موسى عليه السلام في القرآن (3)

 

واترك البحر رهواً

 

"لما طال مقام موسى عليه السلام ببلاد مصر، وأقام بها حجج الله وبراهينه على فرعون وملئه، وهم مع ذلك يكابرون ويعاندون، لم يبقَ لهم إلا العذاب والنكال، فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً من مصر، وأن يمضي بهم حيث يؤمر." ([1])

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾ [طه: 77].

وقال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ﴾ [الشعراء: 52].

وقال تعالى: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ۝ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ۖ إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ ۝ كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ۝ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ۝كَذَٰلِكَ ۖ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾ [الدخان: 23 – 28].

دعا موسى ربه أن هؤلاء قوم مجرمون، "عند ذلك أمره الله تعالى أن يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم من غير أمر فرعون ومشاورته واستئذانه، ولهذا قال جل جلاله: (فأسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون) كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾ [طه: 77].

وقوله عز وجل هاهنا: (واترك البحر رهواً إنهم جند مغرقون) وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام لما جاوز هو وبنو إسرائيل البحر، أراد موسى أن يضربه بعصاه حتى يعود كما كان؛ ليصير حائلاً بينهم وبين فرعون فلا يصل إليهم، فأمره الله تعالى أن يتركه على حاله ساكناً، وبشره بأنهم جند مغرقون فيه وأنه لا يخاف دركاً ولا يخشى، وقال ابن عباس رضي الله عنهما واترك البحر رهواً كهيئته وامضه، وقال مجاهد: رهواً طريقاً يبساً كهيئته.

يقول: لا تأمره يرجع اتركه حتى يرجع آخرهم، وكذا قال عكرمة والربيع بن أنس والضحاك وقتادة وابن زيد، وكعب الأحبار وسماك بن حرب وغير واحد." ([2])  

 

شرذمة قليلون

(يعمي الباطل عن حسن التقدير)

 

قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ۝ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ۝ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ۝ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ۝ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ۝ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: 53 – 59].

"لما أصبحوا وليس في ناديهم داع ولا مجيب، غاظ ذلك فرعون، واشتد غضبه على بني إسرائيل لما يريد الله به من الدمار، فأرسل سريعاً في بلاده حاشرين، أي من يحشر الجند ويجمعه كالنقباء والحجاب، ونادى فيهم: (إن هؤلاء) يعني بني إسرائيل (لشرذمة قليلون) أي لطائفة قليلة.

(وإنهم لنا لغائظون) أي كل وقت يصل منهم إلينا ما يغيظنا.

(وإنا لجميع حاذرون) أي نحن كل وقت نحذر من غائلتهم، وإني أريد أن أستأصل شأفتهم، وأبيد خضراءهم، فجوزي في نفسه وجنده بما أراد لهم، قال الله تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ [الشعراء: 57 – 58].

أي فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم، وتركوا تلك المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والأرزاق، والملك والجاه الوافر في الدنيا." ([3])

 

إن معي ربي سيهدين

 

قال تعالى: ﴿فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ۝ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ۝ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 60 – 62].

"(فأتبعوهم مشرقين) أي وصلوا إليهم عند شروق الشمس، وهو طلوعها.

(فلما تراءا الجمعان) أي رأى كل من الفريقين صاحبه، فعند ذلك: (قال أصحاب موسى إنا لمدركون) وذلك أنهم انتهى بهم السير إلى سيف البحر، وهو بحر القلزم، فصار أمامهم البحر وقد أدركهم فرعون بجنوده، فلهذا قالوا: إنا لمدركون.

(قال كلا إن معي ربي سيهدين) أي لا يصل إليكم شيء مما تحذرون، فإن الله سبحانه هو الذي أمرني أن أسير هاهنا بكم، وهو سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، وكان هارون عليه السلام في المقدمة، ومعه يوشع بن نون، ومؤمن آل فرعون، وموسى عليه السلام في الساقة، وقد ذكر غير واحد من المفسرين أنهم وقفوا لا يدرون ما يصنعون، وجعل يوشع بن نون أو مؤمن آل فرعون، يقول لموسى عليه السلام: يا نبي الله هاهنا أمرك ربك أن تسير؟ فيقول: نعم، فاقترب فرعون وجنوده ولم يبقَ إلا القليل، فعند ذلك أمر الله نبيه موسى عليه السلام أن يضرب بعصاه البحر، فضربه وقال: انفلق بإذن الله." ([4])

 

البحر الذي انفلق

 

وصف الله انفلاق البحر وصفاً مهيباً، قال تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ [الشعراء: 63].

فما هو الطود العظيم؟

"قوله: (فكان كل فرق كالطود العظيم) يقول تعالى ذكره: فكان كل طائفة من البحر لما ضربه موسى كالجبل العظيم.

وذكر أنه انفلق اثنتي عشرة فلقة على عدد الأسباط، لكل سبط منهم فرق." ([5])

كالطود العظيم: "أي كالجبل الكبير، قاله ابن مسعود وابن عباس ومحمد بن كعب والضحاك وقتادة وغيرهم.

وقال عطاء الخراساني: هو الفج بين الجبلين.

وقال ابن عباس صار البحر اثني عشر طريقاً لكل سبط طريق.

وزاد السدي: وصار فيه طاقات ينظر بعضهم إلى بعض، وقام الماء على حيله كالحيطان.

وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته، فصار يبساً كوجه الأرض، قال الله تعالى: ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾ [طه: 77]." ([6])

وعد من الله تعالى، والله لا يخلف الميعاد.

 

فرعون وقومه

بين ضلال في الدنيا وضلال في الآخرة

 

قال تعالى: ﴿فأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ۝ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ [طه: 78 – 79].

"سرى موسى ببني إسرائيل إذ أوحينا إليه أن أسر بهم، فأتبعهم فرعون بجنوده حين قطعوا البحر، فغشي فرعون وجنده في اليم ما غشيهم، فغرقوا جميعاً (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى) يقول جلّ ثناؤه: وجاوز فرعون بقومه عن سواء السبيل، وأخذ بهم على غير استقامة، وذلك أنه سلك بهم طريق أهل النار، بأمرهم بالكفر بالله، وتكذيب رسله.

(وَمَا هَدَى) يقول: وما سلك بهم الطريق المستقيم، وذلك أنه نهاهم عن اتباع رسول الله موسى، والتصديق به، فأطاعوه، فلم يهدهم بأمره إياهم بذلك، ولم يهتدوا باتباعهم إياه." ([7])

"(فغشيهم من اليم): أي البحر، (ما غشيهم) أي الذي هو معروف ومشهور، وهذا يقال عند الأمر المعروف المشهور، كما قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ۝ فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى﴾ [النجم: 54- 55] وقال الشاعر:

أنا أبو النجم وشعري شعري

أي الذي يعرف وهو مشهور.

وكما تقدمهم فرعون فسلك بهم في اليم فأضلهم وما هداهم إلى سبيل الرشاد، كذلك: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾ [هود: 98]." ([8])

 

الأخذ بالسنين ونقص من الثمرات

(من عقوبات آل فرعون في الدنيا)

 

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ۝ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ۝ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ۝ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ۝ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ۝ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ۝ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 130 – 136].

" قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد اختبرنا قوم فرعون وأتباعه على ما هم عليه من الضلالة بالسنين، يقول: بالجُدوب سنة بعد سنة، والقحوط.

يقال منه: أسْنَتَ القوم، إذا أجدبوا.

(ونقص من الثمرات)، يقول: واختبرناهم مع الجدوب بذهاب ثمارهم وغلاتهم إلا القليل (لعلهم يذكرون)، قول: عظة لهم وتذكيراً لهم؛ لينزجروا عن ضلالتهم، ويفزعوا إلى ربهم بالتوبة." ([9])

"فإذا جاءت آل فرعون العافية والخصب والرخاء وكثرة الثمار، ورأوا ما يحبون في دنياهم (قالوا لنا هذه)، نحن أولى بها (وإن تصبهم سيئة)، يعني جدوب وقحوط وبلاء (يطيروا بموسى ومن معه)، يقول: يتشاءموا ويقولوا: ذهبت حظوظنا وأنصباؤنا من الرخاء والخصب والعافية، مذ جاءنا موسى عليه السلام." ([10])

فعاقبهم الله بالجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، فعاهدوا موسى على أن يؤمنوا إذا كشف الله عنهم هذا العذاب، فكشفه عنهم، فنكثوا عهدهم، فأغرقهم الله في اليم.

وعلى رأس الغارقين، كان فرعون.

 

آمنتُ أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل

 

بقدرة الله تعالى انفلق البحر ليعبره موسى ومن معه، وبقدرته سبحانه أطبق البحر على فرعون وقومه لما تبعوهم.

وكان مشهد غرق الطاغية مشهداً مهيباً، حاول الإقرار بإيمانه بإله بني إسرائيل؛ ولكن لم ينفعه شيئاً.

قال تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ۝ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس: 90 – 91].

" (حتى إذا أدركه الغرق) يقول: حتى إذا أحاط به الغرق وفي الكلام متروك، قد ترك ذكره لدلالة ما ظهر من الكلام عليه، وذلك: (فأتبعهم فرعون وجنوده بغيًا وعدوًا) فيه فغرقناه (حتى إذا أدركه الغرق).

وقوله: (قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين)، يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل فرعون حين أشفى على الغرق، وأيقن بالهلكة: (آمنت)، يقول: أقررت، (أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل)." ([11])

"قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، معرِّفًا فرعون قبح صَنيعه أيّام حياته وإساءته إلى نفسه أيام صحته، بتماديه في طغيانه، ومعصيته ربه، حين فزع إليه في حال حلول سَخطه به ونزول عقابه، مستجيراً به من عذابه الواقع به، لما ناداه وقد علته أمواج البحر، وغشيته كرَبُ الموت: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) له، المنقادين بالذلة له، المعترفين بالعبودية، الآن تقرُّ لله بالعبودية، وتستسلم له بالذلة، وتخلص له الألوهة، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك، فأسخطته على نفسك، وكنت من المفسدين في الأرض، الصادِّين عن سبيله؟ فهلا وأنت في مَهَلٍ، وباب التوبة لك منفتح، أقررت بما أنت به الآن مقرٌّ؟" ([12])

 

اليوم ننجيك ببدنك

 

يعتقد بعضهم عند قراءة قوله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ [يونس: 92].

أن المراد بـ: (ننجيك) هو الإشارة إلى نجاة فرعون.

فهل هذا المعنى هو المراد؟ أم أن لكلمة: (ننجيك) معنى آخر ودلالة أخرى؟

"قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لفرعون: اليوم نجعلك على نَجْوةٍ من الأرض ببدنك، ينظر إليك هالكاً من كذّب بهلاكك.

(لتكون لمن خلقك آية)، يقول: لمن بعدك من الناس عبرة يعتبرون بك، فينزجرون عن معصية الله، والكفر به والسعي في أرضه بالفساد.

والنجوة، الموضع المرتفع على ما حوله من الأرض، ومنه قوله أوس بن حجر:

فَمَنْ بِعَقْوَتِهِ كَمَنْ بِنْجْوَتِهِ             وَالمُسْتَكِنُّ كَمَنْ يَمْشِي بِقِرْوَاحِ " ([13])

 

مفارقة بين الناجين والغارقين

 

من المفارقات البديعة في القصص التي تصور الصراع بين الحق والباطل:

الكشف عن مصير كل من المؤمنين والكافرين.

ودقة تصوير حالهم قبل النجاة وبعدها، وفي قصة موسى وفرعون على سبيل المثال:

  • موسى وقومه كانوا قلة مستضعفين، وفرعون وقومه كانوا طاغين مستكبرين.
  • ادعى فرعون لنفسه الألوهية فسلّم له قومه مع بشريته، وجاء موسى عليه السلام بالدعوة إلى الإله الحق الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فازدروه واتهموه بالسحر، وحاربوه.
  • كان البحر أمام موسى عليه السلام وقومه، فانفلق، وكان يبساً أمام فرعون وقومه، فلما عبروه أطبق عليهم.

قال تعالى: ﴿وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ ۝ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ۝ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ۝ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ۝ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء: 64 – 68].

وقال تعالى: ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ۝ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: 39 – 40].

وقال تعالى: ﴿قَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ۝ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يونس: 88 – 89].

 

بئس الرفد المرفود

 

لم يفلح فرعون، ولم يفلح قومه باتباعه وتأليهه؛ بل خسر الدنيا والآخرة، وخسروهما هم أيضاً.

وكما كان زعيمهم في الضلال في الدنيا، فهو كذلك يقدم قومه في العذاب يوم القيامة.

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ۝ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ۝ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ۝ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ﴾ [هود: 96 – 99].

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (يقدم)، فرعون (قومه يوم القيامة)، يقودهم، فيمضي بهم إلى النار، حتى يوردهموها، ويصليهم سعيرها، (وبئس الورد)، يقول: وبئس الورد الذي يردونه." ([14])

"وأتبعهم الله في هذه يعني في هذه الدنيا مع العذاب الذي عجله لهم فيها من الغرق في البحر، لعنتَه (ويوم القيامة)، يقول: وفي يوم القيامة أيضاً يلعنون لعنةً أخرى." ([15])

"وقوله: (بئس الرفد المرفود)، يقول: بئس العَوْن المُعان، اللعنةُ المزيدة فيها أخرى مثلها.

وأصل الرفد: العون، يقال منه: رفَد فلانٌ فلانًا عند الأمير يَرفِده رِفْداً بكسر الراء، وإذا فتحت، فهو السَّقي في القدح العظيم، والرَّفد: القدحُ الضخم، ومنه قول الأعشى:

رُبَّ رَفْدٍ هَرَقْتَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ                    وَأسْرَى مِنْ مَعْشَرٍ أَقْتَالِ

ويقال: رَفد فلان حائطه، وذلك إذا أسنده بخشبة، لئلا يسقط.

والرَّفد، بفتح الراء المصدر.

يقال منه: رَفَده يَرفِده رَفْدًا، والرِّفْد، اسم الشيء الذي يعطاه الإنسان، وهو: المَرْفَد." ([16])

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1])  تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 5/ 624، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([2]) تفسير القرآن العظيم، 6/ 597.

([3]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 5/ 625، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([4]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 5/ 626، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([5]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 19/ 357، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([6]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 5/ 626 - 627، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([7]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 18/ 345، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([8]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 5/ 300، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([9]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 13/ 45، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([10]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 13/ 47.

([11]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 15/ 189، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([12]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 15/ 194.

([13]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 15/ 194 - 195، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([14]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 15/ 466، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([15]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 15/ 467 – 468.

([16]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 15/ 468 – 469.