أصحاب القرية

 

إعداد مركز المحتوى القرآني

قصة أصحاب القرية


من القصص القرآني العظيم التي صورت حال الأقوام مع أنبيائهم، قصة أصحاب القرية.
قال تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ۝ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾ [يس: 13- 14].
"يقول تعالى ذكره: ومثل يا محمد لمشركي قومك مثلاً أصحاب القرية، ذُكر أنها أنطاكية.
(إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) اختلف أهل العلم في هؤلاء الرسل، وفيمن كان أرسلهم إلى أصحاب القرية؛ فقال بعضهم: كانوا رسل عيسى ابن مريم، وعيسى الذي أرسلهم إليهم. ([1]) "
"وقال آخرون: بل كانوا رسلاً أرسلهم الله إليهم. ([2]) "
ثلاثة رسل كرام:
"قوله: (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) يقول تعالى ذكره: حين أرسلنا إليهم اثنين يدعوانهم إلى الله فكذبوهما فشددناهما بثالث، وقويناهما به ([3])"
"(فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) يقول: فقال المرسلون الثلاثة لأصحاب القرية: إنَّا إليكم أيها القوم مرسلون، بأن تُخْلِصوا العبادة لله وحده، لا شريك له، وتتبرءوا مما تعبدون من الآلهة والأصنام. ([4]) "
فهل سيستجيب قومهم؟
أم سيواجهون رسلهم بالتكذيب والنكران؟


وما على الرسول إلا البلاغ


كثيراً ما تكون بشرية رسل الله عليهم السلام حاجزاً يمنع أقوامهم من التصديق بهم، ومن الإيمان برسالتهم، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولًا ۝ قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا﴾ [الإسراء: 94- 95].
وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ۝ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: 8- 9].
ولم يكن أصحاب القرية استثناء من ذلك.
قال تعالى: ﴿قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ۝ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ۝ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [يس: 15- 17].
قال ابن كثير: " أي: فكيف أوحي إليكم وأنتم بشر ونحن بشر، فلم لا أوحي إلينا مثلكم ولو كنتم رسلاً لكنتم ملائكة، وهذه شبه كثير من الأمم المكذبة، كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله عز وجل: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾ [التغابن: 6] أي استعجبوا من ذلك وأنكروه. ([5]) "
فكذبوهم لبشريتهم، فأشهد الرسل الكرام عليهم السلام ربهم سبحانه وتعالى على صدقهم وأنهم مبعوثون من عنده.
فما على الرسول بعد التكذيب والإعراض وعدم القبول؟
قال تعالى: ﴿وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [يس: 17].
"(وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) يقول: وما علينا إلا أن نبلغكم رسالة الله التي أرسلنا بها إليكم بلاغًا يبين لكم أنَّا أبلغناكموها، فإن قبلتموها فحظ أنفسكم تصيبون، وإن لم تقبلوها فقد أدينا ما علينا، والله ولي الحكم فيه. ([6]) "
فهل سيقف احتجاج القوم على بشرية الرسل؟ أم أن هناك أعذاراً أخرى واهية تمنعهم من الإيمان وتحجزهم عنه؟

تطير الأقوام بالرسل الكرام عليهم السلام


مثل حجة كثير من مكذبي الرسل عليهم السلام؛ كانت الطيرة والتشاؤم حاضرة عند أصحاب القرية، ولم يكتفوا بذلك؛ بل بلغ بهم التكذيب أن هددوا الرسل الكرام عليهم السلام بالرجم والإيذاء، قال تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ [يس: 18- 19].
التطير:
" يقول تعالى ذكره: قال أصحاب القرية للرسل (إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ) يعنون: إنَّا تشاءمنا بكم، فإن أصابنا بلاء فمن أجلكم. ([7]) "
الرجم:
"قوله: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ) يقول: لئن لم تنتهوا عمَّا ذكرتم من أنكم أرسلتم إلينا بالبراءة من آلهتنا، والنهي عن عبادتنا لنرجمنكم، قيل: عني بذلك لنرجمنكم بالحجارة. ([8]) "
إجابة الرسل عليهم السلام:
قال تعالى: ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ [يس: 19].
"أي: من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له، قابلتمونا بهذا الكلام وتوعدتمونا وتهددتمونا؛ بل أنتم قوم مسرفون.
وقال قتادة: أي إن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا بل أنتم قوم مسرفون. ([9]) "
والمراد بالطائر هنا: "أعمالكم وأرزاقكم وحظكم من الخير والشر معكم، ذلك كله في أعناقكم، وما ذلك من شؤمنا، إن أصابكم سوء فيما كتب عليكم، وسبق لكم من الله. ([10]) "
ويدل على أن الطائر: العمل وما اكتسبه الإنسان، قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ [الإسراء: 13].
فهل كان التكذيب هو الجواب الوحيد لهؤلاء القوم؟ ألم يكن منهم رجل رشيد؟

رجل من أقصى المدينة


كان في قصة أصحاب القرية رجل صاحب أثر، لم يخلد القرآن الكريم اسمه؛ وإنما خلّد فعله.
قال تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ۝ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [يس: 20- 21].
" قوله: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) يقول: وجاء من أقصى مدينة هؤلاء القوم الذين أرسلت إليهم هذه الرسل رجل يسعى إليهم.
وذلك أن أهل المدينة هذه عزموا، واجتمعت آراؤهم على قتل هؤلاء الرسل الثلاثة فيما ذكر، فبلغ ذلك هذا الرجل، وكان منزله أقصى المدينة، وكان مؤمناً، وكان اسمه فيما ذكر: (حبيب بن مري). ([11]) "
هل كان الرسل الكرام عليهم السلام يطلبون أجراً على دعوتهم؟
يذكر القرآن الكريم حجة رسل الله عليهم السلام في كثير من آياته، وأنهم لا يطلبون أجراً من أقوامهم، ولا يرتجون فضلاً إلا من خالقهم، ولا يبتغون إلا هداية أقوامهم، فلا يتصور حينئذ أن صدّ أقوامهم عن دعوتهم؛ لأنهم لا يرتجون منها مصلحة لأنفسهم.
كما قال الله تعالى عن نوح عليه السلام: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ۝ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ۝ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ۝ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ۝ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ [الشعراء: 105- 110].
وكذلك الرسل المبعوثون إلى أصحاب القرية، لم يسألوا قومهم أجراً، ولم يرتجوا منهم فضلاً، وبذلك بدأ الرجل يذكر قومه، وينبههم، قال تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [يس: 21].
"ذكر أنه لما أتى الرسل سألهم: هل يطلبون على ما جاءوا به أجراً؟ فقالت الرسل: لا فقال لقومه حينئذ: اتبعوا من لا يسألكم على نصيحتهم لكم أجراً. ([12]) "
ويصور القرآن الكريم الحوار الذي دار بين الرجل الذي جاء من أقصى المدينة، وبين أصحاب القرية.
فكيف سيحتج الرجل عليهم؟ وهل سيستجيبون بعد ذلك أو يتعظون؟

حوار بين الرجل وبين أصحاب القرية


نجد حوار العقل حاضراً في كثير من القصص القرآني، وهو عصب المناقشة الدائرة بين المؤمنين والكافرين، ومع أن المؤمن ينتصر بالعقل والحجة، نجد الكافر في مقابل ذلك مُغيّبَ العقل، وهم كالأنعام؛ بل هم أضل، ولذلك أولى الرجل -الذي جاء من أقصى المدينة- الحجةَ والبرهانَ عنايةً بالغة في حواره مع أصحاب القرية.
قال تعالى: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ۝ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ ۝ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ۝ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾ [يس: 22- 25].
فكانت الأدلة التي استدل بها على صدق الرسل الكرام عليهم السلام ودعوتهم:
1- أن الرسل عليهم السلام لم يطلبوا أجراً.
2- خلق الله تعالى لهم أول مرة، وهذا يستلزم الاستجابة لأوامره ونواهيه، وطاعة رسله عليهم السلام، والإيمان بهم.
3- أن المرجع والمصير إلى الله عز وجل.
4- طلاقة القدرة الإلهية في مقابل عجز الآلهة الباطلة.
5- المشيئة الإلهية النافذة.
" يقول تعالى ذكره مخبراً عن قيل هذا الرجل المؤمن: (وما لي لا أعبد الذي فطرني) أي: وأي شيء لي لا أعبد الرب الذي خلقني (وإليه ترجعون) يقول: وإليه تصيرون أنتم أيها القوم وتردون جميعاً، وهذا حين أبدى لقومه إيمانه بالله وتوحيده. ([13]) "
"أأتخذ من دونه آلهة استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع، إن يردنِ الرحمن بضر لا تغنِ عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون أي: هذه الآلهة التي تعبدونها من دونه لا يملكون من الأمر شيئاً، فإن الله تعالى لو أرادني بسوء ﴿فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ﴾ [يونس: 107] وهذه الأصنام لا تملك دفع ذلك، ولا منعه، ولا ينقذونني مما أنا فيه إني إذاً لفي ضلال مبين، أي: إن اتخذتها آلهة من دون الله. ([14]) "
وفي ختام حواره، أورد النتيجة المنطقية لهذه البراهين العقلية، وهي: الإيمان بالله عز وجل، قال تعالى: ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾ [يس: 25].

الجزاء والمثوبة

لما قص علينا القرآن الكريم خبر أصحاب القرية، وموقفهم من دعوة الحق، وإنكارهم ما جاء به أنبياؤهم.
ثم بيّن بعد ذلك موقفاً لرجل واحد جاء من أقصى المدينة يسعى، فدعا قومه إلى تصديق المرسلين، وناقشهم بالحجة والبرهان، فلم يستجيبوا له، كما لم يستجيبوا لأنبيائهم.
فماذا ينتظر الرجل الذي جاء من أقصى المدينة؟
وما الجزاء الذي أُعدّ له؟
قال تعالى: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ۝ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ [يس: 26- 27].
"يقول تعالى ذكره: قال الله له إذ قتلوه كذلك فلقيه: (ادْخُلِ الْجَنَّةَ).
فلما دخلها وعاين ما أكرمه الله به؛ لإيمانه وصبره فيه.
(قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي) يقول: يا ليتهم يعلمون أن السبب الذي من أجله غفر لي ربي ذنوبي، وجعلني من الذين أكرمهم الله بإدخاله إياه جنته، كان إيماني بالله وصبري فيه، حتى قتلت، فيؤمنوا بالله ويستوجبوا الجنة. ([15]) "
فشتان بين رجل واحد مؤمن، خلّد الله فعله، ومبادرته إلى الخير.
وبين قوم كافرين، وما ينتظرهم من عذاب وعقاب في الدنيا وفي الآخرة.

عقاب الكافرين


بعد بيان مصير الرجل المؤمن، والنعيم الذي ينتظره في الجنة.
" يخبر تعالى أنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه؛ غضباً منه تبارك وتعالى عليهم؛ لأنهم كذبوا رسله وقتلوا وليه، ويذكر عز وجل أنه ما أنزل عليهم وما احتاج في إهلاكه إياهم إلى إنزال جند من الملائكة عليهم، بل الأمر كان أيسر من ذلك. ([16]) "
قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ ۝ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾ [يس: 28- 29].
"يقول تعالى ذكره: وما أنزلنا على قوم هذا المؤمن الذي قتله قومه لدعائه إياهم إلى الله ونصيحته لهم (مِنْ بَعْدِهِ) يعني: من بعد مهلكه (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ).
واختلف أهل التأويل في معنى الجند الذي أخبر الله أنه لم ينزل إلى قوم هذا المؤمن بعد قتلهموه فقال بعضهم: عُنِي بذلك أنه لم ينزل الله بعد ذلك إليهم رسالة، ولا بعث إليهم نبيًّا. ([17]) "
" وقال آخرون: بل عني بذلك أن الله تعالى ذكره لم يبعث لهم جنودًا يقاتلهم بها؛ ولكنه أهلكهم بصيحة واحدة. ([18]) "
"وهذا القول الثاني أولى القولين بتأويل الآية؛ وذلك أن الرسالة لا يقال لها: جند إلا أن يكون أراد مجاهد بذلك الرُّسُل، فيكون وجهًا، وإن كان أيضًا من المفهوم بظاهر الآية بعيدًا، وذلك أن الرسل من بني آدم لا ينزلون من السماء والخبر في ظاهر هذه الآية عن أنه لم ينزل من السماء بعد مَهْلِك هذا المؤمن على قومه جندًا وذلك بالملائكة أشبه منه ببني آدم.
وقوله: (إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ) يقول: ما كانت هَلَكتهم إلا صيحة واحدة أنزلها الله من السماء عليهم. ([19]) "

يا حسرة على العباد

قال تعالى: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ۝ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ ۝ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ [يس: 30- 32].
"يقول تعالى ذكره: يا حسرةً من العباد على أنفسها وتندّماً وتلهفاً في استهزائهم برسل الله (ما يأتيهم من رسول) من الله (إلا كانوا به يستهزئون) وذكر أن ذلك في بعض القراءات: (ياحسرة العباد على أنفسها). ([20]) "
"ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [يس:31].
أي: ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل، كيف لم يكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة، ولم يكن الأمر كما زعم كثير من جهلتهم وفجرتهم من قولهم: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ [المؤمنون: 37] وهم القائلون بالدور من الدهرية، وهم الذين يعتقدون جهلاً منهم أنهم يعودون إلى الدنيا، كما كانوا فيها، فرد الله تبارك وتعالى عليهم باطلهم، فقال تبارك وتعالى:
﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [يس:31].
وقوله عز وجل: ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ [يس: 32].
أي: وإن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب يوم القيامة بين يدي الله جل وعلا، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها، ومعنى هذا كقوله جل وعلا: ﴿وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [هود: 111].
وقد اختلف القراء في أداء هذا الحرف، فمنهم من قرأ (وإن كلاً لما) بالتخفيف فعنده أن (إن) للإثبات، ومنهم من شدد (لما) وجعل (أن) نافية، (ولما) بمعنى إلا، تقديره: وما كل إلا جميع لدينا محضرون.
ومعنى القراءتين واحد، والله سبحانه وتعالى أعلم. ([21]) "

هدايات وعبر من قصة أصحاب القرية

صورت قصة أصحاب القرية عتوّ القوم الذين أرسل الله تعالى إليهم ثلاثة رسل، فكذبوهم، وآذوهم، ومنها عبر وهدايات لمشركي مكة حال نزول القرآن الكريم، ولمن بعدهم، حتى قيام الساعة.

ومن هذه العبر والهدايات:

أولاً: إذا ران على القلوب العصيان حلّ فيها العمه والجحود والنكران:
قال تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ۝ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾ [يس: 13- 14].

ثانياً: السعي في الخيرات لا يوقفه بُعد المسافات:
قال تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ۝ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [يس: 20- 21].

ثالثاً: أهمية توظيف الحوار البرهاني في تعزيز الجانب العقدي والإيماني:
قال تعالى: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ۝ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ ۝ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ۝ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾ [يس: 22- 25].

رابعاً: التطير بالرسل الكرام حجة واهية لكثير من الأقوام:
قال تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ [يس: 18- 19].

خامساً: عدل الجزاء الرباني الذي ينتظر المؤمنين والمكذبين:
ففي حق العبد المؤمن قال تعالى: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ۝ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ [يس: 26- 27].
وفي حق قومه الكافرين، قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ ۝ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾ [يس: 28- 29].

والله سبحانه أعلى وأعلم.

 

إعداد: 
جمانة بنت خالد

مراجعة وتدقيق:
عادل الشميري 

إشراف: 
الشيخ غازي بن بنيدر العمري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 20/ 499- 500، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

[2] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 20/ 500.

[3] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 20/ 500.

[4] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 20/ 501.

[5] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 6/ 505، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ.

[6] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 20/ 502، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000م.

[7] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 20/ 502، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000م.

[8] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 20/ 502.

[9] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 6/ 506، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ.

[10] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 20/ 503.

[11] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 20/ 504، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000م.

[12] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 20/ 505.

[13] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 20/ 506، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

[14] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 6/ 506- 507، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ.

[15] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 20/ 509، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

[16] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 6/ 508، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ.

[17] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 20/ 510، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

[18] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 20/ 510.

[19] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 20/ 511.

[20] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 20/ 511- 512، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

[21] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 6/ 510، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ.