إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم (1)

 

إبراهيم عليه السلام

(نبيٌّ أمّة)

ما هي صفاته التي حدثنا عنها القرآن الكريم؟

 

من أكثر القصص وروداً في القرآن الكريم، قصة نبيّ كريم، اصطفاه الله، واصطفى آله، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، هو إبراهيم عليه السلام.

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ۝ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 33 – 34].

حدّثنا القرآن الكريم عن صفاته، عن قصته مع أبيه، ومع زوجه، وابنه، ومع النمرود، والملائكة، ومع قومه وأصنامهم.

ومن أجلّ الصفات التي وُصف بها إبراهيم خليل الرحمن في القرآن الكريم:

  • أواه.
  • حليم.
  • منيب.

قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾ [هود: 75].

  • حنيف.
  • مسلم.

قال تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: 67].

  • أمة.
  • قانت.

قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 120].

  • اتخذه الله خليلاً.

قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ [النساء: 125].

 

كما وصفه وأبناءه بصفات مشتركة:

قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ۝ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ۝ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ﴾ [ص: 45- - 47].

" وقوله: (أولي الأيدي والأبصار) ويعني بالأيدي: القوة، يقول: أهل القوة على عبادة الله وطاعته. ويعني بالأبصار: أنهم أهل أبصار القلوب، يعني به: أولى العقول للحق." ([1])

كتاب إبراهيم عليه السلام:

الصحف.

قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ۝ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ [الأعلى: 18 – 19].

وقال تعالى: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ۝ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم: 36 – 37].

 

ملة أبيكم إبراهيم

(لماذا نسبهم إليه؟ ومن الذي سمى أمتنا المسلمين؟)

 

قال تعالى: ﴿جَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الحج: 78].

لماذا نسب المخاطبين إلى إبراهيم عليه السلام؟ هل هو أبوهم على الحقيقة؟ أم على المجاز؟

وهل هناك لطيفة دعوية في هذا الخطاب؟

قال البقاعي: "ولما كان أول مخاطب بهذا قريشاً، ثم مضر، وكانوا كلهم أولاد إبراهيم عليه الصلاة والسلام حقيقة، قال: (أبيكم إبراهيم) أي الذي ترك عبادة الأصنام ونهى عنها، ووحد الله وأمر بتوحيده، يا من تقيدوا بتقليد الآباء! فالزموا دينه؛ لكونه أباً، ولكوني أمرتُ به.

وهو أب لبعض المخاطبين من الأمة حقيقة، ولبعضهم مجازاً بالاحترام والتعظيم، فيعم الخطاب الجميع.

ولذلك حثهم على ملته بالتعليل بقوله: (هو) أي إبراهيم عليه السلام (سماكم المسلمين) في الأزمان المتقدمة (من قبل) أي قبل إنزال هذا القرآن، فنوه بذكركم والثناء عليكم في سالف الدهر وقديم الزمان فكتب ثناءه في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان، وسماكم أيضا مسلمين (وفي هذا) الكتاب الذي أنزل عليكم من بعد إنزال تلك الكتب كما أخبرتكم عن دعوته في قوله ﴿مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ [البقرة: 128].

لأنه بانتفاء الحرج يطابق الاسم المسمى، ويجوز - ولعله أحسن - أن يكون (هو سماكم) تعليلاً للأمر بحق الجهاد بعد تعليله بقوله: (هو اجتباكم) فيكون الضمير لله تعالى، ويشهد له بالحسن قراءة أبي رضي الله عنه بالجلالة عوضاً عن الضمير، أي أن كل أمة تسمت باسم من تلقاء نفسها، والله تعالى خصكم باسم الإسلام مشتقاً له من اسمه ﴿السَّلامُ﴾ [الحشر: 3] مع ما خصكم به مناسم الإيمان اشتقاقاً له من اسمه المؤمن، فأثبت لكم هذا الاسم في كتبه، واجتباكم لاتباع رسوله." ([2])

وعلى ذلك يكون سبب تذكيرهم بأبوة إبراهيم عليه السلام لهم:

  • حقيقة أمرهم أنهم أبناؤه، وهو جدهم.
  • هو أبوهم بالتعظيم والاحترام، فيعم الخطاب، ويشمل جميع الأمة.
  • تعريض بادعائهم اتباع آبائهم والاقتداء بهم، فإن كانوا مقلّدين لا محالة، فليقتدوا بأبيهم إبراهيم الذي نهى عن عبادة الأصنام، وفي هذا احتجاج عليهم، وإلزام لهم بلوازم قولهم.

 

ليطمئن قلبي

 

قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 260].

لماذا سأل إبراهيم عليه السلام ربه أن يريه كيف يحيي الموتى؟ وما علاقة ذلك بالإيمان؟

  • الرؤية والمعاينة توآزر الخبر وتزيد اليقين يقيناً:

ذهب بعض المفسرين إلى أن إبراهيم عليه السلام "رأى دابة قد تقسمتها السباع والطير، فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها، مع تفرق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الأرض؛ ليرى ذلك عياناً، فيزداد يقيناً برؤيته ذلك عياناً إلى علمه به خبراً، فأراه الله ذلك مثلا بما أخبر أنه أمره به."([3])

  • توظيف الأدلة العقلية والمشاهدة في المناظرة الحجاجية:

ذهب بعض المفسرين إلى أن "سبب مسألته ربه ذلك، المناظرة والمحاجة التي جرت بينه وبين نمرود في ذلك." ([4])

  • تأييد البشارة بالأدلة والعلامات:

قال بعض المفسرين: "كانت مسألته ذلك ربه عند البشارة التي أتته من الله بأنه اتخذه خليلاً، فسأل ربه أن يريه عاجلاً من العلامة له على ذلك؛ ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلاً ويكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيداً." ([5])

 

ابن مؤمن وأب كافر

 

اقتضت حكمة الله أن نجد نبياً له ابن كافر، أو زوج كافرة، مثل نوح عليه السلام، ونجد نبياً آخر أبوه كافر، مثل إبراهيم عليه السلام، فالهداية من عند الله، وليس على الرسول إلا البلاغ.

ويستمر النبيّ في دعوته إياهم، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وقد كان لإبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر، محاجّات ومناظرات، صوّرها لنا القرآن الكريم من وجوه عدة.

أولاً: إنكار اتخاذ الأصنام آلهة:

قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: 74].

ثانياً: بيان عجز الأصنام:

قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ۝ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ [مريم: 41 – 42].

ثالثاً: الكشف عمّا جاءه من العلم الرباني:

وبيان ما يقتضيه ويوجبه من الاتّباع والطاعة.

قال إبراهيم عليه السلام لأبيه: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾ [مريم: 43].

"ولما نبهه على أن ما يعبده لا يستحق العبادة؛ بل لا تجوز عبادته، لنقصه مطلقاً، ثم نقصه عن عابده، ولن يكون المعبود دون العابد أصلاً، وكان أقل ما يصل إليه بذلك مقام الحيرة، نبهه على أنه أهل للهداية، فقال مكرراً لوصفه المذكور بالعطف والود: (يا أبتِ).

وأكدّ علماً منه أنه ينكر أن يكون ابنه أعرف منه بشيء فقال: (إني قد جاءني) من المعبود الحق (من العلم ما لم يأتك) منه (فاتبعني)." ([6])

 رابعاً: التحذير من الكيد الشيطاني:

﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾ [مريم: 44].

خامساً: إظهار صدق الخوف على أبيه:

﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ [مريم: 45].

كيف كان جواب الأب؟

﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ [مريم: 46].

استنكار، وتهديد، وهجران.

وقوله: "(لأرجمنك) أي: لأشتمنك." ([7])

 موعدة وموادعة:

مع جفوة آزر، وغلظة خطابه، إلا أن إبراهيم عليه السلام أحسن الخطاب، والجواب.

قال تعالى: ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ۝ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾ [مريم: 47 – 48].

قال تعالى: ﴿إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [الممتحنة: 4].

قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: 114].

براءة من ضلالهم ومعبوداتهم:

قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ۝ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ۝ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: 26 - 28].

 

 

إبراهيم عليه السلام وملكوت السماوات والأرض

(توظيف الآيات الكونية المشاهدة في المحاجة والمناظرة)

 

من جوانب العظات والعبر في قصة إبراهيم عليه السلام؛ تتبع أسلوبه الدعوي، واقتفاء منهجه في المناظرة والجدل والمحاجّة، وكيف ألجم خصومه، وأفحمهم، وأبطل حجتهم.

قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ۝ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ۝ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ۝ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 75 – 78].

أولاً: المراد بـ: ملكوت السماوات والأرض:

اختُلف في المراد بملكوت السماوات والأرض على أقوال:

  • خلق السماوات والأرض.
  • معنى (الملكوت) الملك، وزيدت فيها تاء، كرهبوت، ورحموت.
  • آيات السماوات والأرض.
  • ما أخبر تعالى أنه أراه من النجوم والقمر والشمس.

ورجّح الطبري أن المعنى: أراه ملك السماوات والأرض، وذلك ما خلق فيهما من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب وغير ذلك من عظيم سلطانه فيهما، وجلى له بواطن الأمور وظواهرها. ([8])

ثانياً: ما هو المقصود من قول إبراهيم عليه السلام لكل من الكوكب والقمر والشمس عند بزوغها: هذا ربي، وإنكار ربوبيتها بعد أفولها؟

  • قال ذلك لقومه؛ معارضة، كما يقول أحد المتناظرين لصاحبه معارضاً له في قول باطل قال به بباطل من القول، على وجه مطالبته إياه بالفرقان بين القولين الفاسدين عنده، اللذين يصحح خصمه أحدهما ويدعي فساد الآخر.
  • أن يكون قاله حال طفولته، وقبل قيام الحجة عليه، وتلك حال لا يكون فيها كفر ولا إيمان.
  • أن يكون معنى الكلام: أهذا ربي؟ على وجه الإنكار والتوبيخ، أي: ليس هذا ربي. وقالوا: قد تفعل العرب مثل ذلك، فتحذف (الألف) التي تدل على معنى الاستفهام.([9])

 

بين إبراهيم عليه السلام

وبين قومه والأصنام

 

كان قوم إبراهيم عليه السلام عُبّاداً للأصنام، ولم يكُن أبوه آزر الضالّ وحده، قال تعالى: ﴿قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾ [الشعراء: 71]، وكان إبراهيم عليه السلام يعيب فعالهم، ويحاكمهم إلى عقولهم، إلا أن ذلك لم يجدِ مع الضالّين نفعاً.

فكيف حكى القرآن قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه والأصنام؟

  • السير على خطى الآباء والأجداد:

لم تكُن عبادتهم للأصنام إلا اتباعاً لآبائهم، وسيراً على خطاهم، حذو القذة بالقذة، وإن كانت ستودي بهم إلى الهلاك.

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ۝ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ۝ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ۝ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ۝ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ﴾ [الأنبياء: 51 - 55].

فهل كان سؤالهم عن الحق سؤال استعلام أم استخفاف؟

  • حكمة إبراهيم عليه السلام في كشف زيف عبادة الأصنام:
  • إثبات استحقاق المعبود الحق بالأدلة والشواهد:

الإثبات والنفي يتآزران في الاستدلال على صحة الاعتقاد، ولذلك كان معنى: (لا إله إلا الله): لا معبود بحق إلا الله، فأثبتت استحقاق الله للعبادة وحده لا شريك له، ونفت استحقاق غيره.

وكان جواب إبراهيم عليه السلام متضمناً الإثبات والنفي؛ إثبات استحقاق الله للعبادة وحده لا شريك له، وإقامة الأدلة، والشواهد المحسوسة والمعقولة على ذلك.

ونفي استحقاق أصنامهم للعبادة، وإقامة الأدلة والشواهد على ذلك أيضاً.

قال تعالى: ﴿قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: 56].

وقال تعالى: ﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ۝ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ۝ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ۝ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ۝ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ۝ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ۝ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ۝ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ۝ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ۝ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ۝ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ۝ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ۝ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ۝ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ۝ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 75 – 89].

  • نفي استحقاق المعبودات الباطلة وإثبات عجزها المطلق:

قال تعالى: ﴿قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ۝ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ۝ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [الشعراء: 72 – 74].

  • كيد الأصنام ونسبة ذلك إلى كبيرهم:

لما كان الضلال مستحكماً في عقولهم؛ كان لا بد من دعم المحاجة القولية والعقلية، بإثباتات عملية لا يستطيعون إلا التسليم بنتائجها، ولذلك أقسم إبراهيم عليه السلام على أن يكيد الأصنام، في خطة محكمة تكشف لقومه زيفها، وبطلانها.

قال تعالى: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ۝ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: 57 - 58]

وقال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ۝ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ۝ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ۝ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ۝ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ۝ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ۝ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ ۝ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ﴾ [الصافات: 85 - 93].

" وقوله: (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ) ذكر أن قومه كانوا أهل تنجيم، فرأى نجماً قد طلع، فعصب رأسه وقال: إني مَطْعُون، وكان قومه يهربون من الطاعون، فأراد أن يتركوه في بيت آلهتهم، ويخرجوا عنه؛ ليخالفهم إليها فيكسرها." ([10])

" وقوله: (فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) هذا خبر من الله عن قيل إبراهيم للآلهة، وفي الكلام محذوف استغني بدلالة الكلام عليه من ذكره، وهو: فقرّب إليها الطعام فلم يرها تأكل، فقال لها: (أَلا تَأْكُلُونَ) فلما لم يرها تأكل قال لها: ما لكم لا تأكلون، فلم يرها تنطق، فقال لها: (مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) مستهزئاً بها، وكذلك ذكر أنه فعل بها." ([11])

فجعل أصنامهم جذاذاً، إلا كبيرهم، "والمجذوذة: المكسورة قِطَعاً." ([12]) 

فكيف كان حال القوم بعد أن وجدوا معبوداتهم أشلاء؟

 

بين الصدمة والمناظرة

(تزعزع الباطل في مقابل ثبات الحق)

 

تضعضع موقف قوم إبراهيم عليه السلام، بعد رؤيتهم أشلاء أصنامهم، فالحق أبلج، والباطل لجلج.

  • صدمة العُبّاد بمعبوداتهم الباطلة:

قال تعالى: ﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ۝ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ۝ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾ [الأنبياء: 59 - 61].

بعد أن حطّم إبراهيم عليه السلام الأصنام، ذكروا أنه"وضع القدوم في يد كبيرهم؛ لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار لنفسه، وأنف أن تُعبد معه هذه الأصنام الصغار فكسرها، (قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين) أي: حين رجعوا وشاهدوا ما فعله الخليل بأصنامهم من الإهانة والإذلال الدالّ على عدم إلهيتها وعلى سخافة عقول عابديها.

(قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين) أي في صنيعه هذا، (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) أي: قال من سمعه يحلف أنه ليكيدنهم: سمعنا فتى أي شاباً، يذكرهم يقال له إبراهيم." ([13])

فما كان موقف إبراهيم عليه السلام أمام الأشهاد؟

  • مناظرة إبراهيم عليه السلام مع قومه:

قال تعالى: ﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ۝ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ۝ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ۝ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ۝ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ۝ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء: 62 - 67].

وقال تعالى: ﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ۝ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ۝ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 94 -96].

" فأتوا بإبراهيم، فلما أتوا به قالوا له: أأنت فعلت هذا بآلهتنا من الكسر بها يا إبراهيم؟ فأجابهم إبراهيم: بل فعله كبيرهم هذا وعظيمهم، فاسألوا الآلهة من فعل بها ذلك وكسرها إن كانت تنطق، أو تعبر عن نفسها." ([14])

وبعد هذه المناقشة: "رجعوا إلى عقولهم، ونظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنكم معشر القوم الظالمون هذا الرجل في مسألتكم إياه وقيلكم له من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم، وهذه آلهتكم التي فعل بها ما فعل حاضرتكم فاسألوها." ([15])

إلا أن الباطل قد أحكم رباطه، فنكسوا على رؤوسهم، أي: "غلبوا في الحجة، فاحتجوا على إبراهيم بما هو حجة لإبراهيم عليهم، فقالوا: لقد علمت ما هؤلاء الأصنام ينطقون." ([16])

فثبت عليه السلام على موقفه من تسفيه معبوداتهم، وبيان زيفها.

قال تعالى: ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ۝ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء: 66 – 67].

فما هو موقفهم بعد مجابهة ثبات النبي عليه السلام على الحق الذي بُعث به؟ وكيف كادوا له بعد كيده أصنامهم؟

 

النار برد وسلام

 

بعد أن ألجم إبراهيم عليه السلام قومَه، لم يبقَ لهم من سبيل في الدفاع عن آلهتهم إلا أن يقتلوه أو يُحرّقوه.

قال تعالى: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ۝ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ۝ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء: 68 - 70].

وقال تعالى: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [العنكبوت: 24].

وقال تعالى: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ۝ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ۝ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات: 97 - 99].

"يقول تعالى مخبراً عن قوم إبراهيم في كفرهم، وعنادهم، ومكابرتهم، ودفعهم الحق بالباطل، أنهم ما كان لهم جواب بعد مقالة إبراهيم هذه المشتملة على الهدى والبيان، إلا أن قالوا: اقتلوه أو حرقوه وذلك؛ لأنهم قام عليهم البرهان، وتوجهت عليهم الحجة، فعدلوا إلى استعمال جاههم وقوة ملكهم فـ ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ۝ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ۝ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات: 97 - 99].

وذلك أنهم حشدوا في جمع أحطاب عظيمة مدة طويلة، وحوطوا حولها، ثم أضرموا فيها النار، فارتفع لها لهب إلى عنان السماء، ولم توقد نار قط أعظم منها، ثم عمدوا إلى إبراهيم فكتفوه وألقوه في كفة المنجنيق، ثم قذفوه فيها، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وخرج منها سالماً بعد ما مكث فيها أياماً، ولهذا وأمثاله جعله الله للناس إماماً، فإنه بذل نفسه للرحمن، وجسده للنيران، وسخا بولده للقربان، وجعل ماله للضيفان، ولهذا اجتمع على محبته جميع أهل الأديان." ([17])

"ولما كان البرد قد يكون ضاراً قال: (وسلاماً) فكانت كذلك، فلم تحرق منه إلا وثاقه." ([18])

وفي الحديث (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.) [أخرجه البخاري 4564]

 

الهجرة إلى الأرض المباركة

 

خسر قوم إبراهيم، وخاب مسعاهم، ونجاه الله من بين أيديهم، ومن حرّ نارهم.

قال تعالى: ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ۝ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات: 98 - 99].

وهجر إبراهيم عليه السلام قومه، وهاجر إلى الأرض المباركة، فما هي هذه الأرض؟

قال تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [العنكبوت: 26].

وقال تعالى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 71].

" يقول تعالى مخبراً عن إبراهيم أنه سلمه الله من نار قومه وأخرجه من بين أظهرهم مهاجراً إلى بلاد الشام، إلى الأرض المقدسة منها." ([19])

"ولما كان إنجاؤه - وهو وحده - ممن أرادوا به هذا الأمر العظيم من العجائب، فكيف إذا انضم إليه غيره، ولم يكن في ذلك الغير آية تمنعهم عنه كما كان في إبراهيم عليه السلام، قال: (ونجيناه) أي بعظمتنا (ولوطاً) أي ابن أخيه وصديقه؛ لكونه آمن به وصدقه، من بلادهما كوثى بلاد العراق، منتهيين إلى الأرض المقدسة، ولعله عبر بـ: إلى الدالة على تضمين (انتهى) للدلالة على أن هناك غاية طويلة، فإنهما خرجا من كوثى من أرض العراق إلى حران، ثم من حران، (إلى الأرض) المقدسة (التي باركنا فيها) بأن ملأناها من الخيرات الدنيوية والأخروية بما فيها من المياه التي بها حياة كل شيء من الأشجار والزروع وغيرها، وما ظهر منها من الأنبياء عليهم السلام الذي ملؤوا الأرض نوراً." ([20])

 

إكرام الضيف هدي رباني وأدب نبوي

عن قصة إبراهيم عليه السلام وضيوفه الكرام

 

ينقلنا القرآن الكريم في محطات شتى، ويطلعنا على صور بديعة، ومشاهد رفيعة من أدب الأنبياء عليهم السلام، ولو سأل سائل: لماذا؟ فهاهنا الجواب الشافي: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90] رب واحد، وعقيدة واحدة، وهدي واحد، وأدب واحد.

وعلى هذا المسلك القويم؛ سار خليل الرحمن، إبراهيم عليه السلام.

والمتأمل في قصته مع ضيفه من الملائكة؛ يجد تصويراً دقيقاً لدأب الكرام في أدب الضيافة والإطعام.

ومن الآداب المستقاة من هذه القصة القرآنية:

أولاً: حسن الاستقبال دون إمهال ولا إهمال:

وهذا الأدب تجلى في ثلاثة صور:

الأولى: رد السلام:

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ﴾ [هود: 69].

"والرفع أقوى وأثبت من النصب، فردُّه أفضل من التسليم، ولهذا قال تعالى: ﴿وإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء: 86] فالخليل اختار الأفضل." ([21])

الثانية: الخفاء عن الأنام([22]):

قال تعالى: ﴿فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾ [الذاريات: 26].

"راغ: أي ذهب في خفية، وخفة، ومواضع سترة عن أعينهم كما هو من آداب الضيافة؛ خوفاً من أن يمنعوه، أو يكدر عليهم الانتظار." ([23])

 

الثالثة: السرعة في الإكرام والإطعام:

        قال تعالى: ﴿فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ [هود: 69].

ثانياً: طيب الطعام وحسن الكلام:

وهذا الأدب تجلى في ثلاثة صور:

الأولى: جودة الطعام:

لماذا فصّل لنا القرآن الكريم في طبيعة الطعام الذي قدمه إبراهيم عليه السلام لضيفه؟ نوع اللحم، وحجمه؛ بل طريقة طهيه أيضاً؟

اختار إبراهيم عليه السلام أجود ما أمكنه تقديمه لضيفه: عجل سمين حنيذ.

قال تعالى: ﴿فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾ [الذاريات: 26].

         وقال تعالى: ﴿فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ [هود: 69].

والمقصود بحنيذ: "أي مشوي على حجارة محماة في أخدود، وفوقه حجارة محماة؛ ليشتد نضجه، فكان بعد الشيّ يقطر دسمه؛ لأنه سمين." ([24])

الثانية: تقريب الطعام من أوجه الإكرام:

قال تعالى: ﴿فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ﴾ [الذاريات: 27].

"أي: أدناه منهم." ([25])

الثالثة: لطف المقال في طرح السؤال:

قال تعالى: ﴿قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ﴾ [الذاريات: 27].

"على سبيل العرض والتلطف."([26])

وكل هذا يتآزر ليدل على: "ما طبعه الله عليه من سجايا الكرم وأفعال الكرام في أدب الضيافة من التعجيل مع الإتقان." ([27])

 

بوادر الخوف والوجل من الضيوف الغرباء

(ما غرض هؤلاء الضيوف؟ وما سبب خوف إبراهيم عليه السلام)

 

برغم حسن ضيافة إبراهيم عليه السلام لضيفه، إلا أنهم لم يقربوا الطعام، فنكرهم، وأوجس منهم خيفة.

قال تعالى: ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ۝ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ﴾ [الحجر: 51 – 52].

وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ [هود: 70].

وقال تعالى: ﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ﴾ [الذاريات: 28].

وقد أرجع المفسرون سبب خوف إبراهيم عليه السلام إلى أحد أمرين:

  • الخوف من شر قد أضمره الضيوف، وهذا على أنه لم يعرف حقيقتهم.
  • أن يكون عرف حقيقتهم، وأنهم ملائكة، فخاف مما أتوا به من العذاب والهلاك.

وبيان ذلك على التفصيل فيما يلي:

قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: فلما رأى إبراهيم أيديهم لا تصل إلى العجل الذي أتاهم به، والطعام الذي قدم إليهم، نكرهم، وذلك أنه لما قدم طعامه صلى الله عليه وسلم إليهم، فيما ذكر، كفوا عن أكله؛ لأنهم لم يكونوا ممن يأكله.

وكان إمساكهم عن أكله، عند إبراهيم، وهم ضيفانه مستنكراً.

ولم تكن بينهم معرفة، وراعه أمرهم، وأوجس في نفسه منهم خيفة." ([28])

وقد روى الطبري بإسناده عن قتادة: "(فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة)، وكانت العرب إذا نزل بهم ضيف فلم يطعم من طعامهم، ظنوا أنه لم يجئ بخير، وأنه يحدث نفسه بشر." ([29])

وقال البقاعي: " (نكِرهم) أي اشتدت نكارته لهم وانفعل لذلك، وهذا يدل على ما قال بعض العلماء: إن نكر أبلغ من أنكر.

(وأوجس) أي: أضمر مخفياً في قلبه (منهم خيفة) أي: عظيمة لما رأى من أحوالهم وشاهد من جلالهم، وأصل الوجوس: الدخول، والدليل - على أن خوفه كان لعلمه بالتوسم أنهم ملائكة نزلوا لأمر يكرهه من تعذيب من يعز عليه أو نحو هذا - أنهم (قالوا لا تخف) ثم عللوا ذلك بقولهم (إنا أُرسلنا) أي ممن لا يرد أمره (إلى قوم لوط) فإنهم نفوا الخوف عنه بالإعلام بمن أرسلوا إليه، لا بكونهم ملائكة." ([30])

 

بشرى طال انتظارها

 

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ [هود: 69].

  • بشرى بالولد:

حملت زيارة الملائكة بشرى إلى إبراهيم عليه السلام.

قال تعالى: ﴿قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ۝ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ۝ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ ۝ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ [الحجر: 53 – 56].

  • صفات كريمة لابن كريم:

قال تعالى: ﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾ [الذاريات: 28].

  • بشائر متوالية:

حيث لم تكن بشرى واحدة؛ بل بشائر متوالية:

قال تعالى: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود: 71].

  • أسباب العجب:

تعجبت زوج إبراهيم عليه السلام من هذه البشرى لسببين:

  • أنها عجوز.
  • أنها عاقر. ([31])

قال تعالى: ﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ۝ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ [هود: 72 – 73].

وقال تعالى: ﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ۝ قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ [الذاريات: 29 – 30].

قال البقاعي: "وبشروه بالولد (وامرأته) أي جاءته الرسل بالبشرى أي ذكروها له، والحال أن زوجة إبراهيم التي هي كاملة المروءة وهي سارة (قائمة) قيل: على باب الخيمة لأجل ما لعلها تفوز به من المعاونة على خدمتهم([32]) ، فسمعت البشارة بالولد التي دل عليها فيما مضى قوله (بالبشرى) (فضحكت) أي تعجبت من تلك البشرى لزوجها مع كبره، وربما ظنته من غيرها لأنها - مع أنها كانت عقيماً - عجوز، فهو من إطلاق المسبب على السبب إشارة إلى أنه تعجب عظيم (فبشرناها) أي فتسبب عن تعجبها أنا أعدنا لها البشرى مشافهة بلسان الملائكة؛ تشريفاً لها،  وتحقيقاً أنه منها (بإسحاق) تلده.

(ومن وراء إسحاق يعقوب) أي يكون يعقوب ابناً لإسحاق." ([33])

 

إبراهيم الأواه الحليم

(لماذا جادل الملائكة في قوم لوط عليه السلام؟)

 

لم تكن البشارة الكريمة هي الخبر الوحيد الذي حملته الملائكة في زيارتها لإبراهيم عليه السلام؛ بل أبلغوه عن هلاك قوم لوط، وكان يجادلهم عليه السلام في ذلك.

فكيف وصف القرآن الكريم هذا الموقف؟

قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾ [هود: 70].

وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ۝ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ۝ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾ [هود: 74 – 76].

وقال تعالى: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ۝ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ۝ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ﴾ [الحجر: 57 – 60].

قال ابن كثير: "وقوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾ [هود: 75] مدح لإبراهيم بهذه الصفات الجميلة، وقد تقدم تفسيرها، وقوله تعالى: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ [هود: 76] الآية.

أي إنه قد نفذ فيهم القضاء، وحقت عليهم الكلمة بالهلاك، وحلول البأس الذي لا يرد عن القوم المجرمين." ([34])

تعليل مجادلة إبراهيم عليه السلام:

وصف الله تعالى إبراهيم عليه السلام بـ: الحليم، الأواه، المنيب، وقد جاءت هذه الصفات الثلاث في معرض تعليل مجادلته للملائكة في قوم لوط.

فما هي العلاقة بين مجادلته وبين اتصافه بهذه الصفات؟

قال البقاعي: " أي: يسألنا في نجاتهم سؤالاً يحرص فيه حرص المجادل في صرف الشيء، من الجدل وهو الفتل، ووضع المضارع موضع الماضي إشارة إلى تكرر المجادلة مع تصوير الحال، أي جادلنا فيهم جدالاً كثيراً؛ ثم علل مجادلته بقوله: (إن إبراهيم لحليم) أي بليغ الحلم، وهو إمهال صاحب الذنب على ما يقتضيه العقل.

(أواه) أي: رجّاع للتأوه خوفاً من التقصير.

(منيب) أي رجاّع إلى الله بالسبق في ارتقاء درج القرب.

فهو - لما عنده هذه المحاسن - لا يزال يتوقع الإقلاع من العصاة." ([35])

 

إبراهيم عليه السلام والنمرود

 

قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 258].

فمن هو الذي حاجّ إبراهيم في ربّه؟ وكيف ألجمه إبراهيم عليه السلام وأبطل حجته؟

"قيل: إن (الذي حاج إبراهيم في ربه) جبار كان ببابل يقال له: نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح.

وقيل: إنه نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح." ([36])

وقد كانت المناظرة تدور حول ما يلي:

  • القدرة على الإحياء والإماتة.
  • التصرّف في الوجود، ومن ذلك تسخير الشمس، وغيرها.

وقد كانت أدلة إبراهيم عليه السلام على وجود الرب سبحانه وتعالى:

الدليل الأول: حدوث الأشياء بعد عدمها.

الدليل الثاني: التصرّف في الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته. ([37])

"يعني تعالى ذكره بذلك: ألم تر، يا محمد، إلى الذي حاج إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم: (ربي الذي يحيي ويميت)، يعني بذلك: ربي الذي بيده الحياة والموت، يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء.

قال: أنا أفعل ذلك، فأحيي وأميت، أستحيي من أردت قتله فلا أقتله، فيكون ذلك مني إحياء له، وذلك عند العرب يسمى: إحياء، كما قال تعالى ذكره: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32] وأقتل آخر، فيكون ذلك مني إماتة له.

قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: فإن الله الذي هو ربي يأتي بالشمس من مشرقها، فأت بها- إن كنت صادقاً أنك إله- من مغربها!

قال الله تعالى ذكره: (فبهت الذي كفر)، يعني انقطع وبطلت حجته." ([38])

وقال ابن كثير: "ما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة، إلا تجبره، وطول مدته في الملك، وذلك أنه يقال: إنه مكث أربعمائة سنة في ملكه، ولهذا قال: ﴿أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾ [البقرة: 258].

وكان طلب من إبراهيم دليلاً، على وجود الرب الذي يدعوا إليه، فقال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت.

أي إنما الدليل على وجوده، حدوث هذه الأشياء، المشاهدة بعد عدمها، وعدمها بعد وجودها، وهذا دليل على وجود الفاعل المختار، ضرورة؛ لأنها لم تحدث بنفسها، فلا بد لها من موجد أوجدها، وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له.

فعند ذلك قال المحاج- وهو النمرود- أنا أحيي وأميت.

قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي، وغير واحد: وذلك أني أوتى بالرجلين، قد استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما- فيقتل، وآمر بالعفو عن الآخر فلا يقتل، فذلك معنى الإحياء والإماتة- والظاهر والله أعلم- أنه ما أراد هذا لأنه ليس جواباً لما قال إبراهيم، ولا في معناه؛ لأنه غير مانع لوجود الصانع، وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عناداً ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك، وأنه هو الذي يحيي ويميت، كما اقتدى به فرعون في قوله: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: 38] ولهذا قال له إبراهيم، لما ادعى هذه المكابرة: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: 258] أي إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت، فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته، وتسخير كواكبه وحركاته، فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق، فإن كنت إلهاً كما ادعيت تحيي وتميت، فأت بها من المغرب؟ فلما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام، بهت، أي أخرسَ، فلا يتكلم، وقامت عليه الحجة." ([39])

 

لسان صدق في الآخرين

 

نقل لنا القرآن الكريم دعوات كثيرة للخليل إبراهيم عليه السلام، ومنها ما ورد في قوله تعالى: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ۝ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ۝ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ۝ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ۝ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ۝يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ۝ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 83 – 89].

"وهذا سؤال من إبراهيم عليه السلام أن يؤتيه ربه حكماً.

قال ابن عباس: وهو العلم.

وقال عكرمة: هو اللب.

وقال مجاهد: هو القرآن.

وقال السدي: هو النبوة.

وقوله: (وألحقني بالصالحين) أي اجعلني مع الصالحين في الدنيا والآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند الاحتضار: (اللهم في الرفيق الأعلى) [البخاري 6509، ومسلم 2191] قالها ثلاثاً.

وفي الحديث في الدعاء: (اللهم أحينا مسلمين، وأمتنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مبدلين). [مسند أحمد 15492]

وقوله: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾ [الشعراء: 84] أي: واجعل لي ذكراً جميلاً بعدي أذكر به ويقتدى بي في الخير، كما قال تعالى: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ۝ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ۝ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات: 108- 110]." ([40])

"وقد كان ذلك إجابة من الله تعالى لدعائه، ومن أعظمه أن جعله الله شجرة مباركة فرع منها الأنبياء الذين أحيى بهم عليهم الصلاة والسلام ذكره الذي من أعظمه ما كان على لسان أعظمهم النبي الأمي صلى الله عليه وسلم من قوله: (صلّ على محمد كما صليت على إبراهيم) إلى آخره."([41])

 

غلام عليم وغلام حليم

(هل الصفتان لشخص واحد؟ أم لشخصين مختلفين؟)

 

كانت البشرى لإبراهيم عليه السلام، بغلام عليم، وكذلك بغلام حليم، فمن هو المقصود؟ وإن لم يكن غلاماً واحداً فمن هو الأول؟ ومن هو الآخر؟

أولاً: الغلام العليم:

قال تعالى: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ۝ قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾ [الحجر: 52 – 53].

"وبشروه بغلام عليم: أي إسحاق عليه السلام، كما تقدم في سورة هود." ([42])

قال تعالى: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود: 71].

ثانياً: الغلام الحليم:

قال تعالى: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ۝ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ [الصافات: 99 – 101].

" وقوله: (رب هب لي من الصالحين) وهذا مسألة إبراهيم ربه أن يرزقه ولداً صالحاً.

يقول: قال: يا رب هب لي منك ولداً يكون من الصالحين الذين يطيعونك، ولا يعصونك، ويصلحون في الأرض، ولا يفسدون." ([43])

من هو الغلام الحليم؟

" وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام، فإنه أول ولد بشر به إبراهيم عليه السلام، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب ([44])." ([45])

 

واد غير ذي زرع

(شرف المكان وشرف الغاية)

 

أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام أن يذهب بزوجه، وبابنهما إسماعيل عليه السلام إلى البلد الحرام، فكيف صوّر الخليل طبيعة المكان، وغايته من السفر بهم إليه؟

قال تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: 37].

" وقال إبراهيم خليل الرحمن هذا القول حين أسكن إسماعيل وأمه هاجر -فيما ذكر- مكة." ([46])

أولاً: الطبيعة الجغرافية للبلد:

  • وادي.

"(بوادٍ) هو مكة المشرفة؛ لكونها في فضاء منخفض بين جبال تجري به السيول (غير ذي زرع)." ([47])

  • غير ذي زرع.

"ربنا إني أسكنت بعض ولدي بوادٍ غير ذي زرع.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم دليل على أنه لم يكن هنالك يومئذ ماء؛ لأنه لو كان هنالك ماء لم يصفه بأنه غير ذي زرع عند بيتك الذي حرمته على جميع خلقك أن يستحلوه." ([48])

ثانياً: شرف المكان وجواره:

بجوار البيت الحرام: (عند بيتك المحرّم).

ثالثاً: شرف الغاية:

ليقيموا الصلاة.

"ثم بين غرضه من إسكانهم هناك فقال: (ربنا) أي: أيها المحسن إلينا (ليقيموا الصلاة) ما أسكنتهم في هذا الوادي الموصوف إلا لهذا الغرض المنافي لعبادة غيرك، ولأن أولى الناس بإقامتها حاضرو البيت المتوجه بها إليه." ([49])

 

رب اجعل هذا بلداً آمناً

(دعوات إبراهيم عليه السلام للبلد الحرام)

 

قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 126].

وقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ۝ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: 35 – 37].

أولاً: الأمن:

"(آمناً) أي ذا أمن بأمان أهله، وكأن هذا الدعاء صدر منه بعد أن سكن الناس مكة وصارت مدينة، والذي في البقرة كان حيث وضع ابنه مع أمه وهي خالية عن ساكن، فدعا أن يجعلها الله بلداً، وأن يجعلها بعد ذلك موصوفة بالأمن، وهو سكون النفس إلى زوال الضر." ([50])

ثانياً: أن يكون مهوى للأفئدة:

" ولما كان اشتغالهم بالعبادة وكونهم في ذلك الوادي أمرين بعيدين عن أسباب المعاش، تسبب عنه قوله: (فاجعل أفئدة) أي قلوباً محترقة بالأشواق (من الناس) أي من أفئدة الذين هم أهل للاضطراب، بكون احتراقها بالشوق مانعاً من اضطرابها (تهوي) أي تقصدهم، فتسرع نحوهم برغبة وشوق إسراع من ينزل من حالق؛ وزاد المعنى وضوحاً وأكده بحرف الغاية الدال على بعد؛ لأن الشيء كلما بعد مدى مرماه اشتد وقعه فقال: (إليهم)." ([51])

ثالثاً: أن يرزق أهله من الثمرات:

"لما دعا لهم بالدين، دعا لهم بالرزق المتضمن للدعاء لجيرانهم فقال: (وارزقهم) أي على يد من يهوي إليهم (من الثمرات) أي التي أنبتها في بلادهم؛ وبيّن العلة الصالحة بقوله: (لعلهم يشكرون) أي: ليكون حالهم حال من يرجى شكرهم، لما يرون من نعمك الخارقة للعوائد في ذلك الموضع البعيد عن الفضل لولا عنايتك، فيشتغلوا بعبادتك، لإغنائك لهم وإحسانك إليهم، وقد أجاب الله دعوته؛ فالآية لتذكير قريش بهذه النعم الجليلة عليهم ببركة أبيهم الأعظم الذي نهى عن عبادة الأوثان." ([52])

 

حفظ الأبدان وحفظ الأديان

(جوانب دعاء خليل الرحمن)

 

قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ۝ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ۝ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ۝ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ۝ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ۝ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [إبراهيم: 35 – 41].

اشتملت دعوة إبراهيم عليه السلام لذريته على جانبين مهمين:

الأول: حفظ الأموال والأبدان.

الثاني: حفظ العقائد والأديان.

لما دعا بالأمن من فساد الأموال والأبدان، أتبعه بالدعاء بالأمن من فساد الأديان.

والصنم: المنحوت على خلقة البشر، وما كان منحوتاً على غير خلقة البشر فهو وثن - قاله الطبري عن مجاهد. ([53])

تعليل الدعاء بصرفه وبنيه عن عبادة الأصنام:

"(إنهن أضللن) إسناد مجازي علاقته السببية (كثيراً من الناس فمن) أي فتسبب عن بغضي لهن أن أقول: من (تبعني) من جميع الناس في تجنبها (فإنه مني) أي من حزبي لكونه على طريقتي وديني، فأتني ما وعدتني فيه من الفوز.

(ومن عصاني) فضل بها فقد استحق النار، فإن عذبته فهو عبادك، وإن غفرت له فأنت لذلك؛ لأن لك أن تفعل ما تشاء (فإنك غفور) أي بليغ الستر (رحيم) أي بليغ الإكرام بعد ستر الذنوب، وأكد للإعلام بزيادة رغبته في العفو؛ لأنه لا ينقص به شيء من عزته سبحانه ولا حكمته - كما أشار إليه دعاء عيسى عليه السلام في المائدة." ([54])

 

شكر الرحمن على عطاياه وهباته

 

مع بشائر الرحمن لخليله، والتي صوّرها القرآن، كان إبراهيم عليه السلام شاكراً لربّه، مقرّاً بعطاياه، حامداً لهباته.

قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ۝ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ۝ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [إبراهيم: 39 – 41].

" ولما تم ما دعا به من النزاهة عن رجاسة الشرك وتبين بتقديمه أن أهم المهمات البراءة منه، أتبعه الحمد على ما رزق من النعم وما تبع ذلك من الإشارة إلى وجوب الشكر فقال: (الحمد لله) أي المستجمع لصفات الكمال.

(الذي وهب) والهبة: هبة تمليك من غير عقد، منّاً منه (لي) حال كوني مستعلياً (على الكبر) ومتمكناً منه على يأس من الولد (إسماعيل) الذي أسكنته هنا (وإسحاق) وهذا يدل على ما تقدم فهمي له من أن هذا الدعاء كان بعد بناء البيت." ([55])

وقد وصفه الله تعالى بأنه شاكر لأنعمه، قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۝ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [النحل: 120 – 122].

" يقول تعالى ذكره: وآتينا إبراهيم على قنوته لله، وشكره له على نعمه، وإخلاصه العبادة له في هذه الدنيا ذكرًا حسناً، وثناءً جميلاً باقياً على الأيام.

(وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) يقول: وإنه في الدار الآخرة يوم القيامة لممن صلح أمره وشأنه عند الله، وحَسُنت فيها منزلته وكرامته." ([56])

 

الذبيح

 

ما أعظم أثر البشائر بعد طول انتظارها، إلا أن زوالها بعد وجودها له وقع أكبر، وأشد إيلاماً من انتظارها؛ لكن لأنبياء الله عليهم السلام شأن آخر، فنراهم يقبلون جميع أقدار الله تعالى بالتسليم والاستسلام، والانقياد التام.

وهذا ما كان من إبراهيم عليه السلام مع ابنه الذبيح.

بعد أن بشّر الله عز وجل إبراهيم عليه السلام بالغلام الحليم، وبلغ معه السعي، رأى رؤيا – ورؤيا الأنبياء حق- رأى أنه يذبحه، فماذا فعل إبراهيم عليه السلام؟ وكيف تلقى ابنه هذا الخبر؟ ومن هو الذبيح على التحقيق؟

قال تعالى: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ۝ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ۝ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ۝ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ۝ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ۝ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۝ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾ [الصافات: 99 – 106].

أولاً: في تحقيق المراد بالذبيح:

نعلم أن الله عز وجل بشّر إبراهيم عليه السلام بغلامين اثنين، أحدهما وصفه بأنه حليم، والآخر وصفه بأنه عليم، أما الأول فهو إسماعيل عليه السلام، وهو الذي أسكنه مع والدته بوادٍ غير ذي زرع، وأما الآخر فهو إسحاق عليه السلام، والذي بشّر بقدومه أمه وأباه، وبشرهم بقدوم ابنه من بعده، وهو يعقوب عليه السلام.

وقد اعتمد كثير من المفسرين على هذه البشارة في نفي أن يكون الذبيح هو إسحاق عليه السلام، إذ كيف يبشره به وبأنه سيكبر ويكون له ابن؟ ثم يأمره بذبحه؟  ([57])

وليس هذا هو الدليل وحسب؛ بل هناك أدلة أخرى في مقام الإثبات، والنفي، إثبات أن إسماعيل عليه السلام هو الذبيح، ونفي أن يكون الذبيح هو إسحاق عليه السلام كما زعمت اليهود بتحريف ما ورد في كتابهم. ([58])

" (حليم): أي لا يعجل بالعقوبة مع القدرة؛ لأنه في غاية الرزانة والثبات، فيكون ذلك إشارة إلى حصول بلاء ما يتبين به أنه سر أبيه أن إبراهيم لحليم، والحلم لا يكون إلا بعد العلم، ورسوخ العلم سبب لوجود الحلم، وهو اتساع الصدر لمساوئ الخلق ومدانئ أخلاقهم، وهذا الولد هو إسماعيل عليه السلام بلا شك لوجوه:

منها وصفه بالحليم.

ووصف إسحاق عليه السلام في سورة الحجر بالعليم.

ومنها أن هذا الدعاء عند الهجرة حيث كان شاباً يرجو الولد، وهو بكره الذي ولد له بهذه البشرى، وهو الذي كان بمكة موضع الذبح، فجعلت أفعاله في ذبحه مناسك للحج في منى كما جعلت أفعال أمه في مكة المشرفة أول أمره عندما أشرف على الموت من العطش مناسك ومعالم هناك، وأما إسحاق عليه السلام فأتته البشرى فجأة، وهو لا يرجو الولد لكبره ويأس أمرأته، ولذلك راجع في أمره، ولم ينقل أنه فارق أمه من بيت المقدس." ([59])

عمره عند بلوغ السعي:

"اختلف العلماء في تقدير ذلك بالسن فقال بعضهم: ثلاث عشرة سنة، وبعضهم: سبع سنين، ولذلك قيده بالأب؛ لأن غيره لا يشفق على الولد فيكلفه ما ليس في وسعه، وهو لم يبلغ كمال السعي." ([60])

ثانياً: خبر الرؤيا:

لما بلغ هذا الغلام الحليم السعي، أي: عمر السعي، أبلغه إبراهيم عليه السلام أمه رأى في المنام أنه يذبحه.

" (قال) أي إبراهيم عليه السلام: (يا بني) منادياً له بصيغة التعطف والشفقة والتحبب، ذاكراً له بالمضارع الحال الذي رآه عليه ومصوراً له، لا لتكرار الرؤيا فإنه غير محتاج إلى التكرار ولا إلى التروي، فإن الله تعالى أراه ملكوت السماوات والأرض، وأكد لما في طباع البشر من إحالة أن يقال ذلك على حقيقته، وإعلاماً بأنه منام وحي لا أضغاث أحلام: (إني أرى في المنام) أي وأنت تعلم أن رؤيا الأنبياء وحي (أني أذبحك) أي أعالج ذبحك في اليقظة بأمر من الله تعالى ولذلك كان كما قال، ولو عبر بالماضي لمضى وتم، وإنما كان في المنام في هذا الأمر الخطر جداً ليعلم وثوق الأنبياء عليهم السلام بما يأتيهم عن الله في كل حال.

ولما كان الأنبياء عليهم السلام أشفق الناس وأنصحهم، أحب أن يرى ما عنده، فإن كان على ما يحب سر وثبته وإلا سعى في جعله على ما يحب فيلقى البلاء وهو أهون عليه، ويكون ذلك أعظم لأجره لتمام انقياده، ولتكون المشاورة سنة، فإنه (ما ندم من استشار) سبب عن ذلك قوله: (فانظر) بعين بصيرتك (ماذا) أي ما الذي (ترى) أي في هذه الرؤيا، فهو اختبار لصبره، لا مؤامرة له." ([61])

فماذا كان رد الابن الذبيح؟

 

تسليم من الابن واستسلام وانقياد تام

 

استجاب إسماعيل عليه السلام لما حدثه به أبوه، وانقاد للأمر الرباني، وأظهر صبره على قدر الله.

قال تعالى: ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: 102].

"(قال) تصديقاً لثناء الله عليه بالحلم: (يا أبت) تأدباً معه بما دل على التعظيم والتوفير (افعل ما تؤمر) أي كل شيء وقع لك به أمر من الله تعالى ويتجدد لك به أمر منه سبحانه؛ لأني لا أتهمك في شفقتك وحسن نظرك، ولا أتهم الله في قضائه، والقصة دليل على وقوع الأمر بالممتنع لغيره ولأكثر الأوامر منه، وقد تقدم ذلك في البقرة عند ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ [البقرة: 6].

ولما علم طاعته، تشوف السامع إلى استسلامه وصبره، فاستأنف قوله: (ستجدني) أي بوعد جازم لا تردد فيه صادق كما أخبر الله تعالى عنه، لا خلف فيه، وكان صادق الوعد.

ولما كان من أخلاق الكُمّل عدم القطع في المستقبلات لما يعلمون من قدرة الله تعالى على نقض العزائم بالحيلولة بين المرء وقلبه قال: (إن شاء الله) أي الذي اختص بالإحاطة بصفات الكمال؛ وأكد وعده بهذا الأمر الذي لا يكاد يصدق مثله بقوله: (من الصابرين) أي العريقين في الصبر البالغين فيه حد النهاية، وهو من أعظم ما أريد بقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ﴾ [مريم: 54]." ([62])

تصديق أمر الرؤيا قولاً وفعلاً:

لم يكتفِ الأب والابن بالتسليم قولاً؛ بل ضمّوا إلى ذلك انقياداً فعلياً، ومباشرة لتطبيق الأمر الذي جاءت به الرؤيا.

"لما وثق منه، بادر إلى ما أمر به، ودل على قرب زمنه من زمن هذا القول بالفاء فقال: (فلما أسلما) أي: ألقيا بالفعل على غاية الإخلاص حين المباشرة بجميع قواهما في يد الأمر، ولم يكن عند أحد منهما شيء من إباء ولا امتناع ولا حديث نفس في شيء من ذلك (وتلّه) أي صرعه إبراهيم عليهما السلام صرعاً جيداً سريعاً مع غاية الرضا منه والمطاوعة من إسماعيل عليه السلام، ودل على السرعة باللام الواقعة موقع (على) فقال: (للجبين) أي أحد شقي الجبهة، وهي هيئة إضجاع ما يذبح، وهذا من قولهم: تله - إذا صرعه، وبه سمي التل من التراب، وتلك فلاناً في يدك أي دفعته سلماً، والجبين - قال في الصحاح: فوق الصدغ، وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها." ([63])

فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ۝ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات: 104 – 105].

وبعد هذا التسليم والتصديق من الأب وابنه عليهما السلام، كيف كان الجزاء الرباني؟

 

الجزاء والفداء

 

إن مقام المحسنين ليس كأي مقام، وجزاؤهم ليس مثله جزاء.

قال تعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ۝ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۝ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾ [الصافات: 104 – 106].

  • جزاء المحسنين:

" (وناديناه) وفخم هذا النداء بحرف التفسير فقال: (أن يا إبراهيم) ولما كان محل التوقع الثناء عليه قال: (قد صدقت) أي تصديقاً عظيماً (الرؤيا) في أنك تذبحه، فإنك قد عالجت ذلك، وبذلت ([64]) الوسع فيه، وفعلت ما رأيته في المنام، فما انذبح؛ لأنك لم تر أنك ذبحته، فاكفف عن معالجة الذبح بأزيد من هذا.

ولما كان التقدير: فجزيناك على ذلك لإحسانك فوق ما تحب، وجعلناك إماماً للمتقين، ووهبناك لسان صدق في الآخرين، وجعلنا آلك هم المصطفين، وملأنا منهم الخافقين، علله بأن ذلك سنته دائماً قديماً وحديثاً فقال ما يأتي.

ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في همة الذبح وعزمه، فكانت تلك الهمة التي تقصر عنها رتبها السها والسماك، والعزمة التي تتضاءل دون عليّ مكانتها وسني عظمتها عوالي الأفلاك، لا تسكن عن ثورانها، ولا تبرد عن غليانها وفورانها، إلا بأمر شديد، وقول جازم أكيد، قال مؤكداً تنبيهاً على أن همته قد وصلت إلى هذا حده، وأن امتثال الأمر أيسر من الكف بعد المباشرة بالنهي: (إنا كذلك) أي مثل هذا الجزاء العظيم (نجزي المحسنين).

ولما كان جزاؤه عظيماً جداً، دل على عظمه بأن علل إكرامه به بقوله معجباً ومعظماً مؤكداً تنبيهاً على أنه خارق للعادة: (إن هذا) أي الأمر والطاعة فيه (لهو البلاء) أي الاختبار الذي يحيل ما خولط به كائناً ما كان (المبين) أي الظاهر في بابه جداً المظهر لرائيه أنه بلاء." ([65])

  • الذبح العظيم:

من أوجه الإكرام الرباني، وجزاء المحسنين على إحسانهم، أن جعل الله فداء إسماعيل الذبيح عليه السلام سنة إلى قيام الساعة، قال تعالى: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: 107].

" ولما قدم ما هو الأهم من نهيه عن علاجه، ومن البشارة بالجزاء، ذكر فداءه بما جعله سنة باقية يذكر بها الذكر الجميل على مر الأيام وتعاقب السنين، ولما كان المفتدى منه من كان الأسير في يده، وكان إسماعيل في يد إبراهيم عليهما السلام، وهو يعالج إتلافه، جعل تعالى نفسه المقدس فادياً؛ لأن الفادي من أعطى الفداء، وهو ما يدفع لفكاك الأسير، وجعل إبراهيم عليه السلام مفتدى منه تشريفاً له وإن كان في الحقيقة كالآلة التي لا فعل لها، والله تعالى هو المفتدى منه حقيقة فقال: (وفديناه) أي الذبيح عن إنفاذ ذبحه وإتمامه تشريفاً له (بذبح) أي بما ينبغي أن يذبح ويكون موضعاً للذبح، وهو كبش من الجنة، قيل: إنه الذي قربه هابيل فتقبله الله منه (عظيم) أي في الجثة والقدر والرتبة لأنه مقبول ومستن به ومجعول ديناً إلى آخر الدهر.

﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ۝ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ۝ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۝ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ۝ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ [الصافات: 108 – 113].

ولما كان سبحانه إذا منّ بشيء علم أنه عظيم، فإذا ذكر الفعل وترك المفعول أراد فخامته وعظمته، قال: (وتركنا عليه) أي على الذبيح شيئاً هو في الحسن بحيث يطول وصفه.

ولما كان بحيث لا ينسى قال: (في الآخرين) ومن هذا الترك ما تقدم من وصفه بصدق الوعد؛ لأنه وعد بالصبر على الذبح فصدق." ([66])

 

قواعد البيت الحرام 

 

من الذي بنى القواعد؟ وما صنيع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فيها؟

قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ۝ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۝ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ۝ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 127 – 131].

اختُلف في القواعد التي رفعها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام من البيت:

  • هل أحدثا ذلك؟
  • أم القواعد كانت له قبلهما؟ ([67])

وبيان ذلك على التفصيل فيما يلي:

  • "قال قوم: هي قواعد بيت كان بناه آدم أبو البشر بأمر الله إياه بذلك، ثم درس مكانه وتعفَّى أثرُه بعده، حتى بوأه الله إبراهيم عليه والسلام، فبناه." ([68])
  • "وقال آخرون: بل هي قواعد بيت كان الله أهبطه لآدم من السماء إلى الأرض، يطوف به كما كان يطوف بعرشه في السماء، ثم رفعه إلى السماء أيام الطوفان، فرفع إبراهيم قواعد ذلك البيت." ([69])
  • "وقال آخرون: بل كان موضع البيت ربوه حمراء كهيئة القبة، وذلك أن الله لما أراد خلق الأرض علا الماء زبدة حمراء أو بيضاء، وذلك في موضع البيت الحرام، ثم دحا الأرض من تحتها، فلم يزل ذلك كذلك حتى بوأه الله إبراهيم، فبناه على أساسه، وقالوا: أساسه على أركان أربعة في الأرض السابعة." ([70])

أي هذه الأقوال هو الصواب؟ وما حقيقة رفع قواعد البيت الحرام؟

"قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن إبراهيم خليله أنه وابنه إسماعيل، رفعا القواعد من البيت الحرام.

وجائز أن يكون ذلك قواعد بيت كان أهبطه مع آدم، فجعله مكان البيت الحرام الذي بمكة. وجائز أن يكون ذلك كان القبة التي ذكرها عطاء، مما أنشأه الله من زبد الماء.

وجائز أن يكون كان ياقوتة أو درة أهبطا من السماء.

وجائز أن يكون كان آدم بناه ثم انهدم، حتى رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل.

ولا علم عندنا بأي ذلك كان من أي؛ لأن حقيقة ذلك لا تدرك إلا بخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، بالنقل المستفيض.

ولا خبر بذلك تقوم به الحجة فيجب التسليم لها، ولا هو - إذ لم يكن به خبر، على ما وصفنا - مما يدل عليه بالاستدلال والمقاييس، فيمثل بغيره، ويستنبط علمه من جهة الاجتهاد، فلا قول في ذلك هو أولى بالصواب مما قلنا، والله تعالى أعلم." ([71])

 

مقام إبراهيم

 

قال تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: 125].

وقال تعالى: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97].

ما هو مقام إبراهيم عليه السلام؟ وأين يقع؟ وما مكانته؟ وما علاقته بالبينات؟ وما سبب وجوده في هذا المكان؟

" واتخذوا (من مقام إبراهيم) خليلنا (مصلى) وهو مفعل لما تداوم فيه الصلاة.

ومقام إبراهيم هو الحجر الذي قام عليه حين جاء لزيارة ولده إسماعيل عليهما الصلاة والسلام فلم يجده، فغسلت امرأة إسماعيل رأسه وهو معتمد برجله عليه وهو راكب، غسلت شق رأسه الأيمن وهو معتمد على الحجر برجله اليمنى، ثم أدارت الحجر إلى الجانب الأيسر وغسلت شقه الأيسر، فغاصت رجلاه فيه؛ ولهذا أثر قدميه مختلف، أصابع هذه عند عقب هذه، وهو قبل أن يبني البيت، والله أعلم بمراده." ([72])

وقيل في الآيات البينات:

  • مقامُ إبراهيم والمشعرُ الحرام، ونحو ذلك.
  • مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً. ([73])

"قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال: (الآيات البينات) منهنّ مقام إبراهيم، وهو قول قتادة ومجاهد الذي رواه معمر عنهما.

فيكون الكلام مرادًا فيه (منهن)، فترك ذكرُه اكتفاء بدلالة الكلام عليها.

فإن قال قائل: فهذا المقامُ من الآيات البينات، فما سائر الآيات التي من أجلها قيل: آيات بينات؟

قيل: منهنّ المقام، ومنهن الحجرُ، ومنهن الحطيمُ." ([74])

ما هو تأويل الآية؟

"فتأويل الآية إذًا: إن أول بيت وُضع للناس مباركاً وهدًى للعالمين، للَّذي ببكة، فيه علاماتٌ بيناتٌ من قدرة الله وآثار خليله إبراهيم، منهن أثر قَدَم خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الحجر الذي قامَ عليه." ([75])

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 21/ 215، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([2]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 5/ 179 - 180، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([3]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 5/ 485، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([4]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 5/ 486.

([5]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 5/ 487.

([6]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 4/ 537، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([7]) تفسير غريب القرآن: ابن قتيبة، 274، تحقيق: السيد أحمد صقر، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 1398 هـ - 1978م.

([8]) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 11/ 470 - 475، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([9]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 11/ 484.

([10]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 21/ 64، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([11]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 21/ 66.

([12]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 18/ 457.

([13]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 5/ 339، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([14]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 18/ 461، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([15]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 18/ 462.

([16]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 18/ 463.

([17]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 6/ 54 - 55، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([18]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 5/ 95، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([19]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 5/ 343، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([20]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 5/ 97، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([21]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 7/ 34، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([22]) حيث كان يظنهم بشراً.

([23]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 7/ 279، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([24]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 3/ 533.

([25]) تفسير القرآن العظيم، 7/ 34.

([26]) تفسير القرآن العظيم، 7/ 34- 35.

([27]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 3/ 553.

([28]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 15/ 387، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([29]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 15/ 387.

([30]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 3/ 553، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([31]) انظر: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 3/ 554، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([32]) وفي الإشارة إلى قيامها هنا دليل على حسن إكرامها لضيفها، وضيف زوجها.

([33]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 3/ 553 - 554.

([34]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 460، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([35]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 3/ 555، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([36]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 5/ 430، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([37]) وذهب إلى ذلك ابن كثير رحمه الله كما سيأتي.

([38]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 5/ 432.

([39]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 2/ 254 - 255، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([40]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 5/ 629، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([41]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 5/ 370، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([42]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 653، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([43]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 21/ 72، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([44]) فصّل ابن كثير رحمه الله الحديث عن الإشارة إلى النص على إسماعيل عليه السلام في كتب أهل الكتاب، ودحض شبههم، وكشف تحريفهم وأكاذيبهم، وأشار إلى قول بعض المسلمين أن الذبيح هو إسحاق عليه السلام، فليراجع لمن أراد الاستزادة، كما سيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى في تدوينات أخرى.

([45]) تفسير القرآن العظيم، 6/ 385.

([46]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 17/ 19، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([47]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 4/ 191، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([48]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 17/ 24.

([49]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 4/ 191.

([50]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 4/ 190، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([51]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 4/ 191.

([52]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 4/ 191.

([53]) انظر: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 4/ 190، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([54]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 4/ 190 – 191.

([55]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 4/ 192، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([56]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 17/ 319، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([57]) انظر: تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 6/ 385، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([58]) انظر: تفسير القرآن العظيم، 6/ 385.

([59]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 6/ 326، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([60]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 6/ 327.

([61]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 6/ 327.

([62]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 6/ 327 - 328، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([63]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 6/ 328.

([64]) في الكتاب: بدلت.

([65]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 6/ 328 - 329، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([66]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 6/ 329.

([67]) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 3/ 57، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([68]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 3/ 57.

([69]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 3/ 58.

([70]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 3/ 60.

([71]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 3/ 64.

([72]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 1/ 239 - 240، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([73]) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 6/ 26 - 27، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([74]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 6/ 28.

([75]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 6/ 29.