عزير عليه السلام

 

إعداد مركز المحتوى القرآني


الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، فإذا اختل هذا الركن، أو سقط، تهاوى كامل البنيان.

فكان إثبات البعث والمعاد بعد الموت مقصداً من مقاصد كثير من السور القرآنية، وكثير من آياتها.
وساق القرآن لأجل هذا المقصد الجليل كثيراً من قصصه العظيمة.

ومن هذه القصص:
قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها.

قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ۝ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 258- 259].

فمن هو؟
وما هي القرية التي كانت خاوية على عروشها؟
وما علاقتها بالبعث وإثباته؟
وكيف تجلت قدرة الله العلي القدير بين ثنايا أحداثها؟

قال ابن جرير: "وقوله: (أو كالذي مر على قرية) عطف على قوله: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه)، وإنما عطف قوله: (أو كالذي) على قوله: (إلى الذي حاج إبراهيم في ربه)، وإن اختلف لفظاهما؛ لتشابه معنييهما.
لأن قوله:(ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه)، بمعنى: هل رأيت، يا محمد، كالذي حاج إبراهيم في ربه؟ ثم عطف عليه بقوله: (أو كالذي مر على قرية)؛ لأن من شأن العرب العطف بالكلام على معنى نظير له قد تقدمه، وإن خالف لفظه لفظه. ([1]) "

من هو الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها؟
اختلف فيه، فقيل:
هو عزير، وقيل: غيره. ([2])

"قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره عجب نبيه صلى الله عليه وسلم ممن قال - إذ رأى قرية خاوية على عروشها-: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها)، مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء، فلم يقنعه علمه بقدرته على ابتدائها حتى قال: أنى يحييها الله بعد موتها! ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصح من قبله البيان على اسم قائل ذلك. وجائز أن يكون ذلك عزيراً، وجائز أن يكون أورميا، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه؛ إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك، وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم، وإعادتهم بعد فنائهم، وأنه الذي بيده الحياة والموت من قريش، ومن كان يكذب بذلك من سائر العرب، وتثبيت الحجة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل، بإطلاعه نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على ما يزيل شكهم في نبوته، ويقطع عذرهم في رسالته؛ إذ كانت هذه الأنباء التي أوحاها إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه، من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم وقومه، ولم يكن علم ذلك إلا عند أهل الكتاب، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم وقومه منهم، بل كان أمياً وقومه أميون. ([3]) "

أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟



تبادر إلى ذهن الرجل، لما وجد القرية خاوية، إلا من الهلاك والموت بعد الحياة؛ التفكير في كيفية إحيائها بعد موتها.
قال تعالى: ﴿قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [البقرة: 259].

وقيل في القرية الخاوية على عروشها:
"المشهور أنها بيت المقدس، مر عليها بعد تخريب بختنصر لها، وقتل أهلها، وهي خاوية أي ليس فيها أحد، من قولهم خوت الدار تخوي خوياً.
قوله: (على عروشها) أي ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها، فوقف متفكراً فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة. ([4]) "

والعروش هي:
"الأبنية والبيوت، واحدها: عَرْش، وجمع قليله: أعرُش.
وكل بناء فإنه: (عرش).
ويقال: عَرَش فلان دارًا يعرِش ويعرُش عرشًا.
ومنه قول الله تعالى ذكره: ﴿وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾ [الأعراف: 137] يعني يبنون، ومنه قيل: عريش مكة، يعني به: خيامها وأبنيتها. ([5]) "

كيف يمكن عودة الحياة للقرية بعد الهلاك؟ وكيف تغنى بعد دمار؟
"قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ وذلك لما رأى من دثورها، وشدة خرابها، وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه. ([6]) "

فلما قال ذلك، أماته الله مائة عام ثم بعثه.
وكان هذا الرجل في نفسه آية دالة على البعث.

كم لبثت؟

قال تعالى: ﴿فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ﴾ [البقرة: 259].

" عمرت البلاد بعد مضي سبعين سنة من موته([7])، وتكامل ساكنوها، وتراجع بنو إسرائيل إليها، فلما بعثه الله عز وجل بعد موته، كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه؛ لينظر بهما إلى صنع الله فيه: كيف يحي بدنه، فلما استقل سوياً (قال) الله له، أي بواسطة الملك: كم لبثت؟ قال لبثت يوماً أو بعض يوم.
قال: وذلك أنه مات أول النهار، ثم بعثه الله في آخر النهار، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم، فقال أو بعض يوم، قال: بل لبثت مائة عام. ([8]) "

آية للناس:
قال تعالى: ﴿فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 259].
"وذلك أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير، فوجده كما تقدم لم يتغير منه شيء، لا العصير استحال، ولا التين حمض ولا أنتن، ولا العنب نقص.
(وانظر إلى حمارك) أي: كيف يحييه الله عز وجل، وأنت تنظر.
(ولنجعلك آية للناس) أي دليلاً على المعاد.
(وانظر إلى العظام كيف ننشزها) أي نرفعها، فيركب بعضها على بعض. ([9]) "
"وقرئ: (ننشرها) أي نحييها. ([10]) "

﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 259].

هدايات وعبر من قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها


يمثل البعث قضية مركزية في القرآن الكريم، تحشد لها الأدلة النقلية والعقلية، ويؤثر الإيمان بها في حياة الناس وواقعهم، فكم من منكر لها لم يرتدع عن جرم أو ذنب؛ لظنه أنه إلى تراب، ولا حياة بعد التراب، ولا بعث بعد الموت، ولا حساب ولا عقاب.



ومن القصص القرآني الذي تضمن أدلة واضحة، وبراهين ساطعة على البعث بعد الموت، قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها.

فكان من هذه الآيات هذه الهدايات:

أولاً: مشروعية إقامة الدلائل العقلية البرهانية على القضايا الدينية:
قال تعالى: ﴿فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 259].

ثانياً: ليس كل حساب بشري تقدير للشيء على حقيقته:
قال تعالى: ﴿فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ﴾ [البقرة: 259].

ثالثاً: إن في إثبات البعث نفياً للعبث:
تضمنت قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها دليلاً برهانياً على إثبات البعث، وعلى طلاقة القدرة الإلهية، فمن أنشأ هذا المخلوقات من عدم، وأبدعها أول مرة، قادر على إحيائها وبعثها من جديد، وكله على الله هين سبحانه وتعالى.
وفي إثبات البعث نفياً للعبث، فلم يخلق الله عز وجل خلقه ويتركهم سدى، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
قال تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 259].

والله سبحانه أعلى وأعلم.

 

إعداد: 
جمانة بنت خالد

مراجعة وتدقيق:
عادل الشميري 

إشراف: 
الشيخ غازي بن بنيدر العمري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 5/ 438، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

[2] انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 5/ 439- 440.

[3] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 5/ 441- 442.

[4] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 1/ 527، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ.

[5] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 5/ 445، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

[6] تفسير القرآن العظيم، 1/ 527.

[7] روى ابن جرير الطبري بإسناده عن وهب بن منبه هذه القصة، ومما ذكر فيها: " ثم ردّ الله من رد من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته يعمرونها ثلاثين سنة تمام المائة، فلما ذهبت المائة ردّ الله روحه وقد عمِّرت على حالها الأولى.": جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 5/ 455، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

[8] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 1/ 527، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ.

[9] تفسير القرآن العظيم، 1/ 527.

[10] تفسير القرآن العظيم، 1/ 527.