم- أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الآخرة ، ويقولون: إنه نسخ ما سوى ذلك ، وهؤلاء يوافق قولهم قول من يقول: إن حروف أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهما - مما يخالف رسم هذا المصحف- منسوخة . وأما من قال عن ابن مسعود : إنه يجوز القراءة بالمعنى ؛ فقد كذب عليه . وإنما قال: "قد نظرت إلى القرأة فرأيت قراءتهم متقاربة ، وإنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال . فاقرءوا كما علمتم " أو كما قال . فمن جوز القراءة بما يخرج عن المصحف مما ثبت عن الصحابة قال: يجوز ذلك لأنه من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها . ومن لم يجوزه فله أربعة مآخذ: - تارة يقول: ليس هو من الحروف السبعة . - وتارة يقول: هو من الحروف المنسوخة . - وتارة يقول: هو مما انعقد إجماع الصحابة على الإعراض عنه . - وتارة يقول: لم ينقل إلينا نقلا يثبت بمثله القرآن . وهذا هو الفرق بين المتقدمين والمتأخرين (3 \ أ) . ولهذا كان في المسألة قول ثالث وهو اختيار جدي أبي البركات أنه: إن قرأ بهذه القراءات في القراءة الواجبة - وهي الفاتحة عند القدرة عليها - لم تصح صلاته ، لأنه لم يتيقن أنه أدى الواجب من القراءة ، لعدم ثبوت القرآن بذلك . وإن قرأ بها فيما لا يجب لم تبطل صلاته ، لأنه لم يتيقن أنه أتى في الصلاة بمبطل ، لجواز أن يكون ذلك من الحروف السبعة التي أنزل عليها . وهذا القول ينبني على أصل ، وهو أن ما لم يثبت كونه من الحروف السبعة فهل يجب القطع بكونه ليس منها؟ فالذي عليه جمهور العلماء أنه لا يجب القطع بذلك ، إذ ليس ذلك مما أوجب علينا أن يكون العلم به في النفي والإثبات قطعيا . وذهب فريق من أهل الكلام إلى وجوب القطع بنفيه ، حتى قطع بعض هؤلاء كالقاضي أبي بكر بخطأ الشافعي وغيره ممن أثبت البسملة [آية] ، من القرآن في غير سورة النمل لزعمهم أن ما كان من موارد الاجتهاد في القرآن فإنه يجب القطع بنفيه . والصواب القطع بخطأ هؤلاء ، وأن البسملة آية من كتاب الله حيث كتبها الصحابة في المصحف ؛ إذا لم يكتبوا فيه إلا القرآن وجردوه مما ليس منه كالتخميس والتعشير وأسماء السور . ولكن مع ذلك لا يقال: هي من السورة التي بعدها ، كما [أنها] ليست من السورة التي قبلها ، بل هي كما كتبت - آية أنزلها الله في أول كل سورة وإن لم تكن من السورة ، وهذا أعدل الأقوال الثلاثة في هذه المسألة . وسواء قيل بالقطع في النفي أو الإثبات ؛ فذلك لا يمنع كونها من موارد الاجتهاد التي لا تكفير ولا تفسيق فيها للنافي ولا للمثبت . بل قد يقال ما قاله طائفة من العلماء: إن كل واحد من القولين حق ، وإنها آية من القرآن في بعض القراءات- وهي قراءة الذين يفصلون بها بين السورتين - وليست آية في بعض القراءات ، وهي قراءة الذين يصلون ولا يفصلون بها وأما قول السائل: ما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف؟ فهذا مرجعه إلى النقل واللغة العربية لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك كله ، إذ ليس لأحد أن يقرأ برأيه المجرد ، بل القراءة سنة متبعة وهم إذا اتفقوا على اتباع القرآن المكتوب في المصحف الإمام وقد أقرأ بعضهم بالياء وبعضهم بالتاء- لم يكن واحد منهما خارجا عن المصحف . ومما يوضح ذلك أنهم يتفقون في بعض المواضع على ياء أو تاء ، ويتنوعون في بعض ، كما اتفقوا في قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ في موضع ، وتنوعوا في موضعين . وقد بينا أن القراءتين كالآيتين ، فزيادة القراءات كزيادة الآيات ، لكن إذا كان الخط واحدا واللفظ محتملا كان ذاك أخصر في الرسم ، والاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب لا على حفظ المصاحف ، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم . فقلت: أي رب إذن يثلغوا رأسي ، فقال: إني مبتليك ومبتل بك ، ومنزل عليك كتابًا لا يغسله الماء ، تقرأه (3 \ ب) نائما ويقظان . فابعث جندا أبعث مثليهم ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، وأنفق أنفق عليك . فأخبر أن كتابه لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء ، بل يقرأه في كل حال ، كما جاء في نعت أمته: أناجيلهم في صدورهم بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب ولا يقرءونه كله إلا نظرا ، لا عن ظهر قلب . وقد ثبت في الصحيح أنه جمع القرآن كله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة: كالأربعة الذين من الأنصار ، وكعبد الله بن عمرو ، فتبين بما ذكرناه أن القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم . . ليست هي الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها ، وذلك باتفاق علماء السلف والخلف ، وكذلك ليست هذه القراءات السبع هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها ، باتفاق العلماء المعتبرين ، بل القراءات الثابتة عن أئمة القراءة كالأعمش ويعقوب وخلف وأبي جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح ونحوهم هي بمنزلة القراءات الثابتة عن هؤلاء السبعة ، عند من ثبت ذلك عنده كما ثبت ذلك . وهذا أيضًا مما لم يتنازع فيه الأئمة المتبوعون من أئمة الفقهاء والقراء وغيرهم ، وإنما تنازع الناس من الخلف في المصحف العثماني الإمام ، الذي أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان والأمة بعدهم- (هل هو بما فيه من قراءة السبعة وتمام العشرة وغير ذلك ، حرف من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها) أو هو مجموع الأحرف السبعة؟ على قولين مشهورين: - الأول: قول أئمة السلف والعلماء . - الثاني: قول طوائف من أهل الكلام والقراء وغيرهم . وهم متفقون على أن الأحرف السبعة لا يخالف بعضها بعضًا خلافا يتضاد فيه المعنى ويتناقض ، بل يصدق بعضها بعضًا كما تصدق الآيات بعضها بعضًا . وسبب تنوع القراءات فيما احتمله خط المصحف هو تجويز الشارع وتسويغه ذلك لهم ، إذ مرجع ذلك إلى السنة والاتباع لا إلى الرأي والابتداع . أما إذا قيل: إن ذلك هي الأحرف السبعة فظاهر ، وكذلك بطريق الأولى إذا قيل: إن ذلك حرف من الأحرف السبعة . فإنه إذا كان قد سوغ لهم أن يقرءوه على سبعة أحرف كلها شاف كاف مع تنوع الأحرف في الرسم - فلأن يسوغ ذلك مع اتفاق ذلك في الرسم وتنوعه في اللفظ أولى وأحرى . وهذا من أسباب تركهم المصاحف - أول ما كتبت - غير مشكولة ولا منقوطة ، لتكون صورة الرسم محتملة لأمرين: كالتاء والياء ، والفتح والضم . وهم يضبطون المنقولين المسموعين المتلوين - شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المنقولين المعقولين المفهومين . فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلقوا عنه ما أمره الله بتبليغه إليهم من القرآن لفظه ومعناه جميعًا ، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي . - وهو الذي روى عن عثمان رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه كما رواه البخاري في صحيحه ، وكان يقرئ القرآن أربعين سنة ، قال : - "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا: عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما ، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل . . قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا" . ولهذا دخل في معنى قوله : خيركم من تعلم القرآن وعلمه تعليم حروفه ومعانيه جميعا ، بل تعليم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه ، وذلك هو الذي يزيد الإيمان . كما قال جندب بن عبد الله وعبد الله بن عمر (10) وغيرهما: "تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا ، وإنكم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان " . وفي الصحيحين عن حذيفة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين ، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر ؛ حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ونزل القرآن . . . وذكر الحديث بطوله ، ولا تتسع هذه الورقة لذكر ذلك . وإنما المقصود التنبيه على أن ذلك كله مما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس ، وبلغنا أصحابه عنه الإيمان والقرآن حروفه ومعانيه ، وذلك مما أوحاه الله إليه . كما قال تعالى : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا . وتجوز القراءة في الصلاة وخارجها بالقراءات الثابتة الموافقة لرسم المصحف كما ثبتت هذه القراءات وليست بشاذة حينئذ . والله أعلم بالصواب . تمت بحمد الله وعونه وحسن توفيقه في يوم الثلاثاء سادس عشرين جماد[ى] الأولى من شهور سنة تسع وخمسين وثمانمائة . مصادر البحث والتحقيق * الإبانة عن معاني القراءات . لمكي القيسي . تح د . محيي الدين رمضان . دار المأمون للتراث بدمشق 1399 هـ - 1979 م . * إبراز المعاني من حرز الأماني لأبي شامة الدمشقي . البابي الحلبي بمصر 1349 هـ. * الإصابة في تمييز الصحابة . لابن حجر العسقلاني . الطبعة الأولى - مطبعة السعادة بمصر 1328 هـ . * الأعلام . للزركلي . الطبعة الثالثة . * تاريخ بغداد . للخطيب البغدادي . دار الكتاب العربي - بيروت . * تفسير القرطبي - مصورة عن طبعة دار الكتب . * التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو الداني . تح أوتوبرتزل ط . استانبول 1930 م . * السبعة لابن مجاهد . تح د . شوقي ضيف ط . الثانية - دار المعارف بالقاهرة 1400 هـ * الشاطبية . وشرحها للشيخ علي الضباع . مكتبة صبيح بالقاهرة 1381 هـ - 1961م . * صحيح البخاري . مصورة الطبعة الأولى 1315 هـ بمصر . * صحيح مسلم بشرح النووي - المطبعة المصرية ومكتبتها . * غاية النهاية في طبقات القراء . لابن الجزري . تح . برجستراسر . مصورة الطبعة الأولى 1351م هـ - 1932 . * كتاب سيبويه . مصورة طبعة بولاق . * لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني تح الشيخ عامر عثمان ود . عبد الصبور شاهين بالقاهرة 1392 هـ - 1972 . * لسان العرب لابن منظور . مصورة طبعة بولاق 1300 هـ . * مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية . جمع وترتيب عبد الرحمن العاصمي وابنه محمد . مصورة الطبعة الأولى 1398 هـ . * المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز . لأبي شامة الدمشقي تح طيار آلتي قولاج ط . دار صادر - بيروت 1395 هـ - 1975م . * مسند الإمام أحمد . مصورة الطبعة الأولى . الميمنية بمصر 1313 هـ . * منجد المقرئين ومرشد الطالبين . لابن الجزري . مكتبة القدسي 1350 هـ . * النشر في القراءات العشر . لابن الجزري . تح الشيخ علي الضباع . * وفيات الأعيان لابن خلكان . تح د . إحسان عباس . دار الثقافة ببيروت .
    0
  • مراعاة التركيب وأثره في بيان انسجام نظم القرآن*
    ابن عاشور أنموذجًا (1-3)

    الكاتب : مصطفى فاتيحي

    درَج القرآن الكريم على استعمال الأساليب والتراكيب العربية؛ كونه نزل على لغة العرب، وقد تبارت أقلام العلماء قديمًا وحديثًا في تفسير القرآن وفهمه وتناوُل ما يكتنزه كتاب الله من أسرار لغوية ومكنونات دلالية، وكذلك ما يحمله من مناسبات وارتباطات بين أجزاء تراكيبه، وقد تباينت نتائجهم وتقريراتهم أحيانًا في بيان وجوه الارتباط بين أجزاء النَّظْم وتأمّل المناسبات بينها بحسب أدوات البحث والتنقيب المستعملة، وحسب تفاوت القرائح والملَكات ودرجات العمق في تأمّل النظم وطرائق التراكيب العربية التي استخدمها النصّ، وتحليل هذه التراكيب ووجوه التعالق بينها.

    ولا شك أنّ العمق في فهم التراكيب العربية له أثرٌ بارزٌ جدًّا في فهم انسجام النصّ ذاته، ومسالك اتساق خطابه، وكيفيات انتقاله من حال لآخر، وبيان أسباب استعماله لأسلوب معيّن في موطن معين، وأن هذا الأسلوب لا يمثل قطعًا دلاليًّا بقدر ما يطرح ثراءً في المعنى يتحقّق به انسجام النصّ على صورة بديعة، ويفضي لتكامله واتساق نظمه؛ ومن هاهنا فإننا سنحاول في هذه المقالات أن نعالج هذه القضية، ونبرز أثر التعمق في فهم التراكيب القرآنية في عملية الفهم للخطاب القرآني، وبيان درجة الانسجام الحاصلة في هذا الخطاب.

    إنّ أساليب التركيب التي استعملها القرآن تشمل الكثير من الأمور، ويندرج في طيّاتها العديد من المسائل النحوية والبيانية التي يمكن أن يتأتّى عليها نسق بناء الجمل والعبارات في النصّ، غير أننا سنُعنى في معالجتنا بالتراكيب والأساليب البيانية فقط. كما أن اشتغالنا سيكون مأطورًا بقضيتي (الاستئناف البياني، والجملة المعترضة في القرآن) بشكلٍ خاصّ لأمور سيأتي ذكر مسوغاتها، بحيث نبيّن أثر التعمّق في تحليلهما في بيان اتساق النصّ وانسجام نظمه، وذلك من خلال النظر في تفسير ابن عاشور وتطبيقاته لكثرة عنايته بهذا الأمر في التفسير على ما سيأتي توضيحه.

    وقبل الشروع في ذلك الغرض فإننا سنحاول أولًا أن نسلِّط الضوء على أهمية مراعاة التركيب في فهم انسجام الخطاب القرآني واتساق نظمه، وبيانه على النحو الآتي:

    مراعاة التركيب وأهميته في فهم انسجام الخطاب القرآني:

    التركيب يعني: الجملة المركبة من عدد من الألفاظ وفق نسق معيّن، ويلزم أن يؤدي هذا التركيب معنى مفيدًا أو مقصودًا، وفي اللغة العربية نسميه الجملة، التي تنقسم إلى جملة اسمية وجملة فعلية، ولها استخدامات عديدة حسب القصد المراد منها، مثل: الجملة الابتدائية، والجملة الإخبارية، والجملة البسيطة، والجملة المركّبة، وجملة الحال، وجملة الصلة، وغيرها.

    والتركيب اللغوي «لا يستقيم أمره إلّا وفق قواعد وأسس خاصّة، هي التي نطلق عليها القواعد النحوية، التي تضبط تكوين الجملة في اللغة العربية وغيرها من اللغات»[1].

    ومن البديهي أن يكون «أساس التركيب في كلّ كلام هو أساس التعبير، لكن عندما تكون التراكيب على تنوّع موادها راجعة إلى منوال واحد أو منوالات متعدّدة بتعدّد أساليب التعبير الغالبة... فإن لُحمة مقالية مخصوصة تحدث بين التركيب والتعبير، فتتحوّل بمقتضاها العلاقة بينهما من علاقة عضوية اعتباطية إلى علاقة طبيعية مبرّرة، تعكس لُحمة مقامية وترقى بالكلام»[2].

    لذلك يقول الجرجاني: «فليس الغرض بنظم الكلم أنْ توالت ألفاظها في النطق، بل أنْ تناسقَت دلالاتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل»[3].

    ويقول أيضًا: «فينبغي أن يُنظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارًا وأمرًا ونهيًا واستخبارًا وتعجبًا، وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلّا بضم كلمة إلى كلمة وبناء لفظة على لفظة...، وهل يقع في وهمٍ وإنْ جُهِد أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم؟... وهل تجد أحدًا يقول: (هذه اللفظة فصيحة)، إلّا وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها وفضل مؤانستها لأخواتها؟»[4]، ثم يضيف: «فالألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، إن الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، وما أشبه ذلك مما لا تعلُّق له بصريح اللفظ».

    ومن هاهنا فإن النظم في جوهره «يقوم على التلازم والانسجام بين الأجزاء وائتلافها على نحوٍ يوفّر التماسك التركيبي، ويجعل أيّ تغيير في بناء النصّ يؤدي إلى تداعيه أو إلى تغيير معانيه وسماته»[5].

    يقول الجرجاني في موضع آخر وهو يرافع عن أهمية نظم الكلام وتركيبه: «واعلم أنك إذا رجعتَ إلى نفسك علمتَ علمًا لا يعترضه شك أن لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يُعلَّق بعضُها ببعض، وينبني بعضها على بعض وتُجعَل هذه بسبب تلك؛ هذا ما لا يجهله عاقل ولا يخفى على أحد من الناس... إن اللفظ تبع للمعنى في النظم، وإن الكلمة تترتَّب في النطق بسبب ترتُّب معانيها في النفس»[6].

    ومن هنا لا يصحّ في التفسير أن يؤخذ اللفظ وحده معزولًا عن سياقه الخاصّ والعام، والسياق الخاصّ هو تعليقه في جملته وعلاقته التبادلية مع ما يكون معه جملة، والسياق العام هو النص كلّه فالكلمة في نصّ يكون لها دلالة تختلف عن دلالتها في نصّ آخر، وبهذا ينبني المعنى ويتكامل[7].

    لا يترك الجرجاني الأمر مبهمًا بل يسرد مجموعة من الوجوه التي يقوم عليها النظم وتركيب الجمل في الكلام، فيقول: «وذلك أنّا لا نعلم شيئًا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كلّ باب وفروقه، فينظر في (الخبر) إلى الوجوه التي تراها في قولك: (زيد منطلق) و(زيد ينطلق)، و(ينطلق زيد) و(منطلق زيد)، و(زيد المنطلق) و(المنطلق زيد) و(زيد هو المنطلق)، و(زيد هو منطلق). وفي (الشرط والجزاء)...، وينظر في الجمل التي تُسرَد فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل؛ ثم يعرف فيما حقّه الوصل موضع (الواو) من موضع (الفاء)، وموضع (الفاء) من موضع (ثُم)، وموضع (أو) من موضع (أَمْ)، وموضع (لكنْ) من موضع (بل). ويتصرف في التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير في الكلام كلّه، وفي الحذف والتكرار، والإضمار والإظهار، فيصيب من ذلك مكانه، ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغي له»[8].

    ولذلك نجد الدكتور تمام حسان يقول: «لقد كانت مبادرة العلّامة عبد القاهر الجرجاني -رحمه الله- بدراسة النظم وما يتصل به من بناء وترتيب وتعليق من أكبر الجهود التي بذلتها الثقافة العربية قيمةً في سبيل إيضاح المعنى الوظيفي في السياق والتركيب»[9].

    ويقول عبد الرحمن إكيدر: «إنّ تحليل النصّ ودراسة اتساقه حسب قرائن التعليق المعنوية تسمح بربط الصلة وإقامة العلاقة بين كلّ جزء من أجزاء السياق، ليس فقط في رصد إطار علاقة كلمة بأخرى داخل الجملة، بل أيضًا تتبع علاقة جملة بأخرى في إطار استمرارية خطيّة نصيّة، تجعل من النصّ نسيجًا من الكلمات والجمل تتعلَّق بعضها ببعض»[10].

    وبذلك يظهر أننا عندما نراعي التركيب وطريقته في فهم النصّ فإننا بذلك نكون قد سعينا إلى القراءة النسقية التي تستحضر مجموعة من المعطيات اللغوية (النحو والبلاغة) والعلاقات السياقية بين أجزاء النصّ، من أجل تحقيق الفهم المتكامل المفضي إلى الانسجام والبنائية، حيث نجد تعالقًا كبيرًا وترابطًا وشيجًا بين التركيب والسياق والنظم والمناسبة والتي هي أمور رئيسة يجب مراعاتها في الوصول لانسجام الخطاب في النصّ:

    التركيب والسياق:

    تستمد دلالة السياق القرآني أهميتها من كونها تفسيرًا للقرآن بالقرآن نفسه، حيث إنها بيان المعنى من خلال تتابع المفردات والجمل والتراكيب القرآنية المترابطة، بل إنّ سياق الآية وسياق المقطع من أعلى تفسير القرآن بالقرآن، لأنه في محلّ واحد[11].

    تكمن علاقة التركيب بالسياق باعتبار السياق إطارًا عامًّا تنتظم فيه عناصر النصّ ووحداته اللغوية، ومقياسًا تتصل بواسطته الجمل فيما بينها وتترابط، وبيئة لغوية وتداولية ترعى مجموع العناصر المعرفية التي يقدمها النصّ للقارئ.

    ويضبط السياق «حركات الإحالة بين عناصر النصّ، فلا يفهم معنى كلمة أو جملة إلّا بوصلها بالتي قبلها أو بعدها داخل إطار السياق...، وإن التحليل بالسياق يعدُّ وسيلة من بين وسائل تصنيف المدلولات؛ لذلك يتعين عرض اللفظ القرآني على موقعه لفهم معناه ودفع المعاني غير المرادة»[12]، وبهذا المعنى فإن السياق «يتسع ليشمل ما هو مكاني زمني وموضوعي ومقاصدي وتاريخي، لكن الألصق بالتركيب هو اللغوي، وهو دراسة النصّ القرآني من خلال علاقات ألفاظه بعضها ببعض والأدوات المستعملة للربط بين هذه الألفاظ، وما يترتب على تلك العلائق من دلالات جزئية وكلية»[13].

    فالسياق متّجه إذن إلى المعنى بالكلية، «والنظم متّجه إلى كيفية صياغته في الجملة، ولماذا جيء به على نحوٍ دون غيره. فمعرفة نظم الآية وأسراره البيانية، مساعدة على معرفة سياقها. كما أن سياقها مساعد على معرفة دقائق نظمها، فلأن تدرك نكتة التعريف والتنكير والمجاز من الحقيقة في نظم قرآني لا بد من معرفة سياق الآية الذي هو موضوعها والمراد من الخطاب بها، كما أن تحليل نظمها والعلاقات بين مفردات جملها مساعد على معرفة سياقها، فالعلاقة إذن تلازمية»[14].

    التركيب والمناسبة:

    تكمن أيضًا علاقة التركيب بالمناسبة؛ «لأن المناسبة ترتبط بكلّ المباحث اللغوية والنحوية والبلاغية التي تعنى بالعلاقات الكبرى بين أجزاء النصّ، ومن شأن الدراسة النصيّة أنْ تُجنِّب النصّ القرآني القراءة التجزيئية، وتقدِّم قراءة جامعة تنتظم فيها الكلمات والآيات والسور في سلك واحد، وتنتظم فيه المعاني والدلالات والمقاصد في أصلٍ واحد، فيبدو النصّ القرآني كله قطعة واحدة يكون فيها الكلام متحدرًا تحدُّر الماء المنسجم، سهولة سبك وعذوبة ألفاظ وجمع معانٍ»[15].

    التركيب والنظم:

    وذلك من خلال ما أشار إليه الجرجاني قائلًا: «وجملة الأمر أنه لا يكون ترتيبٌ في شيء حتى يكون هناك قصدٌ إلى صورة وصفة، إن لم يُقَدَّم فيه ما قُدِّم، ولو يؤخَّر ما أُخِّر، وبُدِئ بالذي ثُنِّي به، أو ثُنِّي بالذي ثُلِّث به، لم تحصل لك تلك الصورة وتلك الصفة. وإذا كان كذلك، فينبغي أن تنظر إلى الذي يقصد واضعُ الكلام أن يحصل له من الصورة والصفة»[16].

    وفي ضوء هذه الأهمية المنهجية لأمر مراعاة التركيب في فهم النصوص وبيان اتساقها نجد أن العلماء اعتنوا بالتنبيه عليها في فهم النصّ القرآني وتفسيره، فقد سجّلوا تقريراتٍ نفيسة وأنظارًا معتبرة في هذا السياق، وضرورة العناية بتأمّل طرائق التراكيب القرآنية في فهم انسجام الخطاب القرآني واتساق نظمه، من ذلك:

    قول الزركشي: «والذي ينبغي في كلّ آية أن يبحث أول كلّ شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟»[17]، وقال أيضًا: «فنقول: النظر في التفسير هو بحسب أفراد الألفاظ وتراكيبها، وأمّا بحسب التركيب فمن وجوه أربعة:

    الأول: باعتبار كيفية التراكيب بحسب الإعراب ومقابله من حيث إنها مؤدّية أصل المعنى، وهو ما دلّ عليه المركّب بحسب الوضع، وذلك متعلّق بعلم النحو.

    الثاني: باعتبار كيفية التركيب من جهة إفادته معنى المعنى، أعني لازم أصل المعنى الذي يختلف باختلاف مقتضى الحال في تراكيب البُلَغاء، وهو الذي يتكلَّف بإبراز محاسنه علم المعاني.

    الثالث: باعتبار طرق تأدية المقصود بحسب وضوح الدلالة وحقائقها ومراتبها، وباعتبار الحقيقة والمجاز، والاستعارة والكناية والتشبيه، وهو ما يتعلق بعلم البيان.

    والرابع: باعتبار الفصاحة اللفظية والمعنوية والاستحسان ومقابله، وهو يتعلّق بعلم البديع»[18].

    مستلهمًا هذه الرؤية وناسجًا على هذا المنوال، يقدّم الشيخ حسن حبنكة الميداني جهدًا معتبرًا في بيان كثير من القواعد المحققة للقراءة النسقية للخطاب القرآني، من ذلك عنايته بقضية التركيب تحقيقًا واستدلالًا، فيقول: «إنّ مثل الجمل القرآنية وما تحمل من معانٍ ودلالات كمثل حبّات نفيسات الجوهر، نُظِمَت في عِقد متكامل تمثله السورة القرآنية... والتوزيع في الحبّات أو الجواهر النفيسة توزيع فني بديع. والسلك الناظم لها أو الأرضية الجامعة لها أمر يُدْرَك بالفكر الثاقب، وقد لا يلاحظ في اللفظ ما يدلّ عليه. وذلك كما ندرِك التناسق والترابط في الأشكال الهندسية التي تنضّد على وفقها مجموعة من أنفَس الحجارة الكريمة في قطعة من الحُلِيّ، نادرة الصياغة، بديعة التنضيد. وعلى المتدبِّر العميق التفكير أن يكتشف ويحلّل ويُبرِز عناصر الترابط، ويضع أسهم التناسق والترابط بين النفائس الموزعة أبدع توزيع. ويتأكّد على المتدبِّر أن يكتشف الروابط الفكرية بين الجمل المقترنة، ولو كان كلّ منها يتحدّث عن حقيقة من الحقائق منفصلة في الظاهر عن الحقيقة الأخرى التي جاءت مقترنة بها في اللفظ»[19].

    ويقول ابن عاشور: «إنّ بلاغة الكلام لا تنحصر في أحوال تراكيبه اللفظية، بل تتجاوز إلى الكيفيات التي تؤدّى بها تلك التراكيب؛ فإنّ سكوت المتكلّم البليغ في جملة سكوتًا خفيفًا قد يفيد من التشويق إلى ما يأتي بعده ما يفيده إبهام بعض كلامه، ثم تعقيبه ببيانه، فإذا كان من مواقع البلاغة نحو الإتيان بلفظ الاستئناف البياني، فإنّ السكوت عند كلمة وتعقيبها بما بعدها يجعل ما بعدها بمنزلة الاستئناف البياني، مثاله قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}[النازعات: 15، 16]، فإنّ الوقف على قوله: {مُوسَى} يُحدِث في نفس السامع ترقُّبًا لما يبين حديث موسى، فإذا جاء بعده: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ}...إلخ، حصل البيان مع ما يحصل عند الوقف على كلمة :{مُوسَى} من قرينة من قرائن الكلام»[20].

    وكذا قال في موضع آخر: «إنّ القرآن الكريم يتضمّن من المعاني ما يحتاج إليه الناس في كلّ زمان ومكان، وإنّ بلاغة التركيب التي تعدُّ من أبرز سماته لهي ميدان خصب لاستمرارية عطاء القرآن دون نفاد، ومن دون شكّ فإن اللسان العربي يطاوع بشكلٍ كبيرٍ في تحقيق هذه المهمّة، من حيث القدرة الهائلة على تكثيف المغازي ورصد الدروس والعبر...، وإذ قد كان القرآن وحيًا من العلّام سبحانه وقد أراد أن يجعله آية على صدق رسوله وتحدَّى بلغاء العرب بمعارضة أقصر سورة منه...، فقد نسج نظمه نسجًا بالغًا منتهى ما تسمح به اللغة العربية من الدقائق واللطائف -لفظًا ومعنى- بما يفي بأقصى ما يراد بلاغة إلى المرسل إليهم، فجاء القرآن على أسلوب أبدع مما كانوا يعهدون وأعجب...، فالقرآن من جانب إعجازه يكون أكثر معاني من المعاني المعتادة التي يودِعها البلغاء في كلامهم؛ وهو لكونه كتابَ تشريع وتأديب وتعليم كان حقيقًا بأن يودَع فيه من المعاني والمقاصد أكثر ما تحتمله الألفاظ، في أقلّ ما يمكن من المقدار، بحسب ما تسمح به اللغة الوارد هو بها، التي هي أسمح اللغات بهذه الاعتبارات؛ ليحصل تمام المقصود من الإرشاد الذي جاء لأجله في جميع نواحي الهدى...، والقرآن ينبغي أن يودَع من المعاني كلَّ ما يحتاج السامعون إلى عِلْمه، وكلَّ ما له حظ في البلاغة، سواء كانت متساوية أم متفاوتة في البلاغة إذا كان المعنى الأعلى مقصودًا وكان ما هو أدنى منه مرادًا معه لا مرادًا دونه، سواء كانت دلالة التركيب عليها متساوية في الاحتمال والظهور، أم كانت متفاوتة بعضها أظهر من بعض، ولو أنْ تبلغ حدَّ التأويل وهو حمل اللفظ على المعنى المحتمل المرجوح»[21].

    نخلص مما سبق بيانه وتحريره ومن التأمّل العميق في النقول والاقتباسات المذكورة أنّ مراعاة التركيب الذي يستخدمه النصّ أمر بالغ الأهمية وضرورة علمية وحاجة منهجية؛ لأنه يسهم في تحقيق:

    - بيان اتساق الدلالات في النصّ وتساوقها في الخطاب، والذي يبرز تماسُك النصّ واتساق نظمه.

    - ثراء المعنى، ولكن بضوابط علميّة وليس على طريقة النصّ المفتوح عند أصحاب القراءات الحداثية الخالية من كلّ قيد أو ضابط.

    كما أنه يمكن أن يسهم وأن يكون عاملًا مساعدًا في:

    - ردّ التأويلات المتعسفة التي ينبو عنها التركيب وتجافيها قواعد اللغة؛ لأن عند مراعاة التركيب نأخذ كلّ المباحث اللغوية التي يستدعيها المقام، فيفضي ذلك إلى تلمّس المعنى على هدى وبصيرة.

    - تجنب الاستدلالات المبتورة والممزوعة الأوصال عن المعاني السابقة واللاحقة، فذلك مدعاة إلى اطّراح توهُّم وإيهام مناقضة النصوص الشرعية بعضها لبعض.

    - المفاضلة والترجيح بين المعاني ليس بناء على الذوق والتشهِّي، ولكن بقواعد العلم المعتبرة.

    وإذا كان ما يعنينا هاهنا بقوة هو أهمية مراعاة التركيب وفهمه، وكيف أنه يُعِين بقوة على تحقيق الانسجام في الخطاب القرآني، فإننا سنحاول تتبُّع هذا بصورة تطبيقية في المقالتين التاليتين، بحيث نعمِّق النظر لأهمية مراعاة استحضار نسق التركيب في فهم انسجام الخطاب القرآني.

    وسوف نجعل اشتغالنا التطبيقي مأطورًا بتفسير ابن عاشور (التحرير والتنوير) كونه من أبرز من اعتنى بتتبُّع أمر التركيب في تناول التفسير، وحلّ إشكالات النظم والإجابة عنها بصورة علميّة من خلال تحليلات التراكيب التي يستخدمها النصّ، ويظهر ذلك من إلحاحه على تلك القضية (كما مرّ في النقول التي أوردناها عنه قبل، وكذلك يظهر من بيان خطته في التفسير، والتي أوضح أن قوامها على أمرين):

    - تفسير التراكيب القرآنية جريًا على تبيُّن معاني الكلمات بحسب استعمال اللغة العربية، ثم أخذ المعاني من دلالات الألفاظ والتراكيب وخواص البلاغة.

    - استخلاص المعاني المدلولة منها بدلالات المطابقة والتضمُّن والالتزام، مما يسمح به النظم البليغ، ولو تعددت المحامل والاحتمالات[22].

    وإنّ الناظر في هذين الأمرين يجد أن التحليل عند ابن عاشور للنصّ القرآني يأتي تركيبيًّا، أي: إنه يقوم على دراسةِ البنيات المتحكمة في إنتاج المعنى، وتفكيكِ أنساق الجملة، ثم ربطِ الأجزاء بعضها ببعض، وكشفِ العلاقة بين الكلمات والمركبات، وذلك بمراعاة مجموعة من صيغ الكلام ومحدّداته من تقديم وتأخير وحذف وعطف واستئناف واعتراض، والتدقيق في القرائن والسياق السابق واللاحق، لإدراك دلالات كلّ من الأمر والنهي والاستفهام وما يفيد العموم والخصوص وشبه ذلك، وهو الأمر الذي جعله من أبرز التفاسير التي تهتم بحلّ إشكالات النظم وتبيُّن كيفيات اتساقه من خلال التعمُّق في تحليل التراكيب العربية التي توسلها النصّ في إنتاج خطابه.

    ونظرًا لاتساع أمر الأساليب والتراكيب العربية التي استخدمها القرآن فإننا سوف نتناول في هذه المحاولة الاستئناف البياني والجملة المعترضة؛ وإنّ من موجبات اختيارهما والاقتصار عليهما ما يأتي:

    أولًا: تعذُّر الإحاطة هنا بكلّ قضايا وزوايا الأساليب التي استخدمها القرآن.

    ثانيًا: حجم حضور عناية ابن عاشور ببيان اتساق النظم في القرآن من خلال هذين الأسلوبين في القرآن إذا ما قورن بغيره كما هو بيِّن لمن يطالِع تفسيره.

    ثالثًا: أن ظاهرة الفصل والوصل في القرآن الكريم من أكثر الظواهر التي قد يستشكل معها أمر النظم وترتيب التناسق الدلالي في النصّ، ومن ثم يكون لحسن فهمها أثر مهم في بيان دلالة النصّ القرآني بدقّة وبكلّ أبعاده، فقد يربط بين جملتين أو يفصل بينهما؛ وذلك من أجلِ الإحاطة بجزئيات النصّ كلّها وعرضها في نسق لافت وبأشكال متعدّدة، من دون فوات في الدلالة، وفي هذا مراعاة لإثارة عقول المخاطبين بمختلف درجات استيعابهم وإثارة نفوسهم ونزعاتهم من أجل الامتثال للخالق[23]، ويعدُّ هذا المبحث «من المسائل الدقيقة في علم التراكيب، بل من أعقدها... فهو في عرف البلاغيين: العلم بمواضع العطف والاستئناف والتهدي إلى كيفية إيقاع حروف العطف في مواقعها أو تركها عند عدم الحاجة إليها»[24].

    كما أننا ومن خلال الاستئناف البياني والجملة المعترضة نستطيع أن ندلّل كذلك على أن الدراسة البيانية ليست فقط من أجل الكشف عن الجوانب الفنية في القرآن الكريم، أو المظاهر الإعجازية، وإنما لها تعلُّق وثيق بتلمُّس المعنى والمفاضلة بين الدلالات.

    خاتمة:

    ظهر لنا من خلال ما سبق أهمية أمر مراعاة التركيب في تحقيق الانسجام والتسلسل الدلالي للنصوص، وأن عناية العلماء بالتنبيه على مراعاة التركيب في التعاطي مع القرآن الكريم وبيان انسجام أجزائه كانت عناية كبيرة وموغلة في القدم في التراث الإسلامي، وذلك لعميق أثر مراعاة التركيب وطريقته في التعامل مع النصّ القرآني وتحقيق انسجامه وتتابعه الدلالي، وهو ما سنحاول أن نتتبعه بصورة تطبيقية في المقالين التاليين مع مسألتي الاستئناف البياني والجملة المعترضة في القرآن؛ لنتأمل كيف عالج ابن عاشور في تفسيره انسجام النصّ وبيّنه من خلال تعمُّقه في تحليل هذين التركيبين، وكيف استطاع كذلك من خلال تحليلاته أن يبرز أغراضًا لهما في الاستعمال تكشف عن روعة التركيب في ساحة النصّ القرآني.


    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * موقع تفسير: (https://2u.pw/zHdVv).
    [1] خصائص تراكيب اللغة العربية، د/ عبد الله علي علي الثوري.
    [2] تحاليل أسلوبية، محمد الهادي الطرابلسي، ص128.
    [3] دلائل الإعجاز، ص49-50.
    [4] دلائل الإعجاز، ص44-46.
    [5] الأسس الجمالية للإيقاع البلاغي في العصر العباسي، ابتسام أحمد حمدان، ص71.
    [6] دلائل الاعجاز، ص53.
    [7] النحو والدلالة، ص16.
    [8] دلائل الإعجاز، ص81-82.
    [9] اللغة العربية معناها ومبناها، ص18.
    [10] دور التعليق في تحديد السياق النصي عند عبد القاهر الجرجاني، مجلة جيل للدراسات الأدبية والفكرية، عدد 38.
    [11] أثر السياق القرآني في الترجيح عند المفسرين، ص20.
    [12] الخطاب القرآني، عبد الرحمن بودرع، ص181.
    [13] الخطاب القرآني، ص182.
    [14] نظرية النظم عند الجرجاني وأثرها في تفسير القرآن الكريم، بحث ضمن المؤتمر العالمي الثالث للباحثين في القرآن وعلومه، الطيب الشطاب، ص801.
    [15] الخطاب القرآني، عبد الرحمن بودرع، ص134.
    [16] دلائل الإعجاز، ص364.
    [17] البرهان في علوم القرآن، بدر الدين الزركشي (المتوفى: 794هـ) تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة: الأولى، 1376هـ-1957م، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، ج1، ص37.
    [18] البرهان، الزركشي، ج2، ص174.
    [19] قواعد التدبّر الأمثل للميداني.
    [20] التحرير والتنوير، (1/ 117).
    [21] التحرير والتنوير، (1/ 93).
    [22] أليس الصبح بقريب، التعليم العربي الإسلامي، دراسة تاريخية وآراء إصلاحية، محمد الطاهر بن عاشور، دار السلام- القاهرة، ط1، 2006م، ص164.
    [23] الدلالة التركيبية في كتابي (معاني القرآن لأبي جعفر النحاس، ومعاني القرآن للفراء)، ص299.
    [24] الدلالة التركيبية في كتابي (معاني القرآن لأبي جعفر النحاس، ومعاني القرآن للفراء)، ص299.
    مراعاة التركيب وأثره في بيان انسجام نظم القرآن* ابن عاشور أنموذجًا (1-3) الكاتب : مصطفى فاتيحي درَج القرآن الكريم على استعمال الأساليب والتراكيب العربية؛ كونه نزل على لغة العرب، وقد تبارت أقلام العلماء قديمًا وحديثًا في تفسير القرآن وفهمه وتناوُل ما يكتنزه كتاب الله من أسرار لغوية ومكنونات دلالية، وكذلك ما يحمله من مناسبات وارتباطات بين أجزاء تراكيبه، وقد تباينت نتائجهم وتقريراتهم أحيانًا في بيان وجوه الارتباط بين أجزاء النَّظْم وتأمّل المناسبات بينها بحسب أدوات البحث والتنقيب المستعملة، وحسب تفاوت القرائح والملَكات ودرجات العمق في تأمّل النظم وطرائق التراكيب العربية التي استخدمها النصّ، وتحليل هذه التراكيب ووجوه التعالق بينها. ولا شك أنّ العمق في فهم التراكيب العربية له أثرٌ بارزٌ جدًّا في فهم انسجام النصّ ذاته، ومسالك اتساق خطابه، وكيفيات انتقاله من حال لآخر، وبيان أسباب استعماله لأسلوب معيّن في موطن معين، وأن هذا الأسلوب لا يمثل قطعًا دلاليًّا بقدر ما يطرح ثراءً في المعنى يتحقّق به انسجام النصّ على صورة بديعة، ويفضي لتكامله واتساق نظمه؛ ومن هاهنا فإننا سنحاول في هذه المقالات أن نعالج هذه القضية، ونبرز أثر التعمق في فهم التراكيب القرآنية في عملية الفهم للخطاب القرآني، وبيان درجة الانسجام الحاصلة في هذا الخطاب. إنّ أساليب التركيب التي استعملها القرآن تشمل الكثير من الأمور، ويندرج في طيّاتها العديد من المسائل النحوية والبيانية التي يمكن أن يتأتّى عليها نسق بناء الجمل والعبارات في النصّ، غير أننا سنُعنى في معالجتنا بالتراكيب والأساليب البيانية فقط. كما أن اشتغالنا سيكون مأطورًا بقضيتي (الاستئناف البياني، والجملة المعترضة في القرآن) بشكلٍ خاصّ لأمور سيأتي ذكر مسوغاتها، بحيث نبيّن أثر التعمّق في تحليلهما في بيان اتساق النصّ وانسجام نظمه، وذلك من خلال النظر في تفسير ابن عاشور وتطبيقاته لكثرة عنايته بهذا الأمر في التفسير على ما سيأتي توضيحه. وقبل الشروع في ذلك الغرض فإننا سنحاول أولًا أن نسلِّط الضوء على أهمية مراعاة التركيب في فهم انسجام الخطاب القرآني واتساق نظمه، وبيانه على النحو الآتي: مراعاة التركيب وأهميته في فهم انسجام الخطاب القرآني: التركيب يعني: الجملة المركبة من عدد من الألفاظ وفق نسق معيّن، ويلزم أن يؤدي هذا التركيب معنى مفيدًا أو مقصودًا، وفي اللغة العربية نسميه الجملة، التي تنقسم إلى جملة اسمية وجملة فعلية، ولها استخدامات عديدة حسب القصد المراد منها، مثل: الجملة الابتدائية، والجملة الإخبارية، والجملة البسيطة، والجملة المركّبة، وجملة الحال، وجملة الصلة، وغيرها. والتركيب اللغوي «لا يستقيم أمره إلّا وفق قواعد وأسس خاصّة، هي التي نطلق عليها القواعد النحوية، التي تضبط تكوين الجملة في اللغة العربية وغيرها من اللغات»[1]. ومن البديهي أن يكون «أساس التركيب في كلّ كلام هو أساس التعبير، لكن عندما تكون التراكيب على تنوّع موادها راجعة إلى منوال واحد أو منوالات متعدّدة بتعدّد أساليب التعبير الغالبة... فإن لُحمة مقالية مخصوصة تحدث بين التركيب والتعبير، فتتحوّل بمقتضاها العلاقة بينهما من علاقة عضوية اعتباطية إلى علاقة طبيعية مبرّرة، تعكس لُحمة مقامية وترقى بالكلام»[2]. لذلك يقول الجرجاني: «فليس الغرض بنظم الكلم أنْ توالت ألفاظها في النطق، بل أنْ تناسقَت دلالاتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل»[3]. ويقول أيضًا: «فينبغي أن يُنظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارًا وأمرًا ونهيًا واستخبارًا وتعجبًا، وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلّا بضم كلمة إلى كلمة وبناء لفظة على لفظة...، وهل يقع في وهمٍ وإنْ جُهِد أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم؟... وهل تجد أحدًا يقول: (هذه اللفظة فصيحة)، إلّا وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها وفضل مؤانستها لأخواتها؟»[4]، ثم يضيف: «فالألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، إن الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، وما أشبه ذلك مما لا تعلُّق له بصريح اللفظ». ومن هاهنا فإن النظم في جوهره «يقوم على التلازم والانسجام بين الأجزاء وائتلافها على نحوٍ يوفّر التماسك التركيبي، ويجعل أيّ تغيير في بناء النصّ يؤدي إلى تداعيه أو إلى تغيير معانيه وسماته»[5]. يقول الجرجاني في موضع آخر وهو يرافع عن أهمية نظم الكلام وتركيبه: «واعلم أنك إذا رجعتَ إلى نفسك علمتَ علمًا لا يعترضه شك أن لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يُعلَّق بعضُها ببعض، وينبني بعضها على بعض وتُجعَل هذه بسبب تلك؛ هذا ما لا يجهله عاقل ولا يخفى على أحد من الناس... إن اللفظ تبع للمعنى في النظم، وإن الكلمة تترتَّب في النطق بسبب ترتُّب معانيها في النفس»[6]. ومن هنا لا يصحّ في التفسير أن يؤخذ اللفظ وحده معزولًا عن سياقه الخاصّ والعام، والسياق الخاصّ هو تعليقه في جملته وعلاقته التبادلية مع ما يكون معه جملة، والسياق العام هو النص كلّه فالكلمة في نصّ يكون لها دلالة تختلف عن دلالتها في نصّ آخر، وبهذا ينبني المعنى ويتكامل[7]. لا يترك الجرجاني الأمر مبهمًا بل يسرد مجموعة من الوجوه التي يقوم عليها النظم وتركيب الجمل في الكلام، فيقول: «وذلك أنّا لا نعلم شيئًا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كلّ باب وفروقه، فينظر في (الخبر) إلى الوجوه التي تراها في قولك: (زيد منطلق) و(زيد ينطلق)، و(ينطلق زيد) و(منطلق زيد)، و(زيد المنطلق) و(المنطلق زيد) و(زيد هو المنطلق)، و(زيد هو منطلق). وفي (الشرط والجزاء)...، وينظر في الجمل التي تُسرَد فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل؛ ثم يعرف فيما حقّه الوصل موضع (الواو) من موضع (الفاء)، وموضع (الفاء) من موضع (ثُم)، وموضع (أو) من موضع (أَمْ)، وموضع (لكنْ) من موضع (بل). ويتصرف في التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير في الكلام كلّه، وفي الحذف والتكرار، والإضمار والإظهار، فيصيب من ذلك مكانه، ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغي له»[8]. ولذلك نجد الدكتور تمام حسان يقول: «لقد كانت مبادرة العلّامة عبد القاهر الجرجاني -رحمه الله- بدراسة النظم وما يتصل به من بناء وترتيب وتعليق من أكبر الجهود التي بذلتها الثقافة العربية قيمةً في سبيل إيضاح المعنى الوظيفي في السياق والتركيب»[9]. ويقول عبد الرحمن إكيدر: «إنّ تحليل النصّ ودراسة اتساقه حسب قرائن التعليق المعنوية تسمح بربط الصلة وإقامة العلاقة بين كلّ جزء من أجزاء السياق، ليس فقط في رصد إطار علاقة كلمة بأخرى داخل الجملة، بل أيضًا تتبع علاقة جملة بأخرى في إطار استمرارية خطيّة نصيّة، تجعل من النصّ نسيجًا من الكلمات والجمل تتعلَّق بعضها ببعض»[10]. وبذلك يظهر أننا عندما نراعي التركيب وطريقته في فهم النصّ فإننا بذلك نكون قد سعينا إلى القراءة النسقية التي تستحضر مجموعة من المعطيات اللغوية (النحو والبلاغة) والعلاقات السياقية بين أجزاء النصّ، من أجل تحقيق الفهم المتكامل المفضي إلى الانسجام والبنائية، حيث نجد تعالقًا كبيرًا وترابطًا وشيجًا بين التركيب والسياق والنظم والمناسبة والتي هي أمور رئيسة يجب مراعاتها في الوصول لانسجام الخطاب في النصّ: التركيب والسياق: تستمد دلالة السياق القرآني أهميتها من كونها تفسيرًا للقرآن بالقرآن نفسه، حيث إنها بيان المعنى من خلال تتابع المفردات والجمل والتراكيب القرآنية المترابطة، بل إنّ سياق الآية وسياق المقطع من أعلى تفسير القرآن بالقرآن، لأنه في محلّ واحد[11]. تكمن علاقة التركيب بالسياق باعتبار السياق إطارًا عامًّا تنتظم فيه عناصر النصّ ووحداته اللغوية، ومقياسًا تتصل بواسطته الجمل فيما بينها وتترابط، وبيئة لغوية وتداولية ترعى مجموع العناصر المعرفية التي يقدمها النصّ للقارئ. ويضبط السياق «حركات الإحالة بين عناصر النصّ، فلا يفهم معنى كلمة أو جملة إلّا بوصلها بالتي قبلها أو بعدها داخل إطار السياق...، وإن التحليل بالسياق يعدُّ وسيلة من بين وسائل تصنيف المدلولات؛ لذلك يتعين عرض اللفظ القرآني على موقعه لفهم معناه ودفع المعاني غير المرادة»[12]، وبهذا المعنى فإن السياق «يتسع ليشمل ما هو مكاني زمني وموضوعي ومقاصدي وتاريخي، لكن الألصق بالتركيب هو اللغوي، وهو دراسة النصّ القرآني من خلال علاقات ألفاظه بعضها ببعض والأدوات المستعملة للربط بين هذه الألفاظ، وما يترتب على تلك العلائق من دلالات جزئية وكلية»[13]. فالسياق متّجه إذن إلى المعنى بالكلية، «والنظم متّجه إلى كيفية صياغته في الجملة، ولماذا جيء به على نحوٍ دون غيره. فمعرفة نظم الآية وأسراره البيانية، مساعدة على معرفة سياقها. كما أن سياقها مساعد على معرفة دقائق نظمها، فلأن تدرك نكتة التعريف والتنكير والمجاز من الحقيقة في نظم قرآني لا بد من معرفة سياق الآية الذي هو موضوعها والمراد من الخطاب بها، كما أن تحليل نظمها والعلاقات بين مفردات جملها مساعد على معرفة سياقها، فالعلاقة إذن تلازمية»[14]. التركيب والمناسبة: تكمن أيضًا علاقة التركيب بالمناسبة؛ «لأن المناسبة ترتبط بكلّ المباحث اللغوية والنحوية والبلاغية التي تعنى بالعلاقات الكبرى بين أجزاء النصّ، ومن شأن الدراسة النصيّة أنْ تُجنِّب النصّ القرآني القراءة التجزيئية، وتقدِّم قراءة جامعة تنتظم فيها الكلمات والآيات والسور في سلك واحد، وتنتظم فيه المعاني والدلالات والمقاصد في أصلٍ واحد، فيبدو النصّ القرآني كله قطعة واحدة يكون فيها الكلام متحدرًا تحدُّر الماء المنسجم، سهولة سبك وعذوبة ألفاظ وجمع معانٍ»[15]. التركيب والنظم: وذلك من خلال ما أشار إليه الجرجاني قائلًا: «وجملة الأمر أنه لا يكون ترتيبٌ في شيء حتى يكون هناك قصدٌ إلى صورة وصفة، إن لم يُقَدَّم فيه ما قُدِّم، ولو يؤخَّر ما أُخِّر، وبُدِئ بالذي ثُنِّي به، أو ثُنِّي بالذي ثُلِّث به، لم تحصل لك تلك الصورة وتلك الصفة. وإذا كان كذلك، فينبغي أن تنظر إلى الذي يقصد واضعُ الكلام أن يحصل له من الصورة والصفة»[16]. وفي ضوء هذه الأهمية المنهجية لأمر مراعاة التركيب في فهم النصوص وبيان اتساقها نجد أن العلماء اعتنوا بالتنبيه عليها في فهم النصّ القرآني وتفسيره، فقد سجّلوا تقريراتٍ نفيسة وأنظارًا معتبرة في هذا السياق، وضرورة العناية بتأمّل طرائق التراكيب القرآنية في فهم انسجام الخطاب القرآني واتساق نظمه، من ذلك: قول الزركشي: «والذي ينبغي في كلّ آية أن يبحث أول كلّ شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟»[17]، وقال أيضًا: «فنقول: النظر في التفسير هو بحسب أفراد الألفاظ وتراكيبها، وأمّا بحسب التركيب فمن وجوه أربعة: الأول: باعتبار كيفية التراكيب بحسب الإعراب ومقابله من حيث إنها مؤدّية أصل المعنى، وهو ما دلّ عليه المركّب بحسب الوضع، وذلك متعلّق بعلم النحو. الثاني: باعتبار كيفية التركيب من جهة إفادته معنى المعنى، أعني لازم أصل المعنى الذي يختلف باختلاف مقتضى الحال في تراكيب البُلَغاء، وهو الذي يتكلَّف بإبراز محاسنه علم المعاني. الثالث: باعتبار طرق تأدية المقصود بحسب وضوح الدلالة وحقائقها ومراتبها، وباعتبار الحقيقة والمجاز، والاستعارة والكناية والتشبيه، وهو ما يتعلق بعلم البيان. والرابع: باعتبار الفصاحة اللفظية والمعنوية والاستحسان ومقابله، وهو يتعلّق بعلم البديع»[18]. مستلهمًا هذه الرؤية وناسجًا على هذا المنوال، يقدّم الشيخ حسن حبنكة الميداني جهدًا معتبرًا في بيان كثير من القواعد المحققة للقراءة النسقية للخطاب القرآني، من ذلك عنايته بقضية التركيب تحقيقًا واستدلالًا، فيقول: «إنّ مثل الجمل القرآنية وما تحمل من معانٍ ودلالات كمثل حبّات نفيسات الجوهر، نُظِمَت في عِقد متكامل تمثله السورة القرآنية... والتوزيع في الحبّات أو الجواهر النفيسة توزيع فني بديع. والسلك الناظم لها أو الأرضية الجامعة لها أمر يُدْرَك بالفكر الثاقب، وقد لا يلاحظ في اللفظ ما يدلّ عليه. وذلك كما ندرِك التناسق والترابط في الأشكال الهندسية التي تنضّد على وفقها مجموعة من أنفَس الحجارة الكريمة في قطعة من الحُلِيّ، نادرة الصياغة، بديعة التنضيد. وعلى المتدبِّر العميق التفكير أن يكتشف ويحلّل ويُبرِز عناصر الترابط، ويضع أسهم التناسق والترابط بين النفائس الموزعة أبدع توزيع. ويتأكّد على المتدبِّر أن يكتشف الروابط الفكرية بين الجمل المقترنة، ولو كان كلّ منها يتحدّث عن حقيقة من الحقائق منفصلة في الظاهر عن الحقيقة الأخرى التي جاءت مقترنة بها في اللفظ»[19]. ويقول ابن عاشور: «إنّ بلاغة الكلام لا تنحصر في أحوال تراكيبه اللفظية، بل تتجاوز إلى الكيفيات التي تؤدّى بها تلك التراكيب؛ فإنّ سكوت المتكلّم البليغ في جملة سكوتًا خفيفًا قد يفيد من التشويق إلى ما يأتي بعده ما يفيده إبهام بعض كلامه، ثم تعقيبه ببيانه، فإذا كان من مواقع البلاغة نحو الإتيان بلفظ الاستئناف البياني، فإنّ السكوت عند كلمة وتعقيبها بما بعدها يجعل ما بعدها بمنزلة الاستئناف البياني، مثاله قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}[النازعات: 15، 16]، فإنّ الوقف على قوله: {مُوسَى} يُحدِث في نفس السامع ترقُّبًا لما يبين حديث موسى، فإذا جاء بعده: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ}...إلخ، حصل البيان مع ما يحصل عند الوقف على كلمة :{مُوسَى} من قرينة من قرائن الكلام»[20]. وكذا قال في موضع آخر: «إنّ القرآن الكريم يتضمّن من المعاني ما يحتاج إليه الناس في كلّ زمان ومكان، وإنّ بلاغة التركيب التي تعدُّ من أبرز سماته لهي ميدان خصب لاستمرارية عطاء القرآن دون نفاد، ومن دون شكّ فإن اللسان العربي يطاوع بشكلٍ كبيرٍ في تحقيق هذه المهمّة، من حيث القدرة الهائلة على تكثيف المغازي ورصد الدروس والعبر...، وإذ قد كان القرآن وحيًا من العلّام سبحانه وقد أراد أن يجعله آية على صدق رسوله وتحدَّى بلغاء العرب بمعارضة أقصر سورة منه...، فقد نسج نظمه نسجًا بالغًا منتهى ما تسمح به اللغة العربية من الدقائق واللطائف -لفظًا ومعنى- بما يفي بأقصى ما يراد بلاغة إلى المرسل إليهم، فجاء القرآن على أسلوب أبدع مما كانوا يعهدون وأعجب...، فالقرآن من جانب إعجازه يكون أكثر معاني من المعاني المعتادة التي يودِعها البلغاء في كلامهم؛ وهو لكونه كتابَ تشريع وتأديب وتعليم كان حقيقًا بأن يودَع فيه من المعاني والمقاصد أكثر ما تحتمله الألفاظ، في أقلّ ما يمكن من المقدار، بحسب ما تسمح به اللغة الوارد هو بها، التي هي أسمح اللغات بهذه الاعتبارات؛ ليحصل تمام المقصود من الإرشاد الذي جاء لأجله في جميع نواحي الهدى...، والقرآن ينبغي أن يودَع من المعاني كلَّ ما يحتاج السامعون إلى عِلْمه، وكلَّ ما له حظ في البلاغة، سواء كانت متساوية أم متفاوتة في البلاغة إذا كان المعنى الأعلى مقصودًا وكان ما هو أدنى منه مرادًا معه لا مرادًا دونه، سواء كانت دلالة التركيب عليها متساوية في الاحتمال والظهور، أم كانت متفاوتة بعضها أظهر من بعض، ولو أنْ تبلغ حدَّ التأويل وهو حمل اللفظ على المعنى المحتمل المرجوح»[21]. نخلص مما سبق بيانه وتحريره ومن التأمّل العميق في النقول والاقتباسات المذكورة أنّ مراعاة التركيب الذي يستخدمه النصّ أمر بالغ الأهمية وضرورة علمية وحاجة منهجية؛ لأنه يسهم في تحقيق: - بيان اتساق الدلالات في النصّ وتساوقها في الخطاب، والذي يبرز تماسُك النصّ واتساق نظمه. - ثراء المعنى، ولكن بضوابط علميّة وليس على طريقة النصّ المفتوح عند أصحاب القراءات الحداثية الخالية من كلّ قيد أو ضابط. كما أنه يمكن أن يسهم وأن يكون عاملًا مساعدًا في: - ردّ التأويلات المتعسفة التي ينبو عنها التركيب وتجافيها قواعد اللغة؛ لأن عند مراعاة التركيب نأخذ كلّ المباحث اللغوية التي يستدعيها المقام، فيفضي ذلك إلى تلمّس المعنى على هدى وبصيرة. - تجنب الاستدلالات المبتورة والممزوعة الأوصال عن المعاني السابقة واللاحقة، فذلك مدعاة إلى اطّراح توهُّم وإيهام مناقضة النصوص الشرعية بعضها لبعض. - المفاضلة والترجيح بين المعاني ليس بناء على الذوق والتشهِّي، ولكن بقواعد العلم المعتبرة. وإذا كان ما يعنينا هاهنا بقوة هو أهمية مراعاة التركيب وفهمه، وكيف أنه يُعِين بقوة على تحقيق الانسجام في الخطاب القرآني، فإننا سنحاول تتبُّع هذا بصورة تطبيقية في المقالتين التاليتين، بحيث نعمِّق النظر لأهمية مراعاة استحضار نسق التركيب في فهم انسجام الخطاب القرآني. وسوف نجعل اشتغالنا التطبيقي مأطورًا بتفسير ابن عاشور (التحرير والتنوير) كونه من أبرز من اعتنى بتتبُّع أمر التركيب في تناول التفسير، وحلّ إشكالات النظم والإجابة عنها بصورة علميّة من خلال تحليلات التراكيب التي يستخدمها النصّ، ويظهر ذلك من إلحاحه على تلك القضية (كما مرّ في النقول التي أوردناها عنه قبل، وكذلك يظهر من بيان خطته في التفسير، والتي أوضح أن قوامها على أمرين): - تفسير التراكيب القرآنية جريًا على تبيُّن معاني الكلمات بحسب استعمال اللغة العربية، ثم أخذ المعاني من دلالات الألفاظ والتراكيب وخواص البلاغة. - استخلاص المعاني المدلولة منها بدلالات المطابقة والتضمُّن والالتزام، مما يسمح به النظم البليغ، ولو تعددت المحامل والاحتمالات[22]. وإنّ الناظر في هذين الأمرين يجد أن التحليل عند ابن عاشور للنصّ القرآني يأتي تركيبيًّا، أي: إنه يقوم على دراسةِ البنيات المتحكمة في إنتاج المعنى، وتفكيكِ أنساق الجملة، ثم ربطِ الأجزاء بعضها ببعض، وكشفِ العلاقة بين الكلمات والمركبات، وذلك بمراعاة مجموعة من صيغ الكلام ومحدّداته من تقديم وتأخير وحذف وعطف واستئناف واعتراض، والتدقيق في القرائن والسياق السابق واللاحق، لإدراك دلالات كلّ من الأمر والنهي والاستفهام وما يفيد العموم والخصوص وشبه ذلك، وهو الأمر الذي جعله من أبرز التفاسير التي تهتم بحلّ إشكالات النظم وتبيُّن كيفيات اتساقه من خلال التعمُّق في تحليل التراكيب العربية التي توسلها النصّ في إنتاج خطابه. ونظرًا لاتساع أمر الأساليب والتراكيب العربية التي استخدمها القرآن فإننا سوف نتناول في هذه المحاولة الاستئناف البياني والجملة المعترضة؛ وإنّ من موجبات اختيارهما والاقتصار عليهما ما يأتي: أولًا: تعذُّر الإحاطة هنا بكلّ قضايا وزوايا الأساليب التي استخدمها القرآن. ثانيًا: حجم حضور عناية ابن عاشور ببيان اتساق النظم في القرآن من خلال هذين الأسلوبين في القرآن إذا ما قورن بغيره كما هو بيِّن لمن يطالِع تفسيره. ثالثًا: أن ظاهرة الفصل والوصل في القرآن الكريم من أكثر الظواهر التي قد يستشكل معها أمر النظم وترتيب التناسق الدلالي في النصّ، ومن ثم يكون لحسن فهمها أثر مهم في بيان دلالة النصّ القرآني بدقّة وبكلّ أبعاده، فقد يربط بين جملتين أو يفصل بينهما؛ وذلك من أجلِ الإحاطة بجزئيات النصّ كلّها وعرضها في نسق لافت وبأشكال متعدّدة، من دون فوات في الدلالة، وفي هذا مراعاة لإثارة عقول المخاطبين بمختلف درجات استيعابهم وإثارة نفوسهم ونزعاتهم من أجل الامتثال للخالق[23]، ويعدُّ هذا المبحث «من المسائل الدقيقة في علم التراكيب، بل من أعقدها... فهو في عرف البلاغيين: العلم بمواضع العطف والاستئناف والتهدي إلى كيفية إيقاع حروف العطف في مواقعها أو تركها عند عدم الحاجة إليها»[24]. كما أننا ومن خلال الاستئناف البياني والجملة المعترضة نستطيع أن ندلّل كذلك على أن الدراسة البيانية ليست فقط من أجل الكشف عن الجوانب الفنية في القرآن الكريم، أو المظاهر الإعجازية، وإنما لها تعلُّق وثيق بتلمُّس المعنى والمفاضلة بين الدلالات. خاتمة: ظهر لنا من خلال ما سبق أهمية أمر مراعاة التركيب في تحقيق الانسجام والتسلسل الدلالي للنصوص، وأن عناية العلماء بالتنبيه على مراعاة التركيب في التعاطي مع القرآن الكريم وبيان انسجام أجزائه كانت عناية كبيرة وموغلة في القدم في التراث الإسلامي، وذلك لعميق أثر مراعاة التركيب وطريقته في التعامل مع النصّ القرآني وتحقيق انسجامه وتتابعه الدلالي، وهو ما سنحاول أن نتتبعه بصورة تطبيقية في المقالين التاليين مع مسألتي الاستئناف البياني والجملة المعترضة في القرآن؛ لنتأمل كيف عالج ابن عاشور في تفسيره انسجام النصّ وبيّنه من خلال تعمُّقه في تحليل هذين التركيبين، وكيف استطاع كذلك من خلال تحليلاته أن يبرز أغراضًا لهما في الاستعمال تكشف عن روعة التركيب في ساحة النصّ القرآني. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * موقع تفسير: (https://2u.pw/zHdVv). [1] خصائص تراكيب اللغة العربية، د/ عبد الله علي علي الثوري. [2] تحاليل أسلوبية، محمد الهادي الطرابلسي، ص128. [3] دلائل الإعجاز، ص49-50. [4] دلائل الإعجاز، ص44-46. [5] الأسس الجمالية للإيقاع البلاغي في العصر العباسي، ابتسام أحمد حمدان، ص71. [6] دلائل الاعجاز، ص53. [7] النحو والدلالة، ص16. [8] دلائل الإعجاز، ص81-82. [9] اللغة العربية معناها ومبناها، ص18. [10] دور التعليق في تحديد السياق النصي عند عبد القاهر الجرجاني، مجلة جيل للدراسات الأدبية والفكرية، عدد 38. [11] أثر السياق القرآني في الترجيح عند المفسرين، ص20. [12] الخطاب القرآني، عبد الرحمن بودرع، ص181. [13] الخطاب القرآني، ص182. [14] نظرية النظم عند الجرجاني وأثرها في تفسير القرآن الكريم، بحث ضمن المؤتمر العالمي الثالث للباحثين في القرآن وعلومه، الطيب الشطاب، ص801. [15] الخطاب القرآني، عبد الرحمن بودرع، ص134. [16] دلائل الإعجاز، ص364. [17] البرهان في علوم القرآن، بدر الدين الزركشي (المتوفى: 794هـ) تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة: الأولى، 1376هـ-1957م، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، ج1، ص37. [18] البرهان، الزركشي، ج2، ص174. [19] قواعد التدبّر الأمثل للميداني. [20] التحرير والتنوير، (1/ 117). [21] التحرير والتنوير، (1/ 93). [22] أليس الصبح بقريب، التعليم العربي الإسلامي، دراسة تاريخية وآراء إصلاحية، محمد الطاهر بن عاشور، دار السلام- القاهرة، ط1، 2006م، ص164. [23] الدلالة التركيبية في كتابي (معاني القرآن لأبي جعفر النحاس، ومعاني القرآن للفراء)، ص299. [24] الدلالة التركيبية في كتابي (معاني القرآن لأبي جعفر النحاس، ومعاني القرآن للفراء)، ص299.
    1
    0
  • يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله في جواهر القرآن:
    "في حصر مقاصد القرآن ونفائسه
    سِرُّ القرآن، ولُبَابُه الأصفى، ومقصدُهُ الأقصى، دعوَةُ العباد إلى الجَبَّار الأعلى، ربِّ الآخرةِ والأولى، خالق السماوات العُلَى، والأرَضين السُلفى، وما بينهما وما تحت الثَّرَى، فلذلك انحصرت سُوَرُ القرآن وآياتُه في ستة أنواع:
    - ثلاثة منها: هي السوابق والأصول المُهِمِّة.
    - وثلاثة: هي الرَّوادف والتوابع المُغنِيَة المُتِمَّة.
    أما الثلاثة المُهِمَّة فهي:
    (1) تعريف المدعو إليه.
    (2) وتعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إليه.
    (3) وتعريف الحال عند الوصول إليه.
    وأما الثلاثة المُغْنِيَة المُتِمَّة:
    - فأحدها: تعريف أحوال المُجيبين للدعوة ولطائف صُنع الله فيهم؛ وسِرُّهُ ومقصودُه التشويقُ والترغيبُ، وتعريفُ أحوال النَّاكبين والنَّاكلين عن الإجابة وكيفيةُ قمعِ الله لهم وتنكيلِهِ لهم؛ وسِرُّهُ ومقصوده الاعتبار والترهيب.
    وثانيها: حكاية أحوال الجاحدين، وكَشْفُ فضائحهم وجهلهم بالمجادلة والمُحاجَّة على الحق، وسِرُّه ومقصوده في جنب الباطل الإِفضاحُ والتَّنْفير، وفي جَنب الحق الإيضاحُ والتَّثْبيتُ والتَّقهير.
    وثالثها: تعريف عمارة منازل الطريق، وكيفية أخذ الزاد والأُهبة والاستعداد.
    فهذه ستة أقسام".

    جواهر القرآن (ص:23- 24).
    يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله في جواهر القرآن: "في حصر مقاصد القرآن ونفائسه سِرُّ القرآن، ولُبَابُه الأصفى، ومقصدُهُ الأقصى، دعوَةُ العباد إلى الجَبَّار الأعلى، ربِّ الآخرةِ والأولى، خالق السماوات العُلَى، والأرَضين السُلفى، وما بينهما وما تحت الثَّرَى، فلذلك انحصرت سُوَرُ القرآن وآياتُه في ستة أنواع: - ثلاثة منها: هي السوابق والأصول المُهِمِّة. - وثلاثة: هي الرَّوادف والتوابع المُغنِيَة المُتِمَّة. أما الثلاثة المُهِمَّة فهي: (1) تعريف المدعو إليه. (2) وتعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إليه. (3) وتعريف الحال عند الوصول إليه. وأما الثلاثة المُغْنِيَة المُتِمَّة: - فأحدها: تعريف أحوال المُجيبين للدعوة ولطائف صُنع الله فيهم؛ وسِرُّهُ ومقصودُه التشويقُ والترغيبُ، وتعريفُ أحوال النَّاكبين والنَّاكلين عن الإجابة وكيفيةُ قمعِ الله لهم وتنكيلِهِ لهم؛ وسِرُّهُ ومقصوده الاعتبار والترهيب. وثانيها: حكاية أحوال الجاحدين، وكَشْفُ فضائحهم وجهلهم بالمجادلة والمُحاجَّة على الحق، وسِرُّه ومقصوده في جنب الباطل الإِفضاحُ والتَّنْفير، وفي جَنب الحق الإيضاحُ والتَّثْبيتُ والتَّقهير. وثالثها: تعريف عمارة منازل الطريق، وكيفية أخذ الزاد والأُهبة والاستعداد. فهذه ستة أقسام". جواهر القرآن (ص:23- 24).
    0
  • العلوم والمعارف وأسلوب عرضها في القرآن الكريم *
    الكاتب: محمد بنعدي

    أخذ الحديث عن العلوم والمعارف في القرآن الكريم قدرًا وافرًا من جهود العلماء والباحثين قديمًا وحديثًا، كل بحسب أُفقه المعرفي وتحديات جيله، والإشكالات التي فرضها عليه واقعه، حيث يجد المطالع لمصادر المعرفة الإسلامية بوجه عام والعلوم المنبثقة من القرآن خصوصًا - أن علماءنالم يدخروا جهدًا في الكشف والتنقيب عن كل ما من شأنه أن يبيِّن هدايات القرآن الكريم وبصائره للناس كل من زاوية تخصُّصه.

    يقول الرافعي حول العلوم والمعارف التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في كتابه "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية": « وهو أمر لم يكن أكثره على عهد الصحابة رضي الله عنهم يوم كان العلم فروعًا قليلة؛ إذ كانت الأعلام بينة لائحة، وطريق الإسلام لا تزال فيها آثار النبوة واضحة، ومن ثم جعلت العلوم تنبع من القرآن ثم تستجيش وتتسع، وأخذ بعضها يمد بعضًا... فاعتنى قوم بضبط لغاته وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه، وعددها، وعدد كلماته وآياته وسوره، وأحزابه وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته، والتعليم عند كل عشر آيات، إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة... فسموا القراء.

    واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العامة.. وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها والأفعال واللازم والمتعدي.. وبعضهم أعرب مشكله.. واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا لفظًا يدل على معنى واحد، ولفظًا يدل على معنيين، ولفظًا يدل على أكثر، فأجروا الأول على حكمه، وأوضحوا معنى الخفي منه، وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين.. وأعمل كل منهم فكرَه، وقال بما اقتضاه نظره.

    واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنظرية، فاستنبطوا منه، وسموا هذا العلم بأصول الدين، وتأملت طائفة منهم معاني خطاب، فرأت منها ما يقتضي العموم، ومنها ما يقتضي الخصوص، فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز، وتكلموا في التخصيص والأخبار والنص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي والنسخ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة، واستصحاب الحال والاستقراء، وسموا هذا الفن أصول الفقه.

    وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام، فأسسوا أصوله، وفرعوا فروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطًا حسنًا، وسموه بعلم الفروع، وبالفقه أيضًا. وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السالفة، والأمم الخالية، فنقلوا ودوَّنوا أخبارهم ووقائعهم، حتى ذكروا بَدْء الدنيا وأول الأشياء، وسموا ذلك بالتاريخ.

    وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال، والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال، فاستنبطوا ما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير، وذكر الموت والميعاد والحشر والحساب.. فسموا بذلك الخطباء والوعاظ.

    وأخذ قوم مما في آية المواريث من ذكر السهام وأربابها، وغير ذلك علم الفرائض، واستنبطوا منها من ذكر النصف والربع والسدس والثمن حساب الفرائض.

    ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالة على الحكم الباهرة في الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والبروج، وغير ذلك، فاستخرجوا منه علم المواقيت.

    ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ، وبديع النظم، وحسن السياق، والمبادئ والمقاطع والمخالص، والتلوين في الخطاب والإطناب والإيجاز، وغير ذلك، واستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع»[1].

    يؤكد الرافعي أن هذه العلوم والمعارف التي احتجنها كتاب الله العزيز، إنما هي حجة على الذين لا يقدرون الجهود المبذولة في تراث الأولين، ويرى أن من يقول مثل ذلك إنما يحاكم بمعارف العصر الزمن الماضي، فهو ملتفت إلى كسب الآخر في العلوم الحديثة، دون أدنى حس بمسؤولية كسبه هو لزمانه، فيجلد تراثه بسوط أشد ما يكون، فيدعي تبعًا لهذه النظرة الحدية أن سبب التخلف في عالمنا اليوم إنما هو القرآن أو تلك العلوم؟ ذاهلًا عن قصد أو عن غير قصد أن الأوائل إنما اجتهدوا وأبدعوا بحسب السقف المعرفي لأزمنتهم، وبحسب حاجات الواقع التي فرضت عليهم تفاصيل تدافعهم الحضاري.

    إن كلام الأستاذ مصطفى الرافعي يقدِّم توجيهًا لمسألة العلوم والمعارف في الثقافة الإسلامية، بحسب مؤهلات كل جيل، وهو من زاوية أخرى، يحث الجيل المعاصر على التنقيب والبحث، كما بحث العلماء الأوائل من خلال التدبر والتفكر والمحاورة للقرآن الكريم؛ حتى تمكنوا من إبداع علوم ومعارف تناسب إمكاناتهم العقلية، وحاجاتهم الملحة وتحديات زمانهم الثقافية عمومًا.

    ولا شك أن الجبهة اليوم التي تحتاج إلى تظافر الجهود لتبيانها هي جبهة العلوم الكونية أو التطبيقية أو البحثة، فالعصر الحاضر يحتاج لهذه العلوم بشكل آكد، ومعلوم عند القاصي والداني أن في القرآن إشارات كثيرة لآيات الأفاق والأنفس، على أن جبهة العلوم التي استطاع المتقدمون استكشافها، ما تزال مفتوحة في وجه الإبداعات الإسلامية من العلوم الإنسانية.

    ومن هذه المعارف والعلوم التي أشار إليها القرآن الكريم - وهي ذات الامتداد في مجالات الحياة المتنوعة - ما نبَّه إليه ابن القيم في زاده عن علوم الطب حين قال: « وأصول الطب ثلاثة: الحمية وحفظ الصحة، واستفراغ المادة المضرة، وقد جمعها الله تعالى له ولأمته في ثلاثة مواضع من كتابه، فحمى المريض من استعمال الماء خشية من الضرر، فقال تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [النساء: 43]، فأباح التيمم للمريض حمية له، كما أباح للعادم، وقال في حفظ الصحة: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184]، فأباح للمسافر الفطر في رمضان حفظًا لصحته؛ لئلا يجتمع على قوَّته الصوم ومشقة السفر، فيضعف القوة والصحة، وقال في الاستفراغ في حلق الرأس للمحرم: " ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ [البقرة: 196]، فأباح للمريض أو مَن به أذى من رأسه وهو مُحرم أن يحلق رأسه، ويستفرغ المواد الفاسدة والأبخرة الرديئة التي تولد عليه القمل، كما حصل لكعب بن عجرة، أو تولد عليه المرض، وهذه الثلاثة هي قواعد الطب وأصوله»[2].

    فالطب والصحة العامة من أبرز ما أشار القرآن إليه من ذلك ما ورد في قول الله تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82].

    ومن العلوم والمعارف كذلك التي وردت الإشارة إليها في القرآن الكريم، ولم يتم الانتباه إليها رغم كونها احتلت مساحات كبيرة من سور القرآن وآياته، ما ذكره الرازي في تفسيره لقول الله تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53]، فقال: « فإن كل من كان أكثر توغلًا في بحار مخلوقات الله تعالى، كان أكثر علمًا بجلال الله تعالى وعظمته، فنقول: الكلام في أحوال السماوات على الوجه المختصر الذي يليق بهذا الموضع مرتب في فصول: الفصل الأول: في ترتيب الأفلاك، قالوا: أقربها إلينا كرة القمر، وفوقها كرة عطارد، ثم كرة الزهرة، ثم كرة الشمس، ثم كرة المريخ، ثم كرة المشتري، ثم كرة زحل، ثم كرة الثوابت، ثم الفلك الأعظم، واعلم أن في هذا الموضوع أبحاثًا»[3].

    ومن هذه العلوم والمعارف ما وردت إليه الإشارة من علوم الصناعة المختلفة من آلات الحروب والحياكة والزراعة بمختلف فروعها وفنونها المرتبطة بمادة الحديد؛ يقول الرازي في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ [الحديد: 25]، "وأما الحديد ففيه البأس الشديد، فإن آلات الحروب متخذة منه، وفيه أيضًا منافع كثيرة؛ منها قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ ﴾ [الأنبياء: 80]، ومنها أن مصالح العالم، إما أصول، وإما فروع، أما الأصول فأربعة: الزراعة والحياكة وبناء البيوت والسلطنة، وعند هذا يظهر أن أكثر مصالح العالم لا تتم إلا بالحديد، وعند هذا يظهر أثر وجود الله تعالى ورحمته على عبيده"[4].

    يقول الرافعي: « ولسنا نريد أن نخوض في الكشف عن مبدأ انتشار العلوم النظرية والعلل الباعثة عليها، فلذلك موضع هو أملك بها وأوفى، غير أننا نوثق الكلمة في أن القرآن الكريم هو كان سبب العلوم ومرجعها كلها بأنه ما من علم إلا وقد نظر أهله في القرآن، وأخذوا منه مادة علمهم أو مادة الحياة له، فقد كانت سطوة الناس في الأجيال الأولى من العامة وأشباه العامة شديدة على أهل العلوم النظرية، إلا أن يجعلوا بينها وبين القرآن نسبًا من التأويل والاستشهاد والنظر، أو يبتغوا بها مقصدًا من مقاصده، وقد استخرج بعض علمائنا من القرآن ما يشير إلى مستحدثات الاختراع، وما يحقِّق بعض غوامض العلوم الطبيعية، وبسطوا كل ذلك بسطًا.. ولعل متحققًا بهذه العلوم الحديثة لو تدبر القرآن وأحكم النظر فيه، وكان بحيث لا تعوزه أداة الفهم، ولا يلتوي عليه أمر من أمره، لاستخرج منه إشارات كثيرة تومئ إلى حقائق العلوم وإن لم تبسط من أنبائها، وتدل عليها وإن لم تسمها بأسمائها»[5].

    فالرافعي إذًا كما العلماء السابقين يؤكد أن في القرآن الكريم إشارات لمختلف العلوم والمعارف التي يمكن عن طريق التدبر والنظر التوصل إليها، ولا تخرج عنده عن عموم قوله عز وجل: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53]، فيقول: "وقد أشار القرآن إلى نشأة هذه العلوم وإلى تمحيصها وغايتها.. ولو جمعت أنواع العلوم الإنسانية كلها ما خرجت في معانيها من قوله تعالى: ﴿ في الآفاق وفي أنفسهم ﴾، فكلما تقدَّم النظر، وجمعت العلوم، ونازعت إلى الكشف والاختراع، واستكملت آلات البحث، ظهرت حقائقه الطبيعية ناصعة، حتى كأن تلك الآلات حينما توجه لآيات السماء والأرض توجه لآيات القرآن أيضًا: ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21]، ذلك هو الأمر في العلوم الأولى ثم الله ينشئ النشأة الآخرة"[6].

    أسلوب القرآن في عرض العلوم والمعارف:
    سلك القرآن الكريم مسالك متنوعة غاية في الدقة والجمال والتدفق في التعبير عن العلوم والمعارف، فقد تكاملت أساليبه وجمعت بين الأسلوب البياني والأسلوب العقلي والعاطفي، ففي الأسلوب البياني يقول د عبدالله دراز في النبأ العظيم: "فإنه جلت قدرته قد أجرى سنته في نظام هذا العالم أن يغشى جلائل أسراره بأستار لا تخلو من متعة وجمال، ليكون ذلك من عوامل حفظه.. فلما سبقت كلمته أن يصون علينا نفائس العلوم التي أودعها هذا الكتاب الكريم، قضت حكمته أن يختار لها صوانًا يحببها إلى الناس بعذوبته، ويغريهم عليها بطلاوته، ويكون بمنزلة "الحداء" يستحث النفوس على السير إليها، ويهون عليها وعثاء السفر في طلب كمالها، لا جرم أنه اصطفى لها من هذا اللسان العربي المبين ذلك القالب العذب الجميل"[7]، ويقول الرافعي: "وكان القرآن الكريم قد جمع في أسلوبه أرقى ما تحس به الفطرة اللغوية من أوضاع البيان.. تقف عليه المعرفة"[8].

    من هنا يظهر أن الكلمة القرآنية تحمل أكثر الحقائق والعلوم والمعارف في شتى التخصصات، وذلك بحسب المعنى اللغوي: "فإذا أنت لم يلهك جمال العطاء عما تحته من الكنز الدفين، ولم تحجبك بهجة الأستار عما وراءها من السر المصون، بل فليت القشرة عن لبها، وكشفت الصدفة عن درها، فنفذت من هذا النظام اللفظي إلى ذلك النظام المعنوي، تجلى لك ما هو أبهى وأبهر، ولقيك ما هو أروع وأبدع"[9]، هكذا إذًا كان عرض العلوم والمعارف على سبيل الإجمال الذي يحصل معه الفهم، فإذا أمعن العالم النظر فيه تبدت منه معاني جديدة لا تخرج عن المعنى اللغوي، ولطائفه.

    يقول الرازي في تفسيره لقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الحج: 3]، مبينًا أسلوب البرهنة العقلية للقرآن في التدليل على العلوم والمعارف المرتبطة بأصول الدين: "ذم من يجادل في الله بغير علم، وذلك يقتضي أن المجادل بالعلم لا يكون مذمومًا بل يكون ممدوحًا... ثم إن الله تعالى أمر بالنظر فقال: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [محمد: 24]، ثم إن الله تعالى ذكر التفكر في معرض المدح فقال: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 21]"، وأيضًا ذم المعرضين، فقال: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [يوسف: 105]، وإنه تعالى ذم التقليد، فقال حكاية عن الكفار: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23]، وكل ذلك يدل على وجوب النظر والاستدلال والتفكر وذم التقليد، فمن دعا إلى النظر والاستدلال، كان على وفق القرآن ودين الأنبياء، ومن دعا إلى التقليد كان على خلاف القرآن"[10].

    من خلال مفاهيم الجدل والتدبر والنظر وذم التقليد، يتضح أن أسلوب القرآن في عرض فنون العلوم والمعارف أسلوب عقلي حجاجي برهاني قائم على تمجيد دور العقل في كشف الحقائق والتوصل إلى ألوان الفنون التي لا تناقض أصول التشريع.

    وفي عرض القرآن للعلوم والمعارف بالأسلوب العاطفي الممزوج بالعقلي يقول عبدالله دراز: "وفي النفس الإنسانية قوتان: قوة تفكير، وقوة وجدان، فأما إحداهما فتنقِّب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به، وأما الأخرى فتسجل بما في الأشياء من لذة وألم، والبيان التام هو الذي يوفي لك بهاتين الحاجتين، ويطير لنفسك فيؤتيها حظَّها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية، لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء، فما وجدنا من هؤلاء ولا هؤلاء إلا غلوًّا في جانب، وقصورًا في جانب، فأما الحكماء فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاءً لعقلك، ولا تتوجه نفوسهم إلى استهواء نفسك واختلاب عاطفتك، فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم لا يأبهون لما فيها من جفاف وعري ونبو عن الطباع، وأما الشعراء فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور من نفسك، فلا يبالون بما صوروه لك غيًّا أو رشدًا، فمن لك إذًا بهذا الكلام الواحد الذي يجيء بالحقيقة البرهانية الصارمة، بما يرضي حتى أولئك الفلاسفة المتعمقين، ومن المتعة الوجدانية الطيبة بما يرضي حتى هؤلاء الشعراء المرجين؟ ذلك الله رب العالمين، فهو الذي لا يشغله شأن عن شأن، وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معًا بلسان، وأن يمزج الحق والجمال معًا يلتقيان ولا يبغيان، وأن يخرج من بينهما شرابًا خالصًا سائغًا للشاربين، وهذا هو ما تجده في كتابه الكريم حيثما توجهت، ألا تراه في فسحة قصصه وأخباره لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة؟ أو لا تراه في معمعة براهينه وأحكامه لا ينسى حظ القلب من تشويق وترقيق، وتحذير وتنفير وتهويل وتعجيب، وتبكيت وتأنيب؟ يبث ذلك في مطالع آياته ومقاطعها"[11].

    وعلى العموم إن للقرآن الكريم أسلوبًا خاصًّا به مغاير لأساليب العرب في الكتابة والخطابة والتأليف، فهو أسلوب يشفي قلوب العامة، ويكفي قلوب الخاصة، فظاهره القريب يهدي الجماهير وسواد الناس ويملأ فراغ نفوسهم بالترغيب والترهيب، والجمال الأخاذ في تعابيره، ومشاهده، وباطنه عميق يشبع نهم الفلاسفة، والعلماء إلى مزيد من الحكمة والفكر، يحل العقد الكبرى عندهم من مبدأ الكون ومنتهاه ونظامه ودقة صنعه وإبداعه، وهذا الأسلوب المرن هو الذي كفل للقرآن الخلود رغم التغيرات والتلوينات اللفظية، والذهنية[12].

    هذه المعاني وغيرها يؤكدها الرافعي، فيقول: "وإنما أوردنا هذا القول لنكشف لك عن معنى عجيب في هذا الكتاب الكريم، فهو قد نزل في البادية على نبي أمي، وقوم أميين لم يكن لهم إلا ألسنتهم وقلوبهم، وكانت فنون القول التي يذهبون فيها مذاهبهم ويتواردون عليها، لا تجاوز ضروبًا من الصفات وأنواعًا من الحكم، وطائفة من الأخبار والأنساب، فلما نزل القرآن بمعانيه الرائعة التي افتن بها في غير مذاهبهم، ونزع منها إلى غير فنونهم، لم يقفوا على ما أريد به من ذلك، بل حملوه على ظاهره، وأخذوا منه حكم زمانهم، وكان لهم في بلاغته المعجزة مقنع، وجعل الله في كتابه هذه المعاني المختلف، وهذه الفنون المتعددة التي يهيج بعضها النظر، ويشحذ بعضها الفكر، ويمكن بعضها اليقين، ويبعث بعضها على الاستقصاء، وهي لم تكن تلتئم على ألسنتهم من قبل دليلًا بيِّنًا منه على أن القرآن كتاب الدهر كله، وكم للدهر من أدلة على هذه الحقيقة ما تبرح قائمة، فعلِمنا من صنيع العلماء أن القرآن نزل بتلك المعاني، ليخرج للأمة من كل معنى علمًا برأسه، ثم يعمل الزمن عمله، فتخرج الأمة من كل علم فروعًا، ومن كل فرع فنونًا، إلى ما يستوفي هذا الباب.. وكان القرآن سببًا في هذه النشأة الحديثة للعلوم والمعارف التطبيقية الدقيقة البحتة، من بعد أن استدار الزمان وذهبت الدنيا مستدبرة، وأنشأ الله القرون والأجيال، وإن من شيء إلا عند الله خزائنه، ولكنه سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 21].

    وعلى سبيل الختم، فالقرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية، وأوسع تصور كوني للمشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان، فهو يعتمد في أسلوبه على مخاطبة الفطرة الإنسانية، ومن الاستدلال بوقائع الأشياء المحسوسة إلى المجادلة العقلية إلى لفت النظر إلى واقع القصور الإنساني، ولما كان المخاطبون جملة من الناس بمختلف طبقاتهم، وفئاتهم وعلى اختلاف مستوياتهم الفكرية والثقافية، جاء في القرآن الكريم من البراهين والأدلة والأمثلة ما يهم الشرائح الاجتماعية على مختلف العصور؛ لأن المنطلقات الإنسانية محكومة بالفطرة والعقل والتجارب.

    لائحة المصادر والمراجع:
    1- القرآن الكريم.
    2- الرازي الفخر، المفسر، المتكلم، أشعري،/ شافعي، توفي 606هـ: مفاتح الغيب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1418هـ/1997م.
    3- ابن القيم الجوزية شمس الدين، زاد المعاد في هدي خير العباد، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، ط-27-، 1415/1994.
    4- مصطفى صادق الرافعي، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، دار الكتاب العربي بيروت طبعة سنة 1410هـ – 1990م.
    5- عبدالله دراز، النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن، دار ابن الجوزي، الطبعة 1 س 2013- 1434.
    6- مصطفى مسلم؛ مباحث في إعجاز القرآن، دار المسلم للنشر والتوزيع 1996.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * موقع الألوكة: (https://www.alukah.net/sharia/0/141965/#ixzz6Zeb5NewA).
    [1] مصطفى صادق الرافعي، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، دار الكتاب العربي بيروت طبعة سنة 1410ه - 1990م، ص 117 - 119 بتصرف.
    [2] ابن القيم الجوزية شمس الدين، زاد المعاد في هدي خير العباد، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، ط-27-، 1415/1994.ج 1 ص 158.
    [3] الرازي الفخر، مفاتح الغيب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1418هـ/1997م.
    [4] الرازي مفاتيح الغيب م سابق ج 15 ص 243.
    [5] الرافعي إعجاز القرآن م سابق ص 122-123 بتصرف
    [6] الرافعي إعجاز القرآن م سابق ص 127- 129 بتصرف
    [7] عبدالله دراز: النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن، دار ابن الجوزي، الطبعة 1 س 2013- 1434 ص 103 بتصرف.
    [8] الرافعي إعجاز القرآن م م سابق ص 192 بتصرف.
    [9] دراز النبأ العظيم م م سابق ص 105 بتصرف.
    [10] الرازي مفاتيح الغيب ج 1 ص366.
    [11] دراز النبأ العظيم ص 114 - 117 بتصرف.
    [12] مصطفى مسلم، مباحث في إعجاز القرآن، دار المسلم للنشر والتوزيع، 1996 ، ص 152.
    العلوم والمعارف وأسلوب عرضها في القرآن الكريم * الكاتب: محمد بنعدي أخذ الحديث عن العلوم والمعارف في القرآن الكريم قدرًا وافرًا من جهود العلماء والباحثين قديمًا وحديثًا، كل بحسب أُفقه المعرفي وتحديات جيله، والإشكالات التي فرضها عليه واقعه، حيث يجد المطالع لمصادر المعرفة الإسلامية بوجه عام والعلوم المنبثقة من القرآن خصوصًا - أن علماءنالم يدخروا جهدًا في الكشف والتنقيب عن كل ما من شأنه أن يبيِّن هدايات القرآن الكريم وبصائره للناس كل من زاوية تخصُّصه. يقول الرافعي حول العلوم والمعارف التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في كتابه "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية": « وهو أمر لم يكن أكثره على عهد الصحابة رضي الله عنهم يوم كان العلم فروعًا قليلة؛ إذ كانت الأعلام بينة لائحة، وطريق الإسلام لا تزال فيها آثار النبوة واضحة، ومن ثم جعلت العلوم تنبع من القرآن ثم تستجيش وتتسع، وأخذ بعضها يمد بعضًا... فاعتنى قوم بضبط لغاته وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه، وعددها، وعدد كلماته وآياته وسوره، وأحزابه وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته، والتعليم عند كل عشر آيات، إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة... فسموا القراء. واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العامة.. وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها والأفعال واللازم والمتعدي.. وبعضهم أعرب مشكله.. واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا لفظًا يدل على معنى واحد، ولفظًا يدل على معنيين، ولفظًا يدل على أكثر، فأجروا الأول على حكمه، وأوضحوا معنى الخفي منه، وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين.. وأعمل كل منهم فكرَه، وقال بما اقتضاه نظره. واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنظرية، فاستنبطوا منه، وسموا هذا العلم بأصول الدين، وتأملت طائفة منهم معاني خطاب، فرأت منها ما يقتضي العموم، ومنها ما يقتضي الخصوص، فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز، وتكلموا في التخصيص والأخبار والنص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي والنسخ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة، واستصحاب الحال والاستقراء، وسموا هذا الفن أصول الفقه. وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام، فأسسوا أصوله، وفرعوا فروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطًا حسنًا، وسموه بعلم الفروع، وبالفقه أيضًا. وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السالفة، والأمم الخالية، فنقلوا ودوَّنوا أخبارهم ووقائعهم، حتى ذكروا بَدْء الدنيا وأول الأشياء، وسموا ذلك بالتاريخ. وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال، والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال، فاستنبطوا ما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير، وذكر الموت والميعاد والحشر والحساب.. فسموا بذلك الخطباء والوعاظ. وأخذ قوم مما في آية المواريث من ذكر السهام وأربابها، وغير ذلك علم الفرائض، واستنبطوا منها من ذكر النصف والربع والسدس والثمن حساب الفرائض. ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالة على الحكم الباهرة في الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والبروج، وغير ذلك، فاستخرجوا منه علم المواقيت. ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ، وبديع النظم، وحسن السياق، والمبادئ والمقاطع والمخالص، والتلوين في الخطاب والإطناب والإيجاز، وغير ذلك، واستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع»[1]. يؤكد الرافعي أن هذه العلوم والمعارف التي احتجنها كتاب الله العزيز، إنما هي حجة على الذين لا يقدرون الجهود المبذولة في تراث الأولين، ويرى أن من يقول مثل ذلك إنما يحاكم بمعارف العصر الزمن الماضي، فهو ملتفت إلى كسب الآخر في العلوم الحديثة، دون أدنى حس بمسؤولية كسبه هو لزمانه، فيجلد تراثه بسوط أشد ما يكون، فيدعي تبعًا لهذه النظرة الحدية أن سبب التخلف في عالمنا اليوم إنما هو القرآن أو تلك العلوم؟ ذاهلًا عن قصد أو عن غير قصد أن الأوائل إنما اجتهدوا وأبدعوا بحسب السقف المعرفي لأزمنتهم، وبحسب حاجات الواقع التي فرضت عليهم تفاصيل تدافعهم الحضاري. إن كلام الأستاذ مصطفى الرافعي يقدِّم توجيهًا لمسألة العلوم والمعارف في الثقافة الإسلامية، بحسب مؤهلات كل جيل، وهو من زاوية أخرى، يحث الجيل المعاصر على التنقيب والبحث، كما بحث العلماء الأوائل من خلال التدبر والتفكر والمحاورة للقرآن الكريم؛ حتى تمكنوا من إبداع علوم ومعارف تناسب إمكاناتهم العقلية، وحاجاتهم الملحة وتحديات زمانهم الثقافية عمومًا. ولا شك أن الجبهة اليوم التي تحتاج إلى تظافر الجهود لتبيانها هي جبهة العلوم الكونية أو التطبيقية أو البحثة، فالعصر الحاضر يحتاج لهذه العلوم بشكل آكد، ومعلوم عند القاصي والداني أن في القرآن إشارات كثيرة لآيات الأفاق والأنفس، على أن جبهة العلوم التي استطاع المتقدمون استكشافها، ما تزال مفتوحة في وجه الإبداعات الإسلامية من العلوم الإنسانية. ومن هذه المعارف والعلوم التي أشار إليها القرآن الكريم - وهي ذات الامتداد في مجالات الحياة المتنوعة - ما نبَّه إليه ابن القيم في زاده عن علوم الطب حين قال: « وأصول الطب ثلاثة: الحمية وحفظ الصحة، واستفراغ المادة المضرة، وقد جمعها الله تعالى له ولأمته في ثلاثة مواضع من كتابه، فحمى المريض من استعمال الماء خشية من الضرر، فقال تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [النساء: 43]، فأباح التيمم للمريض حمية له، كما أباح للعادم، وقال في حفظ الصحة: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184]، فأباح للمسافر الفطر في رمضان حفظًا لصحته؛ لئلا يجتمع على قوَّته الصوم ومشقة السفر، فيضعف القوة والصحة، وقال في الاستفراغ في حلق الرأس للمحرم: " ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ [البقرة: 196]، فأباح للمريض أو مَن به أذى من رأسه وهو مُحرم أن يحلق رأسه، ويستفرغ المواد الفاسدة والأبخرة الرديئة التي تولد عليه القمل، كما حصل لكعب بن عجرة، أو تولد عليه المرض، وهذه الثلاثة هي قواعد الطب وأصوله»[2]. فالطب والصحة العامة من أبرز ما أشار القرآن إليه من ذلك ما ورد في قول الله تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82]. ومن العلوم والمعارف كذلك التي وردت الإشارة إليها في القرآن الكريم، ولم يتم الانتباه إليها رغم كونها احتلت مساحات كبيرة من سور القرآن وآياته، ما ذكره الرازي في تفسيره لقول الله تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53]، فقال: « فإن كل من كان أكثر توغلًا في بحار مخلوقات الله تعالى، كان أكثر علمًا بجلال الله تعالى وعظمته، فنقول: الكلام في أحوال السماوات على الوجه المختصر الذي يليق بهذا الموضع مرتب في فصول: الفصل الأول: في ترتيب الأفلاك، قالوا: أقربها إلينا كرة القمر، وفوقها كرة عطارد، ثم كرة الزهرة، ثم كرة الشمس، ثم كرة المريخ، ثم كرة المشتري، ثم كرة زحل، ثم كرة الثوابت، ثم الفلك الأعظم، واعلم أن في هذا الموضوع أبحاثًا»[3]. ومن هذه العلوم والمعارف ما وردت إليه الإشارة من علوم الصناعة المختلفة من آلات الحروب والحياكة والزراعة بمختلف فروعها وفنونها المرتبطة بمادة الحديد؛ يقول الرازي في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ [الحديد: 25]، "وأما الحديد ففيه البأس الشديد، فإن آلات الحروب متخذة منه، وفيه أيضًا منافع كثيرة؛ منها قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ ﴾ [الأنبياء: 80]، ومنها أن مصالح العالم، إما أصول، وإما فروع، أما الأصول فأربعة: الزراعة والحياكة وبناء البيوت والسلطنة، وعند هذا يظهر أن أكثر مصالح العالم لا تتم إلا بالحديد، وعند هذا يظهر أثر وجود الله تعالى ورحمته على عبيده"[4]. يقول الرافعي: « ولسنا نريد أن نخوض في الكشف عن مبدأ انتشار العلوم النظرية والعلل الباعثة عليها، فلذلك موضع هو أملك بها وأوفى، غير أننا نوثق الكلمة في أن القرآن الكريم هو كان سبب العلوم ومرجعها كلها بأنه ما من علم إلا وقد نظر أهله في القرآن، وأخذوا منه مادة علمهم أو مادة الحياة له، فقد كانت سطوة الناس في الأجيال الأولى من العامة وأشباه العامة شديدة على أهل العلوم النظرية، إلا أن يجعلوا بينها وبين القرآن نسبًا من التأويل والاستشهاد والنظر، أو يبتغوا بها مقصدًا من مقاصده، وقد استخرج بعض علمائنا من القرآن ما يشير إلى مستحدثات الاختراع، وما يحقِّق بعض غوامض العلوم الطبيعية، وبسطوا كل ذلك بسطًا.. ولعل متحققًا بهذه العلوم الحديثة لو تدبر القرآن وأحكم النظر فيه، وكان بحيث لا تعوزه أداة الفهم، ولا يلتوي عليه أمر من أمره، لاستخرج منه إشارات كثيرة تومئ إلى حقائق العلوم وإن لم تبسط من أنبائها، وتدل عليها وإن لم تسمها بأسمائها»[5]. فالرافعي إذًا كما العلماء السابقين يؤكد أن في القرآن الكريم إشارات لمختلف العلوم والمعارف التي يمكن عن طريق التدبر والنظر التوصل إليها، ولا تخرج عنده عن عموم قوله عز وجل: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53]، فيقول: "وقد أشار القرآن إلى نشأة هذه العلوم وإلى تمحيصها وغايتها.. ولو جمعت أنواع العلوم الإنسانية كلها ما خرجت في معانيها من قوله تعالى: ﴿ في الآفاق وفي أنفسهم ﴾، فكلما تقدَّم النظر، وجمعت العلوم، ونازعت إلى الكشف والاختراع، واستكملت آلات البحث، ظهرت حقائقه الطبيعية ناصعة، حتى كأن تلك الآلات حينما توجه لآيات السماء والأرض توجه لآيات القرآن أيضًا: ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21]، ذلك هو الأمر في العلوم الأولى ثم الله ينشئ النشأة الآخرة"[6]. أسلوب القرآن في عرض العلوم والمعارف: سلك القرآن الكريم مسالك متنوعة غاية في الدقة والجمال والتدفق في التعبير عن العلوم والمعارف، فقد تكاملت أساليبه وجمعت بين الأسلوب البياني والأسلوب العقلي والعاطفي، ففي الأسلوب البياني يقول د عبدالله دراز في النبأ العظيم: "فإنه جلت قدرته قد أجرى سنته في نظام هذا العالم أن يغشى جلائل أسراره بأستار لا تخلو من متعة وجمال، ليكون ذلك من عوامل حفظه.. فلما سبقت كلمته أن يصون علينا نفائس العلوم التي أودعها هذا الكتاب الكريم، قضت حكمته أن يختار لها صوانًا يحببها إلى الناس بعذوبته، ويغريهم عليها بطلاوته، ويكون بمنزلة "الحداء" يستحث النفوس على السير إليها، ويهون عليها وعثاء السفر في طلب كمالها، لا جرم أنه اصطفى لها من هذا اللسان العربي المبين ذلك القالب العذب الجميل"[7]، ويقول الرافعي: "وكان القرآن الكريم قد جمع في أسلوبه أرقى ما تحس به الفطرة اللغوية من أوضاع البيان.. تقف عليه المعرفة"[8]. من هنا يظهر أن الكلمة القرآنية تحمل أكثر الحقائق والعلوم والمعارف في شتى التخصصات، وذلك بحسب المعنى اللغوي: "فإذا أنت لم يلهك جمال العطاء عما تحته من الكنز الدفين، ولم تحجبك بهجة الأستار عما وراءها من السر المصون، بل فليت القشرة عن لبها، وكشفت الصدفة عن درها، فنفذت من هذا النظام اللفظي إلى ذلك النظام المعنوي، تجلى لك ما هو أبهى وأبهر، ولقيك ما هو أروع وأبدع"[9]، هكذا إذًا كان عرض العلوم والمعارف على سبيل الإجمال الذي يحصل معه الفهم، فإذا أمعن العالم النظر فيه تبدت منه معاني جديدة لا تخرج عن المعنى اللغوي، ولطائفه. يقول الرازي في تفسيره لقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الحج: 3]، مبينًا أسلوب البرهنة العقلية للقرآن في التدليل على العلوم والمعارف المرتبطة بأصول الدين: "ذم من يجادل في الله بغير علم، وذلك يقتضي أن المجادل بالعلم لا يكون مذمومًا بل يكون ممدوحًا... ثم إن الله تعالى أمر بالنظر فقال: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [محمد: 24]، ثم إن الله تعالى ذكر التفكر في معرض المدح فقال: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 21]"، وأيضًا ذم المعرضين، فقال: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [يوسف: 105]، وإنه تعالى ذم التقليد، فقال حكاية عن الكفار: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23]، وكل ذلك يدل على وجوب النظر والاستدلال والتفكر وذم التقليد، فمن دعا إلى النظر والاستدلال، كان على وفق القرآن ودين الأنبياء، ومن دعا إلى التقليد كان على خلاف القرآن"[10]. من خلال مفاهيم الجدل والتدبر والنظر وذم التقليد، يتضح أن أسلوب القرآن في عرض فنون العلوم والمعارف أسلوب عقلي حجاجي برهاني قائم على تمجيد دور العقل في كشف الحقائق والتوصل إلى ألوان الفنون التي لا تناقض أصول التشريع. وفي عرض القرآن للعلوم والمعارف بالأسلوب العاطفي الممزوج بالعقلي يقول عبدالله دراز: "وفي النفس الإنسانية قوتان: قوة تفكير، وقوة وجدان، فأما إحداهما فتنقِّب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به، وأما الأخرى فتسجل بما في الأشياء من لذة وألم، والبيان التام هو الذي يوفي لك بهاتين الحاجتين، ويطير لنفسك فيؤتيها حظَّها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية، لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء، فما وجدنا من هؤلاء ولا هؤلاء إلا غلوًّا في جانب، وقصورًا في جانب، فأما الحكماء فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاءً لعقلك، ولا تتوجه نفوسهم إلى استهواء نفسك واختلاب عاطفتك، فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم لا يأبهون لما فيها من جفاف وعري ونبو عن الطباع، وأما الشعراء فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور من نفسك، فلا يبالون بما صوروه لك غيًّا أو رشدًا، فمن لك إذًا بهذا الكلام الواحد الذي يجيء بالحقيقة البرهانية الصارمة، بما يرضي حتى أولئك الفلاسفة المتعمقين، ومن المتعة الوجدانية الطيبة بما يرضي حتى هؤلاء الشعراء المرجين؟ ذلك الله رب العالمين، فهو الذي لا يشغله شأن عن شأن، وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معًا بلسان، وأن يمزج الحق والجمال معًا يلتقيان ولا يبغيان، وأن يخرج من بينهما شرابًا خالصًا سائغًا للشاربين، وهذا هو ما تجده في كتابه الكريم حيثما توجهت، ألا تراه في فسحة قصصه وأخباره لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة؟ أو لا تراه في معمعة براهينه وأحكامه لا ينسى حظ القلب من تشويق وترقيق، وتحذير وتنفير وتهويل وتعجيب، وتبكيت وتأنيب؟ يبث ذلك في مطالع آياته ومقاطعها"[11]. وعلى العموم إن للقرآن الكريم أسلوبًا خاصًّا به مغاير لأساليب العرب في الكتابة والخطابة والتأليف، فهو أسلوب يشفي قلوب العامة، ويكفي قلوب الخاصة، فظاهره القريب يهدي الجماهير وسواد الناس ويملأ فراغ نفوسهم بالترغيب والترهيب، والجمال الأخاذ في تعابيره، ومشاهده، وباطنه عميق يشبع نهم الفلاسفة، والعلماء إلى مزيد من الحكمة والفكر، يحل العقد الكبرى عندهم من مبدأ الكون ومنتهاه ونظامه ودقة صنعه وإبداعه، وهذا الأسلوب المرن هو الذي كفل للقرآن الخلود رغم التغيرات والتلوينات اللفظية، والذهنية[12]. هذه المعاني وغيرها يؤكدها الرافعي، فيقول: "وإنما أوردنا هذا القول لنكشف لك عن معنى عجيب في هذا الكتاب الكريم، فهو قد نزل في البادية على نبي أمي، وقوم أميين لم يكن لهم إلا ألسنتهم وقلوبهم، وكانت فنون القول التي يذهبون فيها مذاهبهم ويتواردون عليها، لا تجاوز ضروبًا من الصفات وأنواعًا من الحكم، وطائفة من الأخبار والأنساب، فلما نزل القرآن بمعانيه الرائعة التي افتن بها في غير مذاهبهم، ونزع منها إلى غير فنونهم، لم يقفوا على ما أريد به من ذلك، بل حملوه على ظاهره، وأخذوا منه حكم زمانهم، وكان لهم في بلاغته المعجزة مقنع، وجعل الله في كتابه هذه المعاني المختلف، وهذه الفنون المتعددة التي يهيج بعضها النظر، ويشحذ بعضها الفكر، ويمكن بعضها اليقين، ويبعث بعضها على الاستقصاء، وهي لم تكن تلتئم على ألسنتهم من قبل دليلًا بيِّنًا منه على أن القرآن كتاب الدهر كله، وكم للدهر من أدلة على هذه الحقيقة ما تبرح قائمة، فعلِمنا من صنيع العلماء أن القرآن نزل بتلك المعاني، ليخرج للأمة من كل معنى علمًا برأسه، ثم يعمل الزمن عمله، فتخرج الأمة من كل علم فروعًا، ومن كل فرع فنونًا، إلى ما يستوفي هذا الباب.. وكان القرآن سببًا في هذه النشأة الحديثة للعلوم والمعارف التطبيقية الدقيقة البحتة، من بعد أن استدار الزمان وذهبت الدنيا مستدبرة، وأنشأ الله القرون والأجيال، وإن من شيء إلا عند الله خزائنه، ولكنه سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 21]. وعلى سبيل الختم، فالقرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية، وأوسع تصور كوني للمشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان، فهو يعتمد في أسلوبه على مخاطبة الفطرة الإنسانية، ومن الاستدلال بوقائع الأشياء المحسوسة إلى المجادلة العقلية إلى لفت النظر إلى واقع القصور الإنساني، ولما كان المخاطبون جملة من الناس بمختلف طبقاتهم، وفئاتهم وعلى اختلاف مستوياتهم الفكرية والثقافية، جاء في القرآن الكريم من البراهين والأدلة والأمثلة ما يهم الشرائح الاجتماعية على مختلف العصور؛ لأن المنطلقات الإنسانية محكومة بالفطرة والعقل والتجارب. لائحة المصادر والمراجع: 1- القرآن الكريم. 2- الرازي الفخر، المفسر، المتكلم، أشعري،/ شافعي، توفي 606هـ: مفاتح الغيب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1418هـ/1997م. 3- ابن القيم الجوزية شمس الدين، زاد المعاد في هدي خير العباد، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، ط-27-، 1415/1994. 4- مصطفى صادق الرافعي، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، دار الكتاب العربي بيروت طبعة سنة 1410هـ – 1990م. 5- عبدالله دراز، النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن، دار ابن الجوزي، الطبعة 1 س 2013- 1434. 6- مصطفى مسلم؛ مباحث في إعجاز القرآن، دار المسلم للنشر والتوزيع 1996. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * موقع الألوكة: (https://www.alukah.net/sharia/0/141965/#ixzz6Zeb5NewA). [1] مصطفى صادق الرافعي، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، دار الكتاب العربي بيروت طبعة سنة 1410ه - 1990م، ص 117 - 119 بتصرف. [2] ابن القيم الجوزية شمس الدين، زاد المعاد في هدي خير العباد، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، ط-27-، 1415/1994.ج 1 ص 158. [3] الرازي الفخر، مفاتح الغيب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1418هـ/1997م. [4] الرازي مفاتيح الغيب م سابق ج 15 ص 243. [5] الرافعي إعجاز القرآن م سابق ص 122-123 بتصرف [6] الرافعي إعجاز القرآن م سابق ص 127- 129 بتصرف [7] عبدالله دراز: النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن، دار ابن الجوزي، الطبعة 1 س 2013- 1434 ص 103 بتصرف. [8] الرافعي إعجاز القرآن م م سابق ص 192 بتصرف. [9] دراز النبأ العظيم م م سابق ص 105 بتصرف. [10] الرازي مفاتيح الغيب ج 1 ص366. [11] دراز النبأ العظيم ص 114 - 117 بتصرف. [12] مصطفى مسلم، مباحث في إعجاز القرآن، دار المسلم للنشر والتوزيع، 1996 ، ص 152.
    1
    0
  • أبو الوفاء الأفغاني (1)

    هو العلامة المحقق الفقيه الأصولي المحدث الناقد المقرئ السيد محمود شاه بن السيد مبارك شاه القادري الحنفي المشهور بأبي الوفاء الأفغاني.
    ولد في بلدة قندهار بأفغانستان في 10/ 12/ 1310هـ يوم النحر من شهر ذي الحجة عام عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة.

    [حياته العلمية]
    نشأ في مسقط رأسه "قندهار" تحت رعاية والده الشيخ الجليل السيد مبارك شاه، ثم سافر إلى الهند في صغره طالباً للعلم، فطلب العلوم من العلماء الكبار الذين أدركهم في بلدة رامبور، ثم سافر إلى ناحية كُجْرات، وتلقى المنقول والمعقول من علمائها البارزين.
    ثم قدم إلى مدينة حيد وآباد الدَّكن عام 1330هـ ثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة, ودخل في عداد طلبة المدرسة النظامية فيها، وتخرج بها وحصَّل الإجازات من شيوخها في الحديث والتفسير والفقه والقراءات بعد أن حفظ القرآن الكريم.
    وفور تخرجه أسند إليه التدريس والتعليم في المدرسة النظامية نفسها، فزامل شيوخه، ودرس الآداب العربية والفقه والحديث الشريف، وعلم وأفاد الطلاب والمستفيدين سنين طوالاً وأجيالاً متتابعة.
    ثم رأى أن يؤسس هناك "لجنة إحياء المعارف النعمانية" ينشر تحت إشرافه آثار سلفنا المتقدمين من الفقهاء المحدثين، فأسس تلك اللجنة بمساعدة من زملائه وقامت بطبع كثير من الكتب النفيسة من فرائد مؤلفات أئمة القرن الثاني والثالث وما بعدها، وكان هو رئيس اللجنة، بل كان هو اللجنة والقائم بأعمالها وإنجازاتها خير قيام.
    يبذل لها وقته وماله وعلمه ما استطاع، متطوعاً محتسباً لوجه الله تعالى.
    وأنعم الله تعالى عليه بالحج إلى بيت الله الحرام، فقصد الحجاز معتمراً، والتقى بزمرة كبيرة من أفاضل علماء الإِسلام وأخذ عنهم وأخذوا عنه، واتسعت شهرته في آفاق أهل العلم، فكان يلاقي العون من جميع الجهات العلمية التي يكاتبها بشأن ما يبتغيه من المخطوطات والآثار النادرة، حتى اجتمع لديه مكتبة غنية في الفقه الحنفي والحديث والرجال والتاريخ وغيرها من العلوم الإِسلامية.
    ونشر من النوادر الغالية بتحقيقه وتعليقه وأشرف على طبع كتب كثيرة منها:
    1 - كتاب: "الحجة على أهل المدينة" للإمام محمَّد بن الحسن الشيباني، الذي حققه وعلَّق عليه الإِمام المحدث الفقيه مهدي حسن، في أربعة مجلدات.
    2 - كتاب "أخبار أبي حنيفة وأصحابه" للإمام المحدث القاضي أبي عبد الله الضيمري.
    3 - كتاب "عقود الجُمان في مناقب أبي حنيفة النعمان" للحافظ المحدث محمَّد بن يوسف الصالحين الشافعي، وعلى غيرها من الكتب النافعة النادرة.
    واتخذ من نشر هذه النفائس والفرائد سلوة له عن الائتناس بالزوجة والأولاد وعاش عزباً فريداً متبتلاً متعبداً زاهداً ورعاً قائم لليل محافظاً على السنة النبوية كل الحفاظ، يكره ترك المستحبات ويعمر أوقاته بالمطالعة والإفادة والتحقيق والتعليق وتلقين العلم لشباب العلماء والمستفيدين، وهمه الازدياد من العلم والسعي في نشره وإشاعته، وما زال هكذا عيشه إلى آخر حياته.

    [شيوخه]
    1 - الإِمام الكبير الشيخ أنوار الله، مؤسس (المدرسة النظامية ودائرة المعارف النعمانية).
    2 - الشيخ عبد الصمد.
    3 - الشيخ عبد الكريم.
    4 - الشيخ محمَّد يعقوب.
    5 - الشيخ المقرئ محمَّد أيوب.
    6 - الشيخ محمَّد الهاشمي الفوقي المدني المالكي (2).
    7 - الحافظ المقرئ الشيخ محمَّد بن أبي المعافي القرشي اليمني الحيدر آبادي الحنفي (3).
    ومن تلاميذه: الشيخ أبو نصر محمَّد أعظم بن كداي محمَّد التاجكي الهروي البرنابادي (4).
    قرأ عليه القرآن الكريم بالروايات المختلفة.

    [مؤلفاته وتحقيقاته]
    لحرص المترجم على نشر كتب السلف وإخراجها إلى الناس، اشتغل بذلك عن التأليف والشروح فاكتفى بالتحقيق والتعليق، ومن الكتب التي قام بتحقيقها والتعليق عليها.
    1 - كتاب "الآثار" للإمام القاضي أبي يوسف.
    2 - كتاب "الرد على سِيَر الأوزاعي" لأبي يوسف أيضاً.
    3 - كتاب "اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى" لأبي يوسف.
    4 - كتاب "الأصل" للإمام محمَّد بن الحسن الشيبانى، في عدة مجلدات كبار.
    5 - كتاب "الجامع الكبير" للشيباني كذلك.
    6 - كتاب "مختصر الطحاوي" في فقه الحنفية، في مجلدين كبيرين.
    7 - الجزء الثالث من "التاريخ الكبير" للإمام البخاري.
    8 - كتاب "النفقات" للجصاص.
    9 - كتاب "أصول الفقه" للسرخسي في مجلدين.
    10 - مناقب الإِمام أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد للحافظ الذهبي.
    11 - شرح الزيادات للسرخسي.
    12 - شرح كتاب "الآثار" للإمام محمَّد بن الحسن الشيباني، وانتهى فيه إلى أواخر الجنائز بحلول وفاته رحمه الله تعالى.

    [وفاته]
    توفي -رحمه الله تعالى- في صبيحة يوم الأربعاء الموافق 13/ 7/ 1395هـ الثالث عشر من شهر رجب الفرد عام خمسة وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) إمتاع الفضلاء بتراجم القراء فيما بعد القرن الثامن الهجري (2/ 373 - 377)، تأليف: د. إلياس البرماوي، نقل المؤلف الترجمة من مقدمة كتاب: "العلماء العزاب" ص 230.
    (2) قال المؤلف: حسب ما وصل إلينا في بعض الأسانيد في القرآن الكريم، والإسناد في كتاب "غاية المسرة بمعرفة أسانيد القراء المعاصرة في المدينة المنورة" للمؤلف.
    (3) قال المؤلف: حسب ماوصل إلينا من الأسانيد في القرآن الكريم، وانظر إسناده في كتاب: "غاية المسرة".
    (4) قال المؤلف: حسب ماوصل إلينا من الأسانيد في القرآن الكريم، وانظر إسناده في كتاب: "غاية المسرة".
    أبو الوفاء الأفغاني (1) هو العلامة المحقق الفقيه الأصولي المحدث الناقد المقرئ السيد محمود شاه بن السيد مبارك شاه القادري الحنفي المشهور بأبي الوفاء الأفغاني. ولد في بلدة قندهار بأفغانستان في 10/ 12/ 1310هـ يوم النحر من شهر ذي الحجة عام عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة. [حياته العلمية] نشأ في مسقط رأسه "قندهار" تحت رعاية والده الشيخ الجليل السيد مبارك شاه، ثم سافر إلى الهند في صغره طالباً للعلم، فطلب العلوم من العلماء الكبار الذين أدركهم في بلدة رامبور، ثم سافر إلى ناحية كُجْرات، وتلقى المنقول والمعقول من علمائها البارزين. ثم قدم إلى مدينة حيد وآباد الدَّكن عام 1330هـ ثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة, ودخل في عداد طلبة المدرسة النظامية فيها، وتخرج بها وحصَّل الإجازات من شيوخها في الحديث والتفسير والفقه والقراءات بعد أن حفظ القرآن الكريم. وفور تخرجه أسند إليه التدريس والتعليم في المدرسة النظامية نفسها، فزامل شيوخه، ودرس الآداب العربية والفقه والحديث الشريف، وعلم وأفاد الطلاب والمستفيدين سنين طوالاً وأجيالاً متتابعة. ثم رأى أن يؤسس هناك "لجنة إحياء المعارف النعمانية" ينشر تحت إشرافه آثار سلفنا المتقدمين من الفقهاء المحدثين، فأسس تلك اللجنة بمساعدة من زملائه وقامت بطبع كثير من الكتب النفيسة من فرائد مؤلفات أئمة القرن الثاني والثالث وما بعدها، وكان هو رئيس اللجنة، بل كان هو اللجنة والقائم بأعمالها وإنجازاتها خير قيام. يبذل لها وقته وماله وعلمه ما استطاع، متطوعاً محتسباً لوجه الله تعالى. وأنعم الله تعالى عليه بالحج إلى بيت الله الحرام، فقصد الحجاز معتمراً، والتقى بزمرة كبيرة من أفاضل علماء الإِسلام وأخذ عنهم وأخذوا عنه، واتسعت شهرته في آفاق أهل العلم، فكان يلاقي العون من جميع الجهات العلمية التي يكاتبها بشأن ما يبتغيه من المخطوطات والآثار النادرة، حتى اجتمع لديه مكتبة غنية في الفقه الحنفي والحديث والرجال والتاريخ وغيرها من العلوم الإِسلامية. ونشر من النوادر الغالية بتحقيقه وتعليقه وأشرف على طبع كتب كثيرة منها: 1 - كتاب: "الحجة على أهل المدينة" للإمام محمَّد بن الحسن الشيباني، الذي حققه وعلَّق عليه الإِمام المحدث الفقيه مهدي حسن، في أربعة مجلدات. 2 - كتاب "أخبار أبي حنيفة وأصحابه" للإمام المحدث القاضي أبي عبد الله الضيمري. 3 - كتاب "عقود الجُمان في مناقب أبي حنيفة النعمان" للحافظ المحدث محمَّد بن يوسف الصالحين الشافعي، وعلى غيرها من الكتب النافعة النادرة. واتخذ من نشر هذه النفائس والفرائد سلوة له عن الائتناس بالزوجة والأولاد وعاش عزباً فريداً متبتلاً متعبداً زاهداً ورعاً قائم لليل محافظاً على السنة النبوية كل الحفاظ، يكره ترك المستحبات ويعمر أوقاته بالمطالعة والإفادة والتحقيق والتعليق وتلقين العلم لشباب العلماء والمستفيدين، وهمه الازدياد من العلم والسعي في نشره وإشاعته، وما زال هكذا عيشه إلى آخر حياته. [شيوخه] 1 - الإِمام الكبير الشيخ أنوار الله، مؤسس (المدرسة النظامية ودائرة المعارف النعمانية). 2 - الشيخ عبد الصمد. 3 - الشيخ عبد الكريم. 4 - الشيخ محمَّد يعقوب. 5 - الشيخ المقرئ محمَّد أيوب. 6 - الشيخ محمَّد الهاشمي الفوقي المدني المالكي (2). 7 - الحافظ المقرئ الشيخ محمَّد بن أبي المعافي القرشي اليمني الحيدر آبادي الحنفي (3). ومن تلاميذه: الشيخ أبو نصر محمَّد أعظم بن كداي محمَّد التاجكي الهروي البرنابادي (4). قرأ عليه القرآن الكريم بالروايات المختلفة. [مؤلفاته وتحقيقاته] لحرص المترجم على نشر كتب السلف وإخراجها إلى الناس، اشتغل بذلك عن التأليف والشروح فاكتفى بالتحقيق والتعليق، ومن الكتب التي قام بتحقيقها والتعليق عليها. 1 - كتاب "الآثار" للإمام القاضي أبي يوسف. 2 - كتاب "الرد على سِيَر الأوزاعي" لأبي يوسف أيضاً. 3 - كتاب "اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى" لأبي يوسف. 4 - كتاب "الأصل" للإمام محمَّد بن الحسن الشيبانى، في عدة مجلدات كبار. 5 - كتاب "الجامع الكبير" للشيباني كذلك. 6 - كتاب "مختصر الطحاوي" في فقه الحنفية، في مجلدين كبيرين. 7 - الجزء الثالث من "التاريخ الكبير" للإمام البخاري. 8 - كتاب "النفقات" للجصاص. 9 - كتاب "أصول الفقه" للسرخسي في مجلدين. 10 - مناقب الإِمام أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد للحافظ الذهبي. 11 - شرح الزيادات للسرخسي. 12 - شرح كتاب "الآثار" للإمام محمَّد بن الحسن الشيباني، وانتهى فيه إلى أواخر الجنائز بحلول وفاته رحمه الله تعالى. [وفاته] توفي -رحمه الله تعالى- في صبيحة يوم الأربعاء الموافق 13/ 7/ 1395هـ الثالث عشر من شهر رجب الفرد عام خمسة وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) إمتاع الفضلاء بتراجم القراء فيما بعد القرن الثامن الهجري (2/ 373 - 377)، تأليف: د. إلياس البرماوي، نقل المؤلف الترجمة من مقدمة كتاب: "العلماء العزاب" ص 230. (2) قال المؤلف: حسب ما وصل إلينا في بعض الأسانيد في القرآن الكريم، والإسناد في كتاب "غاية المسرة بمعرفة أسانيد القراء المعاصرة في المدينة المنورة" للمؤلف. (3) قال المؤلف: حسب ماوصل إلينا من الأسانيد في القرآن الكريم، وانظر إسناده في كتاب: "غاية المسرة". (4) قال المؤلف: حسب ماوصل إلينا من الأسانيد في القرآن الكريم، وانظر إسناده في كتاب: "غاية المسرة".
    0
  • التفسير والتأويل في القرآن

    تأليف: صلاح عبد الفتاح الخالدي
    الناشر: دار النفائس
    التفسير والتأويل في القرآن تأليف: صلاح عبد الفتاح الخالدي الناشر: دار النفائس
    التفسير والتأويل في القرآن.pdf
    0
  • نكت القرآن للقصاب *
    الكاتب: أ.د. مساعد الطيار


    "نكت القرآن الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام"
    للإمام الحافظ محمد بن علي القصاب، من علماء القرن الرابع والخامس.
    حقَّق الكتاب الأفاضل:
    1) د. علي بن غازي التويجري.
    2) وإبراهيم بن منصور الجنيدل.
    3) ود. شايع بن عبده بن شايع الأسمري.
    وصدر عن دار ابن القيم ودار ابن عفان.
    منهج المؤلف:
    1) سار المؤلف على ترتيب السور، فبدأ بالفاتحة وختم بالناس.
    2) لم يلتزم الطريقة المعتادة في تفسير السورة آية آية.
    3) اعتمد المؤلف منهجًا فريدًا، حيث يذكر عنوانًا للآية التي سيتعرض للحديث عنها، فمثلاً في سورة التغابن ذكر العناوين الآتية:
    · ذكر التأكيد، وذكر فيه تعليقه على قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} [التغابن: 9].
    · ذكر الاحترازات، وذكر فيه تعليقه على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14].
    · ذكر الصبر على أذى الزوجة، وذكر تعليقه على قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا} [التغابن: 14].
    · المعتزلة، وذكر تعليقهم على قوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [التغابن: 16] الآيتين، وذكر الرد عليهم من هذه الآية.
    وقد سار في أغلب كتابه على هذا الأسلوب، وحشد فيه جملة من المسائل الفقهية والعقدية واللطائف والمُلح، والرد على المخالفين لأهل السنة والجماعة.
    وقد قال في مقدمته؛ منبئًا عن مقصده في هذا الكتاب: "هذا كتاب نكت القرآن الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام، والُمنبية -أي: المخبرة- عن اختلاف الأنام في أصول الدين وشرائعه، وتفصيله وجوامعه، وكل ما يحسن مقاصده، ويعظم فوائده من معنى لطيف في كل فن تدل عليه الآية من جليلها وغامضها، وظاهرها وعويصها، أودعته بعون الله تعالى كتابي هذا عدة على المخالفين، وحجة على المبتدعين ...".
    والكتاب مليء بلطائف عجيبة، واستدلالات مطربة، ونفائس ودرر متناثرة في جنباته.
    وأنقل لك مثالاً من هذا الكتاب:
    قال القصاب: "دَعْوَى: وفي قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] دليل على أنَّ كل مدعي دعوى محتاج إلى تثبيتها وإقامة البرهان عليها، ثم لا يقبل ذلك البرهان إلا أن يكون مأخوذًا عن الله -جل وتعالى- لقوله في الآية التي قبل هذه حيث ادعى القوم أن لا تمسهم النار إلا أيامًا معدودة: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80]، فلم يصحح لهم دعواهم إلا بعهد يكون عنده، أو بضمان يسبق منه لهم؛ ليكون الارتياب زايلاً عن صحتها ومحققًا لها".
    وبالجملة فالكتاب نفيس، وهو يدل على أن النظر الموضوعي، والنفَسَ التربوي، والتطبيق الواقعي للقرآن موجودًا في مصنفات العلماء، لكن كثيرًا منها لا زال مخبوءًا حبيس دور المخطوطات.
    فنعم ما قدَّم المحققون لنا من تراث أئمتنا، وفقنا الله وإياهم لما يحب ويرضى.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * من الموقع الرسمي للأستاذ الدكتور مساعد الطيار (http://www.attyyar.com/?action=articles_inner&show_id=3474).
    نكت القرآن للقصاب * الكاتب: أ.د. مساعد الطيار "نكت القرآن الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام" للإمام الحافظ محمد بن علي القصاب، من علماء القرن الرابع والخامس. حقَّق الكتاب الأفاضل: 1) د. علي بن غازي التويجري. 2) وإبراهيم بن منصور الجنيدل. 3) ود. شايع بن عبده بن شايع الأسمري. وصدر عن دار ابن القيم ودار ابن عفان. منهج المؤلف: 1) سار المؤلف على ترتيب السور، فبدأ بالفاتحة وختم بالناس. 2) لم يلتزم الطريقة المعتادة في تفسير السورة آية آية. 3) اعتمد المؤلف منهجًا فريدًا، حيث يذكر عنوانًا للآية التي سيتعرض للحديث عنها، فمثلاً في سورة التغابن ذكر العناوين الآتية: · ذكر التأكيد، وذكر فيه تعليقه على قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} [التغابن: 9]. · ذكر الاحترازات، وذكر فيه تعليقه على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]. · ذكر الصبر على أذى الزوجة، وذكر تعليقه على قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا} [التغابن: 14]. · المعتزلة، وذكر تعليقهم على قوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [التغابن: 16] الآيتين، وذكر الرد عليهم من هذه الآية. وقد سار في أغلب كتابه على هذا الأسلوب، وحشد فيه جملة من المسائل الفقهية والعقدية واللطائف والمُلح، والرد على المخالفين لأهل السنة والجماعة. وقد قال في مقدمته؛ منبئًا عن مقصده في هذا الكتاب: "هذا كتاب نكت القرآن الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام، والُمنبية -أي: المخبرة- عن اختلاف الأنام في أصول الدين وشرائعه، وتفصيله وجوامعه، وكل ما يحسن مقاصده، ويعظم فوائده من معنى لطيف في كل فن تدل عليه الآية من جليلها وغامضها، وظاهرها وعويصها، أودعته بعون الله تعالى كتابي هذا عدة على المخالفين، وحجة على المبتدعين ...". والكتاب مليء بلطائف عجيبة، واستدلالات مطربة، ونفائس ودرر متناثرة في جنباته. وأنقل لك مثالاً من هذا الكتاب: قال القصاب: "دَعْوَى: وفي قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] دليل على أنَّ كل مدعي دعوى محتاج إلى تثبيتها وإقامة البرهان عليها، ثم لا يقبل ذلك البرهان إلا أن يكون مأخوذًا عن الله -جل وتعالى- لقوله في الآية التي قبل هذه حيث ادعى القوم أن لا تمسهم النار إلا أيامًا معدودة: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80]، فلم يصحح لهم دعواهم إلا بعهد يكون عنده، أو بضمان يسبق منه لهم؛ ليكون الارتياب زايلاً عن صحتها ومحققًا لها". وبالجملة فالكتاب نفيس، وهو يدل على أن النظر الموضوعي، والنفَسَ التربوي، والتطبيق الواقعي للقرآن موجودًا في مصنفات العلماء، لكن كثيرًا منها لا زال مخبوءًا حبيس دور المخطوطات. فنعم ما قدَّم المحققون لنا من تراث أئمتنا، وفقنا الله وإياهم لما يحب ويرضى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * من الموقع الرسمي للأستاذ الدكتور مساعد الطيار (http://www.attyyar.com/?action=articles_inner&show_id=3474).
    0
  • وجهُ تسمية يوم القيامة بيوم التغابن(1)
    الكاتب: محمد الطاهر بن عاشور

    سألني عالِمٌ فاضلٌ صديقٌ، اعتاد تأنيسي بزيارته، عن تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}[التغابن: 9]، وما وجهُ تسمية يوم القيامة في هذه الآية بيوم التغابن، غير مُنثلِج لِمَا قاله بعضُ المفسرين في وجه التسمية من أن التغابن هو أنّ أهل الجنة يَغْبِنون أهل النار. وذكر أنه راجَع تفاسيرَ كثيرةً فلم يجد فيها ما يقنعه، وحاورني في ذلك محاورةً هزَّت من عطفي إلى أن أُفْصِح في تفسير هذه الآية بما عسى أن يكون فيه مَقْنَع، واللبيب يتبع أحسنَ القول ويَسْمَع.

    ذهب الجمهورُ إلى أن سورة التغابن مكيّة، إلا الآيات الأخيرة من آخرها التي أولها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ}[التغابن: 14]، وأحسب أن هذه الآيات هي التي بعثت القائلين بأنّ السورة مدنية، إِذْ نعلم أن المقصودَ من الخطاب بالآية هم أهل مكة ابتداء، وهم قريش؛ ولذلك جاء فيها: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}[التغابن: 7 - 9].

    وقد قال أئمةٌ من المفسرين: إنّ عادة القرآن أنه يريد بالذين كفروا، متى ذكر في القرآن المشركين من قريش.

    وقوله: {قُلْ بَلَى}، كلمة: (بلى)، فيه إبطالٌ للنفي الواقع في قوله: {لَنْ يُبْعَثُوا}، فإنها حرف يفيد عكسَ معنى (نَعَم)، ويقع بعد النفي في الاستفهام وفي الخبر.

    وقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ}، ظرفٌ متعلق بقوله: {لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ}، ويجوز أن يتعلق بقوله: {لَتُبْعَثُنَّ}، باعتبار عطف قوله: {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ} عليه، أي: يبعثكم فينبِّئكم يوم يجمعكم ليوم الجمع؛ لأن البعث حاصلٌ قبل الجمع، وقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلخ. جملة معترضة بين الفعل والظرف، و(يوم الجَمْع) يوم القيامة.

    وقوله: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} جاء فيه اسمُ الإشارة للبعيد لتهويله ولَفْت العقول إليه، فلذلك عدل عن وصفه بيوم بعده فلم يقل: (ليوم الجمع يوم التغابن)؛ لئلا يفوت معنى الحصر المقصود، وسيُعلم ما فيه من النكتة.

    وجملة: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}، جملةٌ اسمية مُعرَّفة الجزأين، فكان حقُّها أن تفيدَ الحصر، أي: هو يوم التغابن وليس غيرُه من الأيام يومَ التغابن. ومعنى هذا الحصر أن ذلك اليوم لمّا حصل فيه التغابن في أمّ الفضائل جُعِل ما عداه من الأيام التي يقع فيها التغابنُ كالعدم، فحصر جنسَ يوم التغابن في ذلك اليوم بتنزيل التغابن الواقع في غيره منزلة العدم، وهذا من قَصْر الصفة على الموصوف على وجه المبالغة، وهذا الوجه من الحصر يسمَّى بالحصر الادِّعائي؛ لأن المتكلِّم يدَّعي أن الوصف بيوم التغابن محصور في ذلك اليوم، وهو يوم الجمع، كقولهم: أنت الحبيب.

    واعلم أنّ الحصر إنما حصل هنا من صيغة القصر التي هي تعريفُ المسند والمسند إليه، ولم يحصل الحصرُ من التعريف باللام في قوله: {التَّغَابُنِ}، بناءً على أنّ اللام فيه دالةٌ على معنى الكمال؛ لأن معنى الجنس الذي هو أصلُ معنى اللام صالِحٌ هنا، فلا يُعْدَل عنه إلى حَمْل اللام على معنى الكمال، إِذْ لا يُحْمَل عليه إلا عند تعيُّن الحمل عليه بالقرينة؛ وهي منفيةٌ هنا لاستقامة الحمل على تعريف الجنس، وهو أكثرُ معاني اللام.

    ولولا صيغةُ القصر لمَا استُفِيد معنى الحصر، فكيف يكون حاصلًا من معنى الكمال الذي لم ينشأ في هذا المقام إلَّا من حصول معنى الحصر؟ فلا يختلطْ عليك، كما اختلطَ على بعض العلماء.

    والتغابن مشتقٌّ من الغَبْن، والغبن الحطُّ من قيمة المبيع عند شرائه، فكلُّ شراء بأقلَّ من القيمة فهو غبن. ومادة التغابُن تفاعُل من الغبن. وأصل مادة التفاعل تدلّ على وقوع الفعل من جانبَيْنِ فصاعدًا، كالتقاتُل والتسابُق، فلفظ التغابن يدلّ على وقوع غبنٍ حاصلٍ بين جوانب في يوم القيامة.

    وقد اتفق المفسّرون على أن المفاعلةَ غيرُ مقصودٍ منها هنا وقوعُ الفعل من جوانب، ولكنهم اختلفوا في تحصيل المعنى؛ فذهب الزمخشري ومَنْ تبعه -مثل الفخر والبيضاوي- إلى أن المفاعلة هنا هي أن يغبن أهلُ السعادة أهلَ الشقاوة؛ إذ ينزلون منازلَ الجنة التي كان يمكن لأهل الشقاوة أن ينزلوها لو عَمِلوا عملَ السعداء، وهذا يشبه الغبن، فالغبن المستفاد من هذا الجانب استعارة، وهذا أحد جانبي الفعل. وأمّا جانبُ غبن أهل الشقاوة، فجعلَه الزمخشريُّ تهكُّمًا؛ لأن نزولهم في منازل النار ليس غبنًا لأهل السعادة، وعلى هذا الوجه يكون اللفظُ مستعملًا في مجازَيْنِ مختلفَيْنِ على وجه يشبه المشاكلةَ التقديرية، وهذا المعنى ينحو إلى تفصيل كلامٍ مُجْمَل نُقل عن ابن عباس، وهو تفسيرٌ بعيدٌ جدَّ البعد.

    وذهب ابنُ عطية إلى أنّ صيغة التفاعل هنا غيرُ مستعملةٍ في معناها الأصلي، وهو الدلالة على وقوع الفعل من جانبَيْنِ فأكثر، بل هنا لحصول الفعل من جانب واحد للمبالغة مثل التواضع والتمايل، فيكون المعنى: ذلك يوم الغبن، أي: يوم غبن الكافرين. وهو ينحو إلى تفصيل كلام نُقِل عن مجاهد في تفسير الآية هو أقرب إلى الاستعمال وأبعد عن التعسف، ولكنه لا يشفي الغليل؛ لأن الأشقياء والكفار لم يغبنوا فيما لقوه، بل أخذوا حقَّهم من العذاب فلم يحصل معنى أصل الغبن، فضلًا عن المبالغة فيه المستفادة من مادة التفاعل التي لا يحسن ادّعاؤها إلا إذا كان أصلُ الفعل واقعًا، فهذا التفسير، وإن خرج من ورطة عدم صحة التفاعل، لم يخرج من ورطة عدم وجود أصل مادة الغبن. وجميع التفاسير -في رأينا- لم تخرج عن هذين المعنيَين، إمّا مع ضبط أو مع تخليط، ومنهم من مرّ بالآية مرًّا، ولم يحتلب منها دُرًّا. أما أنا فأَكُدُّ ثِمادِي، وأستهدي بالهادي، فأقول: ليس المعنى في الآية حاصلًا من مراعاة معاني المفردات، لا على وجه الحقيقة ولا على وجه المجاز، ولكنه معنى عزيزٌ جليلٌ حصل من مجموع التركيب، وهو قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}، فقد أشار الحصرُ الادّعائي الذي قدَّمْنا بيانَه إلى أن المخاطَبِين يحسبون أيّامًا كثيرة أيامَ تغابن، وأنّ هذا اليوم المتحدَّث عنه هو يومُ التغابن لا غيره من الأيام.

    فبنا أن نتعرف الأيامَ التي يعدها المخاطَبون أيامَ تغابن، وأن نرجع إلى أحوال المخاطَبِين، وهم أهلُ مكة ومَنْ حولهم؛ ذلك أن (التغابن) هنا قد أضيف إليه (يوم)، فعلمنا أن ليس المرادُ من التغابن تغابنَ آحاد الناس في بيوعاتهم الخاصّة التي تَعْرِض من ساعة إلى أخرى، وفي يوم معيَّن يكثر فيه التبايع، فيُغبن فيه ناسٌ كثيرٌ، ويتربَّص فيه بعضُ الناس ببعض لإلحاق الغبن والخسارة.

    ولا نجد أيامًا بهذه الصفة غيرَ أيام الأسواق، وقد كانت قريش أهلَ تجارة، وكانت الأسواقُ حول مكة في الحج: سوق عكاظ، وسوق ذي المجاز، وسوق مجنة. فكلُّ داخلٍ إلى الأسواق يحرص على أن يجلب الربح إلى نفسه، ويغبن غيره، ويحذر من أن يغبنه غيرُه. فكلٌّ يترقب الربحَ ويحذر الخسارة، ولا يرضى لنفسه أن يكون مغبونًا؛ لأنّ الغبن يُؤْذِن بغباوة المغبون، واستخفاف الناس به، وتمشِّي الحيلة عليه. وكلُّ هذه أوصافٌ يأباها العربي، فشُبِّه في الآية حالُ الناس يوم القيامة بحال الناس يوم السوق في ترقُّب ما ينفع والإشفاق مما يضُرُّ، وهو تشبيهُ هيئةٍ بهيئةٍ، وليس تشبيهَ معنى لفظ مفرد بمعنى مفرد آخر.

    واستُعملَ المركَّبُ الدالّ على الهيئة المشبَّه بها، فأطلق على الهيئة المشبهة على طريقة الاستعارة التمثيلية، وهي أعلى أنواع الاستعارة، والمقصود من ذلك تذكيرُ الكفار والمؤمنين بتلك الحالة بين الرغبة والرهبة حتى يستحضروا كأنهم قد تلبّسوا بها فيحذروا سوءَ عاقبتها من الآن، وذلك بأن يَسْعَوا إلى ما يجلب الربح ويتَّقُوا ما يجلب الخسارة الحقّة، قال تعالى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}[فاطر: 29]. وقد تكرر في القرآن تمثيلُ حال أهل الفوز وأهل الثبور في الآخرة بحال التجارة، كما في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}[البقرة: 16].

    ونظيرُ هذا المعنى قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذي، وذكَره البخاري تعليقًا في بعض أبواب الأدب: «إنما المفلسُ الذي يُفلِس يومَ القيامة». وقوله تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ}[النبأ: 39]، أي: يوم القيامة هو يوم النصر؛ لأن اليوم إذا أُطلق فهو يومُ النصر لبعض جيوش العرب أو بعض ملوكهم، كما قالوا: يوم تحلاق اللمم. وفي الحديث: «الصومُ في الشتاء الغنيمةُ الباردة»، فإنه اشتهر بين الناس بالغنيمة الباردة، بمعنى الغنيمة بلا مشقة عمل مِن شأنه إصعاد مرارة البدن، ولكن الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة؛ لأنه غنيمة أجر عظيم حصلت في برودة الجسم، وهو الآمن بهذا الوصف الذي هو وصفُ مدحٍ في عُرفهم، ومن هذا قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[الزمر: 15]، أي: إذا كنتم تعلمون وَصْف الخاسر فالخاسرون حقًّا هم الذين خسروا أنفسهم...إلخ.

    ولذلك جاء هذا الكلامُ المجموع في قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} مجيءَ الدليل والمقدمة، وهو أسلوب عجيب في صناعة التخاطب، فهو بمنزلة الدليل لقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا}[التغابن: 8]، وهو أيضًا بمنزلة المقدّمة لقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التغابن: 9، 10]، فلا جَرَم أنْ تَحصُلَ للسامعين بعد سماع تلك المقدمة وهذه النتيجة روعةُ الخائف الوَجِل، فتَحمِلَهم على تَوخِّي خير العمل.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) من موقع تفسير للدراسات القرآنية (https://tafsir.net/article/5187/wjh-tsmyt-ywm-al-qyamt-bywm-at-tghabn)، نُشرت هذه المقالة في المجلة الزيتونية، المجلد 2، الجزء 4، عدد شهر ذي القعدة 1356هـ - يناير 1938م (ص 148- 150)، وقد ضُمنت في (جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام الطاهر ابن عاشور)، جمع: محمد الطاهر الميساوي، ط. دار النفائس (1/ 57- 63) (موقع تفسير).
    وجهُ تسمية يوم القيامة بيوم التغابن(1) الكاتب: محمد الطاهر بن عاشور سألني عالِمٌ فاضلٌ صديقٌ، اعتاد تأنيسي بزيارته، عن تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}[التغابن: 9]، وما وجهُ تسمية يوم القيامة في هذه الآية بيوم التغابن، غير مُنثلِج لِمَا قاله بعضُ المفسرين في وجه التسمية من أن التغابن هو أنّ أهل الجنة يَغْبِنون أهل النار. وذكر أنه راجَع تفاسيرَ كثيرةً فلم يجد فيها ما يقنعه، وحاورني في ذلك محاورةً هزَّت من عطفي إلى أن أُفْصِح في تفسير هذه الآية بما عسى أن يكون فيه مَقْنَع، واللبيب يتبع أحسنَ القول ويَسْمَع. ذهب الجمهورُ إلى أن سورة التغابن مكيّة، إلا الآيات الأخيرة من آخرها التي أولها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ}[التغابن: 14]، وأحسب أن هذه الآيات هي التي بعثت القائلين بأنّ السورة مدنية، إِذْ نعلم أن المقصودَ من الخطاب بالآية هم أهل مكة ابتداء، وهم قريش؛ ولذلك جاء فيها: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}[التغابن: 7 - 9]. وقد قال أئمةٌ من المفسرين: إنّ عادة القرآن أنه يريد بالذين كفروا، متى ذكر في القرآن المشركين من قريش. وقوله: {قُلْ بَلَى}، كلمة: (بلى)، فيه إبطالٌ للنفي الواقع في قوله: {لَنْ يُبْعَثُوا}، فإنها حرف يفيد عكسَ معنى (نَعَم)، ويقع بعد النفي في الاستفهام وفي الخبر. وقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ}، ظرفٌ متعلق بقوله: {لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ}، ويجوز أن يتعلق بقوله: {لَتُبْعَثُنَّ}، باعتبار عطف قوله: {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ} عليه، أي: يبعثكم فينبِّئكم يوم يجمعكم ليوم الجمع؛ لأن البعث حاصلٌ قبل الجمع، وقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلخ. جملة معترضة بين الفعل والظرف، و(يوم الجَمْع) يوم القيامة. وقوله: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} جاء فيه اسمُ الإشارة للبعيد لتهويله ولَفْت العقول إليه، فلذلك عدل عن وصفه بيوم بعده فلم يقل: (ليوم الجمع يوم التغابن)؛ لئلا يفوت معنى الحصر المقصود، وسيُعلم ما فيه من النكتة. وجملة: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}، جملةٌ اسمية مُعرَّفة الجزأين، فكان حقُّها أن تفيدَ الحصر، أي: هو يوم التغابن وليس غيرُه من الأيام يومَ التغابن. ومعنى هذا الحصر أن ذلك اليوم لمّا حصل فيه التغابن في أمّ الفضائل جُعِل ما عداه من الأيام التي يقع فيها التغابنُ كالعدم، فحصر جنسَ يوم التغابن في ذلك اليوم بتنزيل التغابن الواقع في غيره منزلة العدم، وهذا من قَصْر الصفة على الموصوف على وجه المبالغة، وهذا الوجه من الحصر يسمَّى بالحصر الادِّعائي؛ لأن المتكلِّم يدَّعي أن الوصف بيوم التغابن محصور في ذلك اليوم، وهو يوم الجمع، كقولهم: أنت الحبيب. واعلم أنّ الحصر إنما حصل هنا من صيغة القصر التي هي تعريفُ المسند والمسند إليه، ولم يحصل الحصرُ من التعريف باللام في قوله: {التَّغَابُنِ}، بناءً على أنّ اللام فيه دالةٌ على معنى الكمال؛ لأن معنى الجنس الذي هو أصلُ معنى اللام صالِحٌ هنا، فلا يُعْدَل عنه إلى حَمْل اللام على معنى الكمال، إِذْ لا يُحْمَل عليه إلا عند تعيُّن الحمل عليه بالقرينة؛ وهي منفيةٌ هنا لاستقامة الحمل على تعريف الجنس، وهو أكثرُ معاني اللام. ولولا صيغةُ القصر لمَا استُفِيد معنى الحصر، فكيف يكون حاصلًا من معنى الكمال الذي لم ينشأ في هذا المقام إلَّا من حصول معنى الحصر؟ فلا يختلطْ عليك، كما اختلطَ على بعض العلماء. والتغابن مشتقٌّ من الغَبْن، والغبن الحطُّ من قيمة المبيع عند شرائه، فكلُّ شراء بأقلَّ من القيمة فهو غبن. ومادة التغابُن تفاعُل من الغبن. وأصل مادة التفاعل تدلّ على وقوع الفعل من جانبَيْنِ فصاعدًا، كالتقاتُل والتسابُق، فلفظ التغابن يدلّ على وقوع غبنٍ حاصلٍ بين جوانب في يوم القيامة. وقد اتفق المفسّرون على أن المفاعلةَ غيرُ مقصودٍ منها هنا وقوعُ الفعل من جوانب، ولكنهم اختلفوا في تحصيل المعنى؛ فذهب الزمخشري ومَنْ تبعه -مثل الفخر والبيضاوي- إلى أن المفاعلة هنا هي أن يغبن أهلُ السعادة أهلَ الشقاوة؛ إذ ينزلون منازلَ الجنة التي كان يمكن لأهل الشقاوة أن ينزلوها لو عَمِلوا عملَ السعداء، وهذا يشبه الغبن، فالغبن المستفاد من هذا الجانب استعارة، وهذا أحد جانبي الفعل. وأمّا جانبُ غبن أهل الشقاوة، فجعلَه الزمخشريُّ تهكُّمًا؛ لأن نزولهم في منازل النار ليس غبنًا لأهل السعادة، وعلى هذا الوجه يكون اللفظُ مستعملًا في مجازَيْنِ مختلفَيْنِ على وجه يشبه المشاكلةَ التقديرية، وهذا المعنى ينحو إلى تفصيل كلامٍ مُجْمَل نُقل عن ابن عباس، وهو تفسيرٌ بعيدٌ جدَّ البعد. وذهب ابنُ عطية إلى أنّ صيغة التفاعل هنا غيرُ مستعملةٍ في معناها الأصلي، وهو الدلالة على وقوع الفعل من جانبَيْنِ فأكثر، بل هنا لحصول الفعل من جانب واحد للمبالغة مثل التواضع والتمايل، فيكون المعنى: ذلك يوم الغبن، أي: يوم غبن الكافرين. وهو ينحو إلى تفصيل كلام نُقِل عن مجاهد في تفسير الآية هو أقرب إلى الاستعمال وأبعد عن التعسف، ولكنه لا يشفي الغليل؛ لأن الأشقياء والكفار لم يغبنوا فيما لقوه، بل أخذوا حقَّهم من العذاب فلم يحصل معنى أصل الغبن، فضلًا عن المبالغة فيه المستفادة من مادة التفاعل التي لا يحسن ادّعاؤها إلا إذا كان أصلُ الفعل واقعًا، فهذا التفسير، وإن خرج من ورطة عدم صحة التفاعل، لم يخرج من ورطة عدم وجود أصل مادة الغبن. وجميع التفاسير -في رأينا- لم تخرج عن هذين المعنيَين، إمّا مع ضبط أو مع تخليط، ومنهم من مرّ بالآية مرًّا، ولم يحتلب منها دُرًّا. أما أنا فأَكُدُّ ثِمادِي، وأستهدي بالهادي، فأقول: ليس المعنى في الآية حاصلًا من مراعاة معاني المفردات، لا على وجه الحقيقة ولا على وجه المجاز، ولكنه معنى عزيزٌ جليلٌ حصل من مجموع التركيب، وهو قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}، فقد أشار الحصرُ الادّعائي الذي قدَّمْنا بيانَه إلى أن المخاطَبِين يحسبون أيّامًا كثيرة أيامَ تغابن، وأنّ هذا اليوم المتحدَّث عنه هو يومُ التغابن لا غيره من الأيام. فبنا أن نتعرف الأيامَ التي يعدها المخاطَبون أيامَ تغابن، وأن نرجع إلى أحوال المخاطَبِين، وهم أهلُ مكة ومَنْ حولهم؛ ذلك أن (التغابن) هنا قد أضيف إليه (يوم)، فعلمنا أن ليس المرادُ من التغابن تغابنَ آحاد الناس في بيوعاتهم الخاصّة التي تَعْرِض من ساعة إلى أخرى، وفي يوم معيَّن يكثر فيه التبايع، فيُغبن فيه ناسٌ كثيرٌ، ويتربَّص فيه بعضُ الناس ببعض لإلحاق الغبن والخسارة. ولا نجد أيامًا بهذه الصفة غيرَ أيام الأسواق، وقد كانت قريش أهلَ تجارة، وكانت الأسواقُ حول مكة في الحج: سوق عكاظ، وسوق ذي المجاز، وسوق مجنة. فكلُّ داخلٍ إلى الأسواق يحرص على أن يجلب الربح إلى نفسه، ويغبن غيره، ويحذر من أن يغبنه غيرُه. فكلٌّ يترقب الربحَ ويحذر الخسارة، ولا يرضى لنفسه أن يكون مغبونًا؛ لأنّ الغبن يُؤْذِن بغباوة المغبون، واستخفاف الناس به، وتمشِّي الحيلة عليه. وكلُّ هذه أوصافٌ يأباها العربي، فشُبِّه في الآية حالُ الناس يوم القيامة بحال الناس يوم السوق في ترقُّب ما ينفع والإشفاق مما يضُرُّ، وهو تشبيهُ هيئةٍ بهيئةٍ، وليس تشبيهَ معنى لفظ مفرد بمعنى مفرد آخر. واستُعملَ المركَّبُ الدالّ على الهيئة المشبَّه بها، فأطلق على الهيئة المشبهة على طريقة الاستعارة التمثيلية، وهي أعلى أنواع الاستعارة، والمقصود من ذلك تذكيرُ الكفار والمؤمنين بتلك الحالة بين الرغبة والرهبة حتى يستحضروا كأنهم قد تلبّسوا بها فيحذروا سوءَ عاقبتها من الآن، وذلك بأن يَسْعَوا إلى ما يجلب الربح ويتَّقُوا ما يجلب الخسارة الحقّة، قال تعالى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}[فاطر: 29]. وقد تكرر في القرآن تمثيلُ حال أهل الفوز وأهل الثبور في الآخرة بحال التجارة، كما في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}[البقرة: 16]. ونظيرُ هذا المعنى قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذي، وذكَره البخاري تعليقًا في بعض أبواب الأدب: «إنما المفلسُ الذي يُفلِس يومَ القيامة». وقوله تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ}[النبأ: 39]، أي: يوم القيامة هو يوم النصر؛ لأن اليوم إذا أُطلق فهو يومُ النصر لبعض جيوش العرب أو بعض ملوكهم، كما قالوا: يوم تحلاق اللمم. وفي الحديث: «الصومُ في الشتاء الغنيمةُ الباردة»، فإنه اشتهر بين الناس بالغنيمة الباردة، بمعنى الغنيمة بلا مشقة عمل مِن شأنه إصعاد مرارة البدن، ولكن الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة؛ لأنه غنيمة أجر عظيم حصلت في برودة الجسم، وهو الآمن بهذا الوصف الذي هو وصفُ مدحٍ في عُرفهم، ومن هذا قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[الزمر: 15]، أي: إذا كنتم تعلمون وَصْف الخاسر فالخاسرون حقًّا هم الذين خسروا أنفسهم...إلخ. ولذلك جاء هذا الكلامُ المجموع في قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} مجيءَ الدليل والمقدمة، وهو أسلوب عجيب في صناعة التخاطب، فهو بمنزلة الدليل لقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا}[التغابن: 8]، وهو أيضًا بمنزلة المقدّمة لقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التغابن: 9، 10]، فلا جَرَم أنْ تَحصُلَ للسامعين بعد سماع تلك المقدمة وهذه النتيجة روعةُ الخائف الوَجِل، فتَحمِلَهم على تَوخِّي خير العمل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) من موقع تفسير للدراسات القرآنية (https://tafsir.net/article/5187/wjh-tsmyt-ywm-al-qyamt-bywm-at-tghabn)، نُشرت هذه المقالة في المجلة الزيتونية، المجلد 2، الجزء 4، عدد شهر ذي القعدة 1356هـ - يناير 1938م (ص 148- 150)، وقد ضُمنت في (جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام الطاهر ابن عاشور)، جمع: محمد الطاهر الميساوي، ط. دار النفائس (1/ 57- 63) (موقع تفسير).
    0
  • عبد الفتاح القاضي (1)

    هو العلامة المحقق الشيخ عبد الفتاح بن عبد الغنى بن محمَّد القاضي.
    ولد بمدينة (دمنهور) عاصمة محافظة (البحيرة) بمصر في 25/ 8/ 1320هـ الخامس والعشرين من شهر شعبان سنة عشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة.
    عالم مصري مبرز في القراءات وعلومها وفي العلوم الشرعية والعربية ومن أفاضل علماء الأزهر: له أدب رفيع واقتدار على النظم البديع.

    [حياته العلمية]
    حفظ القرآن الكريم في مقتبل عمره ثم أتقنه وجوده ثم أخذ القراءات العشر على غير واحد من الثقات الجهابذة الأثبات.
    بعد ذلك التحق بالمعهد الأزهرى بالإسكندرية وجد واجتهد حتى حصل على الشهادة الأولية (الإعدادية حالياً).
    ثم التحق بالقسم الثانوى من المعهد المذكور ودرس وجد في التحصيل وتخرج وحصل على الشهادة الثانوية منه.
    ثم رحل إلى القاهرة فالتحق بالقسم العالى "جامعة الأزهر حاليا" وتخرج منه وحصل على الشهادة العالمية النظامية 1931 م إحدى وثلاثين وتسعمائة وألف من الميلاد.
    ثم التحق بقسم التخصص القديم شعبة التفسير والحديث وتخرج منه وحصل على شهادة التخصص القديم "الدكتوراه حاليا" عام 1934 أربعة وثلاثين وتسعمائة وألف من الميلاد.
    ثم عين مدرساً بالمعهد الأزهرى الثانوى عقب تخرجه، ثم عين رئيساً لقسم القراءات التابع لكلية اللغة العربية بالأزهر حينذاك.
    ثم عين مفتشاً عاماً بالمعاهد الأزهرية، ثم عين شيخاً لمعهد القراءات بالقاهرة، ثم شيخاً للمعهد الأزهرى بدسوق، ثم شيخاً للمعهد الأزهرى ببلده دمنهور.
    ثم عين وكيلاً عاماً للمعاهد الأزهرية، ثم مديراً عاماً لها وظل في عمله هذا حتى أحيل إلى التقاعد.
    عين رئيساً للجنة تصحيح المصاحف بالأزهر.
    عين خطيباً بمسجد العارف بالله الإِمام عبد الوهاب الشعرانى بالقاهرة.
    عين عضواً في لجنة اختبار القراء بالإذاعة بجمهورية مصر العربية ثم رحل إلى المدينة المنورة عام، 1394هـ أربعة وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة، حيث عين رئيساً لقسم القراءات بكلية القرآن الكريم التي أنشئت في العام المذكور وكان له الدور الرئيسى في وضع مناهج هذا القسم، ثم تطوير هذه المناهج، والإشراف على تنفيذها.

    [شيوخه]
    1 - الشيخ على عباده، حيث قرأ وحفظ عليه القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم من طريق الشاطبية.
    2 - الشيخ محمود بن محمَّد غزال.
    3 - الشيخ محمود بن محمَّد نصر الدين.
    قرأ عليه القرآن الكريم وجوده برواية حفص عن عاصم من الشاطبية، ثم أخذ عنهما القراءات العشر وأجازاه بها.
    4 - الشيخ همام قطب.
    5 - الشيخ حسن صبحى، قرأ عليهما القرآن الكريم بالقراءات العشر وأجازاه بها.
    6 - الشيخ محمَّد تاج الدين تلقى عنه علم التفسير بالإسكندرية.
    7 - الشيخ حسن الشريف تلقى عنه الحديث الشريف.
    8 - الشيخ محمَّد سرور تلقى عنه التوحيد.
    9 - الشيخ محمَّد أحمد عرفه، تلقى عنه الأخلاق ملخص كتاب "إحياء علوم الدين" للإمام أبى حامد الغزالي.
    10 - الشيخ محمَّد حسن الطورى.
    11 - الشيخ محمود عبد الدايم.
    12 - الشيخ محمَّد عبد الله الجزار، تلقى عنهم الفقه الشافعى.
    13 - الشيخ شحاته المنيسى، تلقى عنه علم البلاغة.
    14 - الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر.
    15 - الشيخ الدكتور عبد الله دراز.
    16 - الشيخ عبد الحليم أحمد قادوم.
    ثلاثتهم تلقي عنهم المنطق وأدب البحث والتفسير.
    17 - الشيخ إبراهيم خاطر، تلقى عنه التوحيد.
    18 - الشيخ يوسف الدجوى، تلقى عنه التفسير.
    19 - الشيخ محمود خطاب السبكى، تلقى عنه الحديث.
    20 - الشيخ إسماعيل الملاوى، تلقى عنه الفقه الشافعى.
    21 - الشيخ محمَّد العتريس، تلقى عنه التفسير والبلاغة والأصول.
    22 - الشيخ سيد بن علي المرصفى صاحب كتاب (رغبة الآمل بشرح كتاب الكامل للمبرد) تلقى عنه الأدب.
    ستتهم درس عليهم وهو بالقاهرة.
    23 - الشيخ أحمد مكى، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر.
    24 - الشيخ عبد الله جاد، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر.
    تلقى عنهما التفسير.
    25 - الشيخ محمَّد الخضر حسن شيخ الجامع الأزهر، تلقى عنه صحيح البخاري، ثلاثتهم درس عليهم في قسم التخصص بالأزهر الشريف.

    [تلاميذه]
    1 - الشيخ إبراهيم الأخضر قرأ عليه القرآن كاملاً بالقراءات الثلاث المتممة للعشر من طريق الدرة.
    2 - الشيخ منير بن محمَّد المظفر التونسى قرأ عليه ختمة كاملة بالقراءات العشر من طريق الطيبة (2).
    3 - الشيخ على عبد الرحمن الحذيفى قرأ عليه ختمة كاملة برواية حفص عن عاصم.
    4 - الشيخ عبد العزيز قارئ قرأ عليه بعض القرآن برواية حفص، وبقراءة نافع وبقراءة ابن كثير، ولم يكمل.
    5 - الشيخ على مشرف العمرى.
    6 - الشيخ سعيد أحمد محمَّد عيسي من السند.
    7 - الشيخ موسى شاهين لاشين عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر.
    8 - الدكتور زكريا البرى وزير الأوقاف بجمهورية مصر العربية.
    9 - الدكتور عوض الله حجازى عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر سابقاً.
    10 - الأستاذ محبوب الله رحمت ولى (3).

    [مؤلفاته]
    لقد اعتنى الشيخ اعتناء كبيراً بالتأليف في العلوم القرآنية وغيرها من الفقه والفرائض فكانت مساهمة منه في إبراز العلم للناس ونشره بطريقة سهلة وأسلوب جذاب فمن مؤلفاته:
    1 - الوافى شرح الشاطبية في القراءات السبع.
    2 - الإيضاح لمتن الدرة في القراءات الثلاثة المتممة للقراءات العشر.
    3 - البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة من طريقى الشاطبية والدرة.
    4 - النظم الجامع لقراءة الإِمام نافع.
    5 - شرح النظم الجامع لقراءة الإِمام نافع من الشاطبية.
    6 - نظم السر المصون في رواية قالون من الشاطبية.
    7 - شرح السر المصون في رواية قالون.
    8 - شرح منحة مولى البر فيما زاد النشر للقراء العشر للعلامة الأبياري.
    9 - القراءات في نظر المستشرقين والملاحدة وهو من أنفس كتب المترجم.
    10 - شرح ناظمة الزهر المسمى "بشير اليسر" في علم الفواصل.
    11 - نظم الفرائد الحسان في عد آى القرآن.
    12 - نفائس البيان شرح الفرائد الحسان.
    13 - من علوم القرآن.
    14 - منظومة في علم الميراث.
    15 - شرح أرجوزة الميراث.
    16 - القيام وأحكامه وسننه.
    17 - القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب.
    18 - تاريخ المصحف الشريف.
    19 - تاريخ القراء العشرة ورواتهم وتواتر قراءتهم ومنهج كل قراءة.
    20 - أبحاث في قراءات القرآن الكريم.
    21 - أسباب النزول عن الصحابة والمفسرين.

    [الكتب التي قام بتحقيقها]
    1 - تحبير التيسير في قراءة الأئمة العشرة.
    2 - شرح تلخيص الفوائد وتقريب المتباعد على عقيلة أتراب العصائد.
    3 - دليل الحيران شرح مورد الظمآن في رسم وضبط القرآن للعلامة المارغنى.

    [وفاته]
    وبعد حياة مليئة بخدمة كتاب الله تعالى تأليفاً وإقراءاً وتعليماً توفي رحمه الله في القاهرة (4) في يوم الاثنين
    15/ 1/ 1403هـ الخامس عشر من شهر الله المحرم عام ثلاثة وأربعمائة وألف من الهجرة.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) إمتاع الفضلاء بتراجم القراء فيما بعد القرن الثامن الهجري (1/ 194-201)، تأليف: إلياس البرماوي، قال المؤلف: بتصرف من كتاب "هداية القاري إلى تجويد كلام الباري" الطبعة الأولى ص 667 - 672، ومن "مجلة كلية القرآن الكريم والدراسات الإِسلامية" بالمدينة المنورة - العدد الأول ص 297 - 320.
    (2) قال المؤلف: وقد أخبرنى الشيخ سيد لاشين أبو الفرح بأنه قرأ عليه القرآن الكريم من طريق الطيبة إفراداً بالتجزئة - ختمة كاملة وبعد الختمة سأله الشيخ سيد لاشين من قرأ عليه قبله؟ فأجابه الشيخ القاضى بأنه لا أحد! قال الشيخ سيد: وبعد فترة وجيزة توفي الشيخ القاضى. أخبرني بذلك في منزله في أواخر شهر شوال عام 1418 هـ ثمانية عشر وأربعمائة وألف من الهجرة.
    (3) قال المؤلف: أخبرنى بذلك الأستاذ محبوب شخصياً.
    (4) قال المؤلف: أخبرنى بذلك الشيخ محمَّد تميم الزعبي بمنزله يوم الأربعاء 14/ 3/ 1419 هـ.
    عبد الفتاح القاضي (1) هو العلامة المحقق الشيخ عبد الفتاح بن عبد الغنى بن محمَّد القاضي. ولد بمدينة (دمنهور) عاصمة محافظة (البحيرة) بمصر في 25/ 8/ 1320هـ الخامس والعشرين من شهر شعبان سنة عشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة. عالم مصري مبرز في القراءات وعلومها وفي العلوم الشرعية والعربية ومن أفاضل علماء الأزهر: له أدب رفيع واقتدار على النظم البديع. [حياته العلمية] حفظ القرآن الكريم في مقتبل عمره ثم أتقنه وجوده ثم أخذ القراءات العشر على غير واحد من الثقات الجهابذة الأثبات. بعد ذلك التحق بالمعهد الأزهرى بالإسكندرية وجد واجتهد حتى حصل على الشهادة الأولية (الإعدادية حالياً). ثم التحق بالقسم الثانوى من المعهد المذكور ودرس وجد في التحصيل وتخرج وحصل على الشهادة الثانوية منه. ثم رحل إلى القاهرة فالتحق بالقسم العالى "جامعة الأزهر حاليا" وتخرج منه وحصل على الشهادة العالمية النظامية 1931 م إحدى وثلاثين وتسعمائة وألف من الميلاد. ثم التحق بقسم التخصص القديم شعبة التفسير والحديث وتخرج منه وحصل على شهادة التخصص القديم "الدكتوراه حاليا" عام 1934 أربعة وثلاثين وتسعمائة وألف من الميلاد. ثم عين مدرساً بالمعهد الأزهرى الثانوى عقب تخرجه، ثم عين رئيساً لقسم القراءات التابع لكلية اللغة العربية بالأزهر حينذاك. ثم عين مفتشاً عاماً بالمعاهد الأزهرية، ثم عين شيخاً لمعهد القراءات بالقاهرة، ثم شيخاً للمعهد الأزهرى بدسوق، ثم شيخاً للمعهد الأزهرى ببلده دمنهور. ثم عين وكيلاً عاماً للمعاهد الأزهرية، ثم مديراً عاماً لها وظل في عمله هذا حتى أحيل إلى التقاعد. عين رئيساً للجنة تصحيح المصاحف بالأزهر. عين خطيباً بمسجد العارف بالله الإِمام عبد الوهاب الشعرانى بالقاهرة. عين عضواً في لجنة اختبار القراء بالإذاعة بجمهورية مصر العربية ثم رحل إلى المدينة المنورة عام، 1394هـ أربعة وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة، حيث عين رئيساً لقسم القراءات بكلية القرآن الكريم التي أنشئت في العام المذكور وكان له الدور الرئيسى في وضع مناهج هذا القسم، ثم تطوير هذه المناهج، والإشراف على تنفيذها. [شيوخه] 1 - الشيخ على عباده، حيث قرأ وحفظ عليه القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم من طريق الشاطبية. 2 - الشيخ محمود بن محمَّد غزال. 3 - الشيخ محمود بن محمَّد نصر الدين. قرأ عليه القرآن الكريم وجوده برواية حفص عن عاصم من الشاطبية، ثم أخذ عنهما القراءات العشر وأجازاه بها. 4 - الشيخ همام قطب. 5 - الشيخ حسن صبحى، قرأ عليهما القرآن الكريم بالقراءات العشر وأجازاه بها. 6 - الشيخ محمَّد تاج الدين تلقى عنه علم التفسير بالإسكندرية. 7 - الشيخ حسن الشريف تلقى عنه الحديث الشريف. 8 - الشيخ محمَّد سرور تلقى عنه التوحيد. 9 - الشيخ محمَّد أحمد عرفه، تلقى عنه الأخلاق ملخص كتاب "إحياء علوم الدين" للإمام أبى حامد الغزالي. 10 - الشيخ محمَّد حسن الطورى. 11 - الشيخ محمود عبد الدايم. 12 - الشيخ محمَّد عبد الله الجزار، تلقى عنهم الفقه الشافعى. 13 - الشيخ شحاته المنيسى، تلقى عنه علم البلاغة. 14 - الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر. 15 - الشيخ الدكتور عبد الله دراز. 16 - الشيخ عبد الحليم أحمد قادوم. ثلاثتهم تلقي عنهم المنطق وأدب البحث والتفسير. 17 - الشيخ إبراهيم خاطر، تلقى عنه التوحيد. 18 - الشيخ يوسف الدجوى، تلقى عنه التفسير. 19 - الشيخ محمود خطاب السبكى، تلقى عنه الحديث. 20 - الشيخ إسماعيل الملاوى، تلقى عنه الفقه الشافعى. 21 - الشيخ محمَّد العتريس، تلقى عنه التفسير والبلاغة والأصول. 22 - الشيخ سيد بن علي المرصفى صاحب كتاب (رغبة الآمل بشرح كتاب الكامل للمبرد) تلقى عنه الأدب. ستتهم درس عليهم وهو بالقاهرة. 23 - الشيخ أحمد مكى، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر. 24 - الشيخ عبد الله جاد، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر. تلقى عنهما التفسير. 25 - الشيخ محمَّد الخضر حسن شيخ الجامع الأزهر، تلقى عنه صحيح البخاري، ثلاثتهم درس عليهم في قسم التخصص بالأزهر الشريف. [تلاميذه] 1 - الشيخ إبراهيم الأخضر قرأ عليه القرآن كاملاً بالقراءات الثلاث المتممة للعشر من طريق الدرة. 2 - الشيخ منير بن محمَّد المظفر التونسى قرأ عليه ختمة كاملة بالقراءات العشر من طريق الطيبة (2). 3 - الشيخ على عبد الرحمن الحذيفى قرأ عليه ختمة كاملة برواية حفص عن عاصم. 4 - الشيخ عبد العزيز قارئ قرأ عليه بعض القرآن برواية حفص، وبقراءة نافع وبقراءة ابن كثير، ولم يكمل. 5 - الشيخ على مشرف العمرى. 6 - الشيخ سعيد أحمد محمَّد عيسي من السند. 7 - الشيخ موسى شاهين لاشين عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر. 8 - الدكتور زكريا البرى وزير الأوقاف بجمهورية مصر العربية. 9 - الدكتور عوض الله حجازى عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر سابقاً. 10 - الأستاذ محبوب الله رحمت ولى (3). [مؤلفاته] لقد اعتنى الشيخ اعتناء كبيراً بالتأليف في العلوم القرآنية وغيرها من الفقه والفرائض فكانت مساهمة منه في إبراز العلم للناس ونشره بطريقة سهلة وأسلوب جذاب فمن مؤلفاته: 1 - الوافى شرح الشاطبية في القراءات السبع. 2 - الإيضاح لمتن الدرة في القراءات الثلاثة المتممة للقراءات العشر. 3 - البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة من طريقى الشاطبية والدرة. 4 - النظم الجامع لقراءة الإِمام نافع. 5 - شرح النظم الجامع لقراءة الإِمام نافع من الشاطبية. 6 - نظم السر المصون في رواية قالون من الشاطبية. 7 - شرح السر المصون في رواية قالون. 8 - شرح منحة مولى البر فيما زاد النشر للقراء العشر للعلامة الأبياري. 9 - القراءات في نظر المستشرقين والملاحدة وهو من أنفس كتب المترجم. 10 - شرح ناظمة الزهر المسمى "بشير اليسر" في علم الفواصل. 11 - نظم الفرائد الحسان في عد آى القرآن. 12 - نفائس البيان شرح الفرائد الحسان. 13 - من علوم القرآن. 14 - منظومة في علم الميراث. 15 - شرح أرجوزة الميراث. 16 - القيام وأحكامه وسننه. 17 - القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب. 18 - تاريخ المصحف الشريف. 19 - تاريخ القراء العشرة ورواتهم وتواتر قراءتهم ومنهج كل قراءة. 20 - أبحاث في قراءات القرآن الكريم. 21 - أسباب النزول عن الصحابة والمفسرين. [الكتب التي قام بتحقيقها] 1 - تحبير التيسير في قراءة الأئمة العشرة. 2 - شرح تلخيص الفوائد وتقريب المتباعد على عقيلة أتراب العصائد. 3 - دليل الحيران شرح مورد الظمآن في رسم وضبط القرآن للعلامة المارغنى. [وفاته] وبعد حياة مليئة بخدمة كتاب الله تعالى تأليفاً وإقراءاً وتعليماً توفي رحمه الله في القاهرة (4) في يوم الاثنين 15/ 1/ 1403هـ الخامس عشر من شهر الله المحرم عام ثلاثة وأربعمائة وألف من الهجرة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) إمتاع الفضلاء بتراجم القراء فيما بعد القرن الثامن الهجري (1/ 194-201)، تأليف: إلياس البرماوي، قال المؤلف: بتصرف من كتاب "هداية القاري إلى تجويد كلام الباري" الطبعة الأولى ص 667 - 672، ومن "مجلة كلية القرآن الكريم والدراسات الإِسلامية" بالمدينة المنورة - العدد الأول ص 297 - 320. (2) قال المؤلف: وقد أخبرنى الشيخ سيد لاشين أبو الفرح بأنه قرأ عليه القرآن الكريم من طريق الطيبة إفراداً بالتجزئة - ختمة كاملة وبعد الختمة سأله الشيخ سيد لاشين من قرأ عليه قبله؟ فأجابه الشيخ القاضى بأنه لا أحد! قال الشيخ سيد: وبعد فترة وجيزة توفي الشيخ القاضى. أخبرني بذلك في منزله في أواخر شهر شوال عام 1418 هـ ثمانية عشر وأربعمائة وألف من الهجرة. (3) قال المؤلف: أخبرنى بذلك الأستاذ محبوب شخصياً. (4) قال المؤلف: أخبرنى بذلك الشيخ محمَّد تميم الزعبي بمنزله يوم الأربعاء 14/ 3/ 1419 هـ.
    0
  • أحمد إسماعيل مكتي (1)

    هو الشيخ أحمد بن إسماعيل بن محمَّد بن عبد الكريم مكَّتى السنديوني.
    ولد بسنديون قليوبية إحدى محافظات الشمالية بجمهورية مصر العربية وذلك في 2/ 8/ 1933 م الثاني من شهر أغسطس عام ثلاثة وثلاثين وتسعمائة وألف من الميلاد.

    [حياته العلمية]
    حفظ القرآن بأحد الكتاتيب، ثم التحق بمعهد القراءات التابع للأزهر ودرس به مواد القرآن والقراءات وتخرج منه عام 1968 م ثمانية وستين وتسعمائة وألف من الميلاد، ثم التحق بمعهد شيوخ وإدارد المعاهد الدينية الأزهرية وتخرج منها وحصل على الشهادة من المعهد نفسه، ثم التحق بكلية الدراسات الإِسلامية والعربية التابعة لجامعة الأزهر وفيها درس الأصول والفقه والنحو والصرف واللغة والبلاغة والأدب والحديث والعقيدة ومصطلح الحديث والتفسير والرسم والضبط والفواصل وتخرج منها عام 1972م اثنتين وسبعين وتسعمائة وألف من الميلاد.
    ثم عين مديراً للمعهد الديني في قليوب، ثم عين مدرساً في معهد القراءات، ودرس في حلقات الأوقاف.
    ثم عين مدرساً في الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة منذ سنة 1397هـ سبع وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة لمدة عشر سنوات ثم عين مستمعاً للقرآن الكريم بجميع القراءات في المراقبة للكاسيت بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة.
    ويعمل مصححاً لقراءة الحفاظ في إدارة جمعية تحفيظ القرآن بالمدينة المنورة.
    انتدب لقراءة القرآن الكريم بأنحاء العالم من قبل وزارة الأوقاف بالقاهرة وإمامة الناس فيها ومن الدول التي انتدب إليها هي: سيراليون في غريب أفريقيا، وكينيا، وسيرلانكا، والهند وكندا وفرانكفورت بألمانيا.

    [شيوخه]
    1 - الشيخ حسن عبد السلام حسن أبو طالب, حيث قرأ عليه القرآن الكريم بالقراءات العشر من طريقي الشاطبية والدرة وحفظ التحفة الجمزروية والمقدمة الجزرية وقرأ شرحها، ثم حفظ منظومة الشاطبية والدرة المضية وطيبة النشر وناظمة الزهر وعقيلة أتراب القصائد ومورد الظمآن ونفائس البيان في عدآي القرآن للعلامة القاضي (2) وأرجوزة في
    علم الفواصل للمتولي (3)
    2 - الشيخ حسن المري من أساتذته في القراءات وعلومها.
    3 - الشيخ علي أبو طالب.
    4 - الشيخ علي بدوي.
    5 - الشيخ عامر السيد عثمان.
    6 - الشيخ أحمد الزيات.
    7 - الشيخ عبد العظيم الخياط.
    8 - الشيخ محمَّد يونس.
    9 - الشيخ رزق خليل حبَّة.
    حيث درس عليهم علم القراءات والفواصل والضبط والرسم.

    [تلاميذه]
    1 - غازى بنيدر الحربي.
    2 - أحمد قال.
    3 - أسامة مصطفي الجمعة، ثلاثتهم قرؤوا عليه القرآن الكريم ختمة كاملة بالقراءات السبع من الشاطبية.
    4 - مالك جليدان.
    5 - محمَّد الأمين يوسف الموجه بجمعية تحفيظ القرآن الكريم بالمدينة المنورة.
    6 - أبو إسماعيل الفلسطيني.
    7 - محمَّد السوري.
    أربعتهم قرؤوا عليه القرآن برواية ورش عن نافع المدني.
    وأما الذين قرؤوا عليه القرآن كاملاً برواية حفص عن عاصم من طريق الشاطبية فخلق كثير نذكر منهم:
    8 - خالد لطيف عبد الله الهبيدي.
    9 - الأستاذ محمَّد صالح فرغل، مدرس الحاسب الآلي بثانوية طيبة بالمدينة المنورة.
    10 - يحيى زكريا حسيني.
    11 - طلبة زكريا حسيني.
    12 - سيدي أحمد ولد سيدي محمَّد.
    13 - المشتبي ولد المصطفى.
    14 - خالد العوفي.
    15 - صالح المغربي.
    16 - حمود عوض فاضل اليمني الموظف في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف, والإمام بمسجد السطيحي بالمدينة المنورة.
    17 - أبو أنس الليبي.
    18 - حمدان الكويتي.
    19 - خالد شجاع الكويتي.
    21 - عماد رشدي خليل.
    22 - عبد الرحمن يوسف أحمد شاهين.
    23 - محمَّد عامر عبد الحميد مظاهري.
    24 - عمار رشدي خليل.
    25 - الصادق بن محمَّد بن إبراهيم.
    26 - عابد بن مصرى البلادى.
    27 - محمَّد الله سلطان أحمد.
    28 - صالح العسولي.
    29 - محمَّد بن عبد الرحمن بن عبد الله الأحسري.
    30 - محمَّد حبيب أحمد مختار.
    31 - عبد الله مصري مبهج البلادي.
    32 - مصطفى محمَّد الأمين, وغيرهم كثير.
    33 - عبد الله ناجي.
    قرأ عليه القرآن برواية حفص عن عاصم من الشاطبية، ثم قرأ العشر من الشاطبية والدرة، وقرأ عليه من الكتب، كتاب: إرشاد المزيد إلى مقصود القصيد للشيخ علي الضباع مع شرح المترجم عليه. وكتاب شرح طيبة النشر لابن الناظم، وشح طيبة النشر للنويرى، وحضر شرح هداية المزيد إلى رواية أبي سعيد، وقرأ عليه منظومة في رواية شعبة عن عاصم، وكتب أخرى.
    34 - عبد الغني بن أحمد حسين بن سليمان البرماوي، قرأ عليه القرآن برواية حفص عن عاصم من طريق الشاطبية.

    [وفاته] (4)
    ولا زال الشيخ يدرس القرآن الكريم، لا يفتر في ذلك، حتى توفاه الله يوم الإثنين 5/ 3 /2012م.


    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) إمتاع الفضلاء بتراجم القراء فيما بعد القرن الثامن الهجري (1 / 28-33).
    (2) هو عبد الفتاح عبد الغني القاضي المترجم له في هذا الكتاب.
    (3) هو محمَّد بن أحمد المعروف بالمتولي شيخ القراء والمقارئ بالديار المصرية في وقته عالم بالقراءات وتحريراتها صاحب المصنفات العظيمة والجليلة توفي سنة (1313) هـ ثلاثة عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة.
    (4) من إضافة فريق المحتوى بشبكة التواصل القرآنية (آي نت).
    أحمد إسماعيل مكتي (1) هو الشيخ أحمد بن إسماعيل بن محمَّد بن عبد الكريم مكَّتى السنديوني. ولد بسنديون قليوبية إحدى محافظات الشمالية بجمهورية مصر العربية وذلك في 2/ 8/ 1933 م الثاني من شهر أغسطس عام ثلاثة وثلاثين وتسعمائة وألف من الميلاد. [حياته العلمية] حفظ القرآن بأحد الكتاتيب، ثم التحق بمعهد القراءات التابع للأزهر ودرس به مواد القرآن والقراءات وتخرج منه عام 1968 م ثمانية وستين وتسعمائة وألف من الميلاد، ثم التحق بمعهد شيوخ وإدارد المعاهد الدينية الأزهرية وتخرج منها وحصل على الشهادة من المعهد نفسه، ثم التحق بكلية الدراسات الإِسلامية والعربية التابعة لجامعة الأزهر وفيها درس الأصول والفقه والنحو والصرف واللغة والبلاغة والأدب والحديث والعقيدة ومصطلح الحديث والتفسير والرسم والضبط والفواصل وتخرج منها عام 1972م اثنتين وسبعين وتسعمائة وألف من الميلاد. ثم عين مديراً للمعهد الديني في قليوب، ثم عين مدرساً في معهد القراءات، ودرس في حلقات الأوقاف. ثم عين مدرساً في الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة منذ سنة 1397هـ سبع وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة لمدة عشر سنوات ثم عين مستمعاً للقرآن الكريم بجميع القراءات في المراقبة للكاسيت بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة. ويعمل مصححاً لقراءة الحفاظ في إدارة جمعية تحفيظ القرآن بالمدينة المنورة. انتدب لقراءة القرآن الكريم بأنحاء العالم من قبل وزارة الأوقاف بالقاهرة وإمامة الناس فيها ومن الدول التي انتدب إليها هي: سيراليون في غريب أفريقيا، وكينيا، وسيرلانكا، والهند وكندا وفرانكفورت بألمانيا. [شيوخه] 1 - الشيخ حسن عبد السلام حسن أبو طالب, حيث قرأ عليه القرآن الكريم بالقراءات العشر من طريقي الشاطبية والدرة وحفظ التحفة الجمزروية والمقدمة الجزرية وقرأ شرحها، ثم حفظ منظومة الشاطبية والدرة المضية وطيبة النشر وناظمة الزهر وعقيلة أتراب القصائد ومورد الظمآن ونفائس البيان في عدآي القرآن للعلامة القاضي (2) وأرجوزة في علم الفواصل للمتولي (3) 2 - الشيخ حسن المري من أساتذته في القراءات وعلومها. 3 - الشيخ علي أبو طالب. 4 - الشيخ علي بدوي. 5 - الشيخ عامر السيد عثمان. 6 - الشيخ أحمد الزيات. 7 - الشيخ عبد العظيم الخياط. 8 - الشيخ محمَّد يونس. 9 - الشيخ رزق خليل حبَّة. حيث درس عليهم علم القراءات والفواصل والضبط والرسم. [تلاميذه] 1 - غازى بنيدر الحربي. 2 - أحمد قال. 3 - أسامة مصطفي الجمعة، ثلاثتهم قرؤوا عليه القرآن الكريم ختمة كاملة بالقراءات السبع من الشاطبية. 4 - مالك جليدان. 5 - محمَّد الأمين يوسف الموجه بجمعية تحفيظ القرآن الكريم بالمدينة المنورة. 6 - أبو إسماعيل الفلسطيني. 7 - محمَّد السوري. أربعتهم قرؤوا عليه القرآن برواية ورش عن نافع المدني. وأما الذين قرؤوا عليه القرآن كاملاً برواية حفص عن عاصم من طريق الشاطبية فخلق كثير نذكر منهم: 8 - خالد لطيف عبد الله الهبيدي. 9 - الأستاذ محمَّد صالح فرغل، مدرس الحاسب الآلي بثانوية طيبة بالمدينة المنورة. 10 - يحيى زكريا حسيني. 11 - طلبة زكريا حسيني. 12 - سيدي أحمد ولد سيدي محمَّد. 13 - المشتبي ولد المصطفى. 14 - خالد العوفي. 15 - صالح المغربي. 16 - حمود عوض فاضل اليمني الموظف في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف, والإمام بمسجد السطيحي بالمدينة المنورة. 17 - أبو أنس الليبي. 18 - حمدان الكويتي. 19 - خالد شجاع الكويتي. 21 - عماد رشدي خليل. 22 - عبد الرحمن يوسف أحمد شاهين. 23 - محمَّد عامر عبد الحميد مظاهري. 24 - عمار رشدي خليل. 25 - الصادق بن محمَّد بن إبراهيم. 26 - عابد بن مصرى البلادى. 27 - محمَّد الله سلطان أحمد. 28 - صالح العسولي. 29 - محمَّد بن عبد الرحمن بن عبد الله الأحسري. 30 - محمَّد حبيب أحمد مختار. 31 - عبد الله مصري مبهج البلادي. 32 - مصطفى محمَّد الأمين, وغيرهم كثير. 33 - عبد الله ناجي. قرأ عليه القرآن برواية حفص عن عاصم من الشاطبية، ثم قرأ العشر من الشاطبية والدرة، وقرأ عليه من الكتب، كتاب: إرشاد المزيد إلى مقصود القصيد للشيخ علي الضباع مع شرح المترجم عليه. وكتاب شرح طيبة النشر لابن الناظم، وشح طيبة النشر للنويرى، وحضر شرح هداية المزيد إلى رواية أبي سعيد، وقرأ عليه منظومة في رواية شعبة عن عاصم، وكتب أخرى. 34 - عبد الغني بن أحمد حسين بن سليمان البرماوي، قرأ عليه القرآن برواية حفص عن عاصم من طريق الشاطبية. [وفاته] (4) ولا زال الشيخ يدرس القرآن الكريم، لا يفتر في ذلك، حتى توفاه الله يوم الإثنين 5/ 3 /2012م. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) إمتاع الفضلاء بتراجم القراء فيما بعد القرن الثامن الهجري (1 / 28-33). (2) هو عبد الفتاح عبد الغني القاضي المترجم له في هذا الكتاب. (3) هو محمَّد بن أحمد المعروف بالمتولي شيخ القراء والمقارئ بالديار المصرية في وقته عالم بالقراءات وتحريراتها صاحب المصنفات العظيمة والجليلة توفي سنة (1313) هـ ثلاثة عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة. (4) من إضافة فريق المحتوى بشبكة التواصل القرآنية (آي نت).
    1
    1
شاهد المزيد
  • مصطلحات علوم القرآن
    مقارنة بين بعض مصطلحات علوم القرآن (نماذج مما يتوهم تداخله من المصطلحات المتعلقة بالنص القرآني وأبرز مباحث علوم القرآن)   الكاتبة: منيرة بنت خليفة بن إبراهيم بوعنقاء الخالدي 1442 هـ -2021م   الملخص   تتناول الدراسة موضوع مصطلحات علوم القرآن؛ وفيها تم انتقاء أبرز الفروق التي تحتاج إلى دراسة، والتي يكثر الخلط وتوهم التشابه بين تعاريفها. وأما طريقة البحث المتبعة هي: منهج...
    1

لا توجد نتائج لإظهارها

لا توجد نتائج لإظهارها

  • رسالة لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية
    أجاب فيها عن أسئلة في علم القراءات

    حققها وقدم لها الدكتور : محمد علي سلطاني

    (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثالث عشر - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1405هـ)

    الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين . وبعد :
    فإن القراءات القرآنية من أكثر علوم القرآن والعربية أهمية وأجلها شأنا . . أما أهميتها من حيث اللغة فتعود إلى جانبين كبيرين:
    - أولهما ما تقدمه للباحثين في نشأة اللغات وتطورها وتاريخها من الظواهر اللغوية الحية على اختلاف صنوفها: في الحرف والصوت والكلمة والتركيب . .
    - وثانيهما ما تقدمه للنحو وفقه اللغة من الشواهد والنماذج مما لا يبلغ بعض شأوه شواهد العربية الأخرى في الشعر والخطب والأمثال والأقوال . . وذلك بسبب مما حظيت به القراءات منذ نشأتها من عناية وضبط وتوثيق . . بالتلقي المتثبت ، والمشافهة الواعية ، والرواية المتواترة أو النقل المستفيض ، والتدوين المقرون بالوصف الدقيق والأسانيد المدروسة الموثوقة . .
    وأما رفعة شأنها فلارتباطها بالقرآن العظيم منهاج المتقين ومعراج المرتقين ، مصداقًا لقوله عليه الصلاة والسلام: خيركم من تعلم القرآن وعلمه .
    غير أن هذا الميدان الجليل بما اتسم به من الغنى اللغوي الفريد ، نتيجة التيسير الذي عبر عنه الحديث النبوي : أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه ؛ أثار قدرًا غير قليل من القضايا التي ارتبطت بعلم القراءات ، وغدت مع الزمن أقرب إلى المشكلات ، فشغلت العلماء والباحثين عبر القرون - وما يزال بعضها يشغلهم- للوصول إلى المعرفة اليقينية بشأنها . . من ذلك قولهم: ما تفسير الأحرف السبعة؟ أهي للتكثير أم لتحديد؟ وإن كانت الأخيرة فما المقصود بها على الدقة أهي القبائل أم الطرائق أم الظواهر؟
    ما مدى شيوع التواتر بين القراءات ، أهو مقصور على السبع أم العشر أم ما فوق ذلك؟
    أهي سواء في الفصاحة أم أن بينها فصيحًا وأفصح؟ ما موقف النحو والقياس من هذا التفاوت في الفصاحة؟ . .
    هذه وغيرها أسئلة كثيرة تتردد بينهم لا تفتر ، تبحث لها عن الجواب الأخير .
    وقد أحدث اختلاف القراءات وتعددها حركة علمية مباركة ، أسفرت عن أعداد من مجموعات الكتب القيمة . . بدأت بكتب جمعت القراءات ، فأخرى نهضت بالاحتجاج لها بلغة العرب ، وثالثة وصفت مرسوم مصاحف الأمصار ، ورابعة اهتمت بالنقط والشكل . . وبقي في الميدان زوايا يلفها بعض الغموض والاختلاف وتباين الآراء ، مما تعد رسالة شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية الآتي نصها حلقة في سلسلة الردود على تساؤلات الباحثين عن الحقيقة ، حيث أجاب فيها عن عدد من هذه التساؤلات .
    أما الرسالة فهي واحدة مما تضمه مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض من نفائس المخطوطات ، وتقع في سبع صفحات تضمها أربع ورقات ضمن مجموع يحمل رقم 3653 \ ف مصور عن الأصل في مكتبة تشستربتي ، كتبه بخط نسخي دقيق علي عبد الله الغزي سنة 859 هـ .
    ومما يعد نسخة قيمة أخرى لهذا النص ، ما تم نشره بعنوان (فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ) جـ13 \ 389- 404 فقد ضم الفاضل الشيخ عبد الرحمن العاصمي هذا النص إلى الكتاب بوصفه إحدى الفتاوى التي صدرت عن شيخ الإسلام آنذاك . . وقد أفدت منه في تصويب المواضع التي تأثرت بالرطوبة في الأصل لديّ .
    ولم يذكر الشيخ العاصمي مصادره ، غير أن الاختلاف الطفيف في بعض ألفاظ النصين يثبت أنه نسخة أخرى لهذه الرسالة ، مما تجد ثماره وأثره في المتن وبعض حواشي التحقيق .
    ومما يعد طرفا في هذا التوثيق نقول مطولة لمقاطع تامة من هذا النص ، احتج بها ابن الجزري مقرونة بنسبتها إلى ابن تيمية في كتابه (النشر في القراءات العشر 1 \ 39 وما بعدها) مما تجد الإشارة إليه في مواضعه بعد .
    وتبدأ الرسالة بالبسملة والدعاء فالنص على الأثر بلا عنوان يتقدمه ، ولا ضير في هذا ، لأن النص نفسه وما ورد فيه من عبارات صريحة أدلة ناصعة على صحة نسبته إلى الشيخ الإمام ابن تيمية ، مما يطالع القارئ منذ السطور الأولى .
    وقد لقيت هذه الرسالة من عناية العلماء عبر القرون ما يبدو أثره في الخاتم الرابض في نهايتها ، وجاء في نقشه للواقف ما نصه:
    "وقف سيد يوسف فضل الله ، إمام جامع سلطان محمد خان ، للولاة وللمدرسين المتأهلين ، في جامع المزبور 1145 " .
    أما مؤلف الرسالة فغني عن التعريف ، فهو أبرز قوة فاعلة في صياغة الحياة في دولة المماليك في القرن الثامن الهجري بميادينها: العلمية والفكرية والعامة . . مما تجده مبسوطا في مظانه ، وتؤكده مئات الكتب والرسائل التي كتبها بخطه في معالجة قضايا عصره ، رافعًا بقوة صوت الدين وموقفه منها ، مما يتأبى على الحصر " فكان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن ، وحكم أن أحدًا لا يعرف مثله " .
    ومات رحمه الله معتقلا بقلعة دمشق سنة 728 هـ ، فخرجت دمشق كلها في جنازته رضي الله تعالى عنه وأرضاه .

    النص المحقق

    (1 \ أ) بسم الله الرحمن الرحيم ، رب يسر

    ما يقول سيدي الشيخ- جمع الله له خير الدنيا والآخرة- في قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف .

    - ما المراد بهذه السبعة ؟
    - وهل هذه القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم وغيرهما هي الأحرف السبعة أو واحد منها ؟
    - وما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف؟
    - وهل تجوز القراءة برواية الأعمش وابن محيصن وغيرهما من القراءات الشاذة أو لا .
    - وإذا جازت القراءة بها ، فهل تجوز الصلاة بها أو لا ؟
    أفتونا مأجورين .

    أجاب ( الشيخ تقي الدين بن تيمية ) : .
    الحمد لله رب العالمين . هذه مسألة كبيرة ، فقد تكلم فيها أصناف العلماء من الفقهاء والقراء وأهل الحديث والتفسير والكلام وشرح الغريب وغيرهم حتى صنف فيها التصنيف المفرد ، ومن آخر ما أفرد في ذلك ما صنفه الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي المعروف بأبي شامة صاحب شرح الشاطبية .
    فأما ذكر أقاويل الناس وأدلتهم وتقرير الحق فيها مبسوطًا ؛ فيحتاج من ذكر الأحاديث الواردة في ذلك وذكر ألفاظها وسائر الأدلة ، إلى ما لا يتسع له هذا المكان . . ولا يليق بمثل هذا الجواب ، ولكن نذكر النكت الجامعة التي تنبه على المقصود بالجواب ، فنقول: لا نزاع بين العلماء المعتبرين بأن الأحرف السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها ليست هي قراءات القراء السبعة المشهورة ، بل أول من جمع قراءات هؤلاء هو الإمام أبو بكر بن مجاهد ، وكان على رأس المائة الثالثة ببغداد ، فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات: الحرمين والعراقين والشام ، إذ هذه الأمصار الخمسة [هي] التي خرج منها علم النبوة: من القرآن وتفسيره ، والحديث ، والفقه في الأعمال الباطنة والظاهرة ، وسائر العلوم الدينية .
    فلما أراد ذلك ، جمع قراءات سبعة مشاهير من أئمة قراء هذه الأمصار ، ليكون ذلك موافقًا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن ، لا لاعتقاده أو اعتماد غيره من العلماء أن القراءات السبع هي الحروف السبعة ، أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم .
    ولهذا قال من قال من أئمة القراء: لولا أن ابن مجاهد سبقني إلى حمزة لجعلت مكانه يعقوب الحضرمي إمام جامع البصرة ، وإمام قراء البصرة في زمانه في رأس المئتين .
    [و] لا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده ، بل قد يكون معناهما متفقًا أو متقاربًا . كما قال عبد الله بن مسعود : "إنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال " .
    وقد يكون معنى أحدهما ليس هو معنى الآخر ، لكن كلا المعنيين حق ، وهذا اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض . وهذا كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى (1 \ ب) الله عليه وسلم في هذا ، حديث: أنزل القرآن على سبعة أحرف : إن قلت : غفورا رحيما ، أو قلت : عزيزا حكيما ؛ فالله كذلك ، ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب ، أو آية عذاب بآية رحمة" ، وهذا كما في القراءات المشهورة: .
    إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا و {إلا أن يُخافا ألا يقيما} .
    و {وإن كان مكرهم لتَزول - ولتزول - من الجبال} .
    و {بل عجبتُ} و بَلْ عَجِبْتَ . ونحو ذلك .
    ومن القراءات ما يكون المعنى فيها: متفقا من وجه ، متباينا من وجه ، كقوله:
    {يخدعون} و {يخادعون} .
    و {يُكَذِّبون} و {يَكذِبون} .
    و {لمستم} و { لامستم } .
    حَتَّى يَطْهُرْنَ و {يَطَّهَرْن} .
    ونحو ذلك .
    فهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلها حق ، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية ، يجب الإيمان بها كلها ، واتباع ما تضمنه من المعنى علمًا وعملا ، لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظنا أن ذلك تعارض ، بل كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " من كفر بحرف منه فقد كفر به كله " .
    وأما ما اتحد لفظه ومعناه ، وإنما يتنوع صفة النطق به ، كالهمزات والمدَّات والإمالات ونقل الحركات والإظهار والإدغام والاختلاس وترقيق اللامات والراءات أو تغليظها ، ونحو ذلك مما تسمى القَرَأَة عامته الأصول ، فهذا أظهر وأبين في أنه ليس فيه تناقض ولا تضاد مما تنوع فيه اللفظ أو المعنى .
    إذ هذه الصفات المتنوعة في أداء اللفظ لا تخرجه عن أن يكون لفظًا واحدًا ولا يعد ذلك فيما اختلف لفظه واتحد معناه ، أو اختلف معناه من المترادف ونحوه ، ولهذا كان دخول هذا في حرف واحد من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها ؛ مما يتنوع فيه اللفظ أو المعنى وإن وافق رسم المصحف وهو ما يختلف فيه النَقْط أو الشكل .
    ولذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتبوعون من السلف والأئمة في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة في جميع أمصار المسلمين ، بل من ثبت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة ، أو قراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي ونحوهما ، كما ثبت عنده قراءة حمزة والكسائي - فله أن يقرأ بها بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع والخلاف .
    بل أكثر العلماء الأئمة - الذين أدركوا قراءة [ حمزة ] كسفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل وبشر بن الحارث وغيرهم- يختارون قراءة أبي جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح المدنيين ، وقراءة البصريين كشيوخ يعقوب بن إسحاق وغيرهم - على قراءة حمزة والكسائي . وللعلماء [الأئمة] في ذلك من الكلام ما هو معروف عند العلماء .
    ولهذا كان أئمة أهل العراق الذين ثبتت عندهم قراءات العشرة أو الأحد عشر كثبوت هذه السبعة- يجمعون ذلك في الكتب ، ويقرأونه في الصلاة وخارج الصلاة، وذلك متفق عليه بين العلماء لم ينكره أحد منهم .
    وأما الذي ذكره القاضي عياض ومن نقل (2 \ أ) من كلامه من الإنكار على ابن شنبوذ الذي كان يقرأ بالشواذ في الصلاة في أثناء المائة الرابعة ، وجرت له قضية مشهورة ، فإنما كان ذلك في القراءات الشاذة الخارجة عن المصحف كما سنبينه .
    ولم ينكر أحد من العلماء قراءة العشرة ، ولكن من لم يكن عالما بها ، أو لم تثبت عنده - كمن يكون في بلد من بلاد الإسلام بالمغرب أو غيره ، ولم يتصل به بعض هذه القراءات- فليس له أن يقرأ بما لا يعلمه منها ، [فإن] القراءة - كما قال زيد بن ثابت : سنة يأخذها الآخر عن الأول .
    كما أن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع الاستفتاحات في الصلاة ، ومن أنواع صفة الأذان والإقامة وصفة صلاة الخوف وغير ذلك ، كله حسن ، يشرع العمل به لمن علمه .
    وأما من علم نوعا ولم يعلم غيره فليس له أن يعدل عما علمه إلى ما لم يعلم ، وليس له أن ينكر على من علم ما لم يعلمه من ذلك ، ولا أن يخالفه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تختلفوا ، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا .
    وأما القراءة الشاذة الخارجة عن رسم المصحف العثماني ، مثل قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهما: ( والليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، والذكر والأنثى ) كما قد ثبت ذلك في الصحيحين .
    ومثل قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . وكقراءته: (إن كانت إلا زقية واحدة) ونحو ذلك ، فهذه إذا ثبتت عن بعض الصحابة فهل يجوز أن يقرأ بها في الصلاة؟ [ذلك] على قولين للعلماء - هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد - وروايتان عن مالك : :
    - إحداهما يجوز ذلك ، لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرأون بهذه الحروف في الصلاة .
    - والثانية : لا يجوز ذلك ، وهو قول أكثر العلماء؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن ثبتت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة ، فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم ، أن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل عام مرة ، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين .
    والعرضة الآخرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره ، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها في المصاحف ، وكتبها أبو بكر وعمر في خلافة أبي بكر في صحف أمر زيد بن ثابت بكتابتها .
    ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار ، وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة علي وغيره .
    وهذا النزاع لا بد أن يبنى على الأصل الذي سأل عنه السائل ، وهو أن القراءات السبع: هل هي حرف من الحروف السبعة أو ، لا ؟ . فالذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة أنها حرف من الحروف السبعة ، بل يقولون: إن مصحف عثمان هو أحد الحروف السبعة ، وهو متضمن للعرضة الآخرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل ، والأحاديث (2 \ ب) والآثار المشهورة المستفيضة تدل على هذا القول .
    وذهب طوائف من الفقهاء والقراء وأهل الكلام إلى أن هذا المصحف مشتمل على الأحرف السبعة ، وقرر ذلك طوائف من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر بن الباقلاني وغيره ، بناء على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الأحرف السبعة ، وقد اتفقوا على نقل هذا المصحف الإمام العثماني وترك ما سواه ، حيث أمر عثمان بنقل القرآن من الصحف التي كان أبو بكر وعمر كتبا القرآن فيها . ثم أرسل عثمان - بمشاورة الصحابة - إلى كل مصر من أمصار المسلمين بمصحف ، وأمر بترك ما سوى ذلك . قال هؤلاء: ولا يجوز أن ينهى عن القراءة ببعض الأحرف السبعة .
    ومن نصر قول الأولين يجيب تارة بما ذكره محمد بن جرير وغيره من أن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبًا على الأمة ، إنما كان جائزا لهم مرخصا لهم فيه ، وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه ، كما أن ترتيب السور لم يكن واجبًا عليهم منصوصًا ، بل مفوضًا إلى اجتهادهم ، ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب مصحف زيد ، وكذلك مصحف غيره ، وأما ترتيب آي السور فهو منزل منصوص عليه ، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية في الرسم كما قدموا سورة على سورة ، لأن ترتيب الآيات مأمور به نصًّا ، وأما ترتيب السور فمفوض إلى اجتهادهم ، قالوا: فكذلك الأحرف السبعة . فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على حرف واحد ، اجتمعوا على ذلك اجتماعًا سائغًا- وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة- ولم يكن في ذلك ترك لواجب ولا فعل لمحظور .
    ومن هؤلاء من يقول: إن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام ، لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا ، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة ، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم وهو أرفق بهم- أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الآخرة ، ويقولون: إنه نسخ ما سوى ذلك ، وهؤلاء يوافق قولهم قول من يقول: إن حروف أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهما - مما يخالف رسم هذا المصحف- منسوخة .
    وأما من قال عن ابن مسعود : إنه يجوز القراءة بالمعنى ؛ فقد كذب عليه . وإنما قال: "قد نظرت إلى القرأة فرأيت قراءتهم متقاربة ، وإنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال . فاقرءوا كما علمتم " أو كما قال .
    فمن جوز القراءة بما يخرج عن المصحف مما ثبت عن الصحابة قال: يجوز ذلك لأنه من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها .
    ومن لم يجوزه فله أربعة مآخذ:
    - تارة يقول: ليس هو من الحروف السبعة .
    - وتارة يقول: هو من الحروف المنسوخة .
    - وتارة يقول: هو مما انعقد إجماع الصحابة على الإعراض عنه .
    - وتارة يقول: لم ينقل إلينا نقلا يثبت بمثله القرآن .
    وهذا هو الفرق بين المتقدمين والمتأخرين (3 \ أ) .
    ولهذا كان في المسألة قول ثالث وهو اختيار جدي أبي البركات أنه: إن قرأ بهذه القراءات في القراءة الواجبة - وهي الفاتحة عند القدرة عليها - لم تصح صلاته ، لأنه لم يتيقن أنه أدى الواجب من القراءة ، لعدم ثبوت القرآن بذلك . وإن قرأ بها فيما لا يجب لم تبطل صلاته ، لأنه لم يتيقن أنه أتى في الصلاة بمبطل ، لجواز أن يكون ذلك من الحروف السبعة التي أنزل عليها .
    وهذا القول ينبني على أصل ، وهو أن ما لم يثبت كونه من الحروف السبعة فهل يجب القطع بكونه ليس منها؟
    فالذي عليه جمهور العلماء أنه لا يجب القطع بذلك ، إذ ليس ذلك مما أوجب علينا أن يكون العلم به في النفي والإثبات قطعيا .
    وذهب فريق من أهل الكلام إلى وجوب القطع بنفيه ، حتى قطع بعض هؤلاء كالقاضي أبي بكر بخطأ الشافعي وغيره ممن أثبت البسملة [آية] ، من القرآن في غير سورة النمل لزعمهم أن ما كان من موارد الاجتهاد في القرآن فإنه يجب القطع بنفيه .
    والصواب القطع بخطأ هؤلاء ، وأن البسملة آية من كتاب الله حيث كتبها الصحابة في المصحف ؛ إذا لم يكتبوا فيه إلا القرآن وجردوه مما ليس منه كالتخميس والتعشير وأسماء السور . ولكن مع ذلك لا يقال: هي من السورة التي بعدها ، كما [أنها] ليست من السورة التي قبلها ، بل هي كما كتبت - آية أنزلها الله في أول كل سورة وإن لم تكن من السورة ، وهذا أعدل الأقوال الثلاثة في هذه المسألة .
    وسواء قيل بالقطع في النفي أو الإثبات ؛ فذلك لا يمنع كونها من موارد الاجتهاد التي لا تكفير ولا تفسيق فيها للنافي ولا للمثبت . بل قد يقال ما قاله طائفة من العلماء: إن كل واحد من القولين حق ، وإنها آية من القرآن في بعض القراءات- وهي قراءة الذين يفصلون بها بين السورتين - وليست آية في بعض القراءات ، وهي قراءة الذين يصلون ولا يفصلون بها
    وأما قول السائل: ما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف؟
    فهذا مرجعه إلى النقل واللغة العربية لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك كله ، إذ ليس لأحد أن يقرأ برأيه المجرد ، بل القراءة سنة متبعة وهم إذا اتفقوا على اتباع القرآن المكتوب في المصحف الإمام وقد أقرأ بعضهم بالياء وبعضهم بالتاء- لم يكن واحد منهما خارجا عن المصحف .
    ومما يوضح ذلك أنهم يتفقون في بعض المواضع على ياء أو تاء ، ويتنوعون في بعض ، كما اتفقوا في قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ في موضع ، وتنوعوا في موضعين .
    وقد بينا أن القراءتين كالآيتين ، فزيادة القراءات كزيادة الآيات ، لكن إذا كان الخط واحدا واللفظ محتملا كان ذاك أخصر في الرسم ، والاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب لا على حفظ المصاحف ، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم . فقلت: أي رب إذن يثلغوا رأسي ، فقال: إني مبتليك ومبتل بك ، ومنزل عليك كتابًا لا يغسله الماء ، تقرأه (3 \ ب) نائما ويقظان . فابعث جندا أبعث مثليهم ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، وأنفق أنفق عليك .
    فأخبر أن كتابه لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء ، بل يقرأه في كل حال ، كما جاء في نعت أمته: أناجيلهم في صدورهم بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب ولا يقرءونه كله إلا نظرا ، لا عن ظهر قلب .
    وقد ثبت في الصحيح أنه جمع القرآن كله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة: كالأربعة الذين من الأنصار ، وكعبد الله بن عمرو ، فتبين بما ذكرناه أن القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم . . ليست هي الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها ، وذلك باتفاق علماء السلف والخلف ، وكذلك ليست هذه القراءات السبع هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها ، باتفاق العلماء المعتبرين ، بل القراءات الثابتة عن أئمة القراءة كالأعمش ويعقوب وخلف وأبي جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح ونحوهم هي بمنزلة القراءات الثابتة عن هؤلاء السبعة ، عند من ثبت ذلك عنده كما ثبت ذلك .
    وهذا أيضًا مما لم يتنازع فيه الأئمة المتبوعون من أئمة الفقهاء والقراء وغيرهم ، وإنما تنازع الناس من الخلف في المصحف العثماني الإمام ، الذي أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان والأمة بعدهم- (هل هو بما فيه من قراءة السبعة وتمام العشرة وغير ذلك ، حرف من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها) أو هو مجموع الأحرف السبعة؟ على قولين مشهورين:
    - الأول: قول أئمة السلف والعلماء .
    - الثاني: قول طوائف من أهل الكلام والقراء وغيرهم .
    وهم متفقون على أن الأحرف السبعة لا يخالف بعضها بعضًا خلافا يتضاد فيه المعنى ويتناقض ، بل يصدق بعضها بعضًا كما تصدق الآيات بعضها بعضًا .
    وسبب تنوع القراءات فيما احتمله خط المصحف هو تجويز الشارع وتسويغه ذلك لهم ، إذ مرجع ذلك إلى السنة والاتباع لا إلى الرأي والابتداع .
    أما إذا قيل: إن ذلك هي الأحرف السبعة فظاهر ، وكذلك بطريق الأولى إذا قيل: إن ذلك حرف من الأحرف السبعة . فإنه إذا كان قد سوغ لهم أن يقرءوه على سبعة أحرف كلها شاف كاف مع تنوع الأحرف في الرسم - فلأن يسوغ ذلك مع اتفاق ذلك في الرسم وتنوعه في اللفظ أولى وأحرى .
    وهذا من أسباب تركهم المصاحف - أول ما كتبت - غير مشكولة ولا منقوطة ، لتكون صورة الرسم محتملة لأمرين: كالتاء والياء ، والفتح والضم . وهم يضبطون
    المنقولين المسموعين المتلوين - شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المنقولين المعقولين المفهومين .
    فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلقوا عنه ما أمره الله بتبليغه إليهم من القرآن لفظه ومعناه جميعًا ، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي .
    - وهو الذي روى عن عثمان رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه كما رواه البخاري في صحيحه ، وكان يقرئ القرآن أربعين سنة ، قال : -
    "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا: عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما ، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل . . قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا" .
    ولهذا دخل في معنى قوله : خيركم من تعلم القرآن وعلمه تعليم حروفه ومعانيه جميعا ، بل تعليم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه ، وذلك هو الذي يزيد الإيمان . كما قال جندب بن عبد الله وعبد الله بن عمر (10) وغيرهما:
    "تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا ، وإنكم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان " .
    وفي الصحيحين عن حذيفة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين ، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر ؛ حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ونزل القرآن . . . وذكر الحديث بطوله ، ولا تتسع هذه الورقة لذكر ذلك .
    وإنما المقصود التنبيه على أن ذلك كله مما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس ، وبلغنا أصحابه عنه الإيمان والقرآن حروفه ومعانيه ، وذلك مما أوحاه الله إليه . كما قال تعالى : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا .
    وتجوز القراءة في الصلاة وخارجها بالقراءات الثابتة الموافقة لرسم المصحف كما ثبتت هذه القراءات وليست بشاذة حينئذ . والله أعلم بالصواب .
    تمت بحمد الله وعونه وحسن توفيقه في يوم الثلاثاء سادس عشرين جماد[ى] الأولى من شهور سنة تسع وخمسين وثمانمائة .

    مصادر البحث والتحقيق

    * الإبانة عن معاني القراءات . لمكي القيسي . تح د . محيي الدين رمضان . دار المأمون للتراث بدمشق 1399 هـ - 1979 م .
    * إبراز المعاني من حرز الأماني لأبي شامة الدمشقي . البابي الحلبي بمصر 1349 هـ.
    * الإصابة في تمييز الصحابة . لابن حجر العسقلاني .
    الطبعة الأولى - مطبعة السعادة بمصر 1328 هـ .
    * الأعلام . للزركلي . الطبعة الثالثة .
    * تاريخ بغداد . للخطيب البغدادي . دار الكتاب العربي - بيروت .
    * تفسير القرطبي - مصورة عن طبعة دار الكتب .
    * التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو الداني . تح أوتوبرتزل ط . استانبول 1930 م .
    * السبعة لابن مجاهد . تح د . شوقي ضيف ط . الثانية - دار المعارف بالقاهرة 1400 هـ * الشاطبية . وشرحها للشيخ علي الضباع .
    مكتبة صبيح بالقاهرة 1381 هـ - 1961م .
    * صحيح البخاري . مصورة الطبعة الأولى 1315 هـ بمصر .
    * صحيح مسلم بشرح النووي - المطبعة المصرية ومكتبتها .
    * غاية النهاية في طبقات القراء . لابن الجزري . تح . برجستراسر . مصورة الطبعة الأولى 1351م هـ - 1932 .
    * كتاب سيبويه . مصورة طبعة بولاق .
    * لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني تح الشيخ عامر عثمان ود . عبد الصبور شاهين بالقاهرة 1392 هـ - 1972 .
    * لسان العرب لابن منظور . مصورة طبعة بولاق 1300 هـ .
    * مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية . جمع وترتيب عبد الرحمن العاصمي وابنه محمد .
    مصورة الطبعة الأولى 1398 هـ .
    * المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز . لأبي شامة الدمشقي تح طيار آلتي قولاج ط . دار صادر - بيروت 1395 هـ - 1975م .
    * مسند الإمام أحمد . مصورة الطبعة الأولى . الميمنية بمصر 1313 هـ .
    * منجد المقرئين ومرشد الطالبين . لابن الجزري . مكتبة القدسي 1350 هـ .
    * النشر في القراءات العشر . لابن الجزري . تح الشيخ علي الضباع .
    * وفيات الأعيان لابن خلكان . تح د . إحسان عباس . دار الثقافة ببيروت .
    رسالة لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية أجاب فيها عن أسئلة في علم القراءات حققها وقدم لها الدكتور : محمد علي سلطاني (مجلة البحوث الإسلامية بإشراف ومسؤولية الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية - العدد الثالث عشر - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1405هـ) الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين . وبعد : فإن القراءات القرآنية من أكثر علوم القرآن والعربية أهمية وأجلها شأنا . . أما أهميتها من حيث اللغة فتعود إلى جانبين كبيرين: - أولهما ما تقدمه للباحثين في نشأة اللغات وتطورها وتاريخها من الظواهر اللغوية الحية على اختلاف صنوفها: في الحرف والصوت والكلمة والتركيب . . - وثانيهما ما تقدمه للنحو وفقه اللغة من الشواهد والنماذج مما لا يبلغ بعض شأوه شواهد العربية الأخرى في الشعر والخطب والأمثال والأقوال . . وذلك بسبب مما حظيت به القراءات منذ نشأتها من عناية وضبط وتوثيق . . بالتلقي المتثبت ، والمشافهة الواعية ، والرواية المتواترة أو النقل المستفيض ، والتدوين المقرون بالوصف الدقيق والأسانيد المدروسة الموثوقة . . وأما رفعة شأنها فلارتباطها بالقرآن العظيم منهاج المتقين ومعراج المرتقين ، مصداقًا لقوله عليه الصلاة والسلام: خيركم من تعلم القرآن وعلمه . غير أن هذا الميدان الجليل بما اتسم به من الغنى اللغوي الفريد ، نتيجة التيسير الذي عبر عنه الحديث النبوي : أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه ؛ أثار قدرًا غير قليل من القضايا التي ارتبطت بعلم القراءات ، وغدت مع الزمن أقرب إلى المشكلات ، فشغلت العلماء والباحثين عبر القرون - وما يزال بعضها يشغلهم- للوصول إلى المعرفة اليقينية بشأنها . . من ذلك قولهم: ما تفسير الأحرف السبعة؟ أهي للتكثير أم لتحديد؟ وإن كانت الأخيرة فما المقصود بها على الدقة أهي القبائل أم الطرائق أم الظواهر؟ ما مدى شيوع التواتر بين القراءات ، أهو مقصور على السبع أم العشر أم ما فوق ذلك؟ أهي سواء في الفصاحة أم أن بينها فصيحًا وأفصح؟ ما موقف النحو والقياس من هذا التفاوت في الفصاحة؟ . . هذه وغيرها أسئلة كثيرة تتردد بينهم لا تفتر ، تبحث لها عن الجواب الأخير . وقد أحدث اختلاف القراءات وتعددها حركة علمية مباركة ، أسفرت عن أعداد من مجموعات الكتب القيمة . . بدأت بكتب جمعت القراءات ، فأخرى نهضت بالاحتجاج لها بلغة العرب ، وثالثة وصفت مرسوم مصاحف الأمصار ، ورابعة اهتمت بالنقط والشكل . . وبقي في الميدان زوايا يلفها بعض الغموض والاختلاف وتباين الآراء ، مما تعد رسالة شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية الآتي نصها حلقة في سلسلة الردود على تساؤلات الباحثين عن الحقيقة ، حيث أجاب فيها عن عدد من هذه التساؤلات . أما الرسالة فهي واحدة مما تضمه مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض من نفائس المخطوطات ، وتقع في سبع صفحات تضمها أربع ورقات ضمن مجموع يحمل رقم 3653 \ ف مصور عن الأصل في مكتبة تشستربتي ، كتبه بخط نسخي دقيق علي عبد الله الغزي سنة 859 هـ . ومما يعد نسخة قيمة أخرى لهذا النص ، ما تم نشره بعنوان (فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ) جـ13 \ 389- 404 فقد ضم الفاضل الشيخ عبد الرحمن العاصمي هذا النص إلى الكتاب بوصفه إحدى الفتاوى التي صدرت عن شيخ الإسلام آنذاك . . وقد أفدت منه في تصويب المواضع التي تأثرت بالرطوبة في الأصل لديّ . ولم يذكر الشيخ العاصمي مصادره ، غير أن الاختلاف الطفيف في بعض ألفاظ النصين يثبت أنه نسخة أخرى لهذه الرسالة ، مما تجد ثماره وأثره في المتن وبعض حواشي التحقيق . ومما يعد طرفا في هذا التوثيق نقول مطولة لمقاطع تامة من هذا النص ، احتج بها ابن الجزري مقرونة بنسبتها إلى ابن تيمية في كتابه (النشر في القراءات العشر 1 \ 39 وما بعدها) مما تجد الإشارة إليه في مواضعه بعد . وتبدأ الرسالة بالبسملة والدعاء فالنص على الأثر بلا عنوان يتقدمه ، ولا ضير في هذا ، لأن النص نفسه وما ورد فيه من عبارات صريحة أدلة ناصعة على صحة نسبته إلى الشيخ الإمام ابن تيمية ، مما يطالع القارئ منذ السطور الأولى . وقد لقيت هذه الرسالة من عناية العلماء عبر القرون ما يبدو أثره في الخاتم الرابض في نهايتها ، وجاء في نقشه للواقف ما نصه: "وقف سيد يوسف فضل الله ، إمام جامع سلطان محمد خان ، للولاة وللمدرسين المتأهلين ، في جامع المزبور 1145 " . أما مؤلف الرسالة فغني عن التعريف ، فهو أبرز قوة فاعلة في صياغة الحياة في دولة المماليك في القرن الثامن الهجري بميادينها: العلمية والفكرية والعامة . . مما تجده مبسوطا في مظانه ، وتؤكده مئات الكتب والرسائل التي كتبها بخطه في معالجة قضايا عصره ، رافعًا بقوة صوت الدين وموقفه منها ، مما يتأبى على الحصر " فكان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن ، وحكم أن أحدًا لا يعرف مثله " . ومات رحمه الله معتقلا بقلعة دمشق سنة 728 هـ ، فخرجت دمشق كلها في جنازته رضي الله تعالى عنه وأرضاه . النص المحقق (1 \ أ) بسم الله الرحمن الرحيم ، رب يسر ما يقول سيدي الشيخ- جمع الله له خير الدنيا والآخرة- في قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف . - ما المراد بهذه السبعة ؟ - وهل هذه القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم وغيرهما هي الأحرف السبعة أو واحد منها ؟ - وما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف؟ - وهل تجوز القراءة برواية الأعمش وابن محيصن وغيرهما من القراءات الشاذة أو لا . - وإذا جازت القراءة بها ، فهل تجوز الصلاة بها أو لا ؟ أفتونا مأجورين . أجاب ( الشيخ تقي الدين بن تيمية ) : . الحمد لله رب العالمين . هذه مسألة كبيرة ، فقد تكلم فيها أصناف العلماء من الفقهاء والقراء وأهل الحديث والتفسير والكلام وشرح الغريب وغيرهم حتى صنف فيها التصنيف المفرد ، ومن آخر ما أفرد في ذلك ما صنفه الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي المعروف بأبي شامة صاحب شرح الشاطبية . فأما ذكر أقاويل الناس وأدلتهم وتقرير الحق فيها مبسوطًا ؛ فيحتاج من ذكر الأحاديث الواردة في ذلك وذكر ألفاظها وسائر الأدلة ، إلى ما لا يتسع له هذا المكان . . ولا يليق بمثل هذا الجواب ، ولكن نذكر النكت الجامعة التي تنبه على المقصود بالجواب ، فنقول: لا نزاع بين العلماء المعتبرين بأن الأحرف السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها ليست هي قراءات القراء السبعة المشهورة ، بل أول من جمع قراءات هؤلاء هو الإمام أبو بكر بن مجاهد ، وكان على رأس المائة الثالثة ببغداد ، فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات: الحرمين والعراقين والشام ، إذ هذه الأمصار الخمسة [هي] التي خرج منها علم النبوة: من القرآن وتفسيره ، والحديث ، والفقه في الأعمال الباطنة والظاهرة ، وسائر العلوم الدينية . فلما أراد ذلك ، جمع قراءات سبعة مشاهير من أئمة قراء هذه الأمصار ، ليكون ذلك موافقًا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن ، لا لاعتقاده أو اعتماد غيره من العلماء أن القراءات السبع هي الحروف السبعة ، أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم . ولهذا قال من قال من أئمة القراء: لولا أن ابن مجاهد سبقني إلى حمزة لجعلت مكانه يعقوب الحضرمي إمام جامع البصرة ، وإمام قراء البصرة في زمانه في رأس المئتين . [و] لا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده ، بل قد يكون معناهما متفقًا أو متقاربًا . كما قال عبد الله بن مسعود : "إنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال " . وقد يكون معنى أحدهما ليس هو معنى الآخر ، لكن كلا المعنيين حق ، وهذا اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض . وهذا كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى (1 \ ب) الله عليه وسلم في هذا ، حديث: أنزل القرآن على سبعة أحرف : إن قلت : غفورا رحيما ، أو قلت : عزيزا حكيما ؛ فالله كذلك ، ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب ، أو آية عذاب بآية رحمة" ، وهذا كما في القراءات المشهورة: . إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا و {إلا أن يُخافا ألا يقيما} . و {وإن كان مكرهم لتَزول - ولتزول - من الجبال} . و {بل عجبتُ} و بَلْ عَجِبْتَ . ونحو ذلك . ومن القراءات ما يكون المعنى فيها: متفقا من وجه ، متباينا من وجه ، كقوله: {يخدعون} و {يخادعون} . و {يُكَذِّبون} و {يَكذِبون} . و {لمستم} و { لامستم } . حَتَّى يَطْهُرْنَ و {يَطَّهَرْن} . ونحو ذلك . فهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلها حق ، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية ، يجب الإيمان بها كلها ، واتباع ما تضمنه من المعنى علمًا وعملا ، لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظنا أن ذلك تعارض ، بل كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " من كفر بحرف منه فقد كفر به كله " . وأما ما اتحد لفظه ومعناه ، وإنما يتنوع صفة النطق به ، كالهمزات والمدَّات والإمالات ونقل الحركات والإظهار والإدغام والاختلاس وترقيق اللامات والراءات أو تغليظها ، ونحو ذلك مما تسمى القَرَأَة عامته الأصول ، فهذا أظهر وأبين في أنه ليس فيه تناقض ولا تضاد مما تنوع فيه اللفظ أو المعنى . إذ هذه الصفات المتنوعة في أداء اللفظ لا تخرجه عن أن يكون لفظًا واحدًا ولا يعد ذلك فيما اختلف لفظه واتحد معناه ، أو اختلف معناه من المترادف ونحوه ، ولهذا كان دخول هذا في حرف واحد من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها ؛ مما يتنوع فيه اللفظ أو المعنى وإن وافق رسم المصحف وهو ما يختلف فيه النَقْط أو الشكل . ولذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتبوعون من السلف والأئمة في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة في جميع أمصار المسلمين ، بل من ثبت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة ، أو قراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي ونحوهما ، كما ثبت عنده قراءة حمزة والكسائي - فله أن يقرأ بها بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع والخلاف . بل أكثر العلماء الأئمة - الذين أدركوا قراءة [ حمزة ] كسفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل وبشر بن الحارث وغيرهم- يختارون قراءة أبي جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح المدنيين ، وقراءة البصريين كشيوخ يعقوب بن إسحاق وغيرهم - على قراءة حمزة والكسائي . وللعلماء [الأئمة] في ذلك من الكلام ما هو معروف عند العلماء . ولهذا كان أئمة أهل العراق الذين ثبتت عندهم قراءات العشرة أو الأحد عشر كثبوت هذه السبعة- يجمعون ذلك في الكتب ، ويقرأونه في الصلاة وخارج الصلاة، وذلك متفق عليه بين العلماء لم ينكره أحد منهم . وأما الذي ذكره القاضي عياض ومن نقل (2 \ أ) من كلامه من الإنكار على ابن شنبوذ الذي كان يقرأ بالشواذ في الصلاة في أثناء المائة الرابعة ، وجرت له قضية مشهورة ، فإنما كان ذلك في القراءات الشاذة الخارجة عن المصحف كما سنبينه . ولم ينكر أحد من العلماء قراءة العشرة ، ولكن من لم يكن عالما بها ، أو لم تثبت عنده - كمن يكون في بلد من بلاد الإسلام بالمغرب أو غيره ، ولم يتصل به بعض هذه القراءات- فليس له أن يقرأ بما لا يعلمه منها ، [فإن] القراءة - كما قال زيد بن ثابت : سنة يأخذها الآخر عن الأول . كما أن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع الاستفتاحات في الصلاة ، ومن أنواع صفة الأذان والإقامة وصفة صلاة الخوف وغير ذلك ، كله حسن ، يشرع العمل به لمن علمه . وأما من علم نوعا ولم يعلم غيره فليس له أن يعدل عما علمه إلى ما لم يعلم ، وليس له أن ينكر على من علم ما لم يعلمه من ذلك ، ولا أن يخالفه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تختلفوا ، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا . وأما القراءة الشاذة الخارجة عن رسم المصحف العثماني ، مثل قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهما: ( والليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، والذكر والأنثى ) كما قد ثبت ذلك في الصحيحين . ومثل قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . وكقراءته: (إن كانت إلا زقية واحدة) ونحو ذلك ، فهذه إذا ثبتت عن بعض الصحابة فهل يجوز أن يقرأ بها في الصلاة؟ [ذلك] على قولين للعلماء - هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد - وروايتان عن مالك : : - إحداهما يجوز ذلك ، لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرأون بهذه الحروف في الصلاة . - والثانية : لا يجوز ذلك ، وهو قول أكثر العلماء؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن ثبتت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة ، فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم ، أن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل عام مرة ، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين . والعرضة الآخرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره ، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها في المصاحف ، وكتبها أبو بكر وعمر في خلافة أبي بكر في صحف أمر زيد بن ثابت بكتابتها . ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار ، وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة علي وغيره . وهذا النزاع لا بد أن يبنى على الأصل الذي سأل عنه السائل ، وهو أن القراءات السبع: هل هي حرف من الحروف السبعة أو ، لا ؟ . فالذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة أنها حرف من الحروف السبعة ، بل يقولون: إن مصحف عثمان هو أحد الحروف السبعة ، وهو متضمن للعرضة الآخرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل ، والأحاديث (2 \ ب) والآثار المشهورة المستفيضة تدل على هذا القول . وذهب طوائف من الفقهاء والقراء وأهل الكلام إلى أن هذا المصحف مشتمل على الأحرف السبعة ، وقرر ذلك طوائف من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر بن الباقلاني وغيره ، بناء على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الأحرف السبعة ، وقد اتفقوا على نقل هذا المصحف الإمام العثماني وترك ما سواه ، حيث أمر عثمان بنقل القرآن من الصحف التي كان أبو بكر وعمر كتبا القرآن فيها . ثم أرسل عثمان - بمشاورة الصحابة - إلى كل مصر من أمصار المسلمين بمصحف ، وأمر بترك ما سوى ذلك . قال هؤلاء: ولا يجوز أن ينهى عن القراءة ببعض الأحرف السبعة . ومن نصر قول الأولين يجيب تارة بما ذكره محمد بن جرير وغيره من أن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبًا على الأمة ، إنما كان جائزا لهم مرخصا لهم فيه ، وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه ، كما أن ترتيب السور لم يكن واجبًا عليهم منصوصًا ، بل مفوضًا إلى اجتهادهم ، ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب مصحف زيد ، وكذلك مصحف غيره ، وأما ترتيب آي السور فهو منزل منصوص عليه ، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية في الرسم كما قدموا سورة على سورة ، لأن ترتيب الآيات مأمور به نصًّا ، وأما ترتيب السور فمفوض إلى اجتهادهم ، قالوا: فكذلك الأحرف السبعة . فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على حرف واحد ، اجتمعوا على ذلك اجتماعًا سائغًا- وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة- ولم يكن في ذلك ترك لواجب ولا فعل لمحظور . ومن هؤلاء من يقول: إن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام ، لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا ، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة ، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم وهو أرفق بهم- أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الآخرة ، ويقولون: إنه نسخ ما سوى ذلك ، وهؤلاء يوافق قولهم قول من يقول: إن حروف أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهما - مما يخالف رسم هذا المصحف- منسوخة . وأما من قال عن ابن مسعود : إنه يجوز القراءة بالمعنى ؛ فقد كذب عليه . وإنما قال: "قد نظرت إلى القرأة فرأيت قراءتهم متقاربة ، وإنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال . فاقرءوا كما علمتم " أو كما قال . فمن جوز القراءة بما يخرج عن المصحف مما ثبت عن الصحابة قال: يجوز ذلك لأنه من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها . ومن لم يجوزه فله أربعة مآخذ: - تارة يقول: ليس هو من الحروف السبعة . - وتارة يقول: هو من الحروف المنسوخة . - وتارة يقول: هو مما انعقد إجماع الصحابة على الإعراض عنه . - وتارة يقول: لم ينقل إلينا نقلا يثبت بمثله القرآن . وهذا هو الفرق بين المتقدمين والمتأخرين (3 \ أ) . ولهذا كان في المسألة قول ثالث وهو اختيار جدي أبي البركات أنه: إن قرأ بهذه القراءات في القراءة الواجبة - وهي الفاتحة عند القدرة عليها - لم تصح صلاته ، لأنه لم يتيقن أنه أدى الواجب من القراءة ، لعدم ثبوت القرآن بذلك . وإن قرأ بها فيما لا يجب لم تبطل صلاته ، لأنه لم يتيقن أنه أتى في الصلاة بمبطل ، لجواز أن يكون ذلك من الحروف السبعة التي أنزل عليها . وهذا القول ينبني على أصل ، وهو أن ما لم يثبت كونه من الحروف السبعة فهل يجب القطع بكونه ليس منها؟ فالذي عليه جمهور العلماء أنه لا يجب القطع بذلك ، إذ ليس ذلك مما أوجب علينا أن يكون العلم به في النفي والإثبات قطعيا . وذهب فريق من أهل الكلام إلى وجوب القطع بنفيه ، حتى قطع بعض هؤلاء كالقاضي أبي بكر بخطأ الشافعي وغيره ممن أثبت البسملة [آية] ، من القرآن في غير سورة النمل لزعمهم أن ما كان من موارد الاجتهاد في القرآن فإنه يجب القطع بنفيه . والصواب القطع بخطأ هؤلاء ، وأن البسملة آية من كتاب الله حيث كتبها الصحابة في المصحف ؛ إذا لم يكتبوا فيه إلا القرآن وجردوه مما ليس منه كالتخميس والتعشير وأسماء السور . ولكن مع ذلك لا يقال: هي من السورة التي بعدها ، كما [أنها] ليست من السورة التي قبلها ، بل هي كما كتبت - آية أنزلها الله في أول كل سورة وإن لم تكن من السورة ، وهذا أعدل الأقوال الثلاثة في هذه المسألة . وسواء قيل بالقطع في النفي أو الإثبات ؛ فذلك لا يمنع كونها من موارد الاجتهاد التي لا تكفير ولا تفسيق فيها للنافي ولا للمثبت . بل قد يقال ما قاله طائفة من العلماء: إن كل واحد من القولين حق ، وإنها آية من القرآن في بعض القراءات- وهي قراءة الذين يفصلون بها بين السورتين - وليست آية في بعض القراءات ، وهي قراءة الذين يصلون ولا يفصلون بها وأما قول السائل: ما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف؟ فهذا مرجعه إلى النقل واللغة العربية لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك كله ، إذ ليس لأحد أن يقرأ برأيه المجرد ، بل القراءة سنة متبعة وهم إذا اتفقوا على اتباع القرآن المكتوب في المصحف الإمام وقد أقرأ بعضهم بالياء وبعضهم بالتاء- لم يكن واحد منهما خارجا عن المصحف . ومما يوضح ذلك أنهم يتفقون في بعض المواضع على ياء أو تاء ، ويتنوعون في بعض ، كما اتفقوا في قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ في موضع ، وتنوعوا في موضعين . وقد بينا أن القراءتين كالآيتين ، فزيادة القراءات كزيادة الآيات ، لكن إذا كان الخط واحدا واللفظ محتملا كان ذاك أخصر في الرسم ، والاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب لا على حفظ المصاحف ، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم . فقلت: أي رب إذن يثلغوا رأسي ، فقال: إني مبتليك ومبتل بك ، ومنزل عليك كتابًا لا يغسله الماء ، تقرأه (3 \ ب) نائما ويقظان . فابعث جندا أبعث مثليهم ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، وأنفق أنفق عليك . فأخبر أن كتابه لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء ، بل يقرأه في كل حال ، كما جاء في نعت أمته: أناجيلهم في صدورهم بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب ولا يقرءونه كله إلا نظرا ، لا عن ظهر قلب . وقد ثبت في الصحيح أنه جمع القرآن كله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة: كالأربعة الذين من الأنصار ، وكعبد الله بن عمرو ، فتبين بما ذكرناه أن القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم . . ليست هي الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها ، وذلك باتفاق علماء السلف والخلف ، وكذلك ليست هذه القراءات السبع هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها ، باتفاق العلماء المعتبرين ، بل القراءات الثابتة عن أئمة القراءة كالأعمش ويعقوب وخلف وأبي جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح ونحوهم هي بمنزلة القراءات الثابتة عن هؤلاء السبعة ، عند من ثبت ذلك عنده كما ثبت ذلك . وهذا أيضًا مما لم يتنازع فيه الأئمة المتبوعون من أئمة الفقهاء والقراء وغيرهم ، وإنما تنازع الناس من الخلف في المصحف العثماني الإمام ، الذي أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان والأمة بعدهم- (هل هو بما فيه من قراءة السبعة وتمام العشرة وغير ذلك ، حرف من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها) أو هو مجموع الأحرف السبعة؟ على قولين مشهورين: - الأول: قول أئمة السلف والعلماء . - الثاني: قول طوائف من أهل الكلام والقراء وغيرهم . وهم متفقون على أن الأحرف السبعة لا يخالف بعضها بعضًا خلافا يتضاد فيه المعنى ويتناقض ، بل يصدق بعضها بعضًا كما تصدق الآيات بعضها بعضًا . وسبب تنوع القراءات فيما احتمله خط المصحف هو تجويز الشارع وتسويغه ذلك لهم ، إذ مرجع ذلك إلى السنة والاتباع لا إلى الرأي والابتداع . أما إذا قيل: إن ذلك هي الأحرف السبعة فظاهر ، وكذلك بطريق الأولى إذا قيل: إن ذلك حرف من الأحرف السبعة . فإنه إذا كان قد سوغ لهم أن يقرءوه على سبعة أحرف كلها شاف كاف مع تنوع الأحرف في الرسم - فلأن يسوغ ذلك مع اتفاق ذلك في الرسم وتنوعه في اللفظ أولى وأحرى . وهذا من أسباب تركهم المصاحف - أول ما كتبت - غير مشكولة ولا منقوطة ، لتكون صورة الرسم محتملة لأمرين: كالتاء والياء ، والفتح والضم . وهم يضبطون المنقولين المسموعين المتلوين - شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المنقولين المعقولين المفهومين . فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلقوا عنه ما أمره الله بتبليغه إليهم من القرآن لفظه ومعناه جميعًا ، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي . - وهو الذي روى عن عثمان رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه كما رواه البخاري في صحيحه ، وكان يقرئ القرآن أربعين سنة ، قال : - "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا: عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما ، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل . . قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا" . ولهذا دخل في معنى قوله : خيركم من تعلم القرآن وعلمه تعليم حروفه ومعانيه جميعا ، بل تعليم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه ، وذلك هو الذي يزيد الإيمان . كما قال جندب بن عبد الله وعبد الله بن عمر (10) وغيرهما: "تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا ، وإنكم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان " . وفي الصحيحين عن حذيفة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين ، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر ؛ حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ونزل القرآن . . . وذكر الحديث بطوله ، ولا تتسع هذه الورقة لذكر ذلك . وإنما المقصود التنبيه على أن ذلك كله مما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس ، وبلغنا أصحابه عنه الإيمان والقرآن حروفه ومعانيه ، وذلك مما أوحاه الله إليه . كما قال تعالى : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا . وتجوز القراءة في الصلاة وخارجها بالقراءات الثابتة الموافقة لرسم المصحف كما ثبتت هذه القراءات وليست بشاذة حينئذ . والله أعلم بالصواب . تمت بحمد الله وعونه وحسن توفيقه في يوم الثلاثاء سادس عشرين جماد[ى] الأولى من شهور سنة تسع وخمسين وثمانمائة . مصادر البحث والتحقيق * الإبانة عن معاني القراءات . لمكي القيسي . تح د . محيي الدين رمضان . دار المأمون للتراث بدمشق 1399 هـ - 1979 م . * إبراز المعاني من حرز الأماني لأبي شامة الدمشقي . البابي الحلبي بمصر 1349 هـ. * الإصابة في تمييز الصحابة . لابن حجر العسقلاني . الطبعة الأولى - مطبعة السعادة بمصر 1328 هـ . * الأعلام . للزركلي . الطبعة الثالثة . * تاريخ بغداد . للخطيب البغدادي . دار الكتاب العربي - بيروت . * تفسير القرطبي - مصورة عن طبعة دار الكتب . * التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو الداني . تح أوتوبرتزل ط . استانبول 1930 م . * السبعة لابن مجاهد . تح د . شوقي ضيف ط . الثانية - دار المعارف بالقاهرة 1400 هـ * الشاطبية . وشرحها للشيخ علي الضباع . مكتبة صبيح بالقاهرة 1381 هـ - 1961م . * صحيح البخاري . مصورة الطبعة الأولى 1315 هـ بمصر . * صحيح مسلم بشرح النووي - المطبعة المصرية ومكتبتها . * غاية النهاية في طبقات القراء . لابن الجزري . تح . برجستراسر . مصورة الطبعة الأولى 1351م هـ - 1932 . * كتاب سيبويه . مصورة طبعة بولاق . * لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني تح الشيخ عامر عثمان ود . عبد الصبور شاهين بالقاهرة 1392 هـ - 1972 . * لسان العرب لابن منظور . مصورة طبعة بولاق 1300 هـ . * مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية . جمع وترتيب عبد الرحمن العاصمي وابنه محمد . مصورة الطبعة الأولى 1398 هـ . * المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز . لأبي شامة الدمشقي تح طيار آلتي قولاج ط . دار صادر - بيروت 1395 هـ - 1975م . * مسند الإمام أحمد . مصورة الطبعة الأولى . الميمنية بمصر 1313 هـ . * منجد المقرئين ومرشد الطالبين . لابن الجزري . مكتبة القدسي 1350 هـ . * النشر في القراءات العشر . لابن الجزري . تح الشيخ علي الضباع . * وفيات الأعيان لابن خلكان . تح د . إحسان عباس . دار الثقافة ببيروت .
    0
  • مراعاة التركيب وأثره في بيان انسجام نظم القرآن*
    ابن عاشور أنموذجًا (1-3)

    الكاتب : مصطفى فاتيحي

    درَج القرآن الكريم على استعمال الأساليب والتراكيب العربية؛ كونه نزل على لغة العرب، وقد تبارت أقلام العلماء قديمًا وحديثًا في تفسير القرآن وفهمه وتناوُل ما يكتنزه كتاب الله من أسرار لغوية ومكنونات دلالية، وكذلك ما يحمله من مناسبات وارتباطات بين أجزاء تراكيبه، وقد تباينت نتائجهم وتقريراتهم أحيانًا في بيان وجوه الارتباط بين أجزاء النَّظْم وتأمّل المناسبات بينها بحسب أدوات البحث والتنقيب المستعملة، وحسب تفاوت القرائح والملَكات ودرجات العمق في تأمّل النظم وطرائق التراكيب العربية التي استخدمها النصّ، وتحليل هذه التراكيب ووجوه التعالق بينها.

    ولا شك أنّ العمق في فهم التراكيب العربية له أثرٌ بارزٌ جدًّا في فهم انسجام النصّ ذاته، ومسالك اتساق خطابه، وكيفيات انتقاله من حال لآخر، وبيان أسباب استعماله لأسلوب معيّن في موطن معين، وأن هذا الأسلوب لا يمثل قطعًا دلاليًّا بقدر ما يطرح ثراءً في المعنى يتحقّق به انسجام النصّ على صورة بديعة، ويفضي لتكامله واتساق نظمه؛ ومن هاهنا فإننا سنحاول في هذه المقالات أن نعالج هذه القضية، ونبرز أثر التعمق في فهم التراكيب القرآنية في عملية الفهم للخطاب القرآني، وبيان درجة الانسجام الحاصلة في هذا الخطاب.

    إنّ أساليب التركيب التي استعملها القرآن تشمل الكثير من الأمور، ويندرج في طيّاتها العديد من المسائل النحوية والبيانية التي يمكن أن يتأتّى عليها نسق بناء الجمل والعبارات في النصّ، غير أننا سنُعنى في معالجتنا بالتراكيب والأساليب البيانية فقط. كما أن اشتغالنا سيكون مأطورًا بقضيتي (الاستئناف البياني، والجملة المعترضة في القرآن) بشكلٍ خاصّ لأمور سيأتي ذكر مسوغاتها، بحيث نبيّن أثر التعمّق في تحليلهما في بيان اتساق النصّ وانسجام نظمه، وذلك من خلال النظر في تفسير ابن عاشور وتطبيقاته لكثرة عنايته بهذا الأمر في التفسير على ما سيأتي توضيحه.

    وقبل الشروع في ذلك الغرض فإننا سنحاول أولًا أن نسلِّط الضوء على أهمية مراعاة التركيب في فهم انسجام الخطاب القرآني واتساق نظمه، وبيانه على النحو الآتي:

    مراعاة التركيب وأهميته في فهم انسجام الخطاب القرآني:

    التركيب يعني: الجملة المركبة من عدد من الألفاظ وفق نسق معيّن، ويلزم أن يؤدي هذا التركيب معنى مفيدًا أو مقصودًا، وفي اللغة العربية نسميه الجملة، التي تنقسم إلى جملة اسمية وجملة فعلية، ولها استخدامات عديدة حسب القصد المراد منها، مثل: الجملة الابتدائية، والجملة الإخبارية، والجملة البسيطة، والجملة المركّبة، وجملة الحال، وجملة الصلة، وغيرها.

    والتركيب اللغوي «لا يستقيم أمره إلّا وفق قواعد وأسس خاصّة، هي التي نطلق عليها القواعد النحوية، التي تضبط تكوين الجملة في اللغة العربية وغيرها من اللغات»[1].

    ومن البديهي أن يكون «أساس التركيب في كلّ كلام هو أساس التعبير، لكن عندما تكون التراكيب على تنوّع موادها راجعة إلى منوال واحد أو منوالات متعدّدة بتعدّد أساليب التعبير الغالبة... فإن لُحمة مقالية مخصوصة تحدث بين التركيب والتعبير، فتتحوّل بمقتضاها العلاقة بينهما من علاقة عضوية اعتباطية إلى علاقة طبيعية مبرّرة، تعكس لُحمة مقامية وترقى بالكلام»[2].

    لذلك يقول الجرجاني: «فليس الغرض بنظم الكلم أنْ توالت ألفاظها في النطق، بل أنْ تناسقَت دلالاتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل»[3].

    ويقول أيضًا: «فينبغي أن يُنظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارًا وأمرًا ونهيًا واستخبارًا وتعجبًا، وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلّا بضم كلمة إلى كلمة وبناء لفظة على لفظة...، وهل يقع في وهمٍ وإنْ جُهِد أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم؟... وهل تجد أحدًا يقول: (هذه اللفظة فصيحة)، إلّا وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها وفضل مؤانستها لأخواتها؟»[4]، ثم يضيف: «فالألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، إن الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، وما أشبه ذلك مما لا تعلُّق له بصريح اللفظ».

    ومن هاهنا فإن النظم في جوهره «يقوم على التلازم والانسجام بين الأجزاء وائتلافها على نحوٍ يوفّر التماسك التركيبي، ويجعل أيّ تغيير في بناء النصّ يؤدي إلى تداعيه أو إلى تغيير معانيه وسماته»[5].

    يقول الجرجاني في موضع آخر وهو يرافع عن أهمية نظم الكلام وتركيبه: «واعلم أنك إذا رجعتَ إلى نفسك علمتَ علمًا لا يعترضه شك أن لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يُعلَّق بعضُها ببعض، وينبني بعضها على بعض وتُجعَل هذه بسبب تلك؛ هذا ما لا يجهله عاقل ولا يخفى على أحد من الناس... إن اللفظ تبع للمعنى في النظم، وإن الكلمة تترتَّب في النطق بسبب ترتُّب معانيها في النفس»[6].

    ومن هنا لا يصحّ في التفسير أن يؤخذ اللفظ وحده معزولًا عن سياقه الخاصّ والعام، والسياق الخاصّ هو تعليقه في جملته وعلاقته التبادلية مع ما يكون معه جملة، والسياق العام هو النص كلّه فالكلمة في نصّ يكون لها دلالة تختلف عن دلالتها في نصّ آخر، وبهذا ينبني المعنى ويتكامل[7].

    لا يترك الجرجاني الأمر مبهمًا بل يسرد مجموعة من الوجوه التي يقوم عليها النظم وتركيب الجمل في الكلام، فيقول: «وذلك أنّا لا نعلم شيئًا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كلّ باب وفروقه، فينظر في (الخبر) إلى الوجوه التي تراها في قولك: (زيد منطلق) و(زيد ينطلق)، و(ينطلق زيد) و(منطلق زيد)، و(زيد المنطلق) و(المنطلق زيد) و(زيد هو المنطلق)، و(زيد هو منطلق). وفي (الشرط والجزاء)...، وينظر في الجمل التي تُسرَد فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل؛ ثم يعرف فيما حقّه الوصل موضع (الواو) من موضع (الفاء)، وموضع (الفاء) من موضع (ثُم)، وموضع (أو) من موضع (أَمْ)، وموضع (لكنْ) من موضع (بل). ويتصرف في التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير في الكلام كلّه، وفي الحذف والتكرار، والإضمار والإظهار، فيصيب من ذلك مكانه، ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغي له»[8].

    ولذلك نجد الدكتور تمام حسان يقول: «لقد كانت مبادرة العلّامة عبد القاهر الجرجاني -رحمه الله- بدراسة النظم وما يتصل به من بناء وترتيب وتعليق من أكبر الجهود التي بذلتها الثقافة العربية قيمةً في سبيل إيضاح المعنى الوظيفي في السياق والتركيب»[9].

    ويقول عبد الرحمن إكيدر: «إنّ تحليل النصّ ودراسة اتساقه حسب قرائن التعليق المعنوية تسمح بربط الصلة وإقامة العلاقة بين كلّ جزء من أجزاء السياق، ليس فقط في رصد إطار علاقة كلمة بأخرى داخل الجملة، بل أيضًا تتبع علاقة جملة بأخرى في إطار استمرارية خطيّة نصيّة، تجعل من النصّ نسيجًا من الكلمات والجمل تتعلَّق بعضها ببعض»[10].

    وبذلك يظهر أننا عندما نراعي التركيب وطريقته في فهم النصّ فإننا بذلك نكون قد سعينا إلى القراءة النسقية التي تستحضر مجموعة من المعطيات اللغوية (النحو والبلاغة) والعلاقات السياقية بين أجزاء النصّ، من أجل تحقيق الفهم المتكامل المفضي إلى الانسجام والبنائية، حيث نجد تعالقًا كبيرًا وترابطًا وشيجًا بين التركيب والسياق والنظم والمناسبة والتي هي أمور رئيسة يجب مراعاتها في الوصول لانسجام الخطاب في النصّ:

    التركيب والسياق:

    تستمد دلالة السياق القرآني أهميتها من كونها تفسيرًا للقرآن بالقرآن نفسه، حيث إنها بيان المعنى من خلال تتابع المفردات والجمل والتراكيب القرآنية المترابطة، بل إنّ سياق الآية وسياق المقطع من أعلى تفسير القرآن بالقرآن، لأنه في محلّ واحد[11].

    تكمن علاقة التركيب بالسياق باعتبار السياق إطارًا عامًّا تنتظم فيه عناصر النصّ ووحداته اللغوية، ومقياسًا تتصل بواسطته الجمل فيما بينها وتترابط، وبيئة لغوية وتداولية ترعى مجموع العناصر المعرفية التي يقدمها النصّ للقارئ.

    ويضبط السياق «حركات الإحالة بين عناصر النصّ، فلا يفهم معنى كلمة أو جملة إلّا بوصلها بالتي قبلها أو بعدها داخل إطار السياق...، وإن التحليل بالسياق يعدُّ وسيلة من بين وسائل تصنيف المدلولات؛ لذلك يتعين عرض اللفظ القرآني على موقعه لفهم معناه ودفع المعاني غير المرادة»[12]، وبهذا المعنى فإن السياق «يتسع ليشمل ما هو مكاني زمني وموضوعي ومقاصدي وتاريخي، لكن الألصق بالتركيب هو اللغوي، وهو دراسة النصّ القرآني من خلال علاقات ألفاظه بعضها ببعض والأدوات المستعملة للربط بين هذه الألفاظ، وما يترتب على تلك العلائق من دلالات جزئية وكلية»[13].

    فالسياق متّجه إذن إلى المعنى بالكلية، «والنظم متّجه إلى كيفية صياغته في الجملة، ولماذا جيء به على نحوٍ دون غيره. فمعرفة نظم الآية وأسراره البيانية، مساعدة على معرفة سياقها. كما أن سياقها مساعد على معرفة دقائق نظمها، فلأن تدرك نكتة التعريف والتنكير والمجاز من الحقيقة في نظم قرآني لا بد من معرفة سياق الآية الذي هو موضوعها والمراد من الخطاب بها، كما أن تحليل نظمها والعلاقات بين مفردات جملها مساعد على معرفة سياقها، فالعلاقة إذن تلازمية»[14].

    التركيب والمناسبة:

    تكمن أيضًا علاقة التركيب بالمناسبة؛ «لأن المناسبة ترتبط بكلّ المباحث اللغوية والنحوية والبلاغية التي تعنى بالعلاقات الكبرى بين أجزاء النصّ، ومن شأن الدراسة النصيّة أنْ تُجنِّب النصّ القرآني القراءة التجزيئية، وتقدِّم قراءة جامعة تنتظم فيها الكلمات والآيات والسور في سلك واحد، وتنتظم فيه المعاني والدلالات والمقاصد في أصلٍ واحد، فيبدو النصّ القرآني كله قطعة واحدة يكون فيها الكلام متحدرًا تحدُّر الماء المنسجم، سهولة سبك وعذوبة ألفاظ وجمع معانٍ»[15].

    التركيب والنظم:

    وذلك من خلال ما أشار إليه الجرجاني قائلًا: «وجملة الأمر أنه لا يكون ترتيبٌ في شيء حتى يكون هناك قصدٌ إلى صورة وصفة، إن لم يُقَدَّم فيه ما قُدِّم، ولو يؤخَّر ما أُخِّر، وبُدِئ بالذي ثُنِّي به، أو ثُنِّي بالذي ثُلِّث به، لم تحصل لك تلك الصورة وتلك الصفة. وإذا كان كذلك، فينبغي أن تنظر إلى الذي يقصد واضعُ الكلام أن يحصل له من الصورة والصفة»[16].

    وفي ضوء هذه الأهمية المنهجية لأمر مراعاة التركيب في فهم النصوص وبيان اتساقها نجد أن العلماء اعتنوا بالتنبيه عليها في فهم النصّ القرآني وتفسيره، فقد سجّلوا تقريراتٍ نفيسة وأنظارًا معتبرة في هذا السياق، وضرورة العناية بتأمّل طرائق التراكيب القرآنية في فهم انسجام الخطاب القرآني واتساق نظمه، من ذلك:

    قول الزركشي: «والذي ينبغي في كلّ آية أن يبحث أول كلّ شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟»[17]، وقال أيضًا: «فنقول: النظر في التفسير هو بحسب أفراد الألفاظ وتراكيبها، وأمّا بحسب التركيب فمن وجوه أربعة:

    الأول: باعتبار كيفية التراكيب بحسب الإعراب ومقابله من حيث إنها مؤدّية أصل المعنى، وهو ما دلّ عليه المركّب بحسب الوضع، وذلك متعلّق بعلم النحو.

    الثاني: باعتبار كيفية التركيب من جهة إفادته معنى المعنى، أعني لازم أصل المعنى الذي يختلف باختلاف مقتضى الحال في تراكيب البُلَغاء، وهو الذي يتكلَّف بإبراز محاسنه علم المعاني.

    الثالث: باعتبار طرق تأدية المقصود بحسب وضوح الدلالة وحقائقها ومراتبها، وباعتبار الحقيقة والمجاز، والاستعارة والكناية والتشبيه، وهو ما يتعلق بعلم البيان.

    والرابع: باعتبار الفصاحة اللفظية والمعنوية والاستحسان ومقابله، وهو يتعلّق بعلم البديع»[18].

    مستلهمًا هذه الرؤية وناسجًا على هذا المنوال، يقدّم الشيخ حسن حبنكة الميداني جهدًا معتبرًا في بيان كثير من القواعد المحققة للقراءة النسقية للخطاب القرآني، من ذلك عنايته بقضية التركيب تحقيقًا واستدلالًا، فيقول: «إنّ مثل الجمل القرآنية وما تحمل من معانٍ ودلالات كمثل حبّات نفيسات الجوهر، نُظِمَت في عِقد متكامل تمثله السورة القرآنية... والتوزيع في الحبّات أو الجواهر النفيسة توزيع فني بديع. والسلك الناظم لها أو الأرضية الجامعة لها أمر يُدْرَك بالفكر الثاقب، وقد لا يلاحظ في اللفظ ما يدلّ عليه. وذلك كما ندرِك التناسق والترابط في الأشكال الهندسية التي تنضّد على وفقها مجموعة من أنفَس الحجارة الكريمة في قطعة من الحُلِيّ، نادرة الصياغة، بديعة التنضيد. وعلى المتدبِّر العميق التفكير أن يكتشف ويحلّل ويُبرِز عناصر الترابط، ويضع أسهم التناسق والترابط بين النفائس الموزعة أبدع توزيع. ويتأكّد على المتدبِّر أن يكتشف الروابط الفكرية بين الجمل المقترنة، ولو كان كلّ منها يتحدّث عن حقيقة من الحقائق منفصلة في الظاهر عن الحقيقة الأخرى التي جاءت مقترنة بها في اللفظ»[19].

    ويقول ابن عاشور: «إنّ بلاغة الكلام لا تنحصر في أحوال تراكيبه اللفظية، بل تتجاوز إلى الكيفيات التي تؤدّى بها تلك التراكيب؛ فإنّ سكوت المتكلّم البليغ في جملة سكوتًا خفيفًا قد يفيد من التشويق إلى ما يأتي بعده ما يفيده إبهام بعض كلامه، ثم تعقيبه ببيانه، فإذا كان من مواقع البلاغة نحو الإتيان بلفظ الاستئناف البياني، فإنّ السكوت عند كلمة وتعقيبها بما بعدها يجعل ما بعدها بمنزلة الاستئناف البياني، مثاله قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}[النازعات: 15، 16]، فإنّ الوقف على قوله: {مُوسَى} يُحدِث في نفس السامع ترقُّبًا لما يبين حديث موسى، فإذا جاء بعده: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ}...إلخ، حصل البيان مع ما يحصل عند الوقف على كلمة :{مُوسَى} من قرينة من قرائن الكلام»[20].

    وكذا قال في موضع آخر: «إنّ القرآن الكريم يتضمّن من المعاني ما يحتاج إليه الناس في كلّ زمان ومكان، وإنّ بلاغة التركيب التي تعدُّ من أبرز سماته لهي ميدان خصب لاستمرارية عطاء القرآن دون نفاد، ومن دون شكّ فإن اللسان العربي يطاوع بشكلٍ كبيرٍ في تحقيق هذه المهمّة، من حيث القدرة الهائلة على تكثيف المغازي ورصد الدروس والعبر...، وإذ قد كان القرآن وحيًا من العلّام سبحانه وقد أراد أن يجعله آية على صدق رسوله وتحدَّى بلغاء العرب بمعارضة أقصر سورة منه...، فقد نسج نظمه نسجًا بالغًا منتهى ما تسمح به اللغة العربية من الدقائق واللطائف -لفظًا ومعنى- بما يفي بأقصى ما يراد بلاغة إلى المرسل إليهم، فجاء القرآن على أسلوب أبدع مما كانوا يعهدون وأعجب...، فالقرآن من جانب إعجازه يكون أكثر معاني من المعاني المعتادة التي يودِعها البلغاء في كلامهم؛ وهو لكونه كتابَ تشريع وتأديب وتعليم كان حقيقًا بأن يودَع فيه من المعاني والمقاصد أكثر ما تحتمله الألفاظ، في أقلّ ما يمكن من المقدار، بحسب ما تسمح به اللغة الوارد هو بها، التي هي أسمح اللغات بهذه الاعتبارات؛ ليحصل تمام المقصود من الإرشاد الذي جاء لأجله في جميع نواحي الهدى...، والقرآن ينبغي أن يودَع من المعاني كلَّ ما يحتاج السامعون إلى عِلْمه، وكلَّ ما له حظ في البلاغة، سواء كانت متساوية أم متفاوتة في البلاغة إذا كان المعنى الأعلى مقصودًا وكان ما هو أدنى منه مرادًا معه لا مرادًا دونه، سواء كانت دلالة التركيب عليها متساوية في الاحتمال والظهور، أم كانت متفاوتة بعضها أظهر من بعض، ولو أنْ تبلغ حدَّ التأويل وهو حمل اللفظ على المعنى المحتمل المرجوح»[21].

    نخلص مما سبق بيانه وتحريره ومن التأمّل العميق في النقول والاقتباسات المذكورة أنّ مراعاة التركيب الذي يستخدمه النصّ أمر بالغ الأهمية وضرورة علمية وحاجة منهجية؛ لأنه يسهم في تحقيق:

    - بيان اتساق الدلالات في النصّ وتساوقها في الخطاب، والذي يبرز تماسُك النصّ واتساق نظمه.

    - ثراء المعنى، ولكن بضوابط علميّة وليس على طريقة النصّ المفتوح عند أصحاب القراءات الحداثية الخالية من كلّ قيد أو ضابط.

    كما أنه يمكن أن يسهم وأن يكون عاملًا مساعدًا في:

    - ردّ التأويلات المتعسفة التي ينبو عنها التركيب وتجافيها قواعد اللغة؛ لأن عند مراعاة التركيب نأخذ كلّ المباحث اللغوية التي يستدعيها المقام، فيفضي ذلك إلى تلمّس المعنى على هدى وبصيرة.

    - تجنب الاستدلالات المبتورة والممزوعة الأوصال عن المعاني السابقة واللاحقة، فذلك مدعاة إلى اطّراح توهُّم وإيهام مناقضة النصوص الشرعية بعضها لبعض.

    - المفاضلة والترجيح بين المعاني ليس بناء على الذوق والتشهِّي، ولكن بقواعد العلم المعتبرة.

    وإذا كان ما يعنينا هاهنا بقوة هو أهمية مراعاة التركيب وفهمه، وكيف أنه يُعِين بقوة على تحقيق الانسجام في الخطاب القرآني، فإننا سنحاول تتبُّع هذا بصورة تطبيقية في المقالتين التاليتين، بحيث نعمِّق النظر لأهمية مراعاة استحضار نسق التركيب في فهم انسجام الخطاب القرآني.

    وسوف نجعل اشتغالنا التطبيقي مأطورًا بتفسير ابن عاشور (التحرير والتنوير) كونه من أبرز من اعتنى بتتبُّع أمر التركيب في تناول التفسير، وحلّ إشكالات النظم والإجابة عنها بصورة علميّة من خلال تحليلات التراكيب التي يستخدمها النصّ، ويظهر ذلك من إلحاحه على تلك القضية (كما مرّ في النقول التي أوردناها عنه قبل، وكذلك يظهر من بيان خطته في التفسير، والتي أوضح أن قوامها على أمرين):

    - تفسير التراكيب القرآنية جريًا على تبيُّن معاني الكلمات بحسب استعمال اللغة العربية، ثم أخذ المعاني من دلالات الألفاظ والتراكيب وخواص البلاغة.

    - استخلاص المعاني المدلولة منها بدلالات المطابقة والتضمُّن والالتزام، مما يسمح به النظم البليغ، ولو تعددت المحامل والاحتمالات[22].

    وإنّ الناظر في هذين الأمرين يجد أن التحليل عند ابن عاشور للنصّ القرآني يأتي تركيبيًّا، أي: إنه يقوم على دراسةِ البنيات المتحكمة في إنتاج المعنى، وتفكيكِ أنساق الجملة، ثم ربطِ الأجزاء بعضها ببعض، وكشفِ العلاقة بين الكلمات والمركبات، وذلك بمراعاة مجموعة من صيغ الكلام ومحدّداته من تقديم وتأخير وحذف وعطف واستئناف واعتراض، والتدقيق في القرائن والسياق السابق واللاحق، لإدراك دلالات كلّ من الأمر والنهي والاستفهام وما يفيد العموم والخصوص وشبه ذلك، وهو الأمر الذي جعله من أبرز التفاسير التي تهتم بحلّ إشكالات النظم وتبيُّن كيفيات اتساقه من خلال التعمُّق في تحليل التراكيب العربية التي توسلها النصّ في إنتاج خطابه.

    ونظرًا لاتساع أمر الأساليب والتراكيب العربية التي استخدمها القرآن فإننا سوف نتناول في هذه المحاولة الاستئناف البياني والجملة المعترضة؛ وإنّ من موجبات اختيارهما والاقتصار عليهما ما يأتي:

    أولًا: تعذُّر الإحاطة هنا بكلّ قضايا وزوايا الأساليب التي استخدمها القرآن.

    ثانيًا: حجم حضور عناية ابن عاشور ببيان اتساق النظم في القرآن من خلال هذين الأسلوبين في القرآن إذا ما قورن بغيره كما هو بيِّن لمن يطالِع تفسيره.

    ثالثًا: أن ظاهرة الفصل والوصل في القرآن الكريم من أكثر الظواهر التي قد يستشكل معها أمر النظم وترتيب التناسق الدلالي في النصّ، ومن ثم يكون لحسن فهمها أثر مهم في بيان دلالة النصّ القرآني بدقّة وبكلّ أبعاده، فقد يربط بين جملتين أو يفصل بينهما؛ وذلك من أجلِ الإحاطة بجزئيات النصّ كلّها وعرضها في نسق لافت وبأشكال متعدّدة، من دون فوات في الدلالة، وفي هذا مراعاة لإثارة عقول المخاطبين بمختلف درجات استيعابهم وإثارة نفوسهم ونزعاتهم من أجل الامتثال للخالق[23]، ويعدُّ هذا المبحث «من المسائل الدقيقة في علم التراكيب، بل من أعقدها... فهو في عرف البلاغيين: العلم بمواضع العطف والاستئناف والتهدي إلى كيفية إيقاع حروف العطف في مواقعها أو تركها عند عدم الحاجة إليها»[24].

    كما أننا ومن خلال الاستئناف البياني والجملة المعترضة نستطيع أن ندلّل كذلك على أن الدراسة البيانية ليست فقط من أجل الكشف عن الجوانب الفنية في القرآن الكريم، أو المظاهر الإعجازية، وإنما لها تعلُّق وثيق بتلمُّس المعنى والمفاضلة بين الدلالات.

    خاتمة:

    ظهر لنا من خلال ما سبق أهمية أمر مراعاة التركيب في تحقيق الانسجام والتسلسل الدلالي للنصوص، وأن عناية العلماء بالتنبيه على مراعاة التركيب في التعاطي مع القرآن الكريم وبيان انسجام أجزائه كانت عناية كبيرة وموغلة في القدم في التراث الإسلامي، وذلك لعميق أثر مراعاة التركيب وطريقته في التعامل مع النصّ القرآني وتحقيق انسجامه وتتابعه الدلالي، وهو ما سنحاول أن نتتبعه بصورة تطبيقية في المقالين التاليين مع مسألتي الاستئناف البياني والجملة المعترضة في القرآن؛ لنتأمل كيف عالج ابن عاشور في تفسيره انسجام النصّ وبيّنه من خلال تعمُّقه في تحليل هذين التركيبين، وكيف استطاع كذلك من خلال تحليلاته أن يبرز أغراضًا لهما في الاستعمال تكشف عن روعة التركيب في ساحة النصّ القرآني.


    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * موقع تفسير: (https://2u.pw/zHdVv).
    [1] خصائص تراكيب اللغة العربية، د/ عبد الله علي علي الثوري.
    [2] تحاليل أسلوبية، محمد الهادي الطرابلسي، ص128.
    [3] دلائل الإعجاز، ص49-50.
    [4] دلائل الإعجاز، ص44-46.
    [5] الأسس الجمالية للإيقاع البلاغي في العصر العباسي، ابتسام أحمد حمدان، ص71.
    [6] دلائل الاعجاز، ص53.
    [7] النحو والدلالة، ص16.
    [8] دلائل الإعجاز، ص81-82.
    [9] اللغة العربية معناها ومبناها، ص18.
    [10] دور التعليق في تحديد السياق النصي عند عبد القاهر الجرجاني، مجلة جيل للدراسات الأدبية والفكرية، عدد 38.
    [11] أثر السياق القرآني في الترجيح عند المفسرين، ص20.
    [12] الخطاب القرآني، عبد الرحمن بودرع، ص181.
    [13] الخطاب القرآني، ص182.
    [14] نظرية النظم عند الجرجاني وأثرها في تفسير القرآن الكريم، بحث ضمن المؤتمر العالمي الثالث للباحثين في القرآن وعلومه، الطيب الشطاب، ص801.
    [15] الخطاب القرآني، عبد الرحمن بودرع، ص134.
    [16] دلائل الإعجاز، ص364.
    [17] البرهان في علوم القرآن، بدر الدين الزركشي (المتوفى: 794هـ) تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة: الأولى، 1376هـ-1957م، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، ج1، ص37.
    [18] البرهان، الزركشي، ج2، ص174.
    [19] قواعد التدبّر الأمثل للميداني.
    [20] التحرير والتنوير، (1/ 117).
    [21] التحرير والتنوير، (1/ 93).
    [22] أليس الصبح بقريب، التعليم العربي الإسلامي، دراسة تاريخية وآراء إصلاحية، محمد الطاهر بن عاشور، دار السلام- القاهرة، ط1، 2006م، ص164.
    [23] الدلالة التركيبية في كتابي (معاني القرآن لأبي جعفر النحاس، ومعاني القرآن للفراء)، ص299.
    [24] الدلالة التركيبية في كتابي (معاني القرآن لأبي جعفر النحاس، ومعاني القرآن للفراء)، ص299.
    مراعاة التركيب وأثره في بيان انسجام نظم القرآن* ابن عاشور أنموذجًا (1-3) الكاتب : مصطفى فاتيحي درَج القرآن الكريم على استعمال الأساليب والتراكيب العربية؛ كونه نزل على لغة العرب، وقد تبارت أقلام العلماء قديمًا وحديثًا في تفسير القرآن وفهمه وتناوُل ما يكتنزه كتاب الله من أسرار لغوية ومكنونات دلالية، وكذلك ما يحمله من مناسبات وارتباطات بين أجزاء تراكيبه، وقد تباينت نتائجهم وتقريراتهم أحيانًا في بيان وجوه الارتباط بين أجزاء النَّظْم وتأمّل المناسبات بينها بحسب أدوات البحث والتنقيب المستعملة، وحسب تفاوت القرائح والملَكات ودرجات العمق في تأمّل النظم وطرائق التراكيب العربية التي استخدمها النصّ، وتحليل هذه التراكيب ووجوه التعالق بينها. ولا شك أنّ العمق في فهم التراكيب العربية له أثرٌ بارزٌ جدًّا في فهم انسجام النصّ ذاته، ومسالك اتساق خطابه، وكيفيات انتقاله من حال لآخر، وبيان أسباب استعماله لأسلوب معيّن في موطن معين، وأن هذا الأسلوب لا يمثل قطعًا دلاليًّا بقدر ما يطرح ثراءً في المعنى يتحقّق به انسجام النصّ على صورة بديعة، ويفضي لتكامله واتساق نظمه؛ ومن هاهنا فإننا سنحاول في هذه المقالات أن نعالج هذه القضية، ونبرز أثر التعمق في فهم التراكيب القرآنية في عملية الفهم للخطاب القرآني، وبيان درجة الانسجام الحاصلة في هذا الخطاب. إنّ أساليب التركيب التي استعملها القرآن تشمل الكثير من الأمور، ويندرج في طيّاتها العديد من المسائل النحوية والبيانية التي يمكن أن يتأتّى عليها نسق بناء الجمل والعبارات في النصّ، غير أننا سنُعنى في معالجتنا بالتراكيب والأساليب البيانية فقط. كما أن اشتغالنا سيكون مأطورًا بقضيتي (الاستئناف البياني، والجملة المعترضة في القرآن) بشكلٍ خاصّ لأمور سيأتي ذكر مسوغاتها، بحيث نبيّن أثر التعمّق في تحليلهما في بيان اتساق النصّ وانسجام نظمه، وذلك من خلال النظر في تفسير ابن عاشور وتطبيقاته لكثرة عنايته بهذا الأمر في التفسير على ما سيأتي توضيحه. وقبل الشروع في ذلك الغرض فإننا سنحاول أولًا أن نسلِّط الضوء على أهمية مراعاة التركيب في فهم انسجام الخطاب القرآني واتساق نظمه، وبيانه على النحو الآتي: مراعاة التركيب وأهميته في فهم انسجام الخطاب القرآني: التركيب يعني: الجملة المركبة من عدد من الألفاظ وفق نسق معيّن، ويلزم أن يؤدي هذا التركيب معنى مفيدًا أو مقصودًا، وفي اللغة العربية نسميه الجملة، التي تنقسم إلى جملة اسمية وجملة فعلية، ولها استخدامات عديدة حسب القصد المراد منها، مثل: الجملة الابتدائية، والجملة الإخبارية، والجملة البسيطة، والجملة المركّبة، وجملة الحال، وجملة الصلة، وغيرها. والتركيب اللغوي «لا يستقيم أمره إلّا وفق قواعد وأسس خاصّة، هي التي نطلق عليها القواعد النحوية، التي تضبط تكوين الجملة في اللغة العربية وغيرها من اللغات»[1]. ومن البديهي أن يكون «أساس التركيب في كلّ كلام هو أساس التعبير، لكن عندما تكون التراكيب على تنوّع موادها راجعة إلى منوال واحد أو منوالات متعدّدة بتعدّد أساليب التعبير الغالبة... فإن لُحمة مقالية مخصوصة تحدث بين التركيب والتعبير، فتتحوّل بمقتضاها العلاقة بينهما من علاقة عضوية اعتباطية إلى علاقة طبيعية مبرّرة، تعكس لُحمة مقامية وترقى بالكلام»[2]. لذلك يقول الجرجاني: «فليس الغرض بنظم الكلم أنْ توالت ألفاظها في النطق، بل أنْ تناسقَت دلالاتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل»[3]. ويقول أيضًا: «فينبغي أن يُنظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارًا وأمرًا ونهيًا واستخبارًا وتعجبًا، وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلّا بضم كلمة إلى كلمة وبناء لفظة على لفظة...، وهل يقع في وهمٍ وإنْ جُهِد أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم؟... وهل تجد أحدًا يقول: (هذه اللفظة فصيحة)، إلّا وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها وفضل مؤانستها لأخواتها؟»[4]، ثم يضيف: «فالألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، إن الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، وما أشبه ذلك مما لا تعلُّق له بصريح اللفظ». ومن هاهنا فإن النظم في جوهره «يقوم على التلازم والانسجام بين الأجزاء وائتلافها على نحوٍ يوفّر التماسك التركيبي، ويجعل أيّ تغيير في بناء النصّ يؤدي إلى تداعيه أو إلى تغيير معانيه وسماته»[5]. يقول الجرجاني في موضع آخر وهو يرافع عن أهمية نظم الكلام وتركيبه: «واعلم أنك إذا رجعتَ إلى نفسك علمتَ علمًا لا يعترضه شك أن لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يُعلَّق بعضُها ببعض، وينبني بعضها على بعض وتُجعَل هذه بسبب تلك؛ هذا ما لا يجهله عاقل ولا يخفى على أحد من الناس... إن اللفظ تبع للمعنى في النظم، وإن الكلمة تترتَّب في النطق بسبب ترتُّب معانيها في النفس»[6]. ومن هنا لا يصحّ في التفسير أن يؤخذ اللفظ وحده معزولًا عن سياقه الخاصّ والعام، والسياق الخاصّ هو تعليقه في جملته وعلاقته التبادلية مع ما يكون معه جملة، والسياق العام هو النص كلّه فالكلمة في نصّ يكون لها دلالة تختلف عن دلالتها في نصّ آخر، وبهذا ينبني المعنى ويتكامل[7]. لا يترك الجرجاني الأمر مبهمًا بل يسرد مجموعة من الوجوه التي يقوم عليها النظم وتركيب الجمل في الكلام، فيقول: «وذلك أنّا لا نعلم شيئًا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كلّ باب وفروقه، فينظر في (الخبر) إلى الوجوه التي تراها في قولك: (زيد منطلق) و(زيد ينطلق)، و(ينطلق زيد) و(منطلق زيد)، و(زيد المنطلق) و(المنطلق زيد) و(زيد هو المنطلق)، و(زيد هو منطلق). وفي (الشرط والجزاء)...، وينظر في الجمل التي تُسرَد فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل؛ ثم يعرف فيما حقّه الوصل موضع (الواو) من موضع (الفاء)، وموضع (الفاء) من موضع (ثُم)، وموضع (أو) من موضع (أَمْ)، وموضع (لكنْ) من موضع (بل). ويتصرف في التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير في الكلام كلّه، وفي الحذف والتكرار، والإضمار والإظهار، فيصيب من ذلك مكانه، ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغي له»[8]. ولذلك نجد الدكتور تمام حسان يقول: «لقد كانت مبادرة العلّامة عبد القاهر الجرجاني -رحمه الله- بدراسة النظم وما يتصل به من بناء وترتيب وتعليق من أكبر الجهود التي بذلتها الثقافة العربية قيمةً في سبيل إيضاح المعنى الوظيفي في السياق والتركيب»[9]. ويقول عبد الرحمن إكيدر: «إنّ تحليل النصّ ودراسة اتساقه حسب قرائن التعليق المعنوية تسمح بربط الصلة وإقامة العلاقة بين كلّ جزء من أجزاء السياق، ليس فقط في رصد إطار علاقة كلمة بأخرى داخل الجملة، بل أيضًا تتبع علاقة جملة بأخرى في إطار استمرارية خطيّة نصيّة، تجعل من النصّ نسيجًا من الكلمات والجمل تتعلَّق بعضها ببعض»[10]. وبذلك يظهر أننا عندما نراعي التركيب وطريقته في فهم النصّ فإننا بذلك نكون قد سعينا إلى القراءة النسقية التي تستحضر مجموعة من المعطيات اللغوية (النحو والبلاغة) والعلاقات السياقية بين أجزاء النصّ، من أجل تحقيق الفهم المتكامل المفضي إلى الانسجام والبنائية، حيث نجد تعالقًا كبيرًا وترابطًا وشيجًا بين التركيب والسياق والنظم والمناسبة والتي هي أمور رئيسة يجب مراعاتها في الوصول لانسجام الخطاب في النصّ: التركيب والسياق: تستمد دلالة السياق القرآني أهميتها من كونها تفسيرًا للقرآن بالقرآن نفسه، حيث إنها بيان المعنى من خلال تتابع المفردات والجمل والتراكيب القرآنية المترابطة، بل إنّ سياق الآية وسياق المقطع من أعلى تفسير القرآن بالقرآن، لأنه في محلّ واحد[11]. تكمن علاقة التركيب بالسياق باعتبار السياق إطارًا عامًّا تنتظم فيه عناصر النصّ ووحداته اللغوية، ومقياسًا تتصل بواسطته الجمل فيما بينها وتترابط، وبيئة لغوية وتداولية ترعى مجموع العناصر المعرفية التي يقدمها النصّ للقارئ. ويضبط السياق «حركات الإحالة بين عناصر النصّ، فلا يفهم معنى كلمة أو جملة إلّا بوصلها بالتي قبلها أو بعدها داخل إطار السياق...، وإن التحليل بالسياق يعدُّ وسيلة من بين وسائل تصنيف المدلولات؛ لذلك يتعين عرض اللفظ القرآني على موقعه لفهم معناه ودفع المعاني غير المرادة»[12]، وبهذا المعنى فإن السياق «يتسع ليشمل ما هو مكاني زمني وموضوعي ومقاصدي وتاريخي، لكن الألصق بالتركيب هو اللغوي، وهو دراسة النصّ القرآني من خلال علاقات ألفاظه بعضها ببعض والأدوات المستعملة للربط بين هذه الألفاظ، وما يترتب على تلك العلائق من دلالات جزئية وكلية»[13]. فالسياق متّجه إذن إلى المعنى بالكلية، «والنظم متّجه إلى كيفية صياغته في الجملة، ولماذا جيء به على نحوٍ دون غيره. فمعرفة نظم الآية وأسراره البيانية، مساعدة على معرفة سياقها. كما أن سياقها مساعد على معرفة دقائق نظمها، فلأن تدرك نكتة التعريف والتنكير والمجاز من الحقيقة في نظم قرآني لا بد من معرفة سياق الآية الذي هو موضوعها والمراد من الخطاب بها، كما أن تحليل نظمها والعلاقات بين مفردات جملها مساعد على معرفة سياقها، فالعلاقة إذن تلازمية»[14]. التركيب والمناسبة: تكمن أيضًا علاقة التركيب بالمناسبة؛ «لأن المناسبة ترتبط بكلّ المباحث اللغوية والنحوية والبلاغية التي تعنى بالعلاقات الكبرى بين أجزاء النصّ، ومن شأن الدراسة النصيّة أنْ تُجنِّب النصّ القرآني القراءة التجزيئية، وتقدِّم قراءة جامعة تنتظم فيها الكلمات والآيات والسور في سلك واحد، وتنتظم فيه المعاني والدلالات والمقاصد في أصلٍ واحد، فيبدو النصّ القرآني كله قطعة واحدة يكون فيها الكلام متحدرًا تحدُّر الماء المنسجم، سهولة سبك وعذوبة ألفاظ وجمع معانٍ»[15]. التركيب والنظم: وذلك من خلال ما أشار إليه الجرجاني قائلًا: «وجملة الأمر أنه لا يكون ترتيبٌ في شيء حتى يكون هناك قصدٌ إلى صورة وصفة، إن لم يُقَدَّم فيه ما قُدِّم، ولو يؤخَّر ما أُخِّر، وبُدِئ بالذي ثُنِّي به، أو ثُنِّي بالذي ثُلِّث به، لم تحصل لك تلك الصورة وتلك الصفة. وإذا كان كذلك، فينبغي أن تنظر إلى الذي يقصد واضعُ الكلام أن يحصل له من الصورة والصفة»[16]. وفي ضوء هذه الأهمية المنهجية لأمر مراعاة التركيب في فهم النصوص وبيان اتساقها نجد أن العلماء اعتنوا بالتنبيه عليها في فهم النصّ القرآني وتفسيره، فقد سجّلوا تقريراتٍ نفيسة وأنظارًا معتبرة في هذا السياق، وضرورة العناية بتأمّل طرائق التراكيب القرآنية في فهم انسجام الخطاب القرآني واتساق نظمه، من ذلك: قول الزركشي: «والذي ينبغي في كلّ آية أن يبحث أول كلّ شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟»[17]، وقال أيضًا: «فنقول: النظر في التفسير هو بحسب أفراد الألفاظ وتراكيبها، وأمّا بحسب التركيب فمن وجوه أربعة: الأول: باعتبار كيفية التراكيب بحسب الإعراب ومقابله من حيث إنها مؤدّية أصل المعنى، وهو ما دلّ عليه المركّب بحسب الوضع، وذلك متعلّق بعلم النحو. الثاني: باعتبار كيفية التركيب من جهة إفادته معنى المعنى، أعني لازم أصل المعنى الذي يختلف باختلاف مقتضى الحال في تراكيب البُلَغاء، وهو الذي يتكلَّف بإبراز محاسنه علم المعاني. الثالث: باعتبار طرق تأدية المقصود بحسب وضوح الدلالة وحقائقها ومراتبها، وباعتبار الحقيقة والمجاز، والاستعارة والكناية والتشبيه، وهو ما يتعلق بعلم البيان. والرابع: باعتبار الفصاحة اللفظية والمعنوية والاستحسان ومقابله، وهو يتعلّق بعلم البديع»[18]. مستلهمًا هذه الرؤية وناسجًا على هذا المنوال، يقدّم الشيخ حسن حبنكة الميداني جهدًا معتبرًا في بيان كثير من القواعد المحققة للقراءة النسقية للخطاب القرآني، من ذلك عنايته بقضية التركيب تحقيقًا واستدلالًا، فيقول: «إنّ مثل الجمل القرآنية وما تحمل من معانٍ ودلالات كمثل حبّات نفيسات الجوهر، نُظِمَت في عِقد متكامل تمثله السورة القرآنية... والتوزيع في الحبّات أو الجواهر النفيسة توزيع فني بديع. والسلك الناظم لها أو الأرضية الجامعة لها أمر يُدْرَك بالفكر الثاقب، وقد لا يلاحظ في اللفظ ما يدلّ عليه. وذلك كما ندرِك التناسق والترابط في الأشكال الهندسية التي تنضّد على وفقها مجموعة من أنفَس الحجارة الكريمة في قطعة من الحُلِيّ، نادرة الصياغة، بديعة التنضيد. وعلى المتدبِّر العميق التفكير أن يكتشف ويحلّل ويُبرِز عناصر الترابط، ويضع أسهم التناسق والترابط بين النفائس الموزعة أبدع توزيع. ويتأكّد على المتدبِّر أن يكتشف الروابط الفكرية بين الجمل المقترنة، ولو كان كلّ منها يتحدّث عن حقيقة من الحقائق منفصلة في الظاهر عن الحقيقة الأخرى التي جاءت مقترنة بها في اللفظ»[19]. ويقول ابن عاشور: «إنّ بلاغة الكلام لا تنحصر في أحوال تراكيبه اللفظية، بل تتجاوز إلى الكيفيات التي تؤدّى بها تلك التراكيب؛ فإنّ سكوت المتكلّم البليغ في جملة سكوتًا خفيفًا قد يفيد من التشويق إلى ما يأتي بعده ما يفيده إبهام بعض كلامه، ثم تعقيبه ببيانه، فإذا كان من مواقع البلاغة نحو الإتيان بلفظ الاستئناف البياني، فإنّ السكوت عند كلمة وتعقيبها بما بعدها يجعل ما بعدها بمنزلة الاستئناف البياني، مثاله قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}[النازعات: 15، 16]، فإنّ الوقف على قوله: {مُوسَى} يُحدِث في نفس السامع ترقُّبًا لما يبين حديث موسى، فإذا جاء بعده: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ}...إلخ، حصل البيان مع ما يحصل عند الوقف على كلمة :{مُوسَى} من قرينة من قرائن الكلام»[20]. وكذا قال في موضع آخر: «إنّ القرآن الكريم يتضمّن من المعاني ما يحتاج إليه الناس في كلّ زمان ومكان، وإنّ بلاغة التركيب التي تعدُّ من أبرز سماته لهي ميدان خصب لاستمرارية عطاء القرآن دون نفاد، ومن دون شكّ فإن اللسان العربي يطاوع بشكلٍ كبيرٍ في تحقيق هذه المهمّة، من حيث القدرة الهائلة على تكثيف المغازي ورصد الدروس والعبر...، وإذ قد كان القرآن وحيًا من العلّام سبحانه وقد أراد أن يجعله آية على صدق رسوله وتحدَّى بلغاء العرب بمعارضة أقصر سورة منه...، فقد نسج نظمه نسجًا بالغًا منتهى ما تسمح به اللغة العربية من الدقائق واللطائف -لفظًا ومعنى- بما يفي بأقصى ما يراد بلاغة إلى المرسل إليهم، فجاء القرآن على أسلوب أبدع مما كانوا يعهدون وأعجب...، فالقرآن من جانب إعجازه يكون أكثر معاني من المعاني المعتادة التي يودِعها البلغاء في كلامهم؛ وهو لكونه كتابَ تشريع وتأديب وتعليم كان حقيقًا بأن يودَع فيه من المعاني والمقاصد أكثر ما تحتمله الألفاظ، في أقلّ ما يمكن من المقدار، بحسب ما تسمح به اللغة الوارد هو بها، التي هي أسمح اللغات بهذه الاعتبارات؛ ليحصل تمام المقصود من الإرشاد الذي جاء لأجله في جميع نواحي الهدى...، والقرآن ينبغي أن يودَع من المعاني كلَّ ما يحتاج السامعون إلى عِلْمه، وكلَّ ما له حظ في البلاغة، سواء كانت متساوية أم متفاوتة في البلاغة إذا كان المعنى الأعلى مقصودًا وكان ما هو أدنى منه مرادًا معه لا مرادًا دونه، سواء كانت دلالة التركيب عليها متساوية في الاحتمال والظهور، أم كانت متفاوتة بعضها أظهر من بعض، ولو أنْ تبلغ حدَّ التأويل وهو حمل اللفظ على المعنى المحتمل المرجوح»[21]. نخلص مما سبق بيانه وتحريره ومن التأمّل العميق في النقول والاقتباسات المذكورة أنّ مراعاة التركيب الذي يستخدمه النصّ أمر بالغ الأهمية وضرورة علمية وحاجة منهجية؛ لأنه يسهم في تحقيق: - بيان اتساق الدلالات في النصّ وتساوقها في الخطاب، والذي يبرز تماسُك النصّ واتساق نظمه. - ثراء المعنى، ولكن بضوابط علميّة وليس على طريقة النصّ المفتوح عند أصحاب القراءات الحداثية الخالية من كلّ قيد أو ضابط. كما أنه يمكن أن يسهم وأن يكون عاملًا مساعدًا في: - ردّ التأويلات المتعسفة التي ينبو عنها التركيب وتجافيها قواعد اللغة؛ لأن عند مراعاة التركيب نأخذ كلّ المباحث اللغوية التي يستدعيها المقام، فيفضي ذلك إلى تلمّس المعنى على هدى وبصيرة. - تجنب الاستدلالات المبتورة والممزوعة الأوصال عن المعاني السابقة واللاحقة، فذلك مدعاة إلى اطّراح توهُّم وإيهام مناقضة النصوص الشرعية بعضها لبعض. - المفاضلة والترجيح بين المعاني ليس بناء على الذوق والتشهِّي، ولكن بقواعد العلم المعتبرة. وإذا كان ما يعنينا هاهنا بقوة هو أهمية مراعاة التركيب وفهمه، وكيف أنه يُعِين بقوة على تحقيق الانسجام في الخطاب القرآني، فإننا سنحاول تتبُّع هذا بصورة تطبيقية في المقالتين التاليتين، بحيث نعمِّق النظر لأهمية مراعاة استحضار نسق التركيب في فهم انسجام الخطاب القرآني. وسوف نجعل اشتغالنا التطبيقي مأطورًا بتفسير ابن عاشور (التحرير والتنوير) كونه من أبرز من اعتنى بتتبُّع أمر التركيب في تناول التفسير، وحلّ إشكالات النظم والإجابة عنها بصورة علميّة من خلال تحليلات التراكيب التي يستخدمها النصّ، ويظهر ذلك من إلحاحه على تلك القضية (كما مرّ في النقول التي أوردناها عنه قبل، وكذلك يظهر من بيان خطته في التفسير، والتي أوضح أن قوامها على أمرين): - تفسير التراكيب القرآنية جريًا على تبيُّن معاني الكلمات بحسب استعمال اللغة العربية، ثم أخذ المعاني من دلالات الألفاظ والتراكيب وخواص البلاغة. - استخلاص المعاني المدلولة منها بدلالات المطابقة والتضمُّن والالتزام، مما يسمح به النظم البليغ، ولو تعددت المحامل والاحتمالات[22]. وإنّ الناظر في هذين الأمرين يجد أن التحليل عند ابن عاشور للنصّ القرآني يأتي تركيبيًّا، أي: إنه يقوم على دراسةِ البنيات المتحكمة في إنتاج المعنى، وتفكيكِ أنساق الجملة، ثم ربطِ الأجزاء بعضها ببعض، وكشفِ العلاقة بين الكلمات والمركبات، وذلك بمراعاة مجموعة من صيغ الكلام ومحدّداته من تقديم وتأخير وحذف وعطف واستئناف واعتراض، والتدقيق في القرائن والسياق السابق واللاحق، لإدراك دلالات كلّ من الأمر والنهي والاستفهام وما يفيد العموم والخصوص وشبه ذلك، وهو الأمر الذي جعله من أبرز التفاسير التي تهتم بحلّ إشكالات النظم وتبيُّن كيفيات اتساقه من خلال التعمُّق في تحليل التراكيب العربية التي توسلها النصّ في إنتاج خطابه. ونظرًا لاتساع أمر الأساليب والتراكيب العربية التي استخدمها القرآن فإننا سوف نتناول في هذه المحاولة الاستئناف البياني والجملة المعترضة؛ وإنّ من موجبات اختيارهما والاقتصار عليهما ما يأتي: أولًا: تعذُّر الإحاطة هنا بكلّ قضايا وزوايا الأساليب التي استخدمها القرآن. ثانيًا: حجم حضور عناية ابن عاشور ببيان اتساق النظم في القرآن من خلال هذين الأسلوبين في القرآن إذا ما قورن بغيره كما هو بيِّن لمن يطالِع تفسيره. ثالثًا: أن ظاهرة الفصل والوصل في القرآن الكريم من أكثر الظواهر التي قد يستشكل معها أمر النظم وترتيب التناسق الدلالي في النصّ، ومن ثم يكون لحسن فهمها أثر مهم في بيان دلالة النصّ القرآني بدقّة وبكلّ أبعاده، فقد يربط بين جملتين أو يفصل بينهما؛ وذلك من أجلِ الإحاطة بجزئيات النصّ كلّها وعرضها في نسق لافت وبأشكال متعدّدة، من دون فوات في الدلالة، وفي هذا مراعاة لإثارة عقول المخاطبين بمختلف درجات استيعابهم وإثارة نفوسهم ونزعاتهم من أجل الامتثال للخالق[23]، ويعدُّ هذا المبحث «من المسائل الدقيقة في علم التراكيب، بل من أعقدها... فهو في عرف البلاغيين: العلم بمواضع العطف والاستئناف والتهدي إلى كيفية إيقاع حروف العطف في مواقعها أو تركها عند عدم الحاجة إليها»[24]. كما أننا ومن خلال الاستئناف البياني والجملة المعترضة نستطيع أن ندلّل كذلك على أن الدراسة البيانية ليست فقط من أجل الكشف عن الجوانب الفنية في القرآن الكريم، أو المظاهر الإعجازية، وإنما لها تعلُّق وثيق بتلمُّس المعنى والمفاضلة بين الدلالات. خاتمة: ظهر لنا من خلال ما سبق أهمية أمر مراعاة التركيب في تحقيق الانسجام والتسلسل الدلالي للنصوص، وأن عناية العلماء بالتنبيه على مراعاة التركيب في التعاطي مع القرآن الكريم وبيان انسجام أجزائه كانت عناية كبيرة وموغلة في القدم في التراث الإسلامي، وذلك لعميق أثر مراعاة التركيب وطريقته في التعامل مع النصّ القرآني وتحقيق انسجامه وتتابعه الدلالي، وهو ما سنحاول أن نتتبعه بصورة تطبيقية في المقالين التاليين مع مسألتي الاستئناف البياني والجملة المعترضة في القرآن؛ لنتأمل كيف عالج ابن عاشور في تفسيره انسجام النصّ وبيّنه من خلال تعمُّقه في تحليل هذين التركيبين، وكيف استطاع كذلك من خلال تحليلاته أن يبرز أغراضًا لهما في الاستعمال تكشف عن روعة التركيب في ساحة النصّ القرآني. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * موقع تفسير: (https://2u.pw/zHdVv). [1] خصائص تراكيب اللغة العربية، د/ عبد الله علي علي الثوري. [2] تحاليل أسلوبية، محمد الهادي الطرابلسي، ص128. [3] دلائل الإعجاز، ص49-50. [4] دلائل الإعجاز، ص44-46. [5] الأسس الجمالية للإيقاع البلاغي في العصر العباسي، ابتسام أحمد حمدان، ص71. [6] دلائل الاعجاز، ص53. [7] النحو والدلالة، ص16. [8] دلائل الإعجاز، ص81-82. [9] اللغة العربية معناها ومبناها، ص18. [10] دور التعليق في تحديد السياق النصي عند عبد القاهر الجرجاني، مجلة جيل للدراسات الأدبية والفكرية، عدد 38. [11] أثر السياق القرآني في الترجيح عند المفسرين، ص20. [12] الخطاب القرآني، عبد الرحمن بودرع، ص181. [13] الخطاب القرآني، ص182. [14] نظرية النظم عند الجرجاني وأثرها في تفسير القرآن الكريم، بحث ضمن المؤتمر العالمي الثالث للباحثين في القرآن وعلومه، الطيب الشطاب، ص801. [15] الخطاب القرآني، عبد الرحمن بودرع، ص134. [16] دلائل الإعجاز، ص364. [17] البرهان في علوم القرآن، بدر الدين الزركشي (المتوفى: 794هـ) تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة: الأولى، 1376هـ-1957م، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، ج1، ص37. [18] البرهان، الزركشي، ج2، ص174. [19] قواعد التدبّر الأمثل للميداني. [20] التحرير والتنوير، (1/ 117). [21] التحرير والتنوير، (1/ 93). [22] أليس الصبح بقريب، التعليم العربي الإسلامي، دراسة تاريخية وآراء إصلاحية، محمد الطاهر بن عاشور، دار السلام- القاهرة، ط1، 2006م، ص164. [23] الدلالة التركيبية في كتابي (معاني القرآن لأبي جعفر النحاس، ومعاني القرآن للفراء)، ص299. [24] الدلالة التركيبية في كتابي (معاني القرآن لأبي جعفر النحاس، ومعاني القرآن للفراء)، ص299.
    1
    0
  • يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله في جواهر القرآن:
    "في حصر مقاصد القرآن ونفائسه
    سِرُّ القرآن، ولُبَابُه الأصفى، ومقصدُهُ الأقصى، دعوَةُ العباد إلى الجَبَّار الأعلى، ربِّ الآخرةِ والأولى، خالق السماوات العُلَى، والأرَضين السُلفى، وما بينهما وما تحت الثَّرَى، فلذلك انحصرت سُوَرُ القرآن وآياتُه في ستة أنواع:
    - ثلاثة منها: هي السوابق والأصول المُهِمِّة.
    - وثلاثة: هي الرَّوادف والتوابع المُغنِيَة المُتِمَّة.
    أما الثلاثة المُهِمَّة فهي:
    (1) تعريف المدعو إليه.
    (2) وتعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إليه.
    (3) وتعريف الحال عند الوصول إليه.
    وأما الثلاثة المُغْنِيَة المُتِمَّة:
    - فأحدها: تعريف أحوال المُجيبين للدعوة ولطائف صُنع الله فيهم؛ وسِرُّهُ ومقصودُه التشويقُ والترغيبُ، وتعريفُ أحوال النَّاكبين والنَّاكلين عن الإجابة وكيفيةُ قمعِ الله لهم وتنكيلِهِ لهم؛ وسِرُّهُ ومقصوده الاعتبار والترهيب.
    وثانيها: حكاية أحوال الجاحدين، وكَشْفُ فضائحهم وجهلهم بالمجادلة والمُحاجَّة على الحق، وسِرُّه ومقصوده في جنب الباطل الإِفضاحُ والتَّنْفير، وفي جَنب الحق الإيضاحُ والتَّثْبيتُ والتَّقهير.
    وثالثها: تعريف عمارة منازل الطريق، وكيفية أخذ الزاد والأُهبة والاستعداد.
    فهذه ستة أقسام".

    جواهر القرآن (ص:23- 24).
    يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله في جواهر القرآن: "في حصر مقاصد القرآن ونفائسه سِرُّ القرآن، ولُبَابُه الأصفى، ومقصدُهُ الأقصى، دعوَةُ العباد إلى الجَبَّار الأعلى، ربِّ الآخرةِ والأولى، خالق السماوات العُلَى، والأرَضين السُلفى، وما بينهما وما تحت الثَّرَى، فلذلك انحصرت سُوَرُ القرآن وآياتُه في ستة أنواع: - ثلاثة منها: هي السوابق والأصول المُهِمِّة. - وثلاثة: هي الرَّوادف والتوابع المُغنِيَة المُتِمَّة. أما الثلاثة المُهِمَّة فهي: (1) تعريف المدعو إليه. (2) وتعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إليه. (3) وتعريف الحال عند الوصول إليه. وأما الثلاثة المُغْنِيَة المُتِمَّة: - فأحدها: تعريف أحوال المُجيبين للدعوة ولطائف صُنع الله فيهم؛ وسِرُّهُ ومقصودُه التشويقُ والترغيبُ، وتعريفُ أحوال النَّاكبين والنَّاكلين عن الإجابة وكيفيةُ قمعِ الله لهم وتنكيلِهِ لهم؛ وسِرُّهُ ومقصوده الاعتبار والترهيب. وثانيها: حكاية أحوال الجاحدين، وكَشْفُ فضائحهم وجهلهم بالمجادلة والمُحاجَّة على الحق، وسِرُّه ومقصوده في جنب الباطل الإِفضاحُ والتَّنْفير، وفي جَنب الحق الإيضاحُ والتَّثْبيتُ والتَّقهير. وثالثها: تعريف عمارة منازل الطريق، وكيفية أخذ الزاد والأُهبة والاستعداد. فهذه ستة أقسام". جواهر القرآن (ص:23- 24).
    0
  • العلوم والمعارف وأسلوب عرضها في القرآن الكريم *
    الكاتب: محمد بنعدي

    أخذ الحديث عن العلوم والمعارف في القرآن الكريم قدرًا وافرًا من جهود العلماء والباحثين قديمًا وحديثًا، كل بحسب أُفقه المعرفي وتحديات جيله، والإشكالات التي فرضها عليه واقعه، حيث يجد المطالع لمصادر المعرفة الإسلامية بوجه عام والعلوم المنبثقة من القرآن خصوصًا - أن علماءنالم يدخروا جهدًا في الكشف والتنقيب عن كل ما من شأنه أن يبيِّن هدايات القرآن الكريم وبصائره للناس كل من زاوية تخصُّصه.

    يقول الرافعي حول العلوم والمعارف التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في كتابه "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية": « وهو أمر لم يكن أكثره على عهد الصحابة رضي الله عنهم يوم كان العلم فروعًا قليلة؛ إذ كانت الأعلام بينة لائحة، وطريق الإسلام لا تزال فيها آثار النبوة واضحة، ومن ثم جعلت العلوم تنبع من القرآن ثم تستجيش وتتسع، وأخذ بعضها يمد بعضًا... فاعتنى قوم بضبط لغاته وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه، وعددها، وعدد كلماته وآياته وسوره، وأحزابه وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته، والتعليم عند كل عشر آيات، إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة... فسموا القراء.

    واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العامة.. وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها والأفعال واللازم والمتعدي.. وبعضهم أعرب مشكله.. واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا لفظًا يدل على معنى واحد، ولفظًا يدل على معنيين، ولفظًا يدل على أكثر، فأجروا الأول على حكمه، وأوضحوا معنى الخفي منه، وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين.. وأعمل كل منهم فكرَه، وقال بما اقتضاه نظره.

    واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنظرية، فاستنبطوا منه، وسموا هذا العلم بأصول الدين، وتأملت طائفة منهم معاني خطاب، فرأت منها ما يقتضي العموم، ومنها ما يقتضي الخصوص، فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز، وتكلموا في التخصيص والأخبار والنص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي والنسخ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة، واستصحاب الحال والاستقراء، وسموا هذا الفن أصول الفقه.

    وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام، فأسسوا أصوله، وفرعوا فروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطًا حسنًا، وسموه بعلم الفروع، وبالفقه أيضًا. وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السالفة، والأمم الخالية، فنقلوا ودوَّنوا أخبارهم ووقائعهم، حتى ذكروا بَدْء الدنيا وأول الأشياء، وسموا ذلك بالتاريخ.

    وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال، والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال، فاستنبطوا ما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير، وذكر الموت والميعاد والحشر والحساب.. فسموا بذلك الخطباء والوعاظ.

    وأخذ قوم مما في آية المواريث من ذكر السهام وأربابها، وغير ذلك علم الفرائض، واستنبطوا منها من ذكر النصف والربع والسدس والثمن حساب الفرائض.

    ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالة على الحكم الباهرة في الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والبروج، وغير ذلك، فاستخرجوا منه علم المواقيت.

    ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ، وبديع النظم، وحسن السياق، والمبادئ والمقاطع والمخالص، والتلوين في الخطاب والإطناب والإيجاز، وغير ذلك، واستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع»[1].

    يؤكد الرافعي أن هذه العلوم والمعارف التي احتجنها كتاب الله العزيز، إنما هي حجة على الذين لا يقدرون الجهود المبذولة في تراث الأولين، ويرى أن من يقول مثل ذلك إنما يحاكم بمعارف العصر الزمن الماضي، فهو ملتفت إلى كسب الآخر في العلوم الحديثة، دون أدنى حس بمسؤولية كسبه هو لزمانه، فيجلد تراثه بسوط أشد ما يكون، فيدعي تبعًا لهذه النظرة الحدية أن سبب التخلف في عالمنا اليوم إنما هو القرآن أو تلك العلوم؟ ذاهلًا عن قصد أو عن غير قصد أن الأوائل إنما اجتهدوا وأبدعوا بحسب السقف المعرفي لأزمنتهم، وبحسب حاجات الواقع التي فرضت عليهم تفاصيل تدافعهم الحضاري.

    إن كلام الأستاذ مصطفى الرافعي يقدِّم توجيهًا لمسألة العلوم والمعارف في الثقافة الإسلامية، بحسب مؤهلات كل جيل، وهو من زاوية أخرى، يحث الجيل المعاصر على التنقيب والبحث، كما بحث العلماء الأوائل من خلال التدبر والتفكر والمحاورة للقرآن الكريم؛ حتى تمكنوا من إبداع علوم ومعارف تناسب إمكاناتهم العقلية، وحاجاتهم الملحة وتحديات زمانهم الثقافية عمومًا.

    ولا شك أن الجبهة اليوم التي تحتاج إلى تظافر الجهود لتبيانها هي جبهة العلوم الكونية أو التطبيقية أو البحثة، فالعصر الحاضر يحتاج لهذه العلوم بشكل آكد، ومعلوم عند القاصي والداني أن في القرآن إشارات كثيرة لآيات الأفاق والأنفس، على أن جبهة العلوم التي استطاع المتقدمون استكشافها، ما تزال مفتوحة في وجه الإبداعات الإسلامية من العلوم الإنسانية.

    ومن هذه المعارف والعلوم التي أشار إليها القرآن الكريم - وهي ذات الامتداد في مجالات الحياة المتنوعة - ما نبَّه إليه ابن القيم في زاده عن علوم الطب حين قال: « وأصول الطب ثلاثة: الحمية وحفظ الصحة، واستفراغ المادة المضرة، وقد جمعها الله تعالى له ولأمته في ثلاثة مواضع من كتابه، فحمى المريض من استعمال الماء خشية من الضرر، فقال تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [النساء: 43]، فأباح التيمم للمريض حمية له، كما أباح للعادم، وقال في حفظ الصحة: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184]، فأباح للمسافر الفطر في رمضان حفظًا لصحته؛ لئلا يجتمع على قوَّته الصوم ومشقة السفر، فيضعف القوة والصحة، وقال في الاستفراغ في حلق الرأس للمحرم: " ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ [البقرة: 196]، فأباح للمريض أو مَن به أذى من رأسه وهو مُحرم أن يحلق رأسه، ويستفرغ المواد الفاسدة والأبخرة الرديئة التي تولد عليه القمل، كما حصل لكعب بن عجرة، أو تولد عليه المرض، وهذه الثلاثة هي قواعد الطب وأصوله»[2].

    فالطب والصحة العامة من أبرز ما أشار القرآن إليه من ذلك ما ورد في قول الله تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82].

    ومن العلوم والمعارف كذلك التي وردت الإشارة إليها في القرآن الكريم، ولم يتم الانتباه إليها رغم كونها احتلت مساحات كبيرة من سور القرآن وآياته، ما ذكره الرازي في تفسيره لقول الله تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53]، فقال: « فإن كل من كان أكثر توغلًا في بحار مخلوقات الله تعالى، كان أكثر علمًا بجلال الله تعالى وعظمته، فنقول: الكلام في أحوال السماوات على الوجه المختصر الذي يليق بهذا الموضع مرتب في فصول: الفصل الأول: في ترتيب الأفلاك، قالوا: أقربها إلينا كرة القمر، وفوقها كرة عطارد، ثم كرة الزهرة، ثم كرة الشمس، ثم كرة المريخ، ثم كرة المشتري، ثم كرة زحل، ثم كرة الثوابت، ثم الفلك الأعظم، واعلم أن في هذا الموضوع أبحاثًا»[3].

    ومن هذه العلوم والمعارف ما وردت إليه الإشارة من علوم الصناعة المختلفة من آلات الحروب والحياكة والزراعة بمختلف فروعها وفنونها المرتبطة بمادة الحديد؛ يقول الرازي في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ [الحديد: 25]، "وأما الحديد ففيه البأس الشديد، فإن آلات الحروب متخذة منه، وفيه أيضًا منافع كثيرة؛ منها قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ ﴾ [الأنبياء: 80]، ومنها أن مصالح العالم، إما أصول، وإما فروع، أما الأصول فأربعة: الزراعة والحياكة وبناء البيوت والسلطنة، وعند هذا يظهر أن أكثر مصالح العالم لا تتم إلا بالحديد، وعند هذا يظهر أثر وجود الله تعالى ورحمته على عبيده"[4].

    يقول الرافعي: « ولسنا نريد أن نخوض في الكشف عن مبدأ انتشار العلوم النظرية والعلل الباعثة عليها، فلذلك موضع هو أملك بها وأوفى، غير أننا نوثق الكلمة في أن القرآن الكريم هو كان سبب العلوم ومرجعها كلها بأنه ما من علم إلا وقد نظر أهله في القرآن، وأخذوا منه مادة علمهم أو مادة الحياة له، فقد كانت سطوة الناس في الأجيال الأولى من العامة وأشباه العامة شديدة على أهل العلوم النظرية، إلا أن يجعلوا بينها وبين القرآن نسبًا من التأويل والاستشهاد والنظر، أو يبتغوا بها مقصدًا من مقاصده، وقد استخرج بعض علمائنا من القرآن ما يشير إلى مستحدثات الاختراع، وما يحقِّق بعض غوامض العلوم الطبيعية، وبسطوا كل ذلك بسطًا.. ولعل متحققًا بهذه العلوم الحديثة لو تدبر القرآن وأحكم النظر فيه، وكان بحيث لا تعوزه أداة الفهم، ولا يلتوي عليه أمر من أمره، لاستخرج منه إشارات كثيرة تومئ إلى حقائق العلوم وإن لم تبسط من أنبائها، وتدل عليها وإن لم تسمها بأسمائها»[5].

    فالرافعي إذًا كما العلماء السابقين يؤكد أن في القرآن الكريم إشارات لمختلف العلوم والمعارف التي يمكن عن طريق التدبر والنظر التوصل إليها، ولا تخرج عنده عن عموم قوله عز وجل: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53]، فيقول: "وقد أشار القرآن إلى نشأة هذه العلوم وإلى تمحيصها وغايتها.. ولو جمعت أنواع العلوم الإنسانية كلها ما خرجت في معانيها من قوله تعالى: ﴿ في الآفاق وفي أنفسهم ﴾، فكلما تقدَّم النظر، وجمعت العلوم، ونازعت إلى الكشف والاختراع، واستكملت آلات البحث، ظهرت حقائقه الطبيعية ناصعة، حتى كأن تلك الآلات حينما توجه لآيات السماء والأرض توجه لآيات القرآن أيضًا: ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21]، ذلك هو الأمر في العلوم الأولى ثم الله ينشئ النشأة الآخرة"[6].

    أسلوب القرآن في عرض العلوم والمعارف:
    سلك القرآن الكريم مسالك متنوعة غاية في الدقة والجمال والتدفق في التعبير عن العلوم والمعارف، فقد تكاملت أساليبه وجمعت بين الأسلوب البياني والأسلوب العقلي والعاطفي، ففي الأسلوب البياني يقول د عبدالله دراز في النبأ العظيم: "فإنه جلت قدرته قد أجرى سنته في نظام هذا العالم أن يغشى جلائل أسراره بأستار لا تخلو من متعة وجمال، ليكون ذلك من عوامل حفظه.. فلما سبقت كلمته أن يصون علينا نفائس العلوم التي أودعها هذا الكتاب الكريم، قضت حكمته أن يختار لها صوانًا يحببها إلى الناس بعذوبته، ويغريهم عليها بطلاوته، ويكون بمنزلة "الحداء" يستحث النفوس على السير إليها، ويهون عليها وعثاء السفر في طلب كمالها، لا جرم أنه اصطفى لها من هذا اللسان العربي المبين ذلك القالب العذب الجميل"[7]، ويقول الرافعي: "وكان القرآن الكريم قد جمع في أسلوبه أرقى ما تحس به الفطرة اللغوية من أوضاع البيان.. تقف عليه المعرفة"[8].

    من هنا يظهر أن الكلمة القرآنية تحمل أكثر الحقائق والعلوم والمعارف في شتى التخصصات، وذلك بحسب المعنى اللغوي: "فإذا أنت لم يلهك جمال العطاء عما تحته من الكنز الدفين، ولم تحجبك بهجة الأستار عما وراءها من السر المصون، بل فليت القشرة عن لبها، وكشفت الصدفة عن درها، فنفذت من هذا النظام اللفظي إلى ذلك النظام المعنوي، تجلى لك ما هو أبهى وأبهر، ولقيك ما هو أروع وأبدع"[9]، هكذا إذًا كان عرض العلوم والمعارف على سبيل الإجمال الذي يحصل معه الفهم، فإذا أمعن العالم النظر فيه تبدت منه معاني جديدة لا تخرج عن المعنى اللغوي، ولطائفه.

    يقول الرازي في تفسيره لقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الحج: 3]، مبينًا أسلوب البرهنة العقلية للقرآن في التدليل على العلوم والمعارف المرتبطة بأصول الدين: "ذم من يجادل في الله بغير علم، وذلك يقتضي أن المجادل بالعلم لا يكون مذمومًا بل يكون ممدوحًا... ثم إن الله تعالى أمر بالنظر فقال: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [محمد: 24]، ثم إن الله تعالى ذكر التفكر في معرض المدح فقال: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 21]"، وأيضًا ذم المعرضين، فقال: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [يوسف: 105]، وإنه تعالى ذم التقليد، فقال حكاية عن الكفار: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23]، وكل ذلك يدل على وجوب النظر والاستدلال والتفكر وذم التقليد، فمن دعا إلى النظر والاستدلال، كان على وفق القرآن ودين الأنبياء، ومن دعا إلى التقليد كان على خلاف القرآن"[10].

    من خلال مفاهيم الجدل والتدبر والنظر وذم التقليد، يتضح أن أسلوب القرآن في عرض فنون العلوم والمعارف أسلوب عقلي حجاجي برهاني قائم على تمجيد دور العقل في كشف الحقائق والتوصل إلى ألوان الفنون التي لا تناقض أصول التشريع.

    وفي عرض القرآن للعلوم والمعارف بالأسلوب العاطفي الممزوج بالعقلي يقول عبدالله دراز: "وفي النفس الإنسانية قوتان: قوة تفكير، وقوة وجدان، فأما إحداهما فتنقِّب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به، وأما الأخرى فتسجل بما في الأشياء من لذة وألم، والبيان التام هو الذي يوفي لك بهاتين الحاجتين، ويطير لنفسك فيؤتيها حظَّها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية، لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء، فما وجدنا من هؤلاء ولا هؤلاء إلا غلوًّا في جانب، وقصورًا في جانب، فأما الحكماء فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاءً لعقلك، ولا تتوجه نفوسهم إلى استهواء نفسك واختلاب عاطفتك، فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم لا يأبهون لما فيها من جفاف وعري ونبو عن الطباع، وأما الشعراء فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور من نفسك، فلا يبالون بما صوروه لك غيًّا أو رشدًا، فمن لك إذًا بهذا الكلام الواحد الذي يجيء بالحقيقة البرهانية الصارمة، بما يرضي حتى أولئك الفلاسفة المتعمقين، ومن المتعة الوجدانية الطيبة بما يرضي حتى هؤلاء الشعراء المرجين؟ ذلك الله رب العالمين، فهو الذي لا يشغله شأن عن شأن، وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معًا بلسان، وأن يمزج الحق والجمال معًا يلتقيان ولا يبغيان، وأن يخرج من بينهما شرابًا خالصًا سائغًا للشاربين، وهذا هو ما تجده في كتابه الكريم حيثما توجهت، ألا تراه في فسحة قصصه وأخباره لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة؟ أو لا تراه في معمعة براهينه وأحكامه لا ينسى حظ القلب من تشويق وترقيق، وتحذير وتنفير وتهويل وتعجيب، وتبكيت وتأنيب؟ يبث ذلك في مطالع آياته ومقاطعها"[11].

    وعلى العموم إن للقرآن الكريم أسلوبًا خاصًّا به مغاير لأساليب العرب في الكتابة والخطابة والتأليف، فهو أسلوب يشفي قلوب العامة، ويكفي قلوب الخاصة، فظاهره القريب يهدي الجماهير وسواد الناس ويملأ فراغ نفوسهم بالترغيب والترهيب، والجمال الأخاذ في تعابيره، ومشاهده، وباطنه عميق يشبع نهم الفلاسفة، والعلماء إلى مزيد من الحكمة والفكر، يحل العقد الكبرى عندهم من مبدأ الكون ومنتهاه ونظامه ودقة صنعه وإبداعه، وهذا الأسلوب المرن هو الذي كفل للقرآن الخلود رغم التغيرات والتلوينات اللفظية، والذهنية[12].

    هذه المعاني وغيرها يؤكدها الرافعي، فيقول: "وإنما أوردنا هذا القول لنكشف لك عن معنى عجيب في هذا الكتاب الكريم، فهو قد نزل في البادية على نبي أمي، وقوم أميين لم يكن لهم إلا ألسنتهم وقلوبهم، وكانت فنون القول التي يذهبون فيها مذاهبهم ويتواردون عليها، لا تجاوز ضروبًا من الصفات وأنواعًا من الحكم، وطائفة من الأخبار والأنساب، فلما نزل القرآن بمعانيه الرائعة التي افتن بها في غير مذاهبهم، ونزع منها إلى غير فنونهم، لم يقفوا على ما أريد به من ذلك، بل حملوه على ظاهره، وأخذوا منه حكم زمانهم، وكان لهم في بلاغته المعجزة مقنع، وجعل الله في كتابه هذه المعاني المختلف، وهذه الفنون المتعددة التي يهيج بعضها النظر، ويشحذ بعضها الفكر، ويمكن بعضها اليقين، ويبعث بعضها على الاستقصاء، وهي لم تكن تلتئم على ألسنتهم من قبل دليلًا بيِّنًا منه على أن القرآن كتاب الدهر كله، وكم للدهر من أدلة على هذه الحقيقة ما تبرح قائمة، فعلِمنا من صنيع العلماء أن القرآن نزل بتلك المعاني، ليخرج للأمة من كل معنى علمًا برأسه، ثم يعمل الزمن عمله، فتخرج الأمة من كل علم فروعًا، ومن كل فرع فنونًا، إلى ما يستوفي هذا الباب.. وكان القرآن سببًا في هذه النشأة الحديثة للعلوم والمعارف التطبيقية الدقيقة البحتة، من بعد أن استدار الزمان وذهبت الدنيا مستدبرة، وأنشأ الله القرون والأجيال، وإن من شيء إلا عند الله خزائنه، ولكنه سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 21].

    وعلى سبيل الختم، فالقرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية، وأوسع تصور كوني للمشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان، فهو يعتمد في أسلوبه على مخاطبة الفطرة الإنسانية، ومن الاستدلال بوقائع الأشياء المحسوسة إلى المجادلة العقلية إلى لفت النظر إلى واقع القصور الإنساني، ولما كان المخاطبون جملة من الناس بمختلف طبقاتهم، وفئاتهم وعلى اختلاف مستوياتهم الفكرية والثقافية، جاء في القرآن الكريم من البراهين والأدلة والأمثلة ما يهم الشرائح الاجتماعية على مختلف العصور؛ لأن المنطلقات الإنسانية محكومة بالفطرة والعقل والتجارب.

    لائحة المصادر والمراجع:
    1- القرآن الكريم.
    2- الرازي الفخر، المفسر، المتكلم، أشعري،/ شافعي، توفي 606هـ: مفاتح الغيب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1418هـ/1997م.
    3- ابن القيم الجوزية شمس الدين، زاد المعاد في هدي خير العباد، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، ط-27-، 1415/1994.
    4- مصطفى صادق الرافعي، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، دار الكتاب العربي بيروت طبعة سنة 1410هـ – 1990م.
    5- عبدالله دراز، النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن، دار ابن الجوزي، الطبعة 1 س 2013- 1434.
    6- مصطفى مسلم؛ مباحث في إعجاز القرآن، دار المسلم للنشر والتوزيع 1996.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * موقع الألوكة: (https://www.alukah.net/sharia/0/141965/#ixzz6Zeb5NewA).
    [1] مصطفى صادق الرافعي، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، دار الكتاب العربي بيروت طبعة سنة 1410ه - 1990م، ص 117 - 119 بتصرف.
    [2] ابن القيم الجوزية شمس الدين، زاد المعاد في هدي خير العباد، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، ط-27-، 1415/1994.ج 1 ص 158.
    [3] الرازي الفخر، مفاتح الغيب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1418هـ/1997م.
    [4] الرازي مفاتيح الغيب م سابق ج 15 ص 243.
    [5] الرافعي إعجاز القرآن م سابق ص 122-123 بتصرف
    [6] الرافعي إعجاز القرآن م سابق ص 127- 129 بتصرف
    [7] عبدالله دراز: النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن، دار ابن الجوزي، الطبعة 1 س 2013- 1434 ص 103 بتصرف.
    [8] الرافعي إعجاز القرآن م م سابق ص 192 بتصرف.
    [9] دراز النبأ العظيم م م سابق ص 105 بتصرف.
    [10] الرازي مفاتيح الغيب ج 1 ص366.
    [11] دراز النبأ العظيم ص 114 - 117 بتصرف.
    [12] مصطفى مسلم، مباحث في إعجاز القرآن، دار المسلم للنشر والتوزيع، 1996 ، ص 152.
    العلوم والمعارف وأسلوب عرضها في القرآن الكريم * الكاتب: محمد بنعدي أخذ الحديث عن العلوم والمعارف في القرآن الكريم قدرًا وافرًا من جهود العلماء والباحثين قديمًا وحديثًا، كل بحسب أُفقه المعرفي وتحديات جيله، والإشكالات التي فرضها عليه واقعه، حيث يجد المطالع لمصادر المعرفة الإسلامية بوجه عام والعلوم المنبثقة من القرآن خصوصًا - أن علماءنالم يدخروا جهدًا في الكشف والتنقيب عن كل ما من شأنه أن يبيِّن هدايات القرآن الكريم وبصائره للناس كل من زاوية تخصُّصه. يقول الرافعي حول العلوم والمعارف التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في كتابه "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية": « وهو أمر لم يكن أكثره على عهد الصحابة رضي الله عنهم يوم كان العلم فروعًا قليلة؛ إذ كانت الأعلام بينة لائحة، وطريق الإسلام لا تزال فيها آثار النبوة واضحة، ومن ثم جعلت العلوم تنبع من القرآن ثم تستجيش وتتسع، وأخذ بعضها يمد بعضًا... فاعتنى قوم بضبط لغاته وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه، وعددها، وعدد كلماته وآياته وسوره، وأحزابه وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته، والتعليم عند كل عشر آيات، إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة... فسموا القراء. واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العامة.. وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها والأفعال واللازم والمتعدي.. وبعضهم أعرب مشكله.. واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا لفظًا يدل على معنى واحد، ولفظًا يدل على معنيين، ولفظًا يدل على أكثر، فأجروا الأول على حكمه، وأوضحوا معنى الخفي منه، وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين.. وأعمل كل منهم فكرَه، وقال بما اقتضاه نظره. واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنظرية، فاستنبطوا منه، وسموا هذا العلم بأصول الدين، وتأملت طائفة منهم معاني خطاب، فرأت منها ما يقتضي العموم، ومنها ما يقتضي الخصوص، فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز، وتكلموا في التخصيص والأخبار والنص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي والنسخ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة، واستصحاب الحال والاستقراء، وسموا هذا الفن أصول الفقه. وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام، فأسسوا أصوله، وفرعوا فروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطًا حسنًا، وسموه بعلم الفروع، وبالفقه أيضًا. وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السالفة، والأمم الخالية، فنقلوا ودوَّنوا أخبارهم ووقائعهم، حتى ذكروا بَدْء الدنيا وأول الأشياء، وسموا ذلك بالتاريخ. وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال، والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال، فاستنبطوا ما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير، وذكر الموت والميعاد والحشر والحساب.. فسموا بذلك الخطباء والوعاظ. وأخذ قوم مما في آية المواريث من ذكر السهام وأربابها، وغير ذلك علم الفرائض، واستنبطوا منها من ذكر النصف والربع والسدس والثمن حساب الفرائض. ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالة على الحكم الباهرة في الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والبروج، وغير ذلك، فاستخرجوا منه علم المواقيت. ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ، وبديع النظم، وحسن السياق، والمبادئ والمقاطع والمخالص، والتلوين في الخطاب والإطناب والإيجاز، وغير ذلك، واستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع»[1]. يؤكد الرافعي أن هذه العلوم والمعارف التي احتجنها كتاب الله العزيز، إنما هي حجة على الذين لا يقدرون الجهود المبذولة في تراث الأولين، ويرى أن من يقول مثل ذلك إنما يحاكم بمعارف العصر الزمن الماضي، فهو ملتفت إلى كسب الآخر في العلوم الحديثة، دون أدنى حس بمسؤولية كسبه هو لزمانه، فيجلد تراثه بسوط أشد ما يكون، فيدعي تبعًا لهذه النظرة الحدية أن سبب التخلف في عالمنا اليوم إنما هو القرآن أو تلك العلوم؟ ذاهلًا عن قصد أو عن غير قصد أن الأوائل إنما اجتهدوا وأبدعوا بحسب السقف المعرفي لأزمنتهم، وبحسب حاجات الواقع التي فرضت عليهم تفاصيل تدافعهم الحضاري. إن كلام الأستاذ مصطفى الرافعي يقدِّم توجيهًا لمسألة العلوم والمعارف في الثقافة الإسلامية، بحسب مؤهلات كل جيل، وهو من زاوية أخرى، يحث الجيل المعاصر على التنقيب والبحث، كما بحث العلماء الأوائل من خلال التدبر والتفكر والمحاورة للقرآن الكريم؛ حتى تمكنوا من إبداع علوم ومعارف تناسب إمكاناتهم العقلية، وحاجاتهم الملحة وتحديات زمانهم الثقافية عمومًا. ولا شك أن الجبهة اليوم التي تحتاج إلى تظافر الجهود لتبيانها هي جبهة العلوم الكونية أو التطبيقية أو البحثة، فالعصر الحاضر يحتاج لهذه العلوم بشكل آكد، ومعلوم عند القاصي والداني أن في القرآن إشارات كثيرة لآيات الأفاق والأنفس، على أن جبهة العلوم التي استطاع المتقدمون استكشافها، ما تزال مفتوحة في وجه الإبداعات الإسلامية من العلوم الإنسانية. ومن هذه المعارف والعلوم التي أشار إليها القرآن الكريم - وهي ذات الامتداد في مجالات الحياة المتنوعة - ما نبَّه إليه ابن القيم في زاده عن علوم الطب حين قال: « وأصول الطب ثلاثة: الحمية وحفظ الصحة، واستفراغ المادة المضرة، وقد جمعها الله تعالى له ولأمته في ثلاثة مواضع من كتابه، فحمى المريض من استعمال الماء خشية من الضرر، فقال تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [النساء: 43]، فأباح التيمم للمريض حمية له، كما أباح للعادم، وقال في حفظ الصحة: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184]، فأباح للمسافر الفطر في رمضان حفظًا لصحته؛ لئلا يجتمع على قوَّته الصوم ومشقة السفر، فيضعف القوة والصحة، وقال في الاستفراغ في حلق الرأس للمحرم: " ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ [البقرة: 196]، فأباح للمريض أو مَن به أذى من رأسه وهو مُحرم أن يحلق رأسه، ويستفرغ المواد الفاسدة والأبخرة الرديئة التي تولد عليه القمل، كما حصل لكعب بن عجرة، أو تولد عليه المرض، وهذه الثلاثة هي قواعد الطب وأصوله»[2]. فالطب والصحة العامة من أبرز ما أشار القرآن إليه من ذلك ما ورد في قول الله تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82]. ومن العلوم والمعارف كذلك التي وردت الإشارة إليها في القرآن الكريم، ولم يتم الانتباه إليها رغم كونها احتلت مساحات كبيرة من سور القرآن وآياته، ما ذكره الرازي في تفسيره لقول الله تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53]، فقال: « فإن كل من كان أكثر توغلًا في بحار مخلوقات الله تعالى، كان أكثر علمًا بجلال الله تعالى وعظمته، فنقول: الكلام في أحوال السماوات على الوجه المختصر الذي يليق بهذا الموضع مرتب في فصول: الفصل الأول: في ترتيب الأفلاك، قالوا: أقربها إلينا كرة القمر، وفوقها كرة عطارد، ثم كرة الزهرة، ثم كرة الشمس، ثم كرة المريخ، ثم كرة المشتري، ثم كرة زحل، ثم كرة الثوابت، ثم الفلك الأعظم، واعلم أن في هذا الموضوع أبحاثًا»[3]. ومن هذه العلوم والمعارف ما وردت إليه الإشارة من علوم الصناعة المختلفة من آلات الحروب والحياكة والزراعة بمختلف فروعها وفنونها المرتبطة بمادة الحديد؛ يقول الرازي في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ [الحديد: 25]، "وأما الحديد ففيه البأس الشديد، فإن آلات الحروب متخذة منه، وفيه أيضًا منافع كثيرة؛ منها قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ ﴾ [الأنبياء: 80]، ومنها أن مصالح العالم، إما أصول، وإما فروع، أما الأصول فأربعة: الزراعة والحياكة وبناء البيوت والسلطنة، وعند هذا يظهر أن أكثر مصالح العالم لا تتم إلا بالحديد، وعند هذا يظهر أثر وجود الله تعالى ورحمته على عبيده"[4]. يقول الرافعي: « ولسنا نريد أن نخوض في الكشف عن مبدأ انتشار العلوم النظرية والعلل الباعثة عليها، فلذلك موضع هو أملك بها وأوفى، غير أننا نوثق الكلمة في أن القرآن الكريم هو كان سبب العلوم ومرجعها كلها بأنه ما من علم إلا وقد نظر أهله في القرآن، وأخذوا منه مادة علمهم أو مادة الحياة له، فقد كانت سطوة الناس في الأجيال الأولى من العامة وأشباه العامة شديدة على أهل العلوم النظرية، إلا أن يجعلوا بينها وبين القرآن نسبًا من التأويل والاستشهاد والنظر، أو يبتغوا بها مقصدًا من مقاصده، وقد استخرج بعض علمائنا من القرآن ما يشير إلى مستحدثات الاختراع، وما يحقِّق بعض غوامض العلوم الطبيعية، وبسطوا كل ذلك بسطًا.. ولعل متحققًا بهذه العلوم الحديثة لو تدبر القرآن وأحكم النظر فيه، وكان بحيث لا تعوزه أداة الفهم، ولا يلتوي عليه أمر من أمره، لاستخرج منه إشارات كثيرة تومئ إلى حقائق العلوم وإن لم تبسط من أنبائها، وتدل عليها وإن لم تسمها بأسمائها»[5]. فالرافعي إذًا كما العلماء السابقين يؤكد أن في القرآن الكريم إشارات لمختلف العلوم والمعارف التي يمكن عن طريق التدبر والنظر التوصل إليها، ولا تخرج عنده عن عموم قوله عز وجل: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53]، فيقول: "وقد أشار القرآن إلى نشأة هذه العلوم وإلى تمحيصها وغايتها.. ولو جمعت أنواع العلوم الإنسانية كلها ما خرجت في معانيها من قوله تعالى: ﴿ في الآفاق وفي أنفسهم ﴾، فكلما تقدَّم النظر، وجمعت العلوم، ونازعت إلى الكشف والاختراع، واستكملت آلات البحث، ظهرت حقائقه الطبيعية ناصعة، حتى كأن تلك الآلات حينما توجه لآيات السماء والأرض توجه لآيات القرآن أيضًا: ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21]، ذلك هو الأمر في العلوم الأولى ثم الله ينشئ النشأة الآخرة"[6]. أسلوب القرآن في عرض العلوم والمعارف: سلك القرآن الكريم مسالك متنوعة غاية في الدقة والجمال والتدفق في التعبير عن العلوم والمعارف، فقد تكاملت أساليبه وجمعت بين الأسلوب البياني والأسلوب العقلي والعاطفي، ففي الأسلوب البياني يقول د عبدالله دراز في النبأ العظيم: "فإنه جلت قدرته قد أجرى سنته في نظام هذا العالم أن يغشى جلائل أسراره بأستار لا تخلو من متعة وجمال، ليكون ذلك من عوامل حفظه.. فلما سبقت كلمته أن يصون علينا نفائس العلوم التي أودعها هذا الكتاب الكريم، قضت حكمته أن يختار لها صوانًا يحببها إلى الناس بعذوبته، ويغريهم عليها بطلاوته، ويكون بمنزلة "الحداء" يستحث النفوس على السير إليها، ويهون عليها وعثاء السفر في طلب كمالها، لا جرم أنه اصطفى لها من هذا اللسان العربي المبين ذلك القالب العذب الجميل"[7]، ويقول الرافعي: "وكان القرآن الكريم قد جمع في أسلوبه أرقى ما تحس به الفطرة اللغوية من أوضاع البيان.. تقف عليه المعرفة"[8]. من هنا يظهر أن الكلمة القرآنية تحمل أكثر الحقائق والعلوم والمعارف في شتى التخصصات، وذلك بحسب المعنى اللغوي: "فإذا أنت لم يلهك جمال العطاء عما تحته من الكنز الدفين، ولم تحجبك بهجة الأستار عما وراءها من السر المصون، بل فليت القشرة عن لبها، وكشفت الصدفة عن درها، فنفذت من هذا النظام اللفظي إلى ذلك النظام المعنوي، تجلى لك ما هو أبهى وأبهر، ولقيك ما هو أروع وأبدع"[9]، هكذا إذًا كان عرض العلوم والمعارف على سبيل الإجمال الذي يحصل معه الفهم، فإذا أمعن العالم النظر فيه تبدت منه معاني جديدة لا تخرج عن المعنى اللغوي، ولطائفه. يقول الرازي في تفسيره لقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الحج: 3]، مبينًا أسلوب البرهنة العقلية للقرآن في التدليل على العلوم والمعارف المرتبطة بأصول الدين: "ذم من يجادل في الله بغير علم، وذلك يقتضي أن المجادل بالعلم لا يكون مذمومًا بل يكون ممدوحًا... ثم إن الله تعالى أمر بالنظر فقال: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [محمد: 24]، ثم إن الله تعالى ذكر التفكر في معرض المدح فقال: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 21]"، وأيضًا ذم المعرضين، فقال: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [يوسف: 105]، وإنه تعالى ذم التقليد، فقال حكاية عن الكفار: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23]، وكل ذلك يدل على وجوب النظر والاستدلال والتفكر وذم التقليد، فمن دعا إلى النظر والاستدلال، كان على وفق القرآن ودين الأنبياء، ومن دعا إلى التقليد كان على خلاف القرآن"[10]. من خلال مفاهيم الجدل والتدبر والنظر وذم التقليد، يتضح أن أسلوب القرآن في عرض فنون العلوم والمعارف أسلوب عقلي حجاجي برهاني قائم على تمجيد دور العقل في كشف الحقائق والتوصل إلى ألوان الفنون التي لا تناقض أصول التشريع. وفي عرض القرآن للعلوم والمعارف بالأسلوب العاطفي الممزوج بالعقلي يقول عبدالله دراز: "وفي النفس الإنسانية قوتان: قوة تفكير، وقوة وجدان، فأما إحداهما فتنقِّب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به، وأما الأخرى فتسجل بما في الأشياء من لذة وألم، والبيان التام هو الذي يوفي لك بهاتين الحاجتين، ويطير لنفسك فيؤتيها حظَّها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية، لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء، فما وجدنا من هؤلاء ولا هؤلاء إلا غلوًّا في جانب، وقصورًا في جانب، فأما الحكماء فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاءً لعقلك، ولا تتوجه نفوسهم إلى استهواء نفسك واختلاب عاطفتك، فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم لا يأبهون لما فيها من جفاف وعري ونبو عن الطباع، وأما الشعراء فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور من نفسك، فلا يبالون بما صوروه لك غيًّا أو رشدًا، فمن لك إذًا بهذا الكلام الواحد الذي يجيء بالحقيقة البرهانية الصارمة، بما يرضي حتى أولئك الفلاسفة المتعمقين، ومن المتعة الوجدانية الطيبة بما يرضي حتى هؤلاء الشعراء المرجين؟ ذلك الله رب العالمين، فهو الذي لا يشغله شأن عن شأن، وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معًا بلسان، وأن يمزج الحق والجمال معًا يلتقيان ولا يبغيان، وأن يخرج من بينهما شرابًا خالصًا سائغًا للشاربين، وهذا هو ما تجده في كتابه الكريم حيثما توجهت، ألا تراه في فسحة قصصه وأخباره لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة؟ أو لا تراه في معمعة براهينه وأحكامه لا ينسى حظ القلب من تشويق وترقيق، وتحذير وتنفير وتهويل وتعجيب، وتبكيت وتأنيب؟ يبث ذلك في مطالع آياته ومقاطعها"[11]. وعلى العموم إن للقرآن الكريم أسلوبًا خاصًّا به مغاير لأساليب العرب في الكتابة والخطابة والتأليف، فهو أسلوب يشفي قلوب العامة، ويكفي قلوب الخاصة، فظاهره القريب يهدي الجماهير وسواد الناس ويملأ فراغ نفوسهم بالترغيب والترهيب، والجمال الأخاذ في تعابيره، ومشاهده، وباطنه عميق يشبع نهم الفلاسفة، والعلماء إلى مزيد من الحكمة والفكر، يحل العقد الكبرى عندهم من مبدأ الكون ومنتهاه ونظامه ودقة صنعه وإبداعه، وهذا الأسلوب المرن هو الذي كفل للقرآن الخلود رغم التغيرات والتلوينات اللفظية، والذهنية[12]. هذه المعاني وغيرها يؤكدها الرافعي، فيقول: "وإنما أوردنا هذا القول لنكشف لك عن معنى عجيب في هذا الكتاب الكريم، فهو قد نزل في البادية على نبي أمي، وقوم أميين لم يكن لهم إلا ألسنتهم وقلوبهم، وكانت فنون القول التي يذهبون فيها مذاهبهم ويتواردون عليها، لا تجاوز ضروبًا من الصفات وأنواعًا من الحكم، وطائفة من الأخبار والأنساب، فلما نزل القرآن بمعانيه الرائعة التي افتن بها في غير مذاهبهم، ونزع منها إلى غير فنونهم، لم يقفوا على ما أريد به من ذلك، بل حملوه على ظاهره، وأخذوا منه حكم زمانهم، وكان لهم في بلاغته المعجزة مقنع، وجعل الله في كتابه هذه المعاني المختلف، وهذه الفنون المتعددة التي يهيج بعضها النظر، ويشحذ بعضها الفكر، ويمكن بعضها اليقين، ويبعث بعضها على الاستقصاء، وهي لم تكن تلتئم على ألسنتهم من قبل دليلًا بيِّنًا منه على أن القرآن كتاب الدهر كله، وكم للدهر من أدلة على هذه الحقيقة ما تبرح قائمة، فعلِمنا من صنيع العلماء أن القرآن نزل بتلك المعاني، ليخرج للأمة من كل معنى علمًا برأسه، ثم يعمل الزمن عمله، فتخرج الأمة من كل علم فروعًا، ومن كل فرع فنونًا، إلى ما يستوفي هذا الباب.. وكان القرآن سببًا في هذه النشأة الحديثة للعلوم والمعارف التطبيقية الدقيقة البحتة، من بعد أن استدار الزمان وذهبت الدنيا مستدبرة، وأنشأ الله القرون والأجيال، وإن من شيء إلا عند الله خزائنه، ولكنه سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 21]. وعلى سبيل الختم، فالقرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية، وأوسع تصور كوني للمشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان، فهو يعتمد في أسلوبه على مخاطبة الفطرة الإنسانية، ومن الاستدلال بوقائع الأشياء المحسوسة إلى المجادلة العقلية إلى لفت النظر إلى واقع القصور الإنساني، ولما كان المخاطبون جملة من الناس بمختلف طبقاتهم، وفئاتهم وعلى اختلاف مستوياتهم الفكرية والثقافية، جاء في القرآن الكريم من البراهين والأدلة والأمثلة ما يهم الشرائح الاجتماعية على مختلف العصور؛ لأن المنطلقات الإنسانية محكومة بالفطرة والعقل والتجارب. لائحة المصادر والمراجع: 1- القرآن الكريم. 2- الرازي الفخر، المفسر، المتكلم، أشعري،/ شافعي، توفي 606هـ: مفاتح الغيب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1418هـ/1997م. 3- ابن القيم الجوزية شمس الدين، زاد المعاد في هدي خير العباد، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، ط-27-، 1415/1994. 4- مصطفى صادق الرافعي، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، دار الكتاب العربي بيروت طبعة سنة 1410هـ – 1990م. 5- عبدالله دراز، النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن، دار ابن الجوزي، الطبعة 1 س 2013- 1434. 6- مصطفى مسلم؛ مباحث في إعجاز القرآن، دار المسلم للنشر والتوزيع 1996. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * موقع الألوكة: (https://www.alukah.net/sharia/0/141965/#ixzz6Zeb5NewA). [1] مصطفى صادق الرافعي، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، دار الكتاب العربي بيروت طبعة سنة 1410ه - 1990م، ص 117 - 119 بتصرف. [2] ابن القيم الجوزية شمس الدين، زاد المعاد في هدي خير العباد، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، ط-27-، 1415/1994.ج 1 ص 158. [3] الرازي الفخر، مفاتح الغيب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1418هـ/1997م. [4] الرازي مفاتيح الغيب م سابق ج 15 ص 243. [5] الرافعي إعجاز القرآن م سابق ص 122-123 بتصرف [6] الرافعي إعجاز القرآن م سابق ص 127- 129 بتصرف [7] عبدالله دراز: النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن، دار ابن الجوزي، الطبعة 1 س 2013- 1434 ص 103 بتصرف. [8] الرافعي إعجاز القرآن م م سابق ص 192 بتصرف. [9] دراز النبأ العظيم م م سابق ص 105 بتصرف. [10] الرازي مفاتيح الغيب ج 1 ص366. [11] دراز النبأ العظيم ص 114 - 117 بتصرف. [12] مصطفى مسلم، مباحث في إعجاز القرآن، دار المسلم للنشر والتوزيع، 1996 ، ص 152.
    1
    0
  • أبو الوفاء الأفغاني (1)

    هو العلامة المحقق الفقيه الأصولي المحدث الناقد المقرئ السيد محمود شاه بن السيد مبارك شاه القادري الحنفي المشهور بأبي الوفاء الأفغاني.
    ولد في بلدة قندهار بأفغانستان في 10/ 12/ 1310هـ يوم النحر من شهر ذي الحجة عام عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة.

    [حياته العلمية]
    نشأ في مسقط رأسه "قندهار" تحت رعاية والده الشيخ الجليل السيد مبارك شاه، ثم سافر إلى الهند في صغره طالباً للعلم، فطلب العلوم من العلماء الكبار الذين أدركهم في بلدة رامبور، ثم سافر إلى ناحية كُجْرات، وتلقى المنقول والمعقول من علمائها البارزين.
    ثم قدم إلى مدينة حيد وآباد الدَّكن عام 1330هـ ثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة, ودخل في عداد طلبة المدرسة النظامية فيها، وتخرج بها وحصَّل الإجازات من شيوخها في الحديث والتفسير والفقه والقراءات بعد أن حفظ القرآن الكريم.
    وفور تخرجه أسند إليه التدريس والتعليم في المدرسة النظامية نفسها، فزامل شيوخه، ودرس الآداب العربية والفقه والحديث الشريف، وعلم وأفاد الطلاب والمستفيدين سنين طوالاً وأجيالاً متتابعة.
    ثم رأى أن يؤسس هناك "لجنة إحياء المعارف النعمانية" ينشر تحت إشرافه آثار سلفنا المتقدمين من الفقهاء المحدثين، فأسس تلك اللجنة بمساعدة من زملائه وقامت بطبع كثير من الكتب النفيسة من فرائد مؤلفات أئمة القرن الثاني والثالث وما بعدها، وكان هو رئيس اللجنة، بل كان هو اللجنة والقائم بأعمالها وإنجازاتها خير قيام.
    يبذل لها وقته وماله وعلمه ما استطاع، متطوعاً محتسباً لوجه الله تعالى.
    وأنعم الله تعالى عليه بالحج إلى بيت الله الحرام، فقصد الحجاز معتمراً، والتقى بزمرة كبيرة من أفاضل علماء الإِسلام وأخذ عنهم وأخذوا عنه، واتسعت شهرته في آفاق أهل العلم، فكان يلاقي العون من جميع الجهات العلمية التي يكاتبها بشأن ما يبتغيه من المخطوطات والآثار النادرة، حتى اجتمع لديه مكتبة غنية في الفقه الحنفي والحديث والرجال والتاريخ وغيرها من العلوم الإِسلامية.
    ونشر من النوادر الغالية بتحقيقه وتعليقه وأشرف على طبع كتب كثيرة منها:
    1 - كتاب: "الحجة على أهل المدينة" للإمام محمَّد بن الحسن الشيباني، الذي حققه وعلَّق عليه الإِمام المحدث الفقيه مهدي حسن، في أربعة مجلدات.
    2 - كتاب "أخبار أبي حنيفة وأصحابه" للإمام المحدث القاضي أبي عبد الله الضيمري.
    3 - كتاب "عقود الجُمان في مناقب أبي حنيفة النعمان" للحافظ المحدث محمَّد بن يوسف الصالحين الشافعي، وعلى غيرها من الكتب النافعة النادرة.
    واتخذ من نشر هذه النفائس والفرائد سلوة له عن الائتناس بالزوجة والأولاد وعاش عزباً فريداً متبتلاً متعبداً زاهداً ورعاً قائم لليل محافظاً على السنة النبوية كل الحفاظ، يكره ترك المستحبات ويعمر أوقاته بالمطالعة والإفادة والتحقيق والتعليق وتلقين العلم لشباب العلماء والمستفيدين، وهمه الازدياد من العلم والسعي في نشره وإشاعته، وما زال هكذا عيشه إلى آخر حياته.

    [شيوخه]
    1 - الإِمام الكبير الشيخ أنوار الله، مؤسس (المدرسة النظامية ودائرة المعارف النعمانية).
    2 - الشيخ عبد الصمد.
    3 - الشيخ عبد الكريم.
    4 - الشيخ محمَّد يعقوب.
    5 - الشيخ المقرئ محمَّد أيوب.
    6 - الشيخ محمَّد الهاشمي الفوقي المدني المالكي (2).
    7 - الحافظ المقرئ الشيخ محمَّد بن أبي المعافي القرشي اليمني الحيدر آبادي الحنفي (3).
    ومن تلاميذه: الشيخ أبو نصر محمَّد أعظم بن كداي محمَّد التاجكي الهروي البرنابادي (4).
    قرأ عليه القرآن الكريم بالروايات المختلفة.

    [مؤلفاته وتحقيقاته]
    لحرص المترجم على نشر كتب السلف وإخراجها إلى الناس، اشتغل بذلك عن التأليف والشروح فاكتفى بالتحقيق والتعليق، ومن الكتب التي قام بتحقيقها والتعليق عليها.
    1 - كتاب "الآثار" للإمام القاضي أبي يوسف.
    2 - كتاب "الرد على سِيَر الأوزاعي" لأبي يوسف أيضاً.
    3 - كتاب "اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى" لأبي يوسف.
    4 - كتاب "الأصل" للإمام محمَّد بن الحسن الشيبانى، في عدة مجلدات كبار.
    5 - كتاب "الجامع الكبير" للشيباني كذلك.
    6 - كتاب "مختصر الطحاوي" في فقه الحنفية، في مجلدين كبيرين.
    7 - الجزء الثالث من "التاريخ الكبير" للإمام البخاري.
    8 - كتاب "النفقات" للجصاص.
    9 - كتاب "أصول الفقه" للسرخسي في مجلدين.
    10 - مناقب الإِمام أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد للحافظ الذهبي.
    11 - شرح الزيادات للسرخسي.
    12 - شرح كتاب "الآثار" للإمام محمَّد بن الحسن الشيباني، وانتهى فيه إلى أواخر الجنائز بحلول وفاته رحمه الله تعالى.

    [وفاته]
    توفي -رحمه الله تعالى- في صبيحة يوم الأربعاء الموافق 13/ 7/ 1395هـ الثالث عشر من شهر رجب الفرد عام خمسة وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) إمتاع الفضلاء بتراجم القراء فيما بعد القرن الثامن الهجري (2/ 373 - 377)، تأليف: د. إلياس البرماوي، نقل المؤلف الترجمة من مقدمة كتاب: "العلماء العزاب" ص 230.
    (2) قال المؤلف: حسب ما وصل إلينا في بعض الأسانيد في القرآن الكريم، والإسناد في كتاب "غاية المسرة بمعرفة أسانيد القراء المعاصرة في المدينة المنورة" للمؤلف.
    (3) قال المؤلف: حسب ماوصل إلينا من الأسانيد في القرآن الكريم، وانظر إسناده في كتاب: "غاية المسرة".
    (4) قال المؤلف: حسب ماوصل إلينا من الأسانيد في القرآن الكريم، وانظر إسناده في كتاب: "غاية المسرة".
    أبو الوفاء الأفغاني (1) هو العلامة المحقق الفقيه الأصولي المحدث الناقد المقرئ السيد محمود شاه بن السيد مبارك شاه القادري الحنفي المشهور بأبي الوفاء الأفغاني. ولد في بلدة قندهار بأفغانستان في 10/ 12/ 1310هـ يوم النحر من شهر ذي الحجة عام عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة. [حياته العلمية] نشأ في مسقط رأسه "قندهار" تحت رعاية والده الشيخ الجليل السيد مبارك شاه، ثم سافر إلى الهند في صغره طالباً للعلم، فطلب العلوم من العلماء الكبار الذين أدركهم في بلدة رامبور، ثم سافر إلى ناحية كُجْرات، وتلقى المنقول والمعقول من علمائها البارزين. ثم قدم إلى مدينة حيد وآباد الدَّكن عام 1330هـ ثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة, ودخل في عداد طلبة المدرسة النظامية فيها، وتخرج بها وحصَّل الإجازات من شيوخها في الحديث والتفسير والفقه والقراءات بعد أن حفظ القرآن الكريم. وفور تخرجه أسند إليه التدريس والتعليم في المدرسة النظامية نفسها، فزامل شيوخه، ودرس الآداب العربية والفقه والحديث الشريف، وعلم وأفاد الطلاب والمستفيدين سنين طوالاً وأجيالاً متتابعة. ثم رأى أن يؤسس هناك "لجنة إحياء المعارف النعمانية" ينشر تحت إشرافه آثار سلفنا المتقدمين من الفقهاء المحدثين، فأسس تلك اللجنة بمساعدة من زملائه وقامت بطبع كثير من الكتب النفيسة من فرائد مؤلفات أئمة القرن الثاني والثالث وما بعدها، وكان هو رئيس اللجنة، بل كان هو اللجنة والقائم بأعمالها وإنجازاتها خير قيام. يبذل لها وقته وماله وعلمه ما استطاع، متطوعاً محتسباً لوجه الله تعالى. وأنعم الله تعالى عليه بالحج إلى بيت الله الحرام، فقصد الحجاز معتمراً، والتقى بزمرة كبيرة من أفاضل علماء الإِسلام وأخذ عنهم وأخذوا عنه، واتسعت شهرته في آفاق أهل العلم، فكان يلاقي العون من جميع الجهات العلمية التي يكاتبها بشأن ما يبتغيه من المخطوطات والآثار النادرة، حتى اجتمع لديه مكتبة غنية في الفقه الحنفي والحديث والرجال والتاريخ وغيرها من العلوم الإِسلامية. ونشر من النوادر الغالية بتحقيقه وتعليقه وأشرف على طبع كتب كثيرة منها: 1 - كتاب: "الحجة على أهل المدينة" للإمام محمَّد بن الحسن الشيباني، الذي حققه وعلَّق عليه الإِمام المحدث الفقيه مهدي حسن، في أربعة مجلدات. 2 - كتاب "أخبار أبي حنيفة وأصحابه" للإمام المحدث القاضي أبي عبد الله الضيمري. 3 - كتاب "عقود الجُمان في مناقب أبي حنيفة النعمان" للحافظ المحدث محمَّد بن يوسف الصالحين الشافعي، وعلى غيرها من الكتب النافعة النادرة. واتخذ من نشر هذه النفائس والفرائد سلوة له عن الائتناس بالزوجة والأولاد وعاش عزباً فريداً متبتلاً متعبداً زاهداً ورعاً قائم لليل محافظاً على السنة النبوية كل الحفاظ، يكره ترك المستحبات ويعمر أوقاته بالمطالعة والإفادة والتحقيق والتعليق وتلقين العلم لشباب العلماء والمستفيدين، وهمه الازدياد من العلم والسعي في نشره وإشاعته، وما زال هكذا عيشه إلى آخر حياته. [شيوخه] 1 - الإِمام الكبير الشيخ أنوار الله، مؤسس (المدرسة النظامية ودائرة المعارف النعمانية). 2 - الشيخ عبد الصمد. 3 - الشيخ عبد الكريم. 4 - الشيخ محمَّد يعقوب. 5 - الشيخ المقرئ محمَّد أيوب. 6 - الشيخ محمَّد الهاشمي الفوقي المدني المالكي (2). 7 - الحافظ المقرئ الشيخ محمَّد بن أبي المعافي القرشي اليمني الحيدر آبادي الحنفي (3). ومن تلاميذه: الشيخ أبو نصر محمَّد أعظم بن كداي محمَّد التاجكي الهروي البرنابادي (4). قرأ عليه القرآن الكريم بالروايات المختلفة. [مؤلفاته وتحقيقاته] لحرص المترجم على نشر كتب السلف وإخراجها إلى الناس، اشتغل بذلك عن التأليف والشروح فاكتفى بالتحقيق والتعليق، ومن الكتب التي قام بتحقيقها والتعليق عليها. 1 - كتاب "الآثار" للإمام القاضي أبي يوسف. 2 - كتاب "الرد على سِيَر الأوزاعي" لأبي يوسف أيضاً. 3 - كتاب "اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى" لأبي يوسف. 4 - كتاب "الأصل" للإمام محمَّد بن الحسن الشيبانى، في عدة مجلدات كبار. 5 - كتاب "الجامع الكبير" للشيباني كذلك. 6 - كتاب "مختصر الطحاوي" في فقه الحنفية، في مجلدين كبيرين. 7 - الجزء الثالث من "التاريخ الكبير" للإمام البخاري. 8 - كتاب "النفقات" للجصاص. 9 - كتاب "أصول الفقه" للسرخسي في مجلدين. 10 - مناقب الإِمام أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد للحافظ الذهبي. 11 - شرح الزيادات للسرخسي. 12 - شرح كتاب "الآثار" للإمام محمَّد بن الحسن الشيباني، وانتهى فيه إلى أواخر الجنائز بحلول وفاته رحمه الله تعالى. [وفاته] توفي -رحمه الله تعالى- في صبيحة يوم الأربعاء الموافق 13/ 7/ 1395هـ الثالث عشر من شهر رجب الفرد عام خمسة وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) إمتاع الفضلاء بتراجم القراء فيما بعد القرن الثامن الهجري (2/ 373 - 377)، تأليف: د. إلياس البرماوي، نقل المؤلف الترجمة من مقدمة كتاب: "العلماء العزاب" ص 230. (2) قال المؤلف: حسب ما وصل إلينا في بعض الأسانيد في القرآن الكريم، والإسناد في كتاب "غاية المسرة بمعرفة أسانيد القراء المعاصرة في المدينة المنورة" للمؤلف. (3) قال المؤلف: حسب ماوصل إلينا من الأسانيد في القرآن الكريم، وانظر إسناده في كتاب: "غاية المسرة". (4) قال المؤلف: حسب ماوصل إلينا من الأسانيد في القرآن الكريم، وانظر إسناده في كتاب: "غاية المسرة".
    0
  • التفسير والتأويل في القرآن

    تأليف: صلاح عبد الفتاح الخالدي
    الناشر: دار النفائس
    التفسير والتأويل في القرآن تأليف: صلاح عبد الفتاح الخالدي الناشر: دار النفائس
    التفسير والتأويل في القرآن.pdf
    0
  • نكت القرآن للقصاب *
    الكاتب: أ.د. مساعد الطيار


    "نكت القرآن الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام"
    للإمام الحافظ محمد بن علي القصاب، من علماء القرن الرابع والخامس.
    حقَّق الكتاب الأفاضل:
    1) د. علي بن غازي التويجري.
    2) وإبراهيم بن منصور الجنيدل.
    3) ود. شايع بن عبده بن شايع الأسمري.
    وصدر عن دار ابن القيم ودار ابن عفان.
    منهج المؤلف:
    1) سار المؤلف على ترتيب السور، فبدأ بالفاتحة وختم بالناس.
    2) لم يلتزم الطريقة المعتادة في تفسير السورة آية آية.
    3) اعتمد المؤلف منهجًا فريدًا، حيث يذكر عنوانًا للآية التي سيتعرض للحديث عنها، فمثلاً في سورة التغابن ذكر العناوين الآتية:
    · ذكر التأكيد، وذكر فيه تعليقه على قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} [التغابن: 9].
    · ذكر الاحترازات، وذكر فيه تعليقه على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14].
    · ذكر الصبر على أذى الزوجة، وذكر تعليقه على قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا} [التغابن: 14].
    · المعتزلة، وذكر تعليقهم على قوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [التغابن: 16] الآيتين، وذكر الرد عليهم من هذه الآية.
    وقد سار في أغلب كتابه على هذا الأسلوب، وحشد فيه جملة من المسائل الفقهية والعقدية واللطائف والمُلح، والرد على المخالفين لأهل السنة والجماعة.
    وقد قال في مقدمته؛ منبئًا عن مقصده في هذا الكتاب: "هذا كتاب نكت القرآن الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام، والُمنبية -أي: المخبرة- عن اختلاف الأنام في أصول الدين وشرائعه، وتفصيله وجوامعه، وكل ما يحسن مقاصده، ويعظم فوائده من معنى لطيف في كل فن تدل عليه الآية من جليلها وغامضها، وظاهرها وعويصها، أودعته بعون الله تعالى كتابي هذا عدة على المخالفين، وحجة على المبتدعين ...".
    والكتاب مليء بلطائف عجيبة، واستدلالات مطربة، ونفائس ودرر متناثرة في جنباته.
    وأنقل لك مثالاً من هذا الكتاب:
    قال القصاب: "دَعْوَى: وفي قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] دليل على أنَّ كل مدعي دعوى محتاج إلى تثبيتها وإقامة البرهان عليها، ثم لا يقبل ذلك البرهان إلا أن يكون مأخوذًا عن الله -جل وتعالى- لقوله في الآية التي قبل هذه حيث ادعى القوم أن لا تمسهم النار إلا أيامًا معدودة: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80]، فلم يصحح لهم دعواهم إلا بعهد يكون عنده، أو بضمان يسبق منه لهم؛ ليكون الارتياب زايلاً عن صحتها ومحققًا لها".
    وبالجملة فالكتاب نفيس، وهو يدل على أن النظر الموضوعي، والنفَسَ التربوي، والتطبيق الواقعي للقرآن موجودًا في مصنفات العلماء، لكن كثيرًا منها لا زال مخبوءًا حبيس دور المخطوطات.
    فنعم ما قدَّم المحققون لنا من تراث أئمتنا، وفقنا الله وإياهم لما يحب ويرضى.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * من الموقع الرسمي للأستاذ الدكتور مساعد الطيار (http://www.attyyar.com/?action=articles_inner&show_id=3474).
    نكت القرآن للقصاب * الكاتب: أ.د. مساعد الطيار "نكت القرآن الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام" للإمام الحافظ محمد بن علي القصاب، من علماء القرن الرابع والخامس. حقَّق الكتاب الأفاضل: 1) د. علي بن غازي التويجري. 2) وإبراهيم بن منصور الجنيدل. 3) ود. شايع بن عبده بن شايع الأسمري. وصدر عن دار ابن القيم ودار ابن عفان. منهج المؤلف: 1) سار المؤلف على ترتيب السور، فبدأ بالفاتحة وختم بالناس. 2) لم يلتزم الطريقة المعتادة في تفسير السورة آية آية. 3) اعتمد المؤلف منهجًا فريدًا، حيث يذكر عنوانًا للآية التي سيتعرض للحديث عنها، فمثلاً في سورة التغابن ذكر العناوين الآتية: · ذكر التأكيد، وذكر فيه تعليقه على قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} [التغابن: 9]. · ذكر الاحترازات، وذكر فيه تعليقه على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]. · ذكر الصبر على أذى الزوجة، وذكر تعليقه على قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا} [التغابن: 14]. · المعتزلة، وذكر تعليقهم على قوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [التغابن: 16] الآيتين، وذكر الرد عليهم من هذه الآية. وقد سار في أغلب كتابه على هذا الأسلوب، وحشد فيه جملة من المسائل الفقهية والعقدية واللطائف والمُلح، والرد على المخالفين لأهل السنة والجماعة. وقد قال في مقدمته؛ منبئًا عن مقصده في هذا الكتاب: "هذا كتاب نكت القرآن الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام، والُمنبية -أي: المخبرة- عن اختلاف الأنام في أصول الدين وشرائعه، وتفصيله وجوامعه، وكل ما يحسن مقاصده، ويعظم فوائده من معنى لطيف في كل فن تدل عليه الآية من جليلها وغامضها، وظاهرها وعويصها، أودعته بعون الله تعالى كتابي هذا عدة على المخالفين، وحجة على المبتدعين ...". والكتاب مليء بلطائف عجيبة، واستدلالات مطربة، ونفائس ودرر متناثرة في جنباته. وأنقل لك مثالاً من هذا الكتاب: قال القصاب: "دَعْوَى: وفي قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] دليل على أنَّ كل مدعي دعوى محتاج إلى تثبيتها وإقامة البرهان عليها، ثم لا يقبل ذلك البرهان إلا أن يكون مأخوذًا عن الله -جل وتعالى- لقوله في الآية التي قبل هذه حيث ادعى القوم أن لا تمسهم النار إلا أيامًا معدودة: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80]، فلم يصحح لهم دعواهم إلا بعهد يكون عنده، أو بضمان يسبق منه لهم؛ ليكون الارتياب زايلاً عن صحتها ومحققًا لها". وبالجملة فالكتاب نفيس، وهو يدل على أن النظر الموضوعي، والنفَسَ التربوي، والتطبيق الواقعي للقرآن موجودًا في مصنفات العلماء، لكن كثيرًا منها لا زال مخبوءًا حبيس دور المخطوطات. فنعم ما قدَّم المحققون لنا من تراث أئمتنا، وفقنا الله وإياهم لما يحب ويرضى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * من الموقع الرسمي للأستاذ الدكتور مساعد الطيار (http://www.attyyar.com/?action=articles_inner&show_id=3474).
    0
  • وجهُ تسمية يوم القيامة بيوم التغابن(1)
    الكاتب: محمد الطاهر بن عاشور

    سألني عالِمٌ فاضلٌ صديقٌ، اعتاد تأنيسي بزيارته، عن تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}[التغابن: 9]، وما وجهُ تسمية يوم القيامة في هذه الآية بيوم التغابن، غير مُنثلِج لِمَا قاله بعضُ المفسرين في وجه التسمية من أن التغابن هو أنّ أهل الجنة يَغْبِنون أهل النار. وذكر أنه راجَع تفاسيرَ كثيرةً فلم يجد فيها ما يقنعه، وحاورني في ذلك محاورةً هزَّت من عطفي إلى أن أُفْصِح في تفسير هذه الآية بما عسى أن يكون فيه مَقْنَع، واللبيب يتبع أحسنَ القول ويَسْمَع.

    ذهب الجمهورُ إلى أن سورة التغابن مكيّة، إلا الآيات الأخيرة من آخرها التي أولها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ}[التغابن: 14]، وأحسب أن هذه الآيات هي التي بعثت القائلين بأنّ السورة مدنية، إِذْ نعلم أن المقصودَ من الخطاب بالآية هم أهل مكة ابتداء، وهم قريش؛ ولذلك جاء فيها: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}[التغابن: 7 - 9].

    وقد قال أئمةٌ من المفسرين: إنّ عادة القرآن أنه يريد بالذين كفروا، متى ذكر في القرآن المشركين من قريش.

    وقوله: {قُلْ بَلَى}، كلمة: (بلى)، فيه إبطالٌ للنفي الواقع في قوله: {لَنْ يُبْعَثُوا}، فإنها حرف يفيد عكسَ معنى (نَعَم)، ويقع بعد النفي في الاستفهام وفي الخبر.

    وقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ}، ظرفٌ متعلق بقوله: {لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ}، ويجوز أن يتعلق بقوله: {لَتُبْعَثُنَّ}، باعتبار عطف قوله: {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ} عليه، أي: يبعثكم فينبِّئكم يوم يجمعكم ليوم الجمع؛ لأن البعث حاصلٌ قبل الجمع، وقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلخ. جملة معترضة بين الفعل والظرف، و(يوم الجَمْع) يوم القيامة.

    وقوله: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} جاء فيه اسمُ الإشارة للبعيد لتهويله ولَفْت العقول إليه، فلذلك عدل عن وصفه بيوم بعده فلم يقل: (ليوم الجمع يوم التغابن)؛ لئلا يفوت معنى الحصر المقصود، وسيُعلم ما فيه من النكتة.

    وجملة: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}، جملةٌ اسمية مُعرَّفة الجزأين، فكان حقُّها أن تفيدَ الحصر، أي: هو يوم التغابن وليس غيرُه من الأيام يومَ التغابن. ومعنى هذا الحصر أن ذلك اليوم لمّا حصل فيه التغابن في أمّ الفضائل جُعِل ما عداه من الأيام التي يقع فيها التغابنُ كالعدم، فحصر جنسَ يوم التغابن في ذلك اليوم بتنزيل التغابن الواقع في غيره منزلة العدم، وهذا من قَصْر الصفة على الموصوف على وجه المبالغة، وهذا الوجه من الحصر يسمَّى بالحصر الادِّعائي؛ لأن المتكلِّم يدَّعي أن الوصف بيوم التغابن محصور في ذلك اليوم، وهو يوم الجمع، كقولهم: أنت الحبيب.

    واعلم أنّ الحصر إنما حصل هنا من صيغة القصر التي هي تعريفُ المسند والمسند إليه، ولم يحصل الحصرُ من التعريف باللام في قوله: {التَّغَابُنِ}، بناءً على أنّ اللام فيه دالةٌ على معنى الكمال؛ لأن معنى الجنس الذي هو أصلُ معنى اللام صالِحٌ هنا، فلا يُعْدَل عنه إلى حَمْل اللام على معنى الكمال، إِذْ لا يُحْمَل عليه إلا عند تعيُّن الحمل عليه بالقرينة؛ وهي منفيةٌ هنا لاستقامة الحمل على تعريف الجنس، وهو أكثرُ معاني اللام.

    ولولا صيغةُ القصر لمَا استُفِيد معنى الحصر، فكيف يكون حاصلًا من معنى الكمال الذي لم ينشأ في هذا المقام إلَّا من حصول معنى الحصر؟ فلا يختلطْ عليك، كما اختلطَ على بعض العلماء.

    والتغابن مشتقٌّ من الغَبْن، والغبن الحطُّ من قيمة المبيع عند شرائه، فكلُّ شراء بأقلَّ من القيمة فهو غبن. ومادة التغابُن تفاعُل من الغبن. وأصل مادة التفاعل تدلّ على وقوع الفعل من جانبَيْنِ فصاعدًا، كالتقاتُل والتسابُق، فلفظ التغابن يدلّ على وقوع غبنٍ حاصلٍ بين جوانب في يوم القيامة.

    وقد اتفق المفسّرون على أن المفاعلةَ غيرُ مقصودٍ منها هنا وقوعُ الفعل من جوانب، ولكنهم اختلفوا في تحصيل المعنى؛ فذهب الزمخشري ومَنْ تبعه -مثل الفخر والبيضاوي- إلى أن المفاعلة هنا هي أن يغبن أهلُ السعادة أهلَ الشقاوة؛ إذ ينزلون منازلَ الجنة التي كان يمكن لأهل الشقاوة أن ينزلوها لو عَمِلوا عملَ السعداء، وهذا يشبه الغبن، فالغبن المستفاد من هذا الجانب استعارة، وهذا أحد جانبي الفعل. وأمّا جانبُ غبن أهل الشقاوة، فجعلَه الزمخشريُّ تهكُّمًا؛ لأن نزولهم في منازل النار ليس غبنًا لأهل السعادة، وعلى هذا الوجه يكون اللفظُ مستعملًا في مجازَيْنِ مختلفَيْنِ على وجه يشبه المشاكلةَ التقديرية، وهذا المعنى ينحو إلى تفصيل كلامٍ مُجْمَل نُقل عن ابن عباس، وهو تفسيرٌ بعيدٌ جدَّ البعد.

    وذهب ابنُ عطية إلى أنّ صيغة التفاعل هنا غيرُ مستعملةٍ في معناها الأصلي، وهو الدلالة على وقوع الفعل من جانبَيْنِ فأكثر، بل هنا لحصول الفعل من جانب واحد للمبالغة مثل التواضع والتمايل، فيكون المعنى: ذلك يوم الغبن، أي: يوم غبن الكافرين. وهو ينحو إلى تفصيل كلام نُقِل عن مجاهد في تفسير الآية هو أقرب إلى الاستعمال وأبعد عن التعسف، ولكنه لا يشفي الغليل؛ لأن الأشقياء والكفار لم يغبنوا فيما لقوه، بل أخذوا حقَّهم من العذاب فلم يحصل معنى أصل الغبن، فضلًا عن المبالغة فيه المستفادة من مادة التفاعل التي لا يحسن ادّعاؤها إلا إذا كان أصلُ الفعل واقعًا، فهذا التفسير، وإن خرج من ورطة عدم صحة التفاعل، لم يخرج من ورطة عدم وجود أصل مادة الغبن. وجميع التفاسير -في رأينا- لم تخرج عن هذين المعنيَين، إمّا مع ضبط أو مع تخليط، ومنهم من مرّ بالآية مرًّا، ولم يحتلب منها دُرًّا. أما أنا فأَكُدُّ ثِمادِي، وأستهدي بالهادي، فأقول: ليس المعنى في الآية حاصلًا من مراعاة معاني المفردات، لا على وجه الحقيقة ولا على وجه المجاز، ولكنه معنى عزيزٌ جليلٌ حصل من مجموع التركيب، وهو قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}، فقد أشار الحصرُ الادّعائي الذي قدَّمْنا بيانَه إلى أن المخاطَبِين يحسبون أيّامًا كثيرة أيامَ تغابن، وأنّ هذا اليوم المتحدَّث عنه هو يومُ التغابن لا غيره من الأيام.

    فبنا أن نتعرف الأيامَ التي يعدها المخاطَبون أيامَ تغابن، وأن نرجع إلى أحوال المخاطَبِين، وهم أهلُ مكة ومَنْ حولهم؛ ذلك أن (التغابن) هنا قد أضيف إليه (يوم)، فعلمنا أن ليس المرادُ من التغابن تغابنَ آحاد الناس في بيوعاتهم الخاصّة التي تَعْرِض من ساعة إلى أخرى، وفي يوم معيَّن يكثر فيه التبايع، فيُغبن فيه ناسٌ كثيرٌ، ويتربَّص فيه بعضُ الناس ببعض لإلحاق الغبن والخسارة.

    ولا نجد أيامًا بهذه الصفة غيرَ أيام الأسواق، وقد كانت قريش أهلَ تجارة، وكانت الأسواقُ حول مكة في الحج: سوق عكاظ، وسوق ذي المجاز، وسوق مجنة. فكلُّ داخلٍ إلى الأسواق يحرص على أن يجلب الربح إلى نفسه، ويغبن غيره، ويحذر من أن يغبنه غيرُه. فكلٌّ يترقب الربحَ ويحذر الخسارة، ولا يرضى لنفسه أن يكون مغبونًا؛ لأنّ الغبن يُؤْذِن بغباوة المغبون، واستخفاف الناس به، وتمشِّي الحيلة عليه. وكلُّ هذه أوصافٌ يأباها العربي، فشُبِّه في الآية حالُ الناس يوم القيامة بحال الناس يوم السوق في ترقُّب ما ينفع والإشفاق مما يضُرُّ، وهو تشبيهُ هيئةٍ بهيئةٍ، وليس تشبيهَ معنى لفظ مفرد بمعنى مفرد آخر.

    واستُعملَ المركَّبُ الدالّ على الهيئة المشبَّه بها، فأطلق على الهيئة المشبهة على طريقة الاستعارة التمثيلية، وهي أعلى أنواع الاستعارة، والمقصود من ذلك تذكيرُ الكفار والمؤمنين بتلك الحالة بين الرغبة والرهبة حتى يستحضروا كأنهم قد تلبّسوا بها فيحذروا سوءَ عاقبتها من الآن، وذلك بأن يَسْعَوا إلى ما يجلب الربح ويتَّقُوا ما يجلب الخسارة الحقّة، قال تعالى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}[فاطر: 29]. وقد تكرر في القرآن تمثيلُ حال أهل الفوز وأهل الثبور في الآخرة بحال التجارة، كما في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}[البقرة: 16].

    ونظيرُ هذا المعنى قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذي، وذكَره البخاري تعليقًا في بعض أبواب الأدب: «إنما المفلسُ الذي يُفلِس يومَ القيامة». وقوله تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ}[النبأ: 39]، أي: يوم القيامة هو يوم النصر؛ لأن اليوم إذا أُطلق فهو يومُ النصر لبعض جيوش العرب أو بعض ملوكهم، كما قالوا: يوم تحلاق اللمم. وفي الحديث: «الصومُ في الشتاء الغنيمةُ الباردة»، فإنه اشتهر بين الناس بالغنيمة الباردة، بمعنى الغنيمة بلا مشقة عمل مِن شأنه إصعاد مرارة البدن، ولكن الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة؛ لأنه غنيمة أجر عظيم حصلت في برودة الجسم، وهو الآمن بهذا الوصف الذي هو وصفُ مدحٍ في عُرفهم، ومن هذا قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[الزمر: 15]، أي: إذا كنتم تعلمون وَصْف الخاسر فالخاسرون حقًّا هم الذين خسروا أنفسهم...إلخ.

    ولذلك جاء هذا الكلامُ المجموع في قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} مجيءَ الدليل والمقدمة، وهو أسلوب عجيب في صناعة التخاطب، فهو بمنزلة الدليل لقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا}[التغابن: 8]، وهو أيضًا بمنزلة المقدّمة لقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التغابن: 9، 10]، فلا جَرَم أنْ تَحصُلَ للسامعين بعد سماع تلك المقدمة وهذه النتيجة روعةُ الخائف الوَجِل، فتَحمِلَهم على تَوخِّي خير العمل.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) من موقع تفسير للدراسات القرآنية (https://tafsir.net/article/5187/wjh-tsmyt-ywm-al-qyamt-bywm-at-tghabn)، نُشرت هذه المقالة في المجلة الزيتونية، المجلد 2، الجزء 4، عدد شهر ذي القعدة 1356هـ - يناير 1938م (ص 148- 150)، وقد ضُمنت في (جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام الطاهر ابن عاشور)، جمع: محمد الطاهر الميساوي، ط. دار النفائس (1/ 57- 63) (موقع تفسير).
    وجهُ تسمية يوم القيامة بيوم التغابن(1) الكاتب: محمد الطاهر بن عاشور سألني عالِمٌ فاضلٌ صديقٌ، اعتاد تأنيسي بزيارته، عن تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}[التغابن: 9]، وما وجهُ تسمية يوم القيامة في هذه الآية بيوم التغابن، غير مُنثلِج لِمَا قاله بعضُ المفسرين في وجه التسمية من أن التغابن هو أنّ أهل الجنة يَغْبِنون أهل النار. وذكر أنه راجَع تفاسيرَ كثيرةً فلم يجد فيها ما يقنعه، وحاورني في ذلك محاورةً هزَّت من عطفي إلى أن أُفْصِح في تفسير هذه الآية بما عسى أن يكون فيه مَقْنَع، واللبيب يتبع أحسنَ القول ويَسْمَع. ذهب الجمهورُ إلى أن سورة التغابن مكيّة، إلا الآيات الأخيرة من آخرها التي أولها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ}[التغابن: 14]، وأحسب أن هذه الآيات هي التي بعثت القائلين بأنّ السورة مدنية، إِذْ نعلم أن المقصودَ من الخطاب بالآية هم أهل مكة ابتداء، وهم قريش؛ ولذلك جاء فيها: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}[التغابن: 7 - 9]. وقد قال أئمةٌ من المفسرين: إنّ عادة القرآن أنه يريد بالذين كفروا، متى ذكر في القرآن المشركين من قريش. وقوله: {قُلْ بَلَى}، كلمة: (بلى)، فيه إبطالٌ للنفي الواقع في قوله: {لَنْ يُبْعَثُوا}، فإنها حرف يفيد عكسَ معنى (نَعَم)، ويقع بعد النفي في الاستفهام وفي الخبر. وقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ}، ظرفٌ متعلق بقوله: {لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ}، ويجوز أن يتعلق بقوله: {لَتُبْعَثُنَّ}، باعتبار عطف قوله: {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ} عليه، أي: يبعثكم فينبِّئكم يوم يجمعكم ليوم الجمع؛ لأن البعث حاصلٌ قبل الجمع، وقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلخ. جملة معترضة بين الفعل والظرف، و(يوم الجَمْع) يوم القيامة. وقوله: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} جاء فيه اسمُ الإشارة للبعيد لتهويله ولَفْت العقول إليه، فلذلك عدل عن وصفه بيوم بعده فلم يقل: (ليوم الجمع يوم التغابن)؛ لئلا يفوت معنى الحصر المقصود، وسيُعلم ما فيه من النكتة. وجملة: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}، جملةٌ اسمية مُعرَّفة الجزأين، فكان حقُّها أن تفيدَ الحصر، أي: هو يوم التغابن وليس غيرُه من الأيام يومَ التغابن. ومعنى هذا الحصر أن ذلك اليوم لمّا حصل فيه التغابن في أمّ الفضائل جُعِل ما عداه من الأيام التي يقع فيها التغابنُ كالعدم، فحصر جنسَ يوم التغابن في ذلك اليوم بتنزيل التغابن الواقع في غيره منزلة العدم، وهذا من قَصْر الصفة على الموصوف على وجه المبالغة، وهذا الوجه من الحصر يسمَّى بالحصر الادِّعائي؛ لأن المتكلِّم يدَّعي أن الوصف بيوم التغابن محصور في ذلك اليوم، وهو يوم الجمع، كقولهم: أنت الحبيب. واعلم أنّ الحصر إنما حصل هنا من صيغة القصر التي هي تعريفُ المسند والمسند إليه، ولم يحصل الحصرُ من التعريف باللام في قوله: {التَّغَابُنِ}، بناءً على أنّ اللام فيه دالةٌ على معنى الكمال؛ لأن معنى الجنس الذي هو أصلُ معنى اللام صالِحٌ هنا، فلا يُعْدَل عنه إلى حَمْل اللام على معنى الكمال، إِذْ لا يُحْمَل عليه إلا عند تعيُّن الحمل عليه بالقرينة؛ وهي منفيةٌ هنا لاستقامة الحمل على تعريف الجنس، وهو أكثرُ معاني اللام. ولولا صيغةُ القصر لمَا استُفِيد معنى الحصر، فكيف يكون حاصلًا من معنى الكمال الذي لم ينشأ في هذا المقام إلَّا من حصول معنى الحصر؟ فلا يختلطْ عليك، كما اختلطَ على بعض العلماء. والتغابن مشتقٌّ من الغَبْن، والغبن الحطُّ من قيمة المبيع عند شرائه، فكلُّ شراء بأقلَّ من القيمة فهو غبن. ومادة التغابُن تفاعُل من الغبن. وأصل مادة التفاعل تدلّ على وقوع الفعل من جانبَيْنِ فصاعدًا، كالتقاتُل والتسابُق، فلفظ التغابن يدلّ على وقوع غبنٍ حاصلٍ بين جوانب في يوم القيامة. وقد اتفق المفسّرون على أن المفاعلةَ غيرُ مقصودٍ منها هنا وقوعُ الفعل من جوانب، ولكنهم اختلفوا في تحصيل المعنى؛ فذهب الزمخشري ومَنْ تبعه -مثل الفخر والبيضاوي- إلى أن المفاعلة هنا هي أن يغبن أهلُ السعادة أهلَ الشقاوة؛ إذ ينزلون منازلَ الجنة التي كان يمكن لأهل الشقاوة أن ينزلوها لو عَمِلوا عملَ السعداء، وهذا يشبه الغبن، فالغبن المستفاد من هذا الجانب استعارة، وهذا أحد جانبي الفعل. وأمّا جانبُ غبن أهل الشقاوة، فجعلَه الزمخشريُّ تهكُّمًا؛ لأن نزولهم في منازل النار ليس غبنًا لأهل السعادة، وعلى هذا الوجه يكون اللفظُ مستعملًا في مجازَيْنِ مختلفَيْنِ على وجه يشبه المشاكلةَ التقديرية، وهذا المعنى ينحو إلى تفصيل كلامٍ مُجْمَل نُقل عن ابن عباس، وهو تفسيرٌ بعيدٌ جدَّ البعد. وذهب ابنُ عطية إلى أنّ صيغة التفاعل هنا غيرُ مستعملةٍ في معناها الأصلي، وهو الدلالة على وقوع الفعل من جانبَيْنِ فأكثر، بل هنا لحصول الفعل من جانب واحد للمبالغة مثل التواضع والتمايل، فيكون المعنى: ذلك يوم الغبن، أي: يوم غبن الكافرين. وهو ينحو إلى تفصيل كلام نُقِل عن مجاهد في تفسير الآية هو أقرب إلى الاستعمال وأبعد عن التعسف، ولكنه لا يشفي الغليل؛ لأن الأشقياء والكفار لم يغبنوا فيما لقوه، بل أخذوا حقَّهم من العذاب فلم يحصل معنى أصل الغبن، فضلًا عن المبالغة فيه المستفادة من مادة التفاعل التي لا يحسن ادّعاؤها إلا إذا كان أصلُ الفعل واقعًا، فهذا التفسير، وإن خرج من ورطة عدم صحة التفاعل، لم يخرج من ورطة عدم وجود أصل مادة الغبن. وجميع التفاسير -في رأينا- لم تخرج عن هذين المعنيَين، إمّا مع ضبط أو مع تخليط، ومنهم من مرّ بالآية مرًّا، ولم يحتلب منها دُرًّا. أما أنا فأَكُدُّ ثِمادِي، وأستهدي بالهادي، فأقول: ليس المعنى في الآية حاصلًا من مراعاة معاني المفردات، لا على وجه الحقيقة ولا على وجه المجاز، ولكنه معنى عزيزٌ جليلٌ حصل من مجموع التركيب، وهو قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}، فقد أشار الحصرُ الادّعائي الذي قدَّمْنا بيانَه إلى أن المخاطَبِين يحسبون أيّامًا كثيرة أيامَ تغابن، وأنّ هذا اليوم المتحدَّث عنه هو يومُ التغابن لا غيره من الأيام. فبنا أن نتعرف الأيامَ التي يعدها المخاطَبون أيامَ تغابن، وأن نرجع إلى أحوال المخاطَبِين، وهم أهلُ مكة ومَنْ حولهم؛ ذلك أن (التغابن) هنا قد أضيف إليه (يوم)، فعلمنا أن ليس المرادُ من التغابن تغابنَ آحاد الناس في بيوعاتهم الخاصّة التي تَعْرِض من ساعة إلى أخرى، وفي يوم معيَّن يكثر فيه التبايع، فيُغبن فيه ناسٌ كثيرٌ، ويتربَّص فيه بعضُ الناس ببعض لإلحاق الغبن والخسارة. ولا نجد أيامًا بهذه الصفة غيرَ أيام الأسواق، وقد كانت قريش أهلَ تجارة، وكانت الأسواقُ حول مكة في الحج: سوق عكاظ، وسوق ذي المجاز، وسوق مجنة. فكلُّ داخلٍ إلى الأسواق يحرص على أن يجلب الربح إلى نفسه، ويغبن غيره، ويحذر من أن يغبنه غيرُه. فكلٌّ يترقب الربحَ ويحذر الخسارة، ولا يرضى لنفسه أن يكون مغبونًا؛ لأنّ الغبن يُؤْذِن بغباوة المغبون، واستخفاف الناس به، وتمشِّي الحيلة عليه. وكلُّ هذه أوصافٌ يأباها العربي، فشُبِّه في الآية حالُ الناس يوم القيامة بحال الناس يوم السوق في ترقُّب ما ينفع والإشفاق مما يضُرُّ، وهو تشبيهُ هيئةٍ بهيئةٍ، وليس تشبيهَ معنى لفظ مفرد بمعنى مفرد آخر. واستُعملَ المركَّبُ الدالّ على الهيئة المشبَّه بها، فأطلق على الهيئة المشبهة على طريقة الاستعارة التمثيلية، وهي أعلى أنواع الاستعارة، والمقصود من ذلك تذكيرُ الكفار والمؤمنين بتلك الحالة بين الرغبة والرهبة حتى يستحضروا كأنهم قد تلبّسوا بها فيحذروا سوءَ عاقبتها من الآن، وذلك بأن يَسْعَوا إلى ما يجلب الربح ويتَّقُوا ما يجلب الخسارة الحقّة، قال تعالى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}[فاطر: 29]. وقد تكرر في القرآن تمثيلُ حال أهل الفوز وأهل الثبور في الآخرة بحال التجارة، كما في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}[البقرة: 16]. ونظيرُ هذا المعنى قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذي، وذكَره البخاري تعليقًا في بعض أبواب الأدب: «إنما المفلسُ الذي يُفلِس يومَ القيامة». وقوله تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ}[النبأ: 39]، أي: يوم القيامة هو يوم النصر؛ لأن اليوم إذا أُطلق فهو يومُ النصر لبعض جيوش العرب أو بعض ملوكهم، كما قالوا: يوم تحلاق اللمم. وفي الحديث: «الصومُ في الشتاء الغنيمةُ الباردة»، فإنه اشتهر بين الناس بالغنيمة الباردة، بمعنى الغنيمة بلا مشقة عمل مِن شأنه إصعاد مرارة البدن، ولكن الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة؛ لأنه غنيمة أجر عظيم حصلت في برودة الجسم، وهو الآمن بهذا الوصف الذي هو وصفُ مدحٍ في عُرفهم، ومن هذا قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[الزمر: 15]، أي: إذا كنتم تعلمون وَصْف الخاسر فالخاسرون حقًّا هم الذين خسروا أنفسهم...إلخ. ولذلك جاء هذا الكلامُ المجموع في قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} مجيءَ الدليل والمقدمة، وهو أسلوب عجيب في صناعة التخاطب، فهو بمنزلة الدليل لقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا}[التغابن: 8]، وهو أيضًا بمنزلة المقدّمة لقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التغابن: 9، 10]، فلا جَرَم أنْ تَحصُلَ للسامعين بعد سماع تلك المقدمة وهذه النتيجة روعةُ الخائف الوَجِل، فتَحمِلَهم على تَوخِّي خير العمل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) من موقع تفسير للدراسات القرآنية (https://tafsir.net/article/5187/wjh-tsmyt-ywm-al-qyamt-bywm-at-tghabn)، نُشرت هذه المقالة في المجلة الزيتونية، المجلد 2، الجزء 4، عدد شهر ذي القعدة 1356هـ - يناير 1938م (ص 148- 150)، وقد ضُمنت في (جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام الطاهر ابن عاشور)، جمع: محمد الطاهر الميساوي، ط. دار النفائس (1/ 57- 63) (موقع تفسير).
    0
  • عبد الفتاح القاضي (1)

    هو العلامة المحقق الشيخ عبد الفتاح بن عبد الغنى بن محمَّد القاضي.
    ولد بمدينة (دمنهور) عاصمة محافظة (البحيرة) بمصر في 25/ 8/ 1320هـ الخامس والعشرين من شهر شعبان سنة عشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة.
    عالم مصري مبرز في القراءات وعلومها وفي العلوم الشرعية والعربية ومن أفاضل علماء الأزهر: له أدب رفيع واقتدار على النظم البديع.

    [حياته العلمية]
    حفظ القرآن الكريم في مقتبل عمره ثم أتقنه وجوده ثم أخذ القراءات العشر على غير واحد من الثقات الجهابذة الأثبات.
    بعد ذلك التحق بالمعهد الأزهرى بالإسكندرية وجد واجتهد حتى حصل على الشهادة الأولية (الإعدادية حالياً).
    ثم التحق بالقسم الثانوى من المعهد المذكور ودرس وجد في التحصيل وتخرج وحصل على الشهادة الثانوية منه.
    ثم رحل إلى القاهرة فالتحق بالقسم العالى "جامعة الأزهر حاليا" وتخرج منه وحصل على الشهادة العالمية النظامية 1931 م إحدى وثلاثين وتسعمائة وألف من الميلاد.
    ثم التحق بقسم التخصص القديم شعبة التفسير والحديث وتخرج منه وحصل على شهادة التخصص القديم "الدكتوراه حاليا" عام 1934 أربعة وثلاثين وتسعمائة وألف من الميلاد.
    ثم عين مدرساً بالمعهد الأزهرى الثانوى عقب تخرجه، ثم عين رئيساً لقسم القراءات التابع لكلية اللغة العربية بالأزهر حينذاك.
    ثم عين مفتشاً عاماً بالمعاهد الأزهرية، ثم عين شيخاً لمعهد القراءات بالقاهرة، ثم شيخاً للمعهد الأزهرى بدسوق، ثم شيخاً للمعهد الأزهرى ببلده دمنهور.
    ثم عين وكيلاً عاماً للمعاهد الأزهرية، ثم مديراً عاماً لها وظل في عمله هذا حتى أحيل إلى التقاعد.
    عين رئيساً للجنة تصحيح المصاحف بالأزهر.
    عين خطيباً بمسجد العارف بالله الإِمام عبد الوهاب الشعرانى بالقاهرة.
    عين عضواً في لجنة اختبار القراء بالإذاعة بجمهورية مصر العربية ثم رحل إلى المدينة المنورة عام، 1394هـ أربعة وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة، حيث عين رئيساً لقسم القراءات بكلية القرآن الكريم التي أنشئت في العام المذكور وكان له الدور الرئيسى في وضع مناهج هذا القسم، ثم تطوير هذه المناهج، والإشراف على تنفيذها.

    [شيوخه]
    1 - الشيخ على عباده، حيث قرأ وحفظ عليه القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم من طريق الشاطبية.
    2 - الشيخ محمود بن محمَّد غزال.
    3 - الشيخ محمود بن محمَّد نصر الدين.
    قرأ عليه القرآن الكريم وجوده برواية حفص عن عاصم من الشاطبية، ثم أخذ عنهما القراءات العشر وأجازاه بها.
    4 - الشيخ همام قطب.
    5 - الشيخ حسن صبحى، قرأ عليهما القرآن الكريم بالقراءات العشر وأجازاه بها.
    6 - الشيخ محمَّد تاج الدين تلقى عنه علم التفسير بالإسكندرية.
    7 - الشيخ حسن الشريف تلقى عنه الحديث الشريف.
    8 - الشيخ محمَّد سرور تلقى عنه التوحيد.
    9 - الشيخ محمَّد أحمد عرفه، تلقى عنه الأخلاق ملخص كتاب "إحياء علوم الدين" للإمام أبى حامد الغزالي.
    10 - الشيخ محمَّد حسن الطورى.
    11 - الشيخ محمود عبد الدايم.
    12 - الشيخ محمَّد عبد الله الجزار، تلقى عنهم الفقه الشافعى.
    13 - الشيخ شحاته المنيسى، تلقى عنه علم البلاغة.
    14 - الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر.
    15 - الشيخ الدكتور عبد الله دراز.
    16 - الشيخ عبد الحليم أحمد قادوم.
    ثلاثتهم تلقي عنهم المنطق وأدب البحث والتفسير.
    17 - الشيخ إبراهيم خاطر، تلقى عنه التوحيد.
    18 - الشيخ يوسف الدجوى، تلقى عنه التفسير.
    19 - الشيخ محمود خطاب السبكى، تلقى عنه الحديث.
    20 - الشيخ إسماعيل الملاوى، تلقى عنه الفقه الشافعى.
    21 - الشيخ محمَّد العتريس، تلقى عنه التفسير والبلاغة والأصول.
    22 - الشيخ سيد بن علي المرصفى صاحب كتاب (رغبة الآمل بشرح كتاب الكامل للمبرد) تلقى عنه الأدب.
    ستتهم درس عليهم وهو بالقاهرة.
    23 - الشيخ أحمد مكى، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر.
    24 - الشيخ عبد الله جاد، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر.
    تلقى عنهما التفسير.
    25 - الشيخ محمَّد الخضر حسن شيخ الجامع الأزهر، تلقى عنه صحيح البخاري، ثلاثتهم درس عليهم في قسم التخصص بالأزهر الشريف.

    [تلاميذه]
    1 - الشيخ إبراهيم الأخضر قرأ عليه القرآن كاملاً بالقراءات الثلاث المتممة للعشر من طريق الدرة.
    2 - الشيخ منير بن محمَّد المظفر التونسى قرأ عليه ختمة كاملة بالقراءات العشر من طريق الطيبة (2).
    3 - الشيخ على عبد الرحمن الحذيفى قرأ عليه ختمة كاملة برواية حفص عن عاصم.
    4 - الشيخ عبد العزيز قارئ قرأ عليه بعض القرآن برواية حفص، وبقراءة نافع وبقراءة ابن كثير، ولم يكمل.
    5 - الشيخ على مشرف العمرى.
    6 - الشيخ سعيد أحمد محمَّد عيسي من السند.
    7 - الشيخ موسى شاهين لاشين عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر.
    8 - الدكتور زكريا البرى وزير الأوقاف بجمهورية مصر العربية.
    9 - الدكتور عوض الله حجازى عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر سابقاً.
    10 - الأستاذ محبوب الله رحمت ولى (3).

    [مؤلفاته]
    لقد اعتنى الشيخ اعتناء كبيراً بالتأليف في العلوم القرآنية وغيرها من الفقه والفرائض فكانت مساهمة منه في إبراز العلم للناس ونشره بطريقة سهلة وأسلوب جذاب فمن مؤلفاته:
    1 - الوافى شرح الشاطبية في القراءات السبع.
    2 - الإيضاح لمتن الدرة في القراءات الثلاثة المتممة للقراءات العشر.
    3 - البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة من طريقى الشاطبية والدرة.
    4 - النظم الجامع لقراءة الإِمام نافع.
    5 - شرح النظم الجامع لقراءة الإِمام نافع من الشاطبية.
    6 - نظم السر المصون في رواية قالون من الشاطبية.
    7 - شرح السر المصون في رواية قالون.
    8 - شرح منحة مولى البر فيما زاد النشر للقراء العشر للعلامة الأبياري.
    9 - القراءات في نظر المستشرقين والملاحدة وهو من أنفس كتب المترجم.
    10 - شرح ناظمة الزهر المسمى "بشير اليسر" في علم الفواصل.
    11 - نظم الفرائد الحسان في عد آى القرآن.
    12 - نفائس البيان شرح الفرائد الحسان.
    13 - من علوم القرآن.
    14 - منظومة في علم الميراث.
    15 - شرح أرجوزة الميراث.
    16 - القيام وأحكامه وسننه.
    17 - القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب.
    18 - تاريخ المصحف الشريف.
    19 - تاريخ القراء العشرة ورواتهم وتواتر قراءتهم ومنهج كل قراءة.
    20 - أبحاث في قراءات القرآن الكريم.
    21 - أسباب النزول عن الصحابة والمفسرين.

    [الكتب التي قام بتحقيقها]
    1 - تحبير التيسير في قراءة الأئمة العشرة.
    2 - شرح تلخيص الفوائد وتقريب المتباعد على عقيلة أتراب العصائد.
    3 - دليل الحيران شرح مورد الظمآن في رسم وضبط القرآن للعلامة المارغنى.

    [وفاته]
    وبعد حياة مليئة بخدمة كتاب الله تعالى تأليفاً وإقراءاً وتعليماً توفي رحمه الله في القاهرة (4) في يوم الاثنين
    15/ 1/ 1403هـ الخامس عشر من شهر الله المحرم عام ثلاثة وأربعمائة وألف من الهجرة.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) إمتاع الفضلاء بتراجم القراء فيما بعد القرن الثامن الهجري (1/ 194-201)، تأليف: إلياس البرماوي، قال المؤلف: بتصرف من كتاب "هداية القاري إلى تجويد كلام الباري" الطبعة الأولى ص 667 - 672، ومن "مجلة كلية القرآن الكريم والدراسات الإِسلامية" بالمدينة المنورة - العدد الأول ص 297 - 320.
    (2) قال المؤلف: وقد أخبرنى الشيخ سيد لاشين أبو الفرح بأنه قرأ عليه القرآن الكريم من طريق الطيبة إفراداً بالتجزئة - ختمة كاملة وبعد الختمة سأله الشيخ سيد لاشين من قرأ عليه قبله؟ فأجابه الشيخ القاضى بأنه لا أحد! قال الشيخ سيد: وبعد فترة وجيزة توفي الشيخ القاضى. أخبرني بذلك في منزله في أواخر شهر شوال عام 1418 هـ ثمانية عشر وأربعمائة وألف من الهجرة.
    (3) قال المؤلف: أخبرنى بذلك الأستاذ محبوب شخصياً.
    (4) قال المؤلف: أخبرنى بذلك الشيخ محمَّد تميم الزعبي بمنزله يوم الأربعاء 14/ 3/ 1419 هـ.
    عبد الفتاح القاضي (1) هو العلامة المحقق الشيخ عبد الفتاح بن عبد الغنى بن محمَّد القاضي. ولد بمدينة (دمنهور) عاصمة محافظة (البحيرة) بمصر في 25/ 8/ 1320هـ الخامس والعشرين من شهر شعبان سنة عشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة. عالم مصري مبرز في القراءات وعلومها وفي العلوم الشرعية والعربية ومن أفاضل علماء الأزهر: له أدب رفيع واقتدار على النظم البديع. [حياته العلمية] حفظ القرآن الكريم في مقتبل عمره ثم أتقنه وجوده ثم أخذ القراءات العشر على غير واحد من الثقات الجهابذة الأثبات. بعد ذلك التحق بالمعهد الأزهرى بالإسكندرية وجد واجتهد حتى حصل على الشهادة الأولية (الإعدادية حالياً). ثم التحق بالقسم الثانوى من المعهد المذكور ودرس وجد في التحصيل وتخرج وحصل على الشهادة الثانوية منه. ثم رحل إلى القاهرة فالتحق بالقسم العالى "جامعة الأزهر حاليا" وتخرج منه وحصل على الشهادة العالمية النظامية 1931 م إحدى وثلاثين وتسعمائة وألف من الميلاد. ثم التحق بقسم التخصص القديم شعبة التفسير والحديث وتخرج منه وحصل على شهادة التخصص القديم "الدكتوراه حاليا" عام 1934 أربعة وثلاثين وتسعمائة وألف من الميلاد. ثم عين مدرساً بالمعهد الأزهرى الثانوى عقب تخرجه، ثم عين رئيساً لقسم القراءات التابع لكلية اللغة العربية بالأزهر حينذاك. ثم عين مفتشاً عاماً بالمعاهد الأزهرية، ثم عين شيخاً لمعهد القراءات بالقاهرة، ثم شيخاً للمعهد الأزهرى بدسوق، ثم شيخاً للمعهد الأزهرى ببلده دمنهور. ثم عين وكيلاً عاماً للمعاهد الأزهرية، ثم مديراً عاماً لها وظل في عمله هذا حتى أحيل إلى التقاعد. عين رئيساً للجنة تصحيح المصاحف بالأزهر. عين خطيباً بمسجد العارف بالله الإِمام عبد الوهاب الشعرانى بالقاهرة. عين عضواً في لجنة اختبار القراء بالإذاعة بجمهورية مصر العربية ثم رحل إلى المدينة المنورة عام، 1394هـ أربعة وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة، حيث عين رئيساً لقسم القراءات بكلية القرآن الكريم التي أنشئت في العام المذكور وكان له الدور الرئيسى في وضع مناهج هذا القسم، ثم تطوير هذه المناهج، والإشراف على تنفيذها. [شيوخه] 1 - الشيخ على عباده، حيث قرأ وحفظ عليه القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم من طريق الشاطبية. 2 - الشيخ محمود بن محمَّد غزال. 3 - الشيخ محمود بن محمَّد نصر الدين. قرأ عليه القرآن الكريم وجوده برواية حفص عن عاصم من الشاطبية، ثم أخذ عنهما القراءات العشر وأجازاه بها. 4 - الشيخ همام قطب. 5 - الشيخ حسن صبحى، قرأ عليهما القرآن الكريم بالقراءات العشر وأجازاه بها. 6 - الشيخ محمَّد تاج الدين تلقى عنه علم التفسير بالإسكندرية. 7 - الشيخ حسن الشريف تلقى عنه الحديث الشريف. 8 - الشيخ محمَّد سرور تلقى عنه التوحيد. 9 - الشيخ محمَّد أحمد عرفه، تلقى عنه الأخلاق ملخص كتاب "إحياء علوم الدين" للإمام أبى حامد الغزالي. 10 - الشيخ محمَّد حسن الطورى. 11 - الشيخ محمود عبد الدايم. 12 - الشيخ محمَّد عبد الله الجزار، تلقى عنهم الفقه الشافعى. 13 - الشيخ شحاته المنيسى، تلقى عنه علم البلاغة. 14 - الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر. 15 - الشيخ الدكتور عبد الله دراز. 16 - الشيخ عبد الحليم أحمد قادوم. ثلاثتهم تلقي عنهم المنطق وأدب البحث والتفسير. 17 - الشيخ إبراهيم خاطر، تلقى عنه التوحيد. 18 - الشيخ يوسف الدجوى، تلقى عنه التفسير. 19 - الشيخ محمود خطاب السبكى، تلقى عنه الحديث. 20 - الشيخ إسماعيل الملاوى، تلقى عنه الفقه الشافعى. 21 - الشيخ محمَّد العتريس، تلقى عنه التفسير والبلاغة والأصول. 22 - الشيخ سيد بن علي المرصفى صاحب كتاب (رغبة الآمل بشرح كتاب الكامل للمبرد) تلقى عنه الأدب. ستتهم درس عليهم وهو بالقاهرة. 23 - الشيخ أحمد مكى، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر. 24 - الشيخ عبد الله جاد، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر. تلقى عنهما التفسير. 25 - الشيخ محمَّد الخضر حسن شيخ الجامع الأزهر، تلقى عنه صحيح البخاري، ثلاثتهم درس عليهم في قسم التخصص بالأزهر الشريف. [تلاميذه] 1 - الشيخ إبراهيم الأخضر قرأ عليه القرآن كاملاً بالقراءات الثلاث المتممة للعشر من طريق الدرة. 2 - الشيخ منير بن محمَّد المظفر التونسى قرأ عليه ختمة كاملة بالقراءات العشر من طريق الطيبة (2). 3 - الشيخ على عبد الرحمن الحذيفى قرأ عليه ختمة كاملة برواية حفص عن عاصم. 4 - الشيخ عبد العزيز قارئ قرأ عليه بعض القرآن برواية حفص، وبقراءة نافع وبقراءة ابن كثير، ولم يكمل. 5 - الشيخ على مشرف العمرى. 6 - الشيخ سعيد أحمد محمَّد عيسي من السند. 7 - الشيخ موسى شاهين لاشين عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر. 8 - الدكتور زكريا البرى وزير الأوقاف بجمهورية مصر العربية. 9 - الدكتور عوض الله حجازى عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر سابقاً. 10 - الأستاذ محبوب الله رحمت ولى (3). [مؤلفاته] لقد اعتنى الشيخ اعتناء كبيراً بالتأليف في العلوم القرآنية وغيرها من الفقه والفرائض فكانت مساهمة منه في إبراز العلم للناس ونشره بطريقة سهلة وأسلوب جذاب فمن مؤلفاته: 1 - الوافى شرح الشاطبية في القراءات السبع. 2 - الإيضاح لمتن الدرة في القراءات الثلاثة المتممة للقراءات العشر. 3 - البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة من طريقى الشاطبية والدرة. 4 - النظم الجامع لقراءة الإِمام نافع. 5 - شرح النظم الجامع لقراءة الإِمام نافع من الشاطبية. 6 - نظم السر المصون في رواية قالون من الشاطبية. 7 - شرح السر المصون في رواية قالون. 8 - شرح منحة مولى البر فيما زاد النشر للقراء العشر للعلامة الأبياري. 9 - القراءات في نظر المستشرقين والملاحدة وهو من أنفس كتب المترجم. 10 - شرح ناظمة الزهر المسمى "بشير اليسر" في علم الفواصل. 11 - نظم الفرائد الحسان في عد آى القرآن. 12 - نفائس البيان شرح الفرائد الحسان. 13 - من علوم القرآن. 14 - منظومة في علم الميراث. 15 - شرح أرجوزة الميراث. 16 - القيام وأحكامه وسننه. 17 - القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب. 18 - تاريخ المصحف الشريف. 19 - تاريخ القراء العشرة ورواتهم وتواتر قراءتهم ومنهج كل قراءة. 20 - أبحاث في قراءات القرآن الكريم. 21 - أسباب النزول عن الصحابة والمفسرين. [الكتب التي قام بتحقيقها] 1 - تحبير التيسير في قراءة الأئمة العشرة. 2 - شرح تلخيص الفوائد وتقريب المتباعد على عقيلة أتراب العصائد. 3 - دليل الحيران شرح مورد الظمآن في رسم وضبط القرآن للعلامة المارغنى. [وفاته] وبعد حياة مليئة بخدمة كتاب الله تعالى تأليفاً وإقراءاً وتعليماً توفي رحمه الله في القاهرة (4) في يوم الاثنين 15/ 1/ 1403هـ الخامس عشر من شهر الله المحرم عام ثلاثة وأربعمائة وألف من الهجرة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) إمتاع الفضلاء بتراجم القراء فيما بعد القرن الثامن الهجري (1/ 194-201)، تأليف: إلياس البرماوي، قال المؤلف: بتصرف من كتاب "هداية القاري إلى تجويد كلام الباري" الطبعة الأولى ص 667 - 672، ومن "مجلة كلية القرآن الكريم والدراسات الإِسلامية" بالمدينة المنورة - العدد الأول ص 297 - 320. (2) قال المؤلف: وقد أخبرنى الشيخ سيد لاشين أبو الفرح بأنه قرأ عليه القرآن الكريم من طريق الطيبة إفراداً بالتجزئة - ختمة كاملة وبعد الختمة سأله الشيخ سيد لاشين من قرأ عليه قبله؟ فأجابه الشيخ القاضى بأنه لا أحد! قال الشيخ سيد: وبعد فترة وجيزة توفي الشيخ القاضى. أخبرني بذلك في منزله في أواخر شهر شوال عام 1418 هـ ثمانية عشر وأربعمائة وألف من الهجرة. (3) قال المؤلف: أخبرنى بذلك الأستاذ محبوب شخصياً. (4) قال المؤلف: أخبرنى بذلك الشيخ محمَّد تميم الزعبي بمنزله يوم الأربعاء 14/ 3/ 1419 هـ.
    0
  • أحمد إسماعيل مكتي (1)

    هو الشيخ أحمد بن إسماعيل بن محمَّد بن عبد الكريم مكَّتى السنديوني.
    ولد بسنديون قليوبية إحدى محافظات الشمالية بجمهورية مصر العربية وذلك في 2/ 8/ 1933 م الثاني من شهر أغسطس عام ثلاثة وثلاثين وتسعمائة وألف من الميلاد.

    [حياته العلمية]
    حفظ القرآن بأحد الكتاتيب، ثم التحق بمعهد القراءات التابع للأزهر ودرس به مواد القرآن والقراءات وتخرج منه عام 1968 م ثمانية وستين وتسعمائة وألف من الميلاد، ثم التحق بمعهد شيوخ وإدارد المعاهد الدينية الأزهرية وتخرج منها وحصل على الشهادة من المعهد نفسه، ثم التحق بكلية الدراسات الإِسلامية والعربية التابعة لجامعة الأزهر وفيها درس الأصول والفقه والنحو والصرف واللغة والبلاغة والأدب والحديث والعقيدة ومصطلح الحديث والتفسير والرسم والضبط والفواصل وتخرج منها عام 1972م اثنتين وسبعين وتسعمائة وألف من الميلاد.
    ثم عين مديراً للمعهد الديني في قليوب، ثم عين مدرساً في معهد القراءات، ودرس في حلقات الأوقاف.
    ثم عين مدرساً في الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة منذ سنة 1397هـ سبع وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة لمدة عشر سنوات ثم عين مستمعاً للقرآن الكريم بجميع القراءات في المراقبة للكاسيت بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة.
    ويعمل مصححاً لقراءة الحفاظ في إدارة جمعية تحفيظ القرآن بالمدينة المنورة.
    انتدب لقراءة القرآن الكريم بأنحاء العالم من قبل وزارة الأوقاف بالقاهرة وإمامة الناس فيها ومن الدول التي انتدب إليها هي: سيراليون في غريب أفريقيا، وكينيا، وسيرلانكا، والهند وكندا وفرانكفورت بألمانيا.

    [شيوخه]
    1 - الشيخ حسن عبد السلام حسن أبو طالب, حيث قرأ عليه القرآن الكريم بالقراءات العشر من طريقي الشاطبية والدرة وحفظ التحفة الجمزروية والمقدمة الجزرية وقرأ شرحها، ثم حفظ منظومة الشاطبية والدرة المضية وطيبة النشر وناظمة الزهر وعقيلة أتراب القصائد ومورد الظمآن ونفائس البيان في عدآي القرآن للعلامة القاضي (2) وأرجوزة في
    علم الفواصل للمتولي (3)
    2 - الشيخ حسن المري من أساتذته في القراءات وعلومها.
    3 - الشيخ علي أبو طالب.
    4 - الشيخ علي بدوي.
    5 - الشيخ عامر السيد عثمان.
    6 - الشيخ أحمد الزيات.
    7 - الشيخ عبد العظيم الخياط.
    8 - الشيخ محمَّد يونس.
    9 - الشيخ رزق خليل حبَّة.
    حيث درس عليهم علم القراءات والفواصل والضبط والرسم.

    [تلاميذه]
    1 - غازى بنيدر الحربي.
    2 - أحمد قال.
    3 - أسامة مصطفي الجمعة، ثلاثتهم قرؤوا عليه القرآن الكريم ختمة كاملة بالقراءات السبع من الشاطبية.
    4 - مالك جليدان.
    5 - محمَّد الأمين يوسف الموجه بجمعية تحفيظ القرآن الكريم بالمدينة المنورة.
    6 - أبو إسماعيل الفلسطيني.
    7 - محمَّد السوري.
    أربعتهم قرؤوا عليه القرآن برواية ورش عن نافع المدني.
    وأما الذين قرؤوا عليه القرآن كاملاً برواية حفص عن عاصم من طريق الشاطبية فخلق كثير نذكر منهم:
    8 - خالد لطيف عبد الله الهبيدي.
    9 - الأستاذ محمَّد صالح فرغل، مدرس الحاسب الآلي بثانوية طيبة بالمدينة المنورة.
    10 - يحيى زكريا حسيني.
    11 - طلبة زكريا حسيني.
    12 - سيدي أحمد ولد سيدي محمَّد.
    13 - المشتبي ولد المصطفى.
    14 - خالد العوفي.
    15 - صالح المغربي.
    16 - حمود عوض فاضل اليمني الموظف في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف, والإمام بمسجد السطيحي بالمدينة المنورة.
    17 - أبو أنس الليبي.
    18 - حمدان الكويتي.
    19 - خالد شجاع الكويتي.
    21 - عماد رشدي خليل.
    22 - عبد الرحمن يوسف أحمد شاهين.
    23 - محمَّد عامر عبد الحميد مظاهري.
    24 - عمار رشدي خليل.
    25 - الصادق بن محمَّد بن إبراهيم.
    26 - عابد بن مصرى البلادى.
    27 - محمَّد الله سلطان أحمد.
    28 - صالح العسولي.
    29 - محمَّد بن عبد الرحمن بن عبد الله الأحسري.
    30 - محمَّد حبيب أحمد مختار.
    31 - عبد الله مصري مبهج البلادي.
    32 - مصطفى محمَّد الأمين, وغيرهم كثير.
    33 - عبد الله ناجي.
    قرأ عليه القرآن برواية حفص عن عاصم من الشاطبية، ثم قرأ العشر من الشاطبية والدرة، وقرأ عليه من الكتب، كتاب: إرشاد المزيد إلى مقصود القصيد للشيخ علي الضباع مع شرح المترجم عليه. وكتاب شرح طيبة النشر لابن الناظم، وشح طيبة النشر للنويرى، وحضر شرح هداية المزيد إلى رواية أبي سعيد، وقرأ عليه منظومة في رواية شعبة عن عاصم، وكتب أخرى.
    34 - عبد الغني بن أحمد حسين بن سليمان البرماوي، قرأ عليه القرآن برواية حفص عن عاصم من طريق الشاطبية.

    [وفاته] (4)
    ولا زال الشيخ يدرس القرآن الكريم، لا يفتر في ذلك، حتى توفاه الله يوم الإثنين 5/ 3 /2012م.


    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) إمتاع الفضلاء بتراجم القراء فيما بعد القرن الثامن الهجري (1 / 28-33).
    (2) هو عبد الفتاح عبد الغني القاضي المترجم له في هذا الكتاب.
    (3) هو محمَّد بن أحمد المعروف بالمتولي شيخ القراء والمقارئ بالديار المصرية في وقته عالم بالقراءات وتحريراتها صاحب المصنفات العظيمة والجليلة توفي سنة (1313) هـ ثلاثة عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة.
    (4) من إضافة فريق المحتوى بشبكة التواصل القرآنية (آي نت).
    أحمد إسماعيل مكتي (1) هو الشيخ أحمد بن إسماعيل بن محمَّد بن عبد الكريم مكَّتى السنديوني. ولد بسنديون قليوبية إحدى محافظات الشمالية بجمهورية مصر العربية وذلك في 2/ 8/ 1933 م الثاني من شهر أغسطس عام ثلاثة وثلاثين وتسعمائة وألف من الميلاد. [حياته العلمية] حفظ القرآن بأحد الكتاتيب، ثم التحق بمعهد القراءات التابع للأزهر ودرس به مواد القرآن والقراءات وتخرج منه عام 1968 م ثمانية وستين وتسعمائة وألف من الميلاد، ثم التحق بمعهد شيوخ وإدارد المعاهد الدينية الأزهرية وتخرج منها وحصل على الشهادة من المعهد نفسه، ثم التحق بكلية الدراسات الإِسلامية والعربية التابعة لجامعة الأزهر وفيها درس الأصول والفقه والنحو والصرف واللغة والبلاغة والأدب والحديث والعقيدة ومصطلح الحديث والتفسير والرسم والضبط والفواصل وتخرج منها عام 1972م اثنتين وسبعين وتسعمائة وألف من الميلاد. ثم عين مديراً للمعهد الديني في قليوب، ثم عين مدرساً في معهد القراءات، ودرس في حلقات الأوقاف. ثم عين مدرساً في الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة منذ سنة 1397هـ سبع وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة لمدة عشر سنوات ثم عين مستمعاً للقرآن الكريم بجميع القراءات في المراقبة للكاسيت بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة. ويعمل مصححاً لقراءة الحفاظ في إدارة جمعية تحفيظ القرآن بالمدينة المنورة. انتدب لقراءة القرآن الكريم بأنحاء العالم من قبل وزارة الأوقاف بالقاهرة وإمامة الناس فيها ومن الدول التي انتدب إليها هي: سيراليون في غريب أفريقيا، وكينيا، وسيرلانكا، والهند وكندا وفرانكفورت بألمانيا. [شيوخه] 1 - الشيخ حسن عبد السلام حسن أبو طالب, حيث قرأ عليه القرآن الكريم بالقراءات العشر من طريقي الشاطبية والدرة وحفظ التحفة الجمزروية والمقدمة الجزرية وقرأ شرحها، ثم حفظ منظومة الشاطبية والدرة المضية وطيبة النشر وناظمة الزهر وعقيلة أتراب القصائد ومورد الظمآن ونفائس البيان في عدآي القرآن للعلامة القاضي (2) وأرجوزة في علم الفواصل للمتولي (3) 2 - الشيخ حسن المري من أساتذته في القراءات وعلومها. 3 - الشيخ علي أبو طالب. 4 - الشيخ علي بدوي. 5 - الشيخ عامر السيد عثمان. 6 - الشيخ أحمد الزيات. 7 - الشيخ عبد العظيم الخياط. 8 - الشيخ محمَّد يونس. 9 - الشيخ رزق خليل حبَّة. حيث درس عليهم علم القراءات والفواصل والضبط والرسم. [تلاميذه] 1 - غازى بنيدر الحربي. 2 - أحمد قال. 3 - أسامة مصطفي الجمعة، ثلاثتهم قرؤوا عليه القرآن الكريم ختمة كاملة بالقراءات السبع من الشاطبية. 4 - مالك جليدان. 5 - محمَّد الأمين يوسف الموجه بجمعية تحفيظ القرآن الكريم بالمدينة المنورة. 6 - أبو إسماعيل الفلسطيني. 7 - محمَّد السوري. أربعتهم قرؤوا عليه القرآن برواية ورش عن نافع المدني. وأما الذين قرؤوا عليه القرآن كاملاً برواية حفص عن عاصم من طريق الشاطبية فخلق كثير نذكر منهم: 8 - خالد لطيف عبد الله الهبيدي. 9 - الأستاذ محمَّد صالح فرغل، مدرس الحاسب الآلي بثانوية طيبة بالمدينة المنورة. 10 - يحيى زكريا حسيني. 11 - طلبة زكريا حسيني. 12 - سيدي أحمد ولد سيدي محمَّد. 13 - المشتبي ولد المصطفى. 14 - خالد العوفي. 15 - صالح المغربي. 16 - حمود عوض فاضل اليمني الموظف في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف, والإمام بمسجد السطيحي بالمدينة المنورة. 17 - أبو أنس الليبي. 18 - حمدان الكويتي. 19 - خالد شجاع الكويتي. 21 - عماد رشدي خليل. 22 - عبد الرحمن يوسف أحمد شاهين. 23 - محمَّد عامر عبد الحميد مظاهري. 24 - عمار رشدي خليل. 25 - الصادق بن محمَّد بن إبراهيم. 26 - عابد بن مصرى البلادى. 27 - محمَّد الله سلطان أحمد. 28 - صالح العسولي. 29 - محمَّد بن عبد الرحمن بن عبد الله الأحسري. 30 - محمَّد حبيب أحمد مختار. 31 - عبد الله مصري مبهج البلادي. 32 - مصطفى محمَّد الأمين, وغيرهم كثير. 33 - عبد الله ناجي. قرأ عليه القرآن برواية حفص عن عاصم من الشاطبية، ثم قرأ العشر من الشاطبية والدرة، وقرأ عليه من الكتب، كتاب: إرشاد المزيد إلى مقصود القصيد للشيخ علي الضباع مع شرح المترجم عليه. وكتاب شرح طيبة النشر لابن الناظم، وشح طيبة النشر للنويرى، وحضر شرح هداية المزيد إلى رواية أبي سعيد، وقرأ عليه منظومة في رواية شعبة عن عاصم، وكتب أخرى. 34 - عبد الغني بن أحمد حسين بن سليمان البرماوي، قرأ عليه القرآن برواية حفص عن عاصم من طريق الشاطبية. [وفاته] (4) ولا زال الشيخ يدرس القرآن الكريم، لا يفتر في ذلك، حتى توفاه الله يوم الإثنين 5/ 3 /2012م. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) إمتاع الفضلاء بتراجم القراء فيما بعد القرن الثامن الهجري (1 / 28-33). (2) هو عبد الفتاح عبد الغني القاضي المترجم له في هذا الكتاب. (3) هو محمَّد بن أحمد المعروف بالمتولي شيخ القراء والمقارئ بالديار المصرية في وقته عالم بالقراءات وتحريراتها صاحب المصنفات العظيمة والجليلة توفي سنة (1313) هـ ثلاثة عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة. (4) من إضافة فريق المحتوى بشبكة التواصل القرآنية (آي نت).
    1
    1
  • نفائس قرآنية
    نفائس قرآنية
    2188 الأعضاء
  • مصطلحات علوم القرآن
    مقارنة بين بعض مصطلحات علوم القرآن (نماذج مما يتوهم تداخله من المصطلحات المتعلقة بالنص القرآني وأبرز مباحث علوم القرآن)   الكاتبة: منيرة بنت خليفة بن إبراهيم بوعنقاء الخالدي 1442 هـ -2021م   الملخص   تتناول الدراسة موضوع مصطلحات علوم القرآن؛ وفيها تم انتقاء أبرز الفروق التي تحتاج إلى دراسة، والتي يكثر الخلط وتوهم التشابه بين تعاريفها. وأما طريقة البحث المتبعة هي: منهج...
    1