أصحاب الجنة
إعداد مركز المحتوى القرآني
بين جنة وصريم
ضرب الله تعالى قصة أصحاب الجنة: " لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة وأعطاهم من النعم الجسيمة، وهو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة. ([1]) "
قال تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ﴾ [القلم: 17- 21].
"يعني تعالى ذكره بقوله: (إنا بلوناهم): أي بلونا مشركي قريش، يقول: امتحناهم فاختبرناهم، (كما بلونا أصحاب الجنة) يقول: كما امتحنا أصحاب البستان (إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين) يقول: إذ حلفوا ليصرمن ثمرها إذا أصبحوا.
(ولا يستثنون): ولا يقولون إن شاء الله. ([2]) "
الطائف الذي طاف على الجنة:
"أي أصابتها آفة سماوية فأصبحت كالصريم. ([3]) "
الصريم:
"(كالصريم) أي كالأشجار التي صرم عنها ثمرها، أو كالشيء الذي انقطع ما بينه وبين قاصده فلا وصول إليه بوجه، وقيل: كالليل المظلم الأسود، وقيل: كالرماد الأسود، ليس بها ثمرة؛ لأن ذلك الطائف أتلفها لم يدع فيها شيئاً، لأنهم طلبوا الكل، فلم يزكوه بما يمنع عنه الطوارق بضد ما كان لأبيهم من ثمرة عمله الصالح من الدفع عن ماله والبركة في جميع أحواله. ([4]) "
تبييت الطاغين نية عدم الإحسان إلى المساكين
صوّر القرآن الكريم حال أصحاب الجنة تصويراً دقيقاً، وعبّر عنه تعبيراً بليغاً.
قال تعالى: ﴿فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ [القلم: 21- 27].
" فتنادوا مصبحين أي لما كان وقت الصبح نادى بعضهم بعضاً؛ ليذهبوا إلى الجذاذ أي القطع أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين أي تريدون الصرام. ([5]) "
"وعبر عن إسراعهم إلى الذهاب بقوله: (فانطلقوا) أي بسبب هذا الحث وعقبه، كأنهم كانوا متهيئي، (وهم) أي والحال أنهم (يتخافتون) أي يقولون في حال انطلاقهم قولاً هو في غاية السر، كأنهم ذاهبون إلى سرقة من دار هي في غاية الحراسة، من الخفوت وهو الخمود، ثم فسر ما يتخافتون به بقوله: (أن لا يدخلنها).([6]) "
غدوا على حرد قادرين:
"يقول بعضهم لبعض: لا تمكنوا اليوم فقيراً يدخلها عليكم.
قال الله تعالى: وغدوا على حرد أي قوة وشدة. ([7]) "
كانت هذه هي النية، فكيف ألفى أصحابُ الجنة جنتهم؟
لولا تسبحون
لما سار أصحاب الجنة إلى جنتهم، "ورأوها محترقاً حرثها، أنكروها وشكوا فيها، هل هي جنتهم أم لا؟ فقال بعضهم لأصحابه ظناً منه أنهم قد أغفلوا طريق جنتهم، وأن التي رأوا غيرها: إنا أيها القوم لضالون طريق جنتنا، فقال من علم أنها جنتهم، وأنهم لم يخطئوا الطريق: بل نحن أيها القوم محرومون، حرمنا منفعة جنتنا بذهاب حرثها. ([8]) "
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [القلم 26- 29].
لولا تسبحون:
نجد التسبيح حاضراً في كثير من الأحوال التي صورها القرآن الكريم، ولا سيما حال الشدة، كما في قصة يونس عليه السلام إذ ذهب مغاضباً، قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: 143- 144].
وفي قوله تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87].
وفي قصة أصحاب الجنة، قال تعالى: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ﴾ [القلم: 28].
" ولما كان منع الخير ولا سيما في مثل هذا مستلزماً لظن النقص في الله تعالى إما بأنه سبحانه لا يخلف ما حصل التصدق به وإما أنه لا يقدر على إهلاك ما شح الإنسان به، قال مستأنفاً: (لولا) أي هلا ولم لا (تسبحون) أي توقعون التنزيه لله سبحانه وتعالى عما أوهمه فعلكم، وأقل التسبيح: الاستثناء عند الإقسام شكاً في قدرة الإنسان، وإثباتاً لقدرة الملك الديان، استحضاراً لعظمته سبحانه وتعالى.
ودل سياق الكلام على أنهم كانوا متهيئين للتوبة بقوله: (قالوا) من غير تلعثم بما عاد عليهم من بركة أبيهم، فقال سبحانه حاكياً عن قولهم: (سبحان ربنا) أي تنزه المحسن إلينا التنزيه الأعظم عن أن يكون وقع منه فيما فعل بنا ظلم، وأكدوا قباحة فعلهم هضماً لأنفسهم، وخضوعاً لربهم، وتحقيقاً لتوبتهم؛ لأن ما كانوا عليه من الحال يقتضي أن لا يصدق رجوعهم عنه بقولهم: (إنا كنا) أي بما في جبلاتنا من الفساد (ظالمين) أي راسخين في إيقاعنا الأشياء في غير مواقعها حيث لم نعزم عزماً جازماً على ما كان يفعل أبونا من البر، ثم حيت حلفنا على ترك ذلك ثم حيث لم نرد الأمر إلى الله بالاستثناء حيث حلفنا، فإن الاستثناء تنزيه الله عن أن يجري في ملكه ما لا يريد. ([9]) "
بين توبة ولوم
قال تعالى: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ﴾ [القلم:30- 37]
توبة أصحاب الجنة:
" أكد توبتهم بقوله مسبباً عن اعترافهم بالظلم: (فأقبل بعضهم) أي في حال مبادرتهم إلى الخضوع (على بعض) ودلت التسوية بين فريقيهم في اللفظ على الاستواء في التوبة (يتلاومون) أي يفعل كل منهم مع الآخر في اللوم على ما قصده من المنع، وترك ما تركوه من الإعطاء والدفع ما يفعله الآخر معه، وينسب النقصان إليه كما هو دأب المغلوبين العجزة. ([10]) "
أول التوبة إقرار بالذنب:
" فما كان جواب بعضهم لبعض إلا الاعتراف بالخطيئة والذنب.
(قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين)، أي اعتدينا، وبغينا، وطغينا، وجاوزنا الحد حتى أصابنا ما أصابنا.
(عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون) قيل: رغبوا في بدلها لهم في الدنيا، وقيل: احتسبوا ثوابها في الدار الآخرة، والله أعلم. ([11]) "
هدايات وعبر من قصة أصحاب الجنة
في قصة أصحاب الجنة عبر كثيرة، وهدايات جليلة، ومنها:
أولاً: تخويف الكافرين من مصير الطاغين:
﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ﴾ [القلم: 17- 21].
ثانياً: ألّا يبيت المؤمن إلا خيراً وأن يحسن إلى الضعفاء والمساكين:
قال تعالى: ﴿فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ [القلم: 21- 27].
ثالثاً: التسبيح مفتاح الفرج والتيسير:
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [القلم 26- 29].
رابعاً: ترك الغفلة:
﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾ [القلم: 19- 20].
والله سبحانه أعلى وأعلم.
إعداد:
جمانة بنت خالد
مراجعة وتدقيق:
عادل الشميري
إشراف:
الشيخ غازي بن بنيدر العمري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 8/ 213، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ.
[2] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 23/ 542، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000م.
[3] تفسير القرآن العظيم، 8/ 214.
[4] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 20/ 309، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
[5] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 8/ 214، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ.
[6] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 20/ 310، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
[7] تفسير القرآن العظيم، 8/ 214.
[8] جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 23/ 549، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000م.
[9] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 20/ 312- 313، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
[10] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 20/ 313، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
[11] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 8/ 215، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ.