مقالات رائدة في المجلات والصحف والمواقع الإلكترونية عن القرآن الكريم وعلومه وفنونه وكل ما يتعلق به.
تدوينات حديثة
  • عبر في قصة يوسف *
    أ.د. خالد السبت

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، سمعتم في هذه القراءة المفصلة تفاصيل هذه القصة، التي هي من أحسن القصص، كما قال الله تعالى في أول هذه السورة: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: 3].

    وذلك يُستخرج منه: أن ذكر القصص، والأخبار، أن ذلك من أمور التربية، التي يُقوّم فيها سلوك الإنسان وبها تُستنهض الهمم الميتة، وبها تُبرز النماذج الكاملة؛ ليُؤتسى بها، ويُقتدى بها.

    ثم إذا نظرت إلى هذا القصص الذي ساقه الله تعالى في هذه الآيات وجدت الارتقاء بكل صوره، ومعانيه، وجدت الكمال، لا تجد لفظة تُعاب، حتى حينما يتكلم ربنا تعالى عن القضايا المتعلقة بالمراودة، عن القضايا التي يعجز كثير من الناس أن يعبروا عنها تعبيراً تبلغ به العبرة دون أن تتحرك الغرائز تبعاً لذلك، الله تعالى يذكر تفاصيل مهمة مما وقع من المراودة بين تلك المرأة وبين يوسف ﷺ دون أن يحرك المشاعر الخلفية التي لابد أن تتحرك عند ذكر هذه القصص في كلام الناس، ولكن الله تعالى يذكر ذلك ذكراً نزيهاً، طيباً، شريفاً، لا عوج فيه، ولا إثارة.

    ثم أيضاً أن هذا القصص التي يذكرها الله تعالى : لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى [يوسف:111] هذه القصص هي قصصٌ حقيقية، ومن هنا نعلم أن التربية تكمن في هذا الطريق أيضاً، فهو وسيلة لإصلاح النفوس، وتهذيبها، وتقويمها على طاعة الله تعالى.

    لكن تلك القصص ينبغي أن تكون حقيقية صادقة؛ ليتعلم الناس الصدق من ذلك لأول وهلة، دون أن نذكر لهم قصة مفبركة لا حقيقة لها.


    الأحداث المترابطة في ثنايا قصة يورسف تعالى​​​​​​​:
    ثم انظروا الأطوار، والأحداث المترابطة في ثنايا هذه القصة، إنها أحداث عجيبة، نحن بحاجة إلى الوقوف معها في هذه الأيام، أيام الهزيمة، الهزيمة العسكرية، والهزيمة النفسية، والهزيمة الفكرية، الهزيمة في كل الميادين، حتى صرنا نراجع مبادئنا، وثوابتنا، وعقائدنا؛ من أجل أن عدونا بدأ يلوح لنا بالقوة تارة، وبالتشويه تارة، فأصبحنا نشكك في كل شيء.

    نحن بحاجة إلى الوقوف معها في هذه الأيام، أيام الهزيمة، الهزيمة العسكرية، والهزيمة النفسية، والهزيمة الفكرية، الهزيمة في كل الميادين، حتى صرنا نراجع مبادئنا، وثوابتنا، وعقائدنا؛ من أجل أن عدونا بدأ يلوح لنا بالقوة تارة، وبالتشويه تارة، فأصبحنا نشكك في كل شيء.

    ووجد له آذاناً مصغية، حتى صرنا إلى حالٍ لا نُحسد عليها، صدقنا ما قالوه فينا، تصرفاتنا، ومراجعاتنا، وأفعالنا، نحن نعيش في هذه الأيام أمورًا عجيبة في واقع الأمة، نعيش صراعاً هائلاً بين قوى عظمى قد امتلكت أسلحة الفتك بجميع أنواعها، وقد امتلكت أبواقاً إعلامية لا يقادر قدرها، فصوبت ذلك جميعاً إلى نحر هذه الأمة، فاندحر من اندحر، وثبت من ثبت، وتشكك من تشكك، وتراجع من تراجع.
    في مثل هذا الصراع نحن بحاجة إلى أن نتأمل في تدبير الله تعالى وكيده لأوليائه، وعباده المؤمنين، انظروا إلى يوسف ﷺ كان إلقاؤه في البئر، ثم خروجه بعد ذلك إلى الرق، ثم بعد ذلك ما وقع له من المراودة، ثم ما وقع له بعد ذلك من السجن، بتهمة قذرة دنسة، ثم بعد ذلك يكون ما يكون من تلك الرؤيا التي رآها ذلك السجين، فيكون سبباً لمعرفة ما عنده من المواهب، والعلوم.

    ثم يخرج ذلك السجين، فينسى تلك الوصية من يوسف ﷺ فيرى ذلك الملك رؤيا يُذكّر بها ذلك السجين ما أوصاه به يوسف ﷺ بعد أن نسوه في السجن، فبقي بضع سنين، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم - عليه الصلاة والسلام.


    رؤيا الملك كانت سبباً لخروج يوسف ﷺ:
    هذا الملك حينما رأى هذه الرؤيا، وكانت سبباً لخروج يوسف ﷺ من السجن، وكان ذلك التفسير سبباً لتجنيب تلك الأمة كارثة اقتصادية، كانت يمكن أن تذهب بالأخضر، واليابس، فانظر هذا التدبير لو أن الإنسان نظر بعقله المجرد لأول وهلة لعرف، أو لأدرك، أو تصور أن إيقاع يوسف ﷺ في كل واحدة من تلك البلايا كان ذلك كافياً في إهانته، وإسقاطه، وكسر نفسه، وهزيمته، وإقعاده عن كل شيء من المُثل، ومعالي الأمور، ولكن تدبير الله تعالى يختلف عن ذلك.


    إلقاء يوسف عليه السلام في البئر:
    الإلقاء في البئر، ثم ما حصل بعده مما ذكرتُ، مما قصه الله تعالى كان سبباً لارتقائه للعرش، هذا تدبير الله تعالى وهذا ما نؤمله، ونعرفه من ترابط الأحداث في أيامنا التي نعيشها، وإن كانت تلك الأحداث مؤلمة، إن ما يجرى - ولا أقول ذلك مبالغة في التفاؤل - نرجو أن يكون من كيد الله، وتدبيره، لإسقاط فرعون العصر، وطاغوته، إنه يُستجر ليُمرّغ، ويُضرب من كل ناحية في جسده، ثم بعد ذلك يكون مهيناً، ذليلاً، كل أحد يزدريه، وتسقط هيبته، ومنزلته، وما صنع حول نفسه من الهيلمان.


    هذه الأيام نشاهد أطرافاً من تدبير الله تعالى:​​​​​​​
    نحن في هذه الأيام نشاهد أطرافاً من هذا التدبير الذي لربما يعيش في هذه الأيام في حلقاته الوسطى، وأرجو إن طال بنا زمان أن لا ينقضي عمر الشباب منا حتى يروا هذا الطاغوت الكبير الذي ملأ الأرض فساداً، وعتوًّا حتى يروه يسقط، ويتمرّغ في الوحل، ولكن ذلك يحتاج منا إلى وثوق بمبدئنا، ويحتاج منا إلى صبر.

    الابتلاء هو الخطوة الأولى للتمكين:
    انظروا كيف قصّ الله تعالى خبر يوسف ﷺ فبقي ملازماً للتقوى في كل حالاته، كيف كان مثالاً للالتزام الصحيح في حال الرخاء، وفي حال الشدة.

    انظروا إليه حينما رأى تلك الرؤيا، فقصها على من يحب - وهو أبوه - ويثق به، وبتفسيره، وعلمه، وخبره، فكل صاحب نعمة محسود، لابد أن ينبري له أعداء، مهما حاول أن يخفي ما عنده من المواهب، والإمكانات، والعلوم فإنه لابد أن ينبري له في طريقة بعض الخصوم، والأعداء، وقد يكون هؤلاء من أقرب الناس إليه.

    انظروا إلى يوسف ﷺ كيف ابتُلي، والابتلاء هو الخطوة الأولى للتمكين.

    سئل الشافعي - رحمه الله - : هل يمكّن للإنسان قبل أن يبتلى؟ قال: "لا يُمكّن له حتى يُبتلى"[1] وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] فمن تزعزع، وتزلزل، وتراجع عن مبادئه، وثوابته هذا لا يستحق التمكين، لا يستحق التمكين من يتشكك بالثوابت، من يتشكك في العقيدة، من يتشكك في علمائه، من يتشكك في مناهجه، من يتشكك في وحي الله تعالى هذا لا يستحق التمكين.

    انظروا إلى حال يوسف ﷺ وهذه البلايا التي تُساق إليه، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم، - عليه الصلاة والسلام - ، (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل[2] فلا تجزع إذا أصابك البلاء، ولا تتشكك حينما يتنزل هذا البلاء كالسحب السوداء المتراكمة، يتنزل على هذه الأمة، إنها تُمحّص حتى يبقي أهل الصدق، والثبات، وتكون العاقبة لهم بإذن الله تعالى في نهاية المطاف.

    انظروا إلى يوسف ﷺ يُحسد من قبل إخوته، ثم يلقى في البئر وهو صغير منذ نعومة أظفاره، بلا رحمة، ثم بعد ذلك يخرج إلى الرِّق، الكريم يُباع؟ سلالة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يُباع، ويُسترق، ويُستذل!، ثم انظروا بعد ذلك كيف تتزين الفتنة، فتن في البئر، وفتن في الرِّق، ثم بعد ذلك فُتن بفتنة الشهوة التي لا يثبت معها، ولا يتماسك إلا من عصمه الله تعالى راودته، راجعته في أمر تريده منه، مرة بعد مرة تحاول، ثم بعد ذلك قد أغلقت الأبواب، وهيأت له ما أرادت، وأغرته، وما ظنكم بجمالها، وهي زوجة الملك، وما ظنكم بالمنَعة التي تحصل له بمواقعة هذه المرأة، وما ظنكم بألوان الحصانة، والإغراء التي تهيأت له وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23].

    التربية التي نحن أحوج ما نكون إليها في وقتنا الحاضر:
    هنا تأتي قضية التربية، التربية التي نحن أحوج ما نكون إليها في وقتنا الحاضر، أن نربي النفوس على مراقبة الله تعالى في حال الجلوة، والخلوة؛ لأننا صرنا في زمان تعرض فيه الفتن مكشرة في أحوال لا يطلّع على العبد فيها إلا الله وحده لا شريك له، مع غاية الإغراء عبر وسائل تعرفونها، فهذا يحتاج إلى تربية عظيمة، كما أنه يحتاج أيضاً إلى مراقبة لله تعالى كما يحتاج إلى صدقٍ في الفزع إليه، وصدق اللَّجأ إليه - سبحانه وتعالى - فقال - عليه الصلاة والسلام - حينما اجتمع عليه أولئك النسوة: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ۝ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ [يوسف:33 - 34].

    فالله تعالى بين ذلك، وعلل كونه من عباده المخلصين، الإخلاص يكون سبباً لنجاة العبد، ينبغي أن يكون للعبد خبيئة من عمل صالح لا يطلع عليه الناس، ولو كان قليلاً، فيكون ذلك سبباً لتخليصه من ألوان المكاره، والمخاوف، لمّا تبدت هذه الفتنة ليوسف ﷺ لجأ إلى الله تعالى فكيف بأولئك الذين يبحثون، وينقرون؟ فكان الواحد منهم كعنز السوء تقوم بظلفها تستخرج سكيناً تُذبح بها!.


    من بحث عن الشهرة كيف له بالسلامة؟
    أولئك الذين يبحثون عن الشهوة، والفتنة، وينقرون عنها في كل مكان، كيف لهم بالسلامة؟! ومن عرّض نفسه للفتنة أولاً لم ينجُ منها آخراً، فالعبد يبتعد ويستريح قلبه، فإذا ابتُلي عليه أن يتذكر الله، وعليه أن يعتصم به، ويدعو ربه أن يخلصه من هذه الكروب، والمخاوف.

    كيف استحبّ يوسف ﷺ لسجن على مقارفة الفواحش؟
    انظروا إلى يوسف ﷺ كيف استحبّ السجن على مقارفة هذه الفواحش.

    ثم انظر كيف هذه الآيات تعطينا معنى تربويًّا مهماً، وهو أن مشاهدة النساء للرجال الذين يمتلئون نضارة، وحيوية، وشباباً، أن ذلك مظنّة للفتنة، ولو كان أولئك الرجال من الصالحين، هذا ملحظ مهم.

    كيف إذا كان أولئك الرجال ممن يجلس نصف نهار يضع ألوان المكياج على وجهه، ثم يخرج ليقدم نشرة للأخبار، أو يقدم برنامجاً في إحدى هذه الفضائيات؟ بل كيف إذا كان الذي يخرج امرأة ينظر إليها الرجال؟ فأقول: النساء لربما تُفتن الواحدة بما تسمع، بنبرة صوت الرجل، بنبرة صوته، كيف إذا رأته؟ هذا الداعية الذي يعلو المنابر، وتسمعه النساء عشرات السنين، ثم بعد ذلك تراه وقد كانت تتخيل صورة معينة، فيبدو لها وقد امتلأ شباباً، ونضارة، لا يُؤمن معها أن تحصل فتنة لبعض النساء.

    ولذلك من كان بهذه المثابة من الحسن، والبهاء، وأعطاه الله نضارة، وشباباً، فينبغي أن يتوقى مثل هذه المواقع التي يكون فيها سبباً لفتنة غيره.


    قصة يوسف عليه السلام تنبهنا كيف نربي نساءنا:
    كما أنه ينبهنا كيف نربي نساءنا، فلا يترك الواحد امرأته وبناته أمام الشاشات، ينظرن إلى الرجال، وقد ظهروا بأحسن حُلتّهم، ولو كان هؤلاء في غاية الصلاح، فالواحد قد خضب لحيته، وظهر في صورة من النضارة والشباب، وتزين غاية الزينة، هذا أمر قد يأسر بعض النفوس.

    أولئك النساء كنّ يعبن امرأة العزيز، فتقول الواحدة: امْرَأَتُ العَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ [يوسف:30 - 31] ماذا فعلت؟ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ [يوسف:31] فأعجبن به، فأسرهن جماله، ولهذا قال بعد ذلك: إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51].

    فصار ذلك الفعل مشتركاً بينهن وبين امرأة العزيز، تحولن من منكرات على امرأة العزيز إلى مشاركات لها في هذا الفعل، فهذه قضية مهمة.


    كيف تصرف العزيز مع امرأته؟
    وأمر آخر، انظروا إلى ما وقع ليوسف ﷺ مع هذا العزيز، انظروا كيف يؤثر ذهاب الغيرة، لما ثبتت براءة يوسف ﷺ ماذا فعل هذا الرجل لامرأته؟ قال: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَيوسف:29 فقط! لم يحرك ساكناً، ولم يبعده عنها، بل أبقاه في بيتها، ثم أخرجته إلى أولئك النسوة، وما زالت مصرة على مراودته: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32] فانظروا كيف يكون ذهاب الغيرة مؤثراً في نفوس أولئك أشباه الرجال.


    إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ:
    ثم انظروا ما ذكره الله بعد ذلك، حينما دخل يوسف ﷺ إلى السجن، لمّا رأى رفيقاه في السجن تلك الرؤيا عرضوها على يوسف، وقالوا: إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:36].

    عرفوا إحسان يوسف ﷺ وهو في السجن، لم يجلس ليحدثهم عن نفسه، رأوا إحسانه بالسجناء، ورأوا إحسانه إلى السجّانين، ورأوا إحسانه مع الله  في العبودية، وإقامتها، والتقرب إلى ربه، ومالكه، ومعبوده تعالى فعرفوا إحسان يوسف ﷺ وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن الداعية في كل أحواله؛ في حال السجن، وفي وسط البئر، وفي حال الملك، وفي جميع أحواله يكون محسناً، ما رد هؤلاء، وقال: لا شأن لي بكم، ثم انظر كيف دعاهم إلى الله تعالى واستغل الفرصة: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار [يوسف:39] لم يتخلَّ عن مبادئه، ولم يجزع، ولم تنكسر نفسه، وتنثنِ إرادته، فيتثبط عن دعوته، لا، لا زال ينشر هذه الدعوة في كل مكان.

    ولهذا نجد شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: "ما يصنع بي أعدائي، إن سجني خلوة، وإخراجي من بلدي سياحة، وقتلي شهادة"[3] يقول: "إن جنتي وبستاني في صدري"، ماذا يُصنع بمثل هذا؟.

    فلما وضعوه في السجن تحول أهل السجن من أهل بطالة إلى أهل اشتغال بالعلم والعبادة، فاضطروا إلى إخراجه من السجن؛ لئلا يفسده بزعمهم!، هكذا يفعل الداعية في كل الأحوال.

    فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ:
    ثم انظر بعد ذلك لما خرج ذلك الرجل من السجن، ونسي وصية يوسف: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف:42] كيف يبقى يوسف ﷺ وفي تهمة تتعلق بالأخلاق، يبقى في السجن بضع سنين؟.

    أقول: إنه إعداد من الله تعالى لهؤلاء الكبار لقيادة الأمم، وتخليصها، لا تدركه عقول البشر، كيف تبقى طاقة كطاقة يوسف ﷺ منسية في الحبس؟ كيف يبقى موسى ﷺ في الصحراء، في مدين يرعى الغنم عشر سنين، شريداً، طريداً يرعى الغنم عشر سنين في مقابل بُضع امرأة تزوجها على رعي الغنم، ذلك قبل أن يُنبأ، ولكنه لا شك أنه أفضل أهل زمانه - عليه الصلاة والسلام - فالله يصطفي الأنبياء من خيار الناس، يبقى تلك المدة الطويلة عشر سنين، إنه إعداد الله لأوليائه، وأهل كرامته، فهذا لا يدخل تحت المقاييس البشرية.

    ولذلك أقول: ينبغي أن نثق بالله تعالى وبتدبيره، وبكيده لأوليائه كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف:76].


    ما قال: أخرجني من البئر:
    انظر كيف كانت هذه الرؤيا - رؤيا الملك - سبباً لخروج يوسف ﷺ من السجن، ثم إلى المُلك، فإنه ذكرها حينما ذكر نعمة الله تعالى عليه، حينما قال: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف:100] ما قال: أخرجني من البئر؛ لأنه خرج من البئر إلى الرّق، وخرج من السجن إلى المُلك، فانظروا إلى هذا التدبير من الله تعالى ثم انظروا كيف فسّر يوسف ﷺ هذه الرؤيا الخطيرة لذلك الملك، ما قال: أنتم ظلمتموني وفي تهمة قذرة دنسة، ولطختم سمعتي، وسجنتموني عدواناً، كيف أفسّر لكم هذا التفسير الذي يكون فيه المخرج، والخلاص بإذن الله تعالى من ورطة تنتظركم؟ ما قال لهم هذا الكلام؛ لأنه من المحسنين، لا يعرف تصفية الحسابات، لا يعرف الأحقاد، بينه وبين هذا مشكلة، والثالث مشكلة، والرابع مشكلة، والخامس ما زاره في المستشفى، والسادس ما عزاه، والسابع قال كلمة في حقه، والثامن؛ لأنه ما قام له حينما سلم عليه، وقد قام لغيره، إلى غير ذلك مما يتمرّغ به أصحاب النفوس الحقيرة، الدنية، الصغيرة.

    يوسف ﷺ كبير، ونفسه كبيرة، تتسع للجميع، تأتي الرؤيا من الملك، ويفسّرها، تأتي الرؤيا من هذا المسجون، ويفسّرها، ويحسن إلى الجميع كالمطر.

    انظروا إلى كلام يوسف عليه السلام مع إخوته:
    ولذلك أقول: انظروا إلى انضباط يوسف في كل هذه الأحوال، انظروا إلى كلامه مع إخوته، حينما دارت الأيام، فجاءوا إليه، وقدّر الله  أن تكون حاجتهم عنده، فجاءوا إليه في غاية الحاجة، والمسكنة، والذل، والصغار، فما آذاهم حتى حينما قالوا: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف:77] لم يشنّع عليهم، وإنما قال: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا [يوسف:77] ولم يكاشرهم بذلك، بل أسرها في نفسه، أخفاها عنهم؛ لئلا يجرح مشاعرهم، ثم انظر إليهم حينما جاءوا إليه بعدما عرفوه: قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي [يوسف:90] فقالوا له: استغفر لنا، فلما طلبوا منه الاستغفار، واعترفوا بخطئهم، وتقصيرهم لم يؤنّب، ولم يعنّف، بل قال: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [يوسف:92] لم يذكِّرهم بأفعالهم السيئة، ثم بعد ذلك لما جاءوا مع أبيهم خروا له سجداً: وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ [يوسف:100] إلى أن قال: بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسف:100] لم يجرح مشاعرهم، ويذكِّرهم بذلك الفعل السيئ.

    تصور لو أن أحداً من قرابتك، أو من جيرانك، أو من زملائك في العمل أساء إليك بعشر معشار هذه الإساءات، كيف تصنع معه؟ كيف تتصرف؟ إن الكثيرين يعقدون عداوته أبد الدهر، ولا يقبلون فيه صرفاً، ولا عدلا، ولا عذراً لمعتذر، لماذا؟ لأننا لا نحمل نفوساً كبيرة كنفس يوسف.

    لماذا كان الكريمَ ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم؟ فلنحلق عالياً، ولنترفع عن هذه المدنّسات، والأوحال التي تذلنا، وتهيننا، وتقعدنا عن طاعة الله تعالى فتعتلج الأحقاد في القلب، فالإنسان يصلي، ويتذكر ما فعل به فلان، وما قال له فلان، وما قصد فلان بالكلمة الفلانية، ترفَّعْ عن مثل هذه الأمور، فإن الأحقاد أول من يُعذب بها صاحبُها، لا ينام الليل يتقلب على فراشه، ينعصر قلبه، يتمنى أن يتشفى من فلان، وفلان، وفلان لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف:92] لم يطلب منهم العذر، ولم ينتظر منهم أي شيء من الإحسان.

    وهذه عِبر كبار ينبغي أن نقف عندها، وأن نثق بما عند الله تعالى ونعلم أن العاقبة للمتقين، وإن طالت الليالي المظلمة السوداء، ونعرف أن البلاء على قدر ما عند الإنسان من الإيمان، فالله لا يبتلي العبد من أجل أن يكسره، وإنما من أجل أن يرفعه، فثِقْ بما عند الله تعالى ولا تنكسر أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على قدر دينه[4].

    لكن من لطف الله تعالى أنه إن كان في دينه رقة خُفف عنه، فمن الناس من يكون بلاؤه في أمور تافهة حقيرة، بلاؤه أن هذا قال له كُليمة، وذلك تصرف أمامه تصرفاً غير لائق، وأخرى تصيح، وتلطم خدها، وتنتف شعرها؛ لأن أطفالها الصغار يتهارشون حولها، فهذا هو حظها من البلاء، وآخر بلاؤه في دريهمات فقدها، وآخر بلاؤه في مشكلة بينه وبين مؤذن المسجد، والثالث مشكلته ومصيبته العظمى هي في قضية بينه وبين أحد تلامذته، قال التلميذ كلمة في الفصل فجعلها قضية القضايا، كل إنسان على قدر نفسه يُعطى من البلاء، ومن الناس من يُصب عليهم البلاء صبًّا، فتنة الضراء، وفتنة السراء.

    فنسأل الله تعالى أن يلطف بنا جميعاً، وأن يلهمنا وإياكم رشدنا، وأن ينفعنا بالقرآن العظيم، وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا، وأن يرحم موتانا، ويشفي مرضانا، ويعافي مبتلانا، وأن يجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، ونسأله - تبارك وتعالى - أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يعيننا وإياكم في هذا الشهر الكريم على أنفسنا، فنسأله - تبارك وتعالى - أن يرفعنا، ولا يضعنا، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين.

    نسأل الله أن يغفر لنا ولكم أجمعين، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * موقع أ. د. خالد السبت: (https://2u.pw/s8BwJ).
    [1] الفوائد لابن القيم: (1/208).
    [2] أخرجه الترمذي، كتاب الزهد، باب الصبر على الأذى، رقم: (2398) وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم: (4023)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، رقم: (3249).
    [3] المستدرك على مجموع الفتاوى: (1 / 153).
    [4] أخرجه الترمذي، كتاب الزهد، باب الصبر على الأذى، رقم: (2398) وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم: (4023)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، رقم: (3249).
    عبر في قصة يوسف * أ.د. خالد السبت الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، سمعتم في هذه القراءة المفصلة تفاصيل هذه القصة، التي هي من أحسن القصص، كما قال الله تعالى في أول هذه السورة: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: 3]. وذلك يُستخرج منه: أن ذكر القصص، والأخبار، أن ذلك من أمور التربية، التي يُقوّم فيها سلوك الإنسان وبها تُستنهض الهمم الميتة، وبها تُبرز النماذج الكاملة؛ ليُؤتسى بها، ويُقتدى بها. ثم إذا نظرت إلى هذا القصص الذي ساقه الله تعالى في هذه الآيات وجدت الارتقاء بكل صوره، ومعانيه، وجدت الكمال، لا تجد لفظة تُعاب، حتى حينما يتكلم ربنا تعالى عن القضايا المتعلقة بالمراودة، عن القضايا التي يعجز كثير من الناس أن يعبروا عنها تعبيراً تبلغ به العبرة دون أن تتحرك الغرائز تبعاً لذلك، الله تعالى يذكر تفاصيل مهمة مما وقع من المراودة بين تلك المرأة وبين يوسف ﷺ دون أن يحرك المشاعر الخلفية التي لابد أن تتحرك عند ذكر هذه القصص في كلام الناس، ولكن الله تعالى يذكر ذلك ذكراً نزيهاً، طيباً، شريفاً، لا عوج فيه، ولا إثارة. ثم أيضاً أن هذا القصص التي يذكرها الله تعالى : لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى [يوسف:111] هذه القصص هي قصصٌ حقيقية، ومن هنا نعلم أن التربية تكمن في هذا الطريق أيضاً، فهو وسيلة لإصلاح النفوس، وتهذيبها، وتقويمها على طاعة الله تعالى. لكن تلك القصص ينبغي أن تكون حقيقية صادقة؛ ليتعلم الناس الصدق من ذلك لأول وهلة، دون أن نذكر لهم قصة مفبركة لا حقيقة لها. الأحداث المترابطة في ثنايا قصة يورسف تعالى​​​​​​​: ثم انظروا الأطوار، والأحداث المترابطة في ثنايا هذه القصة، إنها أحداث عجيبة، نحن بحاجة إلى الوقوف معها في هذه الأيام، أيام الهزيمة، الهزيمة العسكرية، والهزيمة النفسية، والهزيمة الفكرية، الهزيمة في كل الميادين، حتى صرنا نراجع مبادئنا، وثوابتنا، وعقائدنا؛ من أجل أن عدونا بدأ يلوح لنا بالقوة تارة، وبالتشويه تارة، فأصبحنا نشكك في كل شيء. نحن بحاجة إلى الوقوف معها في هذه الأيام، أيام الهزيمة، الهزيمة العسكرية، والهزيمة النفسية، والهزيمة الفكرية، الهزيمة في كل الميادين، حتى صرنا نراجع مبادئنا، وثوابتنا، وعقائدنا؛ من أجل أن عدونا بدأ يلوح لنا بالقوة تارة، وبالتشويه تارة، فأصبحنا نشكك في كل شيء. ووجد له آذاناً مصغية، حتى صرنا إلى حالٍ لا نُحسد عليها، صدقنا ما قالوه فينا، تصرفاتنا، ومراجعاتنا، وأفعالنا، نحن نعيش في هذه الأيام أمورًا عجيبة في واقع الأمة، نعيش صراعاً هائلاً بين قوى عظمى قد امتلكت أسلحة الفتك بجميع أنواعها، وقد امتلكت أبواقاً إعلامية لا يقادر قدرها، فصوبت ذلك جميعاً إلى نحر هذه الأمة، فاندحر من اندحر، وثبت من ثبت، وتشكك من تشكك، وتراجع من تراجع. في مثل هذا الصراع نحن بحاجة إلى أن نتأمل في تدبير الله تعالى وكيده لأوليائه، وعباده المؤمنين، انظروا إلى يوسف ﷺ كان إلقاؤه في البئر، ثم خروجه بعد ذلك إلى الرق، ثم بعد ذلك ما وقع له من المراودة، ثم ما وقع له بعد ذلك من السجن، بتهمة قذرة دنسة، ثم بعد ذلك يكون ما يكون من تلك الرؤيا التي رآها ذلك السجين، فيكون سبباً لمعرفة ما عنده من المواهب، والعلوم. ثم يخرج ذلك السجين، فينسى تلك الوصية من يوسف ﷺ فيرى ذلك الملك رؤيا يُذكّر بها ذلك السجين ما أوصاه به يوسف ﷺ بعد أن نسوه في السجن، فبقي بضع سنين، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم - عليه الصلاة والسلام. رؤيا الملك كانت سبباً لخروج يوسف ﷺ: هذا الملك حينما رأى هذه الرؤيا، وكانت سبباً لخروج يوسف ﷺ من السجن، وكان ذلك التفسير سبباً لتجنيب تلك الأمة كارثة اقتصادية، كانت يمكن أن تذهب بالأخضر، واليابس، فانظر هذا التدبير لو أن الإنسان نظر بعقله المجرد لأول وهلة لعرف، أو لأدرك، أو تصور أن إيقاع يوسف ﷺ في كل واحدة من تلك البلايا كان ذلك كافياً في إهانته، وإسقاطه، وكسر نفسه، وهزيمته، وإقعاده عن كل شيء من المُثل، ومعالي الأمور، ولكن تدبير الله تعالى يختلف عن ذلك. إلقاء يوسف عليه السلام في البئر: الإلقاء في البئر، ثم ما حصل بعده مما ذكرتُ، مما قصه الله تعالى كان سبباً لارتقائه للعرش، هذا تدبير الله تعالى وهذا ما نؤمله، ونعرفه من ترابط الأحداث في أيامنا التي نعيشها، وإن كانت تلك الأحداث مؤلمة، إن ما يجرى - ولا أقول ذلك مبالغة في التفاؤل - نرجو أن يكون من كيد الله، وتدبيره، لإسقاط فرعون العصر، وطاغوته، إنه يُستجر ليُمرّغ، ويُضرب من كل ناحية في جسده، ثم بعد ذلك يكون مهيناً، ذليلاً، كل أحد يزدريه، وتسقط هيبته، ومنزلته، وما صنع حول نفسه من الهيلمان. هذه الأيام نشاهد أطرافاً من تدبير الله تعالى:​​​​​​​ نحن في هذه الأيام نشاهد أطرافاً من هذا التدبير الذي لربما يعيش في هذه الأيام في حلقاته الوسطى، وأرجو إن طال بنا زمان أن لا ينقضي عمر الشباب منا حتى يروا هذا الطاغوت الكبير الذي ملأ الأرض فساداً، وعتوًّا حتى يروه يسقط، ويتمرّغ في الوحل، ولكن ذلك يحتاج منا إلى وثوق بمبدئنا، ويحتاج منا إلى صبر. الابتلاء هو الخطوة الأولى للتمكين: انظروا كيف قصّ الله تعالى خبر يوسف ﷺ فبقي ملازماً للتقوى في كل حالاته، كيف كان مثالاً للالتزام الصحيح في حال الرخاء، وفي حال الشدة. انظروا إليه حينما رأى تلك الرؤيا، فقصها على من يحب - وهو أبوه - ويثق به، وبتفسيره، وعلمه، وخبره، فكل صاحب نعمة محسود، لابد أن ينبري له أعداء، مهما حاول أن يخفي ما عنده من المواهب، والإمكانات، والعلوم فإنه لابد أن ينبري له في طريقة بعض الخصوم، والأعداء، وقد يكون هؤلاء من أقرب الناس إليه. انظروا إلى يوسف ﷺ كيف ابتُلي، والابتلاء هو الخطوة الأولى للتمكين. سئل الشافعي - رحمه الله - : هل يمكّن للإنسان قبل أن يبتلى؟ قال: "لا يُمكّن له حتى يُبتلى"[1] وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] فمن تزعزع، وتزلزل، وتراجع عن مبادئه، وثوابته هذا لا يستحق التمكين، لا يستحق التمكين من يتشكك بالثوابت، من يتشكك في العقيدة، من يتشكك في علمائه، من يتشكك في مناهجه، من يتشكك في وحي الله تعالى هذا لا يستحق التمكين. انظروا إلى حال يوسف ﷺ وهذه البلايا التي تُساق إليه، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم، - عليه الصلاة والسلام - ، (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل[2] فلا تجزع إذا أصابك البلاء، ولا تتشكك حينما يتنزل هذا البلاء كالسحب السوداء المتراكمة، يتنزل على هذه الأمة، إنها تُمحّص حتى يبقي أهل الصدق، والثبات، وتكون العاقبة لهم بإذن الله تعالى في نهاية المطاف. انظروا إلى يوسف ﷺ يُحسد من قبل إخوته، ثم يلقى في البئر وهو صغير منذ نعومة أظفاره، بلا رحمة، ثم بعد ذلك يخرج إلى الرِّق، الكريم يُباع؟ سلالة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يُباع، ويُسترق، ويُستذل!، ثم انظروا بعد ذلك كيف تتزين الفتنة، فتن في البئر، وفتن في الرِّق، ثم بعد ذلك فُتن بفتنة الشهوة التي لا يثبت معها، ولا يتماسك إلا من عصمه الله تعالى راودته، راجعته في أمر تريده منه، مرة بعد مرة تحاول، ثم بعد ذلك قد أغلقت الأبواب، وهيأت له ما أرادت، وأغرته، وما ظنكم بجمالها، وهي زوجة الملك، وما ظنكم بالمنَعة التي تحصل له بمواقعة هذه المرأة، وما ظنكم بألوان الحصانة، والإغراء التي تهيأت له وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23]. التربية التي نحن أحوج ما نكون إليها في وقتنا الحاضر: هنا تأتي قضية التربية، التربية التي نحن أحوج ما نكون إليها في وقتنا الحاضر، أن نربي النفوس على مراقبة الله تعالى في حال الجلوة، والخلوة؛ لأننا صرنا في زمان تعرض فيه الفتن مكشرة في أحوال لا يطلّع على العبد فيها إلا الله وحده لا شريك له، مع غاية الإغراء عبر وسائل تعرفونها، فهذا يحتاج إلى تربية عظيمة، كما أنه يحتاج أيضاً إلى مراقبة لله تعالى كما يحتاج إلى صدقٍ في الفزع إليه، وصدق اللَّجأ إليه - سبحانه وتعالى - فقال - عليه الصلاة والسلام - حينما اجتمع عليه أولئك النسوة: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ۝ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ [يوسف:33 - 34]. فالله تعالى بين ذلك، وعلل كونه من عباده المخلصين، الإخلاص يكون سبباً لنجاة العبد، ينبغي أن يكون للعبد خبيئة من عمل صالح لا يطلع عليه الناس، ولو كان قليلاً، فيكون ذلك سبباً لتخليصه من ألوان المكاره، والمخاوف، لمّا تبدت هذه الفتنة ليوسف ﷺ لجأ إلى الله تعالى فكيف بأولئك الذين يبحثون، وينقرون؟ فكان الواحد منهم كعنز السوء تقوم بظلفها تستخرج سكيناً تُذبح بها!. من بحث عن الشهرة كيف له بالسلامة؟ أولئك الذين يبحثون عن الشهوة، والفتنة، وينقرون عنها في كل مكان، كيف لهم بالسلامة؟! ومن عرّض نفسه للفتنة أولاً لم ينجُ منها آخراً، فالعبد يبتعد ويستريح قلبه، فإذا ابتُلي عليه أن يتذكر الله، وعليه أن يعتصم به، ويدعو ربه أن يخلصه من هذه الكروب، والمخاوف. كيف استحبّ يوسف ﷺ لسجن على مقارفة الفواحش؟ انظروا إلى يوسف ﷺ كيف استحبّ السجن على مقارفة هذه الفواحش. ثم انظر كيف هذه الآيات تعطينا معنى تربويًّا مهماً، وهو أن مشاهدة النساء للرجال الذين يمتلئون نضارة، وحيوية، وشباباً، أن ذلك مظنّة للفتنة، ولو كان أولئك الرجال من الصالحين، هذا ملحظ مهم. كيف إذا كان أولئك الرجال ممن يجلس نصف نهار يضع ألوان المكياج على وجهه، ثم يخرج ليقدم نشرة للأخبار، أو يقدم برنامجاً في إحدى هذه الفضائيات؟ بل كيف إذا كان الذي يخرج امرأة ينظر إليها الرجال؟ فأقول: النساء لربما تُفتن الواحدة بما تسمع، بنبرة صوت الرجل، بنبرة صوته، كيف إذا رأته؟ هذا الداعية الذي يعلو المنابر، وتسمعه النساء عشرات السنين، ثم بعد ذلك تراه وقد كانت تتخيل صورة معينة، فيبدو لها وقد امتلأ شباباً، ونضارة، لا يُؤمن معها أن تحصل فتنة لبعض النساء. ولذلك من كان بهذه المثابة من الحسن، والبهاء، وأعطاه الله نضارة، وشباباً، فينبغي أن يتوقى مثل هذه المواقع التي يكون فيها سبباً لفتنة غيره. قصة يوسف عليه السلام تنبهنا كيف نربي نساءنا: كما أنه ينبهنا كيف نربي نساءنا، فلا يترك الواحد امرأته وبناته أمام الشاشات، ينظرن إلى الرجال، وقد ظهروا بأحسن حُلتّهم، ولو كان هؤلاء في غاية الصلاح، فالواحد قد خضب لحيته، وظهر في صورة من النضارة والشباب، وتزين غاية الزينة، هذا أمر قد يأسر بعض النفوس. أولئك النساء كنّ يعبن امرأة العزيز، فتقول الواحدة: امْرَأَتُ العَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ [يوسف:30 - 31] ماذا فعلت؟ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ [يوسف:31] فأعجبن به، فأسرهن جماله، ولهذا قال بعد ذلك: إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51]. فصار ذلك الفعل مشتركاً بينهن وبين امرأة العزيز، تحولن من منكرات على امرأة العزيز إلى مشاركات لها في هذا الفعل، فهذه قضية مهمة. كيف تصرف العزيز مع امرأته؟ وأمر آخر، انظروا إلى ما وقع ليوسف ﷺ مع هذا العزيز، انظروا كيف يؤثر ذهاب الغيرة، لما ثبتت براءة يوسف ﷺ ماذا فعل هذا الرجل لامرأته؟ قال: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَيوسف:29 فقط! لم يحرك ساكناً، ولم يبعده عنها، بل أبقاه في بيتها، ثم أخرجته إلى أولئك النسوة، وما زالت مصرة على مراودته: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32] فانظروا كيف يكون ذهاب الغيرة مؤثراً في نفوس أولئك أشباه الرجال. إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ: ثم انظروا ما ذكره الله بعد ذلك، حينما دخل يوسف ﷺ إلى السجن، لمّا رأى رفيقاه في السجن تلك الرؤيا عرضوها على يوسف، وقالوا: إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:36]. عرفوا إحسان يوسف ﷺ وهو في السجن، لم يجلس ليحدثهم عن نفسه، رأوا إحسانه بالسجناء، ورأوا إحسانه إلى السجّانين، ورأوا إحسانه مع الله  في العبودية، وإقامتها، والتقرب إلى ربه، ومالكه، ومعبوده تعالى فعرفوا إحسان يوسف ﷺ وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن الداعية في كل أحواله؛ في حال السجن، وفي وسط البئر، وفي حال الملك، وفي جميع أحواله يكون محسناً، ما رد هؤلاء، وقال: لا شأن لي بكم، ثم انظر كيف دعاهم إلى الله تعالى واستغل الفرصة: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار [يوسف:39] لم يتخلَّ عن مبادئه، ولم يجزع، ولم تنكسر نفسه، وتنثنِ إرادته، فيتثبط عن دعوته، لا، لا زال ينشر هذه الدعوة في كل مكان. ولهذا نجد شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: "ما يصنع بي أعدائي، إن سجني خلوة، وإخراجي من بلدي سياحة، وقتلي شهادة"[3] يقول: "إن جنتي وبستاني في صدري"، ماذا يُصنع بمثل هذا؟. فلما وضعوه في السجن تحول أهل السجن من أهل بطالة إلى أهل اشتغال بالعلم والعبادة، فاضطروا إلى إخراجه من السجن؛ لئلا يفسده بزعمهم!، هكذا يفعل الداعية في كل الأحوال. فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ: ثم انظر بعد ذلك لما خرج ذلك الرجل من السجن، ونسي وصية يوسف: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف:42] كيف يبقى يوسف ﷺ وفي تهمة تتعلق بالأخلاق، يبقى في السجن بضع سنين؟. أقول: إنه إعداد من الله تعالى لهؤلاء الكبار لقيادة الأمم، وتخليصها، لا تدركه عقول البشر، كيف تبقى طاقة كطاقة يوسف ﷺ منسية في الحبس؟ كيف يبقى موسى ﷺ في الصحراء، في مدين يرعى الغنم عشر سنين، شريداً، طريداً يرعى الغنم عشر سنين في مقابل بُضع امرأة تزوجها على رعي الغنم، ذلك قبل أن يُنبأ، ولكنه لا شك أنه أفضل أهل زمانه - عليه الصلاة والسلام - فالله يصطفي الأنبياء من خيار الناس، يبقى تلك المدة الطويلة عشر سنين، إنه إعداد الله لأوليائه، وأهل كرامته، فهذا لا يدخل تحت المقاييس البشرية. ولذلك أقول: ينبغي أن نثق بالله تعالى وبتدبيره، وبكيده لأوليائه كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف:76]. ما قال: أخرجني من البئر: انظر كيف كانت هذه الرؤيا - رؤيا الملك - سبباً لخروج يوسف ﷺ من السجن، ثم إلى المُلك، فإنه ذكرها حينما ذكر نعمة الله تعالى عليه، حينما قال: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف:100] ما قال: أخرجني من البئر؛ لأنه خرج من البئر إلى الرّق، وخرج من السجن إلى المُلك، فانظروا إلى هذا التدبير من الله تعالى ثم انظروا كيف فسّر يوسف ﷺ هذه الرؤيا الخطيرة لذلك الملك، ما قال: أنتم ظلمتموني وفي تهمة قذرة دنسة، ولطختم سمعتي، وسجنتموني عدواناً، كيف أفسّر لكم هذا التفسير الذي يكون فيه المخرج، والخلاص بإذن الله تعالى من ورطة تنتظركم؟ ما قال لهم هذا الكلام؛ لأنه من المحسنين، لا يعرف تصفية الحسابات، لا يعرف الأحقاد، بينه وبين هذا مشكلة، والثالث مشكلة، والرابع مشكلة، والخامس ما زاره في المستشفى، والسادس ما عزاه، والسابع قال كلمة في حقه، والثامن؛ لأنه ما قام له حينما سلم عليه، وقد قام لغيره، إلى غير ذلك مما يتمرّغ به أصحاب النفوس الحقيرة، الدنية، الصغيرة. يوسف ﷺ كبير، ونفسه كبيرة، تتسع للجميع، تأتي الرؤيا من الملك، ويفسّرها، تأتي الرؤيا من هذا المسجون، ويفسّرها، ويحسن إلى الجميع كالمطر. انظروا إلى كلام يوسف عليه السلام مع إخوته: ولذلك أقول: انظروا إلى انضباط يوسف في كل هذه الأحوال، انظروا إلى كلامه مع إخوته، حينما دارت الأيام، فجاءوا إليه، وقدّر الله  أن تكون حاجتهم عنده، فجاءوا إليه في غاية الحاجة، والمسكنة، والذل، والصغار، فما آذاهم حتى حينما قالوا: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف:77] لم يشنّع عليهم، وإنما قال: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا [يوسف:77] ولم يكاشرهم بذلك، بل أسرها في نفسه، أخفاها عنهم؛ لئلا يجرح مشاعرهم، ثم انظر إليهم حينما جاءوا إليه بعدما عرفوه: قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي [يوسف:90] فقالوا له: استغفر لنا، فلما طلبوا منه الاستغفار، واعترفوا بخطئهم، وتقصيرهم لم يؤنّب، ولم يعنّف، بل قال: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [يوسف:92] لم يذكِّرهم بأفعالهم السيئة، ثم بعد ذلك لما جاءوا مع أبيهم خروا له سجداً: وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ [يوسف:100] إلى أن قال: بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسف:100] لم يجرح مشاعرهم، ويذكِّرهم بذلك الفعل السيئ. تصور لو أن أحداً من قرابتك، أو من جيرانك، أو من زملائك في العمل أساء إليك بعشر معشار هذه الإساءات، كيف تصنع معه؟ كيف تتصرف؟ إن الكثيرين يعقدون عداوته أبد الدهر، ولا يقبلون فيه صرفاً، ولا عدلا، ولا عذراً لمعتذر، لماذا؟ لأننا لا نحمل نفوساً كبيرة كنفس يوسف. لماذا كان الكريمَ ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم؟ فلنحلق عالياً، ولنترفع عن هذه المدنّسات، والأوحال التي تذلنا، وتهيننا، وتقعدنا عن طاعة الله تعالى فتعتلج الأحقاد في القلب، فالإنسان يصلي، ويتذكر ما فعل به فلان، وما قال له فلان، وما قصد فلان بالكلمة الفلانية، ترفَّعْ عن مثل هذه الأمور، فإن الأحقاد أول من يُعذب بها صاحبُها، لا ينام الليل يتقلب على فراشه، ينعصر قلبه، يتمنى أن يتشفى من فلان، وفلان، وفلان لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف:92] لم يطلب منهم العذر، ولم ينتظر منهم أي شيء من الإحسان. وهذه عِبر كبار ينبغي أن نقف عندها، وأن نثق بما عند الله تعالى ونعلم أن العاقبة للمتقين، وإن طالت الليالي المظلمة السوداء، ونعرف أن البلاء على قدر ما عند الإنسان من الإيمان، فالله لا يبتلي العبد من أجل أن يكسره، وإنما من أجل أن يرفعه، فثِقْ بما عند الله تعالى ولا تنكسر أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على قدر دينه[4]. لكن من لطف الله تعالى أنه إن كان في دينه رقة خُفف عنه، فمن الناس من يكون بلاؤه في أمور تافهة حقيرة، بلاؤه أن هذا قال له كُليمة، وذلك تصرف أمامه تصرفاً غير لائق، وأخرى تصيح، وتلطم خدها، وتنتف شعرها؛ لأن أطفالها الصغار يتهارشون حولها، فهذا هو حظها من البلاء، وآخر بلاؤه في دريهمات فقدها، وآخر بلاؤه في مشكلة بينه وبين مؤذن المسجد، والثالث مشكلته ومصيبته العظمى هي في قضية بينه وبين أحد تلامذته، قال التلميذ كلمة في الفصل فجعلها قضية القضايا، كل إنسان على قدر نفسه يُعطى من البلاء، ومن الناس من يُصب عليهم البلاء صبًّا، فتنة الضراء، وفتنة السراء. فنسأل الله تعالى أن يلطف بنا جميعاً، وأن يلهمنا وإياكم رشدنا، وأن ينفعنا بالقرآن العظيم، وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا، وأن يرحم موتانا، ويشفي مرضانا، ويعافي مبتلانا، وأن يجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، ونسأله - تبارك وتعالى - أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يعيننا وإياكم في هذا الشهر الكريم على أنفسنا، فنسأله - تبارك وتعالى - أن يرفعنا، ولا يضعنا، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين. نسأل الله أن يغفر لنا ولكم أجمعين، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * موقع أ. د. خالد السبت: (https://2u.pw/s8BwJ). [1] الفوائد لابن القيم: (1/208). [2] أخرجه الترمذي، كتاب الزهد، باب الصبر على الأذى، رقم: (2398) وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم: (4023)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، رقم: (3249). [3] المستدرك على مجموع الفتاوى: (1 / 153). [4] أخرجه الترمذي، كتاب الزهد، باب الصبر على الأذى، رقم: (2398) وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم: (4023)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، رقم: (3249).
    0
  • حرمة القرآن الكريم*

    بقلم / الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
    فإن القرآن كلام الله تعالى أنزله على عبده ورسوله محمد ﷺ ليكون هدىً ونورًا للعالمين إلى يوم القيامة، وقد أكرم الله صدر هذه الأمة بحفظه في الصدور، والعمل به في جميع شئون الحياة، والتحاكم إليه في القليل والكثير، ولا يزال فضل الله سبحانه ينزل على بعض عباده؛ فيعطون القرآن حقه من التعظيم والتكريم حسًا ومعنى.
    ولكن هناك طوائف كبيرة وأعداد عظيمة ممن ينتسب إلى الإسلام، حرمت من القيام بحق القرآن العظيم، وما جاء عن الرسول ﷺ وأخشى أن ينطبق بحق على كثير منهم قوله تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]؛ إذ أصبح القرآن لدى كثير منهم مهجورًا، هجروا تلاوته وهجروا تدبره والعمل به؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله. ولقد غفل كثير منهم عما يجب عليهم من تكريم كتاب الله وحفظه؛ إذ قصَّروا في مجال الحفظ والتدبر والعمل، كما لم يقوموا بما يجب من التعظيم والتكريم لكلام رب العالمين.
    ولقد عمَّت بلاد المسلمين المنشورات والصحف والمجلات، وكثيرًا ما تشتمل على آيات من القرآن الكريم في غلافها أو داخلها، لكن قسمًا كبيرًا من المسلمين حينما يقرأون تلك الصحف يلقونها، فتجمع مع القمائم وتوطأ بالأقدام، بل قد يستعملها بعضهم لأغراض أخرى حتى تصيبها النجاسات والقاذورات، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ۝ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ۝ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ۝ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ [الواقعة:77-80].
    والآية دليل على أنه لا يجوز مس القرآن إلا إذا كان المسلم على طهارة -كما هو رأي الجمهور من أهل العلم.
    وفي حديث عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله ﷺ: أن لا يمس القرآن إلا طاهر[1].
    ويروى عن ابن عمر: أن النبي ﷺ قال: لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر[2]. وروي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: "لا يمس القرآن إلا المطهرون"، فقرأ القرآن، ولم يمس المصحف حين لم يكن على وضوء.
    وعن سعد: أنه أمر ابنه بالوضوء لمس المصحف.
    فإذا كان هذا في مس القرآن العزيز، فكيف بمن يضع الصحف التي تشتمل على آيات من القرآن سفرة لطعامه، ثم يرمي بها في النفايات مع النجاسات والقاذورات؟
    لا شك أن هذا امتهان لكتاب الله العزيز وكلامه المبين.
    فالواجب على كل مسلم ومسلمة أن يحافظوا على الصحف والكتب، وغيرها مما فيه آيات قرآنية أو أحاديث نبوية، أو كلام فيه ذكر الله، أو بعض أسمائه سبحانه فيحفظها في مكان طاهر، وإذا استغنى عنها دفنها في أرض طاهرة أو أحرقها، ولا يجوز التساهل في ذلك.
    وحيث إن الكثير من الناس في غفلة عن هذا الأمر، وقد يقع في المحذور جهلًا منه بالحكم، رأيت كتابة هذه الكلمة؛ تذكيرًا وبيانًا لما يجب على المسلمين العمل به تجاه كتاب الله وأسمائه وصفاته، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وتحذيرًا من الوقوع فيما يغضب الله، ويتنافى مع مقام كلام رب العالمين.
    والله سبحانه المسئول أن يوفقنا والمسلمين جميعًا لما يحبه ويرضاه، وأن يعيذنا جميعًا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يمنحنا جميعًا تعظيم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل بهما، وصيانتهما عن كل ما يسيء إليهما من قول أو فعل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم[3].

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * موقع ابن باز: (https://2u.pw/vHEkN).
    [1] أخرجه الإمام مالك في (الموطأ)، كتاب (النداء في الصلاة)، برقم: 419.
    [2] أخرجه الطبراني في (المعجم الأوسط)، برقم: 3301.
    [3] نشر في (مجلة البحوث الإسلامية)، العدد: السادس، عام 1402هـ، ص: 289. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 24/ 150).
    حرمة القرآن الكريم* بقلم / الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فإن القرآن كلام الله تعالى أنزله على عبده ورسوله محمد ﷺ ليكون هدىً ونورًا للعالمين إلى يوم القيامة، وقد أكرم الله صدر هذه الأمة بحفظه في الصدور، والعمل به في جميع شئون الحياة، والتحاكم إليه في القليل والكثير، ولا يزال فضل الله سبحانه ينزل على بعض عباده؛ فيعطون القرآن حقه من التعظيم والتكريم حسًا ومعنى. ولكن هناك طوائف كبيرة وأعداد عظيمة ممن ينتسب إلى الإسلام، حرمت من القيام بحق القرآن العظيم، وما جاء عن الرسول ﷺ وأخشى أن ينطبق بحق على كثير منهم قوله تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]؛ إذ أصبح القرآن لدى كثير منهم مهجورًا، هجروا تلاوته وهجروا تدبره والعمل به؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله. ولقد غفل كثير منهم عما يجب عليهم من تكريم كتاب الله وحفظه؛ إذ قصَّروا في مجال الحفظ والتدبر والعمل، كما لم يقوموا بما يجب من التعظيم والتكريم لكلام رب العالمين. ولقد عمَّت بلاد المسلمين المنشورات والصحف والمجلات، وكثيرًا ما تشتمل على آيات من القرآن الكريم في غلافها أو داخلها، لكن قسمًا كبيرًا من المسلمين حينما يقرأون تلك الصحف يلقونها، فتجمع مع القمائم وتوطأ بالأقدام، بل قد يستعملها بعضهم لأغراض أخرى حتى تصيبها النجاسات والقاذورات، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ۝ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ۝ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ۝ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ [الواقعة:77-80]. والآية دليل على أنه لا يجوز مس القرآن إلا إذا كان المسلم على طهارة -كما هو رأي الجمهور من أهل العلم. وفي حديث عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله ﷺ: أن لا يمس القرآن إلا طاهر[1]. ويروى عن ابن عمر: أن النبي ﷺ قال: لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر[2]. وروي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: "لا يمس القرآن إلا المطهرون"، فقرأ القرآن، ولم يمس المصحف حين لم يكن على وضوء. وعن سعد: أنه أمر ابنه بالوضوء لمس المصحف. فإذا كان هذا في مس القرآن العزيز، فكيف بمن يضع الصحف التي تشتمل على آيات من القرآن سفرة لطعامه، ثم يرمي بها في النفايات مع النجاسات والقاذورات؟ لا شك أن هذا امتهان لكتاب الله العزيز وكلامه المبين. فالواجب على كل مسلم ومسلمة أن يحافظوا على الصحف والكتب، وغيرها مما فيه آيات قرآنية أو أحاديث نبوية، أو كلام فيه ذكر الله، أو بعض أسمائه سبحانه فيحفظها في مكان طاهر، وإذا استغنى عنها دفنها في أرض طاهرة أو أحرقها، ولا يجوز التساهل في ذلك. وحيث إن الكثير من الناس في غفلة عن هذا الأمر، وقد يقع في المحذور جهلًا منه بالحكم، رأيت كتابة هذه الكلمة؛ تذكيرًا وبيانًا لما يجب على المسلمين العمل به تجاه كتاب الله وأسمائه وصفاته، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وتحذيرًا من الوقوع فيما يغضب الله، ويتنافى مع مقام كلام رب العالمين. والله سبحانه المسئول أن يوفقنا والمسلمين جميعًا لما يحبه ويرضاه، وأن يعيذنا جميعًا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يمنحنا جميعًا تعظيم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل بهما، وصيانتهما عن كل ما يسيء إليهما من قول أو فعل، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم[3]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * موقع ابن باز: (https://2u.pw/vHEkN). [1] أخرجه الإمام مالك في (الموطأ)، كتاب (النداء في الصلاة)، برقم: 419. [2] أخرجه الطبراني في (المعجم الأوسط)، برقم: 3301. [3] نشر في (مجلة البحوث الإسلامية)، العدد: السادس، عام 1402هـ، ص: 289. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 24/ 150).
    1
  • التناسب في أسلوب القرآن الكريم [1]
    الكاتب: حكمت الحريري

    القرآن الكريم يستحوذ على السمع ويؤثر في النفوس سلباً أو إيجاباً، وذلك حسب طبيعتها فاجرةً أو تقيةً ((ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها))، فإن كانت فاجرةً فهي تنفر من القرآن وتشمئز منه، وإن كانت تقيةً فهي خاشعةٌ ووجلةٌ لذكر الله.

    فإن قيل: ما سر توجهك للحديث عن تأثير القرآن في النفوس واستحواذه على السمع قبل غيره من وجوه الإعجاز؟

    فأقول: لتدرك الحكمة في الخطاب الإلهي الذي يبدأ بذكر السمع قبل غيره من الحواس فقال - تعالى -: ((إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا))، وقال: ((وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)) [ النحل: 78 ].

    فلتكن أيها العاقل ممن قال الله - تعالى - فيهم: ((ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا)) [ آل عمران: 193 ]، ((ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون)).

    ولا كالذي ((يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها)) [ الجاثية: 8 ] فأقبل ولا تخف، و ((كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم)) [المائدة: 15 - 16].

    فدعنا نتأمل هذا البناء الإلهي المعجز تأملاً صادقاً، وننظر فيه بإمعانٍ, فلا توغل في الدخول إليه دفعةً واحدة، بل خطوةً إثر خطوةٍ, لتعقل ما تقف عليه وما تشاهده من أمور تثير إعجابك وتملك عليك سمعك وبصرك، تدبر في حدود سور هذا الكتاب العظيم، على الإطار العام فيها، ارتباط السورة بما قبلها وما بعدها، فهذا أحد أمور الإعجاز للقرآن الكريم.

    إذ أن القرآن نزل منجماً في أجزاءٍ, طويلةٍ, و أخرى قصيرةٍ, خلال ثلاثٍ, وعشرين سنةً، إلا أن هذه الأجزاء رتبت ترتيباً لا مثيل له على الإطلاق في أي كتابٍ, من كتب الأدب أو العلوم التي هي من تصنيف البشر.

    فسور القرآن الكريم لم ترتب حسب موضوعاتها، ولا حسب زمن نزولها، إنما للقرآن طريقته المستقلة المخالفة لما هو مألوفٌ عند البشر في الكتب والمصنفات.

    عندما كان ينزل الوحي على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالآيات كان الرسول - عليه الصلاة والسلام - يأمر بعض من يكتب الوحي بوضعها في مواضع محددة من السور التي لم تكن قد اكتملت بعد، وبمجرد وضع الآية أو الآيات في موضعٍ, ما فإنها تبقى ثابتةً في موضعها الذي أمر - عليه الصلاة والسلام - بوضعها فيه من السورة دون أن يطرأ على ذلك الوضع تصحيحٌ أو تعديل، وهذا أكبر دليلٍ, وأسطع برهانٍ, على ربانية هذا الكتاب ((وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين)) [ الشعراء:192 - 195]، وقال - تعالى -: ((وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً)).

    عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً إذ شخص ببصره ثم صوّبه حتى كاد أن يلزقه بالأرض قال: ثم شخص ببصره فقال: \"أتاني جبريل - عليه السلام - فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة ((إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)) [2].

    قال الزركشي: فأما الآيات في كل سورةٍ, ووضع البسملة أوائلها فترتيبها توقيفيٌ بلا شكٍ, ولا خلاف فيه[3].

    ترتيب السور في القرآن الكريم:

    قد مرّ معنا أن ترتيب القرآن لا مثيل له على الإطلاق في الكتب والمصنفات، فلم يرتب حسب الترتيب الزماني ولا حسب الموضوعات إنما له طريقته الخاصة.

    لكن بعض العلماء غفر الله لهم يذكر أن ترتيب السور اجتهاديٌ بخلاف ترتيب الآيات، وبعضهم يذكر أن ترتيب السور بعضه توفيقي اجتهادي وبعضه توقيفي وعمدتهم في ذلك الاستدلال بحديثٍ, يرويه يزيد الفارسي عن ابن عباس و سنأتي للكلام على هذا الحديث.

    وبناءً على ما تقدم من قول بعضهم أن الترتيب توفيقي، فقد قالوا لا فائدة من البحث عن التناسب والارتباط بين الآيات والسور لأن القرآن نزل منجماً في مدة ثلاثٍ, وعشرين سنةً وفي مناسباتٍ, مختلفة.

    ولكن هذا الكلام لا يسلم من الاعتراض عليه بل يجنح عن الصواب إذا قلنا أن القرآن من أهم المعجزات الشاهدة على رسالة خاتم النبيين - عليه الصلاة والسلام - بل هي أبقى المعجزات وأبينها، ومعلوم بالبداهة أن حسن الترتيب من أكبر محاسن الكلام البليغ، ونحن نعتقد بأن القرآن معجزٌ فهل نرضى بأن يكون عارياً عن حسن الترتيب والتناسق؟!!

    وكيف نترك النظر في فهم ارتباط معانيه وتناسق آياته وسوره وإتقان ترتيبها؟ والله - عز وجل - أمرنا بتدبر هذا الكتاب الكريم فقال: ((أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً))

    وقد وصف الله - تعالى - هذا الكتاب بكونه محكماً ((قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون)) [ الزمر: 28]، وقال - تعالى -: ((وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً)).

    فكونه أنزل على مدى سنين متطاولةٍ, وبمناسباتٍ, مختلفةٍ, متفاوتة، فهذا دليل بين على إعجازه لأنه كلام عالم الغيب والشهادة: ((قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)).

    وربما يحط عندك قدر خطيب مصقع أتى بفنون من البلاغة وأثر في النفوس بخلابة بيانه لمحض أنه ذهل عن ربط الكلام فهام من وادٍ, إلى وادٍ,، مع أنه معذور لأنه ألقى خطبته ارتجالاً ولم يعمل فيها النظر والروية، وما مؤاخذاتك لذلك الخطيب إلا لأن الكلام البليغ لا يحتمل سوء الترتيب، فإذا كان الأمر كذلك، أليس من الموقن بإعجاز القرآن أن يثبت حسن نظمه وإحكام ترتيبه وتناسق آياته وسوره؟![4]

    ماذا قال العلماء في موضوع التناسب والترتيب؟

    - قال الفخر الرازي:\"علم المناسبات علمٌ عظيم أودعت فيه أكثر لطائف القرآن وروائعه وهو أمر معقول إذا عرض على العقول تلقته بالقبول\".

    - وقال الزركشي: \"وقال بعض مشايخنا المحققين: وقد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبةٌ لأنها على حسب الوقائع المتفرقة وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلاً وعلى حسب الحكمة ترتيباً، فالمصحف كالصحف الكريمة على وفق ما في الكتاب المكنون مرتبةً سوره كلها و آياته بالتوقيف\"[5].

    - وفي معترك الأقران للسيوطي:

    إذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدته في غاية المناسبة لما ختم به السورة قبلها، ثم هو يخفى تارةً ويظهر أخرى. [1/52].

    - وقال السيوطي: علم المناسبة علم شريف قلّ اعتناء المفسرين به لدقته[6].

    - وقال الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني: إن القرآن تقرؤه من أوله إلى آخره، فإذا هو محكم السرد، دقيق السبك، متين الأسلوب، قوي الاتصال، آخذٌ بعضه برقاب بعض في سوره وآياته وجمله، يجري دم الإعجاز فيه كله من ألفه إلى يائه، كأنه سبيكةٌ واحدةٌ ولا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك ولا تخاذل، كأنه حلقةٌ مفرغة، أو كأنه سمطٌ وحيد وعقدٌ فريد يأخذ بالأبصار، نظمت حروفه وكلماته، ونسقت جمله وآياته، وجاء آخره مساوقاً لأوله، وبدا أوله مواتياً لآخره[7].

    - وقال الشيخ محمد عبد الله دراز: (أجل إنك لتقرأ السورة الطويلة المنجمة يحسبها الجاهل أضغاثاً من المعاني حشيت حشواً وأوزاعاً من المباني جمعت عفواً، فإذا هي لو تدبرت بنية متماسكة قد بنيت من المقاصد الكلية على أسسٍ, و أصول،ٍ, وأقيم على كل أصلٍ, منها شعب وفصول، و امتد من كل شعبةٍ, منها فروعٌ تقصر أو تطول، فلا تزال تنتقل بين أجزائها كما تنتقل بين حجرات وأفنية في بنيانٍ, واحدٍ, قد وضع رسمه مرةً واحدةً، لا تحس بشيءٍ, من تناكر الأوضاع في التقسيم والتنسيق، ولا بشيءٍ, من الانفصال في الخروج من طريقٍ, إلى طريقٍ,، بل ترى بين الأجناس المختلفة تمام الألفة، كما ترى بين آحاد الجنس الواحد نهاية التضام، والالتحام، كل ذلك بغير تكلفٍ, ولا استعانةٍ, بأمرٍ, من خارج المعاني أنفسها، إنما هو حسن السياقة ولطف التمهيد في مطلع كل غرضٍ, ومقطعه وأثنائه يريك المنفصل متصلاً والمختلف مؤتلفاً[8].

    وغير هؤلاء من العلماء كثيرٌ من المتقدمين و المتأخرين الذين يهتمون بعلم التناسب والربط بين السور و الآيات.

    الأدلة من الكتاب والسنة على أن ترتيب السور توقيفي:

    والأدلة التي استند إليها العلماء القائلون بأن ترتيب السور توقيفي وليس اجتهادي، كثيرةٌ منها:

    قوله - تعالى -: ((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)).

    وقوله: ((كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)).

    وقوله: ((ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً)).

    وقوله: ((إن علينا جمعه وقرآنه)) والجمع كما قال المفسرون على معنيين: جمعه في صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وجمعه بمعنى تأليفه.

    وفي الحديث عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلةٍ, من شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة[9].

    وعن أبي هريرة قال: كان يعرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن كل عامٍ, مرةً فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف في كل عامٍ, عشراً فاعتكف في العام الذي قبض فيه عشرين[10].

    وعن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملةً واحدةً إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة، ثم قرأ: ((وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً)) [11].

    وقال أوس بن حذيفة الثقفي: سألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تحزّبون القرآن؟ قالوا: ثلاثٌ وخمسٌ وسبعٌ وتسعٌ وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل وحده[12].

    وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: (يا رسول الله في كم أقرأ القرآن؟ قال في شهر، قال: إني أقوى من ذلك. ردد الكلام أبو موسى وتناقصه حتى قال: اقرأه في سبع، قال: إني أقوى من ذلك. قال: لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث) [13].

    في ردّ أدلة القائلين بأن ترتيب السور اجتهادي

    اعتمد القائلون بأن ترتيب السور مسألةٌ توفيقيةٌ اجتهادية على حديثٍ, رواه يزيد الفارسي عن ابن عباس وهذا نصه:

    عن يزيد الفارسي قال: سمعت ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان ما حملكم أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين و إلى الأنفال وهي من المثاني فجعلتموها في السبع الطوال ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم؟

    قال عثمان: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مما تنزل عليه الآيات فيدعو بعض من كان يكتب له ويقول له: ضع هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآية و الآيتان فيقول مثل ذلك وكانت الأنفال من أول ما نزل عليه بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها، فمن هناك وضعتهما في السبع الطوال ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم.

    هذا الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وأحمد.

    قال الشيخ أحمد شاكر في تخريجه وتعليقه عليه في المسند رقم [399]: في إسناده نظرٌ كثيرٌ، بل هو عندي ضعيفٌ جداً، بل هو حديثٌ لا أصل له يدور إسناده في كل رواياته على (يزيد الفارسي) الذي رواه عن ابن عباس، تفرد به عنه عوف بن أبي جميلة الأعرابي. وهو ثقة.

    ثم قال الشيخ أحمد شاكر: فهذا يزيد الفارسي الذي انفرد برواية هذا الحديث يكاد يكون مجهولاً حتى شبّه على مثل ابن مهدي وأحمد والبخاري أن يكون هو ابن هرمز أو غيره، ويذكره البخاري في الضعفاء فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به، وفيه تشكيكٌ في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي قراءةً وسماعاً وكتابةً في المصاحف وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور، كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه وحاشاه من ذلك فلا علينا إذا قلنا أنه حديثٌ لا أصل له تطبيقاً للقواعد الصحيحة التي لا خلاف فيها بين أئمة الحديث.

    ثم قال الشيخ محمد أمين المصري بعد أن نقل كلام الشيخ أحمد شاكر وغيره من العلماء المحققين كالعلامة محمد رشيد رضا.

    قال: \"وبعد هذا البحث الذي لا ندعي له الكمال و الاستيفاء نريد أن نخلص إلى أن الذي نؤمن به من غير ريبٍ, أن الذي بين دفتيّ المصحف كتاب الله جل شأنه أنزله على نبيه لا مدخل للبشر في صفةٍ, من أوصافه ولا في حرفٍ, من حروفه ولا مجال للاجتهاد في ترتيب آياته ولا في ترتيب سوره بحيث أثبتت البسملة فإنما أثبتت بأمر الله، وحيث حذفت فإنما وقع ذلك بأمر الله\".

    وإنما الريب في مثل هذه الرواية التي سبق ذكرها التي تحيط بها الشكوك وتحفها الأوهام، ومن عجبٍ, أن ينطلي أمر مثل هذه الرواية على بعض العلماء، كما مرّ لدى البيهقي والسيوطي ولعلهما أخذا بتحسين من حسنها وتصحيح من صححها والعصمة من الخطأ لله وحده[14]. أ. ه.

    وهل من أدلةٍ, أخرى للقائلين بعدم كون الترتيب توقيفياً؟

    نعم، مما استدلوا به أيضاً اختلاف مصاحف الصحابة فمنهم من رتبها على حسب زمن النزول كمصحف علي رضي الله عنه، ومصحف عبد الله بن مسعود كان أوله سورة البقرة ثم النساء ثم آل عمران.

    والجواب: أن تلك المصاحف مصاحف علمٍ, وتأويل قصدوا بها ضبط وقائعٍ, معينةٍ,، وكان فيها المنسوخ تلاوةً، فلم تكن تلك المصاحف مصاحف تلاوة.

    ولو كان ترتيب سور القرآن الذي جمع عثمان الناس على أساسه قائماً على الاجتهاد لما قبل هؤلاء الصحابة بتسليم مصاحفهم وعرضها للتحريق والتنازل عنها ولو كانت المسألة مسألة اجتهاد لتمسكوا باجتهادهم، إذ لا يلزم المجتهد أن يقلد مجتهداً آخر[15].

    أنواع التناسب في القرآن:

    مناسبة السورة للسورة التي تليها.

    التناسب بين مطلع السورة وختامها.

    المناسبة بين الآيات.

    الوحدة الموضوعية لكل سورة.

    التنسيق في تأليف العبارات بتخير الألفاظ ثم نظمها في نسقٍ, خاصٍ, يبلغ من خلالها أرقى درجات الفصاحة.

    ما الفائدة المرجوة من اعتبار ترتيب السور توقيفياً؟ وما الثمرة التي نجنيها من خلال التناسب والربط بين الآيات والسور؟

    في إثبات توقيفية ترتيب سور القرآن إثباتٌ وتأكيدٌ لمعنى قوله - تعالى -: ((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)) فلم يكن حفظ القرآن وصونه موكول لأحدٍ, من البشر.

    وفيه أيضاً ردُّ للشبه التي يثيرها الروافض والمستشرقون حول جمع القرآن، والزيادة فيه والنقص منه كما يزعمون!! قبحهم الله.

    ومن ثمرات هذا العلم الالتفات إلى الحكمة من هذا الترتيب والاهتمام باستخراج المعاني و الحكم و لطائف النكات التي لا يتوصل إليها إلا بالتماس المناسبة والربط.

    كيفية التعرف على التناسب والربط بين السور والآيات، وبيان أسبابه:

    لمعرفة المناسبة و ارتباط السور والآيات بعضها ببعضٍ, يتم من خلال الاعتبارات التالية:

    1 - قد يكون الارتباط ظاهراً:

    2 - قد لا يكون الارتباط ظاهراً، بل يبدو لأول وهلةٍ, أن كل آية أو جملة مستقلةٍ, عن الأخرى، وهاهنا: - إما أن تكون معطوفةٌ على الأولى بحرفٍ, من حروف العطف المشتركة في الحكم، ويندرج في هذا ما يسمى ربط التضاد أو المقابلة، كأن يذكر نوعين متضادين، كذكر المؤمنين والكافرين، والخير والشر، والعلم والجهل، والظلمات والنور، وطريق الهداية وطريق الغواية، ومصير الكافرين ومصير الأتقياء المؤمنين، والظلم والعدل، والبخل و الإنفاق، والطيب والخبيث، وهذا كثير جداً في القرآن الكريم.

    - وإما أن لا تكون معطوفة، فلا بد من قرينةٍ, معنويةٍ, تؤذن بالربط ومن ذلك إلحاق النظير بالنظير، كما في قوله - تعالى -: ((كما أخرجك ربك من بيتك بالحق)) في سورة الأنفال، فكراهيتهم لما فعله - عليه الصلاة والسلام - في قسمة الغنائم، ككراهيتهم للخروج للقتال.

    ومنه أيضاً: الاستطراد، وهذا يلاحظ في كثير من سور القرآن فإذا تحدث عن قصة آدم يستطرد لما يتبع ذلك من أمور[16] وكذلك في الحديث عن عصيان إبليس لربه، أو ذكر قصص الأنبياء وهكذا.

    وبعد هذا العرض النظري المسهب لموضوع التناسب وترتيب سور القرآن، فهذا أوان الشروع في بيان الأدلة لإثبات المناسبة[17].

    التناسب بين السور[18]:

    - وجه المناسبة بين سورة الفاتحة وأول سورة البقرة:

    أرشد الله - تعالى - عباده في سورة الفاتحة إلى أن يسألوه الهداية، بقوله: ((اهدنا الصراط المستقيم)) فاستجاب لهم - سبحانه - فقال: ((ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين))، فهذا القرآن هو طريقة الهداية الكبرى.

    - وجه المناسبة بين آخر سورة البقرة وأول سورة آل عمران:

    ختمت السورة المتقدمة على سؤال النصر: ((وانصرنا على القوم الكافرين))، وفي مفتتح هذه السورة بيّن نصرتهم على الكفار باللسان والسنان.

    ووجه آخر للربط بين السور الثلاث (الفاتحة – البقرة – آل عمران)، قال - تعالى -: ((اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)) فالذين أنعم الله عليهم هم المؤمنون، والذين غضب الله عليهم هم اليهود ولذلك فقد كان الحديث عنهم وخطابهم أكثر في سورة البقرة، والضالون هم النصارى فكثر خطابهم في سورة آل عمران.

    - وجه الترابط بين آخر سورة آل عمران و أول سورة النساء:

    أن كليهما مشترك في الأمر بالتقوى، إذ انتهت سورة آل عمران على قوله - تعالى -: ((واتقوا الله لعلكم تفلحون)) وابتدأت سورة النساء بقوله - تعالى -: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم)).

    ولما كثر ذكر الجهاد في السورتين السابقتين، ذكر في هذه السورة مسألةً هامةً لا يتحقق الجهاد بدونها هذه المسألة تتعلق بالعدالة الاجتماعية وهي إنصاف المرأة وإعطاؤها حقها ورعاية حقوق اليتامى و الأرامل والمساكين والرأفة بهم والعطف عليهم وعدم ظلمهم، إذ الجهاد المشروع والنتيجة المرجوة منه لا يتحقق ما لم يكن المسلمون يداً واحدةً على العدو.

    - وجه التناسب بين آخر سورة الأعراف وأول سورة الأنفال:

    ختمت السورة المتقدمة بذكر الله في كل حال: ((واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين))، وبدأت سورة الأنفال بترك الانشغال بحطام الدنيا والسؤال عن الغنائم: ((إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم)).

    - وجه الارتباط بين آخر سورة الحجر وأول سورة النحل:

    قال - تعالى - في آخر سورة الحجر: ((ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)). وقال في أول سورة النحل: ((أتى أمر الله فلا تستعجلوه - سبحانه -)) أي ما دام أن أمر الله - تعالى - آتٍ, فلا يضيق صدرك بما يقولون، فالذي خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان من نطفةٍ, ينزل الملائكة بالروح على من يشاء من عباده فهو الذي يصطفى الرسل.

    - وجه التناسب بين آخر سورة الواقعة وأول سورة الحديد:

    قال - تعالى - في آخر سورة الواقعة: ((فسبح باسم ربك العظيم))، وقال في أول سورة الحديد: ((سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم)) فالمناسبة والارتباط ظاهر.

    - وجه التناسب بين آخر سورة التحريم و أول سورة تبارك:

    لما ثبت في السورة المتقدمة (التحريم) أن نوحاً ولوطاً عليهما السلام مع كونهما من الأنبياء لم يستطيعا أن ينقذا أزواجهما من النار، ولم يباركا فيهما.

    وأن فرعون رغم جبروته وسعة ملكه وقوة سطوته لم يستطع أن يخضع زوجته ويجعلها تابعةً لكفره وشركه فقد باركها الله، و أن مريم بنت عمران باركها الله واصطفاها على نساء العالمين، فثبت أن البركة كلها إنما هي بيد الله - عز وجل - لا يشاركه فيها أحد، ف ((تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير)).

    التناسب بين السور من القارعة إلى الناس:

    ذكر في سورة القارعة أحوال الساعة وشدائدها، وبعد ذكر هذه الشدائد الآتية في الساعة كان لكم أن تعتبروا وتتعظوا وتعملوا الصالحات ولكن (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر).

    وبعد بذل الجهد في التكاثر، فإن حصل لأحد مال كثير يزعم أنه فاز كلا ((والعصر، إن الإنسان لفي خسر))، فالفائزون هم المؤمنون الذين ((وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)).

    أما المكتنزون مالاً ف ((ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالا وعدده)) فلو كان المال يغني عن أحد لأغنى عن أصحاب الفيل ((ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل)) وبعد ذكر ما أحله الله بأصحاب الفيل، فهذه نعمةٌ من الله على أهل قريش ((لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف)).

    ومن أنعم الله عليه إذ أطعمهم من جوعٍ, وآمنهم من خوف، عليه أن ينفق في سبيل الله ويرعى اليتيم ويحض على طعام المسكين ولكنهم كذبوا بالدين، ((أرأيت الذي يكذب بالدين)) وهذا شأن كفار قريش و أما النبي فقد كان يصل الرحم وينصر المظلوم ويعين على نوائب الحق ف ((إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر، إن شانئك هو الأبتر)).

    فاقطع موالاتهم و ((قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون)).

    وهذا أوان تمام دينك وكماله وقد جاء الحق وزهق الباطل ((إذا جاء نصر الله والفتح)) فقد حان وقت ارتحالك من الدنيا ((فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا)).

    وإذا رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فقد ثبت أن ((تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب)). فأعلن ما جئت به ((قل هو الله أحد، الله الصمد)).
    و ((قل أعوذ برب الفلق)) و ((قل أعوذ برب الناس)).
    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    [1] موقع مداد: (https://2u.pw/zJrye).
    [2] - مسند أحمد: رقم الحديث [17842].
    [3] - البرهان [1/256].
    [4] - انظر دلائل النظام ص39 لعبد الحميد الفراهي.
    [5] - البرهان [1/37].
    [6] - معترك الأقران في إعجاز القرآن [1/43].
    [7] - مناهل العرفان [1/53].
    [8] - النبأ العظيم [195].
    [9] - صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن. باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم -. رقم الحديث [4997].
    [10] - صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن. باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم -. رقم الحديث [4998].
    [11] - رواه بن كثير في فضل القرآن وصحح إسناده.
    [12] - رواه أبو داود. كتاب شهر رمضان. حديث رقم [1390] وفي المسند برقم [16111].
    [13] - رواه أبو داود. كتاب شهر رمضان. حديث رقم [1387].
    [14] - من هدي سورة الأنفال ص21، 22.
    [15] - انظر الإعجاز البياني في ترتيب آيات القرآن وسوره. د/ محمد أحمد يوسف القاسم.
    [16] - انظر معترك الأقران في إعجاز القرآن [1/45،46].
    [17] - المراجع التي اعتمدت عليها في استخراج المناسبات (تفسير الرازي وسبق الغايات في نسق الآيات لأشرف علي التهانوي: وأنوار التبيان في إسرار القرآن للقاضي شمس الدين بن شير محمد.
    [18] - اقتصرت على ذكر بعض الأدلة للتناسب من مواضع مختلفة في القرآن، من أوله ووسطه وآخره.
    التناسب في أسلوب القرآن الكريم [1] الكاتب: حكمت الحريري القرآن الكريم يستحوذ على السمع ويؤثر في النفوس سلباً أو إيجاباً، وذلك حسب طبيعتها فاجرةً أو تقيةً ((ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها))، فإن كانت فاجرةً فهي تنفر من القرآن وتشمئز منه، وإن كانت تقيةً فهي خاشعةٌ ووجلةٌ لذكر الله. فإن قيل: ما سر توجهك للحديث عن تأثير القرآن في النفوس واستحواذه على السمع قبل غيره من وجوه الإعجاز؟ فأقول: لتدرك الحكمة في الخطاب الإلهي الذي يبدأ بذكر السمع قبل غيره من الحواس فقال - تعالى -: ((إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا))، وقال: ((وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)) [ النحل: 78 ]. فلتكن أيها العاقل ممن قال الله - تعالى - فيهم: ((ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا)) [ آل عمران: 193 ]، ((ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون)). ولا كالذي ((يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها)) [ الجاثية: 8 ] فأقبل ولا تخف، و ((كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم)) [المائدة: 15 - 16]. فدعنا نتأمل هذا البناء الإلهي المعجز تأملاً صادقاً، وننظر فيه بإمعانٍ, فلا توغل في الدخول إليه دفعةً واحدة، بل خطوةً إثر خطوةٍ, لتعقل ما تقف عليه وما تشاهده من أمور تثير إعجابك وتملك عليك سمعك وبصرك، تدبر في حدود سور هذا الكتاب العظيم، على الإطار العام فيها، ارتباط السورة بما قبلها وما بعدها، فهذا أحد أمور الإعجاز للقرآن الكريم. إذ أن القرآن نزل منجماً في أجزاءٍ, طويلةٍ, و أخرى قصيرةٍ, خلال ثلاثٍ, وعشرين سنةً، إلا أن هذه الأجزاء رتبت ترتيباً لا مثيل له على الإطلاق في أي كتابٍ, من كتب الأدب أو العلوم التي هي من تصنيف البشر. فسور القرآن الكريم لم ترتب حسب موضوعاتها، ولا حسب زمن نزولها، إنما للقرآن طريقته المستقلة المخالفة لما هو مألوفٌ عند البشر في الكتب والمصنفات. عندما كان ينزل الوحي على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالآيات كان الرسول - عليه الصلاة والسلام - يأمر بعض من يكتب الوحي بوضعها في مواضع محددة من السور التي لم تكن قد اكتملت بعد، وبمجرد وضع الآية أو الآيات في موضعٍ, ما فإنها تبقى ثابتةً في موضعها الذي أمر - عليه الصلاة والسلام - بوضعها فيه من السورة دون أن يطرأ على ذلك الوضع تصحيحٌ أو تعديل، وهذا أكبر دليلٍ, وأسطع برهانٍ, على ربانية هذا الكتاب ((وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين)) [ الشعراء:192 - 195]، وقال - تعالى -: ((وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً)). عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً إذ شخص ببصره ثم صوّبه حتى كاد أن يلزقه بالأرض قال: ثم شخص ببصره فقال: \"أتاني جبريل - عليه السلام - فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة ((إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)) [2]. قال الزركشي: فأما الآيات في كل سورةٍ, ووضع البسملة أوائلها فترتيبها توقيفيٌ بلا شكٍ, ولا خلاف فيه[3]. ترتيب السور في القرآن الكريم: قد مرّ معنا أن ترتيب القرآن لا مثيل له على الإطلاق في الكتب والمصنفات، فلم يرتب حسب الترتيب الزماني ولا حسب الموضوعات إنما له طريقته الخاصة. لكن بعض العلماء غفر الله لهم يذكر أن ترتيب السور اجتهاديٌ بخلاف ترتيب الآيات، وبعضهم يذكر أن ترتيب السور بعضه توفيقي اجتهادي وبعضه توقيفي وعمدتهم في ذلك الاستدلال بحديثٍ, يرويه يزيد الفارسي عن ابن عباس و سنأتي للكلام على هذا الحديث. وبناءً على ما تقدم من قول بعضهم أن الترتيب توفيقي، فقد قالوا لا فائدة من البحث عن التناسب والارتباط بين الآيات والسور لأن القرآن نزل منجماً في مدة ثلاثٍ, وعشرين سنةً وفي مناسباتٍ, مختلفة. ولكن هذا الكلام لا يسلم من الاعتراض عليه بل يجنح عن الصواب إذا قلنا أن القرآن من أهم المعجزات الشاهدة على رسالة خاتم النبيين - عليه الصلاة والسلام - بل هي أبقى المعجزات وأبينها، ومعلوم بالبداهة أن حسن الترتيب من أكبر محاسن الكلام البليغ، ونحن نعتقد بأن القرآن معجزٌ فهل نرضى بأن يكون عارياً عن حسن الترتيب والتناسق؟!! وكيف نترك النظر في فهم ارتباط معانيه وتناسق آياته وسوره وإتقان ترتيبها؟ والله - عز وجل - أمرنا بتدبر هذا الكتاب الكريم فقال: ((أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً)) وقد وصف الله - تعالى - هذا الكتاب بكونه محكماً ((قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون)) [ الزمر: 28]، وقال - تعالى -: ((وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً)). فكونه أنزل على مدى سنين متطاولةٍ, وبمناسباتٍ, مختلفةٍ, متفاوتة، فهذا دليل بين على إعجازه لأنه كلام عالم الغيب والشهادة: ((قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)). وربما يحط عندك قدر خطيب مصقع أتى بفنون من البلاغة وأثر في النفوس بخلابة بيانه لمحض أنه ذهل عن ربط الكلام فهام من وادٍ, إلى وادٍ,، مع أنه معذور لأنه ألقى خطبته ارتجالاً ولم يعمل فيها النظر والروية، وما مؤاخذاتك لذلك الخطيب إلا لأن الكلام البليغ لا يحتمل سوء الترتيب، فإذا كان الأمر كذلك، أليس من الموقن بإعجاز القرآن أن يثبت حسن نظمه وإحكام ترتيبه وتناسق آياته وسوره؟![4] ماذا قال العلماء في موضوع التناسب والترتيب؟ - قال الفخر الرازي:\"علم المناسبات علمٌ عظيم أودعت فيه أكثر لطائف القرآن وروائعه وهو أمر معقول إذا عرض على العقول تلقته بالقبول\". - وقال الزركشي: \"وقال بعض مشايخنا المحققين: وقد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبةٌ لأنها على حسب الوقائع المتفرقة وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلاً وعلى حسب الحكمة ترتيباً، فالمصحف كالصحف الكريمة على وفق ما في الكتاب المكنون مرتبةً سوره كلها و آياته بالتوقيف\"[5]. - وفي معترك الأقران للسيوطي: إذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدته في غاية المناسبة لما ختم به السورة قبلها، ثم هو يخفى تارةً ويظهر أخرى. [1/52]. - وقال السيوطي: علم المناسبة علم شريف قلّ اعتناء المفسرين به لدقته[6]. - وقال الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني: إن القرآن تقرؤه من أوله إلى آخره، فإذا هو محكم السرد، دقيق السبك، متين الأسلوب، قوي الاتصال، آخذٌ بعضه برقاب بعض في سوره وآياته وجمله، يجري دم الإعجاز فيه كله من ألفه إلى يائه، كأنه سبيكةٌ واحدةٌ ولا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك ولا تخاذل، كأنه حلقةٌ مفرغة، أو كأنه سمطٌ وحيد وعقدٌ فريد يأخذ بالأبصار، نظمت حروفه وكلماته، ونسقت جمله وآياته، وجاء آخره مساوقاً لأوله، وبدا أوله مواتياً لآخره[7]. - وقال الشيخ محمد عبد الله دراز: (أجل إنك لتقرأ السورة الطويلة المنجمة يحسبها الجاهل أضغاثاً من المعاني حشيت حشواً وأوزاعاً من المباني جمعت عفواً، فإذا هي لو تدبرت بنية متماسكة قد بنيت من المقاصد الكلية على أسسٍ, و أصول،ٍ, وأقيم على كل أصلٍ, منها شعب وفصول، و امتد من كل شعبةٍ, منها فروعٌ تقصر أو تطول، فلا تزال تنتقل بين أجزائها كما تنتقل بين حجرات وأفنية في بنيانٍ, واحدٍ, قد وضع رسمه مرةً واحدةً، لا تحس بشيءٍ, من تناكر الأوضاع في التقسيم والتنسيق، ولا بشيءٍ, من الانفصال في الخروج من طريقٍ, إلى طريقٍ,، بل ترى بين الأجناس المختلفة تمام الألفة، كما ترى بين آحاد الجنس الواحد نهاية التضام، والالتحام، كل ذلك بغير تكلفٍ, ولا استعانةٍ, بأمرٍ, من خارج المعاني أنفسها، إنما هو حسن السياقة ولطف التمهيد في مطلع كل غرضٍ, ومقطعه وأثنائه يريك المنفصل متصلاً والمختلف مؤتلفاً[8]. وغير هؤلاء من العلماء كثيرٌ من المتقدمين و المتأخرين الذين يهتمون بعلم التناسب والربط بين السور و الآيات. الأدلة من الكتاب والسنة على أن ترتيب السور توقيفي: والأدلة التي استند إليها العلماء القائلون بأن ترتيب السور توقيفي وليس اجتهادي، كثيرةٌ منها: قوله - تعالى -: ((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)). وقوله: ((كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)). وقوله: ((ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً)). وقوله: ((إن علينا جمعه وقرآنه)) والجمع كما قال المفسرون على معنيين: جمعه في صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وجمعه بمعنى تأليفه. وفي الحديث عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلةٍ, من شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة[9]. وعن أبي هريرة قال: كان يعرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن كل عامٍ, مرةً فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف في كل عامٍ, عشراً فاعتكف في العام الذي قبض فيه عشرين[10]. وعن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملةً واحدةً إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة، ثم قرأ: ((وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً)) [11]. وقال أوس بن حذيفة الثقفي: سألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تحزّبون القرآن؟ قالوا: ثلاثٌ وخمسٌ وسبعٌ وتسعٌ وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل وحده[12]. وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: (يا رسول الله في كم أقرأ القرآن؟ قال في شهر، قال: إني أقوى من ذلك. ردد الكلام أبو موسى وتناقصه حتى قال: اقرأه في سبع، قال: إني أقوى من ذلك. قال: لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث) [13]. في ردّ أدلة القائلين بأن ترتيب السور اجتهادي اعتمد القائلون بأن ترتيب السور مسألةٌ توفيقيةٌ اجتهادية على حديثٍ, رواه يزيد الفارسي عن ابن عباس وهذا نصه: عن يزيد الفارسي قال: سمعت ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان ما حملكم أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين و إلى الأنفال وهي من المثاني فجعلتموها في السبع الطوال ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال عثمان: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مما تنزل عليه الآيات فيدعو بعض من كان يكتب له ويقول له: ضع هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآية و الآيتان فيقول مثل ذلك وكانت الأنفال من أول ما نزل عليه بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها، فمن هناك وضعتهما في السبع الطوال ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم. هذا الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وأحمد. قال الشيخ أحمد شاكر في تخريجه وتعليقه عليه في المسند رقم [399]: في إسناده نظرٌ كثيرٌ، بل هو عندي ضعيفٌ جداً، بل هو حديثٌ لا أصل له يدور إسناده في كل رواياته على (يزيد الفارسي) الذي رواه عن ابن عباس، تفرد به عنه عوف بن أبي جميلة الأعرابي. وهو ثقة. ثم قال الشيخ أحمد شاكر: فهذا يزيد الفارسي الذي انفرد برواية هذا الحديث يكاد يكون مجهولاً حتى شبّه على مثل ابن مهدي وأحمد والبخاري أن يكون هو ابن هرمز أو غيره، ويذكره البخاري في الضعفاء فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به، وفيه تشكيكٌ في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي قراءةً وسماعاً وكتابةً في المصاحف وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور، كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه وحاشاه من ذلك فلا علينا إذا قلنا أنه حديثٌ لا أصل له تطبيقاً للقواعد الصحيحة التي لا خلاف فيها بين أئمة الحديث. ثم قال الشيخ محمد أمين المصري بعد أن نقل كلام الشيخ أحمد شاكر وغيره من العلماء المحققين كالعلامة محمد رشيد رضا. قال: \"وبعد هذا البحث الذي لا ندعي له الكمال و الاستيفاء نريد أن نخلص إلى أن الذي نؤمن به من غير ريبٍ, أن الذي بين دفتيّ المصحف كتاب الله جل شأنه أنزله على نبيه لا مدخل للبشر في صفةٍ, من أوصافه ولا في حرفٍ, من حروفه ولا مجال للاجتهاد في ترتيب آياته ولا في ترتيب سوره بحيث أثبتت البسملة فإنما أثبتت بأمر الله، وحيث حذفت فإنما وقع ذلك بأمر الله\". وإنما الريب في مثل هذه الرواية التي سبق ذكرها التي تحيط بها الشكوك وتحفها الأوهام، ومن عجبٍ, أن ينطلي أمر مثل هذه الرواية على بعض العلماء، كما مرّ لدى البيهقي والسيوطي ولعلهما أخذا بتحسين من حسنها وتصحيح من صححها والعصمة من الخطأ لله وحده[14]. أ. ه. وهل من أدلةٍ, أخرى للقائلين بعدم كون الترتيب توقيفياً؟ نعم، مما استدلوا به أيضاً اختلاف مصاحف الصحابة فمنهم من رتبها على حسب زمن النزول كمصحف علي رضي الله عنه، ومصحف عبد الله بن مسعود كان أوله سورة البقرة ثم النساء ثم آل عمران. والجواب: أن تلك المصاحف مصاحف علمٍ, وتأويل قصدوا بها ضبط وقائعٍ, معينةٍ,، وكان فيها المنسوخ تلاوةً، فلم تكن تلك المصاحف مصاحف تلاوة. ولو كان ترتيب سور القرآن الذي جمع عثمان الناس على أساسه قائماً على الاجتهاد لما قبل هؤلاء الصحابة بتسليم مصاحفهم وعرضها للتحريق والتنازل عنها ولو كانت المسألة مسألة اجتهاد لتمسكوا باجتهادهم، إذ لا يلزم المجتهد أن يقلد مجتهداً آخر[15]. أنواع التناسب في القرآن: مناسبة السورة للسورة التي تليها. التناسب بين مطلع السورة وختامها. المناسبة بين الآيات. الوحدة الموضوعية لكل سورة. التنسيق في تأليف العبارات بتخير الألفاظ ثم نظمها في نسقٍ, خاصٍ, يبلغ من خلالها أرقى درجات الفصاحة. ما الفائدة المرجوة من اعتبار ترتيب السور توقيفياً؟ وما الثمرة التي نجنيها من خلال التناسب والربط بين الآيات والسور؟ في إثبات توقيفية ترتيب سور القرآن إثباتٌ وتأكيدٌ لمعنى قوله - تعالى -: ((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)) فلم يكن حفظ القرآن وصونه موكول لأحدٍ, من البشر. وفيه أيضاً ردُّ للشبه التي يثيرها الروافض والمستشرقون حول جمع القرآن، والزيادة فيه والنقص منه كما يزعمون!! قبحهم الله. ومن ثمرات هذا العلم الالتفات إلى الحكمة من هذا الترتيب والاهتمام باستخراج المعاني و الحكم و لطائف النكات التي لا يتوصل إليها إلا بالتماس المناسبة والربط. كيفية التعرف على التناسب والربط بين السور والآيات، وبيان أسبابه: لمعرفة المناسبة و ارتباط السور والآيات بعضها ببعضٍ, يتم من خلال الاعتبارات التالية: 1 - قد يكون الارتباط ظاهراً: 2 - قد لا يكون الارتباط ظاهراً، بل يبدو لأول وهلةٍ, أن كل آية أو جملة مستقلةٍ, عن الأخرى، وهاهنا: - إما أن تكون معطوفةٌ على الأولى بحرفٍ, من حروف العطف المشتركة في الحكم، ويندرج في هذا ما يسمى ربط التضاد أو المقابلة، كأن يذكر نوعين متضادين، كذكر المؤمنين والكافرين، والخير والشر، والعلم والجهل، والظلمات والنور، وطريق الهداية وطريق الغواية، ومصير الكافرين ومصير الأتقياء المؤمنين، والظلم والعدل، والبخل و الإنفاق، والطيب والخبيث، وهذا كثير جداً في القرآن الكريم. - وإما أن لا تكون معطوفة، فلا بد من قرينةٍ, معنويةٍ, تؤذن بالربط ومن ذلك إلحاق النظير بالنظير، كما في قوله - تعالى -: ((كما أخرجك ربك من بيتك بالحق)) في سورة الأنفال، فكراهيتهم لما فعله - عليه الصلاة والسلام - في قسمة الغنائم، ككراهيتهم للخروج للقتال. ومنه أيضاً: الاستطراد، وهذا يلاحظ في كثير من سور القرآن فإذا تحدث عن قصة آدم يستطرد لما يتبع ذلك من أمور[16] وكذلك في الحديث عن عصيان إبليس لربه، أو ذكر قصص الأنبياء وهكذا. وبعد هذا العرض النظري المسهب لموضوع التناسب وترتيب سور القرآن، فهذا أوان الشروع في بيان الأدلة لإثبات المناسبة[17]. التناسب بين السور[18]: - وجه المناسبة بين سورة الفاتحة وأول سورة البقرة: أرشد الله - تعالى - عباده في سورة الفاتحة إلى أن يسألوه الهداية، بقوله: ((اهدنا الصراط المستقيم)) فاستجاب لهم - سبحانه - فقال: ((ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين))، فهذا القرآن هو طريقة الهداية الكبرى. - وجه المناسبة بين آخر سورة البقرة وأول سورة آل عمران: ختمت السورة المتقدمة على سؤال النصر: ((وانصرنا على القوم الكافرين))، وفي مفتتح هذه السورة بيّن نصرتهم على الكفار باللسان والسنان. ووجه آخر للربط بين السور الثلاث (الفاتحة – البقرة – آل عمران)، قال - تعالى -: ((اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)) فالذين أنعم الله عليهم هم المؤمنون، والذين غضب الله عليهم هم اليهود ولذلك فقد كان الحديث عنهم وخطابهم أكثر في سورة البقرة، والضالون هم النصارى فكثر خطابهم في سورة آل عمران. - وجه الترابط بين آخر سورة آل عمران و أول سورة النساء: أن كليهما مشترك في الأمر بالتقوى، إذ انتهت سورة آل عمران على قوله - تعالى -: ((واتقوا الله لعلكم تفلحون)) وابتدأت سورة النساء بقوله - تعالى -: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم)). ولما كثر ذكر الجهاد في السورتين السابقتين، ذكر في هذه السورة مسألةً هامةً لا يتحقق الجهاد بدونها هذه المسألة تتعلق بالعدالة الاجتماعية وهي إنصاف المرأة وإعطاؤها حقها ورعاية حقوق اليتامى و الأرامل والمساكين والرأفة بهم والعطف عليهم وعدم ظلمهم، إذ الجهاد المشروع والنتيجة المرجوة منه لا يتحقق ما لم يكن المسلمون يداً واحدةً على العدو. - وجه التناسب بين آخر سورة الأعراف وأول سورة الأنفال: ختمت السورة المتقدمة بذكر الله في كل حال: ((واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين))، وبدأت سورة الأنفال بترك الانشغال بحطام الدنيا والسؤال عن الغنائم: ((إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم)). - وجه الارتباط بين آخر سورة الحجر وأول سورة النحل: قال - تعالى - في آخر سورة الحجر: ((ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)). وقال في أول سورة النحل: ((أتى أمر الله فلا تستعجلوه - سبحانه -)) أي ما دام أن أمر الله - تعالى - آتٍ, فلا يضيق صدرك بما يقولون، فالذي خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان من نطفةٍ, ينزل الملائكة بالروح على من يشاء من عباده فهو الذي يصطفى الرسل. - وجه التناسب بين آخر سورة الواقعة وأول سورة الحديد: قال - تعالى - في آخر سورة الواقعة: ((فسبح باسم ربك العظيم))، وقال في أول سورة الحديد: ((سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم)) فالمناسبة والارتباط ظاهر. - وجه التناسب بين آخر سورة التحريم و أول سورة تبارك: لما ثبت في السورة المتقدمة (التحريم) أن نوحاً ولوطاً عليهما السلام مع كونهما من الأنبياء لم يستطيعا أن ينقذا أزواجهما من النار، ولم يباركا فيهما. وأن فرعون رغم جبروته وسعة ملكه وقوة سطوته لم يستطع أن يخضع زوجته ويجعلها تابعةً لكفره وشركه فقد باركها الله، و أن مريم بنت عمران باركها الله واصطفاها على نساء العالمين، فثبت أن البركة كلها إنما هي بيد الله - عز وجل - لا يشاركه فيها أحد، ف ((تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير)). التناسب بين السور من القارعة إلى الناس: ذكر في سورة القارعة أحوال الساعة وشدائدها، وبعد ذكر هذه الشدائد الآتية في الساعة كان لكم أن تعتبروا وتتعظوا وتعملوا الصالحات ولكن (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر). وبعد بذل الجهد في التكاثر، فإن حصل لأحد مال كثير يزعم أنه فاز كلا ((والعصر، إن الإنسان لفي خسر))، فالفائزون هم المؤمنون الذين ((وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)). أما المكتنزون مالاً ف ((ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالا وعدده)) فلو كان المال يغني عن أحد لأغنى عن أصحاب الفيل ((ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل)) وبعد ذكر ما أحله الله بأصحاب الفيل، فهذه نعمةٌ من الله على أهل قريش ((لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف)). ومن أنعم الله عليه إذ أطعمهم من جوعٍ, وآمنهم من خوف، عليه أن ينفق في سبيل الله ويرعى اليتيم ويحض على طعام المسكين ولكنهم كذبوا بالدين، ((أرأيت الذي يكذب بالدين)) وهذا شأن كفار قريش و أما النبي فقد كان يصل الرحم وينصر المظلوم ويعين على نوائب الحق ف ((إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر، إن شانئك هو الأبتر)). فاقطع موالاتهم و ((قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون)). وهذا أوان تمام دينك وكماله وقد جاء الحق وزهق الباطل ((إذا جاء نصر الله والفتح)) فقد حان وقت ارتحالك من الدنيا ((فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا)). وإذا رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فقد ثبت أن ((تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب)). فأعلن ما جئت به ((قل هو الله أحد، الله الصمد)). و ((قل أعوذ برب الفلق)) و ((قل أعوذ برب الناس)). وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] موقع مداد: (https://2u.pw/zJrye). [2] - مسند أحمد: رقم الحديث [17842]. [3] - البرهان [1/256]. [4] - انظر دلائل النظام ص39 لعبد الحميد الفراهي. [5] - البرهان [1/37]. [6] - معترك الأقران في إعجاز القرآن [1/43]. [7] - مناهل العرفان [1/53]. [8] - النبأ العظيم [195]. [9] - صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن. باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم -. رقم الحديث [4997]. [10] - صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن. باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم -. رقم الحديث [4998]. [11] - رواه بن كثير في فضل القرآن وصحح إسناده. [12] - رواه أبو داود. كتاب شهر رمضان. حديث رقم [1390] وفي المسند برقم [16111]. [13] - رواه أبو داود. كتاب شهر رمضان. حديث رقم [1387]. [14] - من هدي سورة الأنفال ص21، 22. [15] - انظر الإعجاز البياني في ترتيب آيات القرآن وسوره. د/ محمد أحمد يوسف القاسم. [16] - انظر معترك الأقران في إعجاز القرآن [1/45،46]. [17] - المراجع التي اعتمدت عليها في استخراج المناسبات (تفسير الرازي وسبق الغايات في نسق الآيات لأشرف علي التهانوي: وأنوار التبيان في إسرار القرآن للقاضي شمس الدين بن شير محمد. [18] - اقتصرت على ذكر بعض الأدلة للتناسب من مواضع مختلفة في القرآن، من أوله ووسطه وآخره.
    1
    0
  • فضل علم التفسير وحاجة الأمة إليه *
    الكاتب: عبد العزيز بن داخل المطيري

    الحمد لله الذي أنزل إلينا كتابه العظيم رحمة وذكرى، وهدى وبشرى، فأنار به السبيل، وأقام به الحجة، وفرق به بين الحق والباطل، ورفع به من شاء من عباده، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلا. والصلاة والسلام على إمام المتقين، وأسوة المؤمنين، نبينا الأمين، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. أما بعد: فإن علم التفسير من أشرف العلوم وأجلها، وأعظمها بركة، وأوسعها معرفة، وحاجة الأمة إليه ماسة، وقد شرف الله أهل التفسير ورفع مكانهم وجعلهم مرجعاً لعباده في فهم كلامه ومعرفة مراده وكفى بذلك فضلاً وشرفاً. وعلم طالب العلم بفضل علم التفسير وعلو شأنه وجلالة قدره مما يعين على إقبال النفس على تعلمه وأخذه بقوة وجد واجتهاد. وفضائل علم التفسير كثيرة، وفائدته لطالب العلم في نفسه خاصة، ولأمته عامة عظيمة جليلة. قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّـهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّـهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة:15-16]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا . فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [النساء:174-175]. وحديثنا عن فضائل علم التفسير سيكون في وجوه مهمة تدل اللبيب على ما ورائها، ويكفي التذكير بأصولها عن سرد فروعها. 1- فأصل فضائل التفسير هو أنه معين على فهم كلام الله عز وجل؛ ومعرفة مراده، ومن أوتي فهم القرآن فقد أوتي خيراً كثيراً. وفي صحيح البخاري وغيره من حديث أبي جحيفة السوائي قال: قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهمًا يعطيه الله رجلًا في القرآن وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في الصحيفة. قال: العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافرٍ. ففهم القرآن معين لا ينضب، إذ يستخرج به من العلم شيء كثير مبارك، والناس يتفاوتون في فهم القرآن تفاوتاً كبيراً. قال ابن القيم: "والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص وأن منهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره، وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به؛ فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم؛ فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به، وهذا كما فهم ابن عباس من قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف من الآية:15] مع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة من الآية:233] أن المرأة قد تلد لستة أشهر، وكما فهم الصديق من آية الفرائض في أول السورة وآخرها أن الكلالة من لا ولد له ولا والد" ا.هـ. والمقصود أن فهم القرآن يفتح لطالب العلم أبواباً من العلم يغفل عنها غيره، بل ربما سمع كلمة من رجل فذكرته بآية كان يتأملها فينفتح له بذلك باب أو أبواب من العلم، وهذه مرتبة عزيزة، كما قال عكرمة مولى ابن عباس: "إني لأخرج إلى السوق، فأسمع الرجل يتكلم بالكلمة فينفتح لي خمسون بابا من العلم" (رواه ابن سعد في الطبقات من طريق ابن علية عن أيوب عن عكرمة، وهذا إسناد صحيح). وعكرمة قال فيه سلام بن مسكين: كان أعلم الناس بالتفسير. وقال الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة. ومن أسباب سعة علم عكرمة بالتفسير ما أوتيه من فهم القرآن حتى إنه كان يذكر لابن عباس بعض الأوجه في التفسير فيستحسنها ابن عباس ويجيزه عليها بجائزة. وسبيل فهم القرآن هو معرفة تفسيره. نقل ياقوت الحموي في معجم الأدباء عن أبي بكر بن مجاهد أنه قال: سمعت أبا جعفر-يريد شيخه محمد بن جرير الطبري- يقول: "إني أعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذذ بقراءته؟". والمقصود أن من أجل فضائل علم التفسير أنه يعين على فهم القرآن الذي هو رسالة الله إلينا. 2- أن أشرف الكلام وأحسنه وأصدقه وأعظمه بركة وفضلا هو كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وقد روي أن: فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه. فالاشتغال بالتفسير اشتغال بأفضل الكلام وأحسنه وأعظمه بركة، وهو كلام الله عز وجل، ولا يزال العبد ينهل من هذا العلم ويستزيد منه حتى يجد بركته في نفسه وأهله وماله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]. 3- أن الله فضل العلم وشرفه وشرف أهله ورفع درجتهم، والعلم بالقرآن هو أفضل العلوم وأجمعها، وقد فصل الله في القرآن كل شيء؛ فمن ابتغى العلم من أفضل أبوابه وأحسنها فعليه بتدبر القرآن وفهمه ومعرفة معانيه. وهذا أمر معلوم لمن اشتغل بتفسير القرآن فإنه يجد فيه من أنواع العلوم النافعة شيئاً كثيراً مباركاً؛ فهو جامع لأنواع العلوم النافعة: - فأصول الإيمان والاعتقاد الصحيح والتعريف بالله تعالى وبأسمائه وصفاته وأفعاله وسننه في خلقه مبينة في القرآن. -وأصول الأحكام الفقهية في مسائل العبادات والمعاملات والمواريث وأحكام الأسرة والجنايات كلها مبينة في القرآن. -أصول المواعظ والسلوك والتزكية كلها مبينة في القرآن الكريم. - وكذلك الآداب والأخلاق الكريمة والخصال الحميدة. - وفيه بيان أمور ضلت فيها أمم وطوائف كثيرة من بدء الخلق وقصص الأنبياء وأخبار بني إسرائيل كما قال الله تعالى: {إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76]. "يختلفون" فعل مضارع يدل على التجدد؛ فهم قد اختلفوا ولا يزالون يختلفون، وهذا القرآن يقص عليهم أكثر الذي يختلفون فيه؛ فمن فقه ما قصه الله في القرآن من أخبار بني إسرائيل حصل العلم بأكثر ما يختلفون فيه علماً يميز به صحيح أقوالهم من خطئها، ويحكم به بين أقوالهم. -ومما تضمنه القرآن من العلوم علم الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، ففيه بيان أصول الدعوة وأنواعها ومراتبها وصفات الدعاة إلى الحق، وكشف شبهات المضلين، وأصول الاحتجاج للحق، ومعاملة المخالفين على اختلاف مراتبهم. - ومما تضمنه القرآن من العلوم علم المقاصد الشرعية والسياسة الشرعية، وكيف ترعى الرعية وتربى بالقرآن وتقاد به إلى ما فيه نجاتها وسعادتها. -وفيه بيان الهدى في كل ما يحتاج إليه العبد في شؤون حياته وكيف يتخلص من كيد الشيطان وشر النفس وفتنة الدنيا وسائر الفتن التي تعترضه، وكيف يهتدي إلى الصراط المستقيم. إلى غير ذلك من العلوم الجليلة النافعة التي ينتفع بها أحسن الانتفاع من فهم مراد الله تعالى فهم المؤمن المسترشد الصادق في اتباع الهدى. ويجمع ذلك كله قول الله تعالى: {إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء:9].فحذف المتعلق هنا لإرادة العلوم؛ فهو يهدي للتي هي أقوم في كل شيء. وقال الله تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[يوسف من الآية:111]. فمن أراد الهداية فعليه بفهم القرآن. ومن أراد الرحمة فعليه بهدى القرآن. ومن أراد العلم فعليه بتدبر القرآن قال ابن القيم رحمه الله: فتدبر القرآن إن رمت الهدى *** فالعلم تحت تدبر القرآن - والمفسر يحتاج إلى التمكن من علوم كثيرة متنوعة؛ ينفتح له بها من أبواب فهم القرآن ومعرفة معانيه ما يدله على سعة علم التفسير وشرفه وتعدد معارف أهله؛ فيحتاج إلى معرفة معاني المفردات ومعاني الحروف والأساليب والإعراب والصرف والبلاغة والاشتقاق، ويحتاج إلى معرفة أصول الفقه وقواعد الترجيح والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وأحوال النزول وفضائل الآيات والسور وأمثال القرآن والمبهمات وغيرها من العلوم المتنوعة التي يكتسبها المفسر شيئاً فشيئاً بتدرج تعلمه للتفسير. ويجد لكل علم من هذه العلوم أثره في التفسير واستخراج المعاني الجليلة واللطيفة. والمقصود أن علم التفسير من أوسع العلوم؛ فمن أقبل عليه وأحسن العناية به؛ فإنه يكتسب المعرفة الواسعة الحسنة بعلوم كثيرة. 4- ومن فضائل علم التفسير أنه يدل صاحبه على ما يعتصم به من الضلالة وقد قال الله تعالى: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّـهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران من الآية:101]، وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [النساء:175]. وقد بين الله تعالى في كتابه كيف يكون الاعتصام به، والمفسر من أحسن الناس علماً بما يكون به الاعتصام بالله. ومما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم خطبة في الإسلام في أشرف جمع على كان وجه الأرض وذلك في خطبته في حجة الوداع قال: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله. وأنتم تسألون عنى فما أنتم قائلون». قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: «اللهم اشهد اللهم اشهد. ثلاث مراتٍ» (رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه). ونحن نشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ وأدى ونصح، وقد ترك لنا كتاب الله عصمة من الضلالة. فمن اعتصم به فلن يضل بإذن الله. والمقصود أن الاعتصام بكتاب الله لا يكون إلا بفهم ما أنزل الله فيه، واتباع ما فيه من الهدى، وسبيل ذلك معرفة تفسيره؛ وكلما كان المؤمن أكثر نصيباً من فهم مراد الله تعالى واتباعاً لما بينه الله من الهدى كان أعظم حظاً من الهداية والعصمة من الضلالة. 5- ومن فضائل التفسير أن المفسر وارث للنبي صلى الله عليه وسلم في أعظم إرثه، وهو القرآن الكريم، ومن أحسن تحمل أمانة التفسير وأحسن أداءها كان من أخص ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: بلغوا عني ولو آية. وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّـهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:4]. فالمفسر مبلغ ومبين، والبلاغ المبين هو أخص وظائف الرسل؛ فالمفسر وارث لدعوة الرسول يدعو بما دعا به الرسول صلى الله عليه وسلم ويذكر بما ذكر به، ويبشر بما بشر به، وقد قال الله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق من الآية:45]، وقال: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ ۙ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51]، وقال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} [مريم:97]. فجعل الله وظائف الرسول في البلاغ المبين الذي يتضمن البشارة والنذارة؛ كما قال الله تعالى في موضعين من كتابه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفرقان:56] . فهو يبشر بالقرآن، وينذر بالقرآن، ويبلغ القرآن بلاغاً مبيناً، فهذا هو عماد دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وما أرسل به. والمفسر الصالح وارث لهذه الدعوة قائم بها، بل هو من أخص ورثتها إذا أحسن تحمل التفسير وأداءه؛ فهو يبلغ القرآن ويبين معانيه للناس ليهتدوا به، ويبشر به المؤمنين، وينذر به الذين ظلموا أنفسهم. وهذه هي حقيقة مقاصد إرسال الرسل. 6- ومن فضائل التفسير أن المفسر كثير الاشتغال بالقرآن ومعانيه وهداياته ؛ بل يكاد يكون أكثر وقته في مصاحبة القرآن تلاوة وتدبرا ودراسة ، وهذا من أجل أنواع مصاحبة القرآن، أن تكون مصاحبته مصاحبة تلاوة وتفقه فيه، واهتداء بهداه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه» (رواه مسلم من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه). فالمفسر الحق كثير الاشتغال بتلاوة القرآن والتفكر فيه وتدبر معانيه واستخراج كنوزه وفوائده وبدائعه حتى يعلم بذلك علماً كثيراً مباركاً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في آخر حياته لما سجن في سجن القلعة: "قد فتح الله علي في هذه المرة من معاني القرآن ومن أصول العلم بأشياء كان كثير من العلماء يتمنونها وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن" ا.هـ. وذلك لما رآه مما فتح الله عليه به من معاني القرآن. 7- ومن فضائل التفسير أنه يدخل صاحبه في زمرة خير هذه الأمة ، كما في صحيح البخاري من حديث سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال:«خيركم من تعلم القرآن وعلمه». قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج قال: "وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا". وأبو عبد الرحمن السلمي واسمه عبد الله بن حبيب بن ربيعة ، هو القائل: "حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آياتٍ فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل قالوا فعلمنا العلم والعمل" (رواه الإمام أحمد). وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعلم معانيهن والعمل بهن" (رواه ابن جرير). فدل هذا على أن تعلم القرآن يشمل تعلم ألفاظه ومعانيه واتباع هداه؛ فمن جمع هذه الأمور الثلاثة كان من خير هذه الأمة. ومعرفة معاني القرآن إنما تتحقق بمعرفة تفسيره. والكلام في فضائل التفسير يطول، ولعلنا نكتفي بهذه الأوجه التي من تأملها حق التأمل أيقن بفضل علم التفسير، وأن الاشتغال به اشتغال بخير العلوم وأجلها. ومما ينبغي أن يتفطن له أنه لا يشترط في وصف المفسر أن يكون له كتاب تفسير، فالتفسير علم وملكة؛ فمن حصل العلم الذي يكون به مفسراً وكانت له ملكة حسنة في التفسير فهو من أهل التفسير، وأما التأليف في التفسير فكثير من الأئمة المفسرين الثقات لم يؤلفوا في التفسير وهم من أحسن الناس فهماً للقرآن وقد نقلت عنهم آثار متفرقة في التفسير تدل على ما وراءها، كالإمام مالك والشافعي والإمام أحمد والبخاري وابن خزيمة وبعدهم النووي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم لم يؤلفوا تفاسير للقرآن وكلامهم في التفسير من أنفع الكلام وأحسنه، وقد ألف في التفسير بعض الضعفاء فخلطوا، ودخل الضعف والخطأ في بعض التفاسير لأسباب كثيرة. - وكذلك ليس من شرط المفسر اليوم أن يكون له كتاب تفسير؛ بل من أحسن معرفة أصول التفسير واشتغل بالتفسير تعلما وتعليماً ودعوة فهو مفسر. حاجة الأمة إلى بيان معاني القرآن: ومن المهم تنبيه طلاب العلم إلى حاجة الأمة إلى تفسير القرآن وبيان معانيه ودعوتهم بالقرآن وتذكيرهم به وإنذارهم بما فيه من الوعيد، وتبشيرهم بما تضمنه من البشائر لمن آمن به واتبع ما فيه من الهدى، وإرشادهم إلى ما بينه الله في كتابه من الهدى الذي يفرقون به بين الحق والباطل، ومخرجاً لهم من الظلمات إلى النور، كما قال الله تعالى: {الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1]. - وقال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللَّـهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّـهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى:52-53]. - وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَإِنَّ اللَّـهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحديد:9]. - وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّـهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ قَدْ أَنزَلَ اللَّـهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا . رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّـهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّـهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ قَدْ أَحْسَنَ اللَّـهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق:10-11]. فحاجة الأمة إلى فهم القرآن والاهتداء به ماسة، وكم من فتنة ضل بها العبد ، وضلت بها طوائف من الأمة بسبب مخالفتها لهدى الله عز وجل وما بينه في كتابه، وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة:115]. وقال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ} [طه من الآية:123]، وقال تعالى: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة من الآية:38]. فحاجة الناس إلى معرفة ما بينه الله في القرآن من الهدى، والحذر مما حذرهم منه أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب والنفس؛ لأن انقطاع هذه الأمور أقصى ما يصيب الإنسان بسببها أن يموت، والموت أمر محتم على كل نفس. وأما ضلاله عن هدى الله تعالى فيكون بسبب خسران آخرته التي هي حياته الحقيقية كما قال الله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت من الآية:64]، وقال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ . يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:23-24]. فكأن ما مضى من الحياة الدنيا لا يعد شيئا بالنسبة للحياة الآخرة الأبدية. وهذا له نظائر في القرآن الكريم كما في قول الله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50]، وقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1]. والمقصود أن حاجة الأمة إلى فهم القرآن معرفة معانيه والاهتداء به ماسة بل ضرورية. لأنهم لا نجاة لهم ولا فوز ولا سعادة إلا بما يهتدون به من هدى الله عز وجل الذي بينه في كتابه. ومن المهم أن يتعرف طالب العلم على أنواع هذه الحاجات ليقوم بالدعوة إلى الله بالإسهام في سد حاجة الأمة في ما ييسره الله له ويفتح له به من أنواع هذه الحاجات ؛ فيتعلم الهدى فيها، ويتعلم كيف يبينه للناس، ثم يدعو إلى الله على بصيرة بما تعلم من معاني القرآن وبذلك يكون من خاصة أتباع النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: {قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّـهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. ولو لم يحصل للداعية إلا واو المعية هذه مع النبي صلى الله عليه وسلم لكفى بها شرفاً. فمن عاش حياته بهذه المعية في الدنيا وهي معية بالمحبة والاتباع والدعوة إلى ما كان يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يكون في معية النبي صلى الله عليه وسلم في الدار الآخرة.وعلم معاني القرآن الكريم علم عزيز يحمله حق حمله في كل قرن خيرة أهله وأحبهم إلى الله، يؤمنون به ويتدبرونه ويدعون به الناس ويهدونهم إلى ما يخرجهم الله به من الظلمات إلى النور. ولعلي أذكر بعض أوجه حاجة الأمة إلى فهم القرآن والاهتداء به على سبيل التنبيه لا الحصر: - فمن ذلك حاجة الأمة إلى فهم القرآن والاهتداء به في معاملة أعدائها على اختلاف أنواعهم، وأن يحذروا مما حذرهم الله منه وتوعد عليه المخالفين بالعذاب الأليم والعقوبات الشديدة، وقد قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور من الآية:63]. وكم من فتنة ابتليت بها الأمة وكم من عذاب عذبت به طوائف من هذه الأمة بسبب مخالفتهم عن أمر الله. وحاجة الأمة إلى مجاهدة الكفار بالقرآن حاجة عظيمة لأنه يندفع بهذه المجاهدة عن الأمة شرور كثيرة جداً. وقد قال الله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]. وهذا الجهاد أشرف أنواع الجهاد وأكبر أنواعه؛ لأنه جهاد بكلام الله وبهداه؛ يبين به الحق وحسنه، ويبين به الباطل وقبحه، وتظهر به حجة الله. - وكذلك حاجة الأمة معرفة صفات المنافقين وعلاماتهم وحيلهم وكيف تكون معاملتهم حاجة ماسة، لأنهم يضلون من يستمع لهم ويعجبه كلامهم الذي يظهرونه ويبطنون مقاصد سيئة خبيثة، وقد حذر الله نبيه منهم فقال: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون من الآية:4]، وأنزل في شأنهم آيات كثيرة لعظم خطرهم، فمن لم يحذر مما حذر الله منه، ولم يتدبر الآيات التي بين الله بها أحوال المنافقين وأرشدنا إلى ما نعاملهم به فإنه يقع في أخطار وضلالات كثيرة. وكم فشل للأمة من مشروع إصلاحي بسبب المنافقين، فمعرفة طالب علم التفسير بما أنزل الله في شأن المنافقين، وتفقهه في ذلك، وحذره من مما حذر الله منه من حيلهم ومكائدهم وتحذيره الناس من ذلك يحصل به من الخير العظيم والسلامة والنجاة له ولمن يدعوهم ما يتيقن به عظم الحاجة إلى الاهتداء بهدي القرآن. -وكذلك قد يبتلى طالب العلم بأن يكون في مجتمع يكثر فيه أصحاب ملة من الملل أو نحلة من النحل، فيجد في كتاب الله تعالى ما يرشده إلى ما يعرف به ضلالهم، ويبصره بسبل دعوتهم إلى الحق، ومعاملتهم على الهدى الرباني الذي لا وكس فيه ولا شطط. -وكذلك إذا كثرت الفتن فإن الحاجة تزداد إلى تدبر القرآن والاهتداء به، ويكون أسعد الناس بالحق أحسنهم استنباطا لما يهتدي به في تلك الفتنة كما قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء من الآية:83]. وهذا فيه وعد من الله بأن يخص بعض عباده بعلم ما تهتدي به الأمة. -وقد يكون طالب العلم في مجتمع تفشو فيه فتنة من الفتن أو منكر من المنكرات فيتعلم من كتاب الله ما يعرف به الهدى ويدعو به من حوله لعلهم يهتدون. - وكذلك المرأة في المحيط النسائي قد تبصر ما لا يبصره كثير من الرجال أو لا يعرفون قدره من أنواع المنكرات والفتن التي افتتن به كثير من النساء فتتعلم طالبة العلم كيف تدعو بالقرآن في محيطها النسائي، وكيف تكشف زيف الباطل، وتنصر الحق، وتعظ من في إيمانها ضعف وفي قلبها مرض. الدعوة بالتفسير: والمقصود أن مجالات الدعوة بالتفسير مجالات كثيرة متنوعة، فليجتهد كل واحد منكم في محاولة تأهيل نفسه لسد حاجة الأمة في مجال من تلك المجالات، أو يسهم فيها. والدعوة بالتفسير وببيان معاني القرآن دعوة حسنة مباركة لتعلقها بكلام الله عز وجل، وقد قال أبو وائل شقيق بن سلمة: "استخلف علي عبد الله بن عباس على الموسم، فخطب الناس، فقرأ في خطبته سورة البقرة، وفي رواية: سورة النور، ففسرها تفسيرًا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا" (ذكره ابن كثير في تفسيره). وقال ابن حجر: "وروى يعقوب أيضا بإسناد صحيح عن أبي وائل قال: "قرأ بن عباس سورة النور ثم جعل يفسرها فقال رجل لو سمعت هذا الديلم لأسلمت". ورواه أبو نعيم في الحلية من وجه آخر بلفظ سورة البقرة وزاد: "أنه كان على الموسم -يعني سنة خمس وثلاثين- كان عثمان أرسله لما حصر".

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * موقع طريق الإسلام: (http://iswy.co/e178lf).
    فضل علم التفسير وحاجة الأمة إليه * الكاتب: عبد العزيز بن داخل المطيري الحمد لله الذي أنزل إلينا كتابه العظيم رحمة وذكرى، وهدى وبشرى، فأنار به السبيل، وأقام به الحجة، وفرق به بين الحق والباطل، ورفع به من شاء من عباده، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلا. والصلاة والسلام على إمام المتقين، وأسوة المؤمنين، نبينا الأمين، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. أما بعد: فإن علم التفسير من أشرف العلوم وأجلها، وأعظمها بركة، وأوسعها معرفة، وحاجة الأمة إليه ماسة، وقد شرف الله أهل التفسير ورفع مكانهم وجعلهم مرجعاً لعباده في فهم كلامه ومعرفة مراده وكفى بذلك فضلاً وشرفاً. وعلم طالب العلم بفضل علم التفسير وعلو شأنه وجلالة قدره مما يعين على إقبال النفس على تعلمه وأخذه بقوة وجد واجتهاد. وفضائل علم التفسير كثيرة، وفائدته لطالب العلم في نفسه خاصة، ولأمته عامة عظيمة جليلة. قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّـهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّـهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة:15-16]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا . فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [النساء:174-175]. وحديثنا عن فضائل علم التفسير سيكون في وجوه مهمة تدل اللبيب على ما ورائها، ويكفي التذكير بأصولها عن سرد فروعها. 1- فأصل فضائل التفسير هو أنه معين على فهم كلام الله عز وجل؛ ومعرفة مراده، ومن أوتي فهم القرآن فقد أوتي خيراً كثيراً. وفي صحيح البخاري وغيره من حديث أبي جحيفة السوائي قال: قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهمًا يعطيه الله رجلًا في القرآن وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في الصحيفة. قال: العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافرٍ. ففهم القرآن معين لا ينضب، إذ يستخرج به من العلم شيء كثير مبارك، والناس يتفاوتون في فهم القرآن تفاوتاً كبيراً. قال ابن القيم: "والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص وأن منهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره، وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به؛ فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم؛ فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به، وهذا كما فهم ابن عباس من قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف من الآية:15] مع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة من الآية:233] أن المرأة قد تلد لستة أشهر، وكما فهم الصديق من آية الفرائض في أول السورة وآخرها أن الكلالة من لا ولد له ولا والد" ا.هـ. والمقصود أن فهم القرآن يفتح لطالب العلم أبواباً من العلم يغفل عنها غيره، بل ربما سمع كلمة من رجل فذكرته بآية كان يتأملها فينفتح له بذلك باب أو أبواب من العلم، وهذه مرتبة عزيزة، كما قال عكرمة مولى ابن عباس: "إني لأخرج إلى السوق، فأسمع الرجل يتكلم بالكلمة فينفتح لي خمسون بابا من العلم" (رواه ابن سعد في الطبقات من طريق ابن علية عن أيوب عن عكرمة، وهذا إسناد صحيح). وعكرمة قال فيه سلام بن مسكين: كان أعلم الناس بالتفسير. وقال الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة. ومن أسباب سعة علم عكرمة بالتفسير ما أوتيه من فهم القرآن حتى إنه كان يذكر لابن عباس بعض الأوجه في التفسير فيستحسنها ابن عباس ويجيزه عليها بجائزة. وسبيل فهم القرآن هو معرفة تفسيره. نقل ياقوت الحموي في معجم الأدباء عن أبي بكر بن مجاهد أنه قال: سمعت أبا جعفر-يريد شيخه محمد بن جرير الطبري- يقول: "إني أعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذذ بقراءته؟". والمقصود أن من أجل فضائل علم التفسير أنه يعين على فهم القرآن الذي هو رسالة الله إلينا. 2- أن أشرف الكلام وأحسنه وأصدقه وأعظمه بركة وفضلا هو كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وقد روي أن: فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه. فالاشتغال بالتفسير اشتغال بأفضل الكلام وأحسنه وأعظمه بركة، وهو كلام الله عز وجل، ولا يزال العبد ينهل من هذا العلم ويستزيد منه حتى يجد بركته في نفسه وأهله وماله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]. 3- أن الله فضل العلم وشرفه وشرف أهله ورفع درجتهم، والعلم بالقرآن هو أفضل العلوم وأجمعها، وقد فصل الله في القرآن كل شيء؛ فمن ابتغى العلم من أفضل أبوابه وأحسنها فعليه بتدبر القرآن وفهمه ومعرفة معانيه. وهذا أمر معلوم لمن اشتغل بتفسير القرآن فإنه يجد فيه من أنواع العلوم النافعة شيئاً كثيراً مباركاً؛ فهو جامع لأنواع العلوم النافعة: - فأصول الإيمان والاعتقاد الصحيح والتعريف بالله تعالى وبأسمائه وصفاته وأفعاله وسننه في خلقه مبينة في القرآن. -وأصول الأحكام الفقهية في مسائل العبادات والمعاملات والمواريث وأحكام الأسرة والجنايات كلها مبينة في القرآن. -أصول المواعظ والسلوك والتزكية كلها مبينة في القرآن الكريم. - وكذلك الآداب والأخلاق الكريمة والخصال الحميدة. - وفيه بيان أمور ضلت فيها أمم وطوائف كثيرة من بدء الخلق وقصص الأنبياء وأخبار بني إسرائيل كما قال الله تعالى: {إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76]. "يختلفون" فعل مضارع يدل على التجدد؛ فهم قد اختلفوا ولا يزالون يختلفون، وهذا القرآن يقص عليهم أكثر الذي يختلفون فيه؛ فمن فقه ما قصه الله في القرآن من أخبار بني إسرائيل حصل العلم بأكثر ما يختلفون فيه علماً يميز به صحيح أقوالهم من خطئها، ويحكم به بين أقوالهم. -ومما تضمنه القرآن من العلوم علم الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، ففيه بيان أصول الدعوة وأنواعها ومراتبها وصفات الدعاة إلى الحق، وكشف شبهات المضلين، وأصول الاحتجاج للحق، ومعاملة المخالفين على اختلاف مراتبهم. - ومما تضمنه القرآن من العلوم علم المقاصد الشرعية والسياسة الشرعية، وكيف ترعى الرعية وتربى بالقرآن وتقاد به إلى ما فيه نجاتها وسعادتها. -وفيه بيان الهدى في كل ما يحتاج إليه العبد في شؤون حياته وكيف يتخلص من كيد الشيطان وشر النفس وفتنة الدنيا وسائر الفتن التي تعترضه، وكيف يهتدي إلى الصراط المستقيم. إلى غير ذلك من العلوم الجليلة النافعة التي ينتفع بها أحسن الانتفاع من فهم مراد الله تعالى فهم المؤمن المسترشد الصادق في اتباع الهدى. ويجمع ذلك كله قول الله تعالى: {إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء:9].فحذف المتعلق هنا لإرادة العلوم؛ فهو يهدي للتي هي أقوم في كل شيء. وقال الله تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[يوسف من الآية:111]. فمن أراد الهداية فعليه بفهم القرآن. ومن أراد الرحمة فعليه بهدى القرآن. ومن أراد العلم فعليه بتدبر القرآن قال ابن القيم رحمه الله: فتدبر القرآن إن رمت الهدى *** فالعلم تحت تدبر القرآن - والمفسر يحتاج إلى التمكن من علوم كثيرة متنوعة؛ ينفتح له بها من أبواب فهم القرآن ومعرفة معانيه ما يدله على سعة علم التفسير وشرفه وتعدد معارف أهله؛ فيحتاج إلى معرفة معاني المفردات ومعاني الحروف والأساليب والإعراب والصرف والبلاغة والاشتقاق، ويحتاج إلى معرفة أصول الفقه وقواعد الترجيح والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وأحوال النزول وفضائل الآيات والسور وأمثال القرآن والمبهمات وغيرها من العلوم المتنوعة التي يكتسبها المفسر شيئاً فشيئاً بتدرج تعلمه للتفسير. ويجد لكل علم من هذه العلوم أثره في التفسير واستخراج المعاني الجليلة واللطيفة. والمقصود أن علم التفسير من أوسع العلوم؛ فمن أقبل عليه وأحسن العناية به؛ فإنه يكتسب المعرفة الواسعة الحسنة بعلوم كثيرة. 4- ومن فضائل علم التفسير أنه يدل صاحبه على ما يعتصم به من الضلالة وقد قال الله تعالى: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّـهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران من الآية:101]، وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [النساء:175]. وقد بين الله تعالى في كتابه كيف يكون الاعتصام به، والمفسر من أحسن الناس علماً بما يكون به الاعتصام بالله. ومما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم خطبة في الإسلام في أشرف جمع على كان وجه الأرض وذلك في خطبته في حجة الوداع قال: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله. وأنتم تسألون عنى فما أنتم قائلون». قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: «اللهم اشهد اللهم اشهد. ثلاث مراتٍ» (رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه). ونحن نشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ وأدى ونصح، وقد ترك لنا كتاب الله عصمة من الضلالة. فمن اعتصم به فلن يضل بإذن الله. والمقصود أن الاعتصام بكتاب الله لا يكون إلا بفهم ما أنزل الله فيه، واتباع ما فيه من الهدى، وسبيل ذلك معرفة تفسيره؛ وكلما كان المؤمن أكثر نصيباً من فهم مراد الله تعالى واتباعاً لما بينه الله من الهدى كان أعظم حظاً من الهداية والعصمة من الضلالة. 5- ومن فضائل التفسير أن المفسر وارث للنبي صلى الله عليه وسلم في أعظم إرثه، وهو القرآن الكريم، ومن أحسن تحمل أمانة التفسير وأحسن أداءها كان من أخص ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: بلغوا عني ولو آية. وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّـهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:4]. فالمفسر مبلغ ومبين، والبلاغ المبين هو أخص وظائف الرسل؛ فالمفسر وارث لدعوة الرسول يدعو بما دعا به الرسول صلى الله عليه وسلم ويذكر بما ذكر به، ويبشر بما بشر به، وقد قال الله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق من الآية:45]، وقال: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ ۙ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51]، وقال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} [مريم:97]. فجعل الله وظائف الرسول في البلاغ المبين الذي يتضمن البشارة والنذارة؛ كما قال الله تعالى في موضعين من كتابه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفرقان:56] . فهو يبشر بالقرآن، وينذر بالقرآن، ويبلغ القرآن بلاغاً مبيناً، فهذا هو عماد دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وما أرسل به. والمفسر الصالح وارث لهذه الدعوة قائم بها، بل هو من أخص ورثتها إذا أحسن تحمل التفسير وأداءه؛ فهو يبلغ القرآن ويبين معانيه للناس ليهتدوا به، ويبشر به المؤمنين، وينذر به الذين ظلموا أنفسهم. وهذه هي حقيقة مقاصد إرسال الرسل. 6- ومن فضائل التفسير أن المفسر كثير الاشتغال بالقرآن ومعانيه وهداياته ؛ بل يكاد يكون أكثر وقته في مصاحبة القرآن تلاوة وتدبرا ودراسة ، وهذا من أجل أنواع مصاحبة القرآن، أن تكون مصاحبته مصاحبة تلاوة وتفقه فيه، واهتداء بهداه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه» (رواه مسلم من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه). فالمفسر الحق كثير الاشتغال بتلاوة القرآن والتفكر فيه وتدبر معانيه واستخراج كنوزه وفوائده وبدائعه حتى يعلم بذلك علماً كثيراً مباركاً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في آخر حياته لما سجن في سجن القلعة: "قد فتح الله علي في هذه المرة من معاني القرآن ومن أصول العلم بأشياء كان كثير من العلماء يتمنونها وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن" ا.هـ. وذلك لما رآه مما فتح الله عليه به من معاني القرآن. 7- ومن فضائل التفسير أنه يدخل صاحبه في زمرة خير هذه الأمة ، كما في صحيح البخاري من حديث سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال:«خيركم من تعلم القرآن وعلمه». قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج قال: "وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا". وأبو عبد الرحمن السلمي واسمه عبد الله بن حبيب بن ربيعة ، هو القائل: "حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آياتٍ فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل قالوا فعلمنا العلم والعمل" (رواه الإمام أحمد). وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعلم معانيهن والعمل بهن" (رواه ابن جرير). فدل هذا على أن تعلم القرآن يشمل تعلم ألفاظه ومعانيه واتباع هداه؛ فمن جمع هذه الأمور الثلاثة كان من خير هذه الأمة. ومعرفة معاني القرآن إنما تتحقق بمعرفة تفسيره. والكلام في فضائل التفسير يطول، ولعلنا نكتفي بهذه الأوجه التي من تأملها حق التأمل أيقن بفضل علم التفسير، وأن الاشتغال به اشتغال بخير العلوم وأجلها. ومما ينبغي أن يتفطن له أنه لا يشترط في وصف المفسر أن يكون له كتاب تفسير، فالتفسير علم وملكة؛ فمن حصل العلم الذي يكون به مفسراً وكانت له ملكة حسنة في التفسير فهو من أهل التفسير، وأما التأليف في التفسير فكثير من الأئمة المفسرين الثقات لم يؤلفوا في التفسير وهم من أحسن الناس فهماً للقرآن وقد نقلت عنهم آثار متفرقة في التفسير تدل على ما وراءها، كالإمام مالك والشافعي والإمام أحمد والبخاري وابن خزيمة وبعدهم النووي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم لم يؤلفوا تفاسير للقرآن وكلامهم في التفسير من أنفع الكلام وأحسنه، وقد ألف في التفسير بعض الضعفاء فخلطوا، ودخل الضعف والخطأ في بعض التفاسير لأسباب كثيرة. - وكذلك ليس من شرط المفسر اليوم أن يكون له كتاب تفسير؛ بل من أحسن معرفة أصول التفسير واشتغل بالتفسير تعلما وتعليماً ودعوة فهو مفسر. حاجة الأمة إلى بيان معاني القرآن: ومن المهم تنبيه طلاب العلم إلى حاجة الأمة إلى تفسير القرآن وبيان معانيه ودعوتهم بالقرآن وتذكيرهم به وإنذارهم بما فيه من الوعيد، وتبشيرهم بما تضمنه من البشائر لمن آمن به واتبع ما فيه من الهدى، وإرشادهم إلى ما بينه الله في كتابه من الهدى الذي يفرقون به بين الحق والباطل، ومخرجاً لهم من الظلمات إلى النور، كما قال الله تعالى: {الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1]. - وقال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللَّـهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّـهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى:52-53]. - وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَإِنَّ اللَّـهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحديد:9]. - وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّـهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ قَدْ أَنزَلَ اللَّـهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا . رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّـهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّـهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ قَدْ أَحْسَنَ اللَّـهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق:10-11]. فحاجة الأمة إلى فهم القرآن والاهتداء به ماسة، وكم من فتنة ضل بها العبد ، وضلت بها طوائف من الأمة بسبب مخالفتها لهدى الله عز وجل وما بينه في كتابه، وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة:115]. وقال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ} [طه من الآية:123]، وقال تعالى: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة من الآية:38]. فحاجة الناس إلى معرفة ما بينه الله في القرآن من الهدى، والحذر مما حذرهم منه أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب والنفس؛ لأن انقطاع هذه الأمور أقصى ما يصيب الإنسان بسببها أن يموت، والموت أمر محتم على كل نفس. وأما ضلاله عن هدى الله تعالى فيكون بسبب خسران آخرته التي هي حياته الحقيقية كما قال الله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت من الآية:64]، وقال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ . يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:23-24]. فكأن ما مضى من الحياة الدنيا لا يعد شيئا بالنسبة للحياة الآخرة الأبدية. وهذا له نظائر في القرآن الكريم كما في قول الله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50]، وقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1]. والمقصود أن حاجة الأمة إلى فهم القرآن معرفة معانيه والاهتداء به ماسة بل ضرورية. لأنهم لا نجاة لهم ولا فوز ولا سعادة إلا بما يهتدون به من هدى الله عز وجل الذي بينه في كتابه. ومن المهم أن يتعرف طالب العلم على أنواع هذه الحاجات ليقوم بالدعوة إلى الله بالإسهام في سد حاجة الأمة في ما ييسره الله له ويفتح له به من أنواع هذه الحاجات ؛ فيتعلم الهدى فيها، ويتعلم كيف يبينه للناس، ثم يدعو إلى الله على بصيرة بما تعلم من معاني القرآن وبذلك يكون من خاصة أتباع النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: {قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّـهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. ولو لم يحصل للداعية إلا واو المعية هذه مع النبي صلى الله عليه وسلم لكفى بها شرفاً. فمن عاش حياته بهذه المعية في الدنيا وهي معية بالمحبة والاتباع والدعوة إلى ما كان يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يكون في معية النبي صلى الله عليه وسلم في الدار الآخرة.وعلم معاني القرآن الكريم علم عزيز يحمله حق حمله في كل قرن خيرة أهله وأحبهم إلى الله، يؤمنون به ويتدبرونه ويدعون به الناس ويهدونهم إلى ما يخرجهم الله به من الظلمات إلى النور. ولعلي أذكر بعض أوجه حاجة الأمة إلى فهم القرآن والاهتداء به على سبيل التنبيه لا الحصر: - فمن ذلك حاجة الأمة إلى فهم القرآن والاهتداء به في معاملة أعدائها على اختلاف أنواعهم، وأن يحذروا مما حذرهم الله منه وتوعد عليه المخالفين بالعذاب الأليم والعقوبات الشديدة، وقد قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور من الآية:63]. وكم من فتنة ابتليت بها الأمة وكم من عذاب عذبت به طوائف من هذه الأمة بسبب مخالفتهم عن أمر الله. وحاجة الأمة إلى مجاهدة الكفار بالقرآن حاجة عظيمة لأنه يندفع بهذه المجاهدة عن الأمة شرور كثيرة جداً. وقد قال الله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]. وهذا الجهاد أشرف أنواع الجهاد وأكبر أنواعه؛ لأنه جهاد بكلام الله وبهداه؛ يبين به الحق وحسنه، ويبين به الباطل وقبحه، وتظهر به حجة الله. - وكذلك حاجة الأمة معرفة صفات المنافقين وعلاماتهم وحيلهم وكيف تكون معاملتهم حاجة ماسة، لأنهم يضلون من يستمع لهم ويعجبه كلامهم الذي يظهرونه ويبطنون مقاصد سيئة خبيثة، وقد حذر الله نبيه منهم فقال: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون من الآية:4]، وأنزل في شأنهم آيات كثيرة لعظم خطرهم، فمن لم يحذر مما حذر الله منه، ولم يتدبر الآيات التي بين الله بها أحوال المنافقين وأرشدنا إلى ما نعاملهم به فإنه يقع في أخطار وضلالات كثيرة. وكم فشل للأمة من مشروع إصلاحي بسبب المنافقين، فمعرفة طالب علم التفسير بما أنزل الله في شأن المنافقين، وتفقهه في ذلك، وحذره من مما حذر الله منه من حيلهم ومكائدهم وتحذيره الناس من ذلك يحصل به من الخير العظيم والسلامة والنجاة له ولمن يدعوهم ما يتيقن به عظم الحاجة إلى الاهتداء بهدي القرآن. -وكذلك قد يبتلى طالب العلم بأن يكون في مجتمع يكثر فيه أصحاب ملة من الملل أو نحلة من النحل، فيجد في كتاب الله تعالى ما يرشده إلى ما يعرف به ضلالهم، ويبصره بسبل دعوتهم إلى الحق، ومعاملتهم على الهدى الرباني الذي لا وكس فيه ولا شطط. -وكذلك إذا كثرت الفتن فإن الحاجة تزداد إلى تدبر القرآن والاهتداء به، ويكون أسعد الناس بالحق أحسنهم استنباطا لما يهتدي به في تلك الفتنة كما قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء من الآية:83]. وهذا فيه وعد من الله بأن يخص بعض عباده بعلم ما تهتدي به الأمة. -وقد يكون طالب العلم في مجتمع تفشو فيه فتنة من الفتن أو منكر من المنكرات فيتعلم من كتاب الله ما يعرف به الهدى ويدعو به من حوله لعلهم يهتدون. - وكذلك المرأة في المحيط النسائي قد تبصر ما لا يبصره كثير من الرجال أو لا يعرفون قدره من أنواع المنكرات والفتن التي افتتن به كثير من النساء فتتعلم طالبة العلم كيف تدعو بالقرآن في محيطها النسائي، وكيف تكشف زيف الباطل، وتنصر الحق، وتعظ من في إيمانها ضعف وفي قلبها مرض. الدعوة بالتفسير: والمقصود أن مجالات الدعوة بالتفسير مجالات كثيرة متنوعة، فليجتهد كل واحد منكم في محاولة تأهيل نفسه لسد حاجة الأمة في مجال من تلك المجالات، أو يسهم فيها. والدعوة بالتفسير وببيان معاني القرآن دعوة حسنة مباركة لتعلقها بكلام الله عز وجل، وقد قال أبو وائل شقيق بن سلمة: "استخلف علي عبد الله بن عباس على الموسم، فخطب الناس، فقرأ في خطبته سورة البقرة، وفي رواية: سورة النور، ففسرها تفسيرًا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا" (ذكره ابن كثير في تفسيره). وقال ابن حجر: "وروى يعقوب أيضا بإسناد صحيح عن أبي وائل قال: "قرأ بن عباس سورة النور ثم جعل يفسرها فقال رجل لو سمعت هذا الديلم لأسلمت". ورواه أبو نعيم في الحلية من وجه آخر بلفظ سورة البقرة وزاد: "أنه كان على الموسم -يعني سنة خمس وثلاثين- كان عثمان أرسله لما حصر". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * موقع طريق الإسلام: (http://iswy.co/e178lf).
    0
  • الفرق بين التدبر والتفسير *
    الكاتب: د. فريد الإنصاري رحمه الله

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: حول مفهوم التدبر للقرآن كتب أخونا سعد كلمات قيمة، ترجم فيها إشكالاً مهمًا، أو شبهة تعرض لكثير من الناس، حول تدبر كتاب الله ومدارسة آياته. وكان فيما قال أسعده الله: "لا شك أنه من اللافت فعلاً شدة إعراض الناس عن القرآن الكريم! فأغلب الناس لا يُقبلون عليه إلا مرة في السنة أو في سنوات!" ثم قال: "يبدو لي أن أحد الأسباب التي تكمن وراء هذا الإعراض هو (تهيب) الإقبال على القرآن مباشرة ودون واسطة. صحيح أن من الناس من يتفادى التدبر؛ لأنه لا يعرف قيمة القرآن! ولكن هنالك أيضاً صنف من المسلمين يخافون أن يُعْمِلُوا فكرهم في آيات الله -وإن كان بحضور التفسير!- لأنه "شيء جديد وغير مألوف!" ولأنه (اجتراء) على الله! فما هي الضوابط التي ينبغي الالتزام بها أثناء تدارس القرآن أو تدبره؟ ما الذي يضمن أن العبد لن ينجرف وراء خواطر شيطانية، وهو يظنها رحمانية؟ وإلى أي حد يمكن أن يقول (برأيه) في استخراج معاني القرآن وحقائقه الإيمانية؟ أعتقد أن توضيح هذه النقاط مهم للغاية، خاصة وأنني أعرف بعض الصالحين ممن يخافون فعلاً أن يتدبروا القرآن. ولقد سمعت بأذني أحدهم يقول لصديق لي حين سمعه يتدبر آية من سورة العلق: "هل تريد أن تكون مفسراً؟"!! فَوَضْعُ هذه الحدود كفيل إن شاء الله بتشجيع الناس على الإقبال على القرآن دون خوف أو وجل.. والسلام عليكم". وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. بارك الله فيك أخي سعداً! تساؤل في غاية الأهمية، وملحوظة في غاية الدقة! ولقد أشرتُ إلى بعض حقائق التدبر في كتيب (مجالس القرآن)، وكشفتُ هنالك عن طبيعة الإشكال. ولقد استقريت -بتوفيق الله- عشرين ضابطاً لمجلس التدارس والتدبر؛ ما يحفظه -بإذن الله- عن الشرود والانحراف. ولعل الأحبة يجدون في الطبعة الجديدة للكتاب -بزياداتها- ما يكفي لذلك، إن شاء الله، وبه الثقة. وإنما المحفوظ من حفظه الله! وإنما الذي أفزعني ههنا هو ما حكاه سعدٌ عن بعض الإخوان، من الاستعظام لفعل التدبر، والإنكار على المتدبر بما يشبه السخرية! ولذلك فقد أحببت نزع ما يلقيه الشيطان في النفس- تحت ستار الورع وذريعة التقوى!- من الصد عن تدبر كتاب الله! وحرمان الأمة من أعظم أصل في منهاج التعامل مع رسالات الله! ويمكن توضيح القول ههنا حول التدبر بطريقة أخرى، وبيان ذلك -بحول الله- هو كما يلي: - أولًا: لا بد من بيان أن التدبر هو غير التفسير! هذا أمر مهم جدًا! ونحن نعلم أن بعض العلماء المعاصرين قد استعملهما على سبيل الترادف. وهو غير صحيح! فالتفسير بيان وشرح للمعنى، بينما التدبر اتعاظ بالمعنى واعتبار به وتذكر! وبينهما فرق كبير! إن التفسير من الفَسْرِ، وهو: الكشف والبيان. ولذلك سمي بيان كتاب الله تفسيراً؛ لأنه يكشف اللثام عن معانيه اللغوية والسياقية والشرعية، باستعمال قواعد التفسير المعروفة عند أهله. وهذا هو علم التفسير. وقد كنا -مع بعض إخواننا- نتدارس كتاب الشيخ العلامة عبد الرحمن حبنكة الميداني رحمه الله: (قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل)؛ فوجدنا أنما هو كتاب في قواعد التفسير! وهو كتاب من العمق والدقة بمكان! لكنه لا تدبر فيه بالمعنى القرآني للكلمة! وإنما هو قواعد منهجية تضبط عمل المفسر لكتاب الله. أما التدبر-من التفعل- فهو: النظر إلى دُبُرِ الشيء، أي التأمل في دَوَابِرِ الأمور المتوقعة، بمعنى النظر إلى عاقبتها، وما يمكن أن تؤول إليه. كما يدخل فيه النظر في دوابر الأمور الواقعة من قبل؛ لمعرفة أسبابها ومقدماتها. وهذا لا يوجد في كتب التفسير إلا نادراً. لأنه -في الغالب- عمل قلبي شخصي، ونظر نفسي لا ينوب فيه أحد عن أحد. وهل يستطيع أحد أن ينوب عن غيره في الخوف والرجاء، أو في الكسل والنشاط؟ هذا ممتنع عقلاً وطبعاً وشرعاً! اللهم إلا ما تعلق بربط الأسباب بمسبباتها -على المستوى الخارجي- وما كان في معناه. - ثانياً: إن التدبر هو مرحلة ما بعد التفسير! أي ما بعد الفهم للآية. لكن الفهم المطلوب لتحصيل التدبر إنما هو الفهم الكلي العام، أو بعبارة أخرى: الفهم البسيط. ولا يشترط في ذلك تحقيق أقوال المفسرين والغوص في دقائق كتب التفسير! وإلا صار القرآن موجهاً إلى طائفة محصورة فقط! ومن ثم يمكن لأي شخص أن يتدبر القرآن بعد التحقق من المعنى المشهور للآية، يقرؤها من أي تفسير أو يسمعها. إن التدبر حركة نفسية باطنية! تنظر إلى صيرورة النفس في الزمان والمكان، بالنسبة إلى احتمالين: الأول احتمال متابعة القرآن والاستسلام لأحكامه وحكمه. والثاني: عكسه، وهو النكوص والتمرد والجحود والعصيان! ففي كلا الأمرين ينظر المتأمل إلى مآل الحال المحتمل! ذلك هو التدبر! ولذلك كان التدبر لغة -كما ذكرنا- نظراً إلى أدبار الحوادث ونتائجها، وربطاً للأسباب بمسبباتها، فيما وقع وفيما يحتمل أن يقع، على المستوى النفسي والاجتماعي. في الخير والشر سواء! إنه إذن ضرب من المحاسبة للنفس في ضوء القرآن، والمراقبة لأحولها، في صيرورتها الذاتية والاجتماعية. إن التدبر إذن هو نظر في الآية باعتبارها مبصاراً، يكشف عن أمراض النفس وعللها، ويقوم في الوقت نفسه بتهذيبها وتشذيبها. أي بتزكيتها وتربيتها. ومن ثم فإنه يكفي المتدبر للقرآن أن يعلم المعنى العام للآية أو السورة، مما أُثِرَ عن جمهور السلف؛ ليدخل في مسلك التدبر. ولا شك أن علم العالم وخبرة المفسر تعطيه فرصةً أكبر بكثير؛ لتعميق التدبر في الآيات، والوصول بها إلى أرقى منازل الإيمان! ولكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن غير المختصين بالتفسير، أو حتى العوام محجوبون من التدبر! إن غير العالم لن يعجز عن تدبر آية {الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] مثلاً، والنظر في مآلات فعل الحمد في نفسه وفي المجتمع -على قدر طاقته طبعاً- وكذا مآلات نقيضه من النكران والجحود كيف يكون؟ وإن غير العالم إذا فسرتَ له أن {الفَلَقَ} هو الفجر؛ أمكنه آنئذ أن يتدبر قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ . مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1-2]. وكذلك إذا علم أن {الْجُدَدَ} هي: الطرق والمسالك الجبلية، وأن {الغَرَابِيبَ} هي: الصخور السوداء؛ أمكنه أن ينطلق في آفاق تدبر قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر:27]. ولقد تعمدت أن أمثل بهذه الكلمات القرآنية الغريبة إلى حد ما، وإلا فجمهور المعجم القرآني من الميسور المعلوم، بل إن كثيراً منه متداول في اللهجات العامية العربية! ولم لا يتدبر؟ أليس يرى القارئ للآية المذكورة مثلاً، مشهدَ نزول الماء من السماء؟ أليس يرى بعينيه آثار الغيث كلَّ ربيع في الروابي، والجنات، والبساتين، وأشكال الفاكهة والثمار، والجداول، والأنهار، والأطيار، بل في الحياة كلها؟ أليس ينظر إلى الجبال الشاهقة المنتصبة بهيئتها العظيمة بين يديه؟ أليس يرى مسالكها من بعيد تتلوى حولها خطوطاً حمراء وبيضاء على حسب لون الصخور والتربة الناسجة لها؟ أليس يعجب من مشهد الحجارة الصماء السوداء، الراسية على قمم هذه الجبال أو تلك؟ فكل من أبصر عظمة الخالق في عظمة المخلوق، واتخذ آثار الصنعة مسلكًا يسير به إلى معرفة الله فهو متدبر وهو متفكر! وهذا أمر ليس حكراً على المفسرين ولا على الجيولوجيين، وإن كان لهؤلاء وأولئك من العلم ما يجعلهم يتفوقون ويسبقون به غيرهم، إذا أخلصوا النظر لله! نعم، ولكن الله قد أتاح لكل ذي عينين، وأذنين، وقلب حي، أن يسلك إلى ربه عبر ما يسر الله له من التدبر والتفكر.. ولربما سبق القنفذُ الفرس! وإنما ذلك على حسب صفاء القلب وإخلاص السير! وإنني لأنسى كثيراً، لكنني ما نسيت قط حَدَّاداً شابًا في قريتي الصغيرة بجنوب المغرب، أواخرَ السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الميلادي الماضي.. وكانت الشيوعية آنئذ تنتشر في المغرب انتشار النار في الهشيم! وقد كان دعاتها عندنا من بعض رجال التعليم وطلبة الجامعات، مع الأسف! وكان أحدهم يجلس إلى ذلك الحداد البسيط يعلمه (حقوق العمال) و(ديكتاتورية البروليتاريا!) وكأن مطرقته الثقيلة، وما كان يصنعه للفلاحين الصغار من مناجلَ ومَزَابِرَ ومِحَشَّاتٍ، كانت تذكره بشعار الشيوعية الشهير: "المطرقة والمنجل"! فطمع الأحمق أن يضمه إلى صفوف الشيوعيين! حتى إنه سار معه بعيداً فجعل يشرح له عقيدة الإلحاد، وكيف أن "الدين أفيون الشعوب" على حد تعبير كارل ماركس! وكنتُ أنا أيضاً وأصحابي نجلس إلى هذا الحداد، فيحدثنا بحديث الشيوعي، ثم نتداول الكلام.. وإنني لا أنسى يومًا إذ أخرج من التنور حديدةً مُجَمَّرَةً، قد احْمَرَّ نصلها من النار حتى إنها لتكاد تذوب! ثم انهال عليها بالدق والطرق بقوة، وهو يقول دون أن يرفع رأسه: "يا أخي.. إنهم ينكرون وجود الله ووجود الآخرة! هكذا يقولون.. أما أنا فإنه لربما أصابتني أحيانا شرارةٌ طائشة من هذا الحديد المجمَّر بين يديَّ؛ فتثقب ثوبي ثم جلدي، فيكون لها من الألم الشديد ما الله به عليم! وإن ذلك ليكفيني ترهيباً وتحذيراً من نار جهنم! وإن صاحبنا الشيوعي كلما حدثني بحديثه قلت في نفسي: هذه مجرد ذرة من نار الدنيا، فترى كيف تكون نار الآخرة! وإنني لأرى بعينيَّ أن نار الدنيا هذه التي بين يديَّ لدليل كاف على وجود نار الآخرة!" كذا قال! وإنني ما زلت إلى اليوم أعجب من عمق ملاحظة ذلك الحداد الفطري البسيط! وأتساءل في نفسي: أي تفكر هذا وأي تدبر؟ بل أي علم بالله هذا وأي إبصار! حَقّاً حَقّاً! {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. هذا ضرب عجيب من التدبر لحقائق القرآن، ونوع من التفكر العميق في الوجود، وهو ممكن لكل الناس، خاصتهم وعامتهم على السواء. وأنت ترى أن الله جل جلاله أمر الكفار بالتدبر لكتابه! كما في قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء:82]. وقال سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. فإذا كان الكافر-وهو المجرد قطعًا من كل قواعد التفسير ومناهجه- مأموراً بالتدبر فالمسلم أولى وأحرى! إن المسلم -أي مسلم- إنما عليه أن يصطحب مختصراً صغيراً من كتب التفسير، كتفسير الجلالين مثلاً، أو أحد مختصرات ابن كثير، أو غيرهما؛ وذلك فقط حتى يضبط بوصلة الاتجاه العام لمعنى الآيات، ثم يشرع آنئذ في التدبر للقرآن، ولا حرج. لأن التدبر لكتاب الله لا ينبني عليه حلال ولا حرام، ولا تصدر عنه فتوى ولا قضاء! وإنما هو مسلك روحي يقود القلب إلى التوبة والإنابة، وإلى مجاهدة النفس من أجل الترقي بمراتب العلم بالله! أما صناعة التفسير والاستنباط فهذا هو الذي يخص فئة محصورة من الناس وهم أهل الاجتهاد من العلماء، ممن يفتون ويقررون في القضايا والنوازل. وفي ذلك نزل قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:83]. وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. فذاك علم الخاصة. وأما التدبر-بما هو تذكر واعتبار- فهو لعامة المسلمين. قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]. وعليه؛ فالمفسر عالم وفقيه، يقوم ببيان الحقائق القرآنية والأحكام الشرعية، والتصدر للفتوى. بينما المتدبر مجرد متعظ وواعظ. وقد يجمع الله للمرء بين الخيرين. والعالم الحق لا يصح له إلا ذلك! ومن ثم جاز لنا أن نقول: "كُلُّ عالِمٍ أو كلُّ مفسِّرٍ متدبرٌ، وليس كل متدبرٍ مفسِّراً!" فتأمل! إن الذي يمتنع عن تدبر القرآن أو ينهى غيره عن ذلك؛ بدعوى أن التدبر أمر خاص بعلماء التفسير، إنما هو جاهل بهذا الفرق الجوهري الكبير بين التفسير والتدبر.. وأخشى أن يكون الشيطان قد لبَّس عليه تلبيساً؛ ليحرمه هو في نفسه من نور القرآن! أو يجعله أداة لقطع الطريق أمام السائرين إلى الله! إن التدبر للقرآن مطلوب من العالِم، ومن المهندس، والطبيب، والأستاذ، والفلاح، والحداد، والنجار، والتاجر... إلخ! بل إن التدبر مطلوب من الكافر الأعجمي، إنجليزياً كان أو فرنسياً أو صينياً، أو ما كان! نعم! نعم! لكن فقط بعد أن تترجم له المعاني العامة للآيات! بينما التفسير إنما هو صناعة العلماء فقط. ومصطلح (التدبر) في القرآن قريب من مصطلح (التفكر) وإن لم يكونا مترادفين. فكأن (التدبر) ينصرف استعماله غالبًا إلى تأمل القرآن، بينما (التفكر) ينصرف استعماله إلى تأمل الكون المنظور. قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190-191]. وإذا تأملت وجدت نتيجة كُلٍّ من التدبر والتفكر واحدة، ألاَ وهي: الاتعاظ والاعتبار! وهو ما حكاه الله عن الذاكرين المتفكرين: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. إن هذا معناه أيضا أن النظر (التفكري) في الكون ليس عملًا عقليًا معقدًا، خاصا بعلماء الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات والبيولوجيا والطبيعيات... إلخ! نعم هم مشمولون بأمره، بل هم أولى به! لكن (التفكر) كالتدبر، مطلوب أيضًا من غير المتخصصين، بل حتى من العوام! كُلٌّ على قدر فكره!.. وما يدريك؟ لعل فلاحًا بسيطاً، يصل إلى عِبَرٍ للقلب لا يتحقق بها المتخصص الخبير! لأن نتائج كُلٍّ من التدبر والتفكر محض هبة من الرحمن، ومجرد هُدًى منه تعالى! إن التدبر والتفكر يؤولان معاً إلى مصطلح قرآني مركزي ثالث، ألا وهو (التَّذَكُّرُ) بالذال المعجمة، أو (الاِدِّكَارُ) بالدال المهملة، ومشتقاتهما وهما سواء (قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير قوله تعالى من سورة القمر: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}: "وأصل "مُدَّكِر": مفتعل من ذَكر، اجتمعت فاء الفعل، وهي ذال، وتاءٌ وهي بعد الذال، فَصُيِّرَتَا دالا مشددة. وكذلك تفعل العرب فيما كان أوله ذالا يتبعها تاءُ الافتعال، يجعلونهما جميعاً دالا مشددة، فيقولون: اِدَّكَرْتُ ادِّكَاراً، وإنما هو: اِذْتَكَرْتُ اذْتِكَاراً"). قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [ص:29]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]. وإنما يختص (التدبر) بتحصيل الذكرى عن طريق النظر في الآيات القرآنية. بينما يختص (التفكر) بتحصيل الذكرى بالآيات الكونية. هذا هو الغالب، وربما وجدت هذا بمعنى ذاك. إذ بينهما علاقة جدلية؛ لأن أحدهما يؤدي إلى الآخر. فالتدبر للقرآن يقودك إلى التفكر في الوجود، والتفكر في الوجود يعود بك إلى القرآن. وهما معًا في جميع الأحوال يثمران تَذَكُّراً للقلب وذكرى. ولا يقول عاقل بأن التذكر والذكر يحتاج فيها الإنسان إلى خبرة علمية وتخصص دقيق! سواء في الشرعيات أو في الكونيات. كلا! كلا! إنما هو عمل قلبي محض، مفتوح لكل ذي قلب! وبذلك قامت حجة الله على جميع الخلق عربهم وعجمهم، خاصتهم وعامتهم! قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]. وبذلك يتبين ما لتعقيد الضوابط والشروط للتدبر أو للتفكر، من خروج عن منهاج القرآن! قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]. إن المتدبر أو المتفكر-كليهما- في حاجة إلى التحقق بأمرين اثنين: - الأول: الفهم العام للآية قراءةً، أو سماعاً إن كان أميًا. ويحسن أن يكون ذلك بمجلس مدارسة، تعلما وتعليما، على منهاج رسول الله -معلم الأميين- صلى الله عليه وسلم. - الثاني: إخلاص النظر لله! وكلاهما بمقدور جميع الناس، إلا من رُفِعَ عنه القلم! قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:46]. وهذا خطاب موجه في الأصل للكفار، فتأمل! وأحب قبل ختام هذه الكلمات أن أعززها بإيراد أمثلة عن تدبر النبي صلى الله عليه وسلم وتفكره. فالسنة هي البيان الرئيس للقرآن الكريم ومفاهيمه. وأمثلة أخرى عن تدبر الصحابة رضي الله عنهم، وكذا بعض التابعين. ففي مشهد من أَجَلِّ مَشَاهِدِ النبوة، لم يزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يبكي في صلاته من تدبره وتفكره؛ إذْ أَرَاهُ اللهُ من أسرار مَلَكُوتِهِ ما أَرَاهُ؛ حتى بكت الأرض ببكائه عليه الصلاة والسلام! فقد سَأَلَ عُبَيْدٌ بْنُ عُمَيْرٍ عائشةَ رضي الله عنها، قَالَ: "أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتِهِ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم!" قالَ: فَسَكَتَتْ، ثُمَّ قَالَتْ: "لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي قَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَائِشَةُ! ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي!» قُلْتُ: "وَاللهِ إنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ" قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ! قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ! قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الأرْضَ! فَجَاءَ بِلاَلٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلاَةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي قَالَ: "يَا رَسُولَ اللهِ! لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟" قَالَ: «أَفَلاَ أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً؟ لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا! {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ. رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}» [آل عمران:190-191] (رواه ابن حبان في صحيحه. وقال الشيخ الألباني: إسناده جيد، وحسنه في صحيح الترغيب). وقد ورد التدبر والتفكر ههنا بمعنى واحد كما أشرنا إليه من قبل، لارتباطهما الجدلي. فقوله صلى الله عليه وسلم: «وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا!» هو بمعنى: لم "يتدبرها" لأن تدبرها مُفْضٍ بالضرورة إلى التفكر في خلق السماوات والأرض؛ ولذلك عبر هنا بالتفكر. وأما وعيده عليه الصلاة والسلام للممتنع عن التفكر بالويل؛ فهو دليل قوي على وجوب التفكر والتدبر-إجمالاً- على جميع الناس! سواء منهم العالم والعامي، كُلٌّ على ما يسر الله له.. فتأمل! وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل، قام فقال: «يا أيها الناس!.. اذكروا الله! جاءتِ {الرَّاجِفَةُ . تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات:6-7]. جاء الموت بما فيه! جاء الموت بما فيه!» (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وحسنه الألباني في الصحيحة وفي صحيح الترمذي وصحيح الجامع الصغير). ولا يخفى ما في الحديث من تضمين لآيتي النازعات: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ . تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات: 6-7]. وما في ذلك من تدبر عجيب لهذه الحقيقة الإيمانية في جوف الليل؛ وذلك لِشَبَهِ الليل بظلمة القبر من جهة، ولأن الليل -من جهة أخرى- هو موتٌ لحركة النهار! وفي ذلك أيضًا إشارة إلى أن على المؤمن أن يجعل تفكره في الظواهر الكونية مرتبطًا بتدبره للآيات القرآنية؛ بسبب ما ينتج عن ذلك من التشمير والجد والعمل! حيث تقع الآيات بعد ذلك على النفس الكسولة الغافلة، موقع السوط اللاهب على ظهر الدابة الخاملة! فتقفز مسرعة بصاحبها في الطريق إلى الله! وكذلك كان تدبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن التابعي العابد الزاهد ابن أبي مليكة رحمه الله، قال: "صَحِبْتُ ابنَ عباس رضي الله عنهما من مكة إلى المدينة، فكان إذا نزل قام شَطْرَ الليل! فَسُئِلَ: "كيف كانت قِرَاءَتُهُ؟" قال: "قرأ: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] فجَعلَ يُرَتِّلُ ويُكْثِرُ في ذلك النَّشِيجَ!" (سير أعلام النبلاء للذهبي: [3/342]) والنَّشِيجُ: شدة البكاء، إذا هاج على صاحبه؛ فبكى بصوت مخنوق في صدره، فصار له أَزِيزٌ كأزيزِ القِدْرِ أو الْمِرْجَلِ! وفي تفسير الطبري: "أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قرأ هذه الآية: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104]، قال: ألم تر إلى الرأس الْمُشَيَّطِ بالنار، وقد قَلُصَتْ شفتَاه وبدت أسنانُه!". (تفسير الطبري للآية:104 من سورة المؤمنون) يقصد التمثيل التدبري للمعنى برأس الكبش الْمُشَيَّطِ، أي بعد تشويطه بالنار. تقول: شَوَّطَ وشَيَّطَ، سواء. وهذا تدبر عجيب؛ لما فيه من ربطٍ للآيات القرآنية بالمشاهَدَات اليومية في الحياة ا لدنيا-رغم عظم الفرق- ولكن الاتعاظ بالصغير الحقير أدعى إلى الاتعاظ بالكبير الخطير! وفي ترجمة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الإصابة لابن حجر، أنه: "كان رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ} [الحديد:16]، يبكي حتى يغلبه البكاء..!" (ترجمته في: "من اسمه عبد الله" في "الإصابة في معرفة الصحابة" لابن حجر). وورد "أن أبا طلحة رضي الله عنه قرأ هذه الآية: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً} [التوبة:41]، فقال: "أرى ربي يستنفرنا شيوخَنا وشُبَّانَنَا! جهزوني أيْ بَنِيَّ! جهزوني!" (يعني للجهاد! وكان يومها قد شاخ وكَبُرَ!) فقال بنوه: "قد غزوتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ونحن نغزو عنك!" (أي بعدما عجزت) فقال: "جهزوني!" فركب البحر، فمات. فلم يجدوا له جزيرة (لدفنه) إلا بعد سبعة أيام! فدفنوه فيها ولم يتغير!" (الطبقات الكبرى لابن سعد: [3/507]). وعند تفسير قوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، قال الإمام القرطبي: "وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول: يا ويلتاه..! ضَجُّوا إلى الله تعالى من الصغائر قبل الكبائر!" (تفسير القرطبي للآية:49 من سورة الكهف). وروى الإمام البيهقي في شعب الإيمان بسنده عن الواعظ الكبير مالك بن دينار أنه رحمه الله: "قرأ هذه الآية: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88]. قال: فَأُسَمَّى في القيامة ِ مَالِكاً الصَّادِقَ، أو مَالِكاً الكاذبَ!" (شعب الإيمان، رقم: [1802]) وهو بذلك يُنَـزِّلُ مضمون الآية على نفسه -حيث كان واعظاً- فجعل يحاسب نفسه بميزان القرآن، ويتدبر الآية بالنظر إلى نفسه، مشفقاً من حالها ومآلها، وما قد يكون من مصيرها! قصد تهذيبها، وكسر شوكة غرورها، وتصفية مقاصدها، وتجريد إخلاصها لربها! وهو من أجل ضروب التدبر والتفكر! وفي الزهد لأحمد بن حنبل -وغيره- أن مالكا بن دينار أيضا قرأ هذه الآية: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} [الحشر:21] فبكى، وقال: "أقسم لكم! لا يؤمن عبدٌ بهذا القرآن إلا صدع قلبَه!" (الزهد لأحمد بن حنبل، رقم: [1878]). والأثر أورده أيضًا أبو نعيم في الحلية عند ترجمة مالك بن دينار، كما أورده السيوطي في الدر المنثور عند تفسير الآية:21 من سورة الحشر) الله أكبر..! ألا ما أجله من تدبر! وما أدقه من تفكر! لقد وضع مالك بن دينار رحمه الله قلبَه موضع الجبل! فكيف تراه يكون؟ أيكون أشد صلابةً من الجبل؟ كيف بقلب يتلقى القرآن حق التلقي، كيف به وهذا الجبل قد خشع له وتصدع!؟ ذلك هو التدبر.. وإن الأمثلة في مثل هذا لأكثر من أن تحصى! وأنت تلاحظ أن هذه النصوص جميعًا ليست من قبيل التفسير بمعناه الاصطلاحي الخاص، وإنما هي مجرد تعبير عن المشاعر الخاصة، والمواجيد الجياشة، الحاصلة في النفس عند تلاوة الآيات، وما يخالط القلب من الرَّغَبِ والرَّهَبِ، والخوف والرجاء، في طريق السير إلى الله! كما أن فيها تنـزيلاً للآيات على واقع النفس، أو واقع المجتمع، أو على أحوال الطبيعة حول الإنسان، ومشاهدةً لبروق الوعد والوعيد، من خلال تقلبات الليل والنهار. وفضحاً لغش النفس وضعفها؛ بتسليط كشافات القرآن عليها! كما أن فيها مشاهدةً للعزائم العالية التي طلبها الله عز وجل من العباد، وما ينتصب دونها من مشاق الطريق ومكارهها! ولذلك ترى المتدبرين للقرآن والمتفكرين في آياته الكونية، بين بَاكٍ مختنق بالأنين، أو مُطْرِقٍ مهموم حزين! ولا يخرج كلاهما من مجلسه أو خلوته إلا بعزيمة تهد الجبال! وإن الواحد من هذا الطراز البشري العظيم لهو بأمة! ذلك هو التدبر، وذلك هو التفكر، وتلك هي الذكرى.. وإنما ثمرة ذلك كله هو تهييج النفس على العمل، وتنشيط القلب على السير، وتوثيق إرادة النفس على عزائم الأعمال! فكذلك كان تدبرهم للقرآن، وكذلك كان تفكرهم في الزمان.. فما بالنا نحن؟ إنما نحن في حاجة إلى قلوب مثل قلوبهم، وإخلاص مثل إخلاصهم! وإنني لعلى يقين لو أن الناس اليوم يُحْيُونَ هذا المسلك في النفوس من جديد، ويتداولون القرآن في المجتمع على هذا الوِزَانِ؛ لتدفقت أنهار النور على الظلام! ولكان للأمة في هذا العصر شأن آخر! وإنه لَيَكُونَنَّ إن شاء الله! وما ذلك ببعيد! فإنني أرى عباداً لله خُلَّصاً قد بدؤوا يرفعون راية القرآن فوق تلال قلوبهم! وإن نصب راية القرآن على تلال القلوب لهو: {نَصْرٌ مِّنَ اللَّـهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:13]. اللهم ألهمنا مراشدنا، واسلك بنا سبيل الهدى، واجعلنا سببا لمن اهتدى. المحب لكم: فريد الأنصاري، عفا الله عنه وعن المؤمنين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * موقع طريق الإسلام: (http://iswy.co/e178l3).
    الفرق بين التدبر والتفسير * الكاتب: د. فريد الإنصاري رحمه الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: حول مفهوم التدبر للقرآن كتب أخونا سعد كلمات قيمة، ترجم فيها إشكالاً مهمًا، أو شبهة تعرض لكثير من الناس، حول تدبر كتاب الله ومدارسة آياته. وكان فيما قال أسعده الله: "لا شك أنه من اللافت فعلاً شدة إعراض الناس عن القرآن الكريم! فأغلب الناس لا يُقبلون عليه إلا مرة في السنة أو في سنوات!" ثم قال: "يبدو لي أن أحد الأسباب التي تكمن وراء هذا الإعراض هو (تهيب) الإقبال على القرآن مباشرة ودون واسطة. صحيح أن من الناس من يتفادى التدبر؛ لأنه لا يعرف قيمة القرآن! ولكن هنالك أيضاً صنف من المسلمين يخافون أن يُعْمِلُوا فكرهم في آيات الله -وإن كان بحضور التفسير!- لأنه "شيء جديد وغير مألوف!" ولأنه (اجتراء) على الله! فما هي الضوابط التي ينبغي الالتزام بها أثناء تدارس القرآن أو تدبره؟ ما الذي يضمن أن العبد لن ينجرف وراء خواطر شيطانية، وهو يظنها رحمانية؟ وإلى أي حد يمكن أن يقول (برأيه) في استخراج معاني القرآن وحقائقه الإيمانية؟ أعتقد أن توضيح هذه النقاط مهم للغاية، خاصة وأنني أعرف بعض الصالحين ممن يخافون فعلاً أن يتدبروا القرآن. ولقد سمعت بأذني أحدهم يقول لصديق لي حين سمعه يتدبر آية من سورة العلق: "هل تريد أن تكون مفسراً؟"!! فَوَضْعُ هذه الحدود كفيل إن شاء الله بتشجيع الناس على الإقبال على القرآن دون خوف أو وجل.. والسلام عليكم". وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. بارك الله فيك أخي سعداً! تساؤل في غاية الأهمية، وملحوظة في غاية الدقة! ولقد أشرتُ إلى بعض حقائق التدبر في كتيب (مجالس القرآن)، وكشفتُ هنالك عن طبيعة الإشكال. ولقد استقريت -بتوفيق الله- عشرين ضابطاً لمجلس التدارس والتدبر؛ ما يحفظه -بإذن الله- عن الشرود والانحراف. ولعل الأحبة يجدون في الطبعة الجديدة للكتاب -بزياداتها- ما يكفي لذلك، إن شاء الله، وبه الثقة. وإنما المحفوظ من حفظه الله! وإنما الذي أفزعني ههنا هو ما حكاه سعدٌ عن بعض الإخوان، من الاستعظام لفعل التدبر، والإنكار على المتدبر بما يشبه السخرية! ولذلك فقد أحببت نزع ما يلقيه الشيطان في النفس- تحت ستار الورع وذريعة التقوى!- من الصد عن تدبر كتاب الله! وحرمان الأمة من أعظم أصل في منهاج التعامل مع رسالات الله! ويمكن توضيح القول ههنا حول التدبر بطريقة أخرى، وبيان ذلك -بحول الله- هو كما يلي: - أولًا: لا بد من بيان أن التدبر هو غير التفسير! هذا أمر مهم جدًا! ونحن نعلم أن بعض العلماء المعاصرين قد استعملهما على سبيل الترادف. وهو غير صحيح! فالتفسير بيان وشرح للمعنى، بينما التدبر اتعاظ بالمعنى واعتبار به وتذكر! وبينهما فرق كبير! إن التفسير من الفَسْرِ، وهو: الكشف والبيان. ولذلك سمي بيان كتاب الله تفسيراً؛ لأنه يكشف اللثام عن معانيه اللغوية والسياقية والشرعية، باستعمال قواعد التفسير المعروفة عند أهله. وهذا هو علم التفسير. وقد كنا -مع بعض إخواننا- نتدارس كتاب الشيخ العلامة عبد الرحمن حبنكة الميداني رحمه الله: (قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل)؛ فوجدنا أنما هو كتاب في قواعد التفسير! وهو كتاب من العمق والدقة بمكان! لكنه لا تدبر فيه بالمعنى القرآني للكلمة! وإنما هو قواعد منهجية تضبط عمل المفسر لكتاب الله. أما التدبر-من التفعل- فهو: النظر إلى دُبُرِ الشيء، أي التأمل في دَوَابِرِ الأمور المتوقعة، بمعنى النظر إلى عاقبتها، وما يمكن أن تؤول إليه. كما يدخل فيه النظر في دوابر الأمور الواقعة من قبل؛ لمعرفة أسبابها ومقدماتها. وهذا لا يوجد في كتب التفسير إلا نادراً. لأنه -في الغالب- عمل قلبي شخصي، ونظر نفسي لا ينوب فيه أحد عن أحد. وهل يستطيع أحد أن ينوب عن غيره في الخوف والرجاء، أو في الكسل والنشاط؟ هذا ممتنع عقلاً وطبعاً وشرعاً! اللهم إلا ما تعلق بربط الأسباب بمسبباتها -على المستوى الخارجي- وما كان في معناه. - ثانياً: إن التدبر هو مرحلة ما بعد التفسير! أي ما بعد الفهم للآية. لكن الفهم المطلوب لتحصيل التدبر إنما هو الفهم الكلي العام، أو بعبارة أخرى: الفهم البسيط. ولا يشترط في ذلك تحقيق أقوال المفسرين والغوص في دقائق كتب التفسير! وإلا صار القرآن موجهاً إلى طائفة محصورة فقط! ومن ثم يمكن لأي شخص أن يتدبر القرآن بعد التحقق من المعنى المشهور للآية، يقرؤها من أي تفسير أو يسمعها. إن التدبر حركة نفسية باطنية! تنظر إلى صيرورة النفس في الزمان والمكان، بالنسبة إلى احتمالين: الأول احتمال متابعة القرآن والاستسلام لأحكامه وحكمه. والثاني: عكسه، وهو النكوص والتمرد والجحود والعصيان! ففي كلا الأمرين ينظر المتأمل إلى مآل الحال المحتمل! ذلك هو التدبر! ولذلك كان التدبر لغة -كما ذكرنا- نظراً إلى أدبار الحوادث ونتائجها، وربطاً للأسباب بمسبباتها، فيما وقع وفيما يحتمل أن يقع، على المستوى النفسي والاجتماعي. في الخير والشر سواء! إنه إذن ضرب من المحاسبة للنفس في ضوء القرآن، والمراقبة لأحولها، في صيرورتها الذاتية والاجتماعية. إن التدبر إذن هو نظر في الآية باعتبارها مبصاراً، يكشف عن أمراض النفس وعللها، ويقوم في الوقت نفسه بتهذيبها وتشذيبها. أي بتزكيتها وتربيتها. ومن ثم فإنه يكفي المتدبر للقرآن أن يعلم المعنى العام للآية أو السورة، مما أُثِرَ عن جمهور السلف؛ ليدخل في مسلك التدبر. ولا شك أن علم العالم وخبرة المفسر تعطيه فرصةً أكبر بكثير؛ لتعميق التدبر في الآيات، والوصول بها إلى أرقى منازل الإيمان! ولكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن غير المختصين بالتفسير، أو حتى العوام محجوبون من التدبر! إن غير العالم لن يعجز عن تدبر آية {الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] مثلاً، والنظر في مآلات فعل الحمد في نفسه وفي المجتمع -على قدر طاقته طبعاً- وكذا مآلات نقيضه من النكران والجحود كيف يكون؟ وإن غير العالم إذا فسرتَ له أن {الفَلَقَ} هو الفجر؛ أمكنه آنئذ أن يتدبر قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ . مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1-2]. وكذلك إذا علم أن {الْجُدَدَ} هي: الطرق والمسالك الجبلية، وأن {الغَرَابِيبَ} هي: الصخور السوداء؛ أمكنه أن ينطلق في آفاق تدبر قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر:27]. ولقد تعمدت أن أمثل بهذه الكلمات القرآنية الغريبة إلى حد ما، وإلا فجمهور المعجم القرآني من الميسور المعلوم، بل إن كثيراً منه متداول في اللهجات العامية العربية! ولم لا يتدبر؟ أليس يرى القارئ للآية المذكورة مثلاً، مشهدَ نزول الماء من السماء؟ أليس يرى بعينيه آثار الغيث كلَّ ربيع في الروابي، والجنات، والبساتين، وأشكال الفاكهة والثمار، والجداول، والأنهار، والأطيار، بل في الحياة كلها؟ أليس ينظر إلى الجبال الشاهقة المنتصبة بهيئتها العظيمة بين يديه؟ أليس يرى مسالكها من بعيد تتلوى حولها خطوطاً حمراء وبيضاء على حسب لون الصخور والتربة الناسجة لها؟ أليس يعجب من مشهد الحجارة الصماء السوداء، الراسية على قمم هذه الجبال أو تلك؟ فكل من أبصر عظمة الخالق في عظمة المخلوق، واتخذ آثار الصنعة مسلكًا يسير به إلى معرفة الله فهو متدبر وهو متفكر! وهذا أمر ليس حكراً على المفسرين ولا على الجيولوجيين، وإن كان لهؤلاء وأولئك من العلم ما يجعلهم يتفوقون ويسبقون به غيرهم، إذا أخلصوا النظر لله! نعم، ولكن الله قد أتاح لكل ذي عينين، وأذنين، وقلب حي، أن يسلك إلى ربه عبر ما يسر الله له من التدبر والتفكر.. ولربما سبق القنفذُ الفرس! وإنما ذلك على حسب صفاء القلب وإخلاص السير! وإنني لأنسى كثيراً، لكنني ما نسيت قط حَدَّاداً شابًا في قريتي الصغيرة بجنوب المغرب، أواخرَ السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الميلادي الماضي.. وكانت الشيوعية آنئذ تنتشر في المغرب انتشار النار في الهشيم! وقد كان دعاتها عندنا من بعض رجال التعليم وطلبة الجامعات، مع الأسف! وكان أحدهم يجلس إلى ذلك الحداد البسيط يعلمه (حقوق العمال) و(ديكتاتورية البروليتاريا!) وكأن مطرقته الثقيلة، وما كان يصنعه للفلاحين الصغار من مناجلَ ومَزَابِرَ ومِحَشَّاتٍ، كانت تذكره بشعار الشيوعية الشهير: "المطرقة والمنجل"! فطمع الأحمق أن يضمه إلى صفوف الشيوعيين! حتى إنه سار معه بعيداً فجعل يشرح له عقيدة الإلحاد، وكيف أن "الدين أفيون الشعوب" على حد تعبير كارل ماركس! وكنتُ أنا أيضاً وأصحابي نجلس إلى هذا الحداد، فيحدثنا بحديث الشيوعي، ثم نتداول الكلام.. وإنني لا أنسى يومًا إذ أخرج من التنور حديدةً مُجَمَّرَةً، قد احْمَرَّ نصلها من النار حتى إنها لتكاد تذوب! ثم انهال عليها بالدق والطرق بقوة، وهو يقول دون أن يرفع رأسه: "يا أخي.. إنهم ينكرون وجود الله ووجود الآخرة! هكذا يقولون.. أما أنا فإنه لربما أصابتني أحيانا شرارةٌ طائشة من هذا الحديد المجمَّر بين يديَّ؛ فتثقب ثوبي ثم جلدي، فيكون لها من الألم الشديد ما الله به عليم! وإن ذلك ليكفيني ترهيباً وتحذيراً من نار جهنم! وإن صاحبنا الشيوعي كلما حدثني بحديثه قلت في نفسي: هذه مجرد ذرة من نار الدنيا، فترى كيف تكون نار الآخرة! وإنني لأرى بعينيَّ أن نار الدنيا هذه التي بين يديَّ لدليل كاف على وجود نار الآخرة!" كذا قال! وإنني ما زلت إلى اليوم أعجب من عمق ملاحظة ذلك الحداد الفطري البسيط! وأتساءل في نفسي: أي تفكر هذا وأي تدبر؟ بل أي علم بالله هذا وأي إبصار! حَقّاً حَقّاً! {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. هذا ضرب عجيب من التدبر لحقائق القرآن، ونوع من التفكر العميق في الوجود، وهو ممكن لكل الناس، خاصتهم وعامتهم على السواء. وأنت ترى أن الله جل جلاله أمر الكفار بالتدبر لكتابه! كما في قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء:82]. وقال سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. فإذا كان الكافر-وهو المجرد قطعًا من كل قواعد التفسير ومناهجه- مأموراً بالتدبر فالمسلم أولى وأحرى! إن المسلم -أي مسلم- إنما عليه أن يصطحب مختصراً صغيراً من كتب التفسير، كتفسير الجلالين مثلاً، أو أحد مختصرات ابن كثير، أو غيرهما؛ وذلك فقط حتى يضبط بوصلة الاتجاه العام لمعنى الآيات، ثم يشرع آنئذ في التدبر للقرآن، ولا حرج. لأن التدبر لكتاب الله لا ينبني عليه حلال ولا حرام، ولا تصدر عنه فتوى ولا قضاء! وإنما هو مسلك روحي يقود القلب إلى التوبة والإنابة، وإلى مجاهدة النفس من أجل الترقي بمراتب العلم بالله! أما صناعة التفسير والاستنباط فهذا هو الذي يخص فئة محصورة من الناس وهم أهل الاجتهاد من العلماء، ممن يفتون ويقررون في القضايا والنوازل. وفي ذلك نزل قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:83]. وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. فذاك علم الخاصة. وأما التدبر-بما هو تذكر واعتبار- فهو لعامة المسلمين. قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]. وعليه؛ فالمفسر عالم وفقيه، يقوم ببيان الحقائق القرآنية والأحكام الشرعية، والتصدر للفتوى. بينما المتدبر مجرد متعظ وواعظ. وقد يجمع الله للمرء بين الخيرين. والعالم الحق لا يصح له إلا ذلك! ومن ثم جاز لنا أن نقول: "كُلُّ عالِمٍ أو كلُّ مفسِّرٍ متدبرٌ، وليس كل متدبرٍ مفسِّراً!" فتأمل! إن الذي يمتنع عن تدبر القرآن أو ينهى غيره عن ذلك؛ بدعوى أن التدبر أمر خاص بعلماء التفسير، إنما هو جاهل بهذا الفرق الجوهري الكبير بين التفسير والتدبر.. وأخشى أن يكون الشيطان قد لبَّس عليه تلبيساً؛ ليحرمه هو في نفسه من نور القرآن! أو يجعله أداة لقطع الطريق أمام السائرين إلى الله! إن التدبر للقرآن مطلوب من العالِم، ومن المهندس، والطبيب، والأستاذ، والفلاح، والحداد، والنجار، والتاجر... إلخ! بل إن التدبر مطلوب من الكافر الأعجمي، إنجليزياً كان أو فرنسياً أو صينياً، أو ما كان! نعم! نعم! لكن فقط بعد أن تترجم له المعاني العامة للآيات! بينما التفسير إنما هو صناعة العلماء فقط. ومصطلح (التدبر) في القرآن قريب من مصطلح (التفكر) وإن لم يكونا مترادفين. فكأن (التدبر) ينصرف استعماله غالبًا إلى تأمل القرآن، بينما (التفكر) ينصرف استعماله إلى تأمل الكون المنظور. قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190-191]. وإذا تأملت وجدت نتيجة كُلٍّ من التدبر والتفكر واحدة، ألاَ وهي: الاتعاظ والاعتبار! وهو ما حكاه الله عن الذاكرين المتفكرين: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. إن هذا معناه أيضا أن النظر (التفكري) في الكون ليس عملًا عقليًا معقدًا، خاصا بعلماء الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات والبيولوجيا والطبيعيات... إلخ! نعم هم مشمولون بأمره، بل هم أولى به! لكن (التفكر) كالتدبر، مطلوب أيضًا من غير المتخصصين، بل حتى من العوام! كُلٌّ على قدر فكره!.. وما يدريك؟ لعل فلاحًا بسيطاً، يصل إلى عِبَرٍ للقلب لا يتحقق بها المتخصص الخبير! لأن نتائج كُلٍّ من التدبر والتفكر محض هبة من الرحمن، ومجرد هُدًى منه تعالى! إن التدبر والتفكر يؤولان معاً إلى مصطلح قرآني مركزي ثالث، ألا وهو (التَّذَكُّرُ) بالذال المعجمة، أو (الاِدِّكَارُ) بالدال المهملة، ومشتقاتهما وهما سواء (قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير قوله تعالى من سورة القمر: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}: "وأصل "مُدَّكِر": مفتعل من ذَكر، اجتمعت فاء الفعل، وهي ذال، وتاءٌ وهي بعد الذال، فَصُيِّرَتَا دالا مشددة. وكذلك تفعل العرب فيما كان أوله ذالا يتبعها تاءُ الافتعال، يجعلونهما جميعاً دالا مشددة، فيقولون: اِدَّكَرْتُ ادِّكَاراً، وإنما هو: اِذْتَكَرْتُ اذْتِكَاراً"). قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [ص:29]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]. وإنما يختص (التدبر) بتحصيل الذكرى عن طريق النظر في الآيات القرآنية. بينما يختص (التفكر) بتحصيل الذكرى بالآيات الكونية. هذا هو الغالب، وربما وجدت هذا بمعنى ذاك. إذ بينهما علاقة جدلية؛ لأن أحدهما يؤدي إلى الآخر. فالتدبر للقرآن يقودك إلى التفكر في الوجود، والتفكر في الوجود يعود بك إلى القرآن. وهما معًا في جميع الأحوال يثمران تَذَكُّراً للقلب وذكرى. ولا يقول عاقل بأن التذكر والذكر يحتاج فيها الإنسان إلى خبرة علمية وتخصص دقيق! سواء في الشرعيات أو في الكونيات. كلا! كلا! إنما هو عمل قلبي محض، مفتوح لكل ذي قلب! وبذلك قامت حجة الله على جميع الخلق عربهم وعجمهم، خاصتهم وعامتهم! قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]. وبذلك يتبين ما لتعقيد الضوابط والشروط للتدبر أو للتفكر، من خروج عن منهاج القرآن! قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]. إن المتدبر أو المتفكر-كليهما- في حاجة إلى التحقق بأمرين اثنين: - الأول: الفهم العام للآية قراءةً، أو سماعاً إن كان أميًا. ويحسن أن يكون ذلك بمجلس مدارسة، تعلما وتعليما، على منهاج رسول الله -معلم الأميين- صلى الله عليه وسلم. - الثاني: إخلاص النظر لله! وكلاهما بمقدور جميع الناس، إلا من رُفِعَ عنه القلم! قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:46]. وهذا خطاب موجه في الأصل للكفار، فتأمل! وأحب قبل ختام هذه الكلمات أن أعززها بإيراد أمثلة عن تدبر النبي صلى الله عليه وسلم وتفكره. فالسنة هي البيان الرئيس للقرآن الكريم ومفاهيمه. وأمثلة أخرى عن تدبر الصحابة رضي الله عنهم، وكذا بعض التابعين. ففي مشهد من أَجَلِّ مَشَاهِدِ النبوة، لم يزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يبكي في صلاته من تدبره وتفكره؛ إذْ أَرَاهُ اللهُ من أسرار مَلَكُوتِهِ ما أَرَاهُ؛ حتى بكت الأرض ببكائه عليه الصلاة والسلام! فقد سَأَلَ عُبَيْدٌ بْنُ عُمَيْرٍ عائشةَ رضي الله عنها، قَالَ: "أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتِهِ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم!" قالَ: فَسَكَتَتْ، ثُمَّ قَالَتْ: "لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي قَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَائِشَةُ! ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي!» قُلْتُ: "وَاللهِ إنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ" قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ! قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ! قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الأرْضَ! فَجَاءَ بِلاَلٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلاَةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي قَالَ: "يَا رَسُولَ اللهِ! لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟" قَالَ: «أَفَلاَ أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً؟ لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا! {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ. رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}» [آل عمران:190-191] (رواه ابن حبان في صحيحه. وقال الشيخ الألباني: إسناده جيد، وحسنه في صحيح الترغيب). وقد ورد التدبر والتفكر ههنا بمعنى واحد كما أشرنا إليه من قبل، لارتباطهما الجدلي. فقوله صلى الله عليه وسلم: «وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا!» هو بمعنى: لم "يتدبرها" لأن تدبرها مُفْضٍ بالضرورة إلى التفكر في خلق السماوات والأرض؛ ولذلك عبر هنا بالتفكر. وأما وعيده عليه الصلاة والسلام للممتنع عن التفكر بالويل؛ فهو دليل قوي على وجوب التفكر والتدبر-إجمالاً- على جميع الناس! سواء منهم العالم والعامي، كُلٌّ على ما يسر الله له.. فتأمل! وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل، قام فقال: «يا أيها الناس!.. اذكروا الله! جاءتِ {الرَّاجِفَةُ . تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات:6-7]. جاء الموت بما فيه! جاء الموت بما فيه!» (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وحسنه الألباني في الصحيحة وفي صحيح الترمذي وصحيح الجامع الصغير). ولا يخفى ما في الحديث من تضمين لآيتي النازعات: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ . تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات: 6-7]. وما في ذلك من تدبر عجيب لهذه الحقيقة الإيمانية في جوف الليل؛ وذلك لِشَبَهِ الليل بظلمة القبر من جهة، ولأن الليل -من جهة أخرى- هو موتٌ لحركة النهار! وفي ذلك أيضًا إشارة إلى أن على المؤمن أن يجعل تفكره في الظواهر الكونية مرتبطًا بتدبره للآيات القرآنية؛ بسبب ما ينتج عن ذلك من التشمير والجد والعمل! حيث تقع الآيات بعد ذلك على النفس الكسولة الغافلة، موقع السوط اللاهب على ظهر الدابة الخاملة! فتقفز مسرعة بصاحبها في الطريق إلى الله! وكذلك كان تدبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن التابعي العابد الزاهد ابن أبي مليكة رحمه الله، قال: "صَحِبْتُ ابنَ عباس رضي الله عنهما من مكة إلى المدينة، فكان إذا نزل قام شَطْرَ الليل! فَسُئِلَ: "كيف كانت قِرَاءَتُهُ؟" قال: "قرأ: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] فجَعلَ يُرَتِّلُ ويُكْثِرُ في ذلك النَّشِيجَ!" (سير أعلام النبلاء للذهبي: [3/342]) والنَّشِيجُ: شدة البكاء، إذا هاج على صاحبه؛ فبكى بصوت مخنوق في صدره، فصار له أَزِيزٌ كأزيزِ القِدْرِ أو الْمِرْجَلِ! وفي تفسير الطبري: "أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قرأ هذه الآية: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104]، قال: ألم تر إلى الرأس الْمُشَيَّطِ بالنار، وقد قَلُصَتْ شفتَاه وبدت أسنانُه!". (تفسير الطبري للآية:104 من سورة المؤمنون) يقصد التمثيل التدبري للمعنى برأس الكبش الْمُشَيَّطِ، أي بعد تشويطه بالنار. تقول: شَوَّطَ وشَيَّطَ، سواء. وهذا تدبر عجيب؛ لما فيه من ربطٍ للآيات القرآنية بالمشاهَدَات اليومية في الحياة ا لدنيا-رغم عظم الفرق- ولكن الاتعاظ بالصغير الحقير أدعى إلى الاتعاظ بالكبير الخطير! وفي ترجمة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الإصابة لابن حجر، أنه: "كان رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ} [الحديد:16]، يبكي حتى يغلبه البكاء..!" (ترجمته في: "من اسمه عبد الله" في "الإصابة في معرفة الصحابة" لابن حجر). وورد "أن أبا طلحة رضي الله عنه قرأ هذه الآية: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً} [التوبة:41]، فقال: "أرى ربي يستنفرنا شيوخَنا وشُبَّانَنَا! جهزوني أيْ بَنِيَّ! جهزوني!" (يعني للجهاد! وكان يومها قد شاخ وكَبُرَ!) فقال بنوه: "قد غزوتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ونحن نغزو عنك!" (أي بعدما عجزت) فقال: "جهزوني!" فركب البحر، فمات. فلم يجدوا له جزيرة (لدفنه) إلا بعد سبعة أيام! فدفنوه فيها ولم يتغير!" (الطبقات الكبرى لابن سعد: [3/507]). وعند تفسير قوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، قال الإمام القرطبي: "وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول: يا ويلتاه..! ضَجُّوا إلى الله تعالى من الصغائر قبل الكبائر!" (تفسير القرطبي للآية:49 من سورة الكهف). وروى الإمام البيهقي في شعب الإيمان بسنده عن الواعظ الكبير مالك بن دينار أنه رحمه الله: "قرأ هذه الآية: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88]. قال: فَأُسَمَّى في القيامة ِ مَالِكاً الصَّادِقَ، أو مَالِكاً الكاذبَ!" (شعب الإيمان، رقم: [1802]) وهو بذلك يُنَـزِّلُ مضمون الآية على نفسه -حيث كان واعظاً- فجعل يحاسب نفسه بميزان القرآن، ويتدبر الآية بالنظر إلى نفسه، مشفقاً من حالها ومآلها، وما قد يكون من مصيرها! قصد تهذيبها، وكسر شوكة غرورها، وتصفية مقاصدها، وتجريد إخلاصها لربها! وهو من أجل ضروب التدبر والتفكر! وفي الزهد لأحمد بن حنبل -وغيره- أن مالكا بن دينار أيضا قرأ هذه الآية: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} [الحشر:21] فبكى، وقال: "أقسم لكم! لا يؤمن عبدٌ بهذا القرآن إلا صدع قلبَه!" (الزهد لأحمد بن حنبل، رقم: [1878]). والأثر أورده أيضًا أبو نعيم في الحلية عند ترجمة مالك بن دينار، كما أورده السيوطي في الدر المنثور عند تفسير الآية:21 من سورة الحشر) الله أكبر..! ألا ما أجله من تدبر! وما أدقه من تفكر! لقد وضع مالك بن دينار رحمه الله قلبَه موضع الجبل! فكيف تراه يكون؟ أيكون أشد صلابةً من الجبل؟ كيف بقلب يتلقى القرآن حق التلقي، كيف به وهذا الجبل قد خشع له وتصدع!؟ ذلك هو التدبر.. وإن الأمثلة في مثل هذا لأكثر من أن تحصى! وأنت تلاحظ أن هذه النصوص جميعًا ليست من قبيل التفسير بمعناه الاصطلاحي الخاص، وإنما هي مجرد تعبير عن المشاعر الخاصة، والمواجيد الجياشة، الحاصلة في النفس عند تلاوة الآيات، وما يخالط القلب من الرَّغَبِ والرَّهَبِ، والخوف والرجاء، في طريق السير إلى الله! كما أن فيها تنـزيلاً للآيات على واقع النفس، أو واقع المجتمع، أو على أحوال الطبيعة حول الإنسان، ومشاهدةً لبروق الوعد والوعيد، من خلال تقلبات الليل والنهار. وفضحاً لغش النفس وضعفها؛ بتسليط كشافات القرآن عليها! كما أن فيها مشاهدةً للعزائم العالية التي طلبها الله عز وجل من العباد، وما ينتصب دونها من مشاق الطريق ومكارهها! ولذلك ترى المتدبرين للقرآن والمتفكرين في آياته الكونية، بين بَاكٍ مختنق بالأنين، أو مُطْرِقٍ مهموم حزين! ولا يخرج كلاهما من مجلسه أو خلوته إلا بعزيمة تهد الجبال! وإن الواحد من هذا الطراز البشري العظيم لهو بأمة! ذلك هو التدبر، وذلك هو التفكر، وتلك هي الذكرى.. وإنما ثمرة ذلك كله هو تهييج النفس على العمل، وتنشيط القلب على السير، وتوثيق إرادة النفس على عزائم الأعمال! فكذلك كان تدبرهم للقرآن، وكذلك كان تفكرهم في الزمان.. فما بالنا نحن؟ إنما نحن في حاجة إلى قلوب مثل قلوبهم، وإخلاص مثل إخلاصهم! وإنني لعلى يقين لو أن الناس اليوم يُحْيُونَ هذا المسلك في النفوس من جديد، ويتداولون القرآن في المجتمع على هذا الوِزَانِ؛ لتدفقت أنهار النور على الظلام! ولكان للأمة في هذا العصر شأن آخر! وإنه لَيَكُونَنَّ إن شاء الله! وما ذلك ببعيد! فإنني أرى عباداً لله خُلَّصاً قد بدؤوا يرفعون راية القرآن فوق تلال قلوبهم! وإن نصب راية القرآن على تلال القلوب لهو: {نَصْرٌ مِّنَ اللَّـهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:13]. اللهم ألهمنا مراشدنا، واسلك بنا سبيل الهدى، واجعلنا سببا لمن اهتدى. المحب لكم: فريد الأنصاري، عفا الله عنه وعن المؤمنين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * موقع طريق الإسلام: (http://iswy.co/e178l3).
    1
  • من أهم مقاصد القُرآن
    الكاتب: الشيخ مُعوض عوض إبراهيم

    إن جماع ما أنزل الله لأجله القرآن أمور تتراءى في آياته لمجرد النظر، وهي:

    أولاً: تصحيح العقيدة، ورد الناس عما عراهم من شرك، إلى فطرة الله فيهم:

    قال الله جلَّ شأنه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون) [الروم: 30] ..

    ثانيًا: تجريد قصد الناس إلى الله فيما لا يُعين عليه من جلائل الأمور سواه، وعبادته وحده على مقتضى ما بَلَغَنَا من صلاة رسول الله وصيامه، وما وراء ذلك من تكاليف الإسلام التي هي سبيل تزكية النفس:

    قال الله سبحانه وتعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) [الشمس: 7- 10] ، وقال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى: 14، 15] ..

    ولقد كان من ضَرَاعات النبي صلى الله عليه وسلم ومناجاته للحي القيوم: ((اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)) .. وما أحق الهدى والتقى بأن نستعين بالله على بلوغ أقصى ما يمكن منهما، لتصلح الدنيا وتطيب العقبى: (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأعراف: 25] ..

    ثالثًا: وعد الله لمن آمن وعمل صالحا، ووعيده لمن كفر واتبع هواه، وتوكيد أنَّ في الإيمان والطاعة سعادة الأولى والآخرة، وأنَّ في خلافهما الخسران والهوان في الحياتين:

    قال الله جلَّ وعلا: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 55] ..

    ورحم الله الإمام أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي؛ فهو يقول: "إنَّ في كتاب الله تعالى آية لو عمل بها المسلمون لوسعتهم: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر] ..

    وهو تعبير جليل من الإمام الشافعي –رحمه الله ورضي عنه- للسورة الجامعة- على وجازتها- لموجبات السعادة، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُفارق الرجل منهم صاحبه حتى يقرأ عليه [سورة العصر]، وكأنهم بذلك يستثير كل منهما صاحبه أن يذكره بما غاب عنه من صور الكمال البشري الممكن، وأن يكون عونه لبلوغ ما أراد الله من إيمان به وعمل بمراضيه، وتواص بالحق الذي أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وتواص باحتمال الصعاب في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما لابد من احتماله لمخالطة الناس؛ فالمؤمن الذي يُخالط الناس في الله ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي يعتزلهم قبل أن يُؤدي دوره في النُّصح لهم والإعذار إلى الله، إنْ هم صَدُّوا عن سبيله وعَتَوْا عن أمر ربهم، والله تعالى يقول لمصطفاه الحبيب صلى الله عليه وسلم: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [آل عمران: 186] ..

    ومن وعيد الله لمن ضَلَّ وَأَثِم: قوله جلَّ شأنه: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ) [الأعراف: 175- 177] ..

    والنَّبأ- مَثلاً كان أو واقعًا- هو أشبه شيء بمن يحيون في زماننا وهم يُحسبون على العلم والدعوة والاهتداء بهدى الله، ولكنهم في الحقيقة يفتنون عن الحق، ويشترون بآيات الله ثمنا قليلا، وهم يعلمون أن ما تتحلب له الشفاه من مناعم هذه الحياة ليس إلا بَرْقاً خلبا، وسحابة صيف عن قليل تقشع، وخيال طيف تقتحمه الأعين لحظات ثم يكون بَعْدُ سِلَفاً وذكرى للذاكرين ..

    ورابع، ما يُلحظ بين ما أنزل الله من أجله القرآن: سوق أخبار الأولين وقصصهم وسلوك الأفراد والجماعات للعبر والعظة وبيان أحكام المعاملات ومقتضيات العيش الكريم، وهي في الإسلام إطار السعادة وينبوعها الدفاق لأنها شرع الله ووضع الحكيم الرحيم سبحانه. ومغرق في الضلال من يحسب السعادة في غير دين الله ومن يطلبها بغير هداه:

    قال الحق جلَّ شأنه: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) [النور: 40] ..

    وقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) [الكهف: 57] ..

    وقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111] ..

    هذا غيض من فيض القُرآن ومعينه الذي لا ينضب، ونسأل الله العلي القدير أن ينفعنا وبرفعنا وإياكم بالقُرآن العظيم .. وبالله التوفيق، وصلَّ الله وسلم وبارك على سيدنا مُحمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * موقع الهيئة العالمية للقرآن الكريم: (https://2u.pw/ped7c).
    من أهم مقاصد القُرآن الكاتب: الشيخ مُعوض عوض إبراهيم إن جماع ما أنزل الله لأجله القرآن أمور تتراءى في آياته لمجرد النظر، وهي: أولاً: تصحيح العقيدة، ورد الناس عما عراهم من شرك، إلى فطرة الله فيهم: قال الله جلَّ شأنه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون) [الروم: 30] .. ثانيًا: تجريد قصد الناس إلى الله فيما لا يُعين عليه من جلائل الأمور سواه، وعبادته وحده على مقتضى ما بَلَغَنَا من صلاة رسول الله وصيامه، وما وراء ذلك من تكاليف الإسلام التي هي سبيل تزكية النفس: قال الله سبحانه وتعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) [الشمس: 7- 10] ، وقال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى: 14، 15] .. ولقد كان من ضَرَاعات النبي صلى الله عليه وسلم ومناجاته للحي القيوم: ((اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)) .. وما أحق الهدى والتقى بأن نستعين بالله على بلوغ أقصى ما يمكن منهما، لتصلح الدنيا وتطيب العقبى: (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأعراف: 25] .. ثالثًا: وعد الله لمن آمن وعمل صالحا، ووعيده لمن كفر واتبع هواه، وتوكيد أنَّ في الإيمان والطاعة سعادة الأولى والآخرة، وأنَّ في خلافهما الخسران والهوان في الحياتين: قال الله جلَّ وعلا: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 55] .. ورحم الله الإمام أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي؛ فهو يقول: "إنَّ في كتاب الله تعالى آية لو عمل بها المسلمون لوسعتهم: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر] .. وهو تعبير جليل من الإمام الشافعي –رحمه الله ورضي عنه- للسورة الجامعة- على وجازتها- لموجبات السعادة، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُفارق الرجل منهم صاحبه حتى يقرأ عليه [سورة العصر]، وكأنهم بذلك يستثير كل منهما صاحبه أن يذكره بما غاب عنه من صور الكمال البشري الممكن، وأن يكون عونه لبلوغ ما أراد الله من إيمان به وعمل بمراضيه، وتواص بالحق الذي أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وتواص باحتمال الصعاب في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما لابد من احتماله لمخالطة الناس؛ فالمؤمن الذي يُخالط الناس في الله ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي يعتزلهم قبل أن يُؤدي دوره في النُّصح لهم والإعذار إلى الله، إنْ هم صَدُّوا عن سبيله وعَتَوْا عن أمر ربهم، والله تعالى يقول لمصطفاه الحبيب صلى الله عليه وسلم: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [آل عمران: 186] .. ومن وعيد الله لمن ضَلَّ وَأَثِم: قوله جلَّ شأنه: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ) [الأعراف: 175- 177] .. والنَّبأ- مَثلاً كان أو واقعًا- هو أشبه شيء بمن يحيون في زماننا وهم يُحسبون على العلم والدعوة والاهتداء بهدى الله، ولكنهم في الحقيقة يفتنون عن الحق، ويشترون بآيات الله ثمنا قليلا، وهم يعلمون أن ما تتحلب له الشفاه من مناعم هذه الحياة ليس إلا بَرْقاً خلبا، وسحابة صيف عن قليل تقشع، وخيال طيف تقتحمه الأعين لحظات ثم يكون بَعْدُ سِلَفاً وذكرى للذاكرين .. ورابع، ما يُلحظ بين ما أنزل الله من أجله القرآن: سوق أخبار الأولين وقصصهم وسلوك الأفراد والجماعات للعبر والعظة وبيان أحكام المعاملات ومقتضيات العيش الكريم، وهي في الإسلام إطار السعادة وينبوعها الدفاق لأنها شرع الله ووضع الحكيم الرحيم سبحانه. ومغرق في الضلال من يحسب السعادة في غير دين الله ومن يطلبها بغير هداه: قال الحق جلَّ شأنه: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) [النور: 40] .. وقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) [الكهف: 57] .. وقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111] .. هذا غيض من فيض القُرآن ومعينه الذي لا ينضب، ونسأل الله العلي القدير أن ينفعنا وبرفعنا وإياكم بالقُرآن العظيم .. وبالله التوفيق، وصلَّ الله وسلم وبارك على سيدنا مُحمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * موقع الهيئة العالمية للقرآن الكريم: (https://2u.pw/ped7c).
    0
  • الإعجاز الغيبي في القرآن بين الإثبات والنفي (3-3)*
    إيرادات وجوابها

    الكاتب : محمود عبد الجليل روزن

    بعد أن استبان في المقالتين السابقتين من هذه السلسلة[1] أنَّ الإنباء بالغيب من أوجه إعجاز القرآن وبراهين نبوّة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنَّه من جملة المعاني المتحدَّى بها؛ قد يَرِدُ على ذلك بعض الاستشكالات التي تُبطئ بالساعي إلى قبوله، وفي هذه المقالة سنجتهد في عرض هذه الاستشكالات، ثم نحاول الإجابة عنها بعون الله -عز وجل-، ليسلم لنا التأسيس الذي قمنا به فيما قبل، فاللهم يسِّر وأعِنْ.

    الاستشكال الأول:

    يقول الأستاذ محمود شاكر: «ولا مناص لمتكلم في (إعجاز القرآن)، من أن يتبين حقيقتين عظيمتين قبل النظر في هذه المسألة، وأن يفصل بينهما فصلًا ظاهرًا لا يلتبس، وأن يميز أوضح التمييز بين الوجوه المشتركة التي تكون بينهما:

    أولاهما: أن إعجاز القرآن كما يدلُّ عليه لفظه وتاريخه، وهو دليل النبي -صلى الله عليه وسلم- على صدق نبوته، وعلى أنه رسول الله يُوحَى إليه هذا القرآن، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعرف إعجاز القرآن من الوجه الذي عرفه منه سائر مَن آمَن به من قومه العرب، وأن التحدِّي الذي تضمّنته آيات التحدي، من نحو قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[هود: 13، 14]، وقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء: 88]؛ إنما هو تحدٍّ بلفظ القرآن ونظمه وبيانه لا بشيء خارج عن ذلك. فما هو بتحدٍّ بالإخبار بالغيب المكنون، ولا بالغيب الذي يأتي تصديقه بعد دهرٍ من تنزيله، ولا بعلم ما لا يدركه علم المخاطبين به من العرب، ولا بشيء من المعاني مما لا يتصل بالنظم والبيان»[2].

    فقد استند الأستاذ على أنَّه يجب أن يكون التحدّي بما يدركه علمُ المخاطبين به من العرب، وبما يأتي تصديقه بمجرد تلاوته -في تقريره ما عدَّه حقيقةً- أنَّ التحدِّي الذي تضمنته آيات التحدي إنما هو تحدٍّ بلفظ القرآن ونظمه وبيانه لا بشيء خارج عن ذلك، فما هو بتحدٍّ بالإخبار بالغيب المكنون، ولا بالغيب الذي يأتي تصديقه بعد دهرٍ من تنزيله، ولا بعلم ما لا يدركه علم المخاطبين به من العرب، ولا بشيء من المعاني مما لا يتصل بالنظم والبيان.

    وهذا يقال به لو سلَّمنا أنَّ التحدّي بالإخبار بالغيب هو الشيء الوحيد الـمُتحدَّى به، وأنَّ المتحدَّيْن به هم فقط صريحو العربِ المعاصرين للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا قد يتعارض مع ظاهر قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء: 88]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 21- 23]، فالمتحدَّى عموم الناس المخاطبين بقوله قبل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، والصواب أنها عامة، والنداء لجميع الناس[3].

    ثم إنَّه يلزم الأستاذَ ألّا يَعُدَّ الإخبارَ بالغيب برهانًا من براهين النبوّة لهؤلاء العرب للأسباب نفسها التي ذكرها: أن تصديقه إنما يأتي بعد دهرٍ من تنزيله، وأنَّ دَركه إنما يكون بعلومٍ لا يجيدونها، فعندها يمكن لقائل أن يقول: ليس في القرآن برهانٌ للأعاجم ولا لكثيرٍ من العرب الذين أضاعوا مَلَكة اللسان، فإنَّ دَرك هذه المعجزة إنما يكون بعلومٍ لا يجيدونها، وأنَّ تحقُّق إبلاس العرب الأقحاح لديهم إنما يُدرك -إن أُدرك- بعد حينٍ من البحث وتعاطي العلوم النقلية والمنطقية واللغوية، وهذا -كما ترى- لا يستطيعه جُلّ الناس، فأيّ برهانٍ يقعُ لهم بذلك، فضلًا عن أن يصحّ التحدِّي به؟ وما يجيب به الأستاذُ على هذه نجيبُ به على اشتراطه أن يكون التحدّي مما يقع تصديقه على الفور، وأن يكون مما يدركه علم المخاطبين به.

    وبعد؛ فلنا أن نطالب بدليل تخصيص التحدِّي بالبلاغة والنَّظم، ذلك أن الله -عز وجل- أطلق المثليَّة في آيات التحدّي، وهذا الإطلاق يقتضي دخول كل صفات القرآن، فلِمَ يُقصَر التحدِّي على صفة العربية فحسب المتضمنة للأسلوب والنَّظم والبلاغة؟ وقد تحدَّى الإنس والجنّ، فلِمَ يخصَّص التحدّي بالوجه الذي برعت فيه طائفة واحدة في مدة زمنية قصيرة من عُمر أمّة الدعوة؟

    إنَّ آية القرآن الحقّة أنَّ حجّته قائمة قيامًا مباشرًا على كلّ مخاطَب به من الإنس والجنّ في كلِّ عصرٍ إلى منتهى التكليف به، ولا يلزم أن يسمعه مُشافهةً من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذا رجا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن يكون أكثرَ الأنبياء تابعًا.

    يقول الدكتور مصطفى مسلم: «فكانت معجزات الأنبياء ملائمة لطبيعة رسالاتهم، وكانت المعجزة تنتهي بوفاة الرسول ولا يبقى إلا الحديث عنها والأخبار التي يتناقلها أتباع الدين جيلًا عن جيل، ولا تنفكّ المعجزة عن شخص الرسول فلا تبقى بمنأى عنه في الزمان والمكان. أمّا الرسالة المحمدية فهي مستمرة إلى يوم القيامة، ولا بدّ من معجزة مستمرة تقيم الحجّة على الأجيال اللاحقة بصدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- وربانية رسالته. ولا تؤدّي المعجزة المادية هذا الدور وهذه المهمة، فكان الاختيار الربانيُّ أن تكون المعجزة وحيًا»[4].

    وكثيرًا ما يذكر الله -عز وجل- هذا الموحَى الذي أوحاه إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم- وجعله آيته، في سياق التنويه بما اشتمل عليه من أنباء الغيب، كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}[آل عمران: 44، ويوسف: 102]، وقوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}[هود: 49]، ويصرّح بذكرها جنبًا إلى جنبٍ مع ذكر عربيته: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف: 2، 3].

    على أنَّا نعود فنؤكّد أنَّ التحدِّي واقعٌ بأيٍّ من هذه الأمور مما هو داخلٌ في صفات القرآن المصرّح بها، أو المستنبطة من تحليل مضمونه، فكلٌّ منها بمفرده كافٍ لإفحام المتحدَّيْنَ وخارجٌ عن طوقهم وقدرتهم، واجتماعُها أفحمُ لهم وأقطعُ.

    الاستشكال الثاني:

    قال الخطابي: «وزعمت طائفة أنَّ إعجازه إنما هو فيما يتضمنه من الإخبار عن الكوائن في مستقبل الزمان نحو قوله سبحانه: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ}[الروم: 1- 4]، وكقوله سبحانه: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ}[الفتح: 16]، ونحوهما من الأخبار التي صدَّقَت أقوالَها مواقعُ أكوانها. قلت: ولا يُشَكُّ في أنَّ هذا وما أشبهه من أخباره نوعٌ من أنواع إعجازه، ولكنه ليس بالأمر العام الموجود في كل سورة من سور القرآن، وقد جعل سبحانه في صفة كلِّ سورة أن تكون معجزة بنفسها لا يقدر أحدٌ من الخلق أن يأتي بمثلها: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 23]، من غير تعيين، فدلّ على أنَّ المعنى فيه غير ما ذهبوا إليه»[5].

    وقال الدكتور مساعد الطيار: «وإذا جمَعْتَ الوجوه التي حُكيت في أنواع الإعجاز -سوى الصَّرْفة- وجَدتَ أنها لا تكون في كل سورة؛ بل تتخلف في كثير من السور، فمثلًا: ليس في كل السور إخبار بالغيب. أمّا الذي يوجد في كل سورة بلا استثناء فهو الوجه المتحدَّى به، وهو ما يتعلَّق بالنَّظم العربي لهذا القرآن لغةً وبلاغةً وأسلوبًا؛ بأيّ اصطلاح اصطلح عليه العلماء؛ كقول بعضهم: الإعجاز البلاغي، وقول آخرين: الإعجاز البياني...إلخ، فإنَّ مرجعها إلى النظم العربي المتميز لهذا القرآن الكريم»[6].

    وقال: «وجوه الإعجاز في القرآن كثيرة كالإخبار بالغيبيات، لكن الشيء الذي عجز عنه العرب وتحداهم أن يأتوا بمثله هو ذلك النظم والبيان العربي، أمّا المعاني الموجودة فهي تبع وليست أصلًا؛ فسورة العصر مثلًا... ليس فيها إعجاز غيبي أو تشريعي؛ بل فيها ما يتعلق بالنظم والبيان، بدليل أنّ كُتُبَ الله -سبحانه وتعالى- التي نزلت على أنبيائه فيها مغيّبات، وفيها تشريع وفيها أخبار مِثل الأخبار الواردة في القرآن؛ لأن المتكلم بها واحد والحقيقة المتكلم عنها واحدة، لكن الذي تميز به القرآن هو ما يتعلق بالنظم والبيان الذي لا يستطيع العرب أن يأتوا بمثله، فهذا هو المتحدَّى به، وهو الذي ينتظم في جميع سور القرآن، أمّا وجوه الإعجاز الأخرى فتختلف في بعض السور، مثلًا: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}[الكوثر: 1]، فيها إعجاز غيبي وإعجاز في النظم والبيان، لكن ليس فيها إعجاز تشريعي، وقد نأتي إلى سورة أخرى فيها إعجاز تشريعي وإعجاز النظم والبيان، وليس فيها إعجاز غيبي.

    والخلاصة: أن إعجاز النظم والبيان العربي واقع في كل سورة، وما سواه من أنواع الإعجاز التي حكاها العلماء تتخلف في بعض السور، وفي هذا دلالة على أن المتحدَّى به هو ما يوجد في كل سورة دون ما سواه، ليتناسب مع قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[يونس: 38]، وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 23]»[7].

    وقبل الجواب عن هذا الاستشكال نعيد التأكيد على أمرين:

    الأول: أنَّ التسليم جدلًا بصحة مضمون هذا الاستشكال لا يعني نفي كون الإعجاز الغيبي من وجوه إعجاز القرآن، فهو مُعجِز، ولو سلّمنا بأنه ليس من الأمور الـمُتحدَّى بها. وهو ما صرّح به الخطابي والزركشي والطيّار وغيرهم. فما زال مصطلح الإعجاز الغيبيّ صالحًا؛ بل هو محلّ اتّفاقٍ من العلماء، لا يكاد يُسقطه أحدٌ، سواء من أدخلوه في الوجوه المتحدَّى بها أو مَن قصروها على إعجاز لغته وما إليها.

    الثاني: أنَّ التسليم جدلًا بأنَّ بعض سُور القرآن لا تشتمل على أنواع من الإعجاز الغيبي، لا يعني التسليم بأنَّ الوجه الوحيد الذي يوجد في كل سورة بلا استثناء هو ما يتعلَّق باللغة وما إليها. فالقرآن لا ينفكُّ عن صفاته؛ كالنورانية والروحانية والهداية والرحمة والعصمة والشفاء والحكمة والفرقانية والعربية والبيان والهيمنة والعزة والعلوّ والمجد وغيرها. ومحصّلة هذه الصفات هي التي دَفعَت الوليد بن المغيرة إلى قولته الشهيرة: «واللهِ؛ لقد سمعتُ من محمد كلامًا آنفًا ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإنَّ أسفله لمغدق، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، [وإنّ له لَنورًا، وإن له لفرعًا]، وإنه ليعلو وما يُعلى، [وإنه ليحطم ما تحته]»[8]، فلو سلَّمنا جدلًا بأنَّ ذلك ينقض أن يكون المتحدَّى به هو الإخبار بالمغيّبات، فإنه لا ينقض أن يكون المتحدّى به ما دلَّت عليه جملة صفات القرآن الـمصرّح بها في الوحيين، ولا يُصحِّح قصر التحدّي على بلاغة القرآن ونظمه وعربيته.

    وأمَّا الردّ على مضمون الاستشكال فمن وجوهٍ:

    الوجه الأوّل:

    أنَّ التسليم جدلًا بأنَّ هناك سورًا تخلو من الإنباء بالغيب لا يُسقط كونه مما تُـحُدِّيَ به؛ فإنَّه تحدَّاهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن. وتنزُّلُه معهم إلى مطالبتهم بالإتيان بسورة واحدةٍ إظهارًا لعجزهم وإمعانًا في إقامة الحجّة عليهم؛ لا ينفي أنَّه تحدّاهم بالإتيان بمثل هذا القرآن، والتنزُّل ليس كالتَّرْك والإضراب من كلِّ وجهٍ، فلا يصحُّ أن يقال: إنّ آيتي التحدي بسورة أو آية التحدّي بعشر سور قد نَسخَت قولَه تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء: 88]، فحقيقة أنَّهم لا يقدرون على مثله حقيقة قائمة، وقيامها قيامٌ للتحدّي بها، وإن كان يرضى منهم بأقلَّ من ذلك لو كان يقدرون عليه.

    ومَثلُ ذلك كمَثل طالبٍ تُحدِّي بحلِّ عشرين مسألة، فعَجَز، فتنزَّل معه المتحدِّي إلى حلِّ أسهلها فعجز أيضًا. هذا لا ينفي أنَّه تُحدِّي بحلِّ المسائل جميعًا، وإن كان يُرضَى منه بأسهلها لو كان يقدر عليه.

    فالمرضيُّ به -لو كانوا يقدرون عليه- سورةٌ من مثله، وإن اتَّفق خلوُّ المأتيِّ به من الإخبار الصادق بالغيب، مع أنَّه تحدَّاهم أن يأتوا بمثله من كلِّ وجهٍ. فهذه حجَّةٌ كاشفةٌ عن غاية عجزهم وإبلاسهم.

    الوجه الثاني:

    يُحتمل في النَّظر أن يكون المراد بسورة من مثل القرآن: أي بقطعةٍ يتَّفق فيها من كلِّ صفات القرآن التي تتحقّق بها مُفردات المماثلة مما تقع فيه المباراة؛ بغضّ النَّظر عن طولها، على أن تكون بالغةً في الطُّول ما يكفي لإظهار الاقتدار على النَّظم المؤتلف رصفًا وأسلوبًا، ومعلومٌ أنَّه كلما طال الكلامُ كان أدعَى لظهور عوار الائتلاف إن وُجد، وأمَّا الجُمَل القليلة فقد لا تكفي للقَطع بالقُدْرة عليه والوفاء به.

    ولعلَّ هذا المعنى الأخير هو ما أشار إليه ابن الفرس بقوله: «وقال [القاضي أبو بكر] في موضع آخر من كُتبِه، وارتضاه أبو إسحاق: وإنما يتعلق [الإعجاز] بسورة يُعَدُّ قدرها في الكلام بحيث يتبيَّن فيه تفاضُل رُتَب قُوَى البلاغة، وهو لا يتبيَّن إلا فيما طال بعض الطول. ولستُ أقطع في (الكوثر) وما قاربها بنفيٍ ولا إثباتٍ في إعجازها. وصحَّح بعض المتأخرين هذا القول»[9].

    وقال الطيبي: «ولما أضرَبَ عن ذلك الاقتراح، وحكى نوعًا آخر من قبائحهم أعظم من ذلك، وهو طعنهم في القرآن، بقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}[هود: 13]؛ أمَر حبيبه -صلوات الله عليه وسلامه- بأن يجيب عنه بقوله: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}[هود: 13]، على مقتضى سؤالهم، وهو كالقول بالموجب، يعني: هَبُوا أنه كما تزعمون مفترًى، فأتوا أنتم بعشر سور مثله، أي: ما أقول لكم فأتوا بمثله كله، ليس فيه اختلافٌ من جهة المعاني والألفاظ والإخبار عن المغيبات والقصص والأحكام والأخلاق وغير ذلك، بل نبذًا منه جامعًا لهذه المعاني، ولم يكن فيه تناقض.

    واعلم أن المراد بتخصيص العدد إيثار طريق القصد وما به تختلف المعاني، كما يوجد في الكلام المبسوط الذي له ذيول وتتمَّات، وذلك لدفع الافتراء ونفي التهمة، وأنه من عند الله لا من عنده، يعني: لو كان مفترًى من عندي لوجدتم فيه اختلافًا كثيرًا. وهذا لا يتم بسورة فذّة، كسورة الكوثر والإخلاص وأشباههما، كما يتمُّ في التحدي لمجرد إثبات النبوة، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء: 82]»[10].

    فإن التُزم بوجوب أن يكون القَدْر المتحدَّى به مما يتبيّن فيه تفاضل رُتَب قُوَى البلاغة؛ فلا بد للملتزِم أن يلتزم واحدًا -على الأقل- من ثلاثة أمور:

    الأول: أن ينفي أنَّ نحو سورة (الكوثر) مما يتحقَّق به التحدِّي بالنَّظم؛ لا من حيث إنها غير معجزة به، ولكن من حيث إنها أقصر مما يتبيَّن فيه تفاضلُ رُتب البلاغة، وهو من مكوّنات التحدّي بالأسلوب والنَّظم وما إليهما.

    الثاني: أنَّ التحدِّي ليس بالأسلوب والنَّظم فقط، وإنما هو بجملة صفات القرآن المبيَّنة والمستقرأة من تحليل مضمونه، ولو اتّفق خلوّ سورة من شيءٍ منها؛ فلا يُتّفق أن تخلو السورةُ منها كلِّها.

    الثالث: أنَّ المقصود بالسورة المتحدّى بها هو أن يأتي المتحدَّى بقطعة من الكلام يتّفق له فيها من كلِّ صفات القرآن التي تتحقّق بها مُفردات المماثلة مما تقع فيه المباراة؛ بغضّ النَّظر عن طولها، على أن تكون بالغةً في الطُّول ما يكفي لإظهار الاقتدار على النَّظم المؤتلف رصفًا وأسلوبًا ونظمًا.

    والتزام أيّ واحدٍ من هذه الثلاثة يُسقط الاعتماد على خلوّ بعض السور من الإخبار بالغيب لنفي أن يكون الإخبار بالغيب من جملة الـمُتحدَّى به. والله أعلم.

    ويَرِدُ على هذا الوجه أنَّ القطعةَ المتحقّقَ بها ذلك ليست محدودة بحدود واضحة، فيقال: على قول الطيبيّ المتقدم فإنها محدودة بعشر سور؛ فليأت بعشر قطع متنوعة المقاصد كلّ منها بطول أقصر سورة من القرآن، أو بقطعة بالغة مبلغ العَشر. ويمكن أن يقال: يتفاوت الطول الذي يستبين به ذلك باختلاف مقاصد الكلام ووفور المعاني. وعلى كلِّ حالٍ؛ فإنَّ أهل صنعة الكلام لا يعجزون عن تقدير حدِّ الوفاء به؛ كما لا يعجز المعلِّم عن تقدير رتبة طالبه في مهارة التعبير الشفاهي من خلال ما قاله كتابةً أو حديثًا.

    الوجه الثالث:

    أنَّا ننازع فيما يسوقه الكثيرون كحقيقة مُسلَّمَة، وهي: خلوّ بعض سور القرآن من الإنباء بالغيب؛ كسورة العصر.

    ذلك أنَّ دائرة الغيب أوسع مما عنوه، فالغيوب التي أخبر بها القرآن تتضمّن أنواعًا كثيرة[11]:

    فمنها ما هو إخبار عن الرسل السابقة ورسالاتهم، وقصص الأوّلين السالفين، وبالحوادث الواقعة في الأزمنة الغابرة.
    ومنها الإنباء بالغيوب المستقبلة، بما فيها الإخبار بأحداث الموت وما بعده من أحداث القيامة والجنة ونعيمها والنار وعذابها.
    ومنها الإخبار بمكنونات الصدور والسرائر وكشف ما في مخبّآت الضمائر.
    ومنها الإخبار عن مصائر أحياء، فلا يستطيعون تغيير مصائرهم.
    ومنها الإخبار عن أنَّهم لن يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا، فلا يستطيعون، مع أنَّ فعلهم يتوقَّف في الظاهر على محض إرادتهم.
    ومنها الإخبار بالسنن الكونية والقوانين الطبيعية الـمُطّردة.
    ومنها الإخبار عن أسماء الله تعالى وصفاته، وعن ملائكته وصفاتهم وعبادتهم ومهامّهم، ونحو ذلك.
    قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}[البقرة: 2، 3]، قال الربيع بن أنس في تفسير قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}: «آمَنوا بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه، وآمنوا بالحياة بعد الموت، فهذا كله غيب»[12]. قال الطبري: «وأصل الغيب: كل ما غاب عنك من شيء»[13].

    وقال ابن تيمية: «وأصل الإيمان هو الإيمان بالغيب، كما قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}[البقرة: 2، 3]، والغيب الذي يؤمن به: ما أَخبرَت به الرسل من الأمور العامة، ويدخل في ذلك الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وملائكته والجنة والنار فالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر يتضمن الإيمان بالغيب»[14].

    وليس بعض أنواع تلك الغيوب بأولى بالاعتبار من غيرها، فهي تستوي في أنه لا سبيل للعلم بها إلا بإخبار الوحي الصادق. فيستوي الإخبار بالوقائع الماضية، والكوائن المستقبلة، ومخبآت الضمائر، والإخبار عن أسماء الله وصفاته، بل الأخرى أخطر، والجرأة عليها أشدُّ، ولا يُخبِر بها إلا رسولٌ معلَّمٌ. وكلُّ مَن تقوَّلوا على الله تعالى فيها من عند أنفسهم، أو حرَّفوا كتبهم لتُناسب أهواءهم وخرافاتهم؛ جاؤوا بمنكرٍ من القول وزورٍ، ونسبوا لله -عز وجل- ما لا ينسجم مع العلم الضروري والأوَّليات العقلية، ولا تهدي إليه فطرةٌ مستقيمةٌ، بعكس ما جاء به الوحي الصادق، فكان من هذه الجهة إخبارًا عن غيبٍ تحقَّق الشُّهودُ صدقَه، وهم ينتظرون تحقّق ما وعدهم تحقُّقه ووقوعه يوم يأتي تأويله.

    وهل جاء القرآن بأهمّ من تصحيح أوهام المشركين والوثنيين وأهل الكتاب عن الله تعالى، وضلالهم في أسمائه وصفاته؟

    وإخبار بعض الفلاسفة ببعض صفات الإله لا يخلو -بأحسن الفروض- من تخليطٍ بين الحقّ والباطل، وبين ما يقبله العلم الضروريّ وما يردُّه. هذا إن تغاضينا عن حقيقة أنَّهم لم يَبتدِئُوا به ولم يبتكروه، وإنما استقَوه من مصدر سماويّ من بقايا آثار الوحي والنبوات. وهذا مشاهدٌ في كلام الصفوة منهم؛ حتى بعض فلاسفة المسلمين الذين استرشدوا بشيء من كلام الوحي الخاتم المهيمن، ولكنّهم إذ حكَّموا عقولهم فيه حادوا عن الصواب، ثم اعترفوا هم أنفسهم بذلك.

    وكذلك، فإنَّ إخباره عن مخلوقاتٍ كالملائكة وصفاتها مما لا يصادم المنطق، ولا يندّ عن مقبولات العقول، ولا يضادّ الحقائق العلمية المكتشفة، ولا يناقض بعضه بعضًا. وقد رأينا أرباب المعتقدات الباطلة والمحرّفة يأتون في هذا الباب بالعجب العجاب، فيدّعون وجود مخلوقات تحمل الكرة الأرضية على ظهورها، ووحوش مقدّسة، وضفادع في حجم المدن، ودوابّ في حجم الجبال، مما تشهد العلوم الحديثة بأنه لم يوجد فيما تملك هذه العلوم البتّ فيه[15].

    قال الزرقاني: «أمّا غيب الحاضر فنريد به ما يتصل بالله تعالى والملائكة والجن والجنة والنار ونحو ذلك مما لم يكن للرسول -صلى الله عليه وسلم- سبيل إلى رؤيته ولا العلم به، فضلًا عن أن يتحدث عنه على هذا الوجه الواضح الذي أيّده ما جاء به الأنبياء وكتبهم -عليهم الصلاة والسلام-، وأمثلة هذا الضرب كثيرة في القرآن لا تحتاج إلى عرض ولا بيان»[16].

    فإذا تأمّلت ذلك تبيّن لك أنَّ الإخبار عن الله تعالى وصفاته، وعن عالم الملائكة والجنّ والشياطين لا يقلُّ -إن لم يزد- في إعجازه عن الإخبار بالوقائع الماضية، والكوائن المستقبلة، ومخبآت الضمائر.

    وأمَّا الأنواع الأخرى من الغيوب، فالأمر فيها أوضح، قال الشيخ البوطي -رحمه الله وعفا عنه-: «ونقصد بالغيبيات تلك الإخبارات المتعلقة بأحداث مُقبِلة، والتي لم يُظهِرها بعدُ أيُّ شاهد من العقل أو الحسّ أو الدلائل التي تعوّد الإنسان على الاعتماد عليها. سواء تعلّقت هذه الأخبار بأحداث عامة، أو تعلقت بأُناس أو فئات بأعيانهم، أو تعلقت بنواميس كونية. ففي القرآن آيات كثيرة أخبرت عن أحداث ستقع في زمن مُقبِل، وفيه آيات تحدّثَت عن مصائر أشخاص بأعيانهم، وفيه نصوص تقرر قوانين ثابتة بالنسبة لكثير من المظاهر الكونية المحيطة بنا. وقد جاء الزمن فيما بعد بمصداق هذه الأخبار كلها، دون أن يكون عليها أيّ شاهد من قبل، من حس أو عقل أو أيّ بيّنة من البيّنات»[17].

    فمن الآيات التي تحدّثَت عن مصائر أشخاص بأعيانهم سورة المسد، وما تضمنته من إخبار عن مستقبل أبي لهب وما سيؤول إليه حاله، فإذا تأمَّلت هذه السورة «علمت أنّ أحدًا من الناس لا يملك أن يطلق هذا الوعيد ويسجله في عنق الزمن وعلى صفحة الدهر. فما الذي يُدري هذا الإنسان أنّ أبا لهب سيثبت على كفره إلى الموت، وما هي ضمانات أنه لن يؤمن كما آمن الكثير ممّن هم أشد منه كفرًا وأقسى عنادًا؟ بل ما الذي يطمئن هذا الإنسان إلى أنّ أبا لهب لن ينهض به دافع التحدِّي عندما يسمع هذا الوعيد المسجل في حقه إلى أن يعلن إيمانه بالله ورسوله على الملأ، ليثبت بذلك أنه قد محا أسباب شقوته، وأن إخبار القرآن عن مصيره مخالف للواقع الذي تمّ.

    إنَّ بشرًا من الناس لن يستوثق من تقلبات الزمن، وما قد يطرأ من الأحوال والأفكار الجديدة على أبي لهب وأمثاله، ونظرًا لذلك فلن يجد من الجرأة ما يعتمد عليه في إطلاق مثل هذا الخبر الغيبي المخبوء في تلافيف المستقبل.

    ومثله قول الله -عزّ وجلّ- في حق الوليد بن المغيرة المخزومي: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ}[المدثر: 11- 28]. إنّ هذا الإخبار الغيبي: سأرهقه صعودًا... سأصليه سقر... ليس مما يتجرأ إنسان عليه؛ لأن الإنسان يفرض الاحتمالات المختلفة للزمن، والأطوار المفاجئة العجيبة للإنسان، وهو ليس مطّلعًا على ما قد يأتي به الغد أو ما قد يفاجأ به فكر الإنسان. ولكنه إخبار غيبيٌّ يصدر عمّن بيده مصير الزمن والمكان، وعمّن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وما ينتهي إليه حال أيّ إنسان»[18].

    ومن الغيوب القرآنية آيات كثيرة تُعلِن في بيانات حاسمة عن نواميس كونية، وتخبر أنها ستظل قوانين نافذة حاكمة على الناس كلهم وعلى الطاقة العلمية كلها، مهما تنوعت وتقدمت صعدًا. فهي تستعصي على كل محاولات التغيير والتطوير، وذلك كقوله: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ}[يس: 68]، وقوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}[النساء: 78]، وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ}[المؤمنون: 18]، وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء: 85]، وقوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}[الزخرف: 32].

    «تأمَّل في هذه التقارير القاطعة في أسلوبها، المطلقة عن قيود الزمان والمكان، المرسلة في قوة وإصرار إلى أعماق غيوب المستقبل... المترفعة عن محاولات التطوير والعلم، أيمكن أن ينطق بها بشر؟... وهل الإنسان نفسه إلّا ذرّة من جزئيات الكون، فهو لا يدري ما الذي يأتي به الغد أو يتطور إليه العلم، أو تمتد إليه الطاقة؟

    إنّ أعظم العلماء شأنًا اليوم، يرى الحقيقة العلمية بعينيه، ثم يتحفظ مع ذلك في التعبير عنها، متوقعًا أن يُفاجَأ في كل يوم بقيود أو حدود جديدة لها.

    فأيّ رجل هذا الذي يستطيع أن ينهض من وراء القرون الغابرة، فيبعث إلى الدنيا كلها بتقرير علمي جازم يفصّل فيه أمر النواميس الكونية الراسخة، ويرفعها فوق هام البشرية مؤكدًا أنّ أيَّ طاقة -مهما كانت- لن تمتد إليها بأيِّ تغيير؟»[19].

    كذلك فإن ما يُسمّيه بعضهم بالإعجاز العلمي يندرج تحت الإعجاز الغيبي؛ لأن الآيات التي تتضمن حقائق علمية صدقت عليها موازين العلوم والاكتشافات الحديثة، تتضمن حقائق غيبية في الوقت ذاته[20].

    ولا تخلو سورةٌ من هذا النوع من الغيوب وإنْ قصرت، فسورة العصر مصرّحة بسُنّة مُطّردة: أنَّ الإنسان في خُسر؛ كقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}[التين: 4، 5]، أو هو إخبار بمصير الكفار يوم القيامة، قال ابن عاشور: «وهذا الخبر مراد به الحصول في المستقبل بقرينة مقام الإنذار والوعيد، أي: لفي خسر في الحياة الأبدية الآخرة فلا التفات إلى أحوال الناس في الحياة الدنيا»[21]، فهو غيبٌ أيضًا -كما ترى- على اختلاف أقوال المفسرين. كما أنَّها مُنبئة بما يكون للذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة من النعيم، فهو من الغيب كذلك.

    وسورة الهُمَزة فيها إخبار عن مصير الهُمَزة اللُّمَزة، وفيها تفصيل بعض وصف النار، وفيها إخبار بسُنّة ماضية: أنّ المال غير مخلِّدٍ صاحبَه. وعلى قول مَن جعلها في واحدٍ بعينه[22] ففيها إخبارٌ بأنَّه يموت كافرًا.

    وسورة الفيل فيها إخبار بحادثة ماضية، وإخبار بقدرة الله -عز وجل- وعزّته.

    وسورة قريش فيها إخبارٌ بعادتهم الماضية، وإخبار ببعض أفعال الله تعالى الدَّاعية للتأمُّل؛ كيف أطعمهم -على قلة الثمار في بلادهم- من كلّ ثمرات الأرض التي لا يتفق اجتماعها في البلاد الخصيبة، وكيف آمنهم في بلدهم وفي أسفارهم؛ لمكان الحرم عند العرب.

    وسورة الماعون فيها من الإخبار بالغيب: الإنباء ضمنًا بيوم الدِّين، والإنباء بمصير المُرائين، والكشف عن مخبآت ضمائرهم، وعن طباعهم القاضية بمستقرّ أفعالهم.

    ومما يُروى عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}[الماعون: 7]، قال: «لم يجئ أهلُها بعدُ»[23]. ولعلَّه قال ذلك؛ لأنه لم يكن سائرًا في العرب وقتها أن يمنعوا العارية اليسيرة؛ بل كان الكرم فيهم غالبًا. وقد تحقَّق فشوّ ذلك في الناس بعدُ، فمنعوا العاريةَ حتى صارت عند بعضهم عادة جارية.

    «وهذه سورة الكوثر ثلاث آيات قصار، وهي أقصر سورة في القرآن، وقد تضمّنت الإخبار عن مُغيَّـبَين: أحدهما الإخبار عن الكوثر وعِظَمه وسعته وكثرة أوانيه، وذلك يدل على أن الـمُصدِّقين به أكثر من أتباعِ سائر الرسل. والثاني: الإخبار عن الوليد بن المغيرة، وقد كان عند نزول الآية ذا مال وولد، على ما يقتضيه قوله الحق: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا}[المدثر: 11- 14]، ثم أهلك الله سبحانه ماله وولده، وانقطع نسله»[24].

    وسورة الكافرون فيها من ذلك الشيء العظيم، ونحن نسوق تفسيرها بعبارة الإمام الطبري ليتّضح ذلك: «{قُلْ} يا محمد؛ لهؤلاء المشركين الذين سألوك عبادة آلهتهم سَنَةً، على أن يعبدوا إلهك سَنَةً: {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون: 1] بالله، {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}[الكافرون: 2] من الآلهة والأوثان الآن، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}[الكافرون: 3] الآن، {وَلَا أَنَا عَابِدٌ}[الكافرون: 4] فيما أستقبل {مَا عَبَدْتُمْ}[الكافرون: 4] فيما مضى، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ}[الكافرون: 5] فيما تستقبلون أبدًا {مَا أَعْبُدُ}[الكافرون: 5] أنا الآن، وفيما أستقبل. وإنما قيل ذلك كذلك؛ لأن الخطاب من الله كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أشخاص بأعيانهم من المشركين، قد علم أنهم لا يؤمنون أبدًا، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه، فأمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يؤيّسهم من الذي طمعوا فيه، وحدثوا به أنفسهم، وأن ذلك غير كائن منه ولا منهم، في وقت من الأوقات، وآيس نبي الله -صلى الله عليه وسلم- من الطمع في إيمانهم، ومن أن يفلحوا أبدًا، فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا، إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف، وهلك بعض قبل ذلك كافرًا»... ثم ساق من آثار السلف دلائل ذلك[25].

    وسورة النصر فيها الوعد الذي تحقق بدخول الناس في دين الله أفواجًا، وفيها إعلام النبي -صلى الله عليه وسلم- بقُرب أجَله، وقد كان.

    وقد تقدَّم قريبًا ما في سورة المسد من ذلك.

    وسورة الإخلاص متمحّضة للإنباء ببعض أسماء الله -عز وجل- وصفاته تعالى كما هو معلوم، وهي مُصحِّحة لاعتقادات المشركين وضلالات أهل الكتاب في ذلك.

    وفي المعوذتين إخبارٌ بأسماء الله تعالى: رب الفلق، رب الناس، ملك الناس، إله الناس، الخالق، الحافظ عباده، المعيذ من استعاذ به، وإنباءٌ بخلقٍ من خلقه: الجنّ والشياطين، وصفة من صفة الشيطان: أنَّه يوسوس بالغفلة، ويخنس بالذكر؛ مما وُجِد تصديقه في الواقع؛ يعرفه كلُّ ذاكرٍ يقظٍ، وأنَّ للعين وللسِّحر حقيقةً وتأثيرًا، مما أقرَّ به منصفو الأطبّاء، وأنَّ الذكر والاستعاذة عمومًا -وبالمعوذات خصوصًا- تحُول دون وقوع تأثيرهما، وإنْ أصابَا العبدَ الذاكر فإنَّ أثرهما عليه لا يبلغ التسلُّطَ القاهر. وهذا أمرٌ واقعٌ نراه في أنفسنا وأهلينا، وفي الناس حولنا. فمَن أخبَر النبيَّ بهذه المغيّبات؟ ومِن أين له أنَّ هذه المعوّذات لها هذا التأثير الواقي والشافي بإذن الله؟

    وبتأمُّل سائر قصار السُّوَرِ وتدبُّرها يستبين أنَّ أيًّا منها لا يخلو من معنًى أو أكثر من المعاني المندرجة تحت نوع من أنواع الأخبار بالغيب المذكورة.

    الوجه الرابع:

    وهو وجهٌ دقيقٌ ومنزع لطيف بحاجة إلى تأمُّل مُتأنٍّ. ذلك أنَّ بعضَ إعجازِ النَّظم القرآني مُتضمِّنٌ للإعجاز الغيبيّ، وبيان ذلك أنَّ حسن اختيار المفردة اللغوية وحسن توظيفها بما يتساوق مع المعنى المراد من أهمّ مُكوّنات إعجاز الأسلوب والنَّظْم، وهذه حقيقة يُقرّرها كلُّ المحققين ممن تكلّموا عن إعجاز النَّظم بطريقة أو بأخرى.

    والاختيار والتوظيف فرعٌ عن الإحاطة بكلِّ مفردات اللغة ومعانيها الدقيقة؛ ليتسنّى للبليغ إيقاعها في النَّظم على مراده، والنَّظر قاضٍ بأنَّ الإحاطة بدلالات المفردات اللغوية التي غيّبها الزمان، وتفانت في اتّساع ألفاظ اللغة، وذهبت بها بطون الأحياء؛ مستحيلٌ على غير نبيٍّ، من جهة تأييده بالوحي الخبير المحيط لا من جهة طَوْل مَلكاته البشرية المجرّدة. ولذا قال الإمام الشافعي: «ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا، وأكثرها ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسانٌ غيرُ نبيٍّ، ولكنه لا يذهب منه شيءٌ على عامتها، حتى لا يكون موجودًا فيها من يعرفه»[26]. قال ابن فارس مُعلّقًا: «وهذا كلام حريٌّ أن يكون صحيحًا، وما بلَغَنا أنّ أحدًا ممن مضى ادّعى حفظ اللغة كلها»[27].

    وما كان خارج نطاق الإحاطة فهو غيبٌ، ومجيء النبي -صلى الله عليه وسلم- به من باب مجيئه بالأخبار عن المغيّبات سواءً بسواءٍ، فالمبنى واللفظ وما إليهما وعاءٌ، والمعنى مُوعًى، وكلاهما خارج القدرة البشرية، وتحدّيهم بالنَّظم من هذه الجهة كتحدِّيهم بالاطلاع على بعض مكنون الغيب. نعم، لقد كانوا في الجملة محيطين باللغة، وإن عجَز الآحاد عن جميعها، فعادت بالنسبة لآحادهم غيبًا، فإن اجتمعوا جميعهم في صعيد واحدٍ -وهذا غير واقع عمليًّا- ضُمِن لهم نظريًّا أنَّهم مُلِمُّون بجميع ألفاظها، ولكن لمّا توزّع علمهم بالألفاظ ومواقعها على آحادهم؛ استحال عليهم ضمان أنَّ كلَّ لفظةٍ واقعةٌ موقعها الذي لا تقوم به غيرها. ثم بالنَّظر إلى موضعها من النَّظم، أنَّى لهم المعنى القائم، والرباط الناظم؛ ليأتوا بمثل القرآن بلاغته؟ ومن ظفر بشيءٍ من ذلك وحَذقه غُيّبت عنه أشياء.

    فقد عاد عجزهم عن الإتيان بمثله إلى ما غُيِّب عنهم من جملة ذلك، وإن وقع لهم في تفاريقِ الكلام أبعاضه. وإنما يقدر عليه مَن أحاط بكلِّ شيء علمًا، وأحصى كلَّ شيءٍ عددًا.

    وإلى قريبٍ من هذا المعنى أشار الخطّابيّ بقوله: «وإنما تعذَّر على البشر الإتيان بمثله لأمور؛ منها أنَّ علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وبألفاظها التي هي ظروف المعاني والحوامل لها، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصّلوا باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله، وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنًى به قائم، ورباط لهما ناظم. وإذا تأمّلْتَ القرآن وجَدتَ هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئًا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ولا ترى نظمًا أحسن تأليفًا وأشدَّ تلاؤمًا وتشاكلًا من نظمه. وأمّا المعاني فلا خفاء على ذي عقل أنها هي التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها والترقِّي إلى أعلى درجات الفضل من نعوتها وصفاتها. وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام، فأمّا أن توجد مجموعة في نوع واحدٍ منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير، الذي أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كلَّ شيء عددًا»[28].

    وقال ابن عطية: «والصحيح أنَّ الإتيان بمثل القرآن لم يكن قطُّ في قدرة أحد من المخلوقين، ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يصنع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده، ثم لا يزال ينقحها حولًا كاملًا، ثم تعطى لآخر نظيره فيأخذها بقريحة جامّة فيبدل فيها وينقح ثم لا تزال كذلك فيها مواضع للنظر والبدل. وكتاب الله لو نُزعت منه لفظة ثم أُدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد»[29].

    الاستشكال الثالث:

    قال الراغب في معرض حديثه عن إعجاز القرآن: «ولا يتعلق [الإعجاز] أيضًا بمعانيه، فإن كثيرًا منها موجود في (الكتب المتقدمة)؛ ولذلك قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ}[الشعراء: 196]، وقال: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى}[طه: 133]، وما هو مُعجز فيه من جهة المعنى، كالإخبار بالغيب؛ فإعجازه ليس يرجع إلى القرآن بما هو قرآن، بل هو لكونه خبرًا بالغيب، وذلك سواء كونه النظم أو بغيره»[30].

    وأوَّل ما يقع للمتأمِّل في هذا الكلام أنَّ القائلين به لا ينفون أنَّ الإخبار بالغيب معجزٌ، وإن كانوا يُفرِّقون بين الإعجاز بما يرجع للقرآن بما هو قرآن؛ يَعنون: لغته وأسلوبه ونظمه، أو قُل: لونَه الأدبيَّ، وبين ما هو راجعٌ للقرآن من جهة معناه. وهذا التفريق لا دليل عليه، بل هو تخصيصٌ بغير موجب كما بيَّنَّا مرارًا.

    وأمَّا كون الكُتب السماوية ستكون مُعجزةً من هذا الوجه؛ لأنها معانٍ من عند الله؛ فما المشكلة في أن تكون كذلك؟ وأين الدليل على أنَّ القرآن وحده هو المعجز من هذا الوجه؟

    والحقيقة التي لا إخالُ مُؤمنًا بأنَّ الكُتب السماوية -في صورتها المنزلة على الأنبياء، قبل تحريفها- وحيٌ من عند الله؛ يتوقّف لحظة في الإقرار بأنَّها مُعجزة فعلًا، وأنها كانت مما آتاه الله تعالى أنبياءه من المعجزات التي آمَن عليها بعض البشر؛ ولذا قال تعالى في التوراة مثلًا: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[البقرة: 53]، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ}[المائدة: 44]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء: 48، 49]، فوصفها بأوصافٍ وصف بها القرآن، وقال بعد الآية الأخيرة متحدِّثًا عن القرآن: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}[الأنبياء: 50].

    وهذا هو الشأن في الوحي الإلهيّ كله، إذ كله نورٌ ورُوحٌ وهدًى وفرقانٌ وبصائرُ وذِكرٌ؛ ولذا قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ * قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[القصص: 48، 49]، فقرن أيضًا في هذا المقام بين التوراة والقرآن.

    فالوحي الإلهيُّ كلُّه معجزٌ، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}[الأنعام: 93]، قاضٍ بمفهومه أنَّ مُدّعِيَ أنَّه سيُنزِل مثلَه كاذبٌ، إذ لا سبيل إليه، وهذه عامَّةٌ في كلِّ منزَلٍ.

    وأمَّا قول الأستاذ محمود شاكر: «ولا أظن أنّ قائلًا يستطيع أنْ يقول إنّ التوراة والإنجيل والزبور كتبٌ معجزة، بالمعنى المعروف في شأن إعجاز القرآن، من أجلِ أنها كتبٌ منزلة من عند الله»[31]، يعني: إعجاز النَّظم، فكذلك أقول: ولا أظنُّ أنَّ قائلًا يستطيع أن ينفي ذلك، كما لا يستطيع أن يقول لنا ما مُعجزة بعض الأنبياء الذين لم تُذكر مُعجزاتهم في القرآن؛ كهودٍ وشعيبٍ -عليهما السلام- مع اليقين بأنَّه كانت لهم آياتٌ ومعجزاتٌ. فكلُّ هذا مما طُوِي عنَّا غيبُه.

    على أنَّه لو كان لنا أن نُخمِّن -وهو خلاف الأَولى- فسنقول: إنَّ وحيَ الله تعالى إلى أنبيائه إمَّا أن يكون وحيًا بالمعنى، فيكون معناه من الله تعالى ولفظه وصياغته من النبيّ الموحَى به إليه، وإمَّا أن يكون معناه ولفظه كلاهما من الله تعالى؛ فإن كان الأوّل فالمعنى معجزٌ واللفظ غير مُعجزٍ قطعًا؛ من حيث كون الأول من عند الله تعالى، وكون الثاني من عند بشر، وإن كان الثاني فالأقرب أنَّ اللفظ والمعنى كليهما معجزان[32]، وأن النَّظم الذي نزل به الوحي حينئذ وقع على أفضل رُتَبِ النَّظم في اللغة الموحَى بها. فإن قلنا إنَّ التوراة والزبور والإنجيل -قبل أن يطولها التحريف- كان لفظها من عند الله تعالى، فلفظها مُعجِزٌ إذ كانت روحًا من أمر الله تعالى كالقرآن، ولكن لما طالتها أيدي الـمُحرّفين الفانين صارت إلى ما هي عليه، فدخلها من المعاني ما هو كفرٌ وخُرافةٌ[33].

    وأمَّا الاستدلال في هذا المقام بحديث: «ما من الأنبياء نبيٌّ إلا قد أُعطي من الآيات ما مثلُه آمَن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُ وحيًا أوحَى اللهُ إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعًا يوم القيامة»[34]، فغير ناهض، وقد أوضحنا أنَّه لا يُفهم منه أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُعطَ غيره من الآيات، ولا أنَّ غيره من الأنبياء لم يُعطَوْا من الوحي ما آمن عليه البشر، وإنما المراد -والله أعلم- ما أشرنا إليه من أنَّ المدعوَّ بالقرآن لا يلزم أن يسمعه مُشافهةً من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا أن يكون عصريَّه، بل جُلُّ المخاطبين به ليسوا كذلك؛ لأنهم كانوا بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم إن الإيمان به يُهيئ المؤمن للوقوف على سائر آيات النبي -صلى الله عليه وسلم- الأخرى بخلاف القرآن.

    قال القرطبي: «فالقرآن معجزة نبينا -صلى الله عليه وسلم- الباقية بعده إلى يوم القيامة، ومُعجزة كل نبيٍّ انقرضت بانقراضه، أو دخلها التبديل والتغيير؛ كالتوراة والإنجيل»[35].

    وما ذلك إلّا لأنّ الله تعالى تكفَّل بحفظه، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9]، بخلاف سائر الكتب السابقة؛ استحفظها البشر فضيّعوها. «والسرّ في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت لا التأبيد، وأن هذا القرآن جيء به مصدِّقًا لِما بين يديه من الكتب ومهيمنًا عليها، فكان جامعًا لِما فيها من الحقائق الثابتة، زائدًا عليها بما شاء الله زيادته، وكان سادًّا مسدَّها، ولم يكن شيء منها ليسدّ مسدَّه، فقضى الله أن يبقى حُجةً إلى قيام الساعة، وإذا قضى الله أمرًا يسَّر له أسبابه، وهو الحكيم العليم»[36].

    الاستشكال الرابع:

    ومما قد يُعترَضُ به قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[هود: 13]، قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف يكون ما يأتون به مثله، وما يأتون به مفترًى وهذا غير مفترًى؟ قلتُ: معناه مثله في حسن البيان والنظم وإن كان مفترًى»[37]. فهذا يقتضي أنَّ التحدّي واقعٌ بحسن البيان وبالنَّظم فقط، وإن كان مفترًى.

    وقال الرازيّ: «اختلف الناس في الوجه الذي لأجله كان القرآن معجزًا، فقال بعضهم: هو الفصاحة، وقال بعضهم: هو الأسلوب، وقال ثالث: هو عدم التناقض، وقال رابع: هو اشتماله على العلوم الكثيرة، وقال خامس: هو الصرف، وقال سادس: هو اشتماله على الإخبار عن الغيوب. والمختار عندي وعند الأكثرين أنه معجز بسبب الفصاحة، واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية؛ لأنه لو كان وجه الإعجاز هو كثرة العلوم أو الإخبار عن الغيوب أو عدم التناقض لم يكن لقوله: {مُفْتَرَيَاتٍ} معنًى، أمّا إذا كان وجه الإعجاز هو الفصاحة صحّ ذلك لأنّ فصاحة الفصيح تظهر بالكلام، سواء كان الكلام صدقًا أو كذبًا»[38].

    فيجاب عن ذلك بجوابين:

    الأول: أنَّ قوله: {مُفْتَرَيَاتٍ} ردٌّ على قولهم {افْتَرَاهُ} أي: إن كنتم تزعمون أنَّه من الممكن أن يُفترى من دون الله فيأتي على هذا الوصف من البلاغة وحسن الرصف ورُقِيّ المعاني وصِدق أخباره، فعارِضوه وائتوا بمثله مفترًى. ومعنى افترائه أنَّه من عند غير الله، كما دلَّ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[يونس: 37]، فيصير معنى الكلام: إن كان محمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- ليس نبيًّا، وكان قرآنه من عند غير الله كما تزعمون، وكان على هذا الوصف الذي تعرفون، والرصف الذي تسمعون، فجيئوا بمثله. فالآية معناها معنى نظائرها؛ كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور: 33، 34]، وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[يونس: 38].

    الثاني: ولو سلَّمنا بأنَّ المتحدَّى به في هذا الموضع هو النَّظم فحسب فإنه يكون من قبيل التنزُّل أو التنويع من المتحدِّي، وهو لا يعني الترك والإضراب -كما بيَّنَّا- بل هو أبلغ في إفحامه، فإذ لم يستطع أن يأتي بسورة تماثله في كلّ صفاته، ومنها صِدق إخباره بالغيب، فقد رضينا منه أن يأتي بعشر سورٍ في مثل نظمه وبلاغته وإن كان معناها مفترًى.

    وإلى نحو هذا ذهب جماعة من المفسرين، قال السمعانيّ: «فإن قيل: قد قال في سورة يونس: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}[يونس: 38]، وقد عجزوا عن أن يأتوا بسورة، فكيف يصحُّ أن يقول لهم: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ}[هود: 13]، وما هذا إلا كرجل يقول لغيره: أعطني درهمًا، فيعجز عنه فيقول: أعطني عشرة دراهم، وأيضًا فإنه قال: {مُفْتَرَيَاتٍ} وهل يجوز أن يأمر الله تعالى أن يأتوا بالافتراء؟

    الجواب عنه: منهم مَن قال: إن سورة هود نزلت أوّلًا، وإن كانت في الترتيب آخرًا، وأنكر المبرِّد هذا، وقال: لا؛ بل نزلت سورة يونس أوّلًا. وأجاب عن السؤال وقال: معنى قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} في سورة يونس يعني مثله في الخبر عن الغيب والأحكام، والوعد والوعيد، فعجزوا، فقال لهم في سورة هود: إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثل القرآن في أخباره وأحكامه ووعده ووعيده، {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} يعني: مختلَقات من غير خبرٍ عن غيب، ولا حكم ولا وعد ولا وعيد، وإنما هي مجرد البلاغة. وهذا جواب صحيح.

    وأمّا السؤال الثاني فالجواب؛ قلنا: الله -سبحانه وتعالى- لم يأمرهم بالافتراء، وإنما تحدَّى، ومعناه: أنّ إصراركم في تكذيب محمد وزعمكم أنه افترى القرآن يوجب عليكم أن تأتوا بمثله افتراءً، ليظهر كَذِبُ محمدٍ كما زعمتموه؛ فلمّا عجزتم دلَّ أنه صادق»[39].

    قلتُ: ويلزم من تصحيحه لهذا الوجه قبول أنَّ التنزُّل والتنويع لا يعني الإضراب، بدليل عودته في سورة البقرة المتأخرة النزول باتفاق إلى التحدي بسورة من غير أن يقيدها بالافتراء: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 23].

    وقال ابن عطية: «ووقع التحدي في هذه الآية بِعَشْرٍ؛ لأنه قيدها بالافتراء، فوسَّع عليهم في القَدْر لتقوم الحجة غاية القيام؛ إذ قد عَجَّزَهم في غير هذه الآية بسورةٍ مِن مِثلهِ دون تقييد، فهذه مماثلة تامّة في غيوب القرآن ومعانيه الحجة، ونظمه ووعده ووعيده، وعُجِّزُوا في هذه الآية بأنْ قيل لهم: عارضوا القَدْر منه بعشرِ أمثاله في التقدير، والغرض واحد، واجعلوه مفترًى لا يبقى لكم إلا نظمه، فهذه غاية التوسعة. وليس المعنى: عارضوا عشر سور بعشر؛ لأن هذه إنما كانت تجيء معارضة سورة بسورة مفتراة، ولا يُبالي عن تقديم نزول هذه على هذه. ويؤيد هذا النظر أن التكليف في آية البقرة إنما هو بسبب الريب، ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامّة، وفي هذه الآية إنما التكليف بسبب قولهم: {افْتَرَاهُ}، فكُلِّفوا نحو ما قالوا، ولا يطَّرد هذا في آية يونس. وقال بعض الناس: هذه مقدَّمة في النزول على تلك، ولا يصح أن يعجزوا في واحدة فيُكلَّفوا عشرًا، والتكليفان سواء. ولا يصحُّ أن تكون السورة الواحدة إلا مفتراة، وآية سورة يونس في تكليف سورة متركبة على قولهم: {افْتَرَاهُ}، وكذلك آية البقرة، وإنما رَيْـبُهم بأنّ القرآن مفترى. قال القاضي أبو محمد: وقائل هذا القول لم يلحظ الفرق بين التكليفين في كمال المماثلة مرة، ووقوفها على النظم مرة»[40].

    خاتمة:

    الذي يُخلَص إليه في هذه القضية أنَّ القرآن الكريم آيةٌ معجزةٌ من كلِّ وجهٍ يمتُّ إلى معنًى محتمَلٍ في النَّظر السديد من معاني صفاته المبيّنة والمستنبطة، وأنَّ المتحدَّى به أن تأتي أمَّة الدعوة إنسها وجنّها على اجتماعهم وتظاهرهم بسورة من مثله من كلِّ وجهٍ دون تقييد أو تخصيص، بل هي مماثلة تامَّة في بيانه وصدقه وحُكمه وحكمته وتفصيله وائتلافه وهدايته ونورانيته وروحانيته ورحمته وعصمته وعزّته وعلوّه وهيمنته إلى غير ذلك من صفاته ومُضمَّناته، ويدخل فيها ما أخبر به من أنواع الغيوب التي صدَّقها العلمُ الضروري والعلم النَّظري، وأيدتها الفِطَرُ السلمية، والألباب القويمة.

    وفي تقدير الباحث؛ فإنَّ التأسيس على هذا التأصيلِ مهمٌّ جدًّا للوصول إلى معايير موضوعية صادقةٍ تُحاكَم إليها أوجه الإعجاز التي يقول بها كثيرٌ من الباحثين، لا سيّما المعاصرين، وتُمتحَنُ بها صراحةُ نَسبِها إلى إعجاز القرآن الكريم، وإلى القدر المتحدَّى به منه.

    وبعدُ، فما كان من توفيق ومن إصابة حقٍّ فمحض مَنِّ الكريم -عز وجل-، وما كان من خطأ أو سهوٍ فمنِّي ومن نفسي، وهو المرجوّ أن يُـنِيل الأجرين، ويُجزل العطاء في الدَّارين.

    وصلِّ اللهم على سيّد الثقلين. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * موقع الألوكة: (https://2u.pw/FhyLw).
    [1] المقالة الأولى: (هل في القرآن إعجاز غيبي؟) على هذا الرابط: tafsir.net/article/5326
    المقالة الثانية: (هل يدخل الإخبار بالمغيّبات في جملة المتحدّى به؟) على هذا الرابط: tafsir.net/article/5327.
    [2] مداخل إعجاز القرآن الكريم، للأستاذ محمود شاكر (ص153، 154).
    [3] انظر: جامع البيان، للطبري (1/ 394-395)، وبحر العلوم، للسمرقندي (1/ 33).
    [4] مباحث في إعجاز القرآن، للدكتور مصطفى مسلم (ص30).
    [5] بيان إعجاز القرآن للخطابي ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن (ص23، 24). وانظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/ 95- 96).
    [6] الإعجاز العلمي إلى أين؟ للدكتور مساعد الطيار، دار ابن الجوزي، السعودية، ط2، 1433هـ (ص13).
    [7] شرح مقدمة التسهيل (ص278، 279).
    [8] انظر: تفسير مقاتل بن سليمان (4/ 492- 493). والمستدرك على الصحيحين، للحاكم (ح3872)، ودلائل النبوة، لأبي نعيم (ص234 برقم 186).
    [9] أحكام القرآن، لابن الفرس، دار ابن حزم، بيروت، تحقيق الجزء الأول: د/ طه بن عليّ بو سريح، ط1، 1427هـ= 2006م (1/ 42).
    [10] فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب، للطيبي (8/ 31).
    [11] مِن أجمعِ مَن تحدّث عنها: الزرقاني تحت الوجه السابع من وجوه إعجاز القرآن عنده، مناهل العرفان (2/ 367- 389). وانظر كذلك: النبأ العظيم، للدكتور دراز، ط دار طيبة، الرياض، بعناية عبد الحميد الدخاخني، ط2، 1421هـ= 2000م (ص39- 64).
    [12] جامع البيان، للطبري (1/ 242).
    [13] جامع البيان، للطبري (1/ 242).
    [14] مجموع الفتاوى، لابن تيمية، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، نشرة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، 1416هـ= 1995م (13/ 233).
    [15] انظر الفصل الرابع: (الكائنات الخرافية في الكتاب المقدّس) ضمن كتاب: العلم وحقائقه بين سلامة القرآن الكريم، وأخطاء التوراة والإنجيل، للدكتور سامي عامري (ص559- 577).
    [16] مناهل العرفان، للزرقاني (2/ 368).
    [17] من روائع القرآن، للدكتور محمد سعيد البوطي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1420هـ= 1999م (ص148).
    [18] من روائع القرآن، للبوطي (ص150).
    [19] من روائع القرآن، للبوطي (ص152).
    [20] انظر: من روائع القرآن، للبوطي (ص153)، والإعجاز العلمي إلى أين؟ للطيار (ص19).
    [21] التحرير والتنوير، لابن عاشور (30/ 532).
    [22] انظر الخلاف في ذلك: جامع البيان، للطبري (24/ 619- 620).
    [23] جامع البيان، للطبري (24/ 676).
    [24] نقله القرطبي عن ابن الحصار، انظر: الجامع لأحكام القرآن (1/ 74).
    [25] جامع البيان، للطبري (24/ 702- 704).
    [26] الرسالة، للإمام الشافعي، تحقيق: الشيخ أحمد شاكر، نشرة مكتبة الحلبي، مصر، ط1، 1358هـ= 1940م (1/ 34).
    [27] الصاحبي في فقه اللغة العربية، لابن فارس، دار الكتب العلمية، ط1، 1418هـ= 1997م (ص24).
    [28] بيان إعجاز القرآن، للخطابي (ص26، 27).
    [29] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1422هـ (1/ 52).
    [30] تفسير الراغب الأصفهاني، تحقيق: د. محمد عبد العزيز بسيوني، نشرة كلية الآداب - جامعة طنطا، ط1، 1420هـ= 1999م (1/ 44). وانظر: مداخل إعجاز القرآن الكريم، للأستاذ شاكر (ص154)، والإعجاز العلمي إلى أين؟ للدكتور الطيار (ص19، 20).
    [31] مداخل إعجاز القرآن الكريم، للأستاذ شاكر (ص154).
    [32] وإنما قلتُ: «الأقرب» ولم أقطع به؛ لمكان الخلاف المعلوم في الحديث القدسيّ: هل لفظه من الله -عز وجل- أم من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإن كنتُ أُرجّح الثاني، لأسباب ليس هذا محلَّ البسط بذكرها. وانظر بعضها في: النبأ العظيم، للدكتور دراز (11- 13).
    [33] ولعل مما يُستروح به لذلك أنَّ بعض تلك الكتب كان يُقرأ ويُرتّل كالقرآن، يشهد له قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «خُفِّفَ على داود -عليه السلام- القرآن، فكان يأمر بدوابّه فتُسرج، فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابّه». أخرجه البخاري في صحيحه (ح3417). قال البيضاوي: «والمراد به: الزبور، ولعله سمّاه قرآنًا لما كان في قراءته من الإعجاز، كما سُمّي القرآن؛ لما في لفظه من الإعجاز». تحفة الأبرار شرح مصابيح السُّنة، تحقيق: لجنة مختصة بإشراف نور الدين طالب، نشرة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، 1433هـ= 2012م (3/ 453). وقطع به التوربشْتي، قال: «وإنما أطلق القرآن؛ لأنه قصد به إعجازه من طريق القراءة». انظر: الكواكب الدراري، للكرماني (14/ 65)، واللامع الصبيح، للبرْماوي (9/ 527)، وعمدة القاري، للبدر العيني (16/ 7). وقال ابن حجر: «وقراءة كل نبيّ تطلق على كتابه الذي أُوحِي إليه، وإنما سمّاه قرآنًا للإشارة إلى وقوع المعجزة به كوقوع المعجزة بالقرآن؛ أشار إليه صاحب المصابيح». فتح الباري (6/ 455). فقد رأيتَ أنَّ عددًا من جِلّة علماء الملة قد قالوا بما ظنَّ الأستاذ شاكر أنَّ أحدًا لن يستطيع أن يقول به.
    [34] أخرجه البخاري ومسلم. وقد تقدّم تخريجه.
    [35] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (1/ 72).
    [36] النبأ العظيم، للدكتور دراز، دار طيبة، الرياض، ط2، 1421هـ= 2000م (ص7، 9).
    [37] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للزمخشري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1407هـ (2/ 383).
    [38] مفاتيح الغيب، للرازي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1420هـ (17/ 325).
    [39] تفسير القرآن، للسمعاني، تحقيق: ياسر بن إبراهيم وغنيم بن عباس بن غنيم، دار الوطن، الرياض، ط1، 1418هـ= 1997م (2/ 417).
    [40] المحرر الوجيز، لابن عطية (3/ 155). وانظر ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل، لأبي جعفر الغرناطي (1/ 27)، ولباب التأويل في معاني التنزيل، للخازن (2/ 476).
    الإعجاز الغيبي في القرآن بين الإثبات والنفي (3-3)* إيرادات وجوابها الكاتب : محمود عبد الجليل روزن بعد أن استبان في المقالتين السابقتين من هذه السلسلة[1] أنَّ الإنباء بالغيب من أوجه إعجاز القرآن وبراهين نبوّة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنَّه من جملة المعاني المتحدَّى بها؛ قد يَرِدُ على ذلك بعض الاستشكالات التي تُبطئ بالساعي إلى قبوله، وفي هذه المقالة سنجتهد في عرض هذه الاستشكالات، ثم نحاول الإجابة عنها بعون الله -عز وجل-، ليسلم لنا التأسيس الذي قمنا به فيما قبل، فاللهم يسِّر وأعِنْ. الاستشكال الأول: يقول الأستاذ محمود شاكر: «ولا مناص لمتكلم في (إعجاز القرآن)، من أن يتبين حقيقتين عظيمتين قبل النظر في هذه المسألة، وأن يفصل بينهما فصلًا ظاهرًا لا يلتبس، وأن يميز أوضح التمييز بين الوجوه المشتركة التي تكون بينهما: أولاهما: أن إعجاز القرآن كما يدلُّ عليه لفظه وتاريخه، وهو دليل النبي -صلى الله عليه وسلم- على صدق نبوته، وعلى أنه رسول الله يُوحَى إليه هذا القرآن، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعرف إعجاز القرآن من الوجه الذي عرفه منه سائر مَن آمَن به من قومه العرب، وأن التحدِّي الذي تضمّنته آيات التحدي، من نحو قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[هود: 13، 14]، وقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء: 88]؛ إنما هو تحدٍّ بلفظ القرآن ونظمه وبيانه لا بشيء خارج عن ذلك. فما هو بتحدٍّ بالإخبار بالغيب المكنون، ولا بالغيب الذي يأتي تصديقه بعد دهرٍ من تنزيله، ولا بعلم ما لا يدركه علم المخاطبين به من العرب، ولا بشيء من المعاني مما لا يتصل بالنظم والبيان»[2]. فقد استند الأستاذ على أنَّه يجب أن يكون التحدّي بما يدركه علمُ المخاطبين به من العرب، وبما يأتي تصديقه بمجرد تلاوته -في تقريره ما عدَّه حقيقةً- أنَّ التحدِّي الذي تضمنته آيات التحدي إنما هو تحدٍّ بلفظ القرآن ونظمه وبيانه لا بشيء خارج عن ذلك، فما هو بتحدٍّ بالإخبار بالغيب المكنون، ولا بالغيب الذي يأتي تصديقه بعد دهرٍ من تنزيله، ولا بعلم ما لا يدركه علم المخاطبين به من العرب، ولا بشيء من المعاني مما لا يتصل بالنظم والبيان. وهذا يقال به لو سلَّمنا أنَّ التحدّي بالإخبار بالغيب هو الشيء الوحيد الـمُتحدَّى به، وأنَّ المتحدَّيْن به هم فقط صريحو العربِ المعاصرين للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا قد يتعارض مع ظاهر قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء: 88]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 21- 23]، فالمتحدَّى عموم الناس المخاطبين بقوله قبل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، والصواب أنها عامة، والنداء لجميع الناس[3]. ثم إنَّه يلزم الأستاذَ ألّا يَعُدَّ الإخبارَ بالغيب برهانًا من براهين النبوّة لهؤلاء العرب للأسباب نفسها التي ذكرها: أن تصديقه إنما يأتي بعد دهرٍ من تنزيله، وأنَّ دَركه إنما يكون بعلومٍ لا يجيدونها، فعندها يمكن لقائل أن يقول: ليس في القرآن برهانٌ للأعاجم ولا لكثيرٍ من العرب الذين أضاعوا مَلَكة اللسان، فإنَّ دَرك هذه المعجزة إنما يكون بعلومٍ لا يجيدونها، وأنَّ تحقُّق إبلاس العرب الأقحاح لديهم إنما يُدرك -إن أُدرك- بعد حينٍ من البحث وتعاطي العلوم النقلية والمنطقية واللغوية، وهذا -كما ترى- لا يستطيعه جُلّ الناس، فأيّ برهانٍ يقعُ لهم بذلك، فضلًا عن أن يصحّ التحدِّي به؟ وما يجيب به الأستاذُ على هذه نجيبُ به على اشتراطه أن يكون التحدّي مما يقع تصديقه على الفور، وأن يكون مما يدركه علم المخاطبين به. وبعد؛ فلنا أن نطالب بدليل تخصيص التحدِّي بالبلاغة والنَّظم، ذلك أن الله -عز وجل- أطلق المثليَّة في آيات التحدّي، وهذا الإطلاق يقتضي دخول كل صفات القرآن، فلِمَ يُقصَر التحدِّي على صفة العربية فحسب المتضمنة للأسلوب والنَّظم والبلاغة؟ وقد تحدَّى الإنس والجنّ، فلِمَ يخصَّص التحدّي بالوجه الذي برعت فيه طائفة واحدة في مدة زمنية قصيرة من عُمر أمّة الدعوة؟ إنَّ آية القرآن الحقّة أنَّ حجّته قائمة قيامًا مباشرًا على كلّ مخاطَب به من الإنس والجنّ في كلِّ عصرٍ إلى منتهى التكليف به، ولا يلزم أن يسمعه مُشافهةً من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذا رجا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن يكون أكثرَ الأنبياء تابعًا. يقول الدكتور مصطفى مسلم: «فكانت معجزات الأنبياء ملائمة لطبيعة رسالاتهم، وكانت المعجزة تنتهي بوفاة الرسول ولا يبقى إلا الحديث عنها والأخبار التي يتناقلها أتباع الدين جيلًا عن جيل، ولا تنفكّ المعجزة عن شخص الرسول فلا تبقى بمنأى عنه في الزمان والمكان. أمّا الرسالة المحمدية فهي مستمرة إلى يوم القيامة، ولا بدّ من معجزة مستمرة تقيم الحجّة على الأجيال اللاحقة بصدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- وربانية رسالته. ولا تؤدّي المعجزة المادية هذا الدور وهذه المهمة، فكان الاختيار الربانيُّ أن تكون المعجزة وحيًا»[4]. وكثيرًا ما يذكر الله -عز وجل- هذا الموحَى الذي أوحاه إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم- وجعله آيته، في سياق التنويه بما اشتمل عليه من أنباء الغيب، كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}[آل عمران: 44، ويوسف: 102]، وقوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}[هود: 49]، ويصرّح بذكرها جنبًا إلى جنبٍ مع ذكر عربيته: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف: 2، 3]. على أنَّا نعود فنؤكّد أنَّ التحدِّي واقعٌ بأيٍّ من هذه الأمور مما هو داخلٌ في صفات القرآن المصرّح بها، أو المستنبطة من تحليل مضمونه، فكلٌّ منها بمفرده كافٍ لإفحام المتحدَّيْنَ وخارجٌ عن طوقهم وقدرتهم، واجتماعُها أفحمُ لهم وأقطعُ. الاستشكال الثاني: قال الخطابي: «وزعمت طائفة أنَّ إعجازه إنما هو فيما يتضمنه من الإخبار عن الكوائن في مستقبل الزمان نحو قوله سبحانه: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ}[الروم: 1- 4]، وكقوله سبحانه: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ}[الفتح: 16]، ونحوهما من الأخبار التي صدَّقَت أقوالَها مواقعُ أكوانها. قلت: ولا يُشَكُّ في أنَّ هذا وما أشبهه من أخباره نوعٌ من أنواع إعجازه، ولكنه ليس بالأمر العام الموجود في كل سورة من سور القرآن، وقد جعل سبحانه في صفة كلِّ سورة أن تكون معجزة بنفسها لا يقدر أحدٌ من الخلق أن يأتي بمثلها: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 23]، من غير تعيين، فدلّ على أنَّ المعنى فيه غير ما ذهبوا إليه»[5]. وقال الدكتور مساعد الطيار: «وإذا جمَعْتَ الوجوه التي حُكيت في أنواع الإعجاز -سوى الصَّرْفة- وجَدتَ أنها لا تكون في كل سورة؛ بل تتخلف في كثير من السور، فمثلًا: ليس في كل السور إخبار بالغيب. أمّا الذي يوجد في كل سورة بلا استثناء فهو الوجه المتحدَّى به، وهو ما يتعلَّق بالنَّظم العربي لهذا القرآن لغةً وبلاغةً وأسلوبًا؛ بأيّ اصطلاح اصطلح عليه العلماء؛ كقول بعضهم: الإعجاز البلاغي، وقول آخرين: الإعجاز البياني...إلخ، فإنَّ مرجعها إلى النظم العربي المتميز لهذا القرآن الكريم»[6]. وقال: «وجوه الإعجاز في القرآن كثيرة كالإخبار بالغيبيات، لكن الشيء الذي عجز عنه العرب وتحداهم أن يأتوا بمثله هو ذلك النظم والبيان العربي، أمّا المعاني الموجودة فهي تبع وليست أصلًا؛ فسورة العصر مثلًا... ليس فيها إعجاز غيبي أو تشريعي؛ بل فيها ما يتعلق بالنظم والبيان، بدليل أنّ كُتُبَ الله -سبحانه وتعالى- التي نزلت على أنبيائه فيها مغيّبات، وفيها تشريع وفيها أخبار مِثل الأخبار الواردة في القرآن؛ لأن المتكلم بها واحد والحقيقة المتكلم عنها واحدة، لكن الذي تميز به القرآن هو ما يتعلق بالنظم والبيان الذي لا يستطيع العرب أن يأتوا بمثله، فهذا هو المتحدَّى به، وهو الذي ينتظم في جميع سور القرآن، أمّا وجوه الإعجاز الأخرى فتختلف في بعض السور، مثلًا: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}[الكوثر: 1]، فيها إعجاز غيبي وإعجاز في النظم والبيان، لكن ليس فيها إعجاز تشريعي، وقد نأتي إلى سورة أخرى فيها إعجاز تشريعي وإعجاز النظم والبيان، وليس فيها إعجاز غيبي. والخلاصة: أن إعجاز النظم والبيان العربي واقع في كل سورة، وما سواه من أنواع الإعجاز التي حكاها العلماء تتخلف في بعض السور، وفي هذا دلالة على أن المتحدَّى به هو ما يوجد في كل سورة دون ما سواه، ليتناسب مع قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[يونس: 38]، وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 23]»[7]. وقبل الجواب عن هذا الاستشكال نعيد التأكيد على أمرين: الأول: أنَّ التسليم جدلًا بصحة مضمون هذا الاستشكال لا يعني نفي كون الإعجاز الغيبي من وجوه إعجاز القرآن، فهو مُعجِز، ولو سلّمنا بأنه ليس من الأمور الـمُتحدَّى بها. وهو ما صرّح به الخطابي والزركشي والطيّار وغيرهم. فما زال مصطلح الإعجاز الغيبيّ صالحًا؛ بل هو محلّ اتّفاقٍ من العلماء، لا يكاد يُسقطه أحدٌ، سواء من أدخلوه في الوجوه المتحدَّى بها أو مَن قصروها على إعجاز لغته وما إليها. الثاني: أنَّ التسليم جدلًا بأنَّ بعض سُور القرآن لا تشتمل على أنواع من الإعجاز الغيبي، لا يعني التسليم بأنَّ الوجه الوحيد الذي يوجد في كل سورة بلا استثناء هو ما يتعلَّق باللغة وما إليها. فالقرآن لا ينفكُّ عن صفاته؛ كالنورانية والروحانية والهداية والرحمة والعصمة والشفاء والحكمة والفرقانية والعربية والبيان والهيمنة والعزة والعلوّ والمجد وغيرها. ومحصّلة هذه الصفات هي التي دَفعَت الوليد بن المغيرة إلى قولته الشهيرة: «واللهِ؛ لقد سمعتُ من محمد كلامًا آنفًا ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإنَّ أسفله لمغدق، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، [وإنّ له لَنورًا، وإن له لفرعًا]، وإنه ليعلو وما يُعلى، [وإنه ليحطم ما تحته]»[8]، فلو سلَّمنا جدلًا بأنَّ ذلك ينقض أن يكون المتحدَّى به هو الإخبار بالمغيّبات، فإنه لا ينقض أن يكون المتحدّى به ما دلَّت عليه جملة صفات القرآن الـمصرّح بها في الوحيين، ولا يُصحِّح قصر التحدّي على بلاغة القرآن ونظمه وعربيته. وأمَّا الردّ على مضمون الاستشكال فمن وجوهٍ: الوجه الأوّل: أنَّ التسليم جدلًا بأنَّ هناك سورًا تخلو من الإنباء بالغيب لا يُسقط كونه مما تُـحُدِّيَ به؛ فإنَّه تحدَّاهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن. وتنزُّلُه معهم إلى مطالبتهم بالإتيان بسورة واحدةٍ إظهارًا لعجزهم وإمعانًا في إقامة الحجّة عليهم؛ لا ينفي أنَّه تحدّاهم بالإتيان بمثل هذا القرآن، والتنزُّل ليس كالتَّرْك والإضراب من كلِّ وجهٍ، فلا يصحُّ أن يقال: إنّ آيتي التحدي بسورة أو آية التحدّي بعشر سور قد نَسخَت قولَه تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء: 88]، فحقيقة أنَّهم لا يقدرون على مثله حقيقة قائمة، وقيامها قيامٌ للتحدّي بها، وإن كان يرضى منهم بأقلَّ من ذلك لو كان يقدرون عليه. ومَثلُ ذلك كمَثل طالبٍ تُحدِّي بحلِّ عشرين مسألة، فعَجَز، فتنزَّل معه المتحدِّي إلى حلِّ أسهلها فعجز أيضًا. هذا لا ينفي أنَّه تُحدِّي بحلِّ المسائل جميعًا، وإن كان يُرضَى منه بأسهلها لو كان يقدر عليه. فالمرضيُّ به -لو كانوا يقدرون عليه- سورةٌ من مثله، وإن اتَّفق خلوُّ المأتيِّ به من الإخبار الصادق بالغيب، مع أنَّه تحدَّاهم أن يأتوا بمثله من كلِّ وجهٍ. فهذه حجَّةٌ كاشفةٌ عن غاية عجزهم وإبلاسهم. الوجه الثاني: يُحتمل في النَّظر أن يكون المراد بسورة من مثل القرآن: أي بقطعةٍ يتَّفق فيها من كلِّ صفات القرآن التي تتحقّق بها مُفردات المماثلة مما تقع فيه المباراة؛ بغضّ النَّظر عن طولها، على أن تكون بالغةً في الطُّول ما يكفي لإظهار الاقتدار على النَّظم المؤتلف رصفًا وأسلوبًا، ومعلومٌ أنَّه كلما طال الكلامُ كان أدعَى لظهور عوار الائتلاف إن وُجد، وأمَّا الجُمَل القليلة فقد لا تكفي للقَطع بالقُدْرة عليه والوفاء به. ولعلَّ هذا المعنى الأخير هو ما أشار إليه ابن الفرس بقوله: «وقال [القاضي أبو بكر] في موضع آخر من كُتبِه، وارتضاه أبو إسحاق: وإنما يتعلق [الإعجاز] بسورة يُعَدُّ قدرها في الكلام بحيث يتبيَّن فيه تفاضُل رُتَب قُوَى البلاغة، وهو لا يتبيَّن إلا فيما طال بعض الطول. ولستُ أقطع في (الكوثر) وما قاربها بنفيٍ ولا إثباتٍ في إعجازها. وصحَّح بعض المتأخرين هذا القول»[9]. وقال الطيبي: «ولما أضرَبَ عن ذلك الاقتراح، وحكى نوعًا آخر من قبائحهم أعظم من ذلك، وهو طعنهم في القرآن، بقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}[هود: 13]؛ أمَر حبيبه -صلوات الله عليه وسلامه- بأن يجيب عنه بقوله: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}[هود: 13]، على مقتضى سؤالهم، وهو كالقول بالموجب، يعني: هَبُوا أنه كما تزعمون مفترًى، فأتوا أنتم بعشر سور مثله، أي: ما أقول لكم فأتوا بمثله كله، ليس فيه اختلافٌ من جهة المعاني والألفاظ والإخبار عن المغيبات والقصص والأحكام والأخلاق وغير ذلك، بل نبذًا منه جامعًا لهذه المعاني، ولم يكن فيه تناقض. واعلم أن المراد بتخصيص العدد إيثار طريق القصد وما به تختلف المعاني، كما يوجد في الكلام المبسوط الذي له ذيول وتتمَّات، وذلك لدفع الافتراء ونفي التهمة، وأنه من عند الله لا من عنده، يعني: لو كان مفترًى من عندي لوجدتم فيه اختلافًا كثيرًا. وهذا لا يتم بسورة فذّة، كسورة الكوثر والإخلاص وأشباههما، كما يتمُّ في التحدي لمجرد إثبات النبوة، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء: 82]»[10]. فإن التُزم بوجوب أن يكون القَدْر المتحدَّى به مما يتبيّن فيه تفاضل رُتَب قُوَى البلاغة؛ فلا بد للملتزِم أن يلتزم واحدًا -على الأقل- من ثلاثة أمور: الأول: أن ينفي أنَّ نحو سورة (الكوثر) مما يتحقَّق به التحدِّي بالنَّظم؛ لا من حيث إنها غير معجزة به، ولكن من حيث إنها أقصر مما يتبيَّن فيه تفاضلُ رُتب البلاغة، وهو من مكوّنات التحدّي بالأسلوب والنَّظم وما إليهما. الثاني: أنَّ التحدِّي ليس بالأسلوب والنَّظم فقط، وإنما هو بجملة صفات القرآن المبيَّنة والمستقرأة من تحليل مضمونه، ولو اتّفق خلوّ سورة من شيءٍ منها؛ فلا يُتّفق أن تخلو السورةُ منها كلِّها. الثالث: أنَّ المقصود بالسورة المتحدّى بها هو أن يأتي المتحدَّى بقطعة من الكلام يتّفق له فيها من كلِّ صفات القرآن التي تتحقّق بها مُفردات المماثلة مما تقع فيه المباراة؛ بغضّ النَّظر عن طولها، على أن تكون بالغةً في الطُّول ما يكفي لإظهار الاقتدار على النَّظم المؤتلف رصفًا وأسلوبًا ونظمًا. والتزام أيّ واحدٍ من هذه الثلاثة يُسقط الاعتماد على خلوّ بعض السور من الإخبار بالغيب لنفي أن يكون الإخبار بالغيب من جملة الـمُتحدَّى به. والله أعلم. ويَرِدُ على هذا الوجه أنَّ القطعةَ المتحقّقَ بها ذلك ليست محدودة بحدود واضحة، فيقال: على قول الطيبيّ المتقدم فإنها محدودة بعشر سور؛ فليأت بعشر قطع متنوعة المقاصد كلّ منها بطول أقصر سورة من القرآن، أو بقطعة بالغة مبلغ العَشر. ويمكن أن يقال: يتفاوت الطول الذي يستبين به ذلك باختلاف مقاصد الكلام ووفور المعاني. وعلى كلِّ حالٍ؛ فإنَّ أهل صنعة الكلام لا يعجزون عن تقدير حدِّ الوفاء به؛ كما لا يعجز المعلِّم عن تقدير رتبة طالبه في مهارة التعبير الشفاهي من خلال ما قاله كتابةً أو حديثًا. الوجه الثالث: أنَّا ننازع فيما يسوقه الكثيرون كحقيقة مُسلَّمَة، وهي: خلوّ بعض سور القرآن من الإنباء بالغيب؛ كسورة العصر. ذلك أنَّ دائرة الغيب أوسع مما عنوه، فالغيوب التي أخبر بها القرآن تتضمّن أنواعًا كثيرة[11]: فمنها ما هو إخبار عن الرسل السابقة ورسالاتهم، وقصص الأوّلين السالفين، وبالحوادث الواقعة في الأزمنة الغابرة. ومنها الإنباء بالغيوب المستقبلة، بما فيها الإخبار بأحداث الموت وما بعده من أحداث القيامة والجنة ونعيمها والنار وعذابها. ومنها الإخبار بمكنونات الصدور والسرائر وكشف ما في مخبّآت الضمائر. ومنها الإخبار عن مصائر أحياء، فلا يستطيعون تغيير مصائرهم. ومنها الإخبار عن أنَّهم لن يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا، فلا يستطيعون، مع أنَّ فعلهم يتوقَّف في الظاهر على محض إرادتهم. ومنها الإخبار بالسنن الكونية والقوانين الطبيعية الـمُطّردة. ومنها الإخبار عن أسماء الله تعالى وصفاته، وعن ملائكته وصفاتهم وعبادتهم ومهامّهم، ونحو ذلك. قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}[البقرة: 2، 3]، قال الربيع بن أنس في تفسير قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}: «آمَنوا بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه، وآمنوا بالحياة بعد الموت، فهذا كله غيب»[12]. قال الطبري: «وأصل الغيب: كل ما غاب عنك من شيء»[13]. وقال ابن تيمية: «وأصل الإيمان هو الإيمان بالغيب، كما قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}[البقرة: 2، 3]، والغيب الذي يؤمن به: ما أَخبرَت به الرسل من الأمور العامة، ويدخل في ذلك الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وملائكته والجنة والنار فالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر يتضمن الإيمان بالغيب»[14]. وليس بعض أنواع تلك الغيوب بأولى بالاعتبار من غيرها، فهي تستوي في أنه لا سبيل للعلم بها إلا بإخبار الوحي الصادق. فيستوي الإخبار بالوقائع الماضية، والكوائن المستقبلة، ومخبآت الضمائر، والإخبار عن أسماء الله وصفاته، بل الأخرى أخطر، والجرأة عليها أشدُّ، ولا يُخبِر بها إلا رسولٌ معلَّمٌ. وكلُّ مَن تقوَّلوا على الله تعالى فيها من عند أنفسهم، أو حرَّفوا كتبهم لتُناسب أهواءهم وخرافاتهم؛ جاؤوا بمنكرٍ من القول وزورٍ، ونسبوا لله -عز وجل- ما لا ينسجم مع العلم الضروري والأوَّليات العقلية، ولا تهدي إليه فطرةٌ مستقيمةٌ، بعكس ما جاء به الوحي الصادق، فكان من هذه الجهة إخبارًا عن غيبٍ تحقَّق الشُّهودُ صدقَه، وهم ينتظرون تحقّق ما وعدهم تحقُّقه ووقوعه يوم يأتي تأويله. وهل جاء القرآن بأهمّ من تصحيح أوهام المشركين والوثنيين وأهل الكتاب عن الله تعالى، وضلالهم في أسمائه وصفاته؟ وإخبار بعض الفلاسفة ببعض صفات الإله لا يخلو -بأحسن الفروض- من تخليطٍ بين الحقّ والباطل، وبين ما يقبله العلم الضروريّ وما يردُّه. هذا إن تغاضينا عن حقيقة أنَّهم لم يَبتدِئُوا به ولم يبتكروه، وإنما استقَوه من مصدر سماويّ من بقايا آثار الوحي والنبوات. وهذا مشاهدٌ في كلام الصفوة منهم؛ حتى بعض فلاسفة المسلمين الذين استرشدوا بشيء من كلام الوحي الخاتم المهيمن، ولكنّهم إذ حكَّموا عقولهم فيه حادوا عن الصواب، ثم اعترفوا هم أنفسهم بذلك. وكذلك، فإنَّ إخباره عن مخلوقاتٍ كالملائكة وصفاتها مما لا يصادم المنطق، ولا يندّ عن مقبولات العقول، ولا يضادّ الحقائق العلمية المكتشفة، ولا يناقض بعضه بعضًا. وقد رأينا أرباب المعتقدات الباطلة والمحرّفة يأتون في هذا الباب بالعجب العجاب، فيدّعون وجود مخلوقات تحمل الكرة الأرضية على ظهورها، ووحوش مقدّسة، وضفادع في حجم المدن، ودوابّ في حجم الجبال، مما تشهد العلوم الحديثة بأنه لم يوجد فيما تملك هذه العلوم البتّ فيه[15]. قال الزرقاني: «أمّا غيب الحاضر فنريد به ما يتصل بالله تعالى والملائكة والجن والجنة والنار ونحو ذلك مما لم يكن للرسول -صلى الله عليه وسلم- سبيل إلى رؤيته ولا العلم به، فضلًا عن أن يتحدث عنه على هذا الوجه الواضح الذي أيّده ما جاء به الأنبياء وكتبهم -عليهم الصلاة والسلام-، وأمثلة هذا الضرب كثيرة في القرآن لا تحتاج إلى عرض ولا بيان»[16]. فإذا تأمّلت ذلك تبيّن لك أنَّ الإخبار عن الله تعالى وصفاته، وعن عالم الملائكة والجنّ والشياطين لا يقلُّ -إن لم يزد- في إعجازه عن الإخبار بالوقائع الماضية، والكوائن المستقبلة، ومخبآت الضمائر. وأمَّا الأنواع الأخرى من الغيوب، فالأمر فيها أوضح، قال الشيخ البوطي -رحمه الله وعفا عنه-: «ونقصد بالغيبيات تلك الإخبارات المتعلقة بأحداث مُقبِلة، والتي لم يُظهِرها بعدُ أيُّ شاهد من العقل أو الحسّ أو الدلائل التي تعوّد الإنسان على الاعتماد عليها. سواء تعلّقت هذه الأخبار بأحداث عامة، أو تعلقت بأُناس أو فئات بأعيانهم، أو تعلقت بنواميس كونية. ففي القرآن آيات كثيرة أخبرت عن أحداث ستقع في زمن مُقبِل، وفيه آيات تحدّثَت عن مصائر أشخاص بأعيانهم، وفيه نصوص تقرر قوانين ثابتة بالنسبة لكثير من المظاهر الكونية المحيطة بنا. وقد جاء الزمن فيما بعد بمصداق هذه الأخبار كلها، دون أن يكون عليها أيّ شاهد من قبل، من حس أو عقل أو أيّ بيّنة من البيّنات»[17]. فمن الآيات التي تحدّثَت عن مصائر أشخاص بأعيانهم سورة المسد، وما تضمنته من إخبار عن مستقبل أبي لهب وما سيؤول إليه حاله، فإذا تأمَّلت هذه السورة «علمت أنّ أحدًا من الناس لا يملك أن يطلق هذا الوعيد ويسجله في عنق الزمن وعلى صفحة الدهر. فما الذي يُدري هذا الإنسان أنّ أبا لهب سيثبت على كفره إلى الموت، وما هي ضمانات أنه لن يؤمن كما آمن الكثير ممّن هم أشد منه كفرًا وأقسى عنادًا؟ بل ما الذي يطمئن هذا الإنسان إلى أنّ أبا لهب لن ينهض به دافع التحدِّي عندما يسمع هذا الوعيد المسجل في حقه إلى أن يعلن إيمانه بالله ورسوله على الملأ، ليثبت بذلك أنه قد محا أسباب شقوته، وأن إخبار القرآن عن مصيره مخالف للواقع الذي تمّ. إنَّ بشرًا من الناس لن يستوثق من تقلبات الزمن، وما قد يطرأ من الأحوال والأفكار الجديدة على أبي لهب وأمثاله، ونظرًا لذلك فلن يجد من الجرأة ما يعتمد عليه في إطلاق مثل هذا الخبر الغيبي المخبوء في تلافيف المستقبل. ومثله قول الله -عزّ وجلّ- في حق الوليد بن المغيرة المخزومي: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ}[المدثر: 11- 28]. إنّ هذا الإخبار الغيبي: سأرهقه صعودًا... سأصليه سقر... ليس مما يتجرأ إنسان عليه؛ لأن الإنسان يفرض الاحتمالات المختلفة للزمن، والأطوار المفاجئة العجيبة للإنسان، وهو ليس مطّلعًا على ما قد يأتي به الغد أو ما قد يفاجأ به فكر الإنسان. ولكنه إخبار غيبيٌّ يصدر عمّن بيده مصير الزمن والمكان، وعمّن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وما ينتهي إليه حال أيّ إنسان»[18]. ومن الغيوب القرآنية آيات كثيرة تُعلِن في بيانات حاسمة عن نواميس كونية، وتخبر أنها ستظل قوانين نافذة حاكمة على الناس كلهم وعلى الطاقة العلمية كلها، مهما تنوعت وتقدمت صعدًا. فهي تستعصي على كل محاولات التغيير والتطوير، وذلك كقوله: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ}[يس: 68]، وقوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}[النساء: 78]، وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ}[المؤمنون: 18]، وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء: 85]، وقوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}[الزخرف: 32]. «تأمَّل في هذه التقارير القاطعة في أسلوبها، المطلقة عن قيود الزمان والمكان، المرسلة في قوة وإصرار إلى أعماق غيوب المستقبل... المترفعة عن محاولات التطوير والعلم، أيمكن أن ينطق بها بشر؟... وهل الإنسان نفسه إلّا ذرّة من جزئيات الكون، فهو لا يدري ما الذي يأتي به الغد أو يتطور إليه العلم، أو تمتد إليه الطاقة؟ إنّ أعظم العلماء شأنًا اليوم، يرى الحقيقة العلمية بعينيه، ثم يتحفظ مع ذلك في التعبير عنها، متوقعًا أن يُفاجَأ في كل يوم بقيود أو حدود جديدة لها. فأيّ رجل هذا الذي يستطيع أن ينهض من وراء القرون الغابرة، فيبعث إلى الدنيا كلها بتقرير علمي جازم يفصّل فيه أمر النواميس الكونية الراسخة، ويرفعها فوق هام البشرية مؤكدًا أنّ أيَّ طاقة -مهما كانت- لن تمتد إليها بأيِّ تغيير؟»[19]. كذلك فإن ما يُسمّيه بعضهم بالإعجاز العلمي يندرج تحت الإعجاز الغيبي؛ لأن الآيات التي تتضمن حقائق علمية صدقت عليها موازين العلوم والاكتشافات الحديثة، تتضمن حقائق غيبية في الوقت ذاته[20]. ولا تخلو سورةٌ من هذا النوع من الغيوب وإنْ قصرت، فسورة العصر مصرّحة بسُنّة مُطّردة: أنَّ الإنسان في خُسر؛ كقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}[التين: 4، 5]، أو هو إخبار بمصير الكفار يوم القيامة، قال ابن عاشور: «وهذا الخبر مراد به الحصول في المستقبل بقرينة مقام الإنذار والوعيد، أي: لفي خسر في الحياة الأبدية الآخرة فلا التفات إلى أحوال الناس في الحياة الدنيا»[21]، فهو غيبٌ أيضًا -كما ترى- على اختلاف أقوال المفسرين. كما أنَّها مُنبئة بما يكون للذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة من النعيم، فهو من الغيب كذلك. وسورة الهُمَزة فيها إخبار عن مصير الهُمَزة اللُّمَزة، وفيها تفصيل بعض وصف النار، وفيها إخبار بسُنّة ماضية: أنّ المال غير مخلِّدٍ صاحبَه. وعلى قول مَن جعلها في واحدٍ بعينه[22] ففيها إخبارٌ بأنَّه يموت كافرًا. وسورة الفيل فيها إخبار بحادثة ماضية، وإخبار بقدرة الله -عز وجل- وعزّته. وسورة قريش فيها إخبارٌ بعادتهم الماضية، وإخبار ببعض أفعال الله تعالى الدَّاعية للتأمُّل؛ كيف أطعمهم -على قلة الثمار في بلادهم- من كلّ ثمرات الأرض التي لا يتفق اجتماعها في البلاد الخصيبة، وكيف آمنهم في بلدهم وفي أسفارهم؛ لمكان الحرم عند العرب. وسورة الماعون فيها من الإخبار بالغيب: الإنباء ضمنًا بيوم الدِّين، والإنباء بمصير المُرائين، والكشف عن مخبآت ضمائرهم، وعن طباعهم القاضية بمستقرّ أفعالهم. ومما يُروى عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}[الماعون: 7]، قال: «لم يجئ أهلُها بعدُ»[23]. ولعلَّه قال ذلك؛ لأنه لم يكن سائرًا في العرب وقتها أن يمنعوا العارية اليسيرة؛ بل كان الكرم فيهم غالبًا. وقد تحقَّق فشوّ ذلك في الناس بعدُ، فمنعوا العاريةَ حتى صارت عند بعضهم عادة جارية. «وهذه سورة الكوثر ثلاث آيات قصار، وهي أقصر سورة في القرآن، وقد تضمّنت الإخبار عن مُغيَّـبَين: أحدهما الإخبار عن الكوثر وعِظَمه وسعته وكثرة أوانيه، وذلك يدل على أن الـمُصدِّقين به أكثر من أتباعِ سائر الرسل. والثاني: الإخبار عن الوليد بن المغيرة، وقد كان عند نزول الآية ذا مال وولد، على ما يقتضيه قوله الحق: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا}[المدثر: 11- 14]، ثم أهلك الله سبحانه ماله وولده، وانقطع نسله»[24]. وسورة الكافرون فيها من ذلك الشيء العظيم، ونحن نسوق تفسيرها بعبارة الإمام الطبري ليتّضح ذلك: «{قُلْ} يا محمد؛ لهؤلاء المشركين الذين سألوك عبادة آلهتهم سَنَةً، على أن يعبدوا إلهك سَنَةً: {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون: 1] بالله، {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}[الكافرون: 2] من الآلهة والأوثان الآن، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}[الكافرون: 3] الآن، {وَلَا أَنَا عَابِدٌ}[الكافرون: 4] فيما أستقبل {مَا عَبَدْتُمْ}[الكافرون: 4] فيما مضى، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ}[الكافرون: 5] فيما تستقبلون أبدًا {مَا أَعْبُدُ}[الكافرون: 5] أنا الآن، وفيما أستقبل. وإنما قيل ذلك كذلك؛ لأن الخطاب من الله كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أشخاص بأعيانهم من المشركين، قد علم أنهم لا يؤمنون أبدًا، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه، فأمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يؤيّسهم من الذي طمعوا فيه، وحدثوا به أنفسهم، وأن ذلك غير كائن منه ولا منهم، في وقت من الأوقات، وآيس نبي الله -صلى الله عليه وسلم- من الطمع في إيمانهم، ومن أن يفلحوا أبدًا، فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا، إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف، وهلك بعض قبل ذلك كافرًا»... ثم ساق من آثار السلف دلائل ذلك[25]. وسورة النصر فيها الوعد الذي تحقق بدخول الناس في دين الله أفواجًا، وفيها إعلام النبي -صلى الله عليه وسلم- بقُرب أجَله، وقد كان. وقد تقدَّم قريبًا ما في سورة المسد من ذلك. وسورة الإخلاص متمحّضة للإنباء ببعض أسماء الله -عز وجل- وصفاته تعالى كما هو معلوم، وهي مُصحِّحة لاعتقادات المشركين وضلالات أهل الكتاب في ذلك. وفي المعوذتين إخبارٌ بأسماء الله تعالى: رب الفلق، رب الناس، ملك الناس، إله الناس، الخالق، الحافظ عباده، المعيذ من استعاذ به، وإنباءٌ بخلقٍ من خلقه: الجنّ والشياطين، وصفة من صفة الشيطان: أنَّه يوسوس بالغفلة، ويخنس بالذكر؛ مما وُجِد تصديقه في الواقع؛ يعرفه كلُّ ذاكرٍ يقظٍ، وأنَّ للعين وللسِّحر حقيقةً وتأثيرًا، مما أقرَّ به منصفو الأطبّاء، وأنَّ الذكر والاستعاذة عمومًا -وبالمعوذات خصوصًا- تحُول دون وقوع تأثيرهما، وإنْ أصابَا العبدَ الذاكر فإنَّ أثرهما عليه لا يبلغ التسلُّطَ القاهر. وهذا أمرٌ واقعٌ نراه في أنفسنا وأهلينا، وفي الناس حولنا. فمَن أخبَر النبيَّ بهذه المغيّبات؟ ومِن أين له أنَّ هذه المعوّذات لها هذا التأثير الواقي والشافي بإذن الله؟ وبتأمُّل سائر قصار السُّوَرِ وتدبُّرها يستبين أنَّ أيًّا منها لا يخلو من معنًى أو أكثر من المعاني المندرجة تحت نوع من أنواع الأخبار بالغيب المذكورة. الوجه الرابع: وهو وجهٌ دقيقٌ ومنزع لطيف بحاجة إلى تأمُّل مُتأنٍّ. ذلك أنَّ بعضَ إعجازِ النَّظم القرآني مُتضمِّنٌ للإعجاز الغيبيّ، وبيان ذلك أنَّ حسن اختيار المفردة اللغوية وحسن توظيفها بما يتساوق مع المعنى المراد من أهمّ مُكوّنات إعجاز الأسلوب والنَّظْم، وهذه حقيقة يُقرّرها كلُّ المحققين ممن تكلّموا عن إعجاز النَّظم بطريقة أو بأخرى. والاختيار والتوظيف فرعٌ عن الإحاطة بكلِّ مفردات اللغة ومعانيها الدقيقة؛ ليتسنّى للبليغ إيقاعها في النَّظم على مراده، والنَّظر قاضٍ بأنَّ الإحاطة بدلالات المفردات اللغوية التي غيّبها الزمان، وتفانت في اتّساع ألفاظ اللغة، وذهبت بها بطون الأحياء؛ مستحيلٌ على غير نبيٍّ، من جهة تأييده بالوحي الخبير المحيط لا من جهة طَوْل مَلكاته البشرية المجرّدة. ولذا قال الإمام الشافعي: «ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا، وأكثرها ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسانٌ غيرُ نبيٍّ، ولكنه لا يذهب منه شيءٌ على عامتها، حتى لا يكون موجودًا فيها من يعرفه»[26]. قال ابن فارس مُعلّقًا: «وهذا كلام حريٌّ أن يكون صحيحًا، وما بلَغَنا أنّ أحدًا ممن مضى ادّعى حفظ اللغة كلها»[27]. وما كان خارج نطاق الإحاطة فهو غيبٌ، ومجيء النبي -صلى الله عليه وسلم- به من باب مجيئه بالأخبار عن المغيّبات سواءً بسواءٍ، فالمبنى واللفظ وما إليهما وعاءٌ، والمعنى مُوعًى، وكلاهما خارج القدرة البشرية، وتحدّيهم بالنَّظم من هذه الجهة كتحدِّيهم بالاطلاع على بعض مكنون الغيب. نعم، لقد كانوا في الجملة محيطين باللغة، وإن عجَز الآحاد عن جميعها، فعادت بالنسبة لآحادهم غيبًا، فإن اجتمعوا جميعهم في صعيد واحدٍ -وهذا غير واقع عمليًّا- ضُمِن لهم نظريًّا أنَّهم مُلِمُّون بجميع ألفاظها، ولكن لمّا توزّع علمهم بالألفاظ ومواقعها على آحادهم؛ استحال عليهم ضمان أنَّ كلَّ لفظةٍ واقعةٌ موقعها الذي لا تقوم به غيرها. ثم بالنَّظر إلى موضعها من النَّظم، أنَّى لهم المعنى القائم، والرباط الناظم؛ ليأتوا بمثل القرآن بلاغته؟ ومن ظفر بشيءٍ من ذلك وحَذقه غُيّبت عنه أشياء. فقد عاد عجزهم عن الإتيان بمثله إلى ما غُيِّب عنهم من جملة ذلك، وإن وقع لهم في تفاريقِ الكلام أبعاضه. وإنما يقدر عليه مَن أحاط بكلِّ شيء علمًا، وأحصى كلَّ شيءٍ عددًا. وإلى قريبٍ من هذا المعنى أشار الخطّابيّ بقوله: «وإنما تعذَّر على البشر الإتيان بمثله لأمور؛ منها أنَّ علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وبألفاظها التي هي ظروف المعاني والحوامل لها، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصّلوا باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله، وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنًى به قائم، ورباط لهما ناظم. وإذا تأمّلْتَ القرآن وجَدتَ هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئًا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ولا ترى نظمًا أحسن تأليفًا وأشدَّ تلاؤمًا وتشاكلًا من نظمه. وأمّا المعاني فلا خفاء على ذي عقل أنها هي التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها والترقِّي إلى أعلى درجات الفضل من نعوتها وصفاتها. وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام، فأمّا أن توجد مجموعة في نوع واحدٍ منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير، الذي أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كلَّ شيء عددًا»[28]. وقال ابن عطية: «والصحيح أنَّ الإتيان بمثل القرآن لم يكن قطُّ في قدرة أحد من المخلوقين، ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يصنع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده، ثم لا يزال ينقحها حولًا كاملًا، ثم تعطى لآخر نظيره فيأخذها بقريحة جامّة فيبدل فيها وينقح ثم لا تزال كذلك فيها مواضع للنظر والبدل. وكتاب الله لو نُزعت منه لفظة ثم أُدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد»[29]. الاستشكال الثالث: قال الراغب في معرض حديثه عن إعجاز القرآن: «ولا يتعلق [الإعجاز] أيضًا بمعانيه، فإن كثيرًا منها موجود في (الكتب المتقدمة)؛ ولذلك قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ}[الشعراء: 196]، وقال: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى}[طه: 133]، وما هو مُعجز فيه من جهة المعنى، كالإخبار بالغيب؛ فإعجازه ليس يرجع إلى القرآن بما هو قرآن، بل هو لكونه خبرًا بالغيب، وذلك سواء كونه النظم أو بغيره»[30]. وأوَّل ما يقع للمتأمِّل في هذا الكلام أنَّ القائلين به لا ينفون أنَّ الإخبار بالغيب معجزٌ، وإن كانوا يُفرِّقون بين الإعجاز بما يرجع للقرآن بما هو قرآن؛ يَعنون: لغته وأسلوبه ونظمه، أو قُل: لونَه الأدبيَّ، وبين ما هو راجعٌ للقرآن من جهة معناه. وهذا التفريق لا دليل عليه، بل هو تخصيصٌ بغير موجب كما بيَّنَّا مرارًا. وأمَّا كون الكُتب السماوية ستكون مُعجزةً من هذا الوجه؛ لأنها معانٍ من عند الله؛ فما المشكلة في أن تكون كذلك؟ وأين الدليل على أنَّ القرآن وحده هو المعجز من هذا الوجه؟ والحقيقة التي لا إخالُ مُؤمنًا بأنَّ الكُتب السماوية -في صورتها المنزلة على الأنبياء، قبل تحريفها- وحيٌ من عند الله؛ يتوقّف لحظة في الإقرار بأنَّها مُعجزة فعلًا، وأنها كانت مما آتاه الله تعالى أنبياءه من المعجزات التي آمَن عليها بعض البشر؛ ولذا قال تعالى في التوراة مثلًا: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[البقرة: 53]، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ}[المائدة: 44]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء: 48، 49]، فوصفها بأوصافٍ وصف بها القرآن، وقال بعد الآية الأخيرة متحدِّثًا عن القرآن: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}[الأنبياء: 50]. وهذا هو الشأن في الوحي الإلهيّ كله، إذ كله نورٌ ورُوحٌ وهدًى وفرقانٌ وبصائرُ وذِكرٌ؛ ولذا قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ * قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[القصص: 48، 49]، فقرن أيضًا في هذا المقام بين التوراة والقرآن. فالوحي الإلهيُّ كلُّه معجزٌ، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}[الأنعام: 93]، قاضٍ بمفهومه أنَّ مُدّعِيَ أنَّه سيُنزِل مثلَه كاذبٌ، إذ لا سبيل إليه، وهذه عامَّةٌ في كلِّ منزَلٍ. وأمَّا قول الأستاذ محمود شاكر: «ولا أظن أنّ قائلًا يستطيع أنْ يقول إنّ التوراة والإنجيل والزبور كتبٌ معجزة، بالمعنى المعروف في شأن إعجاز القرآن، من أجلِ أنها كتبٌ منزلة من عند الله»[31]، يعني: إعجاز النَّظم، فكذلك أقول: ولا أظنُّ أنَّ قائلًا يستطيع أن ينفي ذلك، كما لا يستطيع أن يقول لنا ما مُعجزة بعض الأنبياء الذين لم تُذكر مُعجزاتهم في القرآن؛ كهودٍ وشعيبٍ -عليهما السلام- مع اليقين بأنَّه كانت لهم آياتٌ ومعجزاتٌ. فكلُّ هذا مما طُوِي عنَّا غيبُه. على أنَّه لو كان لنا أن نُخمِّن -وهو خلاف الأَولى- فسنقول: إنَّ وحيَ الله تعالى إلى أنبيائه إمَّا أن يكون وحيًا بالمعنى، فيكون معناه من الله تعالى ولفظه وصياغته من النبيّ الموحَى به إليه، وإمَّا أن يكون معناه ولفظه كلاهما من الله تعالى؛ فإن كان الأوّل فالمعنى معجزٌ واللفظ غير مُعجزٍ قطعًا؛ من حيث كون الأول من عند الله تعالى، وكون الثاني من عند بشر، وإن كان الثاني فالأقرب أنَّ اللفظ والمعنى كليهما معجزان[32]، وأن النَّظم الذي نزل به الوحي حينئذ وقع على أفضل رُتَبِ النَّظم في اللغة الموحَى بها. فإن قلنا إنَّ التوراة والزبور والإنجيل -قبل أن يطولها التحريف- كان لفظها من عند الله تعالى، فلفظها مُعجِزٌ إذ كانت روحًا من أمر الله تعالى كالقرآن، ولكن لما طالتها أيدي الـمُحرّفين الفانين صارت إلى ما هي عليه، فدخلها من المعاني ما هو كفرٌ وخُرافةٌ[33]. وأمَّا الاستدلال في هذا المقام بحديث: «ما من الأنبياء نبيٌّ إلا قد أُعطي من الآيات ما مثلُه آمَن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُ وحيًا أوحَى اللهُ إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعًا يوم القيامة»[34]، فغير ناهض، وقد أوضحنا أنَّه لا يُفهم منه أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُعطَ غيره من الآيات، ولا أنَّ غيره من الأنبياء لم يُعطَوْا من الوحي ما آمن عليه البشر، وإنما المراد -والله أعلم- ما أشرنا إليه من أنَّ المدعوَّ بالقرآن لا يلزم أن يسمعه مُشافهةً من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا أن يكون عصريَّه، بل جُلُّ المخاطبين به ليسوا كذلك؛ لأنهم كانوا بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم إن الإيمان به يُهيئ المؤمن للوقوف على سائر آيات النبي -صلى الله عليه وسلم- الأخرى بخلاف القرآن. قال القرطبي: «فالقرآن معجزة نبينا -صلى الله عليه وسلم- الباقية بعده إلى يوم القيامة، ومُعجزة كل نبيٍّ انقرضت بانقراضه، أو دخلها التبديل والتغيير؛ كالتوراة والإنجيل»[35]. وما ذلك إلّا لأنّ الله تعالى تكفَّل بحفظه، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9]، بخلاف سائر الكتب السابقة؛ استحفظها البشر فضيّعوها. «والسرّ في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت لا التأبيد، وأن هذا القرآن جيء به مصدِّقًا لِما بين يديه من الكتب ومهيمنًا عليها، فكان جامعًا لِما فيها من الحقائق الثابتة، زائدًا عليها بما شاء الله زيادته، وكان سادًّا مسدَّها، ولم يكن شيء منها ليسدّ مسدَّه، فقضى الله أن يبقى حُجةً إلى قيام الساعة، وإذا قضى الله أمرًا يسَّر له أسبابه، وهو الحكيم العليم»[36]. الاستشكال الرابع: ومما قد يُعترَضُ به قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[هود: 13]، قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف يكون ما يأتون به مثله، وما يأتون به مفترًى وهذا غير مفترًى؟ قلتُ: معناه مثله في حسن البيان والنظم وإن كان مفترًى»[37]. فهذا يقتضي أنَّ التحدّي واقعٌ بحسن البيان وبالنَّظم فقط، وإن كان مفترًى. وقال الرازيّ: «اختلف الناس في الوجه الذي لأجله كان القرآن معجزًا، فقال بعضهم: هو الفصاحة، وقال بعضهم: هو الأسلوب، وقال ثالث: هو عدم التناقض، وقال رابع: هو اشتماله على العلوم الكثيرة، وقال خامس: هو الصرف، وقال سادس: هو اشتماله على الإخبار عن الغيوب. والمختار عندي وعند الأكثرين أنه معجز بسبب الفصاحة، واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية؛ لأنه لو كان وجه الإعجاز هو كثرة العلوم أو الإخبار عن الغيوب أو عدم التناقض لم يكن لقوله: {مُفْتَرَيَاتٍ} معنًى، أمّا إذا كان وجه الإعجاز هو الفصاحة صحّ ذلك لأنّ فصاحة الفصيح تظهر بالكلام، سواء كان الكلام صدقًا أو كذبًا»[38]. فيجاب عن ذلك بجوابين: الأول: أنَّ قوله: {مُفْتَرَيَاتٍ} ردٌّ على قولهم {افْتَرَاهُ} أي: إن كنتم تزعمون أنَّه من الممكن أن يُفترى من دون الله فيأتي على هذا الوصف من البلاغة وحسن الرصف ورُقِيّ المعاني وصِدق أخباره، فعارِضوه وائتوا بمثله مفترًى. ومعنى افترائه أنَّه من عند غير الله، كما دلَّ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[يونس: 37]، فيصير معنى الكلام: إن كان محمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- ليس نبيًّا، وكان قرآنه من عند غير الله كما تزعمون، وكان على هذا الوصف الذي تعرفون، والرصف الذي تسمعون، فجيئوا بمثله. فالآية معناها معنى نظائرها؛ كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور: 33، 34]، وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[يونس: 38]. الثاني: ولو سلَّمنا بأنَّ المتحدَّى به في هذا الموضع هو النَّظم فحسب فإنه يكون من قبيل التنزُّل أو التنويع من المتحدِّي، وهو لا يعني الترك والإضراب -كما بيَّنَّا- بل هو أبلغ في إفحامه، فإذ لم يستطع أن يأتي بسورة تماثله في كلّ صفاته، ومنها صِدق إخباره بالغيب، فقد رضينا منه أن يأتي بعشر سورٍ في مثل نظمه وبلاغته وإن كان معناها مفترًى. وإلى نحو هذا ذهب جماعة من المفسرين، قال السمعانيّ: «فإن قيل: قد قال في سورة يونس: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}[يونس: 38]، وقد عجزوا عن أن يأتوا بسورة، فكيف يصحُّ أن يقول لهم: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ}[هود: 13]، وما هذا إلا كرجل يقول لغيره: أعطني درهمًا، فيعجز عنه فيقول: أعطني عشرة دراهم، وأيضًا فإنه قال: {مُفْتَرَيَاتٍ} وهل يجوز أن يأمر الله تعالى أن يأتوا بالافتراء؟ الجواب عنه: منهم مَن قال: إن سورة هود نزلت أوّلًا، وإن كانت في الترتيب آخرًا، وأنكر المبرِّد هذا، وقال: لا؛ بل نزلت سورة يونس أوّلًا. وأجاب عن السؤال وقال: معنى قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} في سورة يونس يعني مثله في الخبر عن الغيب والأحكام، والوعد والوعيد، فعجزوا، فقال لهم في سورة هود: إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثل القرآن في أخباره وأحكامه ووعده ووعيده، {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} يعني: مختلَقات من غير خبرٍ عن غيب، ولا حكم ولا وعد ولا وعيد، وإنما هي مجرد البلاغة. وهذا جواب صحيح. وأمّا السؤال الثاني فالجواب؛ قلنا: الله -سبحانه وتعالى- لم يأمرهم بالافتراء، وإنما تحدَّى، ومعناه: أنّ إصراركم في تكذيب محمد وزعمكم أنه افترى القرآن يوجب عليكم أن تأتوا بمثله افتراءً، ليظهر كَذِبُ محمدٍ كما زعمتموه؛ فلمّا عجزتم دلَّ أنه صادق»[39]. قلتُ: ويلزم من تصحيحه لهذا الوجه قبول أنَّ التنزُّل والتنويع لا يعني الإضراب، بدليل عودته في سورة البقرة المتأخرة النزول باتفاق إلى التحدي بسورة من غير أن يقيدها بالافتراء: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 23]. وقال ابن عطية: «ووقع التحدي في هذه الآية بِعَشْرٍ؛ لأنه قيدها بالافتراء، فوسَّع عليهم في القَدْر لتقوم الحجة غاية القيام؛ إذ قد عَجَّزَهم في غير هذه الآية بسورةٍ مِن مِثلهِ دون تقييد، فهذه مماثلة تامّة في غيوب القرآن ومعانيه الحجة، ونظمه ووعده ووعيده، وعُجِّزُوا في هذه الآية بأنْ قيل لهم: عارضوا القَدْر منه بعشرِ أمثاله في التقدير، والغرض واحد، واجعلوه مفترًى لا يبقى لكم إلا نظمه، فهذه غاية التوسعة. وليس المعنى: عارضوا عشر سور بعشر؛ لأن هذه إنما كانت تجيء معارضة سورة بسورة مفتراة، ولا يُبالي عن تقديم نزول هذه على هذه. ويؤيد هذا النظر أن التكليف في آية البقرة إنما هو بسبب الريب، ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامّة، وفي هذه الآية إنما التكليف بسبب قولهم: {افْتَرَاهُ}، فكُلِّفوا نحو ما قالوا، ولا يطَّرد هذا في آية يونس. وقال بعض الناس: هذه مقدَّمة في النزول على تلك، ولا يصح أن يعجزوا في واحدة فيُكلَّفوا عشرًا، والتكليفان سواء. ولا يصحُّ أن تكون السورة الواحدة إلا مفتراة، وآية سورة يونس في تكليف سورة متركبة على قولهم: {افْتَرَاهُ}، وكذلك آية البقرة، وإنما رَيْـبُهم بأنّ القرآن مفترى. قال القاضي أبو محمد: وقائل هذا القول لم يلحظ الفرق بين التكليفين في كمال المماثلة مرة، ووقوفها على النظم مرة»[40]. خاتمة: الذي يُخلَص إليه في هذه القضية أنَّ القرآن الكريم آيةٌ معجزةٌ من كلِّ وجهٍ يمتُّ إلى معنًى محتمَلٍ في النَّظر السديد من معاني صفاته المبيّنة والمستنبطة، وأنَّ المتحدَّى به أن تأتي أمَّة الدعوة إنسها وجنّها على اجتماعهم وتظاهرهم بسورة من مثله من كلِّ وجهٍ دون تقييد أو تخصيص، بل هي مماثلة تامَّة في بيانه وصدقه وحُكمه وحكمته وتفصيله وائتلافه وهدايته ونورانيته وروحانيته ورحمته وعصمته وعزّته وعلوّه وهيمنته إلى غير ذلك من صفاته ومُضمَّناته، ويدخل فيها ما أخبر به من أنواع الغيوب التي صدَّقها العلمُ الضروري والعلم النَّظري، وأيدتها الفِطَرُ السلمية، والألباب القويمة. وفي تقدير الباحث؛ فإنَّ التأسيس على هذا التأصيلِ مهمٌّ جدًّا للوصول إلى معايير موضوعية صادقةٍ تُحاكَم إليها أوجه الإعجاز التي يقول بها كثيرٌ من الباحثين، لا سيّما المعاصرين، وتُمتحَنُ بها صراحةُ نَسبِها إلى إعجاز القرآن الكريم، وإلى القدر المتحدَّى به منه. وبعدُ، فما كان من توفيق ومن إصابة حقٍّ فمحض مَنِّ الكريم -عز وجل-، وما كان من خطأ أو سهوٍ فمنِّي ومن نفسي، وهو المرجوّ أن يُـنِيل الأجرين، ويُجزل العطاء في الدَّارين. وصلِّ اللهم على سيّد الثقلين. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * موقع الألوكة: (https://2u.pw/FhyLw). [1] المقالة الأولى: (هل في القرآن إعجاز غيبي؟) على هذا الرابط: tafsir.net/article/5326 المقالة الثانية: (هل يدخل الإخبار بالمغيّبات في جملة المتحدّى به؟) على هذا الرابط: tafsir.net/article/5327. [2] مداخل إعجاز القرآن الكريم، للأستاذ محمود شاكر (ص153، 154). [3] انظر: جامع البيان، للطبري (1/ 394-395)، وبحر العلوم، للسمرقندي (1/ 33). [4] مباحث في إعجاز القرآن، للدكتور مصطفى مسلم (ص30). [5] بيان إعجاز القرآن للخطابي ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن (ص23، 24). وانظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/ 95- 96). [6] الإعجاز العلمي إلى أين؟ للدكتور مساعد الطيار، دار ابن الجوزي، السعودية، ط2، 1433هـ (ص13). [7] شرح مقدمة التسهيل (ص278، 279). [8] انظر: تفسير مقاتل بن سليمان (4/ 492- 493). والمستدرك على الصحيحين، للحاكم (ح3872)، ودلائل النبوة، لأبي نعيم (ص234 برقم 186). [9] أحكام القرآن، لابن الفرس، دار ابن حزم، بيروت، تحقيق الجزء الأول: د/ طه بن عليّ بو سريح، ط1، 1427هـ= 2006م (1/ 42). [10] فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب، للطيبي (8/ 31). [11] مِن أجمعِ مَن تحدّث عنها: الزرقاني تحت الوجه السابع من وجوه إعجاز القرآن عنده، مناهل العرفان (2/ 367- 389). وانظر كذلك: النبأ العظيم، للدكتور دراز، ط دار طيبة، الرياض، بعناية عبد الحميد الدخاخني، ط2، 1421هـ= 2000م (ص39- 64). [12] جامع البيان، للطبري (1/ 242). [13] جامع البيان، للطبري (1/ 242). [14] مجموع الفتاوى، لابن تيمية، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، نشرة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، 1416هـ= 1995م (13/ 233). [15] انظر الفصل الرابع: (الكائنات الخرافية في الكتاب المقدّس) ضمن كتاب: العلم وحقائقه بين سلامة القرآن الكريم، وأخطاء التوراة والإنجيل، للدكتور سامي عامري (ص559- 577). [16] مناهل العرفان، للزرقاني (2/ 368). [17] من روائع القرآن، للدكتور محمد سعيد البوطي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1420هـ= 1999م (ص148). [18] من روائع القرآن، للبوطي (ص150). [19] من روائع القرآن، للبوطي (ص152). [20] انظر: من روائع القرآن، للبوطي (ص153)، والإعجاز العلمي إلى أين؟ للطيار (ص19). [21] التحرير والتنوير، لابن عاشور (30/ 532). [22] انظر الخلاف في ذلك: جامع البيان، للطبري (24/ 619- 620). [23] جامع البيان، للطبري (24/ 676). [24] نقله القرطبي عن ابن الحصار، انظر: الجامع لأحكام القرآن (1/ 74). [25] جامع البيان، للطبري (24/ 702- 704). [26] الرسالة، للإمام الشافعي، تحقيق: الشيخ أحمد شاكر، نشرة مكتبة الحلبي، مصر، ط1، 1358هـ= 1940م (1/ 34). [27] الصاحبي في فقه اللغة العربية، لابن فارس، دار الكتب العلمية، ط1، 1418هـ= 1997م (ص24). [28] بيان إعجاز القرآن، للخطابي (ص26، 27). [29] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1422هـ (1/ 52). [30] تفسير الراغب الأصفهاني، تحقيق: د. محمد عبد العزيز بسيوني، نشرة كلية الآداب - جامعة طنطا، ط1، 1420هـ= 1999م (1/ 44). وانظر: مداخل إعجاز القرآن الكريم، للأستاذ شاكر (ص154)، والإعجاز العلمي إلى أين؟ للدكتور الطيار (ص19، 20). [31] مداخل إعجاز القرآن الكريم، للأستاذ شاكر (ص154). [32] وإنما قلتُ: «الأقرب» ولم أقطع به؛ لمكان الخلاف المعلوم في الحديث القدسيّ: هل لفظه من الله -عز وجل- أم من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإن كنتُ أُرجّح الثاني، لأسباب ليس هذا محلَّ البسط بذكرها. وانظر بعضها في: النبأ العظيم، للدكتور دراز (11- 13). [33] ولعل مما يُستروح به لذلك أنَّ بعض تلك الكتب كان يُقرأ ويُرتّل كالقرآن، يشهد له قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «خُفِّفَ على داود -عليه السلام- القرآن، فكان يأمر بدوابّه فتُسرج، فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابّه». أخرجه البخاري في صحيحه (ح3417). قال البيضاوي: «والمراد به: الزبور، ولعله سمّاه قرآنًا لما كان في قراءته من الإعجاز، كما سُمّي القرآن؛ لما في لفظه من الإعجاز». تحفة الأبرار شرح مصابيح السُّنة، تحقيق: لجنة مختصة بإشراف نور الدين طالب، نشرة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، 1433هـ= 2012م (3/ 453). وقطع به التوربشْتي، قال: «وإنما أطلق القرآن؛ لأنه قصد به إعجازه من طريق القراءة». انظر: الكواكب الدراري، للكرماني (14/ 65)، واللامع الصبيح، للبرْماوي (9/ 527)، وعمدة القاري، للبدر العيني (16/ 7). وقال ابن حجر: «وقراءة كل نبيّ تطلق على كتابه الذي أُوحِي إليه، وإنما سمّاه قرآنًا للإشارة إلى وقوع المعجزة به كوقوع المعجزة بالقرآن؛ أشار إليه صاحب المصابيح». فتح الباري (6/ 455). فقد رأيتَ أنَّ عددًا من جِلّة علماء الملة قد قالوا بما ظنَّ الأستاذ شاكر أنَّ أحدًا لن يستطيع أن يقول به. [34] أخرجه البخاري ومسلم. وقد تقدّم تخريجه. [35] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (1/ 72). [36] النبأ العظيم، للدكتور دراز، دار طيبة، الرياض، ط2، 1421هـ= 2000م (ص7، 9). [37] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للزمخشري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1407هـ (2/ 383). [38] مفاتيح الغيب، للرازي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1420هـ (17/ 325). [39] تفسير القرآن، للسمعاني، تحقيق: ياسر بن إبراهيم وغنيم بن عباس بن غنيم، دار الوطن، الرياض، ط1، 1418هـ= 1997م (2/ 417). [40] المحرر الوجيز، لابن عطية (3/ 155). وانظر ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل، لأبي جعفر الغرناطي (1/ 27)، ولباب التأويل في معاني التنزيل، للخازن (2/ 476).
    0
  • الإعجاز الغيبي في القرآن بين الإثبات والنفي (2-3)*
    هل يدخل الإخبار بالمغيّبات في جملة المتحدّى به؟

    الكاتب : محمود عبد الجليل روزن

    خلصنا في المقالة الأولى من هذه السلسلة[1] إلى أنَّ الإعجاز الغيبيّ في القرآن الكريم حقيقة لا تُنكَر، ولا ينتصبُ للمماري فيها صراطٌ إلا على ظهر المماحكة اللفظيّة، والمنازعة في الاسم لا في الـمُسمَّى.

    وفي هذا المقال الثاني من السلسلة نتوجَّه للإجابة عن السؤال الشائك: هل يدخل الإخبار بالمغيّبات في جملة المتحدَّى به؟

    إنَّ منشأ التحدّي بالقرآن أنَّ المكذّبين يشكّكون في الآيات، مع علمهم بأنَّهم لا يقدرون على المجيء بمثلها، فينسبون ذلك إلى قُوى أخرى غير الله تعالى، كأنْ ينسبوها إلى السِّحر الذي يُستعان عليه بالجنِّ، كما في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}[المائدة: 110]، وكما في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}[النمل: 13]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

    وادَّعى الكفارُ أن القرآن قولُ شاعر، وقولُ كاهن، وأنَّه سحرٌ يؤثَر. ولـمَّا كان الشعرُ صنعتَهم، وكان السِّحرُ والكهانةُ غيرَ خارجَين عن طَوْق تعاطي البشر؛ تحدَّاهم الله -عز وجل- أن يأتوا بمثله، فكأنَّه يقول لهم: إن كان شاعرًا فما يمنعكم -وأنتم الشعراء- أن تقولوا مثله؟ وإن كان كاهنًا أو ساحرًا فما أساطين السحرة والكُهّان منكم ببعيدٍ، فلتستعينوا بمَن شئتم منهم من الجنّ والإنس، ولتستعينوا بمَن شئتم وبمَن استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين، فلتأتوا بمثله. فإن لم تفعلوا -ولن تفعلوا- فاعلموا أنَّما أُنزل من عند الله -عز وجل-، وأنَّ الجائي به رسولٌ صادقٌ مُصدَّق.

    والقرآنُ الكريمُ هو الرسالةُ الخاتمةُ إلى الإنس والجنّ، وعددُ مَن هم مخاطبون به ممن لم يروا الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يشاهدوا سائرَ آياته هم السواد الأعظم من أمَّة دعوته -صلى الله عليه وسلم-، وما معاصروه -صلى الله عليه وسلم- في جملة أمّة دعوته إلا أقلّ القليل، فلم يَبقَ لهؤلاءِ من براهين صدق نبوته إلا القرآن الكريم، وأمورٌ مُتفرّقات مردُّ اعتبار حُجِّيتها والتصديق بإعجازها إلى الإيمان بالقرآن الكريم، فصار القرآن الكريم من هذا الوجه جماع آياته وبراهين نبوته، وإلى ذلك أشار قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من الأنبياء من نبيٍّ إلا قد أُعطي من الآيات ما مثلُه آمَنَ عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُ وحيًا أوحى اللهُ إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعًا يوم القيامة»[2].

    ولا يُفهم من ذلك أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُعطَ غيره من الآيات، ولا أنَّ غيره من الأنبياء لم يُعطَوْا من الوحي ما آمن عليه البشر، وإنما المراد -والله أعلم- ما أشرنا إليه من أنَّ القرآن لا يلزم أن يسمعه المدعوُّ إليه مُشافهةً من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا أن يكون عصريَّه، بل جُلُّ المخاطبين به ليسوا كذلك؛ لأنهم جاؤوا بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم إن الإيمان به يُهيئ المؤمن للوقوف على سائر آيات النبي -صلى الله عليه وسلم- الأخرى بخلاف القرآن. وأمّا سائر الرسل -صلوات الله عليهم- كانت رسالتهم تنقطع بموتهم، فيُرسِل الله -عز وجل- للناس الأنبياء بالوحي مصدقًا لما بين يديه من الوحي ومبيّنًا وناسخًا، فلم ينقطع الوحي بموت المتقدِّمين. ولما شاء الله تعالى أن تستمرّ شريعة موسى -عليه السلام- وقتًا طويلًا أرسل النبيِّين يحكمون بالتوراة وعقّبهم الربّانيون والأحبار، ثم خلفهم مَن حرَّف وبدَّل حتّى جاء عيسى -عليه السلام- بالإنجيل مصدقًا لما بين يديه من التوراة، فأحلَّ لهم بعض الذي حُرِّمَ عليهم، وردَّهم إلى الأصل الأوّل.

    ولما كان تقدير الله تعالى أن تُختم النبوات بمحمد -صلى الله عليه وسلم- تكفَّل بحفظ القرآن من التحريف ليظلَّ هو الرسالة الخاتمة إلى أن يُرفع من الصدور والسطور، فكان هو الآية التي تقوم بها الحُجَّة على المخاطبين به من الإنس والجنّ إلى يوم القيامة؛ ولذا رجا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون أكثر الأنبياء تابعًا.

    ولما كان القرآن في ظاهره كلامًا؛ فقد يتبادر إلى ذهن المتشكّك أنه مما لا يُعجِز أن يؤتى بمثله، وهذا واقع في القديم وفي الحديث، قال تعالى حاكيًا عن بعض الكفّار: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}[الأنفال: 31].

    فأخضعهم بأنْ طالَبهم أن يأتوا بمثله، فقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور: 33، 34]، ودعا المخاطبين به من الإنس والجنّ إلى التمالؤ على ذلك، ورخّص لهم في الاستعانة بمن شاؤوا والتظاهر بهم عليه فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء: 88]، وقال: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 23]، وقال: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[يونس: 38، هود: 13]، فانقطعوا وأُبلِسوا واستبان عجزهم لمن كان عنده مسكة من عقل أو أثارة من علم.

    فهؤلاء هم المتحدَّوْن بالقرآن في الحقيقة: عموم المخاطبين به من الإنس والجنِّ، لا العرب فقط أو الإنس فقط، كما ذهب إليه بعضهم[3]. ولا يزال التحدّي قائمًا إلى أن يُرفع القرآن من السطور والصدور؛ إيذانًا بوشك قيام الساعة.

    فما المتحدَّى به حقيقة؟ أن يأتوا بكلام يُساميه في النَّظم والبلاغة فقط؟ أم تحدَّاهم أن يأتوا بكلامٍ مثله من كلِّ وجهٍ؟

    ظاهر قوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور: 34]، وقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء: 88]، يدلُّ على المماثلة بين القرآن وبين المطلوب الإتيان به من كلّ وجهٍ، سواء في صفاته المصرّح بها، أو في صفاته المستنبطة بالنَّظر والاستقراء. فأمَّا صفاته المصرّح بها فإنها نعوتٌ لم يتركها الله -عز وجل- لتخمينٍ أو حَدْسٍ، وإنما بيَّن في القرآن صفة القرآن، كما بيّن أسماءَه -عز وجل- وصفاتِه، وكما أنَّ أسماء الله تعالى وأوصافه ذاتُ معانٍ ومدلولات صادقة، فكذلك صفات القرآن الكريم ذات معانٍ ومدلولات صادقة، وليست كأسماء البشر، فقد يتسمّى أحدهم (أشرف) أو (أكرم) وليس لهما من الشرف والكرم شروى نقير، وليست كذلك أسماء الله وصفاته، ولا أسماء القرآن وصفاته.

    فوصف اللهُ -عز وجل- القرآنَ بأنه حقٌّ مبين، وأنه بيانٌ وتبيانٌ وعربيٌّ وهُدًى وبصائرُ ونورٌ ورُوح ورحمة وفرقانٌ، وعليٌّ ومجيدٌ وعزيزٌ وحكيم وحِكمةٌ وحُكمًا وذكرى وذكرًا وبُشرى وعصمة وشفاء وأنه صدق وتصديق لِما بين يديه من الكتاب ومهيمنٌ عليه... وغير ذلك من الأوصاف ذات المدلولات المعلومة من لغة العرب، والمفسّرة في مواضعها من كتب التفسير بأوضح بيانٍ.

    وإنما عجز البشر عن الإتيان بمثله؛ لاستحالة أن يأتوا بكلامٍ متحقق بتلك الأوصاف الجليلة، فكما أنَّهم عاجزون عن إحياء الموتى بردّ الروح إليهم، فإنهم عاجزون عن الإتيان بمثل كلامٍ وَصَفَه الله تعالى بأنَّه روحٌ ونورٌ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}[الشورى: 52]، فالفرق بين القرآن وبين كلام سائر المخلوقين؛ كالفرق بين الحيّ الذي لا يموت سبحانه، وبين سائر خلقه الفانين.

    ولعلَّ أوّل مَن وضع يده على شيءٍ من هذا المعنى -وإن لم يُحكم عليه قبضته- الإمامُ الخطّابي؛ إذ يقول: «قلتُ في إعجاز القرآن وجهًا آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذُّ من آحادهم، وذلك صنيعُه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنَّك لا تسمع كلامًا غير القرآن منظومًا ولا منثورًا، إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظَّها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتغشّاها الخوف والفرَق، تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدوّ للرسول -صلى الله عليه وسلم- من رجال العرب وفتّاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقَتْله فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعَت في مسامعهم أن يتحوّلوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة، وكفرهم إيمانًا»[4].

    وما هذه الأمور إلا آثارٌ من مدلولات صفات القرآن، فهو الموصوف بأنه بشيرٌ نذيرٌ موعظةٌ عَلِيٌّ حكيمٌ عزيزٌ مهيمنٌ رحمةٌ هُدًى بصائرُ عصمةٌ شفاءٌ لما في الصدور، ذكرٌ تقشعر منه الجلود، وتلين إليه القلوب والجلود، لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الردّ... وغير ذلك.

    فكلامٌ هذه صفتُه لا بّد أن يقع لتاليه ما ذكره الخطّابيّ، وأكَّده غيره، وقد سُئل بندار الفارسي عن موضع الإعجاز من القرآن فقال: «هذه مسألة فيها حَيفٌ على المفتي، وذلك أنه شبيه بقولك: ما موضع الإنسان من الإنسان، فليس للإنسان موضع من الإنسان؛ بل متى أشرت إلى جملته فقد حققته ودللت على ذاته، كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شيء منه إلا وكان ذلك المعنى آية في نفسه، ومعجزة لمحاوله، وهدى لقائله، وليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كلامه وأسراره في كتابه فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده»[5].

    وهذا القاضي عياض يعدُّ من وجوه إعجاز القرآن «الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله وإنافة خطره وهى على المكذبين به أعظم حتى كانوا يستثقلون سماعه ويزيدهم نفورًا كما قال تعالى، ويودون انقطاعه لكراهتهم له... وأمّا المؤمن فلا تزال روعتُه به وهيبتُه إياه مع تلاوته تُوليه انجذابًا وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه وتصديقه به. قال الله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الزمر: 23]، وقال: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر: 21]. ويدلُّ على أنَّ هذا شيءٌ خُصَّ به، أنه يَعتري مَن لا يَفهم معانيه ولا يعلم تفاسيره، كما رُوي عن نصرانيّ أنه مَرّ بقارئٍ فوقف يبكي، فقيل له: مِمَّ بكيت؟ قال: للشجا والنظم. وهذه الروعة قد اعترت جماعة قبل الإسلام وبعده، فمنهم مَن أسلم لها لأول وهلة وآمن به، ومنهم من كفر، فحُكي في الصحيح عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في المغرب بالطور، فلمّا بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ}[الطور: 35- 37] كاد قلبي أن يطير للإسلام. وفي رواية: وذلك أول ما وقر الإسلام في قلبي...»[6].

    ثم قال القاضي: «قد عدَّ جماعة من الأئمة ومقلِّدي الأمة في إعجازه وجوهًا كثيرة؛ منها: أنّ قارئه لا يمَلُّه وسامعَه لا يمُجُّه بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة وترديده يوجب له محبة، لا يزال غضًّا طريًّا، وغيره من الكلام ولو بلغ في الحسن والبلاغة مبلغه يُمَلّ مع الترديد، ويُعادَى إذا أُعيد، وكتابنا يُستلَذُّ به في الخلوات ويؤنس بتلاوته في الأزمات، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك؛ حتى أحدث أصحابها لها لحونًا وطرقًا يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها، ولهذا وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن بأنه لا يخلَق على كثرة الردّ، ولا تنقضي عِبَرُه ولا تفنى عجائبه، هو الفصل ليس بالهزل، لا يشبع منه العلماء ولا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة، هو الذي لم تنتهِ الجن حين سمعته أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}[الجن: 1]»[7].

    وقال ابن كثير: «ومَن تدبَّر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونًا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى، قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[هود: 1]، فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف، فكلٌّ مِنْ لفظه ومعناه فصيح لا يجارى ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية وآتية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء، وأمر بكل خير، ونهى عن كل شر كما قال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا}[الأنعام: 115]، أي: صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأحكام، فكُلُّه حقٌّ وصدق وعدل وهدًى، ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء، كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر: إنّ أعذبَه أكذبُه، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معيّن أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع، أو شيء من المشاهدات المتعيّنة التي لا تفيد شيئًا إلا قدرة المتكلم المعبِّر على التعبير عن الشيء الخفيّ أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد، وسائرها هذر لا طائل تحته.

    وأمّا القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلًا وإجمالًا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه إنْ تأمّلْتَ أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا، وكلما تكرر حَلا وعَلا، لا يخلق عن كثرة الردّ، ولا يملّ منه العلماء، وإنْ أخَذَ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصُّم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات؟ وإنْ وَعَدَ أتى بما يفتح القلوب والآذان، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن، كما قال في الترغيب: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[السجدة: 17]، وقال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[الزخرف: 71]، وقال في الترهيب: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا}[الإسراء: 68]، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}[الملك: 16، 17]، وقال في الزجر: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ}[العنكبوت: 40]، وقال في الوعظ: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}[الشعراء: 205- 207]، إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي، اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء؛ كما قال ابن مسعود وغيره من السلف: إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأوعها سمعك؛ فإنه خيرٌ ما يأمر به أو شرٌّ ينهى عنه؛ ولهذا قال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[الأعراف: 157] الآية، وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال، وفي وصف الجنة والنار، وما أعدّ الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم؛ بشَّرت به وحذّرت وأنذرت، ودَعَت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، وزهّدت في الدنيا ورغّبت في الأخرى، وثـبّـتت على الطريقة المثلى، وهَدَت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم، ونفَت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم»[8].

    ويقول الدكتور مصطفى مسلم: «ولا شك أن القول بالصَّرْفة كان نتيجة للتفكير الفلسفي المجرد عن نور الهداية، حيث نظر القائلون بها إلى أن القرآن مؤلَّف من كلمات عربية معروفة باستطاعة البلغاء أن يأتوا بمثلها، فإذا عرفت المفردات أمكن التوصل إلى تركيبها، وإذا عرفت التراكيب أمكن تأليفها، وفاتهم أن المفردات والتراكيب تحتاج إلى الصبغة الإلهية واللمسة الربانية حتى تضفي عليها الإشراق والحياة فيسري فيها الروح فتكون معجزة: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}[الشورى: 52، 53]. إنّ مثل هؤلاء كمثل الطبيعيين اليوم ينظرون إلى الكائنات الحية وعلى رأسها الإنسان، ويحاولون تحليلها إلى المواد الأولية التي تتكوّن منها. يحاولون بواسطة هذه التحليلات معرفة سر الحياة وإيجاد إنسان أو حيوان أو نبات في المعمل. لقد فات هؤلاء أيضًا أن النفخة الإلهية هي سر الحياة، فلولا هذه النفخة الإلهية لما تكوّنت الحياة في المواد الأولية، ولولا الصبغة الربانية لما كانت الكلمات العربية معجزة»[9].

    ثم إذا ذهبنا نُحلّل مضمون الخطاب القرآنيّ اتّضحت لنا صفاتٌ أخرى؛ منها أنَّه متضمّن لقصص الأولين لا تكاد سورة تخلو منه، وقد وصف الله قصصه بأنَّه القصصُ الحقُّ، كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران: 62]، فهو القصص الحقُّ على الحقيقة، وكلُّ ما عَدَاه يدخله الكذب لا محالة، كما وصفه بأنَّه أحسن القصص كما قال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف: 1- 3]، فكلُّ ما عدَاه نازلٌ عن رتبته في الحسن لا محالة.

    وبهذا، يستبين أنَّ مَن رام أن يُعارِض القرآن فعليه -إن كان صادقًا- أن يأتي بمثله في صفاته المصرّح بها، ومنها -وليس كلها- نظمُه وبلاغتُه وبيانُه العربيّ، وأن يأتي بمثله في متضمَّناته ومشتملاته، ومنها الأخبار الغيبية، فإن لم يفعل لم يكن آتيًا بمثله.

    وإذن، فحقيقة التحدّي بالإخبار بالغيب أن يأتوا بكلامٍ على غرار القرآن في اشتماله على ذكر الغيب، وعن الأخبار الغيبية التي يثبت صدقها بنحو ثبوت صدق أخبار القرآن ما كان منها عن الماضي وما كان منها إنباءً بالمستقبل، وما كان منها كشفًا للسرائر، وإنباءً في الضمائر، وما كان منها إنباءً بالسنن السائرة الـمُطَّردة التي لا يزيدها مرّ الزمان إلا تأكُّدًا واستقرارًا، فلن تجد لسنّة الله تبديلًا ولا تحويلًا.

    وليس للمتحدَّى إلا أن يكون مُتصوِّرًا لما هو مطلوبٌ منه، ولا معنى لحدّ بعضهم التحدِّي بأن يكون من جنس ما برع فيه الـمُتحدَّى، وإن كان التحدّي بذلك أبلغَ.

    فإذا أصرَّ بعضهم على أن يكون الـمُتحدَّى به من جنس ما برع فيه المتحدَّوْن فهذا دليلٌ آخر على أنَّ الأمر المتحدَّى به في القرآن الكريم غير محصور في وجهٍ واحدٍ، ذلك أنَّ المتحدَّيْن بالقرآن عموم أمة الدعوة المحمدية من الإنس والجنّ، فناسب أن يجدَ كلٌّ منهم في المتحدَّى به شيئًا مما برع هو فيه، واختّص بحذقه. فتأمل!

    ويصحُّ لنا -حينئذ- الاستئناس لكون الإخبار بالغيب داخلًا في شرط التحدّي؛ بأنَّه أدخل الجنَّ في المتحدَّيْن به، وبراعة الجنّ إنما تكمن في ادّعائهم علم الغيب، بما كانوا يسترقون من السمع إلى خبر السماء، فيخطفون الخطفة ويبنون عليها مائة كذبة. وقد بُكِّتوا بدعواهم، فقال تعالى في شأن سليمان: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}[سبأ: 14]، وهو ما حرص مؤمنو الجنّ على الإقرار به، كما قال تعالى حكايةً عنهم: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}[الجن: 10]، ثم أكّدت السورة الكريمة ذلك: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا * عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}[الجن: 25- 28].

    فالتصريحُ بدخولهم في جملة المتحدَّيْن إشارةٌ إلى أنَّ ما ادَّعوه لأنفسهم، وادَّعاه لهم رجال من الإنس، من قدرتهم على علم الغيب؛ ليس بمسعفهم للإتيان بمثله، فليفعلوا إن كانوا صادقين، ولو تظاهروا عليه وتمالؤوا، فليستعينوا بالجنّ في الكشف عن المغيّبات، وليستعينوا بأرباب الصناعات من أمم الإنس المختلفة في تحرير حقائق صناعاتهم، ثم ليدفعوا ذلك إلى الحكماء والفلاسفة والمناطقة ليودعوه شيئًا من حكمتهم وفلسفتهم ومنطقهم، ثم ليدفعوا كلّ ذلك إلى العرب الأقحاح أهل الفصاحة لينظموه هذا النظم المعجز، ثم ليستعينوا على ذلك بالزَّمن وما يصلون إليه من علومٍ ومبتكراتٍ، لعلّهم يستطيعون أن يأتوا بمثله. هذا هو ما يجب أن يُفهم من استفزازهم إلى التعاضد والتمالؤ والتظاهر إنسًا وجنًّا، وهذا هو التحدّي الحقيقيّ، لا ما ذهب إليه بعضُهم من أنَّ التحدّي منوطٌ بالعربِ فقط أن يأتوا بمثل بلاغته، فإنْ عجزوا وهم أرباب الفصاحة؛ فسواهم من الإنس أعجز، وإنْ عجز الإنس وهم الجنس الأشرف والأكمل؛ فالجنّ أعجز. فشتّان ما بين تصوير التحدي على الوجه الأول الذي ذهبنا إليه، وعلى الوجه الثاني الذي يذهب إليه بعض الباحثين.

    ومما يؤكد ذلك قوله تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور: 29- 34]، فنَفَى عنه الكهانة والجنون المقتضي أن يكون له رَئِيٌّ من الجنّ يخبره بالغيب، ونفَى عنه الشِّعر الذي قد يُبرّر هذا النظم الفريد، ونفى عنه الكذب والتقوُّل، ثم تحدَّاهم بأن يأتوا بمثله، فعُلِمَ أنَّ أخباره الغيبية ليست مستقاةً من المصادر التي اقترحوها، كما أنَّه ليست مما يمكن أن ينتجها الكذب والتقوُّل، إذ لو كانت كذلك لكان خطؤها هو الأصل، وصوابها هو الاستثناء الذي يُثبت التقوّل ولا ينفيه، ثم إنَّ نظمه مما يتعالى على الشعر الذي يحذقونه كما يحذقون النَّفَس، فإن كانوا في شكٍّ من ذلك فليجرّبوا أن يأتوا بمثله في نظمه وفي إخباره بالمغيّبات تشاعرًا وتكهُّنًا وتقوُّلًا.

    وانظر إلى قيلِ أُنَيسٍ أخي أبي ذر -رضي الله عنهما- في قصة إسلامه: «لقد سمعتُ قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعتُ قوله على أَقْراءِ الشعر، فما يلتئم على لسان أحدٍ بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون»[10]، فاعتبَر بصدقه وكذبهم، فعُلِم أنَّ القرآن مباينٌ لقول الكهنة والشعراء من جهة أنَّه صِدقٌ وأنَّهم كاذبون.

    ولمّا ادّعوا قدرتهم على أن يقولوا مثله وصَفوه بأنّه أساطير الأولين، قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}[الأنفال: 31]، فما لمحوا فيه إلا أنَّه أساطير الأولين، فتوجّه فِكرهم في المعارضة نحو مضمونه الذي هو -في زعمهم- أساطير الأولين.

    وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «كان النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي من شياطين قريش، وكان يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينصب له العداوة، وكان قد قَدِمَ الحيرة، تعلَّم بها أحاديث ملوك فارس، وأحاديث رستم وأسفنديار، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا جلس مجلسًا فذكَّر بالله، وحدَّث قومه ما أصاب مَن قبلهم مِن الأمم من نقمةِ الله، خَلَفه في مجلسه إذا قام، ثم يقول: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثًا منه، فهلُمُّوا، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه. ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وأسفنديار، ثم يقول: ما محمد أحسن حديثًا منّي. قال: فأنزل الله تبارك وتعالى في النضر ثماني آيات من القرآن، قوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}[القلم: 15]، وكل ما ذكر فيه الأساطير في القرآن»[11].

    ويؤكّد أصالة التحدّي بالإخبار بالمغيّبات على الوجه الذي وضحّناه أنَّ ألفًا وأربعمائة سنة ونيِّفًا لم تُسقط التحدّي بل زادته ظهورًا وجلاءً بما استحدثه البشر من علومٍ أثبتَت صدق القرآن، وأنَّه من المستحيل أن يكون قائلُه رجلًا عاش قبل ألف وأربعمائة سنة، فلا بد أنَّه أُنزل بعلم الله، وأنَّ تلك العلوم نفسها لا تمكّن البشر من أن يفْجرُوا الغيبَ فيتنبّؤوا بحقائق كثيرة مفصّلة تقع خلال ألف وأربعمائة سنة قادمة، ولا نِصْف تلك المدة، ولا عُشرها، فما زال التحدّي قائمًا، والعجز حاصلًا، والحصر شاملًا.

    قال القاضي عياض في معرض تعليقه على حديث: «ما من الأنبياءِ من نبيٍّ إلا قد أُعطي من الآيات ما مثلُه آمَن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُ وحيًا أوحى اللهُ إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعًا يوم القيامة»[12]، قال: «وفيه وجه آخر وهو: أنَّ سائر معجزات الأنبياء انقرضت بانقراضهم، ولم يشاهدها إلا ما كان حاضرًا لها، ومعجزة نبينا -صلى الله عليه وسلم- من القرآن وخرقه للعادة في أسلوبه وبلاغته بَيِّـنة لكل من يأتي إلى يوم القيامة، إلى ما انطوى عليه من الإخبار عن الغيوب، فلا يمر عصر إلا ويظهر فيه معجزة مما أخبر أنها تكون، تدلُّ على صدقه وصحة نبوته وتُجدِّد الإيمان في قلوب أمّته»[13].

    وأمَّا لو قصرنا التحدّي على النَّظم والبلاغة فإنَّ حجّيته لا تحصل لأصحاب تلك العصور بهذه السهولة، إذ إنَّ الوصول لذلك يقتضي سلوك أحد طريقين؛ الأول: أن يثبت لديه إبلاس الأولين، وأنَّهم إذ أُفحموا وهم أرباب البلاغة فالخَلَفُ أولى بذلك. والثاني: أن يحاولوا ذلك فيتبيّن بمعيار صحيحٍ أنَّ ما جاؤوا به نازلٌ عن رتبة نظم القرآن وبلاغته.

    فإن وُجد فيهما منازِعٌ في العصور المتأخرة -وخصوصًا من غير العرب- فردُّه إلى جادَّة الصواب ممكنٌ إن كان مُنصِفًا، ولكنه يستلزمُ الكثير من الجهد والوقت. وأمَّا بتوسعة نطاق التحدّي ليشمل المعاني على الوجه الذي وضّحناه فلا يستطيع أن ينازع في ذلك منازعٌ للوهلة الأولى، ولا بتقليب النَّظر ورجعه كرّة بعد كرّة. والله المستعان.

    وقد أحسن الإمام ابن عاشور التعبير عن هذا المعنى فقال: «وهذا النوع من الإعجاز [يعني الإعجاز العلمي الراجع إلى الإخبار بالمغيّبات] هو الذي خالف به القرآن أساليب الشعر وأغراضه مخالفة واضحة. هذا والشاطبي قال في (الموافقات): «إن القرآن لا تُحمل معانيه ولا يتأوّل إلا على ما هو متعارَف عند العرب»، ولعلَّ هذا الكلام صدر منه في التفصي من مشكلات في مطاعن الملحدين؛ اقتصادًا في البحث وإبقاءً على نفيس الوقت، وإلا فكيف ينفي إعجاز القرآن لأهل كلِّ العصور، وكيف يقصر إدراك إعجازه بعد عصر العرب على الاستدلال بعجز أهل زمانه إذ عجزوا عن معارضته، وإذ نحن نسلم لهم التفوق في البلاغة والفصاحة، فهذا إعجاز إقناعي بعجز أهل عصر واحد، ولا يفيد أهلَ كلّ عصر إدراكُ طائفة منهم لإعجاز القرآن»[14].

    فكأنَّ المكلّفين جميعًا إنسًا وجنًّا على اتّصالِ بقائهم في الدنيا مذ تحدَّاهم إلى أن يبلغوا أجَلَهم الذي أجَّل لهم؛ في العجز كيانٌ واحدٌ، ولو كانت مَلكاتُه جِماعَ ملكاتهم، وقدراتُه مِلاكَ قدراتهم.

    وبذا؛ يستبين لك وجه المغالطة في كلام الأستاذ محمود شاكر إذ يقول: «فهذا التحيُّر المظلم الذي غشَّاهم [يعني قريشًا]، وأخذ منهم بالكظم، والذي نعته الوليد فاستجاد النعت؛ كان تحيُّرًا لِما يسمعون مِن نَظْمِه وبيانِه، لا لِما يُدرِكون من دقائق التشريع، وخفيّ الدلالات، وما لا يؤمنون به من الغيب، وما لا يعرفون من أنباء القرون التي خلَت مِن قبل»[15].

    فليس الوليدُ وزمرتُه هم كلَّ المتحدَّيْنَ بالقرآن حتى يُلزمنا هذا الكلامُ إخراجَ الإنباء بالغيب من جملة المتحدَّى به. ولو قيل: إنَّ كلام الأستاذ شاكر متوجّه إلى ما وقع به التحدّي لقريش خاصَّةً في أوَّل الأمر فحسب؛ لكان له مساغٌ.

    على أنَّ نعت الوليد للقرآن: «والله؛ لقد سمعت من محمد كلامًا آنفًا ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإنّ أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وإنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، [وإن له لَنورًا، وإن له لفرعًا]، وإنه ليعلو وما يُعلى، [وإنه ليحطم ما تحته]»[16]، ليس فيه ما يدلُّ على أنَّه تحيَّر لما سمع من نظمه وبيانه فحسب؛ بل هذه الأوصاف تحتمل الرجوع إلى معانيه كما تحتمل الرجوع إلى نظمه وبيانه، والسبيل الوحيد لقصرها على أحدهما دون الآخر هو التحكُّم الذي لا يعجز عنه أحدٌ.

    ضابط الإخبار بالغيب المتحدَّى به:

    فإن قيل: ما الضابط للإخبار بالمغيَّبات التي لو صدرت من بشرٍ عُلِم أنَّه جاء بمثل القرآن، وأنَّ القرآن يمكن أن يكون مُختلَقًا؟

    فالجواب: يجب ألّا يُنسى ابتداءً أنَّ الإخبار بالغيب ليس هو الوجه الوحيد للإعجاز القرآني، ولا بد أن يأتي هذا الإخبار بالغيب في قالبٍ لُغويٍّ يضاهي القرآن نظمًا وبلاغةً وأسلوبًا وبيانًا. فإن سقط هذا الشرط لا يصحّ الانتقال إلى النَّظَر في فحوى الإخبار المزعوم، كما يرفض مقوّمو سلامة الغذاء الذي حقُّه أن يكون مُعبَّأً النَّظرَ في مفردات سلامته، ومحدّدات جودته التركيبية؛ إن وجدوه بغير عُبوّته.

    وهذا الشرط عاصمٌ من الإفك الذي يأتي به بعضهم من خزعبلاتٍ في صورة تنبؤات يخرجونها في لغة غامضة محتملة أشبه بلغة الشفرة يمكن تأويلها على عشرات الأوجه؛ بل على الوجه ونقيضه، ثم يزعمون أنَّها وقعت كما تنبّأ بها المتنبِّئ، ثم يُطيِّرونها كل مطار. وأوضح مثال على ذلك تنبؤات نوستراداموس. فأين هي من تفصيل الأخبار الغيبية الواقعة في القرآن الكريم؟ وأين بيانها من بيانه؟

    وأمَّا من حيث هو إخبارٌ بمغيَّب، فيجب أن تجتمع فيه الشروط الآتية:

    1- أن يكون إخبارًا بمغيَّبٍ لا يوصل إليه باستشرافٍ؛ كالتنبؤ بالأرصاد الجوية والكسوف والخسوف وغيرها من الظواهر الطبيعية، وكذا تنبؤات النظريات العلمية المرتفقة على قوانين طبيعية، فتلك -وما جرى مجراها- علوم شهادة وإن ظنَّها بعضهم علومَ غيب.

    2- ألَّا يكون مُستقًى من وحيٍ سماويٍّ صحيحٍ، وإلّا لكانوا كَمَن رام معارضة نظم القرآن فعمد إلى بعض ألفاظ الآية، واستبدل بها ألفاظًا ترادفها على نفس وزنها وجرسها. ويمكن القول إنّ ما أخبر به الوحي الصحيح غير المحرّف مما هو صريح الدلالة صار في حكم علوم الشهادة، فإن اتَّكأ عليها المتنبئ لم يكن -في الحقيقة- مخبرًا بغيبٍ.

    3- ألّا تعارض في الإمكان عِلمًا ضروريًّا ولا عِلمًا نظريًّا قطعيًّا. ولا يصحُّ هنا أن يقال إنَّ العلم الضروريَّ يفتقر إلى معيار يضبطه، فهذا مُنافٍ لتعريف العلم الضروريّ أو الضرورات العقلية[17].

    4- ويلزم منه أن يكون المخبَر به مؤتلِفًا غير مختلف، ولا يناقض بعضه بعضًا؛ إذ العلم القطعيُّ لا يعارض بعضه بعضًا.

    5- ألّا يكذِّبه مَرُّ الزمن وتقدُّم العلوم والمكتشفات، فإنْ تحقَّق صدقُ وقوعه بعدُ بما يستجدُّ من معارِفَ وعلومٍ، وبما ينكشف عنه مرُّ الزمن، كان أقطع بالوفاء بالمراد.

    6- وكلَّما وقع لهم في قدر القطعة المتحدَّى بها عددٌ صالحٌ من تلك الأخبار يربو على ما تحتمله الصدفةُ -بالقوانين الإحصائية التي يعرفها المتخصصون في علم الإحصاء- كان أقطع بوفائهم بالمراد.

    7- وكلَّما توزَّعت أخباره على مجالات الغيب المختلفة كان أقطع بالوفاء بالمراد.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * موقع الألوكة: (https://2u.pw/4Uod0).
    [1] المقالة الأولى: (هل في القرآن إعجاز غيبي؟) على هذا الرابط: tafsir.net/article/5326.
    [2] أخرجه البخاري في صحيحه (ح4981، ح7274). ومسلم في صحيحه (ح152).
    [3] قال الرماني: «فإن قال قائل: فلم اعتمدتم على الاحتجاج بعجز العرب دون المولَّدِين، وهو عندكم معجز للجميع، مع أنه يوجد للمولّدين من الكلام البليغ شيء كثير؟ قيل: لأن العرب كانت تقيم الأوزان والإعراب بالطباع، وليس في المولدين مَن يقيم الإعراب بالطباع كما يقيم الأوزان، والعرب على البلاغة أقدر لما بيّنّا من فطنتهم لما لا يَفطن له المولَّدون من إقامة الإعراب بالطباع، فإذا عجزوا عن ذلك فالمولدون عنه أعجز». النكت في إعجاز القرآن، للرماني (ص113).
    وقال الزركشي، وهو من كلام السبكي وإن لم يصرح به الزركشي: «التحدي إنما وقع للإنس دون الجن؛ لأن الجنَّ ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على أساليبه، وإنما ذكروا في قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} تعظيمًا لإعجازه؛ لأن الهيئة الاجتماعية لها من القوة ما ليس للأفراد، فإذا فرض اجتماع جميع الإنس والجن وظاهر بعضهم بعضًا وعجزوا عن المعارضة كان الفريق الواحد أعجز». انظر: فتاوى السبكي (2/ 616- 617)، والبرهان في علوم القرآن (2/ 111).
    ويقول الدكتور مساعد الطيار: «ومع تكاثر وجوه الأدلة الدالة على صدقه إلا أنني أوكِّد على أنَّ المقصودين أولًا بهذا التحدي هم العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، أمّا مَن عداهم من الأمم إلى قيام الساعة فهم تبع لهم في هذا؛ لأنه إذا عجز العرب الذين هم أرباب الفصاحة والبيان وأصحاب اللغة التي نزل بها القرآن فمن باب أولى أن يعجز غيرهم؛ لأنهم لا يمكن أن يصلوا إلى درجة العرب في البيان» [شرح مقدمة التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي، للدكتور الطيار، نشرة دار ابن الجوزي، السعودية، ط1، 1431هـ، ص282]. وهو قول ناتجٌ عن حصر المتحدَّى به في بلاغة القرآن وأسلوبه ونظمه فقط، وظاهر القرآن بخلافه كما بيَّنَّا، وهو دليل آخر على عدم دقّة هذا الحصر. وفيه تقليلٌ من شأن التحدّي بقصره على قبيلة واحدةٍ في حقبة محدودة من الزمن، وفيه جعل إقامة حجّة القرآن على جُلّ المخاطبين به من الإنس والجنّ في كلِّ عصر ومصر تبعًا لا كفاحًا. علاوة على أنَّ في مذهب السبكيّ والزركشي ومن تبعهما قطعًا بأنَّ الجنّ ليسوا من أهل اللسان العربيّ، وهذا من الرجم بالغيب. ولعلَّ ظاهر الدليل النقليِّ على خلافه إذ ثبت أنَّ وفود الجنّ لقيت النبي -صلى الله عليه وسلم- غير مرَّة، وأنَّهم سمعوا القرآن وفهموه، ثم ولَّوْا إلى قومهم يدعونهم إلى الإيمان به، وأنهم خاطبوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخاطبهم، وسألوه وأجابهم. فهذا ظاهره أنَّهم يتقنون اللسان العربي، والله أعلم بلغتهم ولسانهم وبما كان من هيئة حديثهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم-. ولو قيل إنهم ليسوا من أهل اللسان العربي، ولكنهم يقدرون أن يتعلموه كما يحصل من الإنس إذ يتعلَّم بعضهم أكثر من لغة؛ فما الذي يمنع حذقهم لها بعد تعلُّمها حتى يبزّوا فيها بعض أهلها؟
    [4] بيان إعجاز القرآن، للخطابي (ص70).
    [5] البرهان في علوم القرآن، للزركشي (2/ 100).
    [6] الشفا، للقاضي عياض (1/ 226- 227).
    [7] الشفا، للقاضي عياض (1/ 229- 230).
    [8] تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ط دار طيبة، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، ط2، 1420هـ= 1999م (1/ 199- 200).
    [9] مباحث في إعجاز القرآن، للدكتور مصطفى مسلم، دار القلم، دمشق، ط3، 1426هـ= 2005م (ص68).
    [10] أخرجه مسلم في صحيحه (ح2473).
    [11] جامع البيان، للطبري، ط دار هجر، القاهرة، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط1، 1422هـ= 2001م (17/ 399).
    [12] أخرجه البخاري في صحيحه (ح4981، ح7274). ومسلم في صحيحه (ح152).
    [13] إكمال المُعْلِم بفوائد مُسْلِم، للقاضي عياض، دار الوفاء، تحقيق: د. يحيى إسماعيل، ط1، 1419هـ= 1998م (1/ 467).
    [14] التحرير والتنوير، لابن عاشور (1/ 128).
    [15] مداخل إعجاز القرآن، للأستاذ محمود شاكر (ص160).
    [16] انظر: تفسير مقاتل بن سليمان (4/ 492- 493)، والمستدرك على الصحيحين، للحاكم (ح3872)، ودلائل النبوة، لأبي نعيم (ص234 برقم 186).
    [17] يُعرِّف ابن سينا الضرورات العقلية بأنها: قضايا ومقدّمات تحدث في الإنسان من جهة قوّته العقلية من غير سبب يُوجب التصديق بها إلّا ذواتها، ومثال ذلك: إدراك أنَّ الكلَّ أعظم من الجزء، فإنَّ هذا الحكم غير مستفاد من حسٍّ ولا استقراء ولا شيء آخر. انظر: النجاة في المنطق والإلهيات، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، ط1، 1412هـ (1/ 81).
    ويقول التفتازاني: «أمّا البديهيات، وتسمّى أوَّليّات؛ فهي قضايا يحكم العقل بها بمجرّد تصوُّر طرفيها؛ كالحكم بأنَّ الواحد نصف الاثنين، والجسم الواحد لا يكون في آن واحدٍ في مكانين». انظر: شرح المقاصد، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، عالم الكتب، بيروت، ط2، 1419هـ (1/ 211).
    وعرَّفها الساويّ بأنها القضايا التي يُصدّق بها العقل الصريح لذاته ولغريزيته؛ لا لسببٍ من الأسباب الخارجة عنه. انظر: البصائر النصيرية في المنطق، زين الدين عمر بن سهلان الساوي، تعليق: رفيق العجم، دار الفكر اللبناني، بيروت، ط1، 1997م (ص220).
    والمقصود بأنها تحصل من جهة القوة العقلية: أنها هي المقتضى المباشر للغريزة العقلية، بحيث لا يمكن الاستدلال عليها إلا من جهة مطابقتها للغريزة العقلية؛ ولذا فلا تحتاج إلى استدلال، بل هي أساس كلِّ استدلالٍ عقليّ.
    وعليه؛ يُمكن أن نُعرّف المبادئ العقلية بأنها «قضايا يُسلِّم بها العقل الـمُدرِك بمجرد تصوُّرها دون افتقارٍ لـمُصدِّقٍ خارجيٍّ لها».
    فقولنا: «قضايا»، أي: أحكام تشمل العقليات والحسيّات، وقولنا: «بمجرّد تصوُّرها» يُخرج عقل الطفل قبل أن يقدر على تصوُّر بعض هذه الحقائق، فعدم إدراكه لها لا ينقض حقيقة أنه مفطورٌ عليها، وأنها مغروسة فيه، وكذلك يُخرج عقول المجانين والبُلَداء متناهي البلادة، وقولنا «دون افتقار لمصدّق خارجيٍّ لها» من مجرّب أو خبر، فمجرّد تصوُّرها كافٍ للحكم بصحّتها.
    من بحثنا: (المبادئ العقلية الأولية: أهميتها وخطورة الطعن فيها) مخطوط؛ يسَّر الله نشره.
    الإعجاز الغيبي في القرآن بين الإثبات والنفي (2-3)* هل يدخل الإخبار بالمغيّبات في جملة المتحدّى به؟ الكاتب : محمود عبد الجليل روزن خلصنا في المقالة الأولى من هذه السلسلة[1] إلى أنَّ الإعجاز الغيبيّ في القرآن الكريم حقيقة لا تُنكَر، ولا ينتصبُ للمماري فيها صراطٌ إلا على ظهر المماحكة اللفظيّة، والمنازعة في الاسم لا في الـمُسمَّى. وفي هذا المقال الثاني من السلسلة نتوجَّه للإجابة عن السؤال الشائك: هل يدخل الإخبار بالمغيّبات في جملة المتحدَّى به؟ إنَّ منشأ التحدّي بالقرآن أنَّ المكذّبين يشكّكون في الآيات، مع علمهم بأنَّهم لا يقدرون على المجيء بمثلها، فينسبون ذلك إلى قُوى أخرى غير الله تعالى، كأنْ ينسبوها إلى السِّحر الذي يُستعان عليه بالجنِّ، كما في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}[المائدة: 110]، وكما في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}[النمل: 13]، والآيات في هذا المعنى كثيرة. وادَّعى الكفارُ أن القرآن قولُ شاعر، وقولُ كاهن، وأنَّه سحرٌ يؤثَر. ولـمَّا كان الشعرُ صنعتَهم، وكان السِّحرُ والكهانةُ غيرَ خارجَين عن طَوْق تعاطي البشر؛ تحدَّاهم الله -عز وجل- أن يأتوا بمثله، فكأنَّه يقول لهم: إن كان شاعرًا فما يمنعكم -وأنتم الشعراء- أن تقولوا مثله؟ وإن كان كاهنًا أو ساحرًا فما أساطين السحرة والكُهّان منكم ببعيدٍ، فلتستعينوا بمَن شئتم منهم من الجنّ والإنس، ولتستعينوا بمَن شئتم وبمَن استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين، فلتأتوا بمثله. فإن لم تفعلوا -ولن تفعلوا- فاعلموا أنَّما أُنزل من عند الله -عز وجل-، وأنَّ الجائي به رسولٌ صادقٌ مُصدَّق. والقرآنُ الكريمُ هو الرسالةُ الخاتمةُ إلى الإنس والجنّ، وعددُ مَن هم مخاطبون به ممن لم يروا الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يشاهدوا سائرَ آياته هم السواد الأعظم من أمَّة دعوته -صلى الله عليه وسلم-، وما معاصروه -صلى الله عليه وسلم- في جملة أمّة دعوته إلا أقلّ القليل، فلم يَبقَ لهؤلاءِ من براهين صدق نبوته إلا القرآن الكريم، وأمورٌ مُتفرّقات مردُّ اعتبار حُجِّيتها والتصديق بإعجازها إلى الإيمان بالقرآن الكريم، فصار القرآن الكريم من هذا الوجه جماع آياته وبراهين نبوته، وإلى ذلك أشار قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من الأنبياء من نبيٍّ إلا قد أُعطي من الآيات ما مثلُه آمَنَ عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُ وحيًا أوحى اللهُ إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعًا يوم القيامة»[2]. ولا يُفهم من ذلك أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُعطَ غيره من الآيات، ولا أنَّ غيره من الأنبياء لم يُعطَوْا من الوحي ما آمن عليه البشر، وإنما المراد -والله أعلم- ما أشرنا إليه من أنَّ القرآن لا يلزم أن يسمعه المدعوُّ إليه مُشافهةً من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا أن يكون عصريَّه، بل جُلُّ المخاطبين به ليسوا كذلك؛ لأنهم جاؤوا بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم إن الإيمان به يُهيئ المؤمن للوقوف على سائر آيات النبي -صلى الله عليه وسلم- الأخرى بخلاف القرآن. وأمّا سائر الرسل -صلوات الله عليهم- كانت رسالتهم تنقطع بموتهم، فيُرسِل الله -عز وجل- للناس الأنبياء بالوحي مصدقًا لما بين يديه من الوحي ومبيّنًا وناسخًا، فلم ينقطع الوحي بموت المتقدِّمين. ولما شاء الله تعالى أن تستمرّ شريعة موسى -عليه السلام- وقتًا طويلًا أرسل النبيِّين يحكمون بالتوراة وعقّبهم الربّانيون والأحبار، ثم خلفهم مَن حرَّف وبدَّل حتّى جاء عيسى -عليه السلام- بالإنجيل مصدقًا لما بين يديه من التوراة، فأحلَّ لهم بعض الذي حُرِّمَ عليهم، وردَّهم إلى الأصل الأوّل. ولما كان تقدير الله تعالى أن تُختم النبوات بمحمد -صلى الله عليه وسلم- تكفَّل بحفظ القرآن من التحريف ليظلَّ هو الرسالة الخاتمة إلى أن يُرفع من الصدور والسطور، فكان هو الآية التي تقوم بها الحُجَّة على المخاطبين به من الإنس والجنّ إلى يوم القيامة؛ ولذا رجا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون أكثر الأنبياء تابعًا. ولما كان القرآن في ظاهره كلامًا؛ فقد يتبادر إلى ذهن المتشكّك أنه مما لا يُعجِز أن يؤتى بمثله، وهذا واقع في القديم وفي الحديث، قال تعالى حاكيًا عن بعض الكفّار: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}[الأنفال: 31]. فأخضعهم بأنْ طالَبهم أن يأتوا بمثله، فقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور: 33، 34]، ودعا المخاطبين به من الإنس والجنّ إلى التمالؤ على ذلك، ورخّص لهم في الاستعانة بمن شاؤوا والتظاهر بهم عليه فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء: 88]، وقال: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 23]، وقال: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[يونس: 38، هود: 13]، فانقطعوا وأُبلِسوا واستبان عجزهم لمن كان عنده مسكة من عقل أو أثارة من علم. فهؤلاء هم المتحدَّوْن بالقرآن في الحقيقة: عموم المخاطبين به من الإنس والجنِّ، لا العرب فقط أو الإنس فقط، كما ذهب إليه بعضهم[3]. ولا يزال التحدّي قائمًا إلى أن يُرفع القرآن من السطور والصدور؛ إيذانًا بوشك قيام الساعة. فما المتحدَّى به حقيقة؟ أن يأتوا بكلام يُساميه في النَّظم والبلاغة فقط؟ أم تحدَّاهم أن يأتوا بكلامٍ مثله من كلِّ وجهٍ؟ ظاهر قوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور: 34]، وقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء: 88]، يدلُّ على المماثلة بين القرآن وبين المطلوب الإتيان به من كلّ وجهٍ، سواء في صفاته المصرّح بها، أو في صفاته المستنبطة بالنَّظر والاستقراء. فأمَّا صفاته المصرّح بها فإنها نعوتٌ لم يتركها الله -عز وجل- لتخمينٍ أو حَدْسٍ، وإنما بيَّن في القرآن صفة القرآن، كما بيّن أسماءَه -عز وجل- وصفاتِه، وكما أنَّ أسماء الله تعالى وأوصافه ذاتُ معانٍ ومدلولات صادقة، فكذلك صفات القرآن الكريم ذات معانٍ ومدلولات صادقة، وليست كأسماء البشر، فقد يتسمّى أحدهم (أشرف) أو (أكرم) وليس لهما من الشرف والكرم شروى نقير، وليست كذلك أسماء الله وصفاته، ولا أسماء القرآن وصفاته. فوصف اللهُ -عز وجل- القرآنَ بأنه حقٌّ مبين، وأنه بيانٌ وتبيانٌ وعربيٌّ وهُدًى وبصائرُ ونورٌ ورُوح ورحمة وفرقانٌ، وعليٌّ ومجيدٌ وعزيزٌ وحكيم وحِكمةٌ وحُكمًا وذكرى وذكرًا وبُشرى وعصمة وشفاء وأنه صدق وتصديق لِما بين يديه من الكتاب ومهيمنٌ عليه... وغير ذلك من الأوصاف ذات المدلولات المعلومة من لغة العرب، والمفسّرة في مواضعها من كتب التفسير بأوضح بيانٍ. وإنما عجز البشر عن الإتيان بمثله؛ لاستحالة أن يأتوا بكلامٍ متحقق بتلك الأوصاف الجليلة، فكما أنَّهم عاجزون عن إحياء الموتى بردّ الروح إليهم، فإنهم عاجزون عن الإتيان بمثل كلامٍ وَصَفَه الله تعالى بأنَّه روحٌ ونورٌ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}[الشورى: 52]، فالفرق بين القرآن وبين كلام سائر المخلوقين؛ كالفرق بين الحيّ الذي لا يموت سبحانه، وبين سائر خلقه الفانين. ولعلَّ أوّل مَن وضع يده على شيءٍ من هذا المعنى -وإن لم يُحكم عليه قبضته- الإمامُ الخطّابي؛ إذ يقول: «قلتُ في إعجاز القرآن وجهًا آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذُّ من آحادهم، وذلك صنيعُه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنَّك لا تسمع كلامًا غير القرآن منظومًا ولا منثورًا، إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظَّها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتغشّاها الخوف والفرَق، تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدوّ للرسول -صلى الله عليه وسلم- من رجال العرب وفتّاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقَتْله فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعَت في مسامعهم أن يتحوّلوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة، وكفرهم إيمانًا»[4]. وما هذه الأمور إلا آثارٌ من مدلولات صفات القرآن، فهو الموصوف بأنه بشيرٌ نذيرٌ موعظةٌ عَلِيٌّ حكيمٌ عزيزٌ مهيمنٌ رحمةٌ هُدًى بصائرُ عصمةٌ شفاءٌ لما في الصدور، ذكرٌ تقشعر منه الجلود، وتلين إليه القلوب والجلود، لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الردّ... وغير ذلك. فكلامٌ هذه صفتُه لا بّد أن يقع لتاليه ما ذكره الخطّابيّ، وأكَّده غيره، وقد سُئل بندار الفارسي عن موضع الإعجاز من القرآن فقال: «هذه مسألة فيها حَيفٌ على المفتي، وذلك أنه شبيه بقولك: ما موضع الإنسان من الإنسان، فليس للإنسان موضع من الإنسان؛ بل متى أشرت إلى جملته فقد حققته ودللت على ذاته، كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شيء منه إلا وكان ذلك المعنى آية في نفسه، ومعجزة لمحاوله، وهدى لقائله، وليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كلامه وأسراره في كتابه فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده»[5]. وهذا القاضي عياض يعدُّ من وجوه إعجاز القرآن «الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله وإنافة خطره وهى على المكذبين به أعظم حتى كانوا يستثقلون سماعه ويزيدهم نفورًا كما قال تعالى، ويودون انقطاعه لكراهتهم له... وأمّا المؤمن فلا تزال روعتُه به وهيبتُه إياه مع تلاوته تُوليه انجذابًا وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه وتصديقه به. قال الله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الزمر: 23]، وقال: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر: 21]. ويدلُّ على أنَّ هذا شيءٌ خُصَّ به، أنه يَعتري مَن لا يَفهم معانيه ولا يعلم تفاسيره، كما رُوي عن نصرانيّ أنه مَرّ بقارئٍ فوقف يبكي، فقيل له: مِمَّ بكيت؟ قال: للشجا والنظم. وهذه الروعة قد اعترت جماعة قبل الإسلام وبعده، فمنهم مَن أسلم لها لأول وهلة وآمن به، ومنهم من كفر، فحُكي في الصحيح عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في المغرب بالطور، فلمّا بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ}[الطور: 35- 37] كاد قلبي أن يطير للإسلام. وفي رواية: وذلك أول ما وقر الإسلام في قلبي...»[6]. ثم قال القاضي: «قد عدَّ جماعة من الأئمة ومقلِّدي الأمة في إعجازه وجوهًا كثيرة؛ منها: أنّ قارئه لا يمَلُّه وسامعَه لا يمُجُّه بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة وترديده يوجب له محبة، لا يزال غضًّا طريًّا، وغيره من الكلام ولو بلغ في الحسن والبلاغة مبلغه يُمَلّ مع الترديد، ويُعادَى إذا أُعيد، وكتابنا يُستلَذُّ به في الخلوات ويؤنس بتلاوته في الأزمات، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك؛ حتى أحدث أصحابها لها لحونًا وطرقًا يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها، ولهذا وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن بأنه لا يخلَق على كثرة الردّ، ولا تنقضي عِبَرُه ولا تفنى عجائبه، هو الفصل ليس بالهزل، لا يشبع منه العلماء ولا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة، هو الذي لم تنتهِ الجن حين سمعته أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}[الجن: 1]»[7]. وقال ابن كثير: «ومَن تدبَّر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونًا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى، قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[هود: 1]، فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف، فكلٌّ مِنْ لفظه ومعناه فصيح لا يجارى ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية وآتية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء، وأمر بكل خير، ونهى عن كل شر كما قال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا}[الأنعام: 115]، أي: صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأحكام، فكُلُّه حقٌّ وصدق وعدل وهدًى، ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء، كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر: إنّ أعذبَه أكذبُه، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معيّن أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع، أو شيء من المشاهدات المتعيّنة التي لا تفيد شيئًا إلا قدرة المتكلم المعبِّر على التعبير عن الشيء الخفيّ أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد، وسائرها هذر لا طائل تحته. وأمّا القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلًا وإجمالًا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه إنْ تأمّلْتَ أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا، وكلما تكرر حَلا وعَلا، لا يخلق عن كثرة الردّ، ولا يملّ منه العلماء، وإنْ أخَذَ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصُّم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات؟ وإنْ وَعَدَ أتى بما يفتح القلوب والآذان، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن، كما قال في الترغيب: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[السجدة: 17]، وقال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[الزخرف: 71]، وقال في الترهيب: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا}[الإسراء: 68]، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}[الملك: 16، 17]، وقال في الزجر: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ}[العنكبوت: 40]، وقال في الوعظ: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}[الشعراء: 205- 207]، إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي، اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء؛ كما قال ابن مسعود وغيره من السلف: إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأوعها سمعك؛ فإنه خيرٌ ما يأمر به أو شرٌّ ينهى عنه؛ ولهذا قال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[الأعراف: 157] الآية، وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال، وفي وصف الجنة والنار، وما أعدّ الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم؛ بشَّرت به وحذّرت وأنذرت، ودَعَت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، وزهّدت في الدنيا ورغّبت في الأخرى، وثـبّـتت على الطريقة المثلى، وهَدَت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم، ونفَت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم»[8]. ويقول الدكتور مصطفى مسلم: «ولا شك أن القول بالصَّرْفة كان نتيجة للتفكير الفلسفي المجرد عن نور الهداية، حيث نظر القائلون بها إلى أن القرآن مؤلَّف من كلمات عربية معروفة باستطاعة البلغاء أن يأتوا بمثلها، فإذا عرفت المفردات أمكن التوصل إلى تركيبها، وإذا عرفت التراكيب أمكن تأليفها، وفاتهم أن المفردات والتراكيب تحتاج إلى الصبغة الإلهية واللمسة الربانية حتى تضفي عليها الإشراق والحياة فيسري فيها الروح فتكون معجزة: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}[الشورى: 52، 53]. إنّ مثل هؤلاء كمثل الطبيعيين اليوم ينظرون إلى الكائنات الحية وعلى رأسها الإنسان، ويحاولون تحليلها إلى المواد الأولية التي تتكوّن منها. يحاولون بواسطة هذه التحليلات معرفة سر الحياة وإيجاد إنسان أو حيوان أو نبات في المعمل. لقد فات هؤلاء أيضًا أن النفخة الإلهية هي سر الحياة، فلولا هذه النفخة الإلهية لما تكوّنت الحياة في المواد الأولية، ولولا الصبغة الربانية لما كانت الكلمات العربية معجزة»[9]. ثم إذا ذهبنا نُحلّل مضمون الخطاب القرآنيّ اتّضحت لنا صفاتٌ أخرى؛ منها أنَّه متضمّن لقصص الأولين لا تكاد سورة تخلو منه، وقد وصف الله قصصه بأنَّه القصصُ الحقُّ، كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران: 62]، فهو القصص الحقُّ على الحقيقة، وكلُّ ما عَدَاه يدخله الكذب لا محالة، كما وصفه بأنَّه أحسن القصص كما قال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف: 1- 3]، فكلُّ ما عدَاه نازلٌ عن رتبته في الحسن لا محالة. وبهذا، يستبين أنَّ مَن رام أن يُعارِض القرآن فعليه -إن كان صادقًا- أن يأتي بمثله في صفاته المصرّح بها، ومنها -وليس كلها- نظمُه وبلاغتُه وبيانُه العربيّ، وأن يأتي بمثله في متضمَّناته ومشتملاته، ومنها الأخبار الغيبية، فإن لم يفعل لم يكن آتيًا بمثله. وإذن، فحقيقة التحدّي بالإخبار بالغيب أن يأتوا بكلامٍ على غرار القرآن في اشتماله على ذكر الغيب، وعن الأخبار الغيبية التي يثبت صدقها بنحو ثبوت صدق أخبار القرآن ما كان منها عن الماضي وما كان منها إنباءً بالمستقبل، وما كان منها كشفًا للسرائر، وإنباءً في الضمائر، وما كان منها إنباءً بالسنن السائرة الـمُطَّردة التي لا يزيدها مرّ الزمان إلا تأكُّدًا واستقرارًا، فلن تجد لسنّة الله تبديلًا ولا تحويلًا. وليس للمتحدَّى إلا أن يكون مُتصوِّرًا لما هو مطلوبٌ منه، ولا معنى لحدّ بعضهم التحدِّي بأن يكون من جنس ما برع فيه الـمُتحدَّى، وإن كان التحدّي بذلك أبلغَ. فإذا أصرَّ بعضهم على أن يكون الـمُتحدَّى به من جنس ما برع فيه المتحدَّوْن فهذا دليلٌ آخر على أنَّ الأمر المتحدَّى به في القرآن الكريم غير محصور في وجهٍ واحدٍ، ذلك أنَّ المتحدَّيْن بالقرآن عموم أمة الدعوة المحمدية من الإنس والجنّ، فناسب أن يجدَ كلٌّ منهم في المتحدَّى به شيئًا مما برع هو فيه، واختّص بحذقه. فتأمل! ويصحُّ لنا -حينئذ- الاستئناس لكون الإخبار بالغيب داخلًا في شرط التحدّي؛ بأنَّه أدخل الجنَّ في المتحدَّيْن به، وبراعة الجنّ إنما تكمن في ادّعائهم علم الغيب، بما كانوا يسترقون من السمع إلى خبر السماء، فيخطفون الخطفة ويبنون عليها مائة كذبة. وقد بُكِّتوا بدعواهم، فقال تعالى في شأن سليمان: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}[سبأ: 14]، وهو ما حرص مؤمنو الجنّ على الإقرار به، كما قال تعالى حكايةً عنهم: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}[الجن: 10]، ثم أكّدت السورة الكريمة ذلك: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا * عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}[الجن: 25- 28]. فالتصريحُ بدخولهم في جملة المتحدَّيْن إشارةٌ إلى أنَّ ما ادَّعوه لأنفسهم، وادَّعاه لهم رجال من الإنس، من قدرتهم على علم الغيب؛ ليس بمسعفهم للإتيان بمثله، فليفعلوا إن كانوا صادقين، ولو تظاهروا عليه وتمالؤوا، فليستعينوا بالجنّ في الكشف عن المغيّبات، وليستعينوا بأرباب الصناعات من أمم الإنس المختلفة في تحرير حقائق صناعاتهم، ثم ليدفعوا ذلك إلى الحكماء والفلاسفة والمناطقة ليودعوه شيئًا من حكمتهم وفلسفتهم ومنطقهم، ثم ليدفعوا كلّ ذلك إلى العرب الأقحاح أهل الفصاحة لينظموه هذا النظم المعجز، ثم ليستعينوا على ذلك بالزَّمن وما يصلون إليه من علومٍ ومبتكراتٍ، لعلّهم يستطيعون أن يأتوا بمثله. هذا هو ما يجب أن يُفهم من استفزازهم إلى التعاضد والتمالؤ والتظاهر إنسًا وجنًّا، وهذا هو التحدّي الحقيقيّ، لا ما ذهب إليه بعضُهم من أنَّ التحدّي منوطٌ بالعربِ فقط أن يأتوا بمثل بلاغته، فإنْ عجزوا وهم أرباب الفصاحة؛ فسواهم من الإنس أعجز، وإنْ عجز الإنس وهم الجنس الأشرف والأكمل؛ فالجنّ أعجز. فشتّان ما بين تصوير التحدي على الوجه الأول الذي ذهبنا إليه، وعلى الوجه الثاني الذي يذهب إليه بعض الباحثين. ومما يؤكد ذلك قوله تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور: 29- 34]، فنَفَى عنه الكهانة والجنون المقتضي أن يكون له رَئِيٌّ من الجنّ يخبره بالغيب، ونفَى عنه الشِّعر الذي قد يُبرّر هذا النظم الفريد، ونفى عنه الكذب والتقوُّل، ثم تحدَّاهم بأن يأتوا بمثله، فعُلِمَ أنَّ أخباره الغيبية ليست مستقاةً من المصادر التي اقترحوها، كما أنَّه ليست مما يمكن أن ينتجها الكذب والتقوُّل، إذ لو كانت كذلك لكان خطؤها هو الأصل، وصوابها هو الاستثناء الذي يُثبت التقوّل ولا ينفيه، ثم إنَّ نظمه مما يتعالى على الشعر الذي يحذقونه كما يحذقون النَّفَس، فإن كانوا في شكٍّ من ذلك فليجرّبوا أن يأتوا بمثله في نظمه وفي إخباره بالمغيّبات تشاعرًا وتكهُّنًا وتقوُّلًا. وانظر إلى قيلِ أُنَيسٍ أخي أبي ذر -رضي الله عنهما- في قصة إسلامه: «لقد سمعتُ قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعتُ قوله على أَقْراءِ الشعر، فما يلتئم على لسان أحدٍ بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون»[10]، فاعتبَر بصدقه وكذبهم، فعُلِم أنَّ القرآن مباينٌ لقول الكهنة والشعراء من جهة أنَّه صِدقٌ وأنَّهم كاذبون. ولمّا ادّعوا قدرتهم على أن يقولوا مثله وصَفوه بأنّه أساطير الأولين، قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}[الأنفال: 31]، فما لمحوا فيه إلا أنَّه أساطير الأولين، فتوجّه فِكرهم في المعارضة نحو مضمونه الذي هو -في زعمهم- أساطير الأولين. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «كان النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي من شياطين قريش، وكان يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينصب له العداوة، وكان قد قَدِمَ الحيرة، تعلَّم بها أحاديث ملوك فارس، وأحاديث رستم وأسفنديار، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا جلس مجلسًا فذكَّر بالله، وحدَّث قومه ما أصاب مَن قبلهم مِن الأمم من نقمةِ الله، خَلَفه في مجلسه إذا قام، ثم يقول: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثًا منه، فهلُمُّوا، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه. ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وأسفنديار، ثم يقول: ما محمد أحسن حديثًا منّي. قال: فأنزل الله تبارك وتعالى في النضر ثماني آيات من القرآن، قوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}[القلم: 15]، وكل ما ذكر فيه الأساطير في القرآن»[11]. ويؤكّد أصالة التحدّي بالإخبار بالمغيّبات على الوجه الذي وضحّناه أنَّ ألفًا وأربعمائة سنة ونيِّفًا لم تُسقط التحدّي بل زادته ظهورًا وجلاءً بما استحدثه البشر من علومٍ أثبتَت صدق القرآن، وأنَّه من المستحيل أن يكون قائلُه رجلًا عاش قبل ألف وأربعمائة سنة، فلا بد أنَّه أُنزل بعلم الله، وأنَّ تلك العلوم نفسها لا تمكّن البشر من أن يفْجرُوا الغيبَ فيتنبّؤوا بحقائق كثيرة مفصّلة تقع خلال ألف وأربعمائة سنة قادمة، ولا نِصْف تلك المدة، ولا عُشرها، فما زال التحدّي قائمًا، والعجز حاصلًا، والحصر شاملًا. قال القاضي عياض في معرض تعليقه على حديث: «ما من الأنبياءِ من نبيٍّ إلا قد أُعطي من الآيات ما مثلُه آمَن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُ وحيًا أوحى اللهُ إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعًا يوم القيامة»[12]، قال: «وفيه وجه آخر وهو: أنَّ سائر معجزات الأنبياء انقرضت بانقراضهم، ولم يشاهدها إلا ما كان حاضرًا لها، ومعجزة نبينا -صلى الله عليه وسلم- من القرآن وخرقه للعادة في أسلوبه وبلاغته بَيِّـنة لكل من يأتي إلى يوم القيامة، إلى ما انطوى عليه من الإخبار عن الغيوب، فلا يمر عصر إلا ويظهر فيه معجزة مما أخبر أنها تكون، تدلُّ على صدقه وصحة نبوته وتُجدِّد الإيمان في قلوب أمّته»[13]. وأمَّا لو قصرنا التحدّي على النَّظم والبلاغة فإنَّ حجّيته لا تحصل لأصحاب تلك العصور بهذه السهولة، إذ إنَّ الوصول لذلك يقتضي سلوك أحد طريقين؛ الأول: أن يثبت لديه إبلاس الأولين، وأنَّهم إذ أُفحموا وهم أرباب البلاغة فالخَلَفُ أولى بذلك. والثاني: أن يحاولوا ذلك فيتبيّن بمعيار صحيحٍ أنَّ ما جاؤوا به نازلٌ عن رتبة نظم القرآن وبلاغته. فإن وُجد فيهما منازِعٌ في العصور المتأخرة -وخصوصًا من غير العرب- فردُّه إلى جادَّة الصواب ممكنٌ إن كان مُنصِفًا، ولكنه يستلزمُ الكثير من الجهد والوقت. وأمَّا بتوسعة نطاق التحدّي ليشمل المعاني على الوجه الذي وضّحناه فلا يستطيع أن ينازع في ذلك منازعٌ للوهلة الأولى، ولا بتقليب النَّظر ورجعه كرّة بعد كرّة. والله المستعان. وقد أحسن الإمام ابن عاشور التعبير عن هذا المعنى فقال: «وهذا النوع من الإعجاز [يعني الإعجاز العلمي الراجع إلى الإخبار بالمغيّبات] هو الذي خالف به القرآن أساليب الشعر وأغراضه مخالفة واضحة. هذا والشاطبي قال في (الموافقات): «إن القرآن لا تُحمل معانيه ولا يتأوّل إلا على ما هو متعارَف عند العرب»، ولعلَّ هذا الكلام صدر منه في التفصي من مشكلات في مطاعن الملحدين؛ اقتصادًا في البحث وإبقاءً على نفيس الوقت، وإلا فكيف ينفي إعجاز القرآن لأهل كلِّ العصور، وكيف يقصر إدراك إعجازه بعد عصر العرب على الاستدلال بعجز أهل زمانه إذ عجزوا عن معارضته، وإذ نحن نسلم لهم التفوق في البلاغة والفصاحة، فهذا إعجاز إقناعي بعجز أهل عصر واحد، ولا يفيد أهلَ كلّ عصر إدراكُ طائفة منهم لإعجاز القرآن»[14]. فكأنَّ المكلّفين جميعًا إنسًا وجنًّا على اتّصالِ بقائهم في الدنيا مذ تحدَّاهم إلى أن يبلغوا أجَلَهم الذي أجَّل لهم؛ في العجز كيانٌ واحدٌ، ولو كانت مَلكاتُه جِماعَ ملكاتهم، وقدراتُه مِلاكَ قدراتهم. وبذا؛ يستبين لك وجه المغالطة في كلام الأستاذ محمود شاكر إذ يقول: «فهذا التحيُّر المظلم الذي غشَّاهم [يعني قريشًا]، وأخذ منهم بالكظم، والذي نعته الوليد فاستجاد النعت؛ كان تحيُّرًا لِما يسمعون مِن نَظْمِه وبيانِه، لا لِما يُدرِكون من دقائق التشريع، وخفيّ الدلالات، وما لا يؤمنون به من الغيب، وما لا يعرفون من أنباء القرون التي خلَت مِن قبل»[15]. فليس الوليدُ وزمرتُه هم كلَّ المتحدَّيْنَ بالقرآن حتى يُلزمنا هذا الكلامُ إخراجَ الإنباء بالغيب من جملة المتحدَّى به. ولو قيل: إنَّ كلام الأستاذ شاكر متوجّه إلى ما وقع به التحدّي لقريش خاصَّةً في أوَّل الأمر فحسب؛ لكان له مساغٌ. على أنَّ نعت الوليد للقرآن: «والله؛ لقد سمعت من محمد كلامًا آنفًا ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإنّ أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وإنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، [وإن له لَنورًا، وإن له لفرعًا]، وإنه ليعلو وما يُعلى، [وإنه ليحطم ما تحته]»[16]، ليس فيه ما يدلُّ على أنَّه تحيَّر لما سمع من نظمه وبيانه فحسب؛ بل هذه الأوصاف تحتمل الرجوع إلى معانيه كما تحتمل الرجوع إلى نظمه وبيانه، والسبيل الوحيد لقصرها على أحدهما دون الآخر هو التحكُّم الذي لا يعجز عنه أحدٌ. ضابط الإخبار بالغيب المتحدَّى به: فإن قيل: ما الضابط للإخبار بالمغيَّبات التي لو صدرت من بشرٍ عُلِم أنَّه جاء بمثل القرآن، وأنَّ القرآن يمكن أن يكون مُختلَقًا؟ فالجواب: يجب ألّا يُنسى ابتداءً أنَّ الإخبار بالغيب ليس هو الوجه الوحيد للإعجاز القرآني، ولا بد أن يأتي هذا الإخبار بالغيب في قالبٍ لُغويٍّ يضاهي القرآن نظمًا وبلاغةً وأسلوبًا وبيانًا. فإن سقط هذا الشرط لا يصحّ الانتقال إلى النَّظَر في فحوى الإخبار المزعوم، كما يرفض مقوّمو سلامة الغذاء الذي حقُّه أن يكون مُعبَّأً النَّظرَ في مفردات سلامته، ومحدّدات جودته التركيبية؛ إن وجدوه بغير عُبوّته. وهذا الشرط عاصمٌ من الإفك الذي يأتي به بعضهم من خزعبلاتٍ في صورة تنبؤات يخرجونها في لغة غامضة محتملة أشبه بلغة الشفرة يمكن تأويلها على عشرات الأوجه؛ بل على الوجه ونقيضه، ثم يزعمون أنَّها وقعت كما تنبّأ بها المتنبِّئ، ثم يُطيِّرونها كل مطار. وأوضح مثال على ذلك تنبؤات نوستراداموس. فأين هي من تفصيل الأخبار الغيبية الواقعة في القرآن الكريم؟ وأين بيانها من بيانه؟ وأمَّا من حيث هو إخبارٌ بمغيَّب، فيجب أن تجتمع فيه الشروط الآتية: 1- أن يكون إخبارًا بمغيَّبٍ لا يوصل إليه باستشرافٍ؛ كالتنبؤ بالأرصاد الجوية والكسوف والخسوف وغيرها من الظواهر الطبيعية، وكذا تنبؤات النظريات العلمية المرتفقة على قوانين طبيعية، فتلك -وما جرى مجراها- علوم شهادة وإن ظنَّها بعضهم علومَ غيب. 2- ألَّا يكون مُستقًى من وحيٍ سماويٍّ صحيحٍ، وإلّا لكانوا كَمَن رام معارضة نظم القرآن فعمد إلى بعض ألفاظ الآية، واستبدل بها ألفاظًا ترادفها على نفس وزنها وجرسها. ويمكن القول إنّ ما أخبر به الوحي الصحيح غير المحرّف مما هو صريح الدلالة صار في حكم علوم الشهادة، فإن اتَّكأ عليها المتنبئ لم يكن -في الحقيقة- مخبرًا بغيبٍ. 3- ألّا تعارض في الإمكان عِلمًا ضروريًّا ولا عِلمًا نظريًّا قطعيًّا. ولا يصحُّ هنا أن يقال إنَّ العلم الضروريَّ يفتقر إلى معيار يضبطه، فهذا مُنافٍ لتعريف العلم الضروريّ أو الضرورات العقلية[17]. 4- ويلزم منه أن يكون المخبَر به مؤتلِفًا غير مختلف، ولا يناقض بعضه بعضًا؛ إذ العلم القطعيُّ لا يعارض بعضه بعضًا. 5- ألّا يكذِّبه مَرُّ الزمن وتقدُّم العلوم والمكتشفات، فإنْ تحقَّق صدقُ وقوعه بعدُ بما يستجدُّ من معارِفَ وعلومٍ، وبما ينكشف عنه مرُّ الزمن، كان أقطع بالوفاء بالمراد. 6- وكلَّما وقع لهم في قدر القطعة المتحدَّى بها عددٌ صالحٌ من تلك الأخبار يربو على ما تحتمله الصدفةُ -بالقوانين الإحصائية التي يعرفها المتخصصون في علم الإحصاء- كان أقطع بوفائهم بالمراد. 7- وكلَّما توزَّعت أخباره على مجالات الغيب المختلفة كان أقطع بالوفاء بالمراد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * موقع الألوكة: (https://2u.pw/4Uod0). [1] المقالة الأولى: (هل في القرآن إعجاز غيبي؟) على هذا الرابط: tafsir.net/article/5326. [2] أخرجه البخاري في صحيحه (ح4981، ح7274). ومسلم في صحيحه (ح152). [3] قال الرماني: «فإن قال قائل: فلم اعتمدتم على الاحتجاج بعجز العرب دون المولَّدِين، وهو عندكم معجز للجميع، مع أنه يوجد للمولّدين من الكلام البليغ شيء كثير؟ قيل: لأن العرب كانت تقيم الأوزان والإعراب بالطباع، وليس في المولدين مَن يقيم الإعراب بالطباع كما يقيم الأوزان، والعرب على البلاغة أقدر لما بيّنّا من فطنتهم لما لا يَفطن له المولَّدون من إقامة الإعراب بالطباع، فإذا عجزوا عن ذلك فالمولدون عنه أعجز». النكت في إعجاز القرآن، للرماني (ص113). وقال الزركشي، وهو من كلام السبكي وإن لم يصرح به الزركشي: «التحدي إنما وقع للإنس دون الجن؛ لأن الجنَّ ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على أساليبه، وإنما ذكروا في قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} تعظيمًا لإعجازه؛ لأن الهيئة الاجتماعية لها من القوة ما ليس للأفراد، فإذا فرض اجتماع جميع الإنس والجن وظاهر بعضهم بعضًا وعجزوا عن المعارضة كان الفريق الواحد أعجز». انظر: فتاوى السبكي (2/ 616- 617)، والبرهان في علوم القرآن (2/ 111). ويقول الدكتور مساعد الطيار: «ومع تكاثر وجوه الأدلة الدالة على صدقه إلا أنني أوكِّد على أنَّ المقصودين أولًا بهذا التحدي هم العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، أمّا مَن عداهم من الأمم إلى قيام الساعة فهم تبع لهم في هذا؛ لأنه إذا عجز العرب الذين هم أرباب الفصاحة والبيان وأصحاب اللغة التي نزل بها القرآن فمن باب أولى أن يعجز غيرهم؛ لأنهم لا يمكن أن يصلوا إلى درجة العرب في البيان» [شرح مقدمة التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي، للدكتور الطيار، نشرة دار ابن الجوزي، السعودية، ط1، 1431هـ، ص282]. وهو قول ناتجٌ عن حصر المتحدَّى به في بلاغة القرآن وأسلوبه ونظمه فقط، وظاهر القرآن بخلافه كما بيَّنَّا، وهو دليل آخر على عدم دقّة هذا الحصر. وفيه تقليلٌ من شأن التحدّي بقصره على قبيلة واحدةٍ في حقبة محدودة من الزمن، وفيه جعل إقامة حجّة القرآن على جُلّ المخاطبين به من الإنس والجنّ في كلِّ عصر ومصر تبعًا لا كفاحًا. علاوة على أنَّ في مذهب السبكيّ والزركشي ومن تبعهما قطعًا بأنَّ الجنّ ليسوا من أهل اللسان العربيّ، وهذا من الرجم بالغيب. ولعلَّ ظاهر الدليل النقليِّ على خلافه إذ ثبت أنَّ وفود الجنّ لقيت النبي -صلى الله عليه وسلم- غير مرَّة، وأنَّهم سمعوا القرآن وفهموه، ثم ولَّوْا إلى قومهم يدعونهم إلى الإيمان به، وأنهم خاطبوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخاطبهم، وسألوه وأجابهم. فهذا ظاهره أنَّهم يتقنون اللسان العربي، والله أعلم بلغتهم ولسانهم وبما كان من هيئة حديثهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم-. ولو قيل إنهم ليسوا من أهل اللسان العربي، ولكنهم يقدرون أن يتعلموه كما يحصل من الإنس إذ يتعلَّم بعضهم أكثر من لغة؛ فما الذي يمنع حذقهم لها بعد تعلُّمها حتى يبزّوا فيها بعض أهلها؟ [4] بيان إعجاز القرآن، للخطابي (ص70). [5] البرهان في علوم القرآن، للزركشي (2/ 100). [6] الشفا، للقاضي عياض (1/ 226- 227). [7] الشفا، للقاضي عياض (1/ 229- 230). [8] تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ط دار طيبة، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، ط2، 1420هـ= 1999م (1/ 199- 200). [9] مباحث في إعجاز القرآن، للدكتور مصطفى مسلم، دار القلم، دمشق، ط3، 1426هـ= 2005م (ص68). [10] أخرجه مسلم في صحيحه (ح2473). [11] جامع البيان، للطبري، ط دار هجر، القاهرة، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط1، 1422هـ= 2001م (17/ 399). [12] أخرجه البخاري في صحيحه (ح4981، ح7274). ومسلم في صحيحه (ح152). [13] إكمال المُعْلِم بفوائد مُسْلِم، للقاضي عياض، دار الوفاء، تحقيق: د. يحيى إسماعيل، ط1، 1419هـ= 1998م (1/ 467). [14] التحرير والتنوير، لابن عاشور (1/ 128). [15] مداخل إعجاز القرآن، للأستاذ محمود شاكر (ص160). [16] انظر: تفسير مقاتل بن سليمان (4/ 492- 493)، والمستدرك على الصحيحين، للحاكم (ح3872)، ودلائل النبوة، لأبي نعيم (ص234 برقم 186). [17] يُعرِّف ابن سينا الضرورات العقلية بأنها: قضايا ومقدّمات تحدث في الإنسان من جهة قوّته العقلية من غير سبب يُوجب التصديق بها إلّا ذواتها، ومثال ذلك: إدراك أنَّ الكلَّ أعظم من الجزء، فإنَّ هذا الحكم غير مستفاد من حسٍّ ولا استقراء ولا شيء آخر. انظر: النجاة في المنطق والإلهيات، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، ط1، 1412هـ (1/ 81). ويقول التفتازاني: «أمّا البديهيات، وتسمّى أوَّليّات؛ فهي قضايا يحكم العقل بها بمجرّد تصوُّر طرفيها؛ كالحكم بأنَّ الواحد نصف الاثنين، والجسم الواحد لا يكون في آن واحدٍ في مكانين». انظر: شرح المقاصد، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، عالم الكتب، بيروت، ط2، 1419هـ (1/ 211). وعرَّفها الساويّ بأنها القضايا التي يُصدّق بها العقل الصريح لذاته ولغريزيته؛ لا لسببٍ من الأسباب الخارجة عنه. انظر: البصائر النصيرية في المنطق، زين الدين عمر بن سهلان الساوي، تعليق: رفيق العجم، دار الفكر اللبناني، بيروت، ط1، 1997م (ص220). والمقصود بأنها تحصل من جهة القوة العقلية: أنها هي المقتضى المباشر للغريزة العقلية، بحيث لا يمكن الاستدلال عليها إلا من جهة مطابقتها للغريزة العقلية؛ ولذا فلا تحتاج إلى استدلال، بل هي أساس كلِّ استدلالٍ عقليّ. وعليه؛ يُمكن أن نُعرّف المبادئ العقلية بأنها «قضايا يُسلِّم بها العقل الـمُدرِك بمجرد تصوُّرها دون افتقارٍ لـمُصدِّقٍ خارجيٍّ لها». فقولنا: «قضايا»، أي: أحكام تشمل العقليات والحسيّات، وقولنا: «بمجرّد تصوُّرها» يُخرج عقل الطفل قبل أن يقدر على تصوُّر بعض هذه الحقائق، فعدم إدراكه لها لا ينقض حقيقة أنه مفطورٌ عليها، وأنها مغروسة فيه، وكذلك يُخرج عقول المجانين والبُلَداء متناهي البلادة، وقولنا «دون افتقار لمصدّق خارجيٍّ لها» من مجرّب أو خبر، فمجرّد تصوُّرها كافٍ للحكم بصحّتها. من بحثنا: (المبادئ العقلية الأولية: أهميتها وخطورة الطعن فيها) مخطوط؛ يسَّر الله نشره.
    1
    0
  • الإعجاز الغيبي في القرآن بين الإثبات والنفي (1-3)*
    هل في القرآن الكريم إعجازٌ غيبيٌّ؟

    الكاتب : محمود عبد الجليل روزن

    تنبعثُ هذه المقالة في التوفيق بين آراء المتكلمين في بعض مشكلات إعجاز القرآن الكريم؛ خلوصًا إلى محاولة تثبيت وجهٍ أصيل من أوجه إعجاز القرآن، وهو الإعجاز الغيبيّ، إذ هال بعضَ الباحثين السُّيولةُ المتصاعدةُ في عدّ أوجه إعجاز القرآن دون قيدٍ ولا ضابطٍ، فكان منهم أن نَفَوْا أن يكون في القرآن معجزٌ إلا البلاغة والنظم؛ فنَفَوْا أوجهًا تتابع علماء الأمة على عدِّها من إعجاز القرآن الكريم، ومنها الإعجاز الغيبيّ معقد حديثنا.

    فالمقصد الرئيس لهذه المقالة هو: إثبات أنَّ إخبار القرآن بالغيبِ مُعجِزٌ على المعنى الذي قاد إلى استظهاره النَّظرُ المنهجيُّ، ومن ثَمَّ التأهُّل للإجابة عن سؤال: هل يدخل الإخبار بالغيب في جملة المتحدَّى به من القرآن الكريم أم لا؟

    ولم تتطرَّق المقالة للتقويم التفصيليّ لما يدخل في الـمُعجِز وما لا يدخل، وإن كانت قدَّمت ضابطًا عامًّا يمكن التأسيس عليه لبناء المعيار الصحيح الصالح للاضطلاع بهذه المهمة.

    كما تؤكّد المقالة ابتداءً أنَّه مهما اختلفت الأقوال في شأن أوجه إعجاز القرآن، ومهما استجدّت الآراء؛ فإنَّ الإعجاز البياني هو أساس كلِّ إعجاز قرآنيّ، ففي بيان القرآن تستكنّ كل وجوه إعجازه الأخرى الصحيحة، وعلى أساس ما ندرك من تراكيبه ومفرداته يكون تصوُّرنا لآيات الله تعالى في مضمونها الذي نبحث عنه[1].

    وعليه؛ فالمقالة ستنتظم -بإذن الله- في ثلاثة أجزاء متسلسلة، كل منها يعالج جانبًا من الإشكال، وبيانها كالآتي:

    الجزء الأول: بعد التمهيد وضبط المصطلحات والحدود، يجيب عن سؤال: هل في القرآن الكريم إعجازٌ غيبيٌّ؟

    الجزء الثاني: يجيب عن سؤال: هل يدخل الإخبار بالمغـيّبات في جملة المتحدَّى به؟

    الجزء الثالث: ردّ بعض ما يُستشكل أو يَرِدُ على إجابة السؤال الثاني[2].

    تمهيد:

    يتجاذب تفسيرَ إعجاز القرآن -في الجملة- ثلاثةُ مذاهب: 1- فبينَ مَن ينفي أن يكون القرآنُ معجِزًا بغير النَّظم والبيان[3]، وغالبًا ما يُطلق عليه الإعجاز اللغوي أو الإعجاز البلاغي أو إعجاز النَّظم، أو الإعجاز البياني. 2- وبين مُتوسِّعٍ في إثبات ألوانٍ من الإعجاز لا تقوم بها الحُجَّة، ولا ترتكز على أصولٍ مستقيمة في النَّظَر. 3- يأتي المذهب الوسط منذ ابتكار الكلام في قضية إعجاز القرآن، وهو أنَّ للقرآن وجوهًا من الإعجاز تتجاوز إعجاز النَّظم والبلاغة، مع الوقوف بحَذَر أمام بعض وجوه الإعجاز التي يقول بها المتوسِّعون.

    ولا يليق في هذا المقام المختصر أن نمثِّل بأمثلة دون أن نسوق حُجَجَ النُّظَّار وحجج مخالفيهم، وسيكون لذلك -إن شاء الله- مقامه ومقاله.

    غير أنَّ جُلَّ التفاوت في الإثبات والنفي لألوان من إعجاز القرآن الكريم راجعٌ إلى عدم ضبط مفهومه وحدوده، فالحقُّ أنَّ المثبت والنافي قد يكونان على حقٍّ كلُّهم إذا احتُكم في الفصل بينهم إلى الحدود التي وضعها كلٌّ منهم لتعريف إعجاز القرآن.

    والحقيقة الواضحة التي قد يُغفل عنها أنَّ حدود المفاهيم وضوابطها ومعايير اعتبارها تُكتَشَف ولا تُخترَع، فإذا رامَ باحثٌ اختراعَ ما حقُّه الاكتشافُ خرج عن نطاق البحث المنهجيّ المنضبط إلى ما يُشبه الذَّوقَ النسبيَّ الخاصَّ الذي قد يُوافَق عليه وقد لا يُوافَق.

    وعليه؛ فإنَّ أوَّل منطلق لتقويمِ النَّظَر إلى ألوان إعجاز القرآن الكريم أن تُحرَّر ضوابطُه وتخطَّطَ حدودُه استكشافًا لا اختراعًا.

    وتُلمِحُ القضيةُ من وجهها للمفرِّق بين ثلاثة مفاهيم حاضرةٍ في الكلام على براهين النبوة، يسقط باستظهارها -في تقديري- كثيرٌ من الاختلاف بين طوائف المتكلِّمين في اشتراط التحدِّي للمعجزة، وما يلزم منه من إسقاط كثير من معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- التي لم يَـتحدَّ بها. ويتأسَّس على هذا الطرحِ البناءُ الصحيحُ لبيان أوجه إعجاز القرآن الكريم، وضبط ما يدخل فيها وما يخرج منها.

    وفيما يأتي نستعرض بإيجاز تلك المفاهيم الثلاثة.

    الأول: مطلق مفهوم الآية:

    وهي العَلَامة على صدق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبرهان نبوّته.

    ولا يشترط للعلامة أن تكون مما يفوق قدرة المخلوقين على الإتيان به أو بمثله، كما كان صدقُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وأمانتُه قبلَ نُبوَّته آيةً على أنَّه رسولٌ، فكان ذلك حاديًا كافيًا لكثيرٍ ممَّن آمنوا به وصدّقوه -صلى الله عليه وسلم-، وكما وقع في المسائل التي سأل هرقلُ عنها أبا سفيان -رضي الله عنه-، وكانت كافية لأن يقول: «فإن كان ما تقول حقًّا فإنه نبيٌّ [وفي رواية: فسَيَمْلِكُ موضعَ قدمَيَّ هاتين]، وقد كنتُ أعلمُ أنه خارجٌ، ولم أكن أظنُّ أنه منكم، فلو أنِّي أعلمُ أنّي أَخْلُصُ إليه لأحببتُ لقاءَه [وفي رواية: لتجشَّمتُ]، ولو كنتُ عنده لغَسَلْتُ عن قدَمَيْه»[4].

    الثاني: مفهوم الـمُعجزة:

    وهي الآية التي يَعجِز المخلوقون عن الإتيان بها من عند أنفسهم، وإنما يؤيِّد بها الله -عز وجل- المرسلين -صلوات الله عليهم- برهانًا على صدق رسالتهم.

    فالمعجزة: برهان صدق المخبِر يعجز غيره عن الإتيان بمثله بإطلاقٍ.

    وعليه، فالآية أعمُّ من الـمُعجزة، فكلُّ معجزةٍ آيةٌ، ولا عكس.

    ومعجزة القرآن كامنةٌ في الدلائل القاطعة بتعيُّن كونه من عند الله تعالى؛ لعجز مَن سواه -سبحانه وتعالى- عن الإتيان بمثله.

    وإعجاز القرآن: احتواؤه شكلًا وجوهرًا ومضمونًا على ما يُعجَزُ عن الإتيان بمثله من عند غير الله تعالى.

    ولـمَّا كان القرآن يستعمل لفظ (الآية) و(البرهان)، و(السلطان) للدلالة على مفهوم المعجزة، ولما كان السَّواد الأعظم من آيات الرسل مُعجزاتٍ لا يُقدر على الإتيان بمثلها؛ جاز إطلاق المعجزة على الآية، والآية على المعجزة، ولا غضاضة في ذلك؛ فالأول اصطلاح القرآن، والثاني صفةٌ غالبةٌ، فإن اقتُصر عليه جاز من باب إطلاق الصفة على الموصوف، فهذا من الاصطلاح الذي لا مُشاحَّة فيه، ما دام الفرق بينهما مُستحضرًا عند الحاجة.

    المفهوم الثالث: مفهوم الإفحام بالتحدِّي:

    وهو أن يُدعَى المكذِّب بالمعجزة إلى الإتيان بمثلها فيُبلِس وينقطع، فيتحقّق صدقُ الرسول.

    والصواب الذي دلَّ عليه النقل والنَّظر أنَّ المعجزة مُتحقِّقة بالتحدِّي أو دونه، فهي لا تفتقر إلى التحدِّي لتكون معجزة.

    فانفلاقُ البحر لموسى -عليه السلام- وانفجار الحَجَر بضربة عصاه باثنتي عشرة عينًا، وفرار الحجَر بثوبه، ونبع الماء من بين يدي النبيّ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وانشقاق القمر، وحنين الجذع ونحو ذلك؛ مُعجزاتٌ، إذ يَعجِز أن يأتي بها غيرُ مؤيَّد من عند الله تعالى، ومع ذلك لم يتَحدَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بغير القرآن، ولم يتحدَّ موسى -عليه السلام- بشيء من المعجزات المذكورة. فاشتراط التحدِّي يُسقط جُلَّ المعجزات[5].

    فالمعجزةُ تُعجِز مَن رامَ الإتيان بمثلها ولو من غير تحدٍّ، فإذا طالبه صاحب المعجزة بالإتيان بمثلها فانقطع وأُفحِم، فهو أمعن في البرهان على صدق المتحدِّي. فهذا هو مفهوم الإفحام بالتحدّي، وهو زائد عن مفهوم الإعجاز كما ترى.

    فالتحدّي قدر زائد عن الإعجاز، إذ عجْزُ الـمُتحدَّى حاصلٌ قبل التحدّي، كما هو حاصلٌ بعده، ولكن إذا تحدّاهم فأُبلسوا وانقطعوا جاز أن نسمّيه إفحامًا.

    فإفحام القرآنِ: إبلاس المتحدَّى بالإتيان بمثله.

    ومما يتّضح به الأمر تمثيلًا: أنَّ رجلًا إذا أراد أن يحمل حملًا ثقيلًا فلم يستطع صحَّ أن يُسمّى عاجزًا، والحمل مُعجزه، فإذا باراه رجلٌ فحمل حملًا ثم تحدَّاه أن يحمله أو يحمل مثله، فحاول فلم يستطع؛ فهو فوق عجزه مُفحَم خاسرٌ للتحدِّي.

    وعليه، فكلّ مُفحِمٌ مُعجِزٌ، ولكن لا يتحقّق الإفحام إلا بعد التحدِّي. وإعجاز القرآن سابقٌ للتحدِّي به، ويجوز أن نقول: الإعجاز لازمٌ، والتحدّي طارئٌ، «ولا بد أن نقرّر هنا أنَّ مفهوم الإعجاز كان قائمًا وواردًا من أول يوم نزلت فيه الآيات الأولى من سورة العلق»[6].

    ويجب أن يُعلَم أنَّ عدم إقرار المتحدَّى بإبلاسه، وتشغيبه بالتُّهَم، والادّعاء الأجوف بالقدرة عليه، والإتيان بتفاهاتٍ يدّعِي بها المعارضة؛ كل ذلك لا يُغيّر حقيقة إبلاسه، كما لم يُغيّر حقيقة إبلاس الإنس والجنّ وعجزهم أن يأتوا بمثل القرآن دعوى المخالف قديمًا وحديثًا أنه سِحرٌ وشِعرٌ وافتراءٌ، وهَذَيَان مسيلمة، والفرقان الأمريكي... ونحو ذلك مما هو معلوم بطلانه وسقوطه للمخالف قبل الموافق.

    هل في القرآن الكريم إعجازٌ غيبيٌّ؟

    بناءً على ما تقدّم، فإنّه يكفي لإثبات الإعجاز الغيبي في القرآن أن نجد فيه إخبارًا بغيوبٍ يستحيل -بإطلاقٍ- على البشر الإخبار بها، أو يستحيل على مَن كان مثلَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُخبر بها من عند نفسه.

    والـمُعجزة قد تكون برهانًا في نفسها بغضِّ النَّظر عن ظرفها وملابساتها، كما كان إحياء الموتى وخَلْق الطير بإذن الله برهانًا على كَوْن المسيح -عليه السلام- رسولًا من عند الله -عز وجل- إذ لا يقدر على ذلك في الحقيقة إلا الله -عز وجل-. ووجه البرهان فيها أنَّها لما كانت خارجة عن قدرة المخلوقين كانت دليلًا على أنَّها من عند الخالقِ -عز وجل-، فإذا اقترن ذلك بإخبار الرسول بأنَّها من عند الله -عز وجل- وأنَّه مرسلٌ لإبلاغ رسالة الله -عز وجل- قامت عليهم الحُجَّة، فيحيا من حييَ عن بينة ويهلك من هلك عن بيّنة.

    وقد تكون المعجزة برهانًا على صدق مَن جاء بها لحالٍ معيّنة مُلابِسة لظرف المجيء بها، كحملِ مريم بالمسيح -عليهما السلام- فحملُ المرأة البالغة أمرٌ ممكن إذا جامعها بالِغٌ، ولكن غير المعتاد أن تحمل دون ذلك، فتلك آيتُها ومُعجزتُها.

    وقد يتكلم الرضيعُ مُبكِّرًا عن أنداده، ولكن أن يتكلَّم في أسبوع وضعه فهذا خارجٌ عن المعهود، ثم أنْ يتكلَّمَ بحديثٍ كحديث عيسى -عليه السلام- في مهده، فهذا أمرٌ مُعجِزٌ خارقٌ لا محالة، فهذا وجه كونه برهانًا على صدق نبوّته، وعلى براءة والدته.

    وأن يتكلَّمَ القارئُ المعلَّمُ الذي وقف عمره لطلب العلم ببعض ما استفاده من علوم السابقين والباقين فيُخبر بما لا يعلمه إلا الصفوة المعلِّمون؛ فذلك أمرٌ مطروقٌ مقدورٌ. وأمَّا أن يفعل ذلك مَن استفاض العلمُ بأنَّه لا يقرأ ولا يكتبُ، ولم يجلس يومًا ليطلب هذه العلوم على أربابها، ولم يسمعها من نقَلتِها، ولم يتكهَّن؛ فهذا مُعجِزٌ خارجٌ عن قدرات الإنس والجنّ، فإذا كانت الأخبار التي يُحدِّث بها مما اندرس علمه إلا على صفوة الصفوة، أو مما طوته الأزمان الغابرة، وتراكم عليه غبار النسيان، فيأتي بها على ما كانَ؛ فهذا أقومُ بالإعجاز، لا يتوقّف عاقلٌ في القول بأنَّه مُعجزٌ لا محالةَ.

    وإذا كانت تلك الأخبار مما لا سبيل إلى معرفته أصلًا بما لدى البشر ومَن في مقدورهم الاستعانة بهم كالجنِّ، من علومٍ وفنونٍ ومعارف وقدرات؛ كالأخبار عن الغيب، والأخبار عن الحوادث الماضية التي حُرّفت أو تنوسيت تمامًا، وكالكوائن المستقبلة، ثم تتقدّم علوم البشر وتتنوّع مآخذها ومناهجها فلا يوجد في القرآن مصادمٌ لحقائقها[7]؛ بل يجدون به أخبارًا يُتحقَّق صدقُ وقوعها كلها بعدُ بما يستجدُّ لديهم من معارف وعلومٍ، وبما ينكشف عنه مَرُّ الزمن؛ فهذا هو المنتهى في الإعجاز، لا سيما والمخبَر به من هذه الأنواع كثيرٌ جدًّا، وليس خبرًا واحدًا ولا اثنين ولا نحو ذلك مما يمكن أن يقال فيه: حدسٌ مصيبٌ، أو نبوءة مُوفَّقة، أو صُدفة مُواتية.

    فإذا نزَّل الـمُنصِفُ هذه الحقيقةَ على القرآن الكريم حَكَم لا محالة بأنَّه كتاب مُعجِزٌ من هذا الوجه؛ أعني الإخبارَ بالمغيَّبات، ما كان منها ضاربًا في القِدَم، وما كان منها مستقبلًا، وما كان منها كامنًا في السرائر فيجلّيه ويفضحه، وغير ذلك من صنوف الغيوب.

    فهو وجهٌ من وجوهِ الإعجاز القرآني لأسبابٍ؛ منها:

    الأول: أنَّ الجائي به أميٌّ غير معلَّم.

    الثاني: أنَّ بعض الأخبار الماضية التي يذكرها تندُّ عن علوم الصفوة، فلا تتوقَّف عند حدِّ علومهم، بل تتجاوزها وتُصوِّبها، ثم لا يملك المنصفون منهم إلا أن يُقرّوا بصوابه وبخطئهم، وبعُلوّه عليهم وهيمنته.

    الثالث: أنَّ بعض هذه الأخبار الماضية مما كان علمه وقت نزول القرآن منطويًا عن البشرية جمعاء، ولم يكن مُدوَّنًا في صحفٍ يمكن الوصول إليها وقتئذٍ، ولم يكن مما يتناقله الرواة؛ بل ربما كانت مروياتهم وحسبانهم بعكس ما أثبته، فلما تطاول العُمُر بالبشرية تحقَّق لديهم بعلومهم المبتكرة صِدقُ ما أخبر به، فأقروا بأنَّهم مسبوقون.

    الرابع: أنَّ الأخبار المستقبلة الكثيرة التي أخبر بها لم تزل تقع واحدةً تلو الأخرى على الوجه الذي نبَّأ به، لا يزيدها تقدُّم العلوم إلا تأكُّدًا، وتسليمًا بصحّتها، «ولا يكون ذلك على الاتفاق مع كثرة ما أخبر به عن الغير في الأمور المستقبلة فوجد مخبره على ما أخبر به من غير خُلف، وذلك لا يكون إلا من عند الله تعالى العالم بالغيوب؛ إذ ليس في وُسع أحدٍ من الخلق الإخبار بالأمور المستقبلة، ثم يتفق مخبر إخباره على ما أخبر به من غير خُلف لشيء منه»[8].

    الخامس: أنَّ كلَّ ذلك متساوقٌ أوله مع آخره في ائتلافٍ تامٍّ، لا يتّفق وقوعه -فيما قضت به العادة- في كتابٍ بشريٍّ به هذا العدد الهائل من المعلومات، فهذا داخلٌ فيما يصحّ أن يُطلق عليه إعجاز الائتلاف المشار إليه في قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء: 82].

    ومن هذا الائتلاف أنَّ الحقائق المذكورة فيه منسجمة مع السنن والقوانين الكونية الطبيعية؛ وهذا لا يكون إلا إذا كان مُنزِلُ الكتاب المسطور هو خالقَ الكون المنظور وفاطِرَه.

    قال الطِّيبي شارحًا: {لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء: 82]؛ أي: «لكان الكثير منه متناقضًا، قد تفاوت نظمه وبلاغته ومعانيه، فكان بعضه بالغًا حد الإعجاز، وبعضه قاصرًا عنه يمكن معارضته، وبعضه إخبارًا بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه مخالفًا، وبعضه دالًّا على معنًى صحيح عند علماء المعاني، وبعضه بخلافه. فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائتة لقوى البلغاء، وتناصر صحة معانٍ وصدق إخبار؛ عُلم أنه ليس إلا من عند قادر يقدر على ما لا يقدر عليه غيره، عالم بما لا يعلمه أحد سواه»[9].

    فالإعجاز الغيبي إذن وجهٌ أصيلٌ من وجوه إعجاز القرآن، سواء قلنا بأنَّه داخلٌ فيما هو متحدًّى به أم لا، وعلى ذلك تعاقبت كلمة جمهور المتكلّمين من علماء الأمة في إعجاز القرآن. وكانت هذه الحقيقة جليَّة للإمام الخطابيّ (ت 388هـ)، وهو مِن أوّل مَن وصَلَنا كلامُهم في إعجاز القرآن، ورغم أنَّه يذهب إلى عدم دخول الإخبار بالمغيّبات في جملة المتحدَّى به؛ فإنه يقرّر دخوله في أوجه إعجاز القرآن الكريم.

    قال: «وزعمَتْ طائفة أنَّ إعجازه إنما هو فيما يتضمنه من الإخبار عن الكوائن في مستقبل الزمان نحو قوله سبحانه: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ}[الروم: 1- 4]، وكقوله سبحانه: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ}[الفتح: 16]، ونحوهما من الأخبار التي صدَّقَت أقوالَها مواقعُ أكوانها. قلت: ولا يُشَكُّ في أنَّ هذا وما أشبهه من أخباره نوعٌ من أنواع إعجازه، ولكنه ليس بالأمر العام الموجود في كل سورة من سور القرآن، وقد جعل سبحانه في صفة كل سورة أن تكون معجزة بنفسها لا يقدر أحدٌ من الخلق أن يأتي بمثلها: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 23] من غير تعيين، فدلّ على أنَّ المعنى فيه غير ما ذهبوا إليه»[10].

    فهو يقرُّ بوضوح بأنَّ هذا نوعٌ من أنواع إعجازه، ولكنّه لا يُسلَّم بعمومه لعدم وقوع الإخبار بالمغيّبات في كلِّ سورة، وآخرُ المتحدّى به سورةٌ كما هو معلوم.

    وبغضِّ النَّظر عن دقَّة هذا الأمر[11]؛ فلعلَّ الإمام لو فرَّق بين مفهوم الإعجاز والإفحام لجاءت عبارته خالية من شبهة التناقض، ولأغلق باب الخلاف حول اشتراط التحدّي للمعجزة قبل أن يفتحه الباقلانيّ، وقد كان قريبًا جدًّا من ذلك. والله أعلم.

    وتأمّلْ قوله: «فتفهَّم الآن واعلمْ أنَّ القرآن إنما صار مُعجزًا؛ لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنًا أصحَّ المعاني من توحيدٍ له -عَزَّت قدرته-، وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساوئها، واضعًا كلَّ شيءٍ منها موضعه الذي لا يُرى شيءٌ أولى منه، ولا يُرى في صورة العقل أمرٌ أليق منه، مودعًا أخبار القرون الماضية، وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم، منبئًا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الباقية من الزمان، جامعًا في ذلك بين الحُجَّة والمحتجّ له، والدليل والمدلول عليه؛ ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه، وإنباء عن وجوب ما أمر به، ونهى عنه. ومعلوم أنَّ الإتيان بمثل هذه الأمور، والجمع بين شتاتها حتى تنتظم وتتَّسق؛ أمرٌ تعجز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قدرتهم، فانقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله. ثم صار المعاندون له ممن كفر به وأنكره يقولون مرة: إنه شِعرٌ، لما رأوه كلامًا منظومًا، ومرة سِحرٌ، إذ رأوه معجوزًا عنه، غير مقدور عليه، وقد كانوا يجدون له وقعًا في القلوب وقرعًا في النفوس يُريبهم ويحيّرهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعًا من الاعتراف، ولذلك قال قائلهم: إنّ له حلاوة وإن عليه طلاوة، وكانوا مرة لجهلهم وحيرتهم يقولون: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الفرقان: 5]، مع علمهم أن صاحبه أميٌّ وليس بحضرته مَن يُملي أو يكتب، في نحو ذلك من الأمور التي جماعها الجهل والعجز»[12].

    وكذلك الزركشي (ت 794هـ) ذكر في وجوه إعجاز القرآن ما فيه من الإخبار عن الغيوب المستقبلة مما أخبر به بأنه سيقع فوقع، ولم يكن ذلك من شأن العرب. وكذا ما تضمَّن من إخباره عن قصص الأولين وسائر المتقدمين حكايةَ مَن شاهدها وحضرها. وذكر أنَّ هذين الوجهين مردودان بأنه يستلزم أن الآيات التي لا خبر فيها بذلك لا إعجاز فيها، وهو باطل فقد جعل الله كل سورة معجزة بنفسها. ثم قال: «نَعَم، هذا والذي قبله من أنواع الإعجاز؛ إلا أنه غير منحصر فيه»[13].

    فالإعجاز الغيبي عنده مُعتبَر، على ألَّا ينحصر فيه الإعجاز؛ لأنَّ حصره فيه يجعل بعض السُّور لا إعجاز فيها؛ لأنَّ الـمُتحدَّى به سورةٌ.

    وكذلك الإمام الطاهر بن عاشور (ت 1393هـ) فإنه عدَّ الجهة الثالثة من جهات إعجاز القرآن ما أودع فيه من المعاني الحكمية والإشارات إلى الحقائق العقلية والعلمية مما لم تبلغ إليه عقول البشر في عصر نزول القرآن وفي عصور بعده متفاوتة، وذكر في الجهة الرابعة ما انطوى عليه من الأخبار عن المغيّبات مما دلَّ على أنه منزل من علام الغيوب[14]. ثم ذكر قرب نهاية هذا البحث أنَّ «هذه الجهة من الإعجاز إنما تثبت للقرآن بمجموعه، أيْ: مجموع هذا الكتاب؛ إذ ليست كل آية من آياته، ولا كلّ سورة من سوره بمشتملة على هذا النوع من الإعجاز، ولذلك فهو إعجاز حاصل من القرآن، وغير حاصلٍ به التحدِّي إلا إشارةً نحو قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء: 82]»[15].

    ولم يزل العلماء مُتتابعين على عدِّ الإعجاز الغيبيّ من وجوهِ إعجاز القرآن الكريم، فقال الرماني (ت 384هـ): «وجوه إعجاز القرآن تظهر من سبع جهات: ترك المعارضة مع توفُّر الدواعي وشدة الحاجة، والتحدي للكافة، والصَّرفة، والبلاغة، والأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة، ونقض العادة، وقياسه بكل معجزة»[16].

    ثم بيّنها فقال: «وأمّا الأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة فإنه لمّا كان لا يجوز أن تقع على الاتفاق؛ دلَّ على أنها من عند علّام الغيوب، فمِن ذلك قوله -عز وجل-: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}[الأنفال: 7]، فكان الأمر كما وعد من الظفر بإحدى الطائفتين: العير التي كان فيها أبو سفيان، أو الجيش الذين خرجوا يحملونها من قريش، فأظفرهم الله -عز وجل- بقريش يوم بدر على ما تقدم به الوعد. ومنه قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}[الروم: 1- 3]، ومنه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة: 33، والصف: 9]، ومنه: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}[البقرة: 94، 95]، ومنه: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة: 23، 24]، ومنه: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}[القمر: 45]، ومنه: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ}[الفتح: 27]، ومنه: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ}[الفتح: 20]، ثم قال: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا}[الفتح: 21]»[17].

    وقال أبو بكر الباقلاني (ت 403هـ): «في جملة وجوه إعجاز القرآن: ذكر أصحابنا وغيرهم في ذلك ثلاثة أوجه من الإعجاز؛ أحدها: يتضمن الإخبار عن الغيوب، وذلك مما لا يقدر عليه البشر، ولا سبيل لهم إليه...»[18].

    وقال مكيّ بن أبي طالب (ت 437هـ): «ومن إعجازه ما فيه من علوم الغيب التي لم تكن وقت نزوله ثم كانت ومنها ما لم تكن بعدُ. ومنها ما كانت ولم يكن أحد يعرفها في ذلك الوقت، فنزل علمها وتفسيرها في القرآن؛ كخبر يوسف وإخوته، وخبر ذي القرنين، وأهل الكهف، وإخبار الأمم الماضية والقرون الخالية، التي قد اندرس خبرها وعدم عارف أخبارها، وغير ذلك... فنزل القرآن بتبيانها ونصها على ما كانت عليه»[19].

    وذكر القاضي عياض (ت 544هـ) أوجه إعجاز القرآن، فعدَّ الوجه الثالث منها «ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيّبات، وما لم يكن ولم يقع فوجد كما ورد على الوجه الذي أَخبر؛ كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}[الفتح: 27]، وقوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}[الروم: 3]، وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}[التوبة: 33، والفتح: 28، والصف: 9]، وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}[النور: 55]؛ الآية، وقوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}[النصر: 1]؛ إلى آخرها. فكان جميع هذا كما قال؛ فغَلبَت الرومُ فارس في بضع سنين، ودخل الناس في الإسلام أفواجًا، فما مات -صلى الله عليه وسلم- وفي بلاد العرب كلها موضعٌ لم يدخله الإسلام، واستخلف اللهُ المؤمنين في الأرض، ومكَّن فيها دينهم ومَلَّكَهم إياها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب... وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9]، فكان كذلك لا يكاد يُعدُّ مَن سعى في تغييره وتبديل محكمه من الملحدة والمعطِّلة لا سيما القرامطة، فأجمعوا كيدهم وحولهم وقوّتهم اليوم نيِّفًا على خمسمائة عام فما قدروا على إطفاء شيء من نوره، ولا تغيير كلمة من كلامه، ولا تشكيك المسلمين في حرف من حروفه والحمد لله... وما فيه من كشفِ أسرار المنافقين واليهود ومقالِهم وكذِبِهم في حَلِفِهم وتقريعهم بذلك كقوله: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ}[المجادلة: 8]، وقوله: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ}[آل عمران: 154]؛ الآية، وقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}[المائدة: 41]؛ الآية، وقوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ}[النساء: 46]. وقد قال مُبديًا ما قدَّره الله واعتقده المؤمنون يوم بدر: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}[الأنفال: 7]. ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}[الحجر: 95]، ولما نزلت بشَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك أصحابه بأنَّ الله كفاه إيّاهم، وكان المستهزئون نفرًا بمكة يُنفّرون الناس عنه ويؤذونه فهَلكوا، وقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة: 67]، فكان كذلك على كثرة مَن رامَ ضرَّه وقصَد قَتْله. والأخبار بذلك معروفة صحيحة».

    ثم ذكر الوجه الرابع فعدَّ فيه «ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الداثرة مما كان لا يَعلم منه القصةَ الواحدةَ إلا الفذُّ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلُّم ذلك، فيورده النبي -صلى الله عليه وسلم- على وجهه، ويأتي به على نصّه فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه، وأن مثله لم ينله بتعليم، وقد علموا أنه -صلى الله عليه وسلم- أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، ولا اشتغل بمدارسة ولا مثافنة، ولم يغب عنهم ولا جهل حالَه أحدٌ منهم. وقد كان أهل الكتاب كثيرًا ما يسألونه -صلى الله عليه وسلم- عن هذا فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذِكرًا؛ كقصص الأنبياء مع قومهم، وخبر موسى والخضر ويوسف وإخوته وأصحاب الكهف وذي القرنين ولقمان وابنه وأشباه ذلك من الأنباء، وبدء الخلق، وما في التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى مما صدَّقه فيه العلماء بها، ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها؛ بل أذعنوا لذلك، فمِن موفَّقٍ آمن بما سبق له من خيرٍ ومن شقيٍّ مُعاند حاسد، ومع هذا لم يُحكَ عن واحد من النصارى واليهود على شدة عداوتهم له وحرصهم على تكذيبه وطول احتجاجه عليهم بما في كتبهم وتقريعهم بما انطوت عليه مصاحفهم وكثرة سؤالهم له -صلى الله عليه وسلم- وتعنيتهم إياه عن أخبار أنبيائهم وأسرار علومهم ومستودعات سيرهم وإعلامه لهم بمكتوم شرائعهم ومضمَّنات كتبهم؛ مثل سؤالهم عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف وعيسى وحكم الرجم وما حَرَّم إسرائيل على نفسه وما حُرِّم عليهم من الأنعام ومن طيباتٍ كانت أُحِلَّت لهم فحرِّمت عليهم ببغيهم، وقوله: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ}[الفتح: 29]، وغير ذلك من أمورهم التي نزل فيها القرآن فأجابهم وعرّفهم بما أُوحي إليهم من ذلك، فما أنكروا ذلك ولا كذّبوه، بل أكثرهم صرَّح بصحةِ نبوته وصدقِ مقالته واعترف بعناده وحسَده إيَّاه؛ كأهل نَجْرانَ وابن صُوريا وابنَيْ أخطب وغيرهم. ومَن باهَتَ في ذلك بعض المباهتة وادَّعى أن فيما عندهم من ذلك لما حكاه مخالفةً دُعِي إلى إقامة حجته وكشف دعوته فقيل له: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[آل عمران: 93- 94]، فقرَّع ووبَّخ ودعا إلى إحضارِ ممكِنٍ غير ممتنِعٍ، فمِن معترفٍ بما جحده، ومتواقحٍ يُلقِي على فضيحته من كتابه يدَه، ولم يؤثَر أن واحدًا منهم أظهر خلافَ قوله من كتبه ولا أبدى صحيحًا ولا سقيمًا من صُحفه. قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}[المائدة: 15]؛ الآيتين».

    ثم عدَّ من غير هذين الوجهين «آيًا وردت بتعجيز قوم في قضايا، وإعلامهم أنهم لا يفعلونها، فما فعلوا ولا قدروا على ذلك؛ كقوله لليهود: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 94]، قال أبو إسحاق الزجاج: في هذه الآية أعظم حجة وأظهر دلالة على صحة الرسالة؛ لأنه قال لهم: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ}، وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبدًا؛ فلم يتمنَّه واحدٌ منهم... فصَرَفهم الله عن تمنّيه وجزَّعهم؛ ليُظهر صِدقَ رسوله وصحَّةَ ما أَوحى إليه؛ إذ لم يتمنه أحد منهم، وكانوا على تكذيبه أحرص لو قدروا، ولكن الله يفعل ما يريد. فظهرت بذلك معجزاته وبانت حجته... وكذلك آية المباهلة من هذا المعنى حيث وفد عليه أساقفة نجران وأبَوا الإسلام، فأنزل الله تعالى عليه آية المباهلة بقوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران: 61]، فامتنعوا منها ورضوا بأداء الجزية، وذلك أن العاقب عظيمهم قال لهم: قد علمتهم أنه نبي، وأنه ما لاعن قومًا نبيٌّ قط فبقي كبيرهم ولا صغيرهم. ومثله قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}[البقرة: 23، 24]، فأخبرهم أنهم لا يفعلون كما كان. وهذه الآية أَدخَلُ في باب الإخبار عن الغيب، ولكن فيها من التعجيز ما في التي قبلها»[20].

    وكذا القرطبي، عدَّ من وجوه إعجازه «الإخبار عن الأمور التي تقدّمت في أول الدنيا إلى وقت نزوله من أميٍّ ما كان يتلو مِن قبله من كتاب، ولا يخطُّه بيمينه، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها، والقرون الخالية في دهرها، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه، وتحدَّوه به من قصص أهل الكهف، وشأن موسى والخضر -عليهما السلام-، وحال ذي القرنين، فجاءهم وهو أميٌّ من أمّة أُمِّيَّة، ليس لها بذلك علمٌ بما عرفوا من الكتب السالفة صحته، فتحققوا صِدقه»[21].

    وقال ابن تيمية (ت 728هـ): «ومعجزاته -صلى الله عليه وسلم- تزيد على ألف معجزة، مثل انشقاق القمر وغيره من الآيات، ومثل القرآن المعجز... ومثل إخباره بالغيوب التي لا يعلمها أحدٌ إلا بتعليم الله -عز وجل- من غير أن يُعلِّمه إيّاها بشرٌ. فأخبرهم بالماضي مثل قصة آدم ونوح وإبراهيم وموسى والمسيح وهود وشعيب وصالح وغيرهم، وبالمستقبلات. وكان قومه يعلمون أنه لم يتعلم من أهل الكتاب، ولا غيرهم، ولم يكن بمكة أحدٌ من علماء أهل الكتاب ممن يتعلم هو منه، بل ولا كان يجتمع بأحد منهم يعرف اللسان العربي، ولا كان هو يحسن لسانًا غير العربي، ولا كان يكتب كتابًا، ولا يقرأ كتابًا مكتوبًا... ولكن المقصود هنا ذِكر بعض ما في القرآن من أنه كان يخبرهم بالأمور الماضية خبرًا مفصَّلًا لا يعلمه أحد إلا أن يكون نبيًّا، أو مَن أخبره نبيٌّ، وقومه يعلمون أنه لم يخبره بذلك أحد من البشر، وهذا مما قامت به الحجة عليهم، وهم مع قوة عداوتهم له وحرصهم على ما يطعنون به عليه لم يمكنهم أن يطعنوا طعنًا يُقبل منهم، وكان علمُ سائر الأمم بأنّ قومه المعادين له المجتهدين في الطعن عليه لم يمكنهم أن يقولوا: إن هذه الغيوب علّمها إيّاه بشر، فوجب على جميع الخلق أنّ هذا لم يعلمه إياها بشر. ولهذا قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا}[هود: 49]»[22].

    ومن العلماء المتأخرين الذين أبانوا عن هذا المذهب بأنصع بيان الشيخ محمد رشيد رضا (ت 1354هـ)؛ إذ ذكَر لإعجاز القرآن سبعة وجوهٍ؛ أولها: إعجاز القرآن بأسلوبه ونظمه. والثاني: إعجاز القرآن ببلاغته. والثالث: إعجاز القرآن بما فيه من علم الغيب. والرابع: إعجاز القرآن بسلامته من الاختلاف. والخامس: إعجاز القرآن بالعلوم الدينية والتشريع. والسادس: إعجاز القرآن بعجز الزمان عن إبطال شيء منه. والسابع: إعجاز القرآن بتحقيق مسائل كانت مجهولة للبشر[23].

    والناظر في هذه الوجوه يرى أنَّ مَردَّ الخمسة الأخيرة منها -بصورة أو بأخرى- إلى الإعجاز الغيبي.

    ثم قال: «والحق الذي يقال في هذا المقام: أنّ ما أيّد اللهُ تعالى به رسلَه من الآيات الكونية كان مناسبًا لحال زمانِ كلٍّ منهم وأهله، وقامت الحجة على مَن شاهَد تلك الآيات في عهده ثم على مَن صدَّق المخبرين من بعده، وقد علم الله تعالى أن سلسلة النقل ستنقطع، وأن ثقة بعض المتأخرين به ولا سيما بعد انقطاع سلسلته ستَضعُف، وأن دلالتها على الرسالة ستُنكَر، فجعل الآية الكبرى على إثبات رسالة خاتم النبيين عِلمية دائمة لا تنقطع، وهي هذا الكتاب المعجز للخلق بما فيه من أنواع الإعجاز السبعة التي ذكرناها، وبينّا أن كل واحد منها آية بيِّـنة لمن ألقى السمع وهو شهيد، وكان مستقلًّا مطلقًا من أسْرِ النظريات المادية وقيود التقليد، إذ لا يَـتصور عاقلٌ يؤمن برب العالمين أن يَصدُر هذا الكتاب المشتمل على هذا القدر السَّنِيع[24] من المعاني، في هذا الأسلوب البديع والنظم المنيع من المباني من رجلٍ أميٍّ ولا متعلِّمٍ أيضًا، إلا أن يكون وحيًا اختصه به الرب -عز وجل-، ناهيك به وقد جزم بعجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله، ثم تحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله، فهذا التحدِّي حجةٌ مستقلة على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- بصرف النظر عن المتحدَّى به ما هو. وكل نوع من تلك الأنواع السبعة الثابتة للقرآن حجةٌ مستقلة في نفسها، وحجةٌ أنهضُ وأقوى باعتبار أميّة مَن جاء بها، فإن أمكَن تمحُّل المراء والجدل في بعض الوجوه التي ذكرنا لإعجازه، فهل يمكن ذلك في جملتها أو في كلٍّ منها؟ كلّا»[25].

    ولو ذهبنا نستقصي العلماءَ القائلين بذلك في كلِّ عصر ومِصر على اختلاف مذاهبهم ومدارسهم فلن توفي بذلك الطروس، ولجاء من ذلك ملء خزانة، ولكن فيما ذكر كفاية ومقنع[26].

    ولا إخالُ المخالفَ ينازعُ في هذا إلا أن يكون من جهة الاسم، لا من جهة الـمُسمَّى، فعبارة الأستاذ محمود شاكر «أنَّ ما في القرآن من مكنون الغيب، ومن دقائق التشريع ومن عجائب آيات الله في خلقه، كل ذلك بمعزل عن هذا التحدي المفضي إلى الإعجاز، وإن كان ما فيه من ذلك كله يعدّ دليلًا على أنَّه من عند الله تعالى، ولكنه لا يدلّ على أنَّ نظمه وبيانه مباين لنظم كلام البشر وبيانهم، وأنَّه كلام ربِّ العالمين، لا كلام بشر مثلهم»[27]، جَعلَت الإعجازَ تاليًا للتحدّي، والتحدي مُفضيًا إلى الإعجاز، فدلَّت قطعًا على أنَّه يعني بالإعجاز ما نعنيه بالإفحام والإبلاس، كما أكَّدت أنَّ ما في القرآن من مكنون الغيب ودقائق التشريع وعجائب الآيات في الخلق دليلٌ على أنَّه من عند الله تعالى. ولا مصير لذلك إلا إذا استبان صدقُها، واستحالةُ اطّراد صدقِ الراجم بالغيب في مثلها، فيُقطع بضرورة كونه من عند الله تعالى؛ لعجزِ البشر عن اختلاقها، وهذا هو معنى الإعجاز على ما حرَّرته المقالة.

    نعم؛ إنَّني -في الحقيقة- لا أستشكلُ صنيع الأستاذ شاكر -رحمه الله- بقدر ما أستشكلُ صنيع مَن اختار أنَّ التحدّي شرطٌ للإعجاز، وأنَّ المتحدَّى به من القرآن هو البلاغة والنظم فقط، ثم هو يَعُدُّ لإعجاز القرآن الكريم أوجهًا. فلازمُ الأمرين ألّا يوجد مُعجِزٌ في القرآن إلّا النظم والبلاغة وما إليهما، وهذا ما سار عليه الأستاذ شاكر -رحمه الله-. وأمَّا صنيع الأوَّل فلا يُحمل إلا على المسامحة، وإلا ففيه عدم ضبط حقائق المفاهيم وحدودها ومقاديرها والاصطلاحات الدالَّة عليها.

    وخلاصة القول:

    إنَّ القرآن الكريم بما ينطوي عليه من الإخبار بالمغيّبات التي لا يستطيع أن يأتي بمثلها مخلوقٌ؛ آيةُ صدقٍ وشاهِدُ عدلٍ على أنَّ الجائي به رسولُ الله إلى الإنس والجنّ. وإنَّ ذلك لمن أوجه إعجاز القرآن الكريم؛ لعجز المخلوقين إنسهم وجنّهم أن يأتوا بحديثٍ مثله يُخبر فيتحقق صدقه، ويطّرد وقوع خبره، وعلاوة على ذلك «فإعجازه من هذه الجهة للعرب ظاهر، إذ لا قِبل لهم بتلك العلوم، كما قال الله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا}[هود: 49]، وإعجازه لعامّة الناس أن تجيء تلك العلوم من رجلٍ نشَأ أميًّا في قوم أُميِّين، وإعجازه لأهل الكتاب خاصة؛ إذ كان ينبئهم بعلوم دينهم مع كونه أميًّا، ولا قِبَل لهم بأن يدَّعوا أنهم علَّموه؛ لأنه كان بمرأى من قومه في مكة بعيدًا عن أهل الكتاب الذين كان مستقرهم بقرى النضير وقريظة وخيبر وتيماء وبلاد فلسطين، ولأنه جاء بنَسْخِ دين اليهودية والنصرانية، والإِنحاء على اليهود والنصارى في تحريفهم، فلو كان قد تعلَّم منهم لأعلنوا ذلك وسجَّلوا عليه أنه عَقَّهم حقَّ التعليم»[28].

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * موقع الألوكة: (https://cutt.us/py5DH).
    [1] انظر: عربية القرآن، للدكتور عبد الصبور شاهين، مكتبة النافذة، مصر، ط1، 2006م (ص84).
    [2] لا يفوتني أن أتقدّم بخالص الشكر والتقدير لأخي العزيز فضيلة الباحث الدكتور خليل اليماني -‏حفظه الله تعالى- على اطلاعه على مسوّدة المقالة، وإثرائه إيّاها بملحوظاته ومناقشاته.‏
    [3] خير مَن يُمثّل هذا المذهب هو العلّامة الأستاذ محمود شاكر في تقديمه لكتاب (الظاهرة القرآنية) للمفكر الكبير مالك بن نبيّ، رحمهما الله تعالى. وسيأتي في ثنايا المقالة -بإذن الله- الجواب عن جملة كلامه.
    [4] أخرجه البخاري في صحيحه (ح7، ح4553)، ومسلم (ح1773).
    [5] وهو رأي ابن حزم وابن تيمية وغيرهم. انظر: الفصل في الملل والأهواء والنِّحَل، لابن حزم، ط مكتبة الخانجي، القاهرة (5/ 5-6)، وفيه يقول: «لو كان ما قالوا لسقطت أكثر آيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ كنبعان الماء من بين أصابعه، وإطعامه المئين والعشرات من صاع شعير وعَنَاق، ومرة أخرى من كسر ملفوفة في خمار، وكتَفْلِه في العين فجاشت بماء غزير إلى اليوم، وحنين الجذع، وتكليم الذراع، وشكوى البعير والذئب، والإخبار بالغيوب، وتمر جابر، وسائر معجزاته العظام؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- لم يتحدَّ بذلك كله أحدًا، ولا عمله إلا بحضرة أهل اليقين من أصحابه -رضي الله عنهم-»، في أوجه أخرى مذكورة ثَمَّ. وانظر: النبوات، لابن تيمية، ط أضواء السلف، الرياض، ط1، 1420هـ= 2000م (2/ 794- 795). وفيه يقول: «عامّة معجزات الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يتحدَّى بها ويقول: ائتوا بمثلها. والقرآن إنما تحداهم لمّا قالوا إنه افتراه، ولم يتحدّهم به ابتداءً، وسائر المعجزات لم يتحدَّ بها، وليس فيما نُقِلَ تحدٍّ إلا بالقرآن؛ لكن قد عُلم أنهم لا يأتون بمثل آيات الأنبياء. فهذا لازمٌ لها، لكن ليس من شرط ذلك أن يقارن خبره».
    [6] عربية القرآن، للدكتور عبد الصبور شاهين (ص83).
    [7] قد يُظَنُّ أنَّ سلامة القرآن من مصادمة الحقائق العلمية المستقرة أمرٌ هيّن، إذ لم يكن عليه إلا أن يتجنَّب الخوض في مُبهَمات العلوم، وغوامض المعارف، وأسرار الكون، وخفايا العلم؛ فيكون في مأمنٍ من ذلك، ولكن -على العكس- تقصَّد القرآن الكريم ذكر كثير من أسرار الكون وظواهره وتعمَّده؛ كخلق السماوات والأرض، وخلق الإنس والجنّ والملائكة، وسَوْق السحاب، وإزجائه، ومراكمته، ونزول الغيث، وظواهر الفَلَك والأجرام السماوية، وتكوُّن الأجنَّة ومراحل تطوُّرها، وعالم النبات، والبحار، والجبال... وغير ذلك الكثير، ومع هذا كلّه لم يُسقط العلم كلمة من كلماته، ولم يصادم جزئية من جزئياته. وما من كتاب من وضع البشر عرض لتنبؤات بهذه الكثرة في هذه المجالات إلا وأبطلها مَرُّ الزمان، واستقرارُ الحقائق العلمية. فالقولُ بإعجاز القرآن لخُلوِّه من الخطأ العلميّ حقٌّ؛ لنزول القرآن بمعلوماتٍ كان أهل عصر تنزيله يجهلونها أو كانوا يعتقدون فيها غير ما أخبر به القرآن عنها. انظر: خصائص القرآن الكريم، للدكتور فهد الرومي، ط3، طبعة وقفية (ص75، 76)، والعلم وحقائقه بين سلامة القرآن الكريم وأخطاء التوراة والإنجيل، للدكتور سامي عامري، إصدار مركز رواسخ، ط1، 1441هـ= 2019م (ص45، 46).
    [8] أحكام القرآن، للجصاص (2/ 8).
    [9] فتوح الغيب في الكشف عن قناع الغيب، للطيبي، نشرة جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، ط1، 1434هـ= 2013م (8/ 31- 32). فإعجاز الائتلاف هذا له جوانبُ عديدة؛ منها: 1- عدم وقوع تناقُض داخليّ فيه. 2- عدم مصادمته للحقائق الكونية. 3- ما أشار إليه الزرقاني وغيره من «أنَّ القرآن الكريم تقرؤه من أوله إلى آخره، فإذا هو محكَم السرد، دقيق السبك، متين الأسلوب، قوي الاتصال، آخذٌ بعضُه برقاب بعضٍ في سوره وآياته وجمله، يجري دم الإعجاز فيه كلِّه مِن ألِفه إلى يائه، كأنه سبيكة واحدة، ولا يكاد يوجد بين أجزائه تفكُّك ولا تخاذل، كأنه حلقة مفرغة أو كأنه سمطٌ وحيد، وعقد فريد، يأخذ بالأبصار، نُظمت حروفه وكلماته، ونسقت جمله وآياته، وجاء آخره مساوقًا لأوله، وبدَا أوله مواتيًا لآخره». انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، للزّرقاني، مطبعة عيسى البابي الحلبي، ط3 (1/ 60). وبالجملة؛ فهذا النوع من الإعجاز حقيق بالاستقصاء والتصنيف والتجلية بضرب الأمثلة.
    [10] بيان إعجاز القرآن، للخطابي، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، ط دار المعارف بمصر (ص23، 24).
    [11] سيأتي الردّ على هذا الاستشكال في الجزء الثالث من المقال بإذن الله.
    [12] بيان إعجاز القرآن، للخطابي (ص27، 28).
    [13] انظر: البرهان في علوم القرآن، للزركشي، ط دار إحياء الكتب العربية، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط1، 1376هـ= 1957م (2/ 95- 96).
    [14] التحرير والتنوير، لابن عاشور، الدار التونسية للنشر، 1984م (1/ 104- 105).
    [15] التحرير والتنوير، لابن عاشور (1/ 129).
    [16] النكت في إعجاز القرآن، للرماني، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن (ص75).
    [17] النكت في إعجاز القرآن، للرماني (ص110، 111).
    [18] إعجاز القرآن، للباقلاني، نشرة المعارف، تحقيق: السيد أحمد صقر، ط8، 2017م (33، 34)، وانظر: (ص48- 50) منه.
    [19] الهداية إلى بلوغ النهاية، لمكيّ بن أبي طالب، نشرة مجموعة بحوث الكتاب والسنة - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة الشارقة، حُقّق في عدّة رسائل جامعية بإشراف الدكتور الشاهد البوشيخي، ط1، 1429هـ= 2008م (6/ 4286).
    [20] انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض، ط عبد الحميد أحمد حنفي (1/ 221- 226).
    [21] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، نشرة دار الكتب المصرية، القاهرة، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، ط2، 1384هـ= 1964م (1/ 74).
    [22] الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح، لابن تيمية، نشرة دار العاصمة، السعودية، تحقيق: علي بن حسن - عبد العزيز بن إبراهيم - حمدان بن محمد، ط2، 1419هـ= 1999م (1/ 399- 403).
    [23] انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا، نشرة الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990م (1/ 165- 180).
    [24] السَّنِيع: الحَسَن. انظر: تهذيب اللغة (2/ 62).
    [25] تفسير المنار، محمد رشيد رضا (1/ 182- 183).
    [26] وانظر على سبيل المثال لا الحصر: تخجيل من حرَّف التوراة والإنجيل (2/ 729)، والسيف المسلول، للسبكي (ص509)، وفتح الباري، لابن حجر (6/ 583)، وبهجة المحافل وبغية الأماثل في تلخيص المعجزات والسير والشمائل، للحرضي (2/ 208)، ومعترك الأقران في إعجاز القرآن، للسيوطي (1/ 239- 242)، والإتقان، للسيوطي (4/ 19)، ومناهل العرفان، للزّرقاني (2/ 367- 389)، والمعجزة الكبرى، لأبي زهرة (ص65)، والتحرير والتنوير، لابن عاشور (1/ 104- 105)، والنبأ العظيم، للدكتور دراز (98- 99).
    [27] مداخل إعجاز القرآن الكريم، للأستاذ محمود شاكر، مطبعة المدني (ص158، 159).
    [28] التحرير والتنوير، لابن عاشور (1/ 129).
    الإعجاز الغيبي في القرآن بين الإثبات والنفي (1-3)* هل في القرآن الكريم إعجازٌ غيبيٌّ؟ الكاتب : محمود عبد الجليل روزن تنبعثُ هذه المقالة في التوفيق بين آراء المتكلمين في بعض مشكلات إعجاز القرآن الكريم؛ خلوصًا إلى محاولة تثبيت وجهٍ أصيل من أوجه إعجاز القرآن، وهو الإعجاز الغيبيّ، إذ هال بعضَ الباحثين السُّيولةُ المتصاعدةُ في عدّ أوجه إعجاز القرآن دون قيدٍ ولا ضابطٍ، فكان منهم أن نَفَوْا أن يكون في القرآن معجزٌ إلا البلاغة والنظم؛ فنَفَوْا أوجهًا تتابع علماء الأمة على عدِّها من إعجاز القرآن الكريم، ومنها الإعجاز الغيبيّ معقد حديثنا. فالمقصد الرئيس لهذه المقالة هو: إثبات أنَّ إخبار القرآن بالغيبِ مُعجِزٌ على المعنى الذي قاد إلى استظهاره النَّظرُ المنهجيُّ، ومن ثَمَّ التأهُّل للإجابة عن سؤال: هل يدخل الإخبار بالغيب في جملة المتحدَّى به من القرآن الكريم أم لا؟ ولم تتطرَّق المقالة للتقويم التفصيليّ لما يدخل في الـمُعجِز وما لا يدخل، وإن كانت قدَّمت ضابطًا عامًّا يمكن التأسيس عليه لبناء المعيار الصحيح الصالح للاضطلاع بهذه المهمة. كما تؤكّد المقالة ابتداءً أنَّه مهما اختلفت الأقوال في شأن أوجه إعجاز القرآن، ومهما استجدّت الآراء؛ فإنَّ الإعجاز البياني هو أساس كلِّ إعجاز قرآنيّ، ففي بيان القرآن تستكنّ كل وجوه إعجازه الأخرى الصحيحة، وعلى أساس ما ندرك من تراكيبه ومفرداته يكون تصوُّرنا لآيات الله تعالى في مضمونها الذي نبحث عنه[1]. وعليه؛ فالمقالة ستنتظم -بإذن الله- في ثلاثة أجزاء متسلسلة، كل منها يعالج جانبًا من الإشكال، وبيانها كالآتي: الجزء الأول: بعد التمهيد وضبط المصطلحات والحدود، يجيب عن سؤال: هل في القرآن الكريم إعجازٌ غيبيٌّ؟ الجزء الثاني: يجيب عن سؤال: هل يدخل الإخبار بالمغـيّبات في جملة المتحدَّى به؟ الجزء الثالث: ردّ بعض ما يُستشكل أو يَرِدُ على إجابة السؤال الثاني[2]. تمهيد: يتجاذب تفسيرَ إعجاز القرآن -في الجملة- ثلاثةُ مذاهب: 1- فبينَ مَن ينفي أن يكون القرآنُ معجِزًا بغير النَّظم والبيان[3]، وغالبًا ما يُطلق عليه الإعجاز اللغوي أو الإعجاز البلاغي أو إعجاز النَّظم، أو الإعجاز البياني. 2- وبين مُتوسِّعٍ في إثبات ألوانٍ من الإعجاز لا تقوم بها الحُجَّة، ولا ترتكز على أصولٍ مستقيمة في النَّظَر. 3- يأتي المذهب الوسط منذ ابتكار الكلام في قضية إعجاز القرآن، وهو أنَّ للقرآن وجوهًا من الإعجاز تتجاوز إعجاز النَّظم والبلاغة، مع الوقوف بحَذَر أمام بعض وجوه الإعجاز التي يقول بها المتوسِّعون. ولا يليق في هذا المقام المختصر أن نمثِّل بأمثلة دون أن نسوق حُجَجَ النُّظَّار وحجج مخالفيهم، وسيكون لذلك -إن شاء الله- مقامه ومقاله. غير أنَّ جُلَّ التفاوت في الإثبات والنفي لألوان من إعجاز القرآن الكريم راجعٌ إلى عدم ضبط مفهومه وحدوده، فالحقُّ أنَّ المثبت والنافي قد يكونان على حقٍّ كلُّهم إذا احتُكم في الفصل بينهم إلى الحدود التي وضعها كلٌّ منهم لتعريف إعجاز القرآن. والحقيقة الواضحة التي قد يُغفل عنها أنَّ حدود المفاهيم وضوابطها ومعايير اعتبارها تُكتَشَف ولا تُخترَع، فإذا رامَ باحثٌ اختراعَ ما حقُّه الاكتشافُ خرج عن نطاق البحث المنهجيّ المنضبط إلى ما يُشبه الذَّوقَ النسبيَّ الخاصَّ الذي قد يُوافَق عليه وقد لا يُوافَق. وعليه؛ فإنَّ أوَّل منطلق لتقويمِ النَّظَر إلى ألوان إعجاز القرآن الكريم أن تُحرَّر ضوابطُه وتخطَّطَ حدودُه استكشافًا لا اختراعًا. وتُلمِحُ القضيةُ من وجهها للمفرِّق بين ثلاثة مفاهيم حاضرةٍ في الكلام على براهين النبوة، يسقط باستظهارها -في تقديري- كثيرٌ من الاختلاف بين طوائف المتكلِّمين في اشتراط التحدِّي للمعجزة، وما يلزم منه من إسقاط كثير من معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- التي لم يَـتحدَّ بها. ويتأسَّس على هذا الطرحِ البناءُ الصحيحُ لبيان أوجه إعجاز القرآن الكريم، وضبط ما يدخل فيها وما يخرج منها. وفيما يأتي نستعرض بإيجاز تلك المفاهيم الثلاثة. الأول: مطلق مفهوم الآية: وهي العَلَامة على صدق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبرهان نبوّته. ولا يشترط للعلامة أن تكون مما يفوق قدرة المخلوقين على الإتيان به أو بمثله، كما كان صدقُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وأمانتُه قبلَ نُبوَّته آيةً على أنَّه رسولٌ، فكان ذلك حاديًا كافيًا لكثيرٍ ممَّن آمنوا به وصدّقوه -صلى الله عليه وسلم-، وكما وقع في المسائل التي سأل هرقلُ عنها أبا سفيان -رضي الله عنه-، وكانت كافية لأن يقول: «فإن كان ما تقول حقًّا فإنه نبيٌّ [وفي رواية: فسَيَمْلِكُ موضعَ قدمَيَّ هاتين]، وقد كنتُ أعلمُ أنه خارجٌ، ولم أكن أظنُّ أنه منكم، فلو أنِّي أعلمُ أنّي أَخْلُصُ إليه لأحببتُ لقاءَه [وفي رواية: لتجشَّمتُ]، ولو كنتُ عنده لغَسَلْتُ عن قدَمَيْه»[4]. الثاني: مفهوم الـمُعجزة: وهي الآية التي يَعجِز المخلوقون عن الإتيان بها من عند أنفسهم، وإنما يؤيِّد بها الله -عز وجل- المرسلين -صلوات الله عليهم- برهانًا على صدق رسالتهم. فالمعجزة: برهان صدق المخبِر يعجز غيره عن الإتيان بمثله بإطلاقٍ. وعليه، فالآية أعمُّ من الـمُعجزة، فكلُّ معجزةٍ آيةٌ، ولا عكس. ومعجزة القرآن كامنةٌ في الدلائل القاطعة بتعيُّن كونه من عند الله تعالى؛ لعجز مَن سواه -سبحانه وتعالى- عن الإتيان بمثله. وإعجاز القرآن: احتواؤه شكلًا وجوهرًا ومضمونًا على ما يُعجَزُ عن الإتيان بمثله من عند غير الله تعالى. ولـمَّا كان القرآن يستعمل لفظ (الآية) و(البرهان)، و(السلطان) للدلالة على مفهوم المعجزة، ولما كان السَّواد الأعظم من آيات الرسل مُعجزاتٍ لا يُقدر على الإتيان بمثلها؛ جاز إطلاق المعجزة على الآية، والآية على المعجزة، ولا غضاضة في ذلك؛ فالأول اصطلاح القرآن، والثاني صفةٌ غالبةٌ، فإن اقتُصر عليه جاز من باب إطلاق الصفة على الموصوف، فهذا من الاصطلاح الذي لا مُشاحَّة فيه، ما دام الفرق بينهما مُستحضرًا عند الحاجة. المفهوم الثالث: مفهوم الإفحام بالتحدِّي: وهو أن يُدعَى المكذِّب بالمعجزة إلى الإتيان بمثلها فيُبلِس وينقطع، فيتحقّق صدقُ الرسول. والصواب الذي دلَّ عليه النقل والنَّظر أنَّ المعجزة مُتحقِّقة بالتحدِّي أو دونه، فهي لا تفتقر إلى التحدِّي لتكون معجزة. فانفلاقُ البحر لموسى -عليه السلام- وانفجار الحَجَر بضربة عصاه باثنتي عشرة عينًا، وفرار الحجَر بثوبه، ونبع الماء من بين يدي النبيّ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وانشقاق القمر، وحنين الجذع ونحو ذلك؛ مُعجزاتٌ، إذ يَعجِز أن يأتي بها غيرُ مؤيَّد من عند الله تعالى، ومع ذلك لم يتَحدَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بغير القرآن، ولم يتحدَّ موسى -عليه السلام- بشيء من المعجزات المذكورة. فاشتراط التحدِّي يُسقط جُلَّ المعجزات[5]. فالمعجزةُ تُعجِز مَن رامَ الإتيان بمثلها ولو من غير تحدٍّ، فإذا طالبه صاحب المعجزة بالإتيان بمثلها فانقطع وأُفحِم، فهو أمعن في البرهان على صدق المتحدِّي. فهذا هو مفهوم الإفحام بالتحدّي، وهو زائد عن مفهوم الإعجاز كما ترى. فالتحدّي قدر زائد عن الإعجاز، إذ عجْزُ الـمُتحدَّى حاصلٌ قبل التحدّي، كما هو حاصلٌ بعده، ولكن إذا تحدّاهم فأُبلسوا وانقطعوا جاز أن نسمّيه إفحامًا. فإفحام القرآنِ: إبلاس المتحدَّى بالإتيان بمثله. ومما يتّضح به الأمر تمثيلًا: أنَّ رجلًا إذا أراد أن يحمل حملًا ثقيلًا فلم يستطع صحَّ أن يُسمّى عاجزًا، والحمل مُعجزه، فإذا باراه رجلٌ فحمل حملًا ثم تحدَّاه أن يحمله أو يحمل مثله، فحاول فلم يستطع؛ فهو فوق عجزه مُفحَم خاسرٌ للتحدِّي. وعليه، فكلّ مُفحِمٌ مُعجِزٌ، ولكن لا يتحقّق الإفحام إلا بعد التحدِّي. وإعجاز القرآن سابقٌ للتحدِّي به، ويجوز أن نقول: الإعجاز لازمٌ، والتحدّي طارئٌ، «ولا بد أن نقرّر هنا أنَّ مفهوم الإعجاز كان قائمًا وواردًا من أول يوم نزلت فيه الآيات الأولى من سورة العلق»[6]. ويجب أن يُعلَم أنَّ عدم إقرار المتحدَّى بإبلاسه، وتشغيبه بالتُّهَم، والادّعاء الأجوف بالقدرة عليه، والإتيان بتفاهاتٍ يدّعِي بها المعارضة؛ كل ذلك لا يُغيّر حقيقة إبلاسه، كما لم يُغيّر حقيقة إبلاس الإنس والجنّ وعجزهم أن يأتوا بمثل القرآن دعوى المخالف قديمًا وحديثًا أنه سِحرٌ وشِعرٌ وافتراءٌ، وهَذَيَان مسيلمة، والفرقان الأمريكي... ونحو ذلك مما هو معلوم بطلانه وسقوطه للمخالف قبل الموافق. هل في القرآن الكريم إعجازٌ غيبيٌّ؟ بناءً على ما تقدّم، فإنّه يكفي لإثبات الإعجاز الغيبي في القرآن أن نجد فيه إخبارًا بغيوبٍ يستحيل -بإطلاقٍ- على البشر الإخبار بها، أو يستحيل على مَن كان مثلَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُخبر بها من عند نفسه. والـمُعجزة قد تكون برهانًا في نفسها بغضِّ النَّظر عن ظرفها وملابساتها، كما كان إحياء الموتى وخَلْق الطير بإذن الله برهانًا على كَوْن المسيح -عليه السلام- رسولًا من عند الله -عز وجل- إذ لا يقدر على ذلك في الحقيقة إلا الله -عز وجل-. ووجه البرهان فيها أنَّها لما كانت خارجة عن قدرة المخلوقين كانت دليلًا على أنَّها من عند الخالقِ -عز وجل-، فإذا اقترن ذلك بإخبار الرسول بأنَّها من عند الله -عز وجل- وأنَّه مرسلٌ لإبلاغ رسالة الله -عز وجل- قامت عليهم الحُجَّة، فيحيا من حييَ عن بينة ويهلك من هلك عن بيّنة. وقد تكون المعجزة برهانًا على صدق مَن جاء بها لحالٍ معيّنة مُلابِسة لظرف المجيء بها، كحملِ مريم بالمسيح -عليهما السلام- فحملُ المرأة البالغة أمرٌ ممكن إذا جامعها بالِغٌ، ولكن غير المعتاد أن تحمل دون ذلك، فتلك آيتُها ومُعجزتُها. وقد يتكلم الرضيعُ مُبكِّرًا عن أنداده، ولكن أن يتكلَّم في أسبوع وضعه فهذا خارجٌ عن المعهود، ثم أنْ يتكلَّمَ بحديثٍ كحديث عيسى -عليه السلام- في مهده، فهذا أمرٌ مُعجِزٌ خارقٌ لا محالة، فهذا وجه كونه برهانًا على صدق نبوّته، وعلى براءة والدته. وأن يتكلَّمَ القارئُ المعلَّمُ الذي وقف عمره لطلب العلم ببعض ما استفاده من علوم السابقين والباقين فيُخبر بما لا يعلمه إلا الصفوة المعلِّمون؛ فذلك أمرٌ مطروقٌ مقدورٌ. وأمَّا أن يفعل ذلك مَن استفاض العلمُ بأنَّه لا يقرأ ولا يكتبُ، ولم يجلس يومًا ليطلب هذه العلوم على أربابها، ولم يسمعها من نقَلتِها، ولم يتكهَّن؛ فهذا مُعجِزٌ خارجٌ عن قدرات الإنس والجنّ، فإذا كانت الأخبار التي يُحدِّث بها مما اندرس علمه إلا على صفوة الصفوة، أو مما طوته الأزمان الغابرة، وتراكم عليه غبار النسيان، فيأتي بها على ما كانَ؛ فهذا أقومُ بالإعجاز، لا يتوقّف عاقلٌ في القول بأنَّه مُعجزٌ لا محالةَ. وإذا كانت تلك الأخبار مما لا سبيل إلى معرفته أصلًا بما لدى البشر ومَن في مقدورهم الاستعانة بهم كالجنِّ، من علومٍ وفنونٍ ومعارف وقدرات؛ كالأخبار عن الغيب، والأخبار عن الحوادث الماضية التي حُرّفت أو تنوسيت تمامًا، وكالكوائن المستقبلة، ثم تتقدّم علوم البشر وتتنوّع مآخذها ومناهجها فلا يوجد في القرآن مصادمٌ لحقائقها[7]؛ بل يجدون به أخبارًا يُتحقَّق صدقُ وقوعها كلها بعدُ بما يستجدُّ لديهم من معارف وعلومٍ، وبما ينكشف عنه مَرُّ الزمن؛ فهذا هو المنتهى في الإعجاز، لا سيما والمخبَر به من هذه الأنواع كثيرٌ جدًّا، وليس خبرًا واحدًا ولا اثنين ولا نحو ذلك مما يمكن أن يقال فيه: حدسٌ مصيبٌ، أو نبوءة مُوفَّقة، أو صُدفة مُواتية. فإذا نزَّل الـمُنصِفُ هذه الحقيقةَ على القرآن الكريم حَكَم لا محالة بأنَّه كتاب مُعجِزٌ من هذا الوجه؛ أعني الإخبارَ بالمغيَّبات، ما كان منها ضاربًا في القِدَم، وما كان منها مستقبلًا، وما كان منها كامنًا في السرائر فيجلّيه ويفضحه، وغير ذلك من صنوف الغيوب. فهو وجهٌ من وجوهِ الإعجاز القرآني لأسبابٍ؛ منها: الأول: أنَّ الجائي به أميٌّ غير معلَّم. الثاني: أنَّ بعض الأخبار الماضية التي يذكرها تندُّ عن علوم الصفوة، فلا تتوقَّف عند حدِّ علومهم، بل تتجاوزها وتُصوِّبها، ثم لا يملك المنصفون منهم إلا أن يُقرّوا بصوابه وبخطئهم، وبعُلوّه عليهم وهيمنته. الثالث: أنَّ بعض هذه الأخبار الماضية مما كان علمه وقت نزول القرآن منطويًا عن البشرية جمعاء، ولم يكن مُدوَّنًا في صحفٍ يمكن الوصول إليها وقتئذٍ، ولم يكن مما يتناقله الرواة؛ بل ربما كانت مروياتهم وحسبانهم بعكس ما أثبته، فلما تطاول العُمُر بالبشرية تحقَّق لديهم بعلومهم المبتكرة صِدقُ ما أخبر به، فأقروا بأنَّهم مسبوقون. الرابع: أنَّ الأخبار المستقبلة الكثيرة التي أخبر بها لم تزل تقع واحدةً تلو الأخرى على الوجه الذي نبَّأ به، لا يزيدها تقدُّم العلوم إلا تأكُّدًا، وتسليمًا بصحّتها، «ولا يكون ذلك على الاتفاق مع كثرة ما أخبر به عن الغير في الأمور المستقبلة فوجد مخبره على ما أخبر به من غير خُلف، وذلك لا يكون إلا من عند الله تعالى العالم بالغيوب؛ إذ ليس في وُسع أحدٍ من الخلق الإخبار بالأمور المستقبلة، ثم يتفق مخبر إخباره على ما أخبر به من غير خُلف لشيء منه»[8]. الخامس: أنَّ كلَّ ذلك متساوقٌ أوله مع آخره في ائتلافٍ تامٍّ، لا يتّفق وقوعه -فيما قضت به العادة- في كتابٍ بشريٍّ به هذا العدد الهائل من المعلومات، فهذا داخلٌ فيما يصحّ أن يُطلق عليه إعجاز الائتلاف المشار إليه في قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء: 82]. ومن هذا الائتلاف أنَّ الحقائق المذكورة فيه منسجمة مع السنن والقوانين الكونية الطبيعية؛ وهذا لا يكون إلا إذا كان مُنزِلُ الكتاب المسطور هو خالقَ الكون المنظور وفاطِرَه. قال الطِّيبي شارحًا: {لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء: 82]؛ أي: «لكان الكثير منه متناقضًا، قد تفاوت نظمه وبلاغته ومعانيه، فكان بعضه بالغًا حد الإعجاز، وبعضه قاصرًا عنه يمكن معارضته، وبعضه إخبارًا بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه مخالفًا، وبعضه دالًّا على معنًى صحيح عند علماء المعاني، وبعضه بخلافه. فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائتة لقوى البلغاء، وتناصر صحة معانٍ وصدق إخبار؛ عُلم أنه ليس إلا من عند قادر يقدر على ما لا يقدر عليه غيره، عالم بما لا يعلمه أحد سواه»[9]. فالإعجاز الغيبي إذن وجهٌ أصيلٌ من وجوه إعجاز القرآن، سواء قلنا بأنَّه داخلٌ فيما هو متحدًّى به أم لا، وعلى ذلك تعاقبت كلمة جمهور المتكلّمين من علماء الأمة في إعجاز القرآن. وكانت هذه الحقيقة جليَّة للإمام الخطابيّ (ت 388هـ)، وهو مِن أوّل مَن وصَلَنا كلامُهم في إعجاز القرآن، ورغم أنَّه يذهب إلى عدم دخول الإخبار بالمغيّبات في جملة المتحدَّى به؛ فإنه يقرّر دخوله في أوجه إعجاز القرآن الكريم. قال: «وزعمَتْ طائفة أنَّ إعجازه إنما هو فيما يتضمنه من الإخبار عن الكوائن في مستقبل الزمان نحو قوله سبحانه: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ}[الروم: 1- 4]، وكقوله سبحانه: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ}[الفتح: 16]، ونحوهما من الأخبار التي صدَّقَت أقوالَها مواقعُ أكوانها. قلت: ولا يُشَكُّ في أنَّ هذا وما أشبهه من أخباره نوعٌ من أنواع إعجازه، ولكنه ليس بالأمر العام الموجود في كل سورة من سور القرآن، وقد جعل سبحانه في صفة كل سورة أن تكون معجزة بنفسها لا يقدر أحدٌ من الخلق أن يأتي بمثلها: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 23] من غير تعيين، فدلّ على أنَّ المعنى فيه غير ما ذهبوا إليه»[10]. فهو يقرُّ بوضوح بأنَّ هذا نوعٌ من أنواع إعجازه، ولكنّه لا يُسلَّم بعمومه لعدم وقوع الإخبار بالمغيّبات في كلِّ سورة، وآخرُ المتحدّى به سورةٌ كما هو معلوم. وبغضِّ النَّظر عن دقَّة هذا الأمر[11]؛ فلعلَّ الإمام لو فرَّق بين مفهوم الإعجاز والإفحام لجاءت عبارته خالية من شبهة التناقض، ولأغلق باب الخلاف حول اشتراط التحدّي للمعجزة قبل أن يفتحه الباقلانيّ، وقد كان قريبًا جدًّا من ذلك. والله أعلم. وتأمّلْ قوله: «فتفهَّم الآن واعلمْ أنَّ القرآن إنما صار مُعجزًا؛ لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنًا أصحَّ المعاني من توحيدٍ له -عَزَّت قدرته-، وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساوئها، واضعًا كلَّ شيءٍ منها موضعه الذي لا يُرى شيءٌ أولى منه، ولا يُرى في صورة العقل أمرٌ أليق منه، مودعًا أخبار القرون الماضية، وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم، منبئًا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الباقية من الزمان، جامعًا في ذلك بين الحُجَّة والمحتجّ له، والدليل والمدلول عليه؛ ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه، وإنباء عن وجوب ما أمر به، ونهى عنه. ومعلوم أنَّ الإتيان بمثل هذه الأمور، والجمع بين شتاتها حتى تنتظم وتتَّسق؛ أمرٌ تعجز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قدرتهم، فانقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله. ثم صار المعاندون له ممن كفر به وأنكره يقولون مرة: إنه شِعرٌ، لما رأوه كلامًا منظومًا، ومرة سِحرٌ، إذ رأوه معجوزًا عنه، غير مقدور عليه، وقد كانوا يجدون له وقعًا في القلوب وقرعًا في النفوس يُريبهم ويحيّرهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعًا من الاعتراف، ولذلك قال قائلهم: إنّ له حلاوة وإن عليه طلاوة، وكانوا مرة لجهلهم وحيرتهم يقولون: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الفرقان: 5]، مع علمهم أن صاحبه أميٌّ وليس بحضرته مَن يُملي أو يكتب، في نحو ذلك من الأمور التي جماعها الجهل والعجز»[12]. وكذلك الزركشي (ت 794هـ) ذكر في وجوه إعجاز القرآن ما فيه من الإخبار عن الغيوب المستقبلة مما أخبر به بأنه سيقع فوقع، ولم يكن ذلك من شأن العرب. وكذا ما تضمَّن من إخباره عن قصص الأولين وسائر المتقدمين حكايةَ مَن شاهدها وحضرها. وذكر أنَّ هذين الوجهين مردودان بأنه يستلزم أن الآيات التي لا خبر فيها بذلك لا إعجاز فيها، وهو باطل فقد جعل الله كل سورة معجزة بنفسها. ثم قال: «نَعَم، هذا والذي قبله من أنواع الإعجاز؛ إلا أنه غير منحصر فيه»[13]. فالإعجاز الغيبي عنده مُعتبَر، على ألَّا ينحصر فيه الإعجاز؛ لأنَّ حصره فيه يجعل بعض السُّور لا إعجاز فيها؛ لأنَّ الـمُتحدَّى به سورةٌ. وكذلك الإمام الطاهر بن عاشور (ت 1393هـ) فإنه عدَّ الجهة الثالثة من جهات إعجاز القرآن ما أودع فيه من المعاني الحكمية والإشارات إلى الحقائق العقلية والعلمية مما لم تبلغ إليه عقول البشر في عصر نزول القرآن وفي عصور بعده متفاوتة، وذكر في الجهة الرابعة ما انطوى عليه من الأخبار عن المغيّبات مما دلَّ على أنه منزل من علام الغيوب[14]. ثم ذكر قرب نهاية هذا البحث أنَّ «هذه الجهة من الإعجاز إنما تثبت للقرآن بمجموعه، أيْ: مجموع هذا الكتاب؛ إذ ليست كل آية من آياته، ولا كلّ سورة من سوره بمشتملة على هذا النوع من الإعجاز، ولذلك فهو إعجاز حاصل من القرآن، وغير حاصلٍ به التحدِّي إلا إشارةً نحو قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء: 82]»[15]. ولم يزل العلماء مُتتابعين على عدِّ الإعجاز الغيبيّ من وجوهِ إعجاز القرآن الكريم، فقال الرماني (ت 384هـ): «وجوه إعجاز القرآن تظهر من سبع جهات: ترك المعارضة مع توفُّر الدواعي وشدة الحاجة، والتحدي للكافة، والصَّرفة، والبلاغة، والأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة، ونقض العادة، وقياسه بكل معجزة»[16]. ثم بيّنها فقال: «وأمّا الأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة فإنه لمّا كان لا يجوز أن تقع على الاتفاق؛ دلَّ على أنها من عند علّام الغيوب، فمِن ذلك قوله -عز وجل-: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}[الأنفال: 7]، فكان الأمر كما وعد من الظفر بإحدى الطائفتين: العير التي كان فيها أبو سفيان، أو الجيش الذين خرجوا يحملونها من قريش، فأظفرهم الله -عز وجل- بقريش يوم بدر على ما تقدم به الوعد. ومنه قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}[الروم: 1- 3]، ومنه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة: 33، والصف: 9]، ومنه: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}[البقرة: 94، 95]، ومنه: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة: 23، 24]، ومنه: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}[القمر: 45]، ومنه: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ}[الفتح: 27]، ومنه: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ}[الفتح: 20]، ثم قال: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا}[الفتح: 21]»[17]. وقال أبو بكر الباقلاني (ت 403هـ): «في جملة وجوه إعجاز القرآن: ذكر أصحابنا وغيرهم في ذلك ثلاثة أوجه من الإعجاز؛ أحدها: يتضمن الإخبار عن الغيوب، وذلك مما لا يقدر عليه البشر، ولا سبيل لهم إليه...»[18]. وقال مكيّ بن أبي طالب (ت 437هـ): «ومن إعجازه ما فيه من علوم الغيب التي لم تكن وقت نزوله ثم كانت ومنها ما لم تكن بعدُ. ومنها ما كانت ولم يكن أحد يعرفها في ذلك الوقت، فنزل علمها وتفسيرها في القرآن؛ كخبر يوسف وإخوته، وخبر ذي القرنين، وأهل الكهف، وإخبار الأمم الماضية والقرون الخالية، التي قد اندرس خبرها وعدم عارف أخبارها، وغير ذلك... فنزل القرآن بتبيانها ونصها على ما كانت عليه»[19]. وذكر القاضي عياض (ت 544هـ) أوجه إعجاز القرآن، فعدَّ الوجه الثالث منها «ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيّبات، وما لم يكن ولم يقع فوجد كما ورد على الوجه الذي أَخبر؛ كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}[الفتح: 27]، وقوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}[الروم: 3]، وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}[التوبة: 33، والفتح: 28، والصف: 9]، وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}[النور: 55]؛ الآية، وقوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}[النصر: 1]؛ إلى آخرها. فكان جميع هذا كما قال؛ فغَلبَت الرومُ فارس في بضع سنين، ودخل الناس في الإسلام أفواجًا، فما مات -صلى الله عليه وسلم- وفي بلاد العرب كلها موضعٌ لم يدخله الإسلام، واستخلف اللهُ المؤمنين في الأرض، ومكَّن فيها دينهم ومَلَّكَهم إياها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب... وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9]، فكان كذلك لا يكاد يُعدُّ مَن سعى في تغييره وتبديل محكمه من الملحدة والمعطِّلة لا سيما القرامطة، فأجمعوا كيدهم وحولهم وقوّتهم اليوم نيِّفًا على خمسمائة عام فما قدروا على إطفاء شيء من نوره، ولا تغيير كلمة من كلامه، ولا تشكيك المسلمين في حرف من حروفه والحمد لله... وما فيه من كشفِ أسرار المنافقين واليهود ومقالِهم وكذِبِهم في حَلِفِهم وتقريعهم بذلك كقوله: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ}[المجادلة: 8]، وقوله: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ}[آل عمران: 154]؛ الآية، وقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}[المائدة: 41]؛ الآية، وقوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ}[النساء: 46]. وقد قال مُبديًا ما قدَّره الله واعتقده المؤمنون يوم بدر: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}[الأنفال: 7]. ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}[الحجر: 95]، ولما نزلت بشَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك أصحابه بأنَّ الله كفاه إيّاهم، وكان المستهزئون نفرًا بمكة يُنفّرون الناس عنه ويؤذونه فهَلكوا، وقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة: 67]، فكان كذلك على كثرة مَن رامَ ضرَّه وقصَد قَتْله. والأخبار بذلك معروفة صحيحة». ثم ذكر الوجه الرابع فعدَّ فيه «ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الداثرة مما كان لا يَعلم منه القصةَ الواحدةَ إلا الفذُّ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلُّم ذلك، فيورده النبي -صلى الله عليه وسلم- على وجهه، ويأتي به على نصّه فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه، وأن مثله لم ينله بتعليم، وقد علموا أنه -صلى الله عليه وسلم- أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، ولا اشتغل بمدارسة ولا مثافنة، ولم يغب عنهم ولا جهل حالَه أحدٌ منهم. وقد كان أهل الكتاب كثيرًا ما يسألونه -صلى الله عليه وسلم- عن هذا فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذِكرًا؛ كقصص الأنبياء مع قومهم، وخبر موسى والخضر ويوسف وإخوته وأصحاب الكهف وذي القرنين ولقمان وابنه وأشباه ذلك من الأنباء، وبدء الخلق، وما في التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى مما صدَّقه فيه العلماء بها، ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها؛ بل أذعنوا لذلك، فمِن موفَّقٍ آمن بما سبق له من خيرٍ ومن شقيٍّ مُعاند حاسد، ومع هذا لم يُحكَ عن واحد من النصارى واليهود على شدة عداوتهم له وحرصهم على تكذيبه وطول احتجاجه عليهم بما في كتبهم وتقريعهم بما انطوت عليه مصاحفهم وكثرة سؤالهم له -صلى الله عليه وسلم- وتعنيتهم إياه عن أخبار أنبيائهم وأسرار علومهم ومستودعات سيرهم وإعلامه لهم بمكتوم شرائعهم ومضمَّنات كتبهم؛ مثل سؤالهم عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف وعيسى وحكم الرجم وما حَرَّم إسرائيل على نفسه وما حُرِّم عليهم من الأنعام ومن طيباتٍ كانت أُحِلَّت لهم فحرِّمت عليهم ببغيهم، وقوله: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ}[الفتح: 29]، وغير ذلك من أمورهم التي نزل فيها القرآن فأجابهم وعرّفهم بما أُوحي إليهم من ذلك، فما أنكروا ذلك ولا كذّبوه، بل أكثرهم صرَّح بصحةِ نبوته وصدقِ مقالته واعترف بعناده وحسَده إيَّاه؛ كأهل نَجْرانَ وابن صُوريا وابنَيْ أخطب وغيرهم. ومَن باهَتَ في ذلك بعض المباهتة وادَّعى أن فيما عندهم من ذلك لما حكاه مخالفةً دُعِي إلى إقامة حجته وكشف دعوته فقيل له: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[آل عمران: 93- 94]، فقرَّع ووبَّخ ودعا إلى إحضارِ ممكِنٍ غير ممتنِعٍ، فمِن معترفٍ بما جحده، ومتواقحٍ يُلقِي على فضيحته من كتابه يدَه، ولم يؤثَر أن واحدًا منهم أظهر خلافَ قوله من كتبه ولا أبدى صحيحًا ولا سقيمًا من صُحفه. قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}[المائدة: 15]؛ الآيتين». ثم عدَّ من غير هذين الوجهين «آيًا وردت بتعجيز قوم في قضايا، وإعلامهم أنهم لا يفعلونها، فما فعلوا ولا قدروا على ذلك؛ كقوله لليهود: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 94]، قال أبو إسحاق الزجاج: في هذه الآية أعظم حجة وأظهر دلالة على صحة الرسالة؛ لأنه قال لهم: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ}، وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبدًا؛ فلم يتمنَّه واحدٌ منهم... فصَرَفهم الله عن تمنّيه وجزَّعهم؛ ليُظهر صِدقَ رسوله وصحَّةَ ما أَوحى إليه؛ إذ لم يتمنه أحد منهم، وكانوا على تكذيبه أحرص لو قدروا، ولكن الله يفعل ما يريد. فظهرت بذلك معجزاته وبانت حجته... وكذلك آية المباهلة من هذا المعنى حيث وفد عليه أساقفة نجران وأبَوا الإسلام، فأنزل الله تعالى عليه آية المباهلة بقوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران: 61]، فامتنعوا منها ورضوا بأداء الجزية، وذلك أن العاقب عظيمهم قال لهم: قد علمتهم أنه نبي، وأنه ما لاعن قومًا نبيٌّ قط فبقي كبيرهم ولا صغيرهم. ومثله قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}[البقرة: 23، 24]، فأخبرهم أنهم لا يفعلون كما كان. وهذه الآية أَدخَلُ في باب الإخبار عن الغيب، ولكن فيها من التعجيز ما في التي قبلها»[20]. وكذا القرطبي، عدَّ من وجوه إعجازه «الإخبار عن الأمور التي تقدّمت في أول الدنيا إلى وقت نزوله من أميٍّ ما كان يتلو مِن قبله من كتاب، ولا يخطُّه بيمينه، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها، والقرون الخالية في دهرها، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه، وتحدَّوه به من قصص أهل الكهف، وشأن موسى والخضر -عليهما السلام-، وحال ذي القرنين، فجاءهم وهو أميٌّ من أمّة أُمِّيَّة، ليس لها بذلك علمٌ بما عرفوا من الكتب السالفة صحته، فتحققوا صِدقه»[21]. وقال ابن تيمية (ت 728هـ): «ومعجزاته -صلى الله عليه وسلم- تزيد على ألف معجزة، مثل انشقاق القمر وغيره من الآيات، ومثل القرآن المعجز... ومثل إخباره بالغيوب التي لا يعلمها أحدٌ إلا بتعليم الله -عز وجل- من غير أن يُعلِّمه إيّاها بشرٌ. فأخبرهم بالماضي مثل قصة آدم ونوح وإبراهيم وموسى والمسيح وهود وشعيب وصالح وغيرهم، وبالمستقبلات. وكان قومه يعلمون أنه لم يتعلم من أهل الكتاب، ولا غيرهم، ولم يكن بمكة أحدٌ من علماء أهل الكتاب ممن يتعلم هو منه، بل ولا كان يجتمع بأحد منهم يعرف اللسان العربي، ولا كان هو يحسن لسانًا غير العربي، ولا كان يكتب كتابًا، ولا يقرأ كتابًا مكتوبًا... ولكن المقصود هنا ذِكر بعض ما في القرآن من أنه كان يخبرهم بالأمور الماضية خبرًا مفصَّلًا لا يعلمه أحد إلا أن يكون نبيًّا، أو مَن أخبره نبيٌّ، وقومه يعلمون أنه لم يخبره بذلك أحد من البشر، وهذا مما قامت به الحجة عليهم، وهم مع قوة عداوتهم له وحرصهم على ما يطعنون به عليه لم يمكنهم أن يطعنوا طعنًا يُقبل منهم، وكان علمُ سائر الأمم بأنّ قومه المعادين له المجتهدين في الطعن عليه لم يمكنهم أن يقولوا: إن هذه الغيوب علّمها إيّاه بشر، فوجب على جميع الخلق أنّ هذا لم يعلمه إياها بشر. ولهذا قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا}[هود: 49]»[22]. ومن العلماء المتأخرين الذين أبانوا عن هذا المذهب بأنصع بيان الشيخ محمد رشيد رضا (ت 1354هـ)؛ إذ ذكَر لإعجاز القرآن سبعة وجوهٍ؛ أولها: إعجاز القرآن بأسلوبه ونظمه. والثاني: إعجاز القرآن ببلاغته. والثالث: إعجاز القرآن بما فيه من علم الغيب. والرابع: إعجاز القرآن بسلامته من الاختلاف. والخامس: إعجاز القرآن بالعلوم الدينية والتشريع. والسادس: إعجاز القرآن بعجز الزمان عن إبطال شيء منه. والسابع: إعجاز القرآن بتحقيق مسائل كانت مجهولة للبشر[23]. والناظر في هذه الوجوه يرى أنَّ مَردَّ الخمسة الأخيرة منها -بصورة أو بأخرى- إلى الإعجاز الغيبي. ثم قال: «والحق الذي يقال في هذا المقام: أنّ ما أيّد اللهُ تعالى به رسلَه من الآيات الكونية كان مناسبًا لحال زمانِ كلٍّ منهم وأهله، وقامت الحجة على مَن شاهَد تلك الآيات في عهده ثم على مَن صدَّق المخبرين من بعده، وقد علم الله تعالى أن سلسلة النقل ستنقطع، وأن ثقة بعض المتأخرين به ولا سيما بعد انقطاع سلسلته ستَضعُف، وأن دلالتها على الرسالة ستُنكَر، فجعل الآية الكبرى على إثبات رسالة خاتم النبيين عِلمية دائمة لا تنقطع، وهي هذا الكتاب المعجز للخلق بما فيه من أنواع الإعجاز السبعة التي ذكرناها، وبينّا أن كل واحد منها آية بيِّـنة لمن ألقى السمع وهو شهيد، وكان مستقلًّا مطلقًا من أسْرِ النظريات المادية وقيود التقليد، إذ لا يَـتصور عاقلٌ يؤمن برب العالمين أن يَصدُر هذا الكتاب المشتمل على هذا القدر السَّنِيع[24] من المعاني، في هذا الأسلوب البديع والنظم المنيع من المباني من رجلٍ أميٍّ ولا متعلِّمٍ أيضًا، إلا أن يكون وحيًا اختصه به الرب -عز وجل-، ناهيك به وقد جزم بعجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله، ثم تحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله، فهذا التحدِّي حجةٌ مستقلة على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- بصرف النظر عن المتحدَّى به ما هو. وكل نوع من تلك الأنواع السبعة الثابتة للقرآن حجةٌ مستقلة في نفسها، وحجةٌ أنهضُ وأقوى باعتبار أميّة مَن جاء بها، فإن أمكَن تمحُّل المراء والجدل في بعض الوجوه التي ذكرنا لإعجازه، فهل يمكن ذلك في جملتها أو في كلٍّ منها؟ كلّا»[25]. ولو ذهبنا نستقصي العلماءَ القائلين بذلك في كلِّ عصر ومِصر على اختلاف مذاهبهم ومدارسهم فلن توفي بذلك الطروس، ولجاء من ذلك ملء خزانة، ولكن فيما ذكر كفاية ومقنع[26]. ولا إخالُ المخالفَ ينازعُ في هذا إلا أن يكون من جهة الاسم، لا من جهة الـمُسمَّى، فعبارة الأستاذ محمود شاكر «أنَّ ما في القرآن من مكنون الغيب، ومن دقائق التشريع ومن عجائب آيات الله في خلقه، كل ذلك بمعزل عن هذا التحدي المفضي إلى الإعجاز، وإن كان ما فيه من ذلك كله يعدّ دليلًا على أنَّه من عند الله تعالى، ولكنه لا يدلّ على أنَّ نظمه وبيانه مباين لنظم كلام البشر وبيانهم، وأنَّه كلام ربِّ العالمين، لا كلام بشر مثلهم»[27]، جَعلَت الإعجازَ تاليًا للتحدّي، والتحدي مُفضيًا إلى الإعجاز، فدلَّت قطعًا على أنَّه يعني بالإعجاز ما نعنيه بالإفحام والإبلاس، كما أكَّدت أنَّ ما في القرآن من مكنون الغيب ودقائق التشريع وعجائب الآيات في الخلق دليلٌ على أنَّه من عند الله تعالى. ولا مصير لذلك إلا إذا استبان صدقُها، واستحالةُ اطّراد صدقِ الراجم بالغيب في مثلها، فيُقطع بضرورة كونه من عند الله تعالى؛ لعجزِ البشر عن اختلاقها، وهذا هو معنى الإعجاز على ما حرَّرته المقالة. نعم؛ إنَّني -في الحقيقة- لا أستشكلُ صنيع الأستاذ شاكر -رحمه الله- بقدر ما أستشكلُ صنيع مَن اختار أنَّ التحدّي شرطٌ للإعجاز، وأنَّ المتحدَّى به من القرآن هو البلاغة والنظم فقط، ثم هو يَعُدُّ لإعجاز القرآن الكريم أوجهًا. فلازمُ الأمرين ألّا يوجد مُعجِزٌ في القرآن إلّا النظم والبلاغة وما إليهما، وهذا ما سار عليه الأستاذ شاكر -رحمه الله-. وأمَّا صنيع الأوَّل فلا يُحمل إلا على المسامحة، وإلا ففيه عدم ضبط حقائق المفاهيم وحدودها ومقاديرها والاصطلاحات الدالَّة عليها. وخلاصة القول: إنَّ القرآن الكريم بما ينطوي عليه من الإخبار بالمغيّبات التي لا يستطيع أن يأتي بمثلها مخلوقٌ؛ آيةُ صدقٍ وشاهِدُ عدلٍ على أنَّ الجائي به رسولُ الله إلى الإنس والجنّ. وإنَّ ذلك لمن أوجه إعجاز القرآن الكريم؛ لعجز المخلوقين إنسهم وجنّهم أن يأتوا بحديثٍ مثله يُخبر فيتحقق صدقه، ويطّرد وقوع خبره، وعلاوة على ذلك «فإعجازه من هذه الجهة للعرب ظاهر، إذ لا قِبل لهم بتلك العلوم، كما قال الله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا}[هود: 49]، وإعجازه لعامّة الناس أن تجيء تلك العلوم من رجلٍ نشَأ أميًّا في قوم أُميِّين، وإعجازه لأهل الكتاب خاصة؛ إذ كان ينبئهم بعلوم دينهم مع كونه أميًّا، ولا قِبَل لهم بأن يدَّعوا أنهم علَّموه؛ لأنه كان بمرأى من قومه في مكة بعيدًا عن أهل الكتاب الذين كان مستقرهم بقرى النضير وقريظة وخيبر وتيماء وبلاد فلسطين، ولأنه جاء بنَسْخِ دين اليهودية والنصرانية، والإِنحاء على اليهود والنصارى في تحريفهم، فلو كان قد تعلَّم منهم لأعلنوا ذلك وسجَّلوا عليه أنه عَقَّهم حقَّ التعليم»[28]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * موقع الألوكة: (https://cutt.us/py5DH). [1] انظر: عربية القرآن، للدكتور عبد الصبور شاهين، مكتبة النافذة، مصر، ط1، 2006م (ص84). [2] لا يفوتني أن أتقدّم بخالص الشكر والتقدير لأخي العزيز فضيلة الباحث الدكتور خليل اليماني -‏حفظه الله تعالى- على اطلاعه على مسوّدة المقالة، وإثرائه إيّاها بملحوظاته ومناقشاته.‏ [3] خير مَن يُمثّل هذا المذهب هو العلّامة الأستاذ محمود شاكر في تقديمه لكتاب (الظاهرة القرآنية) للمفكر الكبير مالك بن نبيّ، رحمهما الله تعالى. وسيأتي في ثنايا المقالة -بإذن الله- الجواب عن جملة كلامه. [4] أخرجه البخاري في صحيحه (ح7، ح4553)، ومسلم (ح1773). [5] وهو رأي ابن حزم وابن تيمية وغيرهم. انظر: الفصل في الملل والأهواء والنِّحَل، لابن حزم، ط مكتبة الخانجي، القاهرة (5/ 5-6)، وفيه يقول: «لو كان ما قالوا لسقطت أكثر آيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ كنبعان الماء من بين أصابعه، وإطعامه المئين والعشرات من صاع شعير وعَنَاق، ومرة أخرى من كسر ملفوفة في خمار، وكتَفْلِه في العين فجاشت بماء غزير إلى اليوم، وحنين الجذع، وتكليم الذراع، وشكوى البعير والذئب، والإخبار بالغيوب، وتمر جابر، وسائر معجزاته العظام؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- لم يتحدَّ بذلك كله أحدًا، ولا عمله إلا بحضرة أهل اليقين من أصحابه -رضي الله عنهم-»، في أوجه أخرى مذكورة ثَمَّ. وانظر: النبوات، لابن تيمية، ط أضواء السلف، الرياض، ط1، 1420هـ= 2000م (2/ 794- 795). وفيه يقول: «عامّة معجزات الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يتحدَّى بها ويقول: ائتوا بمثلها. والقرآن إنما تحداهم لمّا قالوا إنه افتراه، ولم يتحدّهم به ابتداءً، وسائر المعجزات لم يتحدَّ بها، وليس فيما نُقِلَ تحدٍّ إلا بالقرآن؛ لكن قد عُلم أنهم لا يأتون بمثل آيات الأنبياء. فهذا لازمٌ لها، لكن ليس من شرط ذلك أن يقارن خبره». [6] عربية القرآن، للدكتور عبد الصبور شاهين (ص83). [7] قد يُظَنُّ أنَّ سلامة القرآن من مصادمة الحقائق العلمية المستقرة أمرٌ هيّن، إذ لم يكن عليه إلا أن يتجنَّب الخوض في مُبهَمات العلوم، وغوامض المعارف، وأسرار الكون، وخفايا العلم؛ فيكون في مأمنٍ من ذلك، ولكن -على العكس- تقصَّد القرآن الكريم ذكر كثير من أسرار الكون وظواهره وتعمَّده؛ كخلق السماوات والأرض، وخلق الإنس والجنّ والملائكة، وسَوْق السحاب، وإزجائه، ومراكمته، ونزول الغيث، وظواهر الفَلَك والأجرام السماوية، وتكوُّن الأجنَّة ومراحل تطوُّرها، وعالم النبات، والبحار، والجبال... وغير ذلك الكثير، ومع هذا كلّه لم يُسقط العلم كلمة من كلماته، ولم يصادم جزئية من جزئياته. وما من كتاب من وضع البشر عرض لتنبؤات بهذه الكثرة في هذه المجالات إلا وأبطلها مَرُّ الزمان، واستقرارُ الحقائق العلمية. فالقولُ بإعجاز القرآن لخُلوِّه من الخطأ العلميّ حقٌّ؛ لنزول القرآن بمعلوماتٍ كان أهل عصر تنزيله يجهلونها أو كانوا يعتقدون فيها غير ما أخبر به القرآن عنها. انظر: خصائص القرآن الكريم، للدكتور فهد الرومي، ط3، طبعة وقفية (ص75، 76)، والعلم وحقائقه بين سلامة القرآن الكريم وأخطاء التوراة والإنجيل، للدكتور سامي عامري، إصدار مركز رواسخ، ط1، 1441هـ= 2019م (ص45، 46). [8] أحكام القرآن، للجصاص (2/ 8). [9] فتوح الغيب في الكشف عن قناع الغيب، للطيبي، نشرة جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، ط1، 1434هـ= 2013م (8/ 31- 32). فإعجاز الائتلاف هذا له جوانبُ عديدة؛ منها: 1- عدم وقوع تناقُض داخليّ فيه. 2- عدم مصادمته للحقائق الكونية. 3- ما أشار إليه الزرقاني وغيره من «أنَّ القرآن الكريم تقرؤه من أوله إلى آخره، فإذا هو محكَم السرد، دقيق السبك، متين الأسلوب، قوي الاتصال، آخذٌ بعضُه برقاب بعضٍ في سوره وآياته وجمله، يجري دم الإعجاز فيه كلِّه مِن ألِفه إلى يائه، كأنه سبيكة واحدة، ولا يكاد يوجد بين أجزائه تفكُّك ولا تخاذل، كأنه حلقة مفرغة أو كأنه سمطٌ وحيد، وعقد فريد، يأخذ بالأبصار، نُظمت حروفه وكلماته، ونسقت جمله وآياته، وجاء آخره مساوقًا لأوله، وبدَا أوله مواتيًا لآخره». انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، للزّرقاني، مطبعة عيسى البابي الحلبي، ط3 (1/ 60). وبالجملة؛ فهذا النوع من الإعجاز حقيق بالاستقصاء والتصنيف والتجلية بضرب الأمثلة. [10] بيان إعجاز القرآن، للخطابي، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، ط دار المعارف بمصر (ص23، 24). [11] سيأتي الردّ على هذا الاستشكال في الجزء الثالث من المقال بإذن الله. [12] بيان إعجاز القرآن، للخطابي (ص27، 28). [13] انظر: البرهان في علوم القرآن، للزركشي، ط دار إحياء الكتب العربية، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط1، 1376هـ= 1957م (2/ 95- 96). [14] التحرير والتنوير، لابن عاشور، الدار التونسية للنشر، 1984م (1/ 104- 105). [15] التحرير والتنوير، لابن عاشور (1/ 129). [16] النكت في إعجاز القرآن، للرماني، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن (ص75). [17] النكت في إعجاز القرآن، للرماني (ص110، 111). [18] إعجاز القرآن، للباقلاني، نشرة المعارف، تحقيق: السيد أحمد صقر، ط8، 2017م (33، 34)، وانظر: (ص48- 50) منه. [19] الهداية إلى بلوغ النهاية، لمكيّ بن أبي طالب، نشرة مجموعة بحوث الكتاب والسنة - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة الشارقة، حُقّق في عدّة رسائل جامعية بإشراف الدكتور الشاهد البوشيخي، ط1، 1429هـ= 2008م (6/ 4286). [20] انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض، ط عبد الحميد أحمد حنفي (1/ 221- 226). [21] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، نشرة دار الكتب المصرية، القاهرة، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، ط2، 1384هـ= 1964م (1/ 74). [22] الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح، لابن تيمية، نشرة دار العاصمة، السعودية، تحقيق: علي بن حسن - عبد العزيز بن إبراهيم - حمدان بن محمد، ط2، 1419هـ= 1999م (1/ 399- 403). [23] انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا، نشرة الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990م (1/ 165- 180). [24] السَّنِيع: الحَسَن. انظر: تهذيب اللغة (2/ 62). [25] تفسير المنار، محمد رشيد رضا (1/ 182- 183). [26] وانظر على سبيل المثال لا الحصر: تخجيل من حرَّف التوراة والإنجيل (2/ 729)، والسيف المسلول، للسبكي (ص509)، وفتح الباري، لابن حجر (6/ 583)، وبهجة المحافل وبغية الأماثل في تلخيص المعجزات والسير والشمائل، للحرضي (2/ 208)، ومعترك الأقران في إعجاز القرآن، للسيوطي (1/ 239- 242)، والإتقان، للسيوطي (4/ 19)، ومناهل العرفان، للزّرقاني (2/ 367- 389)، والمعجزة الكبرى، لأبي زهرة (ص65)، والتحرير والتنوير، لابن عاشور (1/ 104- 105)، والنبأ العظيم، للدكتور دراز (98- 99). [27] مداخل إعجاز القرآن الكريم، للأستاذ محمود شاكر، مطبعة المدني (ص158، 159). [28] التحرير والتنوير، لابن عاشور (1/ 129).
    0
  • مراعاة التركيب وأثره في بيان انسجام نظم القرآن
    ابن عاشور أنموذجًا (3-3)

    الكاتب : مصطفى فاتيحي

    سبق معنا بيان أهمية مراعاة التركيب في فهم انسجام خطاب النصّ وحفظه من التعارض والانقطاع الدلالي. وقد مرّ معنا فرط عناية ابن عاشور بمراعاة التركيب في تفسيره للقرآن الكريم واعتنائه البالغ بتحليل الاستئناف البياني وإثبات تحقّق تماسك النصّ والدلالات من خلاله[1]، وفي هذه المقالة سنحاول بيان الأثر العلمي للاهتمام بالتركيب البياني عند ابن عاشور في بيان تماسك الخطاب في النصّ القرآني من خلال تسليط الضوء على تحليلاته للجملة المعترضة وتوظيفها في هذا الصدد، وبيانه على النحو الآتي:

    الجملة المعترضة؛ مدخل عامّ:

    قال الشيخ خالد بن عبد الله الأزهري في شرحه المسمَّى (موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب) -والشرح ممزوج بالمتن المشروح-: «الجملة الثالثة: المعترضة بين شيئين متلازمين، وهي إمّا للتسديد (بالسين المهملة)، أي: التقوية، أو التبيين وهو الإيضاح. ولا يعترض بها إلّا بين الأجزاء المنفصل بعضها من بعض، المقتضي كلّ منهما الآخر: فتقع بين الفعل وفاعله...، أو مفعوله...، وبين المبتدأ والخبر...، أو ما هما أصلُه...، وبين الشرط وجوابه...، وبين أجزاء الصلة...، وبين المجرور وجارّه...، وبين الحرف وتوكيده...، وبين قد والفعل...، وبين الحرف ومَنْفِيِّه...، وبين القسَم وجوابه، والموصوف وصفته...» إلخ.

    ثم قال: «ويجوز الاعتراض بأكثر من جملة، خلافًا لأبي عليّ الفارسي في منعه من ذلك. ومن الاعتراض بأكثر من جملة قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ}[آل عمران: 36]، فالجملة الاسمية هي: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} بإسكان التاء، والفعلية هي: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} معترضتان بين الجملتين المصدَّرتين بإني...» إلخ.

    ولذلك فما قيل عن الاستئناف البياني من ضبط للمعنى وتحقيق تناسقه، يقال عن الجملة الاعتراضية، ذلك أن «النظر الوظيفي في التركيب يستدعي استحضار فكرة الأصل والفرع في النحو العربي، تلك الفكرة التي أسهمت إسهامًا واضحًا في ردّ الأداءات اللغوية، ذلك لتقعيد اللغة وضبط تطوّراتها، وبالنسبة للتركيب المعترض خصوصًا، فدخوله على الرسالة اللغوية فاصلًا بين ما حقّه الارتباط يعدّ مظهرًا من مظاهر الفرع الناتج عن الأصل؛ إذ الأصل اكتمال أركان الجملة، ثم الانتقال إلى جملة أخرى، بينما يأتي التركيب المعترض ليخرج بفرع من ذلك الأصل، وما نتج هذا الفرع إلّا لوظيفة تواصلية قادت المبدع إلى إنتاج أداءات خالفت الأصل، لتصبح أصلًا مستقلًّا بذاته»[2].

    وللاعتراض وظيفة بلاغية، هي: المبادرة بإبلاغ معنى قد يرِد على الكلام بدونه مما لا يرِد عليه في وجوده[3].

    يقول ابن عاشور: «إنّ الغرض الأكبر للقرآن هو إصلاح الأمة بأسرها، فإصلاح كفّارها بدعوتهم إلى الإيمان ونبذ العبادة الضالة واتباع الإيمان والإسلام، وإصلاح المؤمنين بتقويم أخلاقهم وتثبيتهم على هداهم وإرشادهم إلى طرق النجاح وتزكية نفوسهم؛ ولذلك كانت أغراضه مرتبطة بأحوال المجتمع في مدّة الدعوة، فكانت آيات القرآن مستقلًّا بعضها عن بعض؛ لأن كلّ آية منه ترجع إلى غرض الإصلاح والاستدلال عليه، وتكميله وتخليصه من تسرّب الضلالات إليه، فلم يلزم أن تكون آياته متسلسلة، ولكن حال القرآن كحال الخطيب يتطرّق إلى معالجة الأحوال الحاضرة على اختلافها، وينتقل من حال إلى حال بالمناسبة؛ ولذلك تكثر في القرآن الجمل المعترضة لأسباب اقتضت نزولها أو بدون ذلك، فإن كلّ جملة تشتمل على حكمة وإرشاد، أو تقويم معوجّ، كقوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إلى قوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ}[آل عمران: 72، 73]. فقوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} جملة معترضة»[4].

    إذن، ينبّه ابن عاشور إلى ضرورة أخذ طبيعة تنزل القرآن، ومراميه التربوية ومعالجته للواقع، في بيان سبب إكثار النصّ من استعمال الجمل الاعتراضية من ناحية، وكذلك من أجل تحديد الجمل الاعتراضية لتلمس المعاني والتوجيهات والإرشادات القرآنية، وتحقيق القصد التربوي من ناحية أخرى. فمنهج القرآن في الإصلاح والتربية والتغيير ومعالجة قضايا الواقع والتفاعل معها يستوجب هذا التنقل من معنى إلى آخر، والجمع في الآية الواحدة بين أغراض متعدّدة، وأساليب متنوعة يقتضيها المقام وأحوال المتلقِّين.

    ومنه ينبغي أن لا نغفل عن دور الجملة المعترضة في التأثير على دلالة النصّ، فهي جزء من النصّ الذي هو عبارة عن مجموعة جمل ترتبط وتشترك فيما بينها في أمرين: أمر السبك وهو الربط اللغوي، وأمر الحبك وهو الربط الدلالي والانسجام[5].

    وفيما يلي نبيّن كيف تعمّق ابن عاشور في تحليل الجملة الاعتراضية في القرآن وبيان كيفية انسجام النظم من خلالها.

    النموذج الأول: قول الله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}[النمل: 88].

    يقول ابن عاشور: «الذي قاله جمهور المفسرين أن الآية حكت حادثًا يحصل يوم يُنفخ في الصور، فجعلوا قوله: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} عطفًا على: {يُنْفَخُ فِي الصُّورِ}[النمل: 87]،أي: ويوم ترى الجبال تحسبها جامدة...إلخ. وجعلوا الرؤية بصرية، و{مَرَّ السَّحَابِ} تشبيهًا لتنقُّلِها بمر السحاب في السرعة، وجعلوا اختيار التشبيه بمرور السحاب مقصودًا منه إدماج تشبيه حال الجبال حين ذلك المرور بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها، فيكون من معنى قوله: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}[القارعة: 5]، وجعلوا الخطاب في قوله: (وترى) لغير معيّن، ليعمَّ كلَّ مَن يَرى، وجعلوا معنى هذه الآية في معنى قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ}[الكهف: 47]، فلما أشكل أن هذه الأحوال تكون قبل يوم الحشر؛ لأنّ الآيات التي ورَد فيها ذِكْرُ دكِّ الجبال ونسفِها تشير إلى أن ذلك في انتهاء الدنيا عند القارعة وهي النفخة الأولى أو قُبيلها، فأجابوا بأنها تندكُّ حينئذ ثم تُسيَّر يوم الحشر... ولا يخفى على الناقد البصير بُعد هذه التأويلات[6].

    وبعد أن عرض ابن عاشور مجمل أقوال المفسرين توسع في تَعقُّبها بقوله: «وليس في كلام المفسرين شفاء لبيان اختصاص هذه الآية بأنّ الرائي يحسب الجبال جامدة، ولا بيان وجه تشبيه سيرها بسير السحاب، ولا توجيه التذييل بقوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}[النمل: 88]؛ فلذلك كان لهذه الآية وضعٌ دقيقٌ، ومعنًى بالتأمل خليقٌ، فوَضْعُها أنها وقعَتْ موقع الجملة المعترضة بين المجمَل وبيانه من قوله: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}[النمل: 87]، إلى قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}[النمل: 89]، بأن يكون مِن تَخلُّلِ دليلٍ على دقيقِ صنعِ الله تعالى في أثناء الإنذار والوعيد؛ إدماجًا وجمعًا بين استدعاءٍ للنظر، وبين الزواجر والنُّذُر...، وجملة: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ}[النمل: 87] معترضة بينهما؛ لمناسبة ما في الجملة المعطوف عليها من الإيماء إلى تمثيل الحياة بعد الموت، ولكن هذا استدعاء لأهل العلم والحكمة لتتوجّه أنظارهم إلى ما في الكون من دقائق الحكمة وبديع الصنعة.

    وهذا من العلم الذي أُودع في القرآن ليكون معجزة من الجانب العلمي يدركها أهل العلم، كما كان معجزة للبلغاء من جانبه النظمي.

    وجملة: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}[النمل: 88]، تذييل أو اعتراض في آخر الكلام، للتذكير والوعظ والتحذير، عقب قوله: {الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}[النمل: 88]؛ لأن إتقان الصنع أثر من آثار سعة العلم، فالذي بعلمه أتقن كلّ شيء هو خبير بما يفعل الخلق، فليحذروا أن يخالفوا عن أمره»[7].

    وإذا كان شأن الاستئناف البياني عند ابن عاشور كما وصفنا وبينَّا، فإنّ شأن الجملة المعترضة كذلك أيضًا، ويتضح الأمر عند التأمل في الآية المذكورة. وحاصله أن الآية وإن جاءت بعد الحديث عن النفخ في الصور، إلّا أن استحضار كونها جملة معترضة، جعل ابن عاشور ينصرف إلى مضامين أكثر اتساعًا، كالذي عبر عنه «بما في الكون من دقائق الحكمة وبديع الصنعة»، ومثل ذلك كثير في القرآن الكريم عند الحديث عن أحوال اليوم الآخر، فتُذكر بعض الظواهر الطبيعة في سياق بيان قدرة الله.

    ورغم وجاهة استدراك ابن عاشور، إلّا أنه يمكن تسجيل ملحوظة تتعلّق بأنه ما كان هو نفسه أن يستنتج ذلك المعنى لولا أنه كان على دراية بما أصبح في الوقت الراهن من البديهيات هو دوران الأرض. ولذلك، «فإن النصّ القرآني كتاب الزمن كلّه والمكان كلّه، والمفسر ابن عصره، فهو ليس بنصِّ عصرٍ أو جيلٍ أو مصرٍ ثم ينتهي بانتهائه، وهو غير قابل للتأقيت؛ لأنه يتضمّن كلمات الله الباقية وهدايته المستمرة»[8].

    وكلمات الله جاءت على سنن العربية وأساليبها وأفانين القول فيها، ولا ريب أن الجملة المعترضة من ذلك الباب، وهي التي سمحت بالتقاط هذا المعنى الذي ذهب إليه ابن عاشور، فلم يَنْبُ عنه اللفظ أو السياق أو المعطى العلمي، بل كلّها عناصر تتضافر وتتكامل لإفادة المعنى وانسجام الدلالات، كما بينّا قبلُ مِن تلازُم العلاقة بين فهم التركيب والسياق، وأنّ كلًّا منهما يفضي لحسن الفهم للآخر.

    النموذج الثاني: قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل: 14].

    قال ابن عاشور: «وجملة: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} معترضة بين الجمل المتعاطفة مع إمكان العطف لقصد مخالفة الأسلوب للتعجيب من تسخير السير في البحر، باستحضار الحالة العجيبة بواسطة فعل الرؤية. وهو يستعمل في التعجيب كثيرًا بصيغ كثيرة، نحو: ولو ترى! وأرأيت! وماذا تَرى! واجتلاب فعل الرؤية في أمثاله يفيد الحثّ على معرفة ذلك، فهذا النظم للكلام لإفادة هذا المعنى، ولولاها لكان الكلام هكذا: وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وتبتغوا من فضله في فُلْكٍ مَواخِرَ»[9].

    يُستفاد مما ذكَر ابن عاشور أن وقوع جملة: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} معترضة من شأنه أن يدفع إلى ضرورة إعمال النظر وإجالة الفكر في صنع الله ونِعمه العظيمة؛ لأن ذلك الاعتراض يوقف القارئ لبرهة ليرى بعمق وينظر برويَّة، فهو بمثابة المنبّه الذي يأخذ بتلابيب المتدبر لكي لا تكون قراءته عابرة ومروره عاديًّا. وما كان لهذا أن يحصل لولا الجملة الاعتراضية، التي تضفي على تتابع الجمل وتركيبها معاني ثـرَّة ودلالات جمَّة.

    النموذج الثالث: قول الله تعالى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[النحل: 32-34].

    كان سياق الكلام قبلُ عن أحوال المتقين وما أعدّ الله لهم في جناته، حيث قال تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}[النحل: 30، 31]، وبعد ذلك ختَم بأن هؤلاء المؤمنين {طَيِّبِينَ} وأنّ جزاءهم هو دخول الجنة بخلاف مَن سبق الحديث عنهم من الكافرين في سياق الآيات. ومن هاهنا فإن انتقال الحديث بعد ذلك لـ{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[النحل: 33، 34]، قد يمثل إشكالًا في اتساق النظم.

    وقد حلّل ابن عاشور هذا التركيب مبينًا اتساق الكلام به، حيث بيّن أولًا أن {هَلْ يَنْظُرُونَ...} عبارة عن «استئناف بياني ناشئ عن جملة: قد مكر الذين من قبلهم [سورة الرعد: 42]؛ لأنها تثير سؤالَ من يسأل عن إبّانِ حُلول العذاب على هؤلاء كما حلّ بالذين من قبلهم، فقيل: ما ينظرون إلّا أحد أمرين؛ هما مجيء الملائكة لقبض أرواحهم فيحقّ عليهم الوعيد المتقدِّم، أو أن يأتي أمرُ الله. والمراد به الاستئصال المعرَّض بالتهديد في قوله: {فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ}[سورة النحل: 26]. والاستفهام إنكاري في معنى النفي؛ ولذلك جاء بعده الاستثناء»[10].

    وأمّا بقية الآية بعدها فقد بيّنَ اتساق نظمها كالتالي: «{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: هذه جملة معترضة بين جملة: {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}[النحل: 33]، وجملة: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا}. ووجه هذا الاعتراض أن التعرُّض إلى ما فعله الذين من قبلهم يشير إلى ما كان مِن عاقبتهم وهو استئصالهم، فعُقِّب بقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ}، أي: فيما أصابهم»، ثم قال بعد ذلك: «ولمّا كان هذا الاعتراض مشتملًا على أنهم ظلموا أنفسهم صار تفريع {فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا} عليه أو على ما قبله. وهو أسلوب من نظم الكلام عزيز، وتقديرُ أصله: (كذلك فعل الذين من قبلهم وظلموا أنفسهم فأصابهم سيئات ما عملوا وما ظلمهم الله). ففي تغيير الأسلوب المتعارَف تشويقٌ إلى الخبر، وتهويل له بأنهم ظلموا أنفسهم، وأن الله لم يظلمهم، فيتَرقَّب السامع خبرًا مُفظِعًا، وهو: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا}».

    وهكذا استطاع ابن عاشور ببراعة أن يبين اتساق النظم، وذلك من خلال الاستئناف البياني والذي عالجناه في مقالتنا السابقة، وكذا من خلال الجملة المعترضة وتحليل وضعيتها في الجملة.

    ونلاحظ أنه عندما يستنتج ابن عاشور إرادة التشويق والتهويل بالنظر إلى موقع الجملة المعترضة، نفهم أن من أغراض الاعتراض العناية بالأساليب المؤثرة في المتلقي، من خلال مراعاة مستويات الخطاب من حيث التنوّع والتدرّج وحال المخاطَبِين. وأنّ تركيب الجمل يتضمّن أبعادًا نفسية تأتي على مقتضى عمق المعنى المراد إيصاله، والذي لا يمكن أن يُحْدِث التأثير المنشود ويقع في النفس موقعًا بليغًا لو أُلْقِي بطريق تقريري مباشر.

    النموذج الرابع: قول الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}[البقرة: 238].

    إدراكًا من ابن عاشور أنَّ تطلُّب المناسبة أمرٌ نسبي تختلف فيه الأنظار حاوَل الفرش من بعيد حتى يصل إلى المبتغَى في هذا الموضع، فقال: «الانتقال من غرض إلى غرض في آي القرآن، لا تلزم له قوة ارتباط؛ لأن القرآن ليس كتاب تدريس يرتَّب بالتبويب وتفريعِ المسائل بعضها على بعض، ولكنه كتاب تذكير وموعظة، فهو مجموع ما نزَل من الوحي في هَدْي الأمة وتشريعها وموعظتها وتعليمها، فقد يُجْمَع فيه الشيء للشيء من غير لزوم ارتباط وتفرُّع مناسبة، وربما كفى في ذلك نزول الغرض الثاني عقب الغرض الأول، أو تكون الآية مأمورًا بإلحاقها بموضع معيّن من إحدى سور القرآن، ولا يخلو ذلك من مناسبة في المعاني، أو في انسجام نظم الكلام، فلعلّ آية: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} نزلت عقب آيات تشريع العِدّة والطلاق؛ لسبب اقتضى ذلك: من غفلةٍ عن الصلاة الوسطى، أو استشعار مشقّة في المحافظة عليها؛ فموقع هذه الآية موقع الجملة المعترضة بين أحكام الطلاق والعدد...، فالظاهر أنه لمّا طال تبيان أحكام كثيرة متوالية؛ ابتداء من قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ}[البقرة: 215]، جاءت هذه الآية مرتبطة بالتذييل الذي ذُيِّلَت به الآية السابقة، وهو قوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}[البقرة: 237]، فإن الله دعانا إلى خُلق حميد، وهو العفو عن الحقوق، ولمّا كان ذلك الخُلق قد يعسُر على النفس، لِما فيه مِن تركِ ما تحبه من الملائم، من مال وغيره؛ كالانتقام من الظالم، وكان في طباع الأنفس الشُّح، علَّمنا الله تعالى دواء هذا الداء بدواءين: أحدهما: دنيوي عقلي، وهو قوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} المذكِّر بأنّ العفو يقرِّب إليك البعيد، ويصير العدوّ صديقًا، وإنك إنْ عفوتَ فيوشك أن تقترف ذنبًا فيُعفى عنك إذا تعارف الناس الفضل بينهم، بخلاف ما إذا أصبحوا لا يتنازلون عن الحقّ. الدواء الثاني: أخروي روحاني، وهو الصلاة التي وصفها الله تعالى في آية أخرى بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلما كانت مُعِينة على التقوى ومكارم الأخلاق، حث الله على المحافظة عليها.

    ولك أن تقول: لمّا طال تعاقُب الآيات المبيِّنة تشريعاتٍ تغلب فيها الحظوظ الدنيوية للمكلَّفين، عُقِّبَت تلك التشريعات بتشريع تغلب فيه الحظوظ الأخروية، لكي لا يشتغل الناس بدراسة أحد الصنفين من التشريع عن دراسة الصنف الآخر»[11].

    نفيد مما ذكَر ابن عاشور أن الجملة المعترضة هنا تعدّ جملة مؤسسة لارتباط الأحكام الشرعية بالتربية القيمية والخلقية، وأن داعي الوازع الديني يجعل النفوس تنقاد لِما يُطْلَب منها، وتسارع إلى العمل به دون تلكُّؤ.

    وفي ضوء ذلك يمكن أن نصحّح كثيرًا من المناهج التربوية التي يطغى فيها جانب على آخر فتختلّ الموازين، وكذا بعض الأقوال الفقهية أو الاختيارات المذهبية التي تقدَّم بشكل جاف يفتقد للندَى الإيماني والحسّ القِيَمِي والبناء الفكري؛ لأن تعديل السلوك الإنساني عملية معقدة ومركبة.

    قال الشيخ رشيد رضا: «لأن المقصد الأول من القرآن هو الهداية بأن تكون تلاوته عظة وذكرى وعِبرة ينمَّى بها الإيمان والمعرفة بالله -عز وجل-، وبسُنّته في خلقه، وحكمته في عبادته، ويقوَّى بها شعور التعظيم والحب له، وتزيد الرغبة في الخير والحرص على التزام الحقّ، ولو طال سردُ الآيات في موضع واحد -ولا سيما موضوع أحكام المعاملات البشرية- لملَّ القارئ لها في الصلاة وغير الصلاة، أو غلب على قلبه التفكر في جزئياتها ووقائعها، فيفوت بذلك المقصد الأول، والمطلوب الذي عليه المعوَّل، وحَسْبُ طُلّاب الأحكام المفصَّلة فيه أن يرجعوا إليها عند الحاجة في الآيات المتفرقة والسور المتعددة، ولا يجعلوها هي الأصل المقصود من التلاوة في الصلاة وللتعبد في غير الصلاة، فإن الأصل الأول هو ما علمْتَ»[12].

    النموذج الخامس: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا *إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}[النساء: 29-31].

    تكلّم السياق على ذنبين كبيرين، وهما: قَتْل النفس، وأَكْل أموال الناس بالباطل. وأبرزَ عاقبة ذلك، ثم انتقل بعد ذلك انتقالًا آخر، حيث انتقل بعد ذلك لبيان موعظة عامة، فقال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}[النساء: 31]. وأتْبَعها كذلك بقوله: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}[النساء: 32].

    ويبيّن ابن عاشور هاهنا علّة هذا الانتقال المفاجئ فيقول: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه... اعتراض ناسَب ذِكره بعد ذِكر ذنبَيْن كبيَرين: وهما قَتْل النفس، وأَكْل المال بالباطل. على عادة القرآن في التفنُّن من أسلوب إلى أسلوب، وفي انتهاز الفرص في إلقاء التشريع عقب المواعظ وعكسه»[13].

    ونلاحظ هاهنا أنه إذا كان الحقّ -سبحانه وتعالى- يقدِّم أوامره العليا بما يراعِي أحوال المخاطَبِين وطبائع النفوس، فإنه في المنطق البشري أَولى، ولكن للأسف نجد نوعًا من الغِلظة في الخطاب والتقرير في الوصف عوض البناء المستوعب، بل يصل أحيانًا بحسن نية عند بعضٍ إلى أن يحصل الالتباس بين الوعيد الإلهي في الآخرة وإصدار الأحكام دون مراعاةٍ للمآلات.

    النموذج السادس: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[آل عمران: 154].

    قال ابن عاشور: «وجملة: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}، رَدَّ عليهم هذا العذر الباطل، أي أنّ الله ورسوله غير محتاجَيْن إلى أمركم. والجملة معترضة... لقَّن الله رسوله الجواب عن قولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}. والجواب إبطالٌ لقولهم، وتعليمٌ للمؤمنين لدفعِ ما عسى أن يقع في نفوسهم من الرَّيب إذا سمعوا كلام المنافقين، أو هو جوابٌ للمنافقين ويحصل به علمٌ للمؤمنين؛ وفُصِلَت الجملة جريًا على حكاية المقاولة...

    وهذا الجواب جارٍ على الحقيقة، وهي جريان الأشياء على قدَرٍ من الله والتسليم لذلك بعد استفراغ الجهد في مصادفة المأمول، فليس هذا الجواب ونظائره بمقتضٍ تَرْك الأسباب؛ لأنّ قدَر الله تعالى وقضاءه غير معلومَين لنا إلّا بعد الوقوع، فنحن مأمورون بالسعي فيما عساه أن يكون كاشفًا عن مصادفة قدَرِ الله لمأمولنا، فإِنِ استفرَغْنا جهودَنا وحُرِمْنا المأمول، علِمْنا أنّ قدر الله جرى من قبلُ على خلاف مرادنا. فأمّا تركُ الأسباب فليس من شأننا، وهو مخالف لما أراد الله منا، وإعراضٌ عمّا أقامنا الله فيه في هذا العالم وهو تحريف لمعنى القَدَر.

    والمعنى: لو لم تكونوا هاهنا وكنتم في بيوتكم لخرج الذين كَتب الله عليهم أن يموتوا مقتولين فقُتِلوا في مضاجعهم التي اضطجعوا فيها يوم أحُد، أي: مصارعهم، فالمراد بقوله: {كُتِبَ}: قُدِّر، ومعنى {لَبَرَزَ}: خرَج إلى البَراز، وهو الأرض»[14].

    ولننظر إلى هذه اللفتة التربوية من ابن عاشور وهذا التوجيه المنهجي الذي يجعل من عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر عامِلَ طمأنينة نفسية وراحة قلبية وباعثًا على العمل، وليس مقبولًا أن يُبرِّر الإنسان عجزه أو يُنيط تقصيره بأقدار الله؛ بل مطلوب منه العمل واتخاذ الأسباب واستفراغ الوُسع. ويندرج هذا ضمن اهتمامات الطاهر ابن عاشور بالفكر السُّنَني وقوانين الله الكونية والاجتماعية. يقول ابن عاشور في هذا السياق أيضًا: «فالرضا بالقضاء والقدر أدب إسلامي موقعه عند الأحوال التي يُغْلَب المسلم فيها على سعيه فيخيب فيه، أو عند الحوادث الخارجة عن مقدرة الإنسان، فمن الأدب الديني أن يرضى بذلك ولا يجزع، وهو ضربٌ من الصبر معلَّلٌ باعتقاد أن قدرة الله أكبر من كلّ مقدرة، فعدم تيسُّر المسبَّب مع السعي في الأسباب بدون تقصير يدلّ على أن الله لم تتعلّق إرادته بحصوله؛ لأنه عَلِم أنه غير كائن، فذلك معنى قوله في الحديث: (كلّ شيء بقضاء وقدر)، ونِعْم هو للرجل المسلم في حياته بحيث يكون مطمئنَّ البال عند المصائب، متأدِّبًا مع ربه، ملتفتًا إلى ما عسى أن يأتي من اليُسْر بعد العُسْر والفرج بعد الشدّة، فالرضا بالقضاء والقدر سلوة وعزاء للمؤمن لكي يذهب حرج نفسه عقب الخيبة أو عند حلول المصيبة، فهو أدبٌ خاصّ بنفس المؤمن، وليس هو عذر يعتذر به المقصر عند تقصيره، أو المستسلم في فشله»[15].

    وما أحوجنا إلى استنبات هذه المعاني والدلالات في أُفق تحقيق الوعي الرشيد والمتوازن.

    النموذج السابع: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}[البقرة: 233].

    قال ابن عاشور: «وجُمَل: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} إلى قوله: {وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} معترضات بين جملة: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ}، وجملة: {وَعَلَى الْوَارِثِ}، فموقع جملة: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} تعليل لقوله: {بِالْمَعْرُوفِ}، وموقع جملة: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ} إلى آخرها موقع التعليل أيضًا، وهو اعتراض يفيد أصولًا عظيمة للتشريع ونظام الاجتماع»[16].

    قال الشيخ رشيد رضا:«ولو عمل المسلمون بهذه القواعد وأمثالها من أحكام الكتاب والسُّنة لكانوا أسعد الأمم في بيوتهم، ولَمَا وُجِد من أعدائهم ولا من زنادقتهم مَن يهذِي بإسناد ظلمِ النساء إلى الإسلام، أو حاجة المسلمين إلى تقليد غيرهم في شيء من إصلاح البيوت (العائلات)»[17].

    النموذج الثامن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الأحزاب: 50].

    قال ابن عاشور: «وقوله: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} جملة معترضة بين جملة: {إِنْ وَهَبَتْ} وبين: {خَالِصَةً}، وليس مسوقًا للتقييد؛ إذ لا حاجة إلى ذِكر إرادته نكاحها، فإن هذا معلوم من معنى الإباحة، وإنما جيء بهذا الشرط لدفعِ توهُّم أن يكون قبوله هبتها نفسها له واجبًا عليه كما كان عُرْف أهل الجاهلية. وجوابه محذوف دلّ عليه ما قبله، والتقدير: (إنْ أراد أن يستنكحها فهي حلال له)، فهذا شرط مستقلّ وليس شرطًا في الشرط الذي قبله.والعُدول عن الإضمار في قوله: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ} بأن يقال: (إن أراد أن يستنكحها)؛ لِما في إظهار لفظ النبيّ من التفخيم والتكريم.وفائدةُ الاحتراز بهذا الشرط الثاني إبطالُ عادة العرب في الجاهلية، وهي أنهم كانوا إذا وهَبَت المرأة نفسها للرجل تعيَّن عليه نكاحُها ولم يَجُزْ له ردُّها، فأبطل الله هذا الالتزام بتخيير النبي -عليه الصلاة والسلام- في قبول هبة المرأة نفسها له وعدمه، وليرفع التعيير عن المرأة الواهبة بأنّ الردَّ مأذونٌ به»[18].

    يظهر مما استنبطه ابن عاشور أن الجملة المعترضة الواردة في سياق الحديث عن حكم شرعي يمكن الاستناد إليها لترجيح دلالة حكم شرعي -الإباحة أو الندب أو الكراهة أو التحريم-، خصوصًا إذا استحضَرْنا احتمال خروج هذه الأحكام من معانيها الأصلية إلى معانٍ ثانوية.

    النموذج الثامن:{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ * اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[ص: 16، 17].

    قال ابن عاشور: «إن قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ} قد أوردَت للمخاطب حيرة عن سبب هذا الذّكر الذي صِيغ في صورة الأمر، فأزال حيرته بالتركيب الاعتراضي: {إِنَّهُ أَوَّابٌ}، فالاعتراض بجملة: (إنَّ ومعموليها) إنما يكون مستفادًا من موقعها في السياق، واعلم أن هذا الاعتراض له فائدتان؛ أولهما: التوكيد، والثانية: الربط. حيث ترتبط جملتها بسابقتها فتأتلفان، ولو أُسقطت من الكلام لَـنَبا ما بعدها عمّا قبلها، فشتان الفارق بين وجود الجملة الاعتراضية: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} في هذا النظم القرآني المحكم، وعدم وجودها[19].

    نلاحظ هنا أن ابن عاشور في هذا المثال وهو يتحدّث عن الجملة الاعتراضية، استعمل كلمة: (السياق)، واستعمل: (النظم)، واستعمل: (الائتلاف والإحكام)، وهي مصطلحات لها دلالاتها في تحقيق انسجام الخطاب القرآني؛ لذلك ختمتُ بها النماذج المستعرضة.

    نستشف من النماذج والأمثلة المسوقة أن الاعتراض ينطوي في كتاب الله على دلالات عظيمة ومكنونات نفيسة وهو ما سماه حبنكة الميداني: (التربية المعترضة)، وإن استحضار ذلك يجعل المعاني وإن تعدَّدت تصبّ في نفس الغاية وتستهدف نفس المقصد؛ لذا ينبغي للمتدبّر أن يكتشف الروابط الفكرية بين الجمل المقترنة ولو كان كلّ منها يتحدّث عن حقيقة من الحقائق منفصلة في الظاهر عن الحقيقة الأخرى التي جاءت مقترنة بها في اللفظ... ولا يخفى ارتباط الجملة أو الجمل القرآنية بسائر عناصر النصّ التي هي جزء منه إلّا في نحو (التربية المعترضة)... كما يربِّي المعلم الطالب ضمن درس من العلم فينهاه أو يأمره، حول واجب من واجبات المتعلم، أو طريقة من طرق التعلم، ثم يستمر معه في متابعة درسه الذي يُلقيه عليه[20].

    خاتمة:

    نتوصل من خلال ما تم تحريره آنفًا إلى أن مراعاة التركيب عند ابن عاشور مكَّنته من التماس الانسجام في الخطاب القرآني، موظفًا الاستئناف البياني والجملة المعترضة باعتبارهما أدوات ناجعة في نَيل تلك الطلبة، وتحقيق تلك البغية، وهو مسلك مهم في بيان اتساق النظم القرآني وتماسك خطابه، يحتاج لدراسات موسّعة عند ابن عاشور لبيان كيف استثمره وكيف وظَّفه، وطبيعة الإلمحات التي خرج بها من هذا التوظيف في بيان روعة التركيب في الخطاب القرآني.

    كما أن هذا المسلك -كما رأينا في ثنايا كلام ابن عاشور- يسهم كذلك في تملُّك الصنعة في ميدان التفسير، ويسعف في تجديد الفهم بضوابط مكينة، ويساعد على النقد الرصين والاستدراك المسؤول على ما سلف أو جدَّ من أقوال، بحيث توزن بميزان العلم وقواعده المنهجية.

    ومنه، فإنّ الباحث في العلوم الشرعية لا بد له من تحصيل مادة لغوية واسعة، ويحصل ذلك من خلال التمرس على الأساليب المختلفة مع الشواهد والتطبيقات؛ لأن المباحث اللغوية خصوصًا جانب البيان لا يطاوِع إلّا مَن وصل إلى مرتبة تذوُّقه، مما يجعل المعاني تنساب والدلالات تشفُّ عمّا تنطوي عليه الآيات من أسرار ودقائق.

    كما نستنتج أن العكوف على المظان العلمية المؤسّسة من شأنه أن يسهم أيضًا في اكتساب الملَكة التي تعدُّ أهم ما يفضي إلى الإنتاجية، بدل اجترار ما تم تحصيله دون إضافة نوعية، ومن هذه المظان المعتبرة: (التحرير والتنوير) الذي وإن كان مؤلِّفُه معاصرًا، لكن أسلوبه بالمناهج القديمة ألصقُ؛ باعتبار الرصانة في العبارة، والعمق في التحقيق، والنّفَس الطويل، والشخصية العلميّة البارزة.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * موقع تفسير: (https://2u.pw/a9zzt).
    [1] تُراجَع المقالتان الأولى والثانية على هذين الرابطين:
    - الأولى: tafsir.net/article/5268
    - الثانية: tafsir.net/article/5270.
    [2] الوظائف التركيبية للجملة المعترضة بين لفظين مفردين في القرآن الكريم، نور الدين عبد الجليل العواودة (تحليل لساني). بحث مرقون. ص268.
    [3] مفاهيم ومواقف في اللغة والقرآن، تمام حسان، ص336.
    [4] التحرير والتنوير، (1/ 81، 82).
    [5] نحو النص، اتجاه جديد في الدرس النحوي، أحمد عفيف، ص63.
    [6] التحرير والتنوير، (20/ 48).
    [7] التحرير والتنوير، (20/ 48) وما بعدها.
    [8] الخطاب القرآني ومناهج التأويل، عبد الرحمن بودرع، ص24.
    [9] التحرير والتنوير، (14/ 119).
    [10] التحرير والتنوير، (14/ 145).
    [11] التحرير والتنوير، (2/ 456).
    [12] تفسير المنار، (5/ 361).
    [13] التحرير والتنوير، (5/ 26).
    [14] التحرير والتنوير، (4/ 138).
    [15] أصول النظام الاجتماعي، (ص126).
    [16] التحرير والتنوير، (2/ 432).
    [17] تفسير المنار، (1/ 100).
    [18] التحرير والتنوير، (70/ 22).
    [19] الجملة الاعتراضية في سورة (ص) بين الموقع والدلالة، مخزوم عليّ الفرجاني، مجلة الجامعة الأسمرية (عدد 26/ سنة 13).
    [20] قواعد التدبر الأمثل، (ص15، 16).
    مراعاة التركيب وأثره في بيان انسجام نظم القرآن ابن عاشور أنموذجًا (3-3) الكاتب : مصطفى فاتيحي سبق معنا بيان أهمية مراعاة التركيب في فهم انسجام خطاب النصّ وحفظه من التعارض والانقطاع الدلالي. وقد مرّ معنا فرط عناية ابن عاشور بمراعاة التركيب في تفسيره للقرآن الكريم واعتنائه البالغ بتحليل الاستئناف البياني وإثبات تحقّق تماسك النصّ والدلالات من خلاله[1]، وفي هذه المقالة سنحاول بيان الأثر العلمي للاهتمام بالتركيب البياني عند ابن عاشور في بيان تماسك الخطاب في النصّ القرآني من خلال تسليط الضوء على تحليلاته للجملة المعترضة وتوظيفها في هذا الصدد، وبيانه على النحو الآتي: الجملة المعترضة؛ مدخل عامّ: قال الشيخ خالد بن عبد الله الأزهري في شرحه المسمَّى (موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب) -والشرح ممزوج بالمتن المشروح-: «الجملة الثالثة: المعترضة بين شيئين متلازمين، وهي إمّا للتسديد (بالسين المهملة)، أي: التقوية، أو التبيين وهو الإيضاح. ولا يعترض بها إلّا بين الأجزاء المنفصل بعضها من بعض، المقتضي كلّ منهما الآخر: فتقع بين الفعل وفاعله...، أو مفعوله...، وبين المبتدأ والخبر...، أو ما هما أصلُه...، وبين الشرط وجوابه...، وبين أجزاء الصلة...، وبين المجرور وجارّه...، وبين الحرف وتوكيده...، وبين قد والفعل...، وبين الحرف ومَنْفِيِّه...، وبين القسَم وجوابه، والموصوف وصفته...» إلخ. ثم قال: «ويجوز الاعتراض بأكثر من جملة، خلافًا لأبي عليّ الفارسي في منعه من ذلك. ومن الاعتراض بأكثر من جملة قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ}[آل عمران: 36]، فالجملة الاسمية هي: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} بإسكان التاء، والفعلية هي: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} معترضتان بين الجملتين المصدَّرتين بإني...» إلخ. ولذلك فما قيل عن الاستئناف البياني من ضبط للمعنى وتحقيق تناسقه، يقال عن الجملة الاعتراضية، ذلك أن «النظر الوظيفي في التركيب يستدعي استحضار فكرة الأصل والفرع في النحو العربي، تلك الفكرة التي أسهمت إسهامًا واضحًا في ردّ الأداءات اللغوية، ذلك لتقعيد اللغة وضبط تطوّراتها، وبالنسبة للتركيب المعترض خصوصًا، فدخوله على الرسالة اللغوية فاصلًا بين ما حقّه الارتباط يعدّ مظهرًا من مظاهر الفرع الناتج عن الأصل؛ إذ الأصل اكتمال أركان الجملة، ثم الانتقال إلى جملة أخرى، بينما يأتي التركيب المعترض ليخرج بفرع من ذلك الأصل، وما نتج هذا الفرع إلّا لوظيفة تواصلية قادت المبدع إلى إنتاج أداءات خالفت الأصل، لتصبح أصلًا مستقلًّا بذاته»[2]. وللاعتراض وظيفة بلاغية، هي: المبادرة بإبلاغ معنى قد يرِد على الكلام بدونه مما لا يرِد عليه في وجوده[3]. يقول ابن عاشور: «إنّ الغرض الأكبر للقرآن هو إصلاح الأمة بأسرها، فإصلاح كفّارها بدعوتهم إلى الإيمان ونبذ العبادة الضالة واتباع الإيمان والإسلام، وإصلاح المؤمنين بتقويم أخلاقهم وتثبيتهم على هداهم وإرشادهم إلى طرق النجاح وتزكية نفوسهم؛ ولذلك كانت أغراضه مرتبطة بأحوال المجتمع في مدّة الدعوة، فكانت آيات القرآن مستقلًّا بعضها عن بعض؛ لأن كلّ آية منه ترجع إلى غرض الإصلاح والاستدلال عليه، وتكميله وتخليصه من تسرّب الضلالات إليه، فلم يلزم أن تكون آياته متسلسلة، ولكن حال القرآن كحال الخطيب يتطرّق إلى معالجة الأحوال الحاضرة على اختلافها، وينتقل من حال إلى حال بالمناسبة؛ ولذلك تكثر في القرآن الجمل المعترضة لأسباب اقتضت نزولها أو بدون ذلك، فإن كلّ جملة تشتمل على حكمة وإرشاد، أو تقويم معوجّ، كقوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إلى قوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ}[آل عمران: 72، 73]. فقوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} جملة معترضة»[4]. إذن، ينبّه ابن عاشور إلى ضرورة أخذ طبيعة تنزل القرآن، ومراميه التربوية ومعالجته للواقع، في بيان سبب إكثار النصّ من استعمال الجمل الاعتراضية من ناحية، وكذلك من أجل تحديد الجمل الاعتراضية لتلمس المعاني والتوجيهات والإرشادات القرآنية، وتحقيق القصد التربوي من ناحية أخرى. فمنهج القرآن في الإصلاح والتربية والتغيير ومعالجة قضايا الواقع والتفاعل معها يستوجب هذا التنقل من معنى إلى آخر، والجمع في الآية الواحدة بين أغراض متعدّدة، وأساليب متنوعة يقتضيها المقام وأحوال المتلقِّين. ومنه ينبغي أن لا نغفل عن دور الجملة المعترضة في التأثير على دلالة النصّ، فهي جزء من النصّ الذي هو عبارة عن مجموعة جمل ترتبط وتشترك فيما بينها في أمرين: أمر السبك وهو الربط اللغوي، وأمر الحبك وهو الربط الدلالي والانسجام[5]. وفيما يلي نبيّن كيف تعمّق ابن عاشور في تحليل الجملة الاعتراضية في القرآن وبيان كيفية انسجام النظم من خلالها. النموذج الأول: قول الله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}[النمل: 88]. يقول ابن عاشور: «الذي قاله جمهور المفسرين أن الآية حكت حادثًا يحصل يوم يُنفخ في الصور، فجعلوا قوله: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} عطفًا على: {يُنْفَخُ فِي الصُّورِ}[النمل: 87]،أي: ويوم ترى الجبال تحسبها جامدة...إلخ. وجعلوا الرؤية بصرية، و{مَرَّ السَّحَابِ} تشبيهًا لتنقُّلِها بمر السحاب في السرعة، وجعلوا اختيار التشبيه بمرور السحاب مقصودًا منه إدماج تشبيه حال الجبال حين ذلك المرور بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها، فيكون من معنى قوله: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}[القارعة: 5]، وجعلوا الخطاب في قوله: (وترى) لغير معيّن، ليعمَّ كلَّ مَن يَرى، وجعلوا معنى هذه الآية في معنى قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ}[الكهف: 47]، فلما أشكل أن هذه الأحوال تكون قبل يوم الحشر؛ لأنّ الآيات التي ورَد فيها ذِكْرُ دكِّ الجبال ونسفِها تشير إلى أن ذلك في انتهاء الدنيا عند القارعة وهي النفخة الأولى أو قُبيلها، فأجابوا بأنها تندكُّ حينئذ ثم تُسيَّر يوم الحشر... ولا يخفى على الناقد البصير بُعد هذه التأويلات[6]. وبعد أن عرض ابن عاشور مجمل أقوال المفسرين توسع في تَعقُّبها بقوله: «وليس في كلام المفسرين شفاء لبيان اختصاص هذه الآية بأنّ الرائي يحسب الجبال جامدة، ولا بيان وجه تشبيه سيرها بسير السحاب، ولا توجيه التذييل بقوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}[النمل: 88]؛ فلذلك كان لهذه الآية وضعٌ دقيقٌ، ومعنًى بالتأمل خليقٌ، فوَضْعُها أنها وقعَتْ موقع الجملة المعترضة بين المجمَل وبيانه من قوله: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}[النمل: 87]، إلى قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}[النمل: 89]، بأن يكون مِن تَخلُّلِ دليلٍ على دقيقِ صنعِ الله تعالى في أثناء الإنذار والوعيد؛ إدماجًا وجمعًا بين استدعاءٍ للنظر، وبين الزواجر والنُّذُر...، وجملة: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ}[النمل: 87] معترضة بينهما؛ لمناسبة ما في الجملة المعطوف عليها من الإيماء إلى تمثيل الحياة بعد الموت، ولكن هذا استدعاء لأهل العلم والحكمة لتتوجّه أنظارهم إلى ما في الكون من دقائق الحكمة وبديع الصنعة. وهذا من العلم الذي أُودع في القرآن ليكون معجزة من الجانب العلمي يدركها أهل العلم، كما كان معجزة للبلغاء من جانبه النظمي. وجملة: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}[النمل: 88]، تذييل أو اعتراض في آخر الكلام، للتذكير والوعظ والتحذير، عقب قوله: {الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}[النمل: 88]؛ لأن إتقان الصنع أثر من آثار سعة العلم، فالذي بعلمه أتقن كلّ شيء هو خبير بما يفعل الخلق، فليحذروا أن يخالفوا عن أمره»[7]. وإذا كان شأن الاستئناف البياني عند ابن عاشور كما وصفنا وبينَّا، فإنّ شأن الجملة المعترضة كذلك أيضًا، ويتضح الأمر عند التأمل في الآية المذكورة. وحاصله أن الآية وإن جاءت بعد الحديث عن النفخ في الصور، إلّا أن استحضار كونها جملة معترضة، جعل ابن عاشور ينصرف إلى مضامين أكثر اتساعًا، كالذي عبر عنه «بما في الكون من دقائق الحكمة وبديع الصنعة»، ومثل ذلك كثير في القرآن الكريم عند الحديث عن أحوال اليوم الآخر، فتُذكر بعض الظواهر الطبيعة في سياق بيان قدرة الله. ورغم وجاهة استدراك ابن عاشور، إلّا أنه يمكن تسجيل ملحوظة تتعلّق بأنه ما كان هو نفسه أن يستنتج ذلك المعنى لولا أنه كان على دراية بما أصبح في الوقت الراهن من البديهيات هو دوران الأرض. ولذلك، «فإن النصّ القرآني كتاب الزمن كلّه والمكان كلّه، والمفسر ابن عصره، فهو ليس بنصِّ عصرٍ أو جيلٍ أو مصرٍ ثم ينتهي بانتهائه، وهو غير قابل للتأقيت؛ لأنه يتضمّن كلمات الله الباقية وهدايته المستمرة»[8]. وكلمات الله جاءت على سنن العربية وأساليبها وأفانين القول فيها، ولا ريب أن الجملة المعترضة من ذلك الباب، وهي التي سمحت بالتقاط هذا المعنى الذي ذهب إليه ابن عاشور، فلم يَنْبُ عنه اللفظ أو السياق أو المعطى العلمي، بل كلّها عناصر تتضافر وتتكامل لإفادة المعنى وانسجام الدلالات، كما بينّا قبلُ مِن تلازُم العلاقة بين فهم التركيب والسياق، وأنّ كلًّا منهما يفضي لحسن الفهم للآخر. النموذج الثاني: قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل: 14]. قال ابن عاشور: «وجملة: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} معترضة بين الجمل المتعاطفة مع إمكان العطف لقصد مخالفة الأسلوب للتعجيب من تسخير السير في البحر، باستحضار الحالة العجيبة بواسطة فعل الرؤية. وهو يستعمل في التعجيب كثيرًا بصيغ كثيرة، نحو: ولو ترى! وأرأيت! وماذا تَرى! واجتلاب فعل الرؤية في أمثاله يفيد الحثّ على معرفة ذلك، فهذا النظم للكلام لإفادة هذا المعنى، ولولاها لكان الكلام هكذا: وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وتبتغوا من فضله في فُلْكٍ مَواخِرَ»[9]. يُستفاد مما ذكَر ابن عاشور أن وقوع جملة: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} معترضة من شأنه أن يدفع إلى ضرورة إعمال النظر وإجالة الفكر في صنع الله ونِعمه العظيمة؛ لأن ذلك الاعتراض يوقف القارئ لبرهة ليرى بعمق وينظر برويَّة، فهو بمثابة المنبّه الذي يأخذ بتلابيب المتدبر لكي لا تكون قراءته عابرة ومروره عاديًّا. وما كان لهذا أن يحصل لولا الجملة الاعتراضية، التي تضفي على تتابع الجمل وتركيبها معاني ثـرَّة ودلالات جمَّة. النموذج الثالث: قول الله تعالى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[النحل: 32-34]. كان سياق الكلام قبلُ عن أحوال المتقين وما أعدّ الله لهم في جناته، حيث قال تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}[النحل: 30، 31]، وبعد ذلك ختَم بأن هؤلاء المؤمنين {طَيِّبِينَ} وأنّ جزاءهم هو دخول الجنة بخلاف مَن سبق الحديث عنهم من الكافرين في سياق الآيات. ومن هاهنا فإن انتقال الحديث بعد ذلك لـ{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[النحل: 33، 34]، قد يمثل إشكالًا في اتساق النظم. وقد حلّل ابن عاشور هذا التركيب مبينًا اتساق الكلام به، حيث بيّن أولًا أن {هَلْ يَنْظُرُونَ...} عبارة عن «استئناف بياني ناشئ عن جملة: قد مكر الذين من قبلهم [سورة الرعد: 42]؛ لأنها تثير سؤالَ من يسأل عن إبّانِ حُلول العذاب على هؤلاء كما حلّ بالذين من قبلهم، فقيل: ما ينظرون إلّا أحد أمرين؛ هما مجيء الملائكة لقبض أرواحهم فيحقّ عليهم الوعيد المتقدِّم، أو أن يأتي أمرُ الله. والمراد به الاستئصال المعرَّض بالتهديد في قوله: {فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ}[سورة النحل: 26]. والاستفهام إنكاري في معنى النفي؛ ولذلك جاء بعده الاستثناء»[10]. وأمّا بقية الآية بعدها فقد بيّنَ اتساق نظمها كالتالي: «{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: هذه جملة معترضة بين جملة: {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}[النحل: 33]، وجملة: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا}. ووجه هذا الاعتراض أن التعرُّض إلى ما فعله الذين من قبلهم يشير إلى ما كان مِن عاقبتهم وهو استئصالهم، فعُقِّب بقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ}، أي: فيما أصابهم»، ثم قال بعد ذلك: «ولمّا كان هذا الاعتراض مشتملًا على أنهم ظلموا أنفسهم صار تفريع {فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا} عليه أو على ما قبله. وهو أسلوب من نظم الكلام عزيز، وتقديرُ أصله: (كذلك فعل الذين من قبلهم وظلموا أنفسهم فأصابهم سيئات ما عملوا وما ظلمهم الله). ففي تغيير الأسلوب المتعارَف تشويقٌ إلى الخبر، وتهويل له بأنهم ظلموا أنفسهم، وأن الله لم يظلمهم، فيتَرقَّب السامع خبرًا مُفظِعًا، وهو: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا}». وهكذا استطاع ابن عاشور ببراعة أن يبين اتساق النظم، وذلك من خلال الاستئناف البياني والذي عالجناه في مقالتنا السابقة، وكذا من خلال الجملة المعترضة وتحليل وضعيتها في الجملة. ونلاحظ أنه عندما يستنتج ابن عاشور إرادة التشويق والتهويل بالنظر إلى موقع الجملة المعترضة، نفهم أن من أغراض الاعتراض العناية بالأساليب المؤثرة في المتلقي، من خلال مراعاة مستويات الخطاب من حيث التنوّع والتدرّج وحال المخاطَبِين. وأنّ تركيب الجمل يتضمّن أبعادًا نفسية تأتي على مقتضى عمق المعنى المراد إيصاله، والذي لا يمكن أن يُحْدِث التأثير المنشود ويقع في النفس موقعًا بليغًا لو أُلْقِي بطريق تقريري مباشر. النموذج الرابع: قول الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}[البقرة: 238]. إدراكًا من ابن عاشور أنَّ تطلُّب المناسبة أمرٌ نسبي تختلف فيه الأنظار حاوَل الفرش من بعيد حتى يصل إلى المبتغَى في هذا الموضع، فقال: «الانتقال من غرض إلى غرض في آي القرآن، لا تلزم له قوة ارتباط؛ لأن القرآن ليس كتاب تدريس يرتَّب بالتبويب وتفريعِ المسائل بعضها على بعض، ولكنه كتاب تذكير وموعظة، فهو مجموع ما نزَل من الوحي في هَدْي الأمة وتشريعها وموعظتها وتعليمها، فقد يُجْمَع فيه الشيء للشيء من غير لزوم ارتباط وتفرُّع مناسبة، وربما كفى في ذلك نزول الغرض الثاني عقب الغرض الأول، أو تكون الآية مأمورًا بإلحاقها بموضع معيّن من إحدى سور القرآن، ولا يخلو ذلك من مناسبة في المعاني، أو في انسجام نظم الكلام، فلعلّ آية: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} نزلت عقب آيات تشريع العِدّة والطلاق؛ لسبب اقتضى ذلك: من غفلةٍ عن الصلاة الوسطى، أو استشعار مشقّة في المحافظة عليها؛ فموقع هذه الآية موقع الجملة المعترضة بين أحكام الطلاق والعدد...، فالظاهر أنه لمّا طال تبيان أحكام كثيرة متوالية؛ ابتداء من قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ}[البقرة: 215]، جاءت هذه الآية مرتبطة بالتذييل الذي ذُيِّلَت به الآية السابقة، وهو قوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}[البقرة: 237]، فإن الله دعانا إلى خُلق حميد، وهو العفو عن الحقوق، ولمّا كان ذلك الخُلق قد يعسُر على النفس، لِما فيه مِن تركِ ما تحبه من الملائم، من مال وغيره؛ كالانتقام من الظالم، وكان في طباع الأنفس الشُّح، علَّمنا الله تعالى دواء هذا الداء بدواءين: أحدهما: دنيوي عقلي، وهو قوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} المذكِّر بأنّ العفو يقرِّب إليك البعيد، ويصير العدوّ صديقًا، وإنك إنْ عفوتَ فيوشك أن تقترف ذنبًا فيُعفى عنك إذا تعارف الناس الفضل بينهم، بخلاف ما إذا أصبحوا لا يتنازلون عن الحقّ. الدواء الثاني: أخروي روحاني، وهو الصلاة التي وصفها الله تعالى في آية أخرى بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلما كانت مُعِينة على التقوى ومكارم الأخلاق، حث الله على المحافظة عليها. ولك أن تقول: لمّا طال تعاقُب الآيات المبيِّنة تشريعاتٍ تغلب فيها الحظوظ الدنيوية للمكلَّفين، عُقِّبَت تلك التشريعات بتشريع تغلب فيه الحظوظ الأخروية، لكي لا يشتغل الناس بدراسة أحد الصنفين من التشريع عن دراسة الصنف الآخر»[11]. نفيد مما ذكَر ابن عاشور أن الجملة المعترضة هنا تعدّ جملة مؤسسة لارتباط الأحكام الشرعية بالتربية القيمية والخلقية، وأن داعي الوازع الديني يجعل النفوس تنقاد لِما يُطْلَب منها، وتسارع إلى العمل به دون تلكُّؤ. وفي ضوء ذلك يمكن أن نصحّح كثيرًا من المناهج التربوية التي يطغى فيها جانب على آخر فتختلّ الموازين، وكذا بعض الأقوال الفقهية أو الاختيارات المذهبية التي تقدَّم بشكل جاف يفتقد للندَى الإيماني والحسّ القِيَمِي والبناء الفكري؛ لأن تعديل السلوك الإنساني عملية معقدة ومركبة. قال الشيخ رشيد رضا: «لأن المقصد الأول من القرآن هو الهداية بأن تكون تلاوته عظة وذكرى وعِبرة ينمَّى بها الإيمان والمعرفة بالله -عز وجل-، وبسُنّته في خلقه، وحكمته في عبادته، ويقوَّى بها شعور التعظيم والحب له، وتزيد الرغبة في الخير والحرص على التزام الحقّ، ولو طال سردُ الآيات في موضع واحد -ولا سيما موضوع أحكام المعاملات البشرية- لملَّ القارئ لها في الصلاة وغير الصلاة، أو غلب على قلبه التفكر في جزئياتها ووقائعها، فيفوت بذلك المقصد الأول، والمطلوب الذي عليه المعوَّل، وحَسْبُ طُلّاب الأحكام المفصَّلة فيه أن يرجعوا إليها عند الحاجة في الآيات المتفرقة والسور المتعددة، ولا يجعلوها هي الأصل المقصود من التلاوة في الصلاة وللتعبد في غير الصلاة، فإن الأصل الأول هو ما علمْتَ»[12]. النموذج الخامس: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا *إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}[النساء: 29-31]. تكلّم السياق على ذنبين كبيرين، وهما: قَتْل النفس، وأَكْل أموال الناس بالباطل. وأبرزَ عاقبة ذلك، ثم انتقل بعد ذلك انتقالًا آخر، حيث انتقل بعد ذلك لبيان موعظة عامة، فقال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}[النساء: 31]. وأتْبَعها كذلك بقوله: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}[النساء: 32]. ويبيّن ابن عاشور هاهنا علّة هذا الانتقال المفاجئ فيقول: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه... اعتراض ناسَب ذِكره بعد ذِكر ذنبَيْن كبيَرين: وهما قَتْل النفس، وأَكْل المال بالباطل. على عادة القرآن في التفنُّن من أسلوب إلى أسلوب، وفي انتهاز الفرص في إلقاء التشريع عقب المواعظ وعكسه»[13]. ونلاحظ هاهنا أنه إذا كان الحقّ -سبحانه وتعالى- يقدِّم أوامره العليا بما يراعِي أحوال المخاطَبِين وطبائع النفوس، فإنه في المنطق البشري أَولى، ولكن للأسف نجد نوعًا من الغِلظة في الخطاب والتقرير في الوصف عوض البناء المستوعب، بل يصل أحيانًا بحسن نية عند بعضٍ إلى أن يحصل الالتباس بين الوعيد الإلهي في الآخرة وإصدار الأحكام دون مراعاةٍ للمآلات. النموذج السادس: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[آل عمران: 154]. قال ابن عاشور: «وجملة: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}، رَدَّ عليهم هذا العذر الباطل، أي أنّ الله ورسوله غير محتاجَيْن إلى أمركم. والجملة معترضة... لقَّن الله رسوله الجواب عن قولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}. والجواب إبطالٌ لقولهم، وتعليمٌ للمؤمنين لدفعِ ما عسى أن يقع في نفوسهم من الرَّيب إذا سمعوا كلام المنافقين، أو هو جوابٌ للمنافقين ويحصل به علمٌ للمؤمنين؛ وفُصِلَت الجملة جريًا على حكاية المقاولة... وهذا الجواب جارٍ على الحقيقة، وهي جريان الأشياء على قدَرٍ من الله والتسليم لذلك بعد استفراغ الجهد في مصادفة المأمول، فليس هذا الجواب ونظائره بمقتضٍ تَرْك الأسباب؛ لأنّ قدَر الله تعالى وقضاءه غير معلومَين لنا إلّا بعد الوقوع، فنحن مأمورون بالسعي فيما عساه أن يكون كاشفًا عن مصادفة قدَرِ الله لمأمولنا، فإِنِ استفرَغْنا جهودَنا وحُرِمْنا المأمول، علِمْنا أنّ قدر الله جرى من قبلُ على خلاف مرادنا. فأمّا تركُ الأسباب فليس من شأننا، وهو مخالف لما أراد الله منا، وإعراضٌ عمّا أقامنا الله فيه في هذا العالم وهو تحريف لمعنى القَدَر. والمعنى: لو لم تكونوا هاهنا وكنتم في بيوتكم لخرج الذين كَتب الله عليهم أن يموتوا مقتولين فقُتِلوا في مضاجعهم التي اضطجعوا فيها يوم أحُد، أي: مصارعهم، فالمراد بقوله: {كُتِبَ}: قُدِّر، ومعنى {لَبَرَزَ}: خرَج إلى البَراز، وهو الأرض»[14]. ولننظر إلى هذه اللفتة التربوية من ابن عاشور وهذا التوجيه المنهجي الذي يجعل من عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر عامِلَ طمأنينة نفسية وراحة قلبية وباعثًا على العمل، وليس مقبولًا أن يُبرِّر الإنسان عجزه أو يُنيط تقصيره بأقدار الله؛ بل مطلوب منه العمل واتخاذ الأسباب واستفراغ الوُسع. ويندرج هذا ضمن اهتمامات الطاهر ابن عاشور بالفكر السُّنَني وقوانين الله الكونية والاجتماعية. يقول ابن عاشور في هذا السياق أيضًا: «فالرضا بالقضاء والقدر أدب إسلامي موقعه عند الأحوال التي يُغْلَب المسلم فيها على سعيه فيخيب فيه، أو عند الحوادث الخارجة عن مقدرة الإنسان، فمن الأدب الديني أن يرضى بذلك ولا يجزع، وهو ضربٌ من الصبر معلَّلٌ باعتقاد أن قدرة الله أكبر من كلّ مقدرة، فعدم تيسُّر المسبَّب مع السعي في الأسباب بدون تقصير يدلّ على أن الله لم تتعلّق إرادته بحصوله؛ لأنه عَلِم أنه غير كائن، فذلك معنى قوله في الحديث: (كلّ شيء بقضاء وقدر)، ونِعْم هو للرجل المسلم في حياته بحيث يكون مطمئنَّ البال عند المصائب، متأدِّبًا مع ربه، ملتفتًا إلى ما عسى أن يأتي من اليُسْر بعد العُسْر والفرج بعد الشدّة، فالرضا بالقضاء والقدر سلوة وعزاء للمؤمن لكي يذهب حرج نفسه عقب الخيبة أو عند حلول المصيبة، فهو أدبٌ خاصّ بنفس المؤمن، وليس هو عذر يعتذر به المقصر عند تقصيره، أو المستسلم في فشله»[15]. وما أحوجنا إلى استنبات هذه المعاني والدلالات في أُفق تحقيق الوعي الرشيد والمتوازن. النموذج السابع: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}[البقرة: 233]. قال ابن عاشور: «وجُمَل: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} إلى قوله: {وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} معترضات بين جملة: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ}، وجملة: {وَعَلَى الْوَارِثِ}، فموقع جملة: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} تعليل لقوله: {بِالْمَعْرُوفِ}، وموقع جملة: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ} إلى آخرها موقع التعليل أيضًا، وهو اعتراض يفيد أصولًا عظيمة للتشريع ونظام الاجتماع»[16]. قال الشيخ رشيد رضا:«ولو عمل المسلمون بهذه القواعد وأمثالها من أحكام الكتاب والسُّنة لكانوا أسعد الأمم في بيوتهم، ولَمَا وُجِد من أعدائهم ولا من زنادقتهم مَن يهذِي بإسناد ظلمِ النساء إلى الإسلام، أو حاجة المسلمين إلى تقليد غيرهم في شيء من إصلاح البيوت (العائلات)»[17]. النموذج الثامن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الأحزاب: 50]. قال ابن عاشور: «وقوله: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} جملة معترضة بين جملة: {إِنْ وَهَبَتْ} وبين: {خَالِصَةً}، وليس مسوقًا للتقييد؛ إذ لا حاجة إلى ذِكر إرادته نكاحها، فإن هذا معلوم من معنى الإباحة، وإنما جيء بهذا الشرط لدفعِ توهُّم أن يكون قبوله هبتها نفسها له واجبًا عليه كما كان عُرْف أهل الجاهلية. وجوابه محذوف دلّ عليه ما قبله، والتقدير: (إنْ أراد أن يستنكحها فهي حلال له)، فهذا شرط مستقلّ وليس شرطًا في الشرط الذي قبله.والعُدول عن الإضمار في قوله: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ} بأن يقال: (إن أراد أن يستنكحها)؛ لِما في إظهار لفظ النبيّ من التفخيم والتكريم.وفائدةُ الاحتراز بهذا الشرط الثاني إبطالُ عادة العرب في الجاهلية، وهي أنهم كانوا إذا وهَبَت المرأة نفسها للرجل تعيَّن عليه نكاحُها ولم يَجُزْ له ردُّها، فأبطل الله هذا الالتزام بتخيير النبي -عليه الصلاة والسلام- في قبول هبة المرأة نفسها له وعدمه، وليرفع التعيير عن المرأة الواهبة بأنّ الردَّ مأذونٌ به»[18]. يظهر مما استنبطه ابن عاشور أن الجملة المعترضة الواردة في سياق الحديث عن حكم شرعي يمكن الاستناد إليها لترجيح دلالة حكم شرعي -الإباحة أو الندب أو الكراهة أو التحريم-، خصوصًا إذا استحضَرْنا احتمال خروج هذه الأحكام من معانيها الأصلية إلى معانٍ ثانوية. النموذج الثامن:{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ * اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[ص: 16، 17]. قال ابن عاشور: «إن قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ} قد أوردَت للمخاطب حيرة عن سبب هذا الذّكر الذي صِيغ في صورة الأمر، فأزال حيرته بالتركيب الاعتراضي: {إِنَّهُ أَوَّابٌ}، فالاعتراض بجملة: (إنَّ ومعموليها) إنما يكون مستفادًا من موقعها في السياق، واعلم أن هذا الاعتراض له فائدتان؛ أولهما: التوكيد، والثانية: الربط. حيث ترتبط جملتها بسابقتها فتأتلفان، ولو أُسقطت من الكلام لَـنَبا ما بعدها عمّا قبلها، فشتان الفارق بين وجود الجملة الاعتراضية: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} في هذا النظم القرآني المحكم، وعدم وجودها[19]. نلاحظ هنا أن ابن عاشور في هذا المثال وهو يتحدّث عن الجملة الاعتراضية، استعمل كلمة: (السياق)، واستعمل: (النظم)، واستعمل: (الائتلاف والإحكام)، وهي مصطلحات لها دلالاتها في تحقيق انسجام الخطاب القرآني؛ لذلك ختمتُ بها النماذج المستعرضة. نستشف من النماذج والأمثلة المسوقة أن الاعتراض ينطوي في كتاب الله على دلالات عظيمة ومكنونات نفيسة وهو ما سماه حبنكة الميداني: (التربية المعترضة)، وإن استحضار ذلك يجعل المعاني وإن تعدَّدت تصبّ في نفس الغاية وتستهدف نفس المقصد؛ لذا ينبغي للمتدبّر أن يكتشف الروابط الفكرية بين الجمل المقترنة ولو كان كلّ منها يتحدّث عن حقيقة من الحقائق منفصلة في الظاهر عن الحقيقة الأخرى التي جاءت مقترنة بها في اللفظ... ولا يخفى ارتباط الجملة أو الجمل القرآنية بسائر عناصر النصّ التي هي جزء منه إلّا في نحو (التربية المعترضة)... كما يربِّي المعلم الطالب ضمن درس من العلم فينهاه أو يأمره، حول واجب من واجبات المتعلم، أو طريقة من طرق التعلم، ثم يستمر معه في متابعة درسه الذي يُلقيه عليه[20]. خاتمة: نتوصل من خلال ما تم تحريره آنفًا إلى أن مراعاة التركيب عند ابن عاشور مكَّنته من التماس الانسجام في الخطاب القرآني، موظفًا الاستئناف البياني والجملة المعترضة باعتبارهما أدوات ناجعة في نَيل تلك الطلبة، وتحقيق تلك البغية، وهو مسلك مهم في بيان اتساق النظم القرآني وتماسك خطابه، يحتاج لدراسات موسّعة عند ابن عاشور لبيان كيف استثمره وكيف وظَّفه، وطبيعة الإلمحات التي خرج بها من هذا التوظيف في بيان روعة التركيب في الخطاب القرآني. كما أن هذا المسلك -كما رأينا في ثنايا كلام ابن عاشور- يسهم كذلك في تملُّك الصنعة في ميدان التفسير، ويسعف في تجديد الفهم بضوابط مكينة، ويساعد على النقد الرصين والاستدراك المسؤول على ما سلف أو جدَّ من أقوال، بحيث توزن بميزان العلم وقواعده المنهجية. ومنه، فإنّ الباحث في العلوم الشرعية لا بد له من تحصيل مادة لغوية واسعة، ويحصل ذلك من خلال التمرس على الأساليب المختلفة مع الشواهد والتطبيقات؛ لأن المباحث اللغوية خصوصًا جانب البيان لا يطاوِع إلّا مَن وصل إلى مرتبة تذوُّقه، مما يجعل المعاني تنساب والدلالات تشفُّ عمّا تنطوي عليه الآيات من أسرار ودقائق. كما نستنتج أن العكوف على المظان العلمية المؤسّسة من شأنه أن يسهم أيضًا في اكتساب الملَكة التي تعدُّ أهم ما يفضي إلى الإنتاجية، بدل اجترار ما تم تحصيله دون إضافة نوعية، ومن هذه المظان المعتبرة: (التحرير والتنوير) الذي وإن كان مؤلِّفُه معاصرًا، لكن أسلوبه بالمناهج القديمة ألصقُ؛ باعتبار الرصانة في العبارة، والعمق في التحقيق، والنّفَس الطويل، والشخصية العلميّة البارزة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * موقع تفسير: (https://2u.pw/a9zzt). [1] تُراجَع المقالتان الأولى والثانية على هذين الرابطين: - الأولى: tafsir.net/article/5268 - الثانية: tafsir.net/article/5270. [2] الوظائف التركيبية للجملة المعترضة بين لفظين مفردين في القرآن الكريم، نور الدين عبد الجليل العواودة (تحليل لساني). بحث مرقون. ص268. [3] مفاهيم ومواقف في اللغة والقرآن، تمام حسان، ص336. [4] التحرير والتنوير، (1/ 81، 82). [5] نحو النص، اتجاه جديد في الدرس النحوي، أحمد عفيف، ص63. [6] التحرير والتنوير، (20/ 48). [7] التحرير والتنوير، (20/ 48) وما بعدها. [8] الخطاب القرآني ومناهج التأويل، عبد الرحمن بودرع، ص24. [9] التحرير والتنوير، (14/ 119). [10] التحرير والتنوير، (14/ 145). [11] التحرير والتنوير، (2/ 456). [12] تفسير المنار، (5/ 361). [13] التحرير والتنوير، (5/ 26). [14] التحرير والتنوير، (4/ 138). [15] أصول النظام الاجتماعي، (ص126). [16] التحرير والتنوير، (2/ 432). [17] تفسير المنار، (1/ 100). [18] التحرير والتنوير، (70/ 22). [19] الجملة الاعتراضية في سورة (ص) بين الموقع والدلالة، مخزوم عليّ الفرجاني، مجلة الجامعة الأسمرية (عدد 26/ سنة 13). [20] قواعد التدبر الأمثل، (ص15، 16).
    1
    0
شاهد المزيد