يوسف عليه السلام في القرآن الكريم (1)

 

أحسن القصص

 

كرّم الله تعالى آل إبراهيم عليه السلام، ووهبهم لسان صدق علياً، ومن ذريته يوسف الصدّيق بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، والذي جاء في شأنه سورة قرآنية كاملة.

افتتحها الله تبارك وتعالى بالثناء على هذا الكتاب العزيز.

قال تعالى: ﴿آلر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ۝ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۝ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف: 1 – 3].

وكانت هذه السورة المباركة أحد النماذج القرآنية على أحسن القصص، القصص القرآني.

وقد كان فيها من الحِكَم الربانية الكثيرة ما كان.

وقد جاءت في هذه السورة الكريمة هذه "القصة العظيمة الطويلة التي لقي فيها يوسف علية الصلاة والسلام ما لقي من أقرب الناس إليه ومن غيرهم ومن الغربة وشتات الشمل، ثم كانت له العاقبة فيه على أتم الوجوه لما تدرع به من الصبر على شديد البلاء والتفويض لأمر الله جلَّ وعلا؛ تسليةً لهذا النبي الأمين، وتأسية بمن مضى من إخوانه المرسلين فيما يلقى في حياته من أقاربه الكافرين وبعد وفاته ممن دخل منهم في الدين في آل بيته كما وقع ليوسف عليه السلام من تعذيب عقبه وعقب إخوته ممن بالغ في الإحسان إليهم، وقد وقع ليوسف عليه السلام بالفعل ما همّ الكفار من أقارب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفعله به كما حكاه سبحانه في قوله: ﴿ليثبتوكَ أو يقتلوكَ أو يخرجوكَ﴾ [الأنفال: 30] فنجا منهم أن يكون شيء منه بأيديهم إلاّ ما كان من الحصر في شعب أبي طالب ومن الهجرة بأمر الحكيم العليم، ثم نصر الله يوسف عليه السلام على إخوته الذين فعلوا به ذلك وملكه قيادهم، فكان في سوق قصته عقب الإخبار بأن المراد بهذه القصص تثبيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتسلية فؤاده إشارة إلى البشارة بما وقع له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الفتح من ملك قيادهم ورد عنادهم ومنّه عليهم وإحسانه إليهم، وفي إشارتها بشارة بأن المحسود يعان ويعلى إن عمل ما هو الأحرى به والأولى، ومن فوائد ذكرها التنبيه على أن الحسد داء عظيم شديد التمكن في النفوس حتى أنه بعزم تمكنه وكثرة مكانه وتعدد كائنه ربما غلب أهل الصلاح ألاّ من بادر منهم بالتوبة داعي الفلاح، وتركت إعادتها دون غيرها من القصص؛ صوناً للأكابر عن ذكر ما ربما أوجب اعتقاد نقص، أو توجيه طعن أو غمص، أو هون داء الحسد، عند ذي تهور ولدد، وخللها سبحانه ببليغ الحكم وختمها بما أنتجت من ثبوت أمر القرآن ونفي التهمة عن هذا النبي العظيم." ([1])

 

الكواكب الأحد عشر والشمس والقمر

 

رأى يوسف عليه السلام رؤيا: أن الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً يسجدون له، فما هو تعبير الرؤيا؟ وما هي دلالة كل من الشمس والقمر والكواكب الأحد عشر؟

قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ۝ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۝ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [يوسف: 4 – 6].

تعبير الرؤيا وتأويلها:

"قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحي، وقد تكلم المفسرون على تعبير هذا المنام أن الأحد عشر كوكبا عبارة عن إخوته، وكانوا أحد عشر رجلاً سواه، والشمس والقمر عبارة عن أمه وأبيه.

روي هذا عن ابن عباس، والضحاك، وقتادة، وسفيان الثوري، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وقد وقع تفسيرها بعد أربعين سنة، وقيل: ثمانين سنة، وذلك حين رفع أبويه على العرش وهو سريره وإخوته بين يديه ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾ [يوسف: 100]." ([2])

تحذير من التحدث بالرؤيا:

خشي يعقوب على ابنه يوسف عليهما السلام من أن يقصّ رؤياه على إخوته.

قال تعالى: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [يوسف: 5].

وقد بيّن علة هذا التحذير: لئلا يكيدوا له كيداً.

وفي هذه الآية الكريمة: "يقول تعالى مخبراً عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا التي تعبيرها خضوع إخوته له، وتعظيمهم إياه تعظيماً زائداً بحيث يخرون له ساجدين إجلالاً واحتراماً وإكراماً، فخشي يعقوب عليه السلام أن يحدث بهذا المنام، أحداً من إخوته فيحسدونه على ذلك، فيبغون له الغوائل حسداً منهم له، ولهذا قال له: ﴿لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ أي يحتالوا لك حيلة يردونك فيها." ([3])

فما حدث بعد هذه رؤيا يوسف عليه السلام؟ وهل كان من إخوته كيد له؟ وكيف صوره القرآن الكريم؟

 

آيات للسائلين

 

قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ۝ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ۝ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ۝ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [يوسف: 7 – 10].

بين الآيات وبين السائلين:

الآيات في قصص الأنبياء عليهم السلام كثيرة، وهي في هذه القصة -قصة يوسف عليه السلام- هي العبر المستقاة مما حصل له مع إخوته، والأذى الذي لقيه منهم، وكأنما فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وربطاً على قلبه نظير ما يلاقيه من أذى قبيلته وأقاربه.

"قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (لقد كان في يوسف وإخوته) الأحد عشر (آيات) يعني عبر وذكر (للسائلين) يعني السائلين عن أخبارهم وقصصهم.

وإنما أراد جل ثناؤه بذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم.

وذلك أنه يقال: إن الله تبارك وتعالى إنما أنزل هذه السورة على نبيه، يعلمه فيها ما لقي يوسف من أَدانيه وإخوته من الحسد، مع تكرمة الله إيَّاه، تسليةً له بذلك مما يلقى من أدانيه وأقاربه من مشركي قريش." ([4])

وهذا يذكرنا بقوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 54].

وقوله تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 32].

المحبة والتميز كانت مثار الحسد وسبب الكيد:

لم ينقم إخوة يوسف عليه السلام منه شراً، أو ضراً، ولا مكراً ولا كيداً؛ بل جل ما نقموه منه: محبة أبيه له، مما دفعهم إلى التخطيط للاستئثار بهذه المحبة.

الخطة والهدف:

كانت خطة الإخوة تتمثل ابتداء في قتل أخيهم، أو طرحه في مكان من الأرض.

إلا أن أحدهم كان له رأي آخر؛ أن يلقوه في غيابة الجب، لا أن يقتلوه، ولعله تعطف على أخيه، ورحمه في اللحظة الأخيرة.

والهدف كما صوره القرآن الكريم: ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ [يوسف: 9].

تبييت النية بالصلاح والاستقامة بعد تنفيذ الخطة وتحقيق الهدف:

قال تعالى: ﴿وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ﴾ [يوسف: 9].

"يعنون أنهم يتوبون من قتلهم يوسف، وذنبهم الذي يركبونه فيه، فيكونون بتوبتهم من قتله من بعد هلاك يوسف قوماً صالحين." ([5])

 

بين مكر الذئب وغيابة الجب

 

شرع إخوة يوسف في تنفيذ ما يرمون إليه، وكانت الخطة التي تواطؤوا على تنفيذها كما صورها القرآن الكريم.

أولاً: إقناع الأب:

حاول إخوة يوسف صناعة خطة ظاهرة مغايرة لما بيتوه من المكر بأخيهم، وحاولوا إقناع أبيهم بهذه الخطة.

قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ۝ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ۝ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ۝ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾ [يوسف: 11 – 14].

ثانياً: إلقاء يوسف عليه السلام في الجبّ:

قال تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [يوسف: 15].

وغيابة الجبّ:

يقول: وألقوه في قعر الجبّ، حيث يَغيبُ خبره.

والجبّ: بئر.

وقيل: إنه اسم بئر ببيت المقدس.

والغيابة: كل شيء غيب شيئًا فهو غيابة، والجب، البئر غير المطويَّة. ([6])

ثالثاً: صناعة مشهد مكر الذئب:

قال تعالى: ﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ۝ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ۝ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: 16- 18].

ونلاحظ دقة الوصف القرآني وتصوير المشهد:

مجيئهم عشاءً:

"لئلا يتفرس أبوهم في وجوههم إذا رآها في ضياء النهار ضد ما جاؤوا به من الاعتذار، وقد قيل: لا تطلب الحاجة بالليل فإن الحياء في العينين، ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار، والآية دالة على أن البكاء لا يدل على الصدق؛ لاحتمال التصنع." ([7])

كشف طوية نفوسهم وإدراكهم المسبق لعدم تصديق أبيهم لهم:

"لما كانوا عالمين بأنه عليه الصلاة والسلام لا يصدقهم لما له من نور القلب وصدق الفراسة ولما لهم من الريبة، أكدوا فقالوا: (إنا ذهبنا نستبق) أي نوجد المسابقة بغاية الرغبة من كل منا في ذلك (وتركنا يوسف) أخانا (عند متاعنا) أي ما كان معنا مما نحتاج إليه في ذلك الوقت من ثياب وزاد ونحوه.

(فأكله) أي فتسبب عن انفراده أن أكله (الذئب وما) أي والحال أنك ما (أنت بمؤمن لنا) أي من التكذيب، أي بمصدق (ولو كنا) أي كوناً هو جبلة لنا (صادقين) أي من أهل الصدق والأمانة بعلمك، ولما علموا أنه لا يصدقهم من وجوه منها ما هو عليه من صحة الفراسة لنور القلب وقوة الحدس، ومنها أن الكذب في نفسه لا يخلو عن دليل على بطلانه، ومنها أن المرتاب يكاد يعرب عن نفسه." ([8])

الحيلة والاختلاق:

"أعملوا الحيلة في التأكيد بما يقرب قولهم، فقال تعالى حاكياً عنهم: (وجاؤوا على قميصه) أي يوسف عليه الصلاة والسلام (بدم كذب) أي مكذوب، أطلق عليه المصدر مبالغة؛ لأنه غير مطابق للواقع؛ لأنهم ادعوا أنه دم يوسف عليه الصلاة والسلام والواقع أنه دم سخلة ذبحوها ولطخوه بدمها - نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن مجاهد." ([9])

 

السيارة وبوادر النجاة والإنقاذ

 

لما كانت رحمة الله أوسع من كل شيء، شاء تعالى أن تأتي سيّارة ويكون في مرورها إنقاذ ليوسف عليه السلام من الجبّ الذي أُلقي فيه.

قال تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [يوسف: 19].

فما هي السيّارة؟ ولماذا فرحوا بما وجدوا؟

"قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وجاءت مارَّةُ الطريق من المسافرين (فأرسلوا واردهم) وهو الذي يرد المنهل والمنزل.

ووروده إياه: مصيره إليه ودخوله.

(فأدلى دلوه) يقول: أرسل دلوه في البئر.

يقال: أدليت الدلو في البئر: إذا أرسلتها فيه، فإذا استقيت فيها قلت: دلوتُ أدلُو دلواً.

وفي الكلام محذوف، استغنى بدلالة ما ذكر عليه، فترك، وذلك: (فأدلى دلوه) فتعلق به يُوسف، فخرج، فقال المدلي: (يا بشرى هذا غلام)." ([10])

واختلفوا في معنى قوله: (يا بشرى هذا غلام) على قولين:

  • تبشير من المدلي دلوَه أصحابَه، في إصابته يوسف بأنه أصاب عبداً.
  • اسم رجل من السيَّارة بعينه، ناداه المدلي لما خرج يوسف من البئر متعلِّقًا بالحبل. ([11])

 

وشروه بثمن بخس

(الجهل بحقيقة الأشياء يبخس قيمتها)

 

قال تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ [يوسف: 20].

لما كان سرور السيارة بيوسف عليه السلام - مع ما هو عليه من الجمال والهيبة والجلال - مقتضياً لأن ينافسوا في أمره ويغالوا بثمنه، أخبر تعالى أنهم لم يفعلوا ذلك؛ ليعلم أن جميع أموره على نسق واحد في خرقها للعوائد فقال: (شروه) أي تمادي السيارة ولجوا في إسرارهم أياه بضاعة حتى باعوه من العزيز، ولمعنى التمادي عبر بـ: شرى، دون: باع.

ويمكن أن يكون شرى بمعنى اشترى، أي: واشتراه السيارة من إخوته (بثمن) وهو البدل من الذهب أو الفضة، وقد يقال على غيره تشبيهاً به.

(بخس) أي قليل. ([12])

"ولما كان البخس القليل الناقص، أبدل منه - تأكيداً للمعنى تسفيهاً لرأيهم وتعجيباً من حالهم - قوله: (دراهم) أي لا دنانير (معدودة) أي أهل لأن تعد؛ لأنه لا كثرة لها يعسر معها ذلك، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها كانت عشرين درهماً.

(وكانوا) أي كوناً هو كالجبلة (فيه) أي خاصة دون بقية متاعهم، انتهازاً للفرصة فيه قبل أن يعرف عليهم فينزع من أيديهم (من الزاهدين) أي كمال الزهد حتى رغبوا عنه فباعوه بما طف.

والزهد: انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه عند الزاهد، وهذا يعين أن الضمير للسيارة؛ لأن حال إخوته في أمره فوق الزهد بمراحل، فلو كان لهم لقيل: وكانوا له من المبعدين أو المبغضين، ونحو ذلك." ([13])

 

أكرمي مثواه

 

قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21].

"لما كانت العادة جارية بأن القن يمتهن، أخبر تعالى أنه أكرمه -أي يوسف عليه السلام- عن هذه العادة فقال منبهاً على أن شراءه كان بمصر: (وقال الذي اشتراه) أي أخذه برغبة عظيمة، ولو توقفوا عليه غالى في ثمنه.

(من مصر) أي البلدة المعروفة، والتعبير بهذا دون ما هو أخصر منه للتنبيه على أن بيعه ظلم، وأنه لم يدخل في ملك أحد أصلاً (لامرأته) آمراً لها بإكرامه على أبلغ وجه.

(أكرمي مثواه) أي موضع مقامه، وذلك أعظم من الأمر بإكرامه نفسه، فالمعنى: أكرميه إكراماً عظيماً بحيث يكون ممن يكرم كل ما لابسه لأجله، ليرغب في المقام عندنا.

ولما كانت كأنها قالت: ما سبب إيصائك لي بهذا دون غيره؟ استأنف قوله: (عسى أن) أي إن حاله خليق وجدير بأن (ينفعنا) أي وهو على اسم المشتري.

(أو نتخذه) أي برغبة عظيمة إن رأيناه أهلاً (ولداً) فأنا طامع في ذلك." ([14])

تمكين ليوسف عليه السلام:

"لما أخبر تعالى بمبدأ أمره، وكان من المعلوم أن هذا إنما هو لما مكن له في القلوب مما أوجب توقيره وإجلاله وتعظيمه، أخبر تعالى بمنتهى أمره، مشبهاً له بهذا المضمون المعلم به فقال: (وكذلك) أي مثل ما مكنا ليوسف بتزهيد السيارة: أهل البدو تارة، وإكرام مشتريه ومنافسته فيه أخرى (مكنا ليوسف في الأرض) أي أرض مصر التي هي كالأرض كلها لكثرة منافعها بالملك فيها لتمكنه من الحكم بالعدل وبالنبوة.

(لنعلمه) بما لنا من العظمة (من تأويل الأحاديث) أي بترجيعها من ظواهرها إلى بواطنها، فأشار تعالى إلى المشبه به مع عدم التصريح به لما دل عليه من السياق، وأثبت التمكين في الأرض؛ ليدل على لازمه من الملك والتمكين من العدل، وذكر التعليم ليدل على ملزومه وهو:

النبوة، فدل أولاً بالملزوم على اللازم، وثانياً باللازم على الملزوم، وهو كقوله تعالى: ﴿فئةٌ تُقاتِل في سبيلِ اللهِ وأُخرَى كَافِرة﴾ [آل عمران: 13] فهو احتباك أو قريب منه.

ولما كان من أعجب العجب أن من وقع له التمكين من أن يفعل به مثل هذه الأفعال يتمكن من أرض هو فيها مع كونه غريباً مستبعداً فرداً لا عشيرة له فيها ولا أعوان، قال تعالى نافياً لهذا العجب: (والله) أي الملك الأعظم (غالب على أمره) أي الأمر الذي يريده، غلبة ظاهر أمرها لكل من له بصيرة." ([15])

 

الحكم والعلم

(كيف يجزي الله المحسنين)

 

قال تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 22]

لما بلغ يوسف عليه السلام أشده، آتاه الله حُكماً وعلماً، وقد اختُلف في المعني بمبلغ الأشد في هذا الموضع، فقيل: عني به ثلاث وثلاثون سنة، وقيل: بل عني به عشرون سنة. ([16])

"وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه آتى يوسف لما بلغ أشدهُ حكماً وعلماً، والأشُدّ: هو انتهاء قوته وشبابه وجائز أن يكون آتاه ذلك وهو ابن ثماني عشرة سنة، وجائز أن يكون آتاه وهو ابن عشرين سنة، وجائز أن يكون آتاه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ولا دلالة له في كتاب الله، ولا أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا في إجماع الأمة، على أيّ ذلك كان.

وإذا لم يكن ذلك موجوداً من الوجه الذي ذكرت، فالصوابُ أن يقال فيه كما قال عز وجل، حتى تثبت حجة بصحة ما قيل في ذلك من الوجه الذي يجب التسليم له، فيسلم لها حينئذ." ([17])

المراد بالحكم والعلم:

"عن مجاهد: (حكماً وعلماً) قال: العقل والعلم قبل النبوة." ([18])

من حِكَم هذه الآية الكريمة:

في هذه الآية الكريمة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيت لفؤاده، حيث يبين له الله تبارك وتعالى جزاءه لنبيه يوسف عليه السلام وكيف نجاه من كيد إخوته، وكيف أنه سينجي رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من كيد مشركي قومه، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

"وقوله: (وكذلك نجزي المحسنين) يقول تعالى ذكره: وكما جزيت يوسف فآتيته بطاعته إيّاي الحكمَ والعلمَ، ومكنته في الأرض، واستنقذته من أيدي إخوته الذين أرادوا قتله، كذلك نجزي من أحسن في عمله، فأطاعني في أمري، وانتهى عما نهيته عنه من معاصيّ.

وهذا، وإن كان مخرج ظاهره على كل محسن، فإن المرادَ به محمدٌ نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم. يقول له عز وجل: كما فعلت هذا بيوسف من بعد ما لقي من إخوته ما لقي، وقاسى من البلاء ما قاسى، فمكنته في الأرض، ووطَّأتُ له في البلاد، فكذلك أفعل بك فأنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة، وأمكن لك في الأرض، وأوتيك الحكم والعلم؛ لأنّ ذلك جزائي أهلَ الإحسان في أمري ونهيي." ([19])

 

امرأة العزيز

 

قال تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ۝ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ۝ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [يوسف: 23 – 25].

" يخبر تعالى عن امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها بمصر، وقد أوصاها زوجها به وبإكرامه، فراودته عن نفسه، أي حاولته على نفسه ودعته إليها، وذلك أنها أحبته حباً شديداً؛ لجماله وحسنه وبهائه، فحملها ذلك على أن تجملت له وغلقت عليه الأبواب ودعته إلى نفسها، وقالت هيت لك فامتنع من ذلك أشد الامتناع، وقال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي.

وكانوا يطلقون الرب على السيد الكبير، أي إن بعلك ربي أحسن مثواي أي منزلي، وأحسن إلي، فلا أقابله بالفاحشة في أهله إنه لا يفلح الظالمون، قال ذلك مجاهد والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم." ([20])

واختُلف في همّ يوسف عليه السلام هنا على أقوال، منها:

  • أن المراد بهمه بها خطرات حديث النفس.
  • وقيل: هم بضربها.
  • وقيل: هم بها لولا أن رأى برهان ربه أي فلم يهم بها، وفي هذا القول نظر من حيث العربية، حكاه ابن جرير وغيره. ([21])

وقيل غير ذلك.

ولأبي حيان الأندلسي رحمه الله وقفة مع هذه المرويات، حيث قال: " وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك؛ لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضاً، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين، فضلاً عن المقطوع لهم بالعصمة.

والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب؛ لأنهم قدروا جواب لولا محذوفاً، ولا يدل عليه دليل؛ لأنهم لم يقدروا لهم بها.

ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط؛ لأن ما قبل الشرط دليل عليه، ولا يحذف الشيء لغير دليل عليه.

وقد طهرنا كتابنا هذا عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب، ومساق الآيات التي في هذه السورة مما يدل على العصمة، وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما يشين.

ومن أراد أن يقف على ما نقل عن المفسرين في هذه الآية فليطالع ذلك في تفسير الزمخشري، وابن عطية، وغيرهما." ([22])

قال تعالى: ﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [يوسف: 25].

قدّت امرأة العزيز قميص يوسف عليه السلام، وألقت عليه التهمة، إلا أن للقميص في قصة يوسف عليه السلام شأناً آخر.

 

الشاهد والحقيقة والدليل  

 

قال تعالى: ﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ۝ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ۝ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [يوسف: 26 – 28].

ألقت امرأة العزيز التهمة على يوسف عليه السلام، وهو منها براء: "عند ذلك انتصر يوسف عليه السلام بالحق، وتبرأ مما رمته به من الخيانة، وقال باراً صادقاً: هي راودتني عن نفسي وذكر أنها اتبعته تجذبه إليها حتى قدت قميصه." ([23])

دلالة القميص على براءة يوسف عليه السلام من التهمة:

"وشهد شاهد من أهلها: إن كان قميصه قد من قبل أي من قدامه فصدقت أي في قولها إنه راودها عن نفسها؛ لأنه يكون لما دعاها وأبت عليه دفعته في صدره، فقدت قميصه فيصح ما قالت.

وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين وذلك يكون كما وقع لما هرب منها وتطلبته، أمسكت بقميصه من ورائه؛ لترده إليها، فقدت قميصه من ورائه." ([24])

 

براءة يوسف عليه السلام

 

قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ۝ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ [يوسف: 28 – 29].

البراءة:

"لما تحقق زوجها صدق يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به قال: إنه من كيدكن، أي إن هذا البهت واللطخ الذي لطخت عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن إن كيدكن عظيم." ([26])

موقف الزوج بعد براءة يوسف عليه السلام:

أولاً: أمر يوسف بالكتمان:

"قال آمراً ليوسف عليه السلام بكتمان ما وقع يوسف: أعرض عن هذا، أي: اضرب عن هذا صفحاً، أي: فلا تذكره لأحد." ([27])

ثانياً: أمر زوجه بالاستغفار:

و"(واستغفري لذنبك) يقول لامرأته وقد كان لين العريكة سهلاً.

أو أنه عذرها؛ لأنها رأت ما لا صبر لها عنه فقال لها: (استغفري لذنبك) أي الذي وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب، ثم قذفه بما هو بريء منه إنك كنت من الخاطئين." ([28])

مع أن العزيز أمر يوسف عليه السلام بالصمت والإعراض عمّا حدث، ومع أنه عذر زوجه، إلا أن مشيئة الله فوق كل اعتبار.

فتحدثت نسوة في المدينة عن هذا الفتى الذي شغف امرأة العزيز حباً.

فماذا كان من شأنها وشأنهن؟ وشأن يوسف عليه السلام معهن؟

 

نسوة في المدينة

 

قال تعالى: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ۝ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ۝ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ [يوسف: 30 – 32].

شيوع الخبر:

" يخبر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز، شاع في المدينة وهي مصر حتى تحدث به الناس.

(وقال نسوة في المدينة) مثل: نساء الكبراء والأمراء، ينكرن على امرأة العزيز، وهو الوزير، ويعبن ذلك عليها امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه، أي تحاول غلامها عن نفسه، وتدعوه إلى نفسها (قد شغفها حباً): أي قد وصل حبه إلى شغاف قلبها، وهو غلافه." ([29])

مكر النسوة وكيد امرأة العزيز:

سمعت امرأة العزيز بمكر النسوة وحديثهن عنها، فأعتدت لهن متكأً، ودَعتهن إليه، وكان لها من هذه الدعوة غرض ومقصد.

والمتكأ كما "قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والحسن والسدي وغيرهم: هو المجلس المعد فيه مفارش، ومخاد، وطعام فيه ما يقطع بالسكاكين من أترج ونحوه، ولهذا قال تعالى: ﴿وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا﴾ [يوسف: 31] وكان هذا مكيدة منها ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته، (وقالت اخرج عليهن) وذلك أنها كانت قد خبأته في مكان آخر فلما خرج ورأينه؛ أكبرنه أي أعظمنه، أي أعظمن شأنه، وأجللن قدره، وجعلن يقطعن أيديهن دهشاً برؤيته، وهن يظنن أنهن يقطعن الأترج بالسكاكين، والمراد أنهن حززن أيديهن بها، قاله غير واحد، وعن مجاهد وقتادة: قطعن أيديهن حتى ألقينها، فالله أعلم." ([30])

"وقوله: (ما هذا بشراً)، يقول: قلن ما هذا بشراً؛ لأنهن لم يرين في حسن صورته من البشر أحداً، فقلن: لو كان من البشر، لكان كبعض ما رأينا من صورة البشر؛ ولكنه من الملائكة لا من البشر." ([31])

ولم يقف كيد امرأة العزيز عند هذا الحد؛ بل أمعنت في غيّها، وظلمها، فماذا حدث ليوسف عليه السلام بعد ذلك؟

 

المكيدة وامرأة العزيز

(كيف صرفها الله عن يوسف عليه السلام؟)

 

كشف القرآن الكريم عن كيد امرأة العزيز، وما كان منها حينما دعت النسوة كي يرين يوسف عليه السلام رأي العين، وماذا كان من شأنه حينما دعا ربه سبحانه وتعالى كي يصرف عنه كيدهن، وأن السجن أحب إليه مما يدعونه إليه.

قال تعالى: ﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ۝ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ۝ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [يوسف: 32 – 34].

كيف سوغت امرأة العزيز موقفها أمام النسوة؟

"قالت فذلكن الذي لمتنني فيه تقول هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق أن يحب لجماله وكماله.

ولقد راودته عن نفسه فاستعصم أي فامتنع، قال بعضهم: لما رأين جماله الظاهر أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن، وهي العفة مع هذا الجمال." ([32])

تهديد ووعيد:

قالت امرأة العزيز تتوعد يوسف عليه السلام: "ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين، فعند ذلك استعاذ يوسف عليه السلام من شرهن وكيدهن."([33])

تفضيل السجن صيانة للشرف والعفة:

هددت امرأة العزيز يوسفَ عليه السلام إن لم يطاوعها ويفعل ما تأمره به؛ بالسجن والصغار.

" ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [يوسف: 33] أي من الفاحشة، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن أي إن وكلتني إلى نفسي فليس لي منها قدرة ولا أملك لها ضراً ولا نفعاً إلا بحولك وقوتك، أنت المستعان وعليك التكلان، فلا تكلني إلى نفسي.

أصب إليهن وأكن من الجاهلين." ([34])

الاستجابة الربانية:

"(فاستجاب له ربه) الآية، وذلك أن يوسف عليه السلام عصمه الله عصمة عظيمة، وحماه فامتنع منها أشد الامتناع، واختار السجن على ذلك، وهذا في غاية مقامات الكمال أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته، وهي امرأة عزيز مصر، وهي مع هذا في غاية الجمال والمال والرياسة، ويمتنع من ذلك ويختار السجن على ذلك خوفاً من الله ورجاء ثوابه." ([35])

منزلة العفة([36]):

ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه).  [صحيح البخاري 660، صحيح مسلم 1931]

 

موقف يوسف في السجن مع صاحبيه

 

السجن هو الحل الوحيد رعاية لمصلحة العزيز وامرأته:

قال تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾ [يوسف: 35].

"يقول تعالى: ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى حين، أي إلى مدة، وذلك بعد ما عرفوا براءته وظهرت الآيات، وهي الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته، وكأنهم- والله أعلم- إنما سجنوه لما شاع الحديث إيهاماً أنه راودها عن نفسها وأنهم سجنوه على ذلك.

ولهذا لما طلبه الملك الكبير في آخر المدة امتنع من الخروج حتى تتبين براءته مما نسب إليه من الخيانة.

فلما تقرر ذلك، خرج وهو نقي العرض صلوات الله عليه وسلامه.

وذكر السدي أنهم إنما سجنوه؛ لئلا يشيع ما كان منها في حقه، ويبرأ عرضه فيفضحها." ([37])

صاحبا السجن ورؤياهما:

قال تعالى: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 36].

" قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ودخل مع يوسف السجن فتيان، فدل بذلك على متروك قد ترك من الكلام، وهو: (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين)، فسجنوه وأدخلوه السجن، ودخل معه فتيان، فاستغنى بدليل قوله: (ودخل معه السجن فتيان)، على إدخالهم يوسف السجن، من ذكره.

وكان الفتيان، فيما ذُكر، غلامين من غلمان ملك مصر الأكبر، أحدهما صاحب شرابه، والآخر صاحب طعامه." ([38])

"وقوله: (قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً)، ذكر أن يوسف صلوات الله عليه لما أدخل السجن، قال لمن فيه من المحبسين، وسألوه عن عمله: إني أعبر الرؤيا: فقال أحد الفتيين اللذين أدخلا معه السجن لصاحبه: تعال فلنجربه." ([39])

وكان من شأنهما أن حدثاه برؤياهما:

الأول: رأى أنه يعصر خمراً.

والآخر: رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه.

وطلبوا منه أن ينبئهما بتأويل الرؤيا.

فماذا كان من يوسف عليه السلام؟ هل نبأهما بالتأويل مباشرة؟ أم لا؟ ولماذا؟

 

دعوة إلى رسالة الحق في أحلك الظروف

 

يحمل صاحب الحق هم دعوته ونشرها بين الناس في أي مكان كان، وفي أي زمان، وعلى أي حال، لا يسوق الأعذار لإهماله إياها بدعوى أن الوقت غير مناسب، أو أن الحال لا يتفق ووسائل الدعوة الملائمة.

وكذا كان شأن الأنبياء عليهم السلام، أما عن وسائل الدعوة فهي كثيرة، تتنوع بتنوع المخاطبين واختلافهم، واختلاف زمانهم ومكانهم.

وقد بادر الفَتَيان إلى طلب تعبير الرؤيا من يوسف عليه السلام، ونلاحظ أن القرآن الكريم يلفتنا إلى جواب هذا النبي الكريم، وكيف أنه استفتح تعبير الرؤيا بالدعوة إلى دين الحق، وتوحيد الخالق جلّ في علاه، وربط هذا الهدف السامي بواقع المخاطبين، وحقيقة حالهم ومآلهم.

قال تعالى: ﴿قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ۝ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ۝ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ۝ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 37 – 40].

" قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (قال) يوسف للفتيين اللذين استعبراه الرؤيا: (لا يأتيكما)، أيها الفتيان في منامكما (طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله)، في يقظتكما (قبل أن يأتيكما) ."([40])  

المراد بالتأويل في هذا المقام:

" يعنى بقوله (بتأويله): ما يؤول إليه ويصير ما رأيا في منامهما من الطعام الذي رأيا أنه أتاهما فيه.

وقوله: (ذلكما مما علمني ربي)، يقول: هذا الذي أذكر أني أعلمه من تعبير الرؤيا، مما علمني ربى فعلمته (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله) وجاء الخبر مبتدأ، أي: تركت ملة قوم، والمعنى: ما ملت، وإنما ابتدأ بذلك؛ لأن في الابتداء الدليل على معناه.

وقوله: (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله)، يقول: إني برئت من ملة من لا يصدق بالله، ويقر بوحدانيته (وهم بالآخرة هم كافرون)، يقول: وهم مع تركهم الإيمان بوحدانية الله، لا يقرون بالمعاد والبعث، ولا بثواب ولا عقاب." ([41])

سبب هذا الجواب:

"فإن قال قائل: ما وجه هذا الخبر ومعناه من يوسف؟ وأين جوابه الفتيين عما سألاه من تعبير رؤياهما، من هذا الكلام؟

قيل له: إن يوسف كره أن يجيبهما عن تأويل رؤياهما، لما علم من مكروه ذلك على أحدهما، فأعرض عن ذكره، وأخذ في غيره؛ ليعرضا عن مسألته الجواب عما سألاه من ذلك." ([42])

إيضاح الخطاب الذي دار بين يوسف عليه السلام وصاحبي السجن:

"إن يوسف عليه السلام أقبل على الفتيين بالمخاطبة والدعاء لهما إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان التي يعبدها قومهما، فقال: (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) أي الذي ذل كل شيء لعز جلاله وعظمة سلطانه، ثم بين لهما أن التي يعبدونها ويسمونها آلهة إنما هو جهل منهم، وتسمية من تلقاء أنفسهم، تلقاها خلفهم عن سلفهم، وليس لذلك مستند من عند الله، ولهذا قال: (ما أنزل الله بها من سلطان) أي حجة ولا برهان، ثم أخبرهم أن الحكم والتصرف والمشيئة والملك كله لله، وقد أمر عباده قاطبة أن لا يعبدوا إلا إياه، ثم قال تعالى: (ذلك الدين القيم) أي هذا الذي أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلاص العمل له، هو الدين المستقيم الذي أمر الله به، وأنزل به الحجة والبرهان الذي يحبه وبرضاه ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي فلهذا كان أكثرهم مشركين، ﴿وما أكثَرُ النّاسِ ولَو حَرصْتَ بِمؤمِنِين﴾ [يوسف: 103].

وقد قال ابن جرير: إنما عدل بهم يوسف عن تعبير الرؤيا إلى هذا؛ لأنه عرف أنها ضارة لأحدهما، فأحب أن يشغلهما بغير ذلك لئلا يعاودوه فيها، فعاودوه فأعاد عليهم الموعظة، وفي هذا الذي قاله نظر؛ لأنه قد وعدهما أولاً بتعبيرها؛ ولكن جعل سؤالهما له على وجه التعظيم والاحترام وصلة وسببا إلى دعائهما إلى التوحيد والإسلام، لما رأى في سجيتهما من قبول الخير والإقبال عليه والإنصاف إليه، ولهذا لما فرغ من دعوتهما شرع في تعبير رؤياهما من غير تكرار سؤال." ([43])

 

تأويل رؤيا صاحبي السجن

 

قال تعالى: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ۝ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ [يوسف: 41 – 42].

تعبير الرؤيا الأولى والثانية:

"يقول لهما: يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمراً وهو الذي رأى أنه يعصر خمراً، ولكنه لم يعينه؛ لئلا يحزن ذاك، ولهذا أبهمه في قوله: وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه، وهو في نفس الأمر الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزاً، ثم أعلمهما أن هذا قد فرغ منه، وهو واقع لا محالة؛ (لأن الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت) [مسند أحمد 16197، وسنن أبي داود 4198، وسنن الترمذي 2279، وسنن ابن ماجه 3914]." ([44])

وصية من يوسف عليه السلام للناجي:

" ولما ظن يوسف عليه السلام أن الساقي ناج، قال له يوسف خفية عن الآخر، والله أعلم- لئلا يشعره أنه المصلوب- قال له اذكرني عند ربك يقول: اذكر قصتي عند ربك، وهو الملك، فنسي ذلك الموصَى أن يذكر مولاه الملك بذلك.

وكان من جملة مكايد الشيطان؛ لئلا يطلع نبي الله من السجن، هذا هو الصواب أن الضمير في قوله فأنساه الشيطان ذكر ربه عائد على الناجي، كما قاله مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير واحد. ويقال: إن الضمير عائد على يوسف عليه السلام رواه ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أيضاً وعكرمة وغيرهم." ([45])

 

رؤيا الملك

 

كثيرة هي الرؤى في قصة يوسف عليه السلام، فقد استفتحنا هذه السورة الكريمة برؤيا يوسف عليه السلام التي رأى فيها أحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين.

وانتقلنا بعد ذلك إلى السجن وصاحبيه، ورؤيا كل منهما.

ويحدثنا القرآن الكريم كذلك عن رؤيا الملك التي عجز قومه عن تعبيرها.

وفيها من الحِكم الربانية ما فيها، ومن أبرز ذلك أن الله سبحانه جعلها سبباً لإخراج يوسف عليه السلام من سجنه.

قال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ۝ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ۝ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ﴾ [يوسف: 43 – 45].

" هذه الرؤيا من ملك مصر مما قدر الله تعالى أنها كانت سبباً لخروج يوسف عليه السلام من السجن، معززاً مكرماً، وذلك أن الملك رأى هذه الرؤيا، فهالته وتعجب من أمرها وما يكون تفسيرها، فجمع الكهنة والحزاة وكبار دولته وأمراءه فقص عليهم ما رأى وسألهم عن تأويلها، فلم يعرفوا ذلك، واعتذروا إليه بأنها أضغاث أحلام أي أخلاط أحلام اقتضته رؤياك هذه وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين أي لو كانت رؤيا صحيحة من أخلاط لما كان لنا معرفة بتأويلها، وهو تعبيرها." ([46])

الساقي ويوسف الصدّيق:

"عند ذلك تذكر الذي نجا من ذينك الفتيين اللذين كانا في السجن مع يوسف، وكان الشيطان قد أنساه ما وصاه به يوسف من ذكر أمره للملك، فعند ذلك تذكر بعد أمة، أي مدة، وقرأ بعضهم: (بعد أُمه) أي: بعد نسيان، فقال لهم، أي للملك والذين جمعهم لذلك.

أنا أنبئكم بتأويله أي بتأويل هذا المنام، (فأرسلون) أي فابعثون إلى يوسف الصديق إلى السجن"([47])

 

تأويل رؤيا الملك ودلالة رموزها

 

بيّن يوسف عليه السلام تعبير رؤيا الملك، وأجاب الساقي إلى طلبه، ولم يكتفِ بذلك؛ بل أنعم عليهم بنصحه، وزاد على تعبير الرؤيا خبراً وبشارة للسائلين، لم تكن واردة في الرؤيا.

قال تعالى: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ۝ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ۝ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ [يوسف: 47 – 49].

الزراعة سبع سنين دأباً:

"قال يوسف لسائله عن رؤيا الملك: (تزرعون سبع سنين دأباً) يقول: تزرعون هذه السبع السنين، كما كنتم تزرعون سائر السنين قبلها على عادتكم فيما مضى.

والدأب: العادة." ([48])

الحصاد والسنابل:

" قوله: (فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون)، وهذا مشورة أشار بها نبي الله صلى الله عليه وسلم على القوم، ورأي رآه لهم صلاحاً، يأمرهم باستبقاء طعامهم." ([49])

سبع سنين شداد:

" يقول: ثم يجيء من بعد السنين السبع التي تزرعون فيها دأباً، سنون سبع شداد، يقول: جدوب قحطة (يأكلن ما قدمتم لهن)، يقول: يؤكل فيهن ما قدمتم في إعداد ما أعددتم لهن في السنين السبعة الخصبة من الطعام والأقوات.

وقال جل ثناؤه: (يأكلن)، فوصف السنين بأنهن (يأكلهن)، وإنما المعنى: أن أهل تلك الناحية يأكلون فيهن." ([50])

 

عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون:

" وهذا خبر من يوسف عليه السلام للقوم عما لم يكن في رؤيا ملكهم؛ ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله دلالة على نبوته وحجة على صدقة." ([51])

 

حقيقة النسوة اللاتي قطعن أيديهن

 

كيف وظف يوسف عليه السلام الموقف في كشف الحقيقة؟

قال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 50].

"يقول تعالى إخباراً عن الملك لما رجعوا إليه بتعبير رؤياه التي كان رآها بما أعجبه وأيقنه، فعرف فضل يوسف عليه السلام، وعلمه وحسن اطلاعه على رؤياه، وحسن أخلاقه على من ببلده من رعاياه.

فقال: ائتوني به أي أخرجوه من السجن وأحضروه.

فلما جاءه الرسول بذلك امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته، ونزاهة عرضه مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز، وأن هذا السجن لم يكن على أمر يقتضيه، بل كان ظلماً وعدواناً، فقال: (ارجع إلى ربك) الآية.

وقد وردت السنة بمدحه على ذلك، والتنبيه على فضله وشرفه وعلو قدره وصبره، صلوات الله وسلامه عليه، ففي المسند والصحيحين من حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى﴾ [البقرة: 260] الآية، ويرحم الله لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي). [صحيح البخاري 4694، وصحيح مسلم 238، ومسند أحمد 8328] " ([52])

مع أن فرصة الحرية، والخروج من غياهب السجن كانت ماثلة أمام يوسف عليه السلام، من قِبل أعلى سلطة سياسية في البلد، إلا أنه لم يبادر إلى الخروج ولقيا الملك، فالخطب أعظم وأشد وأنكى، وفي هذه الحادثة برقت فرصة أكبر لتبرئة يوسف عليه السلام من الظلم الذي لحقه، والتهم التي أُلصقت به.

فكيف سيكون رد الملك؟ وهل سيواجه النسوة وامرأة العزيز بما فعلن وشهدن من براءته؟

 

حصحص الحق

 

قال تعالى: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ۝ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ۝ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [يوسف: 51 – 53].

المواجهة والاعتراف:

جاء القرآن الكريم في هذه الآيات الكريمة بـ: "إخبار عن الملك حين جمع النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند امرأة العزيز، فقال مخاطباً لهن كلهن وهو يريد امرأة وزيره، وهو العزيز، قال الملك للنسوة اللاتي قطعن أيديهن: (ما خطبكن) أي شأنكن وخبركن إذ راودتن يوسف عن نفسه يعني يوم الضيافة، قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء أي قالت لنسوة جواباً للملك: حاش لله أن يكون يوسف متهماً، والله ما علمنا عليه من سوء.

فعند ذلك قالت امرأة العزيز: (الآن حصحص الحق) قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: تقول الآن تبين الحق وظهر وبرز.

أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين أي في قوله: (هي راودتني عن نفسي).

(ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) تقول: إنما اعترفت بهذا على نفسي؛ ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع، فلهذا اعترفت؛ ليعلم أني بريئة وأن الله لا يهدي كيد الخائنين.

(وما أبرئ نفسي) تقول المرأة: ولست أبرئ نفسي، فإن النفس تتحدث وتتمنى، ولهذا راودته؛ لأن (النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) أي إلا من عصمه الله تعالى، (إن ربي غفور رحيم).

وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام." ([53])

من القائل: ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب؟

  • قيل: امرأة العزيز.
  • وقيل يوسف عليه السلام. ([54])

 

مكين أمين

 

حصحص الحق، وشهد الظالمون على أنفسهم، وثبتت براءة يوسف الصدّيق مما رموه به ظلماً وزوراً وبهتاناً، براءة تجلّت كالشمس في رابعة النار، من دلالة القميص، وحكاية الشاهد، وشهادة النسوة، واعتراف امرأة العزيز، ومن السيرة العطرة الشريفة لهذا النبي الكريم في كل حال من أحواله.

ولما كانت هذه صفته، كان حقاً على الملك أن يستخلصه لنفسه، فيجعله من خاصته وأهل مشورته، ويمكّنه في البلاد، فتنتفع به، وينتفع به العباد.

قال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ [يوسف: 54].

" يقول تعالى إخباراً عن الملك حين تحقق براءة يوسف عليه السلام ونزاهة عرضه مما نسب إليه، قال: (ائتوني به أستخلصه لنفسي) أي أجعله من خاصتي وأهل مشورتي.

فلما كلمه أي خاطبه الملك، وعرفه، ورأى فضله وبراعته، وعلم ما هو عليه من خلق وخلق وكمال، قال له الملك إنك اليوم لدينا (مكين أمين) أي إنك عندنا قد بقيت ذا مكانة وأمانة." ([55])

المراد بـ: مكين أمين:

مكين: " أي: متمكن مما أردت، وعرض لك من حاجة قبلنا؛ لرفعة مكانك ومنزلتك، لدينا.

 أمين على ما اؤتمنت عليه من شيء. ([56])

فماذا كان جواب يوسف عليه السلام؟

 

حفيظ عليم

(الصفات الأنسب لاستحقاق المنصب)

 

توسّم الملك في يوسف عليه السلام كل خير وصلاح ونفع للبلاد والعباد، فأراد أن يجعله ذا مكانة، ويأتمنه، فاختار يوسف عليه السلام أن يجعله على خزائن الأرض، ولم يكتفِ بالاختيار وحسب؛ بل بيّن صفاته ومزاياه التي تؤهله لاختيار هذا المنصب.

قال تعالى: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ۝ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 55 – 56].

" قال يوسف عليه السلام (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) مدح نفسه، ويجوز للرجل ذلك إذا جُهل أمره للحاجة.

وذكر أنه (حفيظ) أي خازن أمين.

(عليم) ذو علم وبصيرة بما يتولاه.

وقال شيبة بن نعامة: حفيظ لما استودعتني، عليم بسني الجدب، رواه ابن أبي حاتم، وسأل العمل لعلمه بقدرته عليه ولما فيه من المصالح للناس، وإنما سأله أن يجعله على خزائن الأرض، وهي الأهرام التي يجمع فيها الغلات، لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها، فيتصرف لهم على الوجه الأحوط والأصلح والأرشد، فأجيب إلى ذلك رغبة فيه وتكرمة له." ([57])

تمكين ليوسف عليه السلام في الأرض:

بعد كل ابتلاء عرض ليوسف عليه السلام، نجد أن القرآن يكشف عن تمكين يعقب هذا الابتلاء، كما كان في شأن يوسف مع إخوته والسيارة التي أخرجه واردها من البئر.

كذلك بعد سجنه ظلماً وبهتاناً، تبع ذلك رفعة وعلو لشأنه، وتمكين له في الأرض.

" قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهكذا وطأنا ليوسف في الأرض، يعني: أرض مصر (يتبوأ منها حيث يشاء)، يقول: يتخذ من أرض مصر منزلاً حيث يشاء، بعد الحبس والضيق، (نُصيب برحمتنا من نشاء)، من خلقنا، كما أصبنا يوسف بها، فمكنا له في الأرض بعد العبودة والإسار، وبعد الإلقاء في الجب (ولا نضيع أجر المحسنين)، يقول: ولا نبطل جزاء عمل من أحسن فأطاع ربه، وعمل بما أمره، وانتهى عما نهاه عنه، كما لم نبطل جزاء عمل يوسف إذ أحسن فأطاع الله."([58])

 

إخوة يوسف في حضرة عزيز مصر

 

قال تعالى: ﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ [يوسف: 58].

بعد سنوات من حادثة الجبّ التي علا بعدها شأن يوسف عليه السلام، ومكّن الله له في الأرض، شاء الله أن يلقاه إخوته في حال غير الحال التي تركوه عليها، فشتان ما بين إلقائه في غيابة الجب، عمق وظلام وخوف، وبين المكانة التي أصبح عليها عليه السلام، علوٌّ ورفعة وعزة وتمكين.

ولا عجب في ذلك فهو نبي من أنبياء الله تعالى، وهو كذلك عزيز مصر.

إلا أنه عرف إخوته، وهم له منكرون.

قال ابن كثير: " كان في جملة من ورد للميرة إخوة يوسف عن أمر أبيهم لهم في ذلك.

فإنه بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه.

فأخذوا معهم بضاعة يعتاضون بها طعاماً، وركبوا عشرة نفر.

واحتبس يعقوب عليه السلام عنده ابنه بنيامين شقيق يوسف عليه السلام، وكان أحب ولده إليه بعد يوسف.

فلما دخلوا على يوسف وهو جالس في أبهته ورئاسته وسيادته، عرفهم حين نظر إليهم.

وهم له منكرون أي لا يعرفونه؛ لأنهم فارقوه وهو صغير حدث.

وباعوه للسيارة ولم يدروا أين يذهبون به، ولا كانوا يستشعرون في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه، فلهذا لم يعرفوه، وأما هو فعرفهم." ([59])

فكيف سيعاملهم يوسف عليه السلام؟ وكيف سيأتي بأخيه بنيامين؟

 

إخوة يوسف وبضاعتهم وأخ لهم من أبيهم

(ما هي حلقة الصلة بين البضاعة وإحضار بنيامين؟)

 

قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ۝ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ ۝ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ۝ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [59 – 62].

يقص لنا القرآن الكريم ما كان من إكرام يوسف عليه السلام لإخوته، وكيف طلب منهم أن يأتوه بأخيهم، وبيان السبل التي سلكها كي يقنعهم بذلك، فماذا فعل ببضاعتهم التي جاءوا بها؟ وما صلة ذلك بإحضار أخيهم من أبيهم؟

  • جهزهم بجهازهم:

" قال أبو جعفر: يقول: ولما حمَّل يوسف لإخوته أباعرهم من الطعام، فأوقر لكل رجل منهم بعيرَه، قال لهم: (ائتوني بأخ لكم من أبيكم) كيما أحمل لكم بعيراً آخر، فتزدادوا به حمل بعير آخر، (ألا ترون أني أوفي الكيل) فلا أبخسه أحداً (وأنا خير المنزلين)، وأنا خير من أنزل ضيفاً على نفسه من الناس بهذه البلدة، فأنا أضيفكم." ([60])

  • كيف أقنع يوسف إخوته بإحضار أخيهم من أبيهم؟
  • لأنه يوفي الكيل.
  • لأنه خير مضيف في بلدته.
  • منعهم من العودة إليه إن لم يأتوه بأخيهم.
  • رد بضاعتهم إليهم لعلهم يرجعون.

" (اجعلوا بضاعتهم في رحالهم)، يقول: اجعلوا أثمان الطعام التي أخذتموها منهم في رحالهم.

والرحال، جمع رحل، وذلك جمع الكثير، فأما القليل من الجمع منه فهو: أرحل، وذلك جمع ما بين الثلاثة إلى العشرة." ([61])

 

سبب ردّ بضاعة إخوة يوسف:

" فإن قال قائل: ولأية علة أمر يوسف فتيانه أن يجعلوا بضاعة إخوته في رحالهم؟

قيل: يحتمل ذلك أوجهاً:

أحدها: أن يكون خشي أن لا يكون عند أبيه دراهم، إذ كانت السنة سنة جدب وقحط، فيضر أخذ ذلك منهم به، وأحب أن يرجع إليه.

أو: أراد أن يتسع بها أبوه وإخوته، مع قلة حاجتهم إليه، فرده عليهم من حيث لا يعلمون سبب رده، تكرماً وتفضلاً.

والثالث: وهو أن يكون أراد بذلك أن لا يخلفوه الوعد في الرجوع، إذا وجدوا في رحالهم ثمن طعام قد قبضوه وملكه عليهم غيرهم، عوضاً من طعامه، ويتحرجوا من إمساكهم ثمن طعام قد قبضوه حتى يؤدوه على صاحبه، فيكون ذلك أدعى لهم إلى العود إليه." ([62])

فما هو موقف الإخوة بعد أن يجدوا ما رده إليهم؟ وهل هم ملتزمون بوعدهم الذي قطعوه للعزيز؟ وما موقف يعقوب عليه السلام من ذلك؟

 

الميرة

(وإقناع الأب)

 

قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ۝ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ۝ وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ۝ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ [يوسف: 63 – 66].

للمرة الثانية يقص علينا القرآن الكريم محاولة إخوة يوسف إقناع أبيهم ليأخذوا ابنه المحبوب معهم، وكأنما المشهد يتكرر مع اختلاف الابن، فهو في أول السورة يوسف، وها هنا هو بنيامين، وكلاهما من أحب الأبناء إلى أبيهم.

وكذلك النية مختلفة في الموقفين، فهي إخفاء يوسف في الأولى كي يخلو لهم وجه أبيهم، وفي الثانية هي الميرة والكيل.

فهل سيأمنهم يعقوب عليه السلام على بنيامين كما آمنهم على أخيه يوسف من قبل؟

الطلب والرجاء:

بادر إخوة يوسف بإقناع أبيهم كي يرسل أخاهم معهم، وبيّنوا له ما في ذلك من مزية ومصلحة.

" فلما رجع إخوة يوسف إلى أبيهم (قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل)، يقول: منع منا الكيل فوق الكيل الذي كيل لنا، ولم يكل لكل رجل منا إلا كيل بعير (فأرسل معنا أخانا)، بنيامين يكتل لنفسه كيل بعير آخر زيادة على كيل أباعرنا (وإنا له لحافظون)، من أن يناله مكروه في سفره." ([63])

الله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين:

مع أن أباهم عاتبهم وقال لهم: هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل.

إلا أنه سلّم أمره لله عز وجل فهو خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.

"يقول: والله أرحم راحم بخلقه، يرحم ضعفي على كبر سني، ووحدتي بفقد ولدي، فلا يضيعه؛ ولكنه يحفظه حتى يرده علي لرحمته." ([64])

بضاعة مردودة:

"ولما فتح إخوة يوسف متاعهم الذي حملوه من مصر من عند يوسف (وجدوا بضاعتهم)، وذلك ثمن الطعام الذي اكتالوه منه رُدت إليهم.

(قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا) يعني أنهم قالوا لأبيهم: ماذا نبغي؟ هذه بضاعتنا ردت إلينا! تطييباً منهم لنفسه بما صنع بهم في رد بضاعتهم إليهم." ([65])

وكان هذا سبباً إضافياً يسهم في دعم خطتهم لإقناع أبيهم.

خطة الإقناع:

  • أن يكتالوا لأخيهم ويزدادوا كيل بعير.
  • تطييب نفس أبيهم بما حصل من ردّ ثمن بضاعتهم.
  • ميرة الأهل.
  • حفظ أخيهم.
  • الميثاق.

 

أبواب متفرقة

 

قال تعالى: ﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ۝ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 67 – 68].

تجلت فطرة الأب المحب لأبنائه في موقف يعقوب عليه السلام ووصيته لأبنائه ألّا يدخلوا من باب واحد، وأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة.

فما هو السبب؟

" قال يعقوب لبنيه لما أرادوا الخروج من عنده إلى مصر ليمتاروا الطعام: يا بني لا تدخلوا مصر من طريق واحد، وادخلوا من أبواب متفرقة.

وذكر أنه قال ذلك لهم؛ لأنهم كانوا رجالاً لهم جمال وهيئة، فخاف عليهم العين إذا دخلوا جماعة من طريق واحد، وهم ولد رجل واحد، فأمرهم أن يفترقوا في الدخول إليها." ([66])

التوكل المطلق على الله لا ينافي الأخذ بالأسباب:

" وقوله: (وما أغني عنكم من الله من شيء)، يقول: وما أقدر أن أدفع عنكم من قضاء الله الذي قد قضاه عليكم من شيء صغير ولا كبير؛ لأن قضاءه نافذ في خلقه (إن الحكم إلا لله) ، يقول: ما القضاء والحكم إلا لله دون ما سواه من الأشياء، فإنه يحكم في خلقه بما يشاء، فينفذ فيهم حكمه، ويقضي فيهم، ولا يرد قضاؤه (عليه توكلت)، يقول: على الله توكلت فوثقت به فيكم وفي حفظكم علي، حتى يردكم إلي وأنتم سالمون معافون، لا على دخولكم مصر إذا دخلتموها من أبواب متفرقة (وعليه  فليتوكل المتوكلون)، يقول: وإلى الله فليفوض أمورهم المفوضون." ([67])

حاجة في نفس يعقوب:

" ولما دخل ولد يعقوب (من حيث أمرهم أبوهم، وذلك دخولهم مصر من أبواب متفرقة (ما كان يغني)، دخولهم إياها كذلك (عنهم) من قضاء الله الذي قضاه فيهم فحتمه.

(من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها)، إلا أنهم قضوا وطراً ليعقوب بدخولهم لا من طريق واحد خوفاً من العين عليهم، فاطمأنت نفسه أن يكونوا أوتوا من قبل ذلك أو نالهم من أجله مكروه." ([68])

 

إيواء بنيامين

 

قال تعالى: ﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [يوسف: 69].

صوّر القرآن الكريم مشهد لقاء الشقيقين يوسف وبنيامين بأبلغ الكلمات المعبرة على صعيد الحس، والنطق، والنفس:

  • الطمأنينة الحسية: الإيواء والضم.
  • الطمأنينة المنطوقة: إني أنا أخوك.
  • الطمأنينة النفسية: فلا تبتئس.

" لما دخل ولد يعقوب على يوسف (آوى إليه أخاه)، يقول: ضم إليه أخاه لأبيه وأمه." ([69])

"يخبر تعالى عن إخوة يوسف لما قدموا على يوسف ومعهم أخوه شقيقه بنيامين، وأدخلهم دار كرامته ومنزل ضيافته، وأفاض عليهم الصلة والإلطاف والإحسان.

واختلى بأخيه فأطلعه على شأنه وما جرى له، وعرفه أنه أخوه.

وقال له: لا تبتئس، أي لا تأسف على ما صنعوا بي، وأمره بكتمان ذلك عنهم.

وأن لا يطلعهم على ما أطلعه عليه من أنه أخوه.

وتواطأ معه أنه سيحتال على أن يبقيه عنده معززاً مكرماً معظماً." ([70])

فكيف سيبقي يوسف أخاه عنده؟

 

صواع الملك

 

أعطى العزيز إخوته ما كان وعدهم به، وجاء أخوه بنيامين كما كان يأمل، إلا أنه يرغب في إبقاء أخيه لديه، فماذا سيفعل من أجل ذلك؟ وكيف سينجح في إبقاء بنيامين؟

قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ۝ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ۝ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾ [يوسف: 70 – 72].

صواع مسروق:

" قوله: (فلما جهزهم بجهازهم)، يقول: لما قضى لهم حاجتهم ووفّاهم كيلهم.

وقوله: (جعل السقاية في رحل أخيه)، يقول: جعل الإناء الذي يكيلُ به الطعام في رَحْل أخيه.

والسقاية: هي المشربة، وهي الإناء الذي كان يشرب فيه الملك ويكيلُ به الطعام." ([71])

وكان قد جعل السقاية في رحل أخيه بنيامين.

والسقاية هي ذاتها صواع الملك.

اتهام القافلة بالسرقة:

"وقوله: (ثم أذّن مؤذن)، يقول: ثم نادى منادٍ.

وقيل: أعلم معلم.

(أيتها العير)، وهي القافلة فيها الأحمال (إنكم لسارقون)." ([72])

"قال بنو يعقوب لما نودوا: (أيتها العير إنكم لسارقون)، وأقبلوا على المنادي ومن بحضرتهم يقولون لهم: (ماذا تفقدون)، ما الذي تفقدون؟ (قالوا نفقد صواع الملك)، يقول: فقال لهم القوم: نفقد مشربة الملك." ([73])

ترغيب في رد المسروق إلى أصحابه:

بعد أن تم الإعلان عن وجود سرقة، وكشف الشيء المسروق، واتهام القافلة بذلك، كان هناك ترغيب في ردّ ما تمت سرقته، وإلى ذلك الإشارة بقوله: (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم).

" (ولمن جاء به حمل بعير): وهذا من باب الجعالة، (وأنا به زعيم): وهذا من باب الضمان والكفالة." ([74])

"وقوله، (وأنا به زعيم)، يقول: وأنا بأن أوفيّه حملَ بعير من الطعام إذا جاءني بصواع الملك كفيلٌ." ([75])

وحينئذ صدح إخوة يوسف بالدفاع عن أنفسهم وأنهم ما جاءوا ليفسدوا في الأرض وما كانوا سارقين.

 

جزاء السارق

 

قال تعالى: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ۝ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ۝ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ [73 – 75].

دفاع أبناء يعقوب عليه السلام عن أنفسهم:

" وقوله: (لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض)، يقول: لقد علمتم ما جئنا لنعصى الله في أرضكم." ([76])

"فإن قال قائل: وما كان عِلْمُ من قيل له: (لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض)، بأنهم لم يجيئوا لذلك، حتى استجاز قائلو ذلك أن يقولوه؟

قيل: استجازوا أن يقولوا ذلك؛ لأنهم فيما ذكر ردُّوا البضاعة التي وجدوها في رحالهم، فقالوا: لو كنا سُرَّاقًا لم نردَّ عليكم البضاعة التي وجدناها في رحالنا.

وقيل: إنهم كانوا قد عُرِفوا في طريقهم ومسيرهم أنهم لا يظلمون أحداً ولا يتناولون ما ليس لهم، فقالوا ذلك حين قيل لهم: (إنكم لسارقون)." ([77])

إشهاد المتهمين على الجزاء العادل لمن تثبت في حقه تهمة السرقة:

" قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال أصحاب يوسف لإخوته: فما ثواب السَّرَق إن كنتم كاذبين في قولكم: (ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين)؟

(قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه)، يقول جل ثناؤه: وقال إخوة يوسف: ثواب السرق من وجد في متاعه السرق (فهو جزاؤه)، يقول: فالذي وجد ذلك في رحله ثوابه بأن يسلم بسَرِقته إلى من سرق منه حتى يستَرِقّه (كذلك نجزي الظالمين)، يقول: كذلك نفعل بمن ظلم ففعل ما ليس له فعله من أخذه مال غيره سَرَقاً." ([78])

 

دين الملك

 

اتفق قوم الملك والمتهمون على الجزاء العادل الذي ينتظر السارق، وبدأ يوسف عليه السلام بتفتيش الأوعية، وبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، ثم استخرج صواع الملك من وعاء أخيه، فما هي الحكمة في تأخير العثور على صواع الملك وقد كان يعلم أين وضعه؟ ولماذا امتن الله عز وجل على يوسف عليه السلام وأنه ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك؟

قال تعالى: ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 76].

" ﴿قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ [يوسف: 75].

وهكذا كانت شريعة إبراهيم عليه السلام:

أن السارق يدفع إلى المسروق منه، وهذا هو الذي أراد يوسف عليه السلام، ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، أي فتشها قبله تورية، ثم استخرجها من وعاء أخيه.

فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم، وإلزاماً لهم بما يعتقدونه، ولهذا قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾ [يوسف: 76] وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة." ([79])

بين شريعة إبراهيم عليه السلام ودين الملك:

"وقوله: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ [يوسف: 76].

أي: لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر قاله الضحاك وغيره، وإنما قيض الله له أن التزم له إخوته بما التزموه، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم، ولهذا مدحه الله تعالى فقال: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ [يوسف: 76]، كما قال تعالى: ﴿يرفَع اللهُ الذينَ آمنُوا مِنْكُم﴾ [المجادلة: 11] الآية.

(وفوق كل ذي علم عليم) قال الحسن البصري: ليس عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله عز وجل." ([80])

 

كلمة أسرّها يوسف في نفسه

 

قال تعالى: ﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: 77].

براءة الإخوة من أخيهم المتهم بالسرقة:

"قال إخوة يوسف لما رأوا الصواع قد أخرج من متاع بنيامين: (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) يتنصلون إلى العزيز من التشبه به، ويذكرون أن هذا فعل كما فعل أخ له من قبل، يعنون به يوسف عليه السلام." ([81])

ما هو السرق الذي اتُهم به يوسف عليه السلام من قبل إخوته؟

اختُلف في السرق الذي وصفوا به يوسف، على أقوال:

  • قيل: كان صنماً لجده أبي أمه، كسره وألقاه على الطريق.
  • قيل: كان بنو يعقوب على طعام، إذ نظر يوسف إلى عرق فخبأه، فعيروه بذلك: (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل).

وقيل غير ذلك. ([82])

الكلمة التي أسرّها يوسف في نفسه:

"وقوله: (فأسرّها يوسف في نفسه) يعني الكلمة التي بعدها، وهي قوله: (أنتم شر مكاناً والله أعلم بما تصفون) أي تذكرون، قال هذا في نفسه ولم يبده لهم.

وهذا من باب الإضمار قبل الذكر، وهو كثير، كقول الشاعر:

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر            وحسن فعل كما يجزى سنمّار

وله شواهد كثيرة في القرآن والحديث واللغة في منثورها، وأخبارها، وأشعارها.

قال العوفي عن ابن عباس فأسرها يوسف في نفسه، قال: أسرّ في نفسه أنتم شر مكاناً والله أعلم بما تصفون." ([83])

 

العهد والبدل

 

قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ۝ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ﴾ [يوسف: 78 – 79].

تنازل الإخوة لئلا يخلفوا العهد الذي قطعوه لأبيهم، وطلبوا من العزيز أن يأخذ أحدهم مكانه.

" لما تعين أخذ بنيامين وتقرر تركه عند يوسف بمقتضى اعترافهم.

شرعوا يترققون له ويعطفونه عليهم.

فقالوا: يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً يعنون وهو يحبه حباً شديداً ويتسلى به عن ولده الذي فقده.

فخذ أحدنا مكانه أي بدله يكون عندك عوضاً عنه.

(إنا نراك من المحسنين) أي العادلين المنصفين القابلين للخير.

قال: معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده أي كما قلتم واعترفتم.

(إنا إذا لظالمون) أي إن أخذنا بريئاً بسقيم." ([84])

فاستيأس إخوة يوسف أن يأخذ منهم بدلاً يحلّ مكان بنيامين، واستذكروا الميثاق الذي أخذه عليهم أبوهم.

قال تعالى: ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ [يوسف: 80].

فماذا سيحصل بعد ذلك؟ وكيف سيكون وقع الخبر على يعقوب عليه السلام؟

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 4/ 3 - 4، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([2]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 492، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([3]) تفسير القرآن العظيم، 4/ 493.

([4]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 15/ 561، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([5]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 15/ 564، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([6]) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 15/ 565 - 566، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([7]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 4/ 17، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([8]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 4/ 17.

([9]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 4/ 17.

([10]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 15/ 1، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([11]) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 15/ 2.

([12]) انظر: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 4/ 20، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([13]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 4/ 23.

([14]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 4/ 24، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.

([15]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 4/ 24.

([16]) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 15/ 22، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([17]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 15/ 23.

([18]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 15/ 23.

([19]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 15/ 23 - 24.

([20]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 502، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([21]) انظر: تفسير القرآن العظيم، 4/ 504 - 505.

([22]) البحر المحيط في التفسير: أبو حيان الأندلسي، 6/ 258، تحقيق: صدقي محمد جميل، دار الفكر، بيروت، 1420 هـ.

([23]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 506، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([24]) تفسير القرآن العظيم، 4/ 506.

 

([26]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 508، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([27]) تفسير القرآن العظيم، 4/ 508.

([28]) تفسير القرآن العظيم، 4/ 508.

([29]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 508، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([30]) تفسير القرآن العظيم، 4/ 509.

([31]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 16/ 84، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([32]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 510، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([33]) تفسير القرآن العظيم، 4/ 510.

([34]) تفسير القرآن العظيم، 4/ 510.

([35]) تفسير القرآن العظيم، 4/ 510.

([36]) استشهد ابن كثير رحمه الله بهذا الحديث بعد سَوق تفسير الآيات الكريمة، انظر: تفسير القرآن العظيم، 4/ 510.

([37]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 511، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([38]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 16/ 94، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([39]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 16/ 95.

([40]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 16/ 100، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([41]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 16/ 101.

([42]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 16/ 102.

([43]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 513 - 514، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([44]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 514، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([45]) تفسير القرآن العظيم، 4/ 514 - 515.

([46]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 515 - 516، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([47]) تفسير القرآن العظيم، 4/ 516.

([48]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 16/ 125، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([49]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 16/ 126.

([50]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 16/ 126.

([51]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 16/ 128.

([52]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 516 - 517، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([53]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 517 - 518، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([54]) انظر: تفسير القرآن العظيم، 4/ 518.

([55]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 518، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([56]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 16/ 147، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([57]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 518 - 519، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([58]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 16/ 151، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([59]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 520، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([60]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 16/ 154 - 155، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([61]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 16/ 156 – 157.

([62]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 16/ 157 – 158.

([63]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 16/ 158، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([64]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 16/ 161.

([65]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 16/ 161.

([66]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 16/ 164 - 165، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([67]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 16/ 166.

([68]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 16/ 167.

([69]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 16/ 169، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([70]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 523، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([71]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 16/ 172، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([72]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 16/ 173.

([73]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 16/ 173.

([74]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 523، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([75]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 16/ 178.

([76]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 16/ 181، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([77]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 16/ 181 - 182.

([78]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 16/ 182.

([79]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 524، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([80]) تفسير القرآن العظيم، 4/ 524.

([81]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 524 - 525، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

([82])  انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 16/ 195 - 197، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

([83]) تفسير القرآن العظيم، 4/ 525.

([84]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 4/ 525، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.