سليمان عليه السلام في القرآن

 

ورث سليمان داود

 

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ۝وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ۝وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ [النمل: 15 – 17].

"يخبر تعالى عما أنعم به على عبديه ونبييه: داود وابنه سليمان عليهما السلام، من النعم الجزيلة والمواهب الجليلة، والصفات الجميلة، وما جمع لهما بين سعادة الدنيا والآخرة، والملك والتمكين التام في الدنيا، والنبوة والرسالة في الدين، ولهذا قال تعالى: (ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) قال ابن أبي حاتم: ذكر عن إبراهيم بن يحيى بن تمام، أخبرني أبي عن جدي قال: كتب عمر بن عبد العزيز: إن الله لم ينعم على عبده نعمة فيحمد الله عليها إلا كان حمده أفضل من نعمته، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل. قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النمل: 15]، فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان عليهما السلام.

وقوله تعالى: (وورث سليمان داود) أي في الملك والنبوة، وليس المراد وراثة المال، إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود." ([1])

منطق الطير:

"أخبر سليمان بنعم الله عليه فيما وهبه له من الملك التام والتمكين العظيم، حتى إنه سخر له الإنس والجن والطير، وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضاً، وهذا شيء لم يعطه أحد من البشر فيما علمناه مما أخبر الله به ورسوله، ومن زعم من الجهلة والرعاع أن الحيوانات كانت تنطق كنطق بني آدم قبل سليمان بن داود، كما قد يتفوه به كثير من الناس، فهو قول بلا علم، ولو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص سليمان بذلك فائدة، إذ كلهم يسمع كلام الطيور والبهائم، ويعرف ما تقول، وليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا؛ بل لم تزل البهائم والطيور وسائر المخلوقات من وقت خلقت إلى زماننا هذا على هذا الشكل والمنوال؛ ولكن الله سبحانه كان قد أفهم سليمان ما يتخاطب به الطيور في الهواء، وما تنطق به الحيوانات على اختلاف أصنافها، ولهذا قال تعالى: (عُلمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء) أي مما يحتاج إليه الملك إن هذا لهو الفضل المبين أي الظاهر البين لله علينا." ([2])

 

بين نملة وملك

 

قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ۝فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل: 18 – 19].

"قوله: حتى إذا أتوا على واد النمل أي حتى إذا مر سليمان عليه السلام بمن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون.

أورد ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر عن سعيد عن قتادة عن الحسن أن اسم هذه النملة حرس، وأنها من قبيلة يقال لهم بنو الشيصان، وأنها كانت عرجاء، وكانت بقدر الذئب، أي خافت على النمل أن تحطمها الخيول بحوافرها، فأمرتهم بالدخول إلى مساكنهم، ففهم ذلك سليمان عليه السلام منها.

فتبسم ضاحكاً من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه، أي ألهمني أن أشكر نعمتك التي مننت بها علي من تعليمي منطق الطير والحيوان.

وعلى والدي بالإسلام لك، والإيمان بك وأن أعمل صالحا ترضاه أي عملاً تحبه وترضاه.

وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين أي إذا توفيتني فألحقني بالصالحين من عبادك، والرفيق الأعلى من أوليائك، ومن قال من المفسرين إن هذا الوادي كان بأرض الشام أو بغيره، وإن هذه النملة كانت ذات جناحين كالذباب أو غير ذلك من الأقاويل، فلا حاصل لها." ([3])

 

هدهد سليمان

 

قال تعالى: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ۝لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ۝فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل: 20 – 22].

"قال مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما عن ابن عباس وغيره: كان الهدهد مهندساً يدل سليمان عليه السلام على الماء إذا كان بأرض فلاة طلبه، فنظر له الماء في تخوم الأرض، كما يرى الإنسان الشيء الظاهر على وجه الأرض، ويعرف كم مساحة بعده من وجه الأرض، فإذادلهم عليه، أمر سليمان عليه السلام الجان فحفروا له ذلك المكان حتى يستنبط الماء من قراره.

فنزل سليمان عليه السلام يوماً بفلاة من الأرض فتفقد الطير ليرى الهدهد، فلم يره، فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين." ([4])

فقال لما لم يرَ الهدهد:﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ [النمل: 21].

"فمكث الهدهد غير بعيد، أي: غاب زماناً يسيراً، ثم جاء فقال لسليمان: أحطتُ بما لم تحط به: أي اطلعت على ما لم تطلع عليه أنت ولا جنودك.

(وجئتك من سبإ بنبإ يقين) أي بخبر صدق حق يقين، وسبأ هم حمير وهم ملوك اليمن." ([5])

فما هو النبأ اليقين الذي جاء به الهدهد من مملكة سبأ؟

 

نبأ يقين

 

كان النبأ اليقين الذي جاء به الهدهد من مملكة سبأ:

  • وجد امرأة تملكهم.
  • أوتيت من كل شيء.
  • لها عرش عظيم.
  • كانت الملكة وقومها يسجدون للشمس من دون الله.

قال تعالى: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ۝ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ۝ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ۝ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۝اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ۝قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [النمل: 22- 27].

"يقول تعالى مخبراً عن قيل الهدهد لسليمان مخبراً بعذره في مغيبه عنه: (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) يعني تملك سبأ، وإنما صار هذا الخبر للهدهد عذراً وحجة عند سليمان، درأ به عنه ما كان أُوعد به؛ لأن سليمان كان لا يرى أن في الأرض أحداً له مملكة معه، وكان مع ذلك صلى الله عليه وسلم رجلاً حبِّب إليه الجهاد والغزو، فلما دله الهدهد على ملك بموضع من الأرض هو لغيره، وقوم كفرة يعبدون غير الله، له في جهادهم وغزوهم الأجر الجزيل، والثواب العظيم في الآجل، وضمّ مملكة لغيره إلى ملكه، حقَّت للهدهد المعذرة، وصحّت له الحجة في مغيبه عن سليمان." ([6])

 

ملكة سبأ وكتاب سليمان

 

كيف كان تعامل سليمان عليه السلام مع قوم سبأ بعد النبأ اليقين الذي جاء به الهدهد؟

قال تعالى: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ۝ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ۝ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ۝قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ۝قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ۝ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 28 – 34].

أمر سليمان عليه السلام الهدهد أن يذهب بكتابه إلى ملكة سبأ وقومها، "فذهب الهدهد بكتاب سليمان إليها، فألقاه إليها فلما قرأته قالت لقومها: (يَاأَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ)." ([7])

"وقوله: (قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ) والملأ أشراف قومها، يقول تعالى ذكره: قالت ملكة سبأ لأشراف قومها: (يَاأَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ).

واختلف أهل العلم في سبب وصفها الكتاب بالكريم، فقال بعضهم: وصفته بذلك؛ لأنه كان مختوماً.

وقال آخرون: وصفته بذلك؛ لأنه كان من ملك فوصفته بالكرم لكرم صاحبه.

وممن قال ذلك ابن زيد." ([8])

مضمون الكتاب:

قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: 30 – 31].

استشارت الملكة بعد ذلك قومها، وقالت لهم: ﴿أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ۝ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ۝ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 32 – 34].

 

هدية ملكة

 

كان قرار الملكة بعد مشورة قومها أن ترسل إلى سليمان عليه السلام هدية وتنتظر ما يمكن أن يكون جوابهم وبم يرجع المرسلون، فكيف سيكون جواب سليمان عليه السلام عن ذلك؟

قال تعالى: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ۝ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ۝ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [النمل: 35 – 37].

"ذكر أنها قالت: إني مرسلة إلى سليمان؛ لتختبره بذلك وتعرفه به، أملك هو، أم نبيّ؟

وقالت: إن يكن نبياً لم يقبل الهدية، ولم يرضه منا، إلا أن نتبعه على دينه، وإن يكن ملكاً قبل الهدية وانصرف." ([9])

"وقوله: (فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ) يقول: فما آتاني الله من المال والدنيا أكثر مما أعطاكم منها وأفضل (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) يقول: ما أفرح بهديتكم التيأهديتم إليّ؛ بل أنتم تفرحون بالهدية التي تُهدى إليكم؛ لأنكم أهل مفاخرة بالدنيا، ومكاثرة بها، وليست الدنيا وأموالها من حاجتي؛ لأن لله تعالى ذكره قد مكَّنني منها وملَّكني فيها ما لم يُمَلِّك أحداً.

(ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) وهذا قول سليمان لرسول المرأة (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا) لا طاقة لهم بها ولا قدرة لهم على دفعهم عما أرادوا منهم." ([10])

 

عرش الملكة ومن عنده علم من الكتاب

 

أمر سليمان عليه السلام من عنده من الجنس والإنس أن يأتوه بعرش ملكة سبأ، وبادر إلى ذلك عفريت من الجن قادر على الإتيان به قبل أن يقوم سليمان من مقامه، فقال رجل عنده علم من الكتاب: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك.

قال تعالى: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ۝قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ۝ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ۝قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ﴾[النمل: 38 – 41].

ما هو سبب إحضار عرش ملكة سبأ قبل أن يأتوا مسلمين؟

اختُلف في ذلك على أقوال، وقد صوّب ابن جرير الطبري أحدها، وقال: "وأولى الأقوال بالصواب في السبب الذي من أجله خصّ سليمان بسؤاله الملأ من جنده بإحضاره عرش هذه المرأة دون سائر ملكها عندنا؛ ليجعل ذلك حجة عليها في نبوته، ويعرفها بذلك قدرة الله وعظيم شأنه، أنها خلَّفته في بيت في جوف أبيات، بعضها في جوف بعض، مغلق مقفل عليها، فأخرجه الله من ذلك كله، بغير فتح أغلاق وأقفال، حتى أوصله إلى وليه من خلقه، وسلمه إليه، فكان لها في ذلك أعظم حجة، على حقيقة ما دعاها إليه سليمان، وعلى صدق سليمان فيما أعلمها من نبوّته." ([11])

 

صرح ممردٌ من قوارير

 

قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ۝وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ۝قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [النمل: 42 – 44].

جاءت الملكة وعرشها أمامها، فهل عرفته؟ أم لم تعرفه؟

"يقول تعالى ذكره: لما جاءت صاحبة سبإٍ سليمان، أخرج لها عرشها، فقال لها: (أَهَكَذَا عَرْشُكِ)؟ قالت وشبهته به: (كَأَنَّهُ هُوَ)." ([12])

"وقوله: (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل سليمان، وقال سليمان: (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا) أي: هذه المرأة، بالله وبقدرته على ما يشاء، (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) لله من قبلها." ([13])

"وقوله: (إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ) يقول: إن هذه المرأة كانت كافرة من قوم كافرين، وكسرت الألف من قوله:(إنها) على الابتداء، ومن تأول قوله: (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ) التأويل الذي تأولنا، كانت (ما) من قوله: (مَا كَانَتْ تَعْبُدُ) في موضع رفع بالصد؛ لأن المعنى فيه لم يصدها عن عبادة الله جهلها، وأنها لا تعقل، إنما صدها عن عبادة الله عبادتها الشمس والقمر، وكان ذلك من دين قومها وآبائها، فاتبعت فيه آثارهم، ومن تأوله على الوجهين الآخرين كانت (ما) في موضع نصب." ([14])

"وقوله: (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً) يقول: فلما رأت المرأة الصرح حسبته لبياضه واضطراب دواب الماء تحته لجة بحر كشفت من ساقيها؛ لتخوضه إلى سليمان." ([15])

"وقوله: (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ) يقول جلّ ثناؤه: قال سليمان لها: إن هذا ليس ببحر، إنه صرح ممرّد من قوارير، يقول: إنما هو بناء مبني مشيد من قوارير." ([16])

فقالت: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [النمل: 44].

 

حكم داود وسليمان في الحرث

 

قال تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ۝ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾[الأنبياء: 78 – 79].

"يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر داود وسليمان يا محمد إذ يحكمان في الحرث.

واختلف أهل التأويل في ذلك الحرث ما كان؟ فقال بعضهم: كان نبتاً." ([17])

"وقال آخرون: بل كان ذلك الحرث كَرْماً." ([18])

"قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قال الله تبارك وتعالى: (إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ) والحرث: إنما هو حرث الأرض، وجائز أن يكون ذلك كان زرعاً، وجائز أن يكون غَرْساً، وغير ضائر الجهل بأيّ ذلك كان.

وقوله: (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) يقول: حين دخلت في هذا الحرث غنم القوم الآخرين من غير أهل الحرث ليلاً فرعته أو أفسدته، (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ) يقول: وكنا لحكم داود وسليمان والقوم الذين حكما بينهم فيما أفسدت غنم أهل الغنم من حرث أهل الحرث، شاهدين لا يخفى علينا منه شيء، ولا يغيب عنا علمه.

وقوله: (فَفهَّمْناها) يقول: ففهَّمنا القضية في ذلك (سُلَيْمانَ) دون داود، (وَكُلاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) يقول: وكلهم من داود وسليمان والرسل الذين ذكرهم في أوّل هذه السورة آتينا حكماً وهو النبوة، وعلماً: يعني وعلماً بأحكام الله." ([19])

 

حب الخيل وحب الخير

 

قال تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ۝إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ۝فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ۝ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ﴾ [ص: 30 – 33].

"قوله: (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ) يقول تعالى ذكره: إنه تواب إلى الله من خطيئته التي أخطأها، إذ عرض عليه بالعشي الصافنات، ف: (إذ) من صلة (أواب)، والصافنات: جمع الصافن من الخيل، والأنثى: صافنة، والصافن منها عند بعض العرب: الذي يجمع بين يديه، ويثني طرف سنبك إحدى رجليه، وعند آخرين: الذي يجمع يديه، وزعم الفرّاء أن الصافن: هو القائم، يقال منه: صَفَنَتِ الخيلُ تَصْفِن صُفُوناً." ([20])

"وقوله: (فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) وفي هذا الكلام محذوف استغني بدلالة الظاهر عليه من ذكره: فَلَهِيَ عن الصلاة حتى فاتته، فقال: إني أحببت حب الخير.

ويعني بقوله (فَقَالَ إِنِّيأَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ): أي المال والخيل، أو الخير من المال." ([21])

"وقوله (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) يقول: إني أحببت حب الخير حتى سهوت عن ذكر ربي وأداء فريضته. وقيل: إن ذلك كان صلاة العصر." ([22])

"وقوله (حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) يقول: حتى توارت الشمس بالحجاب، يعني: تغيبت في مغيبها." ([23])

ماذا فعل سليمان عليه السلام؟

"قوله: (رُدُّوهَا عَلَيَّ) يقول: ردّوا عليّ الخيل التي عرضت عليّ، فشغلتني عن الصلاة، فكروها عليّ." ([24])

"وقوله: (فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ) يقول: فجعل يمسح منها السوق، وهي جمع الساق، والأعناق.

واختلف أهل التأويل في معنى مسح سليمان بسوق هذه الخيل الجياد وأعناقها، فقال بعضهم: معنى ذلك أنه عقرها وضرب أعناقها، من قولهم: مَسَحَ علاوته: إذا ضرب عنقه." ([25])

"وقال آخرون: بل جعل يمسح أعرافها وعراقيبها بيده حُبًّا لها." ([26])

"وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس أشبه بتأويل الآية؛ لأن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لم يكن إن شاء الله ليعذب حيواناً بالعرقبة، ويهلك مالاً من ماله بغير سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها، ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها." ([27])

 

كرسي سليمان عليه السلام

 

قال تعالى: ﴿ولقد فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ۝قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [ص: 34 – 35].

"يقول تعالى ذكره: ولقد ابتلينا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً شيطاناً متمثلاً بإنسان.

ذكروا أن اسمه صخر.

وقيل: إن اسمه آصَف.

وقيل: إن اسمه آصر.

وقيل: إن اسمه حبقيق." ([28])

"وقوله (ثُمَّ أَنَابَ) سليمان، فرجع إلى ملكه من بعد ما زال عنه ملكه فذهب." ([29])

ماذا كان جواب سليمان عليه السلام؟

"قوله: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي).

يقول تعالى ذكره: قال سليمان راغبا إلى ربه: ربّ استر عليّ ذنبي الذي أذنبت بيني وبينك، فلا تعاقبني به.

(وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي) لا يسلبنيه أحدكما سلبنيه قبل هذه الشيطان." ([30])

فما هو هذا الملك؟ وما هي مظاهره التي حدثنا عنها القرآن الكريم؟

 

من هبات الكريم المنان ملكٌ لا ينبغي لأحد من بعد سليمان

 

أجاب الكريم الوهاب دعاء عبده ونبيه سليمان عليه السلام.

قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ۝فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ۝ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ۝ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ۝هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ۝وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾[ص: 35 – 40].

وقال تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ۝يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 12 – 13].

"يقول تعالى ذكره: فاستجبنا له دعاءه، فأعطيناه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ) مكان الخيل التي شغلته عن الصلاة (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً) يعني: رِخوة لينة، وهي من الرخاوة." ([31])

"وقال آخرون: معنى ذلك: مطيعة لسليمان." ([32])

"وقوله: (وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) يقول تعالى ذكره: وسخرنا له الشياطين سلطناه عليها مكان ما ابتليناه بالذي ألقينا على كرسيّه منها يستعملها فيما يشاء من أعماله من بنَّاء وغوَّاص. فالبُناة منها يصنعون محاريب وتماثيل، والغاصة يستخرجون له الحُلِيّ من البحار، وآخرون ينحتون له جِفاناً وقدوراً، والمَردَة في الأغلال مُقَرَّنون." ([33])

وصدق الحق القائل: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[ص: 39].

 

دابة الأرض تأكل منسأة سليمان عليه السلام

 

قضى الله على نبيه سليمان عليه السلام بالموت، ومكث سليمان حولاً كاملاً والجن يظنونه حياً، ولم يستدلوا على موته إلا بانكسار عصاه التي كان متكئاً عليها، بعد أن أكلتها دابة الأرض.

وفي هذا دليل صريح على أن الجن لا يعلمون الغيب، وهو حجة عليهم، وعلى من يدعوهم ويطلبهم، ويصدق ادعائهم علمَ الغيب.

قال تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ [سبأ: 14].

"يقول تعالى ذكره: فلما أمضينا قضاءنا على سليمان بالموت فمات (مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ) يقول: لم يدل الجن على موت سليمان (إِلا دَابَّةُ الأرْضِ).

وهي الأرضة وقعت في عصاه التي كان متكئاً عليها فأكلتها.

فذلك قول الله عز وجل (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ)." ([34])

"وقوله: (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ) يقول عز وجل: فلما خر سليمان ساقطًا بانكسار منسأته تبينت الجن (أنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) الذي يدعون علمه.

(مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) المذل حولاً كاملاً بعد موت سليمان.

وهم يحسبون أن سليمان حي." ([35])

 

اتباع بعض أحبار اليهود ما تتلو الشياطين على ملك سليمان

 

قال تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ۝ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 102 – 103].

"قال أبو جعفر: يعني بقوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين)، الفريق من أحبار اليهود وعلمائها، الذين وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله على موسى، وراء ظهورهم، تجاهلاً منهم وكفراً بما هم به عالمون، كأنهم لا يعلمون، فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلمون أنه منزل من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقضوا عهده الذي أخذه عليهم في العمل بما فيه، وآثروا السحر الذي تلته الشياطين في ملك سليمان بن داود فاتبعوه، وذلك هو الخسار والضلال المبين." ([36])

واختلف في المراد بهم، وقال ابن جرير الطبري: "والصواب من القول في تأويل قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)، أن ذلك توبيخ من الله لأحبار اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجحدوا نبوته، وهم يعلمون أنه لله رسول مرسل، وتأنيب منه لهم في رفضهم تنزيله، وهجرهم العمل به، وهو في أيديهم يعلمونهويعرفون أنه كتاب الله، واتباعهم واتباع أوائلهم وأسلافهم ما تلته الشياطين في عهد سليمان، وقد بينا وجه جواز إضافة أفعال أسلافهم إليهم فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.

وإنما اخترنا هذا التأويل؛ لأن المتبعة ما تلته الشياطين، في عهد سليمان وبعده إلى أن بعث الله نبيه بالحق، وأمر السحر لم يزل في اليهود، ولا دلالة في الآية أن الله تعالى أراد بقوله: (واتبعوا) بعضاً منهم دون بعض، إذْ كان جائزاً فصيحاً في كلام العرب إضافة ما وصفنا - من اتباع أسلاف المخبر عنهم بقوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين) - إلى أخلافهم بعدهم، ولم يكن بخصوص ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر منقول، ولا حجة تدل عليه، فكان الواجب من القول في ذلك أن يقال: كل متبع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من اليهود، داخل في معنى الآية، على النحو الذي قلنا." ([37])

نفي الكفر عن سليمان مع أن السياق عن بعض أحبار اليهود:

"قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وما هذا الكلام، من قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)، ولا خبر معنا قبل عن أحد أنه أضاف الكفر إلى سليمان؛ بل إنما ذكر اتباع من اتبع من اليهود ما تلته الشياطين؟ فما وجه نفي الكفر عن سليمان، بعقب الخبر عن اتباع من اتبعت الشياطين في العمل بالسحر وروايته من اليهود؟

قيل: وجه ذلك، أن الذين أضاف الله جل ثناؤه إليهم اتباع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من السحر والكفر من اليهود، نسبوا ما أضافه الله تعالى ذكره إلىالشياطين من ذلك، إلى سليمان بن داود. وزعموا أن ذلك كان من علمه وروايته، وأنه إنما كان يستعبد من يستعبد من الإنس والجن والشياطين وسائر خلق الله بالسحر، فحسنوا بذلك - من ركوبهم ما حرم الله عليهم من السحر - أنفسهم، عند من كان جاهلاً بأمر الله ونهيه، وعند من كان لا علم له بما أنزل الله في ذلك من التوراة، وتبرأ بإضافة ذلك إلى سليمان - من سليمان، وهو نبي الله صلى الله عليه وسلم - منهم بشر،وأنكروا أن يكون كان لله رسولاً وقالوا: بل كان ساحراً، فبرأ الله سليمان بن داود من السحر والكفر عند من كان منهم ينسبه إلى السحر والكفر، لأسباب ادعوها عليه قد ذكرنا بعضها، وسنذكر باقي ما حضرنا ذكره منها، وأكذب الآخرين الذين كانوا يعملون بالسحر متزينين عند أهل الجهل في عملهم ذلك، بأن سليمان كان يعمله، فنفى الله عن سليمان عليه السلام أن يكون كان ساحراً أو كافراً، وأعلمهم أنهم إنما اتبعوا - في عملهم بالسحر - ما تلته الشياطين في عهد سليمان، دون ما كان سليمان يأمرهم من طاعة الله، واتباع ما أمرهم به في كتابه الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه." ([38])

 

عبر وهدايات من قصة داود وسليمان عليهما السلام

 

أولاً: زيادة أحد الفاضلين على الآخر في صفة لا تنزع الفضل عن الآخر:

قال تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ۝ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 78 – 79].

ثانياً: لا تطلب العطايا والهبات إلا من الكريم الوهاب:

قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ۝ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ۝ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ۝ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ۝ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ۝ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ [ص: 35 – 40].

ثالثاً: حسن الاتباع يورث الطاعة لا الابتداع:

قال تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ۝وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 102 – 103].

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 5/ 663، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([2]) تفسير القرآن العظيم، 5/ 663 - 664.

([3]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 5/ 664 - 665، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([4]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 5/ 665، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([5]) تفسير القرآن العظيم: 5/ 667.

([6]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 19/ 446، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([7]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 19/ 451، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([8]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 19/ 452.

([9]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 19/ 455، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([10]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 19/ 458 – 459.

([11]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 19/ 463، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([12]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 19/ 470، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([13]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 19/ 471.

([14]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 19/ 472.

([15]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 19/ 474.

([16]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 19/ 475.

([17]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 18/ 474، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([18]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 18/ 474.

([19]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 18/ 475.

([20]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 21/ 192، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([21]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 21/ 193 - 194.

([22]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 21/ 194.

([23]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 21/ 194.

([24]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 21/ 195.

([25]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 21/ 195.

([26]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 21/ 196.

([27]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 21/ 196.

([28]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 21/ 196، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([29]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 21/ 199.

([30]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 21/ 199.

([31]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 21/ 201، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([32]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 21/ 202.

([33]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 21/ 204.

([34]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 20/ 369، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([35]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 20/ 371.

([36]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 2/ 405، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([37]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 408 – 409.

([38]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 412 – 413.