صاحب الجنتين

 

إعداد مركز المحتوى القرآني


وصف النعيم والثمر


يضرب الله تعالى الأمثال للناس لعلهم يعقلون، ومن القصص القرآني التي ضربها الله مثلاً قصة صاحب الجنتين.
قال تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ۝ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ۝ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ [الكهف: 32- 34].
كيف وصف الله تعالى الجنتين؟
1- أنهما من أعناب.
2- محفوفتان بنخل.
3- جعل بينهما زرعاً.
4- إيتاء الأُكل على تمامه.
5- فجّر خلالهما نهراً.
وكل وصف من هذه الأوصاف نعمة قائمة بذاتها، فكيف إن اجتمعت في بستان واحد؟
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واضرب يا محمد لهؤلاء المشركين بالله، الذين سألوك أن تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه، (مَثَلاً) مثل (رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ) أي جعلنا له بستانين من كروم.
(وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ) يقول: وأطفنا هذين البستانين بنخل.
وقوله: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا) يقول: وجعلنا وسط هذين البستانين زرعاً.
وقوله: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا) يقول: كلا البستانين أطعم ثمره وما فيه من الغروس من النخل والكرم وصنوف الزرع. ([1]) "
فما هو موقف صاحب الجنتين من هذه النعم التي أغدق الله بها عليه؟ هل آمن وشكر؟ أم طغى وكفر؟

حوار بين صاحبين حول الرزق وحال الجنتين


قال تعالى: ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ۝ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ۝ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ۝ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ۝ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ [الكهف: 34- 38].
"قوله: ودخل جنته وهو ظالم لنفسه أي بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وإنكار المعاد، (قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً) وذلك اغتراراً منه لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار، والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها، ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف، ذلك لقلة عقله، وضعف يقينه بالله، وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها، وكفره بالآخرة، ولهذا قال: (وما أظن الساعة قائمة) أي كائنة. ([2]) "
إجابة الصاحب المؤمن:
"يقول تعالى مخبراً عما أجابه به صاحبه المؤمن، واعظاً له وزاجراً عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار. ([3]) " ﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ۝ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ [الكهف: 37- 38].
أمنية:
تمنى صاحب الجنتين" أمنية أخرى على شكّ منه، فقال: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي) فرجعت إليه، وهو غير موقن أنه راجع إليه (لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا) يقول: لأجدنّ خيراً من جنتي هذه عند الله إن رددت إليه مرجعاً ومردًا، يقول: لم يعطني هذه الجنة في الدنيا إلا ولي عنده أفضل منها في المعاد إن رددت إليه. ([4]) "

تذكير بالخالق القدير:
ذكّر الصاحب المؤمن صاحبه بالله الذي أنشأنا النشأة الأولى، وإليه المعاد والمصير، فقال: ﴿لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ [الكهف: 38] "لم يحسن إليّ خلقاً ورزقاً أحد غيره، هذا اعتقادي في الماضي والحال، (ولا أشرك بربي) المحسن إليّ في عبادتي (أحداً) كما لم يشاركه في إحسانه إليّ أحد، فإن الكل خلقه وعبيده، وأنى يكون العبد شريكاً للرب! فإني لا أرى الغنى والفقر إلا منه، وأنت - لما اعتمدت على مالك - كنت مشركاً به. ([5]) "

 

يقين المؤمنين المخلصين بالرزق والفضل من رب العالمين


المؤمن كالغيث أينما وقع نفع، ولما حاور المؤمن صاحبه بادره بالوعظ، وعن النصح لم يمتنع.
قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ۝ فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ۝ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا﴾ [الكهف: 39- 41].
" ولما كان المؤمنون على طريق الأنبياء في إرادة الخير والإرشاد إلى سبيل النجاة وعدم الحقد على أحد بشر أسلفه وجهل قدمه، قال له مصرحاً بالتعليم بعد أن لوح له به فيما ذكره عن نفسه مما يجب عليه: (ولولا إذ) أي وهلا حين (دخلت جنتك قلت) ما يدل على تفويضك الأمر فيها وفي غيرها إلى الله تعالى كما تقدم الإرشاد إليه في آية ﴿ولا تقولنَّ لشيءٍ﴾ [الكهف: 23] تاركاً للافتخار بها، ومستحضراً لأن الذي وهبكها قادر على سلبك إياها ليقودك ذلك إلى التوحيد وعدم الشرك، فلا تفرح بها ولا بغيرها مما يفنى؛ لأنه لا ينبغي الفرح إلا بما يؤمن عليه بالزوال.
(ما شاء الله) أي الذي له الأمر كله، كان، سواء كان حاضراً أو ماضياً أو مستقبلاً، ولذلك أعراها عن الجواب، لا ما يشاؤه غيره ولا يشاؤه هو سبحانه؛ ثم علل ذلك بقوله تعالى: (لا قوة) أي لأحد على بستان وغيره (إلا بالله) أي المتوحد بالكمال، فلا شريك له، وأفادت هذه الكلمة إثبات القوة لله وبراءة العبد منها، والتنبيه على أنه لا قدرة لأحد من الخلق إلا بتقديره، فلا يخاف من غيره، والتنبيه على فساد قول الفلاسفة في الطبائع من أنها مؤثرة بنفسها. ([6]) "
"وقوله: (إن ترني أنا أقل منك مالاً وولداً) وهو قول المؤمن الذي لا مال له، ولا عشيرة، مثل صاحب الجنتين وعشيرته. ([7]) "

عسى ربي أن يؤتيني خيراً من جنتك:
أيقن المؤمن بأن لا فضل إلا من الله عز وجل، وهو القادر على رزقه والإنعام عليه، وتبديل حاله، وحال صاحبه، "وقوله: (فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك) أي في الدار الآخرة، (ويرسل عليها) أي على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى. ([8]) "

جنة خاوية على عروشها

 

ما مصير الجنتين؟
وما موقف صاحبهما؟
وهل وقع ما خوفه منه صاحبه المؤمن؟
قال تعالى: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ۝ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ۝ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾ [الكهف: 42- 44].
"يقول تعالى: وأحيط بثمره بأمواله أو بثماره على القول الآخر.
والمقصود أنه وقع بهذا الكافر ما كان يحذر مما خوفه به المؤمن، من إرسال الحسبان على جنته التي اغتر بها، وألهته عن الله عز وجل.
فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها، وقال قتادة: يصفق كفيه متأسفاً متلهفاً على الأموال التي أذهبها عليها، ويقول: يا ليتني لم أشرك بربي أحداً.
ولم تكن له فئة أي عشيرة أو ولد، كما افتخر بهم واستعز ينصرونه من دون الله، وما كان منتصراً ([9]) "
حسبان من السماء:
"الظاهر أنه مطر عظيم مزعج يقلع زرعها وأشجارها، ولهذا قال: فتصبح صعيداً زلقاً. ([10]) "
الصعيد الزلق:
"(صعيدا زلقاً) أي أرضاً يزلق عليها؛ لملاستها باستئصال نباتها، فلا ينبت فيها نبات، ولا يثبت فيها قدم. ([11]) "

لمن الولاية؟
الولاية والنصر والسلطان في تلك الشدائد لله تبارك وتعالى الذي له الكمال كله، الثابت الذي لا يحول يوما ولا يزول، ولا يغفل ساعة ولا ينام، ولا ولاية لغيره بوجه، وفزعهم في مثل هذه الأزمات إليه دون غيره برهان قاطع على أنه الحق وما سواه باطل، وأن الفخر بالعرض الزائل من أجهل الجهل، وأن المؤمنين لا يعيبهم فقرهم ولا يسوغ طردهم لأجله، وأنه يوشك أن يعود فقرهم غنى وضعفهم قوة. ([12])

هدايات وعبر من قصة صاحب الجنتين


في قصة صاحب الجنتين، وحواره مع صاحبه، والحال الذي كانت عليه الجنتان، والحال الذي آلتا إليه، دروس عظام، وذكرى لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
ومن الهدايات التي جاءت بها هذه القصة:
أولاً: معيار القوة باليقين والإيمان لا بالجاه والسلطان:
فقد اغتر صاحب الجنتين بماله وجاهه، قال تعالى: ﴿وكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ [الكهف: 34].
ولم ينفعه بإزاء الحال الذي آلت إليه أمواله، قال تعالى: ﴿وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ۝ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾ [الكهف: 43- 44].
ثانياً: فضيلة الحوار:
قال تعالى: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا﴾ [الكهف: 37].
فلم يمنع الاختلاف بين الصاحبين من وجود حوار بينهما.
ثالثاً: من شكر النعمة ذكر الله عليها ونسبة الفضل إليه:
قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا﴾ [الكهف: 39].
ففي هذا الدعاء فضائل عدة:
1- ذكر الله.
2- حفظ النعمة.
3- تفويض الأمر إلى الله.
4- الإقرار بقدرة الله.
والله سبحانه أعلى وأعلم.

 

إعداد: 
جمانة بنت خالد

مراجعة وتدقيق:
عادل الشميري 

إشراف: 
الشيخ غازي بن بنيدر العمري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 18/ 19، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000م.

[2] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 5/ 142، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419 هـ.

[3] تفسير القرآن العظيم، 5/ 142.

[4] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 18/ 22، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000م.

[5] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 12/ 61- 62، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.

[6] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 12/ 62- 63، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.

[7] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 18/ 24، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000م.

[8] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 5/ 144، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ.

[9] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 5/ 145، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ.

[10] تفسير القرآن العظيم، 5/ 144.

[11] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 12/ 64، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.

[12] انظر: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 12/ 65- 66.