إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم (2)
تهيئة البيت الحرام للشعائر العظام ولضيوف الرحمن الكرام
قال تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: 125].
قال تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج: 26].
- البيت مثابة للناس:
جعل الله البيت الحرام مثابة للناس، ومعنى المثابة: أنهم يعودون إليه بعد زيارته.
قال ابن جرير: "معنى قوله: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس): وإذ جعلنا البيت مرجعاً للناس ومعاذاً، يأتونه كل عام ويرجعون إليه، فلا يقضون منه وطراً." ([1])
- فجر جديد مشرق بالتوحيد:
سار الخليل وذريته من الأنبياء على نهج التوحيد، ونبذ الشرك والأصنام، وقد أمر الله إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأن يطهرا بيته الحرام، فما هو المقصود بالتطهير؟ ومن أي شيء يتم تطهيره؟
معنى الآية: "وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين.
والتطهير الذي أمرهما الله به في البيت، هو تطهيره من الأصنام، وعبادة الأوثان فيه، ومن الشرك بالله." ([2])
"فإن قال قائل: وما معنى قوله: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين)؟ وهل كان أيام إبراهيم -قبل بنائه البيت- بيت يطهر من الشرك وعبادة الأوثان في الحرم، فيجوز أن يكونا أُمرا بتطهيره؟
قيل: لذلك وجهان من التأويل، قد قال بكل واحد من الوجهين جماعة من أهل التأويل." ([3])
وبين ابن جرير هذين الوجهين، وهما:
الوجه الأول: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مطهراً من الشرك والرَّيْب، كما قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾ [التوبة: 109]، فكذلك قوله: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾ [البقرة: 125].
أي ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب.
الوجه الثاني: أن يكونا أُمرا بأن يطهرا مكان البيت قبل بنيانه، والبيت بعد بنيانه، مما كان أهل الشرك بالله يجعلونه فيه -على عهد نوح ومن قبله- من الأوثان؛ ليكون ذلك سنة لمن بعدهما، إذ كان الله تعالى ذكره قد جعل إبراهيم عليه السلام إماماً يقتدي به من بعده. ([4])
ما المقصود بالطائفين؟ والعاكفين؟ والركع السجود؟
الطائفون:
اختلف في معنى: (الطائفين) في هذا الموضع على قولين:
- هم الغرباء الذين يأتون البيت الحرام من غَرْبةٍ.
- هم الذين يطوفون به، غرباء كانوا أو من أهله.
العاكفون:
أي المقيمون به، والعاكف على الشيء هو المقيم عليه، وقيل للمعتكف: (معتكف): من أجل مقامه في الموضع الذي حبس فيه نفسه لله تعالى.
واختُلف فيمن عنى الله تعالى بقوله: (والعاكفين) على 4 أقوال:
- الجالس في البيت الحرام بغير طواف، ولا صلاة.
- هم المعتكفون المجاورون.
- هم أهل البلد الحرام.
- هم المصلون.
وأولاها بالصواب: أن العاكف في هذا الموضع، المقيم في البيت مجاوراً فيه بغير طواف ولا صلاة؛ لأن صفة العكوف تعني: الإقامة بالمكان.
والمقيم بالمكان قد يكون مقيماً به وهو جالس، ومصلّ، وطائف، وقائم، وعلى غير ذلك من الأحوال.
الركع السجود:
جماعة القوم الراكعين فيه له، واحدهم (راكع)، وكذلك (السجود) هم جماعة القوم الساجدين فيه له، واحدهم (ساجد)، وقيل: الركع السجود: المصلّون. ([5])
نداء إبراهيم عليه السلام
(أذان بالحج)
قال تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: 27].
من المنادي؟ ومن الآتي والمجيب؟ وما صفة أذان إبراهيم عليه السلام؟
المنادي هو إبراهيم عليه السلام، لدعوة الناس إلى الحج.
" قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: عهدنا إليه أيضا أن أذّن في الناس بالحجّ: يعني بقوله: (وأذّنْ) أعلم ونادِ في الناس أن حجوا أيها الناس بيت الله الحرام.
(يَأْتُوكَ رَجالاً) يقول: فإن الناس يأتون البيت الذي تأمرهم بحجه مشاة على أرجلهم.
(وَعَلى كُلّ ضَامِر) يقول: وركباناً على كلّ ضامر، وهي الإبل المهازيل (يَأْتِينَ مِنْ كُلّ فَجّ عَمِيق) يقول: تأتي هذه الضوامر من كل فجّ عميق: يقول: من كلّ طريق ومكان ومسلك بعيد.
وقيل: يأتين. فجمع؛ لأنه أريد بكل ضامر: النوق.
ومعنى الكلّ: الجمع، فلذلك قيل: يأتين.
وقد زعم الفراء أنه قليل في كلام العرب: مررت على كلّ رجل قائمين.
قال: وهو صواب، وقول الله: (وَعَلى ضَامِرٍ يَأْتينَ) ينبىء على صحة جوازه.
وذُكر أن إبراهيم صلوات الله عليه لما أمره الله بالتأذين بالحجّ، قام على مقامه فنادى: يا أيها الناس أن الله كتب عليكم الحج فحجوا بيته العتيق." ([6])
وعلى ذلك تكون هيئات الملبين القادمين للحج:
- رجالاً: أي ماشين على أرجلهم.
- ركباناً: على دوابهم -وإن كانت هزيلة-.
ومجيئهم من كل حدب وصوب، وفي ذلك كله دليل على استجابة كثير من الناس، ووفود كثير منهم إلى البيت الحرام، وتلبية النداء الإبراهيمي وأداء شعيرة الحج.
وكأنما في ذلك استجابة لدعاء الخليل عليه السلام، وكون البيت الحرام، والبلد الحرام مهوى للأفئدة.
" وقوله: (يأتين من كل فج) يعني طريق، كما قال: ﴿وجَعَلنا فِيها فِجَاجاً سُبُلاً﴾ [الأنبياء: 31] وقوله: (عميق) أي بعيد، قاله مجاهد وعطاء والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان والثوري وغير واحد، وهذه الآية كقوله تعالى إخباراً عن إبراهيم حيث قال في دعائه: ﴿فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم﴾ [إبراهيم: 37] فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار." ([7])
صفة أذان إبراهيم عليه السلام:
" ذُكر أنه قال: يا رب وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال:
نادِ وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة، لبيك اللهم لبيك، وهذا مضمون ما روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف، والله أعلم، أوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة." ([8])
منافع الحج
(ما هي؟ وهل في الحج منافع غير الطاعة والأجر وتلبية النداء؟)
قال تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 27 – 29].
قد يتساءل بعضهم عن منافع الحج التي ذكرها الله تعالى: هل هناك منافع غير إجابة الأذان، وأداء الشعائر، وإن كان هنالك غيرها، فما هي؟
اختُلف في المراد بمنافع الحج على أقوال، ومنها:
- هي التجارة، ومنافع الدنيا.
- هي الأجر في الآخرة، والتجارة في الدنيا.
- هي العفو والمغفرة. ([9])
"وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: عنى بذلك: ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضي الله والتجارة.
وذلك أن الله عم لهم منافع جميع ما يشهد له الموسم.
ويأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخصص من ذلك شيئاً من منافعهم بخبر ولا عقل.
فذلك على العموم في المنافع التي وصفت." ([10])
فما أعظم بركة الحج، نفع في الدنيا، ونفع في الآخرة، وعفوٌ ورزق ومغفرة.
كلمات أتمهن إبراهيم عليه السلام
قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124].
ما معنى ابتلاء الله لإبراهيم عليه السلام؟ وما هي هذه الكلمات؟
"كان اختبار اللهِ تعالى ذكره إبراهيمَ، اختبارا ًبفرائض فرضها عليه، وأمرٍ أمره به.
وذلك هو: (الكلمات) التي أوحاهن إليه، وكلفه العمل بهن، امتحاناً منه له، واختباراً.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة (الكلمات) التي ابتلى الله بها إبراهيم نبيه وخليله صلوات الله عليه." ([11])
الأقوال في تفسير الكلمات التي أتمهن إبراهيم عليه السلام:
- هي شرائع الإسلام، وهي ثلاثون سهماً.
- هي خصال عشر من سنن الإسلام.
- عشر خلال: بعضهن في تطهير الجسد، وبعضهن في مناسك الحج.
- وقال آخرون: بل ذلك: (إني جاعلك للناس إماماً)، في مناسك الحج.
- مناسك الحج خاصة.
- هي أمور، منهن الختان.
- الخلال الست: الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، التي ابتلي بهن فصبر عليهن. ([12])
ما هو الصواب من هذه الأقوال؟
"أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عباده أنه اختبر إبراهيم خليله بكلمات أوحاهن إليه، وأمره أن يعمل بهن فأتمهن، كما أخبر الله جل ثناؤه عنه أنه فعل.
وجائز أن تكون تلك الكلمات جميع ما ذكره من ذكرنا قوله في تأويل الكلمات، وجائز أن تكون بعضه؛ لأن إبراهيم صلوات الله عليه قد كان امتحن فيما بلغنا بكل ذلك، فعمل به، وقام فيه بطاعة الله وأمره الواجب عليه فيه.
وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز لأحد أن يقول: عنى الله بالكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم شيئاً من ذلك بعينه دون شيء، ولا عنى به كل ذلك، إلا بحجة يجب التسليم لها: من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إجماع من الحجة.
ولم يصح في شيء من ذلك خبر عن الرسول بنقل الواحد، ولا بنقل الجماعة التي يجب التسليم لما نقلته." ([13])
فائدة في دلالة: (الكلمة/ الكلمات) في القرآن الكريم:
"الكلمات تطلق، ويراد بها:
- الكلمات القدرية، كقوله تعالى عن مريم عليها السلام: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ [التحريم: 12].
- وتطلق، ويراد بها الشرعية، كقوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام: 115] أي: كلماته الشرعية.
وهي إما خبر صدق، وإما طلب عدل إن كان أمراً أو نهياً، ومن ذلك هذه الآية الكريمة: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: 124]." ([14])
ما معنى: (أتمهن)؟
"(فأتمهن) أي: قام بهن كلهن، كما قال تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم: 37] أي: وفّى جميع ما شرع له، فعمل به صلوات الله عليه، وقال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [النحل: 120 – 122].
وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 161- 162]. وقال تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 67- 68]." ([15])
(لا ينال عهدي الظالمين)
ما هو هذا العهد؟ ولماذا لا ينال الظالمين؟ وهل من ذرية إبراهيم عليه السلام من هو ظالم لنفسه أو لغيره؟
قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124].
"قال أبو جعفر: هذا خبر من الله جل ثناؤه عن أن الظالم لا يكون إماماً يقتدي به أهل الخير. وهو من الله جل ثناؤه جواب لما يتوهم في مسألته إياه أن يجعل من ذريته أئمة مثله.
فأخبر أنه فاعل ذلك، إلا بمن كان من أهل الظلم منهم، فإنه غير مصيره كذلك، ولا جاعله في محل أوليائه عنده، بالتكرمة بالإمامة؛ لأن الإمامة إنما هي لأوليائه وأهل طاعته، دون أعدائه والكافرين به.
واختلف أهل التأويل في العهد الذي حرم الله جل ثناؤه الظالمين أن ينالوه." ([16])
ما هو هذا العهد؟
- هو النبوة.
فمعنى قائل هذا القول في تأويل الآية: لا ينال النبوة أهل الظلم والشرك.
- عهد الإمامة.
فتأويل الآية على قولهم: لا أجعل من كان من ذريتك بأسرهم ظالماً، إماماً لعبادي يقتدى به.
- أنه لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه.
- معنى العهد في هذا الموضع: الأمان.
فتأويل الكلام على معنى قولهم: قال الله لا ينال أماني أعدائي، وأهل الظلم لعبادي.
أي: لا أؤمنهم من عذابي في الآخرة.
- العهد الذي ذكره الله في هذا الموضع: دين الله. ([17])
"قال أبو جعفر: وهذا الكلام، وإن كان ظاهره ظاهر خبر عن أنه لا ينال من ولد إبراهيم صلوات الله عليه عهد الله الذي هو النبوة والإمامة لأهل الخير، بمعنى الاقتداء به في الدنيا، والعهد الذي بالوفاء به ينجو في الآخرة، من وفى لله به في الدنيا من كان منهم ظالماً متعدياً جائراً عن قصد سبيل الحق.
فهو إعلام من الله تعالى ذكره لإبراهيم: أن من ولده من يشرك به، ويجور عن قصد السبيل، ويظلم نفسه وعباده." ([18])
حقيقة الصلة الدينية بين إبراهيم عليه السلام وبين اليهودية والنصرانية
يصر بعضهم على انتماء إبراهيم عليه السلام لليهودية، أو للنصرانية، ويدعي كل من الفريقين انتماءه لهم، فما حقيقة صلته بهما؟ وكيف أجاب القرآن الكريم عن هذا الادعاء؟
الجواب القرآني:
كما هي عادة القرآن الكريم في الاستدلال المتين، يجيب عن هذا الادعاء بإثبات ونفي، فما هو النفي وما هو دليله؟ وما هو الإثبات وما هو دليله؟
أولاً: النفي:
نفى الله تبارك وتعالى أن يكون إبراهيم يهودياً أو نصرانياً.
قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا﴾ [آل عمران: 65- 67].
وقد دلت هذه الآيات الكريمة على:
- النفي الصريح لكون إبراهيم عليه السلام يهودياً أو نصرانياً.
- الاستدلال على هذا النفي بأن التوراة والإنجيل لم تنزل إلا من بعده.
- أن أهل الكتاب يحاجون فيما لهم به علم من أمر دينهم وما جاءت به كتبهم، وفيما ليس لهم به العلم من أمر إبراهيم عليه السلام ودينه، وأن الله يعلم وهم لا يعلمون.
" قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (ها أنتم) القومَ الذين قالوا في إبراهيم ما قالوا (حاججتم)، خاصمتم وجادلتم (فيما لكم به علم)، من أمر دينكم الذي وجدتموه في كتبكم، وأتتكم به رسل الله من عنده، وفي غير ذلك مما أوتيتموه وثبتت عندكم صحته.
(فلم تحاجون) يقول: فلم تجادلون وتخاصمون، (فيما ليس لكم به علم)، يعني: في الذي لا علم لكم به من أمر إبراهيم ودينه، ولم تجدوه في كتب الله، ولا أتتكم به أنبياؤكم، ولا شاهدتموه فتعلموه." ([19])
ثانياً: الإثبات:
يرد سؤال على الذهن:
إن لم يكُن إبراهيم عليه السلام يهودياً ولا نصرانياً، فإلى أي دين ينتمي؟ وأي عقيدة يحمل؟
ويجيب القرآن الكريم عن هذا مثبتاً أنه مسلم، نافياً كذلك كونه من المشركين.
قال تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: 67].
وكما كان في هذه الآيات الكريمة إجابة عن ادعاء أهل الكتاب، فهي كذلك تدحض كل شبهة وردت، أو قد ترد على أذهان الناس وخواطرهم في الماضي والحاضر والمستقبل.
ونجد بناء على ذلك أن الأدلة والإجابات والردود عن الشُّبه المثارة حول العقيدة، وكثير من مسائل الدين مبثوثة، وموجودة في القرآن الكريم.
وقد يرد سؤال آخر:
بعد نفي كون إبراهيم عليه السلام يهودياً أو نصرانياً، فمن هم أولى الناس به وبالانتماء إليه وشرف الانتساب إلى ملته؟
ويجيب عن هذا كذلك القرآن الكريم:
قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 68].
وصية إبراهيم وبنيه لذرياتهم
لما كان إبراهيم عليه السلام حنيفاً مسلماً ولم يكُن من المشركين، وصى بنيه بهذه الملة القويمة، وهذا الدين العظيم، وأوصى بها بنوه ذرياتهم من بعده.
قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 131 – 136].
"فإن قال لنا قائل: وهل دعا اللهُ إبراهيمَ إلى الإسلام؟
قيل له: نعم، قد دعاه إليه.
فإن قال: وفي أي حال دعاه إليه؟
قيل: حين قال: ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 78-79]، وذلك هو الوقت الذي قال له ربه: أسلم - من بعد ما امتحنه بالكواكب والقمر والشمس." ([20])
فبمَ وصى إبراهيم عليه السلام بنيه؟
" قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (ووصى بها)، ووصى بهذه الكلمة، عنى بـ: (الكلمة) قوله: (أسلمتُ لربّ العالمين)، وهي: (الإسلام) الذي أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو إخلاص العبادة والتوحيد لله، وخضوع القلب والجوارح له.
ويعني بقوله: (ووصى بها إبراهيم بنيه)، عهد إليهم بذلك وأمرهم به.
وأما قوله: (ويعقوب)، فإنه يعني: ووصى بذلك أيضا يعقوبُ بنيه."([21])
فلما كان الإسلام هو الطريق الحق، وهو وصية الأنبياء لأبنائهم وذرياتهم من بعدهم، فما حال الراغبين عن ملة إبراهيم؟ وهل يُعقل أن يرغب عن هذه الملة الحنيفية أحد؟
الراغبون عن ملة إبراهيم
في قصص الأنبياء عليهم السلام عظات وعبر، ناسبت من نزل الوحي بين ظهرانيهم؛ بل هي ملائمة لكل النفوس البشرية من فجر الوحي، وحتى طلوع الشمس من مغربها.
فلما حدثنا الله عز وجل عن إبراهيم عليه السلام، وعن حنيفيته، وعن إسلامه، ونبذه للشرك والأصنام، وصوّر لنا حياته، ومواقفه مع أبيه، وقومه، والنمرود.
وكذلك مع أزواجه، وبنيه، وكيف أسكن من ذريته بوادٍ غير ذي زرع، وكيف دعا الناس إلى البيت العتيق، وأذن فيهم بالحج، وكيف صبر على الطاعة، وصبر على ما واجه من أذى، ودور سلامة المعتقد وأثر صفائه ونقائه في كل ذلك؛ تحدثنا أنفسنا حينها:
هل هناك من يرفض هذه العقيدة النقية والمحجة البيضاء، ويرغب عنها، إلى ما هو دونها من ظلام الجهل، وتخبط الضلال والتحريف؟
نعم، حتى هؤلاء حدثنا عنهم القرآن الكريم.
فمن هم الراغبون عن ملة إبراهيم عليه السلام؟ وكيف وصفهم الله تعالى؟
قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [البقرة: 30].
"يعني تعالى ذكره بقوله: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم)، وأي الناس يزهد في ملة إبراهيم، ويتركها رغبة عنها إلى غيرها؟
وإنما عنى الله بذلك اليهود والنصارى؛ لاختيارهم ما اختاروا من اليهودية والنصرانية على الإسلام. لأن ملة إبراهيم هي الحنيفية المسلمة، كما قال تعالى ذكره: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾ [آل عمران: 67]، فقال تعالى ذكره لهم: ومن يزهد عن ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة إلا من سفه نفسه." ([22])
معنى سفه نفسه:
"يعني تعالى ذكره بقوله: (إلا من سفه نفسه)، إلا من سفهت نفسه.
وقد بينا فيما مضى أن معنى السفه: الجهل.
فمعنى الكلام: وما يرغب عن ملة إبراهيم الحنيفية، إلا سفيه جاهل بموضع حظ نفسه فيما ينفعها، ويضرها في معادها." ([23])
سلام على إبراهيم
سلم الله إبراهيم عليه السلام من النار، وجعلها عليه برداً وسلاماً، وجعل له لسان صدق في الآخرين، وذكراً وثناءً حسناً.
وفوق ذلك قال تعالى: ﴿سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الصافات: 109 - 111].
"قوله (سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) يقول تعالى ذكره: أمَنَة من الله في الأرض لإبراهيم ألّا يذكر من بعده إلا بالجميل من الذكر.
وقوله (كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) يقول: كما جزينا إبراهيم على طاعته إيانا وإحسانه في الانتهاء إلى أمرنا، كذلك نجزي المحسنين (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) يقول: إن إبراهيم من عبادنا المخلصين لنا الإيمان." ([24])
وقد عظّم الله ذكر الذبيح عليه السلام، "ولما عظم الغلام، استأنف تعظيم والده بما يدل مع تشريفه على سلامته بقوله: (سلام على إبراهيم) أي سلامة له ولولده وتسليم وتحية وتكريم في الدارين، ولما كان هذا خطاباً لمن بعده عليه السلام، وهم كلهم محبون مجلون معظمون مبجلون لم يكن هناك حال يحوج إلى تأكيد فقال: (كذلك) أي: مثل هذا الجزاء العظيم (نجزي المحسنين) من غير أن يذكر (أن) المؤكدة، ولما كانت أهل الملل كلها متفقة على حبه، وكان كلهم يدعي اتباعه ورتبة قربه، قال معللاً لجزائه بهذا المدح في سياق التأكيد استعطافاً لهم إلى اتباعه في الإيمان، وتكذيباً لمن ينكر أن يكون الإيمان موجباً للإحسان: (إنه من عبادنا) أي الذين يستحقون الإضافة في العبودية والعبادة إلينا (المؤمنين) فلا يطمع أحد عري عن الإيمان في رتبة أتباعه." ([25])
عبر وهدايات من قصة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام
تربطنا نحن المسلمين والعرب، بهذا النبي الكريم رابطة دين، واعتقاد، ورابطة نسب.
فهو أب لبعض العرب كونهم أحفاده من بني إسماعيل، وهو أب للمسلمين من باب اتباعه والسير على نهجه.
وكم في قصته من عبر وإشارات وإرشادات لقريش خاصة، ولسائر العرب، والمسلمين عامة.
ومن الهدايات المستقاة من قصص هذا النبي الكريم:
أولاً: حسن الثبات في أوقات الأزمات:
ثبت عليه السلام عند مواجهة أبيه وقومه، وثبت عندما ألقي في النار، وبعد الخروج منها والهجرة إلى ربه.
قال تعالى: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات: 97 - 99].
وثبت بعد الرؤيا التي رأى فيها أنه يذبح ابنه، قال تعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾ [الصافات: 101 – 106].
ثانياً: البراءة من باطل المعبودات:
قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: 26 - 28].
وقال تعالى: ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾ [مريم: 47 – 48].
وفي هذه الآيات الكريمة تعريض بكفار خاصة، وبكل من كان كفره وجحوده تقليداً للآباء والأجداد، وفيها بيان للمفارقة البيّنة بين موقف إبراهيم عليه السلام، وكيف آثر اعتزال أبيه وقومه وبلده لأجل الحق، وبين موقف من يغرق في العيش وسط الباطل حتى يختم الله على سمعه وقلبه ويجعل على بصره غشاوة.
ثالثاً: شكر العطايا والهبات:
قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [إبراهيم: 39 – 41].
وقال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [النحل: 120 – 122].
رابعاً: توظيف المشاهد والكائنات في الدلالة على رب الأرباب والمعبودات:
قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 75 – 78].
خامساً: إكرام المسلمين بخير الدعوات:
قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 127 – 131].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 2/ 26، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
([2]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 38.
([3]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 39.
([4]) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 39.
([5]) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 40 - 44.
([6]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 18/ 605، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
([7]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 5/ 403، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.
([8]) تفسير القرآن العظيم، 5/ 402.
([9]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 18/ 608 - 610، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
([10]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 18/ 610.
([11]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 2/ 7، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
([12]) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 7 - 10.
([13]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 10، وقد ذكر الطبري خبرين في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم بين ضعفهما، والله أعلم.
([14]) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 1/ 595، تحقيق: أ.د حكمت بشير ياسين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.
([15]) تفسير القرآن العظيم، 1/ 595.
([16]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 2/ 20، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
([17]) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 20 - 23.
([18]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 23 - 24.
([19]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 6/ 492، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
([20]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 3/ 93، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
([21]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 3/ 93 - 94.
([22]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 3/ 89، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
([23]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 3/ 90.
([24]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، 21/ 91، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
([25]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين البقاعي، 6/ 330، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1432 هـ - 2011 م.