علاقة ترجمة معاني القرآن الكريم بتفسيره

بقلم / الدكتور وليد بن بليهش العمري

 

لا بد من معرفة علاقة ترجمة معاني القرآن الكريم بتفسيره؛ لأهمية الموضوع وحساسيته، وقد كتبت فيه بحثين علميين محكمين يمكن الوصول إليهما عن طريق الروابط الآتية:
https://www.academia.edu/13315333/Qur%CA%BE%C4%81n_Translation_and_Commentary_An_Uncharted_Relationship …

https://www.academia.edu/13315758/Lower-Plane_Quran_Translation_Exegetical_Inroads_into_Translation …

وقبل الشروع في الطرح أورد مثالاً توضيحياً على ترجمة الآية 112 من سورة المائدة: "إذ قال الحواريونَ يَٰعيسى ٱبن مريم هل يستطيع ربّك أَن ينزل"، إذ ترجمها مصطفى خطاب ترجمة تفسيرية هكذا: Will your Lord be willing to، أي: هل يقبل ربك بأن، ولما ذهب إليه أصل في التفاسير.

يتأوّل كثير من المفسرين سؤال هؤلاء المؤمنون الخُلّص بأنه لا يقصد به الاستفسار عن قدرة الله تعالى وإلا لقدح هذا في كمال أيمانهم https://dorar.net/tafseer/5/34 . وهذا قول معتبر يحترم.
والسؤال: هل يصح أن تُفرض هذه القراءة قسراً على الترجمة، وتوضع مقابلة للأصل مما يشي بأنها تمثيل دقيق له؟

هذا ينتج عما أسميه الترجمة عند الطبقة الأدنى وهي التي تعكس الطبقة التوضيحية الوسطى -أي طبقة الكتابات التفسيرية- عوضاً عن أن تعكس بقدر ما يطيقه البشر النص الأصل وتمثله تمثيلاً أميناً، ومثل هذا الفعل له تبعات خطيرة منها: أقحام قول المفسرين على الطبقة القرآنية العليا، وحجب القارئ عن التدبر.

وللتوضيح: قول الحواريين الذي يظهر منه الشك يشي بحالتهم النفسية العصيبة، على خلفية طلب عيسى (عليه السلام) منهم اتخاذ موقف واضح (من أنصاري إلى الله؟) بعد أن أيقن كفر بني إسرائل، وعزمهم أمرهم على أن يأخذوه فيقتلوه، وهم الكثرة الغالبة؛ فطلبوا منه هذه الآيه لتطمئن قلوبهم، ويعلموا أن قد صدقهم!

وهي كحال المؤمنين في الخندق إذ قال تعالى عنهم: {وتظنون بالله الظنونا} (السعدي: الظنون السيئة، أن الله لا ينصر دينه، ولا يتم كلمته) بعد أن رأوا جمع أعدائهم، وهل قدح هذا في أيمانهم! إن الترجمة التفسيرية تقطع الصلة بين حال المؤمنين في كلا الموقفين، وتحرم القارئ من استنباط تدبري جديد.

وأورد مثالاً آخر وهو "ذات الشوكة" (الأنفال: 7) أي عير قريش التي لم يكن فيها مقاتلة وسلاح، (والشوك هو النبت الذي له حدة)، وهذا استعمال بلاغي لا توفيه حقه ترجمة المعنى التفسيري وهذا ما وقع فيه أغلب المترجمين (https://www.islamawakened.com/quran/8/7/ ) وأعجبتني ترجمة وحيد الدين: the one without sting

والأمثلة لا حصر لها، واختصاراً ولأن المقام لا يسعه البسط أوردنا هذه من باب الإيضاح وللتدليل على ما يُفقد في الترجمات التي تعتمد الترجمة التفسيرية عند الطبقة الأدنى، وهي ترجمات تسطيحية يعوزها الكثير من عمق النص القرآني الجليل؛ تفرط فيه دون داع إلا رغبة اتباع المنهج، أو استسهالاً له.

ولعل المترجمون يرون ألا حرج عندهم في مذهبهم هذا فهم يملكون الرخصة في ذلك مما يجعل كثير من خياراتهم تدخل في خانة الترجمة عند الطبقة الأدنى، ولكن من أين أتوا بهذه الرخصة؟ الإجابة على هذا السؤال تأخذنا إلى بواكير الجدال المحتدم حول ترجمة معاني القرآن الكريم! ولا بد منه.

طغى على الساحة في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين جدال واسع حول ترجمة القرآن كان من على رأس معارضيها الشيخ محمد رشيد رضا، وتصدر المؤيدين الشيخ محمد مصطفى المراغي، وهذا على خلفية توزيع ترجمة القادياني محمد علي شديدة التحريف، محاولة أتاتورك حينها إبدال النص القرآني باللغة التركية.

ونشأت عن هذا الجدال المحتدم مصطلحات: الترجمة "التفسيرية" وهي "المعنوية" (التي عنوا بهما ترجمة التفسير) مقابل "الحرفية" التي عنوا بها الترجمة المباشرة، إلا أن هذه المسميات تسببت في إشكال كبير حول مراد كل منها، ويجب أن تحرر هذه المصطلحات لنتخلص من الجدال حولها ونلتفت لما هو أجدى.

ومن تبعات هذا الجدال ظهرت نزعة خطيرة لم توفّ حقها من النقاش كما يجب وهي إصدار تفاسير ميسرة لتبدل الترجمات بها وتوضع مقابلة للنص العربي: كالمنتخب، والميسر، وهي في مجملها تحاكي النص العربي أسلوباً ومنطوقاً، ولا تعطي النص العمق اللازم الذي تعطيه أياه التفاسير "التقليدية" الأخرى.

ولعل ما حدا هذا المشكلات التي تعج بها الترجمات المطروحة وبخاصة تلك التي لا تتبع المنهج القويم، وعلى أهمية هذه التفاسير المختصرة فهي لا تسعف المترجم كثيراً في الغوص في عمق المعنى، ولذا أرى أنها لا تعدو كونها "معينات للمترجم" لفهم المعنى الإجمالي ابتداء لينطلق في الترجمة في ضوئها.

وتهدف هذه المختصرات في الأصل إلى الحد من النطاق التفسيري للمترجم إذ تنطلق من مبدأ عدم أهليته للقيام بعمل معقد كالتفسير، وهذا أمر لا يسعنا نفيه جملة وتفصيلا، والتوجه في أصله محمود إلا أنه لا يخلو من إشكالات كما ذكرنا وسنذكر.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الغرض يتحقق تماماً من عمل عظيم كـ التفسير المحرر https://dorar.net/publication/88 الذي يعطي النص حقه ويغوص في أعماق فهمه، ولا يعتمد تسطيح معناه، ويحرر أقوال المفسرين المعتبرين في كل آية ومسألة، وهذا برأيي هو النموذج الأسلم لمعينات المنترجم التفسرية.

ولا ننكر بحال أهمية اعتماد المترجم على التفسير إذ له محتمات لصعوبات فهم الأصل، ولإدراك دقائقه، ورغبة في أن يكون الفهم متسقاً مع المنهج السليم؛ إلا أننا بحاجة إلى التفريق بين الترجمة والتفسير، وهو أمر شائك يسلتزم إجالة النظر، وتنقيح وتحرير دقيقين.

يجب ألا نغفل عن البعد الشكلي في عرض وإيراد كليهما؛ فبينما يحتل التفسير مكاناً هامشياً بحاشية النص القرآني، تأتي الترجمة عادة مقابلة للنص القرآني، وذلك اعتماداً على أن التفسير عمل توضيحي (explicatory)، ولكن الترجمة في أصلها عمل تمثيلي مُقلّد للأصل (imitative, representative).

ومن هنا يأتي خطر إبدال الترجمات بالتفاسير المختصرة إذ هي تُحل التوضيحي مكان التمثيلي (المقلّد) فتقرأ مقالة المفسرين (التي لا تخلو من خطأ) على أنها تمثيل مطابق (أو مقارب) للأصل، وما هي إلا اجتهادات تفسيرية تقريبية، وهذا إيهام خطير، ويبعد القارئ خطوة عن الأصل إذ هي لا تعتمد المباشرة.
وليس هذا من باب الإيهام بأن الترجمة مطابقة للأصل (حاشى وكلا)، ولكنها تبقى أقرب بخطوة إليه من التأول التفسيري (انظر المثال أول المقال، فما ضر المترجم أن يقول: (can your Lord)؟ وأعي تماماً أن الترجمة مهما بلغت من الدقة لن تفي بشيء من إعجاز القرآن الكريم، فسبحان الله عدد خلقه.

ومن هذا تجدر الإشارة إلى أن عدداً من ثقافات العالم (اليهودية والنصرانية بخاصة) ترى أن الترجمة بديل معتمد (canonical) وقانوني يجري عليه حكم الأصل تماماً، وقد يقيم هؤلاء هذه الترجمات التفسيرية عند الحد الأدنى مقام الأصل، وهذا بعد لطيف لا يلتفت إليه عادة لذا وجب التنبه عليه.

ومن الفروقات بين الترجمة والتفسير أن كليهما يقوم على اتخاذ القرار في مرحلتي الفهم والأداء أو البناء، وقد تسعف المترجم التفاسير في فهم الأصل ولكنها قد لا تسعفه تماماً عند بناء الترجمة وبخاصة عن تصوراته للقارئ المستهدف وموضع وقوع الألفاظ والأفكار عنده.

فالترجمة تتوجه إلى بيئة جديدة تماماً قد تكون مليئة بالمغالطات والتشوهات الفكرية، وهذا أمر تغفل عنه التفاسير؛ فلكل ثقافة وزمان بل ومجتمع إملاءاتها التي لا يجدر إغفالها؛ ونقل التفاسير بهذا الشكل يضر أكثر مما ينفع، ولا يفي بحاجة المتلقي المعرفية وبخاصة من نص هداية ونور كالقرآن الكريم.

فمثلاً المتلقي في عالم اليوم المنفتح المحموم يواجه سيلاً من الشبه والطعون على نحو مكثف يومي تتعلق بقضايا منها: حقوق المرأة، ومبدأ التعددية والتعايش في المجتعات، ونظرة الإسلام للآخر، والتفاسير قديمها ومختصرها يفتقر إلى التعاطي مع هذه الأمور في طرح موزون يجلي الأمر.

وأخيراً أؤكد أن العلاقة الوثيقة بين ترجمة القرآن وتفسيرة تعود في أصلها إلى طبيعة النص القرآني المعجز الذي لا تنقضي عجائبه، وللإملاءات التاريخية الجدلية الفقهية عن مشروعية الترجمة وكيفيتها، ونحن لا نطالب بفصلهما ولكن بالنظر في أن بينهما فروق جوهرية تنعكس على نجاح أداء كليهما.
ومكمن الخطر هو في فرض التفسير على الترجمة قسراً دون تحرج وتدقيق، وإبدال الترجمة بالمختصرات وعدم عدها مجرّد معين ينبه المترجم على المعنى الإجمالي ويربطه بالفهم السليم في أصله.
قال إياس بن معاوية: "مثل الذين يقرؤون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلاً وليس عندهم مصباح فتداخلتهم روعة، ولا يدرون ما في الكتاب، ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرؤوا ما في الكتاب".
والمترجم كالمفسر حامل مصباح فهو ليس مجرد ناقل لفقه غيره!