(القرآن الكريم وترجمته في الغرب - 1)
القرآن الكريم وترجمته في الغرب (1)
فرانسوا ديروشي
ترجمة: الدكتور وليد بن بليهش العمري (2)
تقديم بين يدي البحث
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه:
يختص صاحب البحث فرانسوا ديروش (François Déroche) – الأستاذ بجامعة السربون الفرنسية- بتاريخ الكتاب في العالم العربي عموماً، وأما تخصصه الدقيق فهو علم المخطوطات (codicology)، وعلم المخطوطات القديمة على وجه التحديد (palaeography)، وهو مشتغل بهذا الفن منذ زمن إذ أصدر كتاباً يرصد فيه المخطوطات القرآنية في المكتبة الوطنية الفرنسية عامي 1983-1985م (3)، وأصدر تباعاً عدداً من الكتب المتخصصة بعلم المخطوطات، كان من بين آخرها صدوراً كتاب بعنوان «تاريخ المخطوطات العربية» (4) عام 2004م، وله عدة دراسات وبحوث معمّقة في المخطوطات الإسلامية.
وقد أفاد كثيراً من تخصصه الدقيق هذا في إلقاء الضوء على بواكير مشروع ترجمة معاني القرآن الكريم في أوربا فقام بتتبع هذه المخطوطات في مظانها، ووقف عليها ودرسها دراسة دقيقة فاحصة، وله نظرات في استقراء هذه المخطوطات والتعرف حتى على الجانب المادي في ملامحها، استجلاءً للمعلومات التاريخية التي قد تبوح بها الأقلام التي تركت آثارها على هذه المخطوطات.
ويركز الباحث هنا على دراسة مخطوطات الترجمات الأوربية لمعاني القرآن الكريم في فترة العصور الوسطى - وهي الفترة في التاريخ الأوربي الممتدة ما بين انهيار الحضارة الرومانية، في القرن الميلادي الخامس، وحتى بداية عصر النهضة الذي يبدأ من القرن الثالث عشر – ويُلحق الباحث الترجمات المطبوعة الأولى بهذه الدراسة لغرض عملي وهو صعوبة فصل الحقبتين الزمنيتين: حقبة ما قبل الطباعة وما بعدها، وما للترجمات المطبوعة الأولى من علاقة وثيقة بالمخطوطات، لتأثر الجو العلمي السائد آنذاك بالإرث المخطوط والممارسات العلمية القائمة عليه.
إضافة إلى هذا فلم يكتفِ بدراسة هذا المخطوطات والوقوف عليها واستنباط النتائج منها بل إنه بسبب إلمامه الجيد بالتاريخ السياسي والاجتماعي في أوربا زاد على ذلك أنه أدخل البعد الاجتماعي والسياسي والتاريخي في قراءته لهذه المخطوطات، وبالتالي في إلقاء مزيد من الضوء على تاريخ ترجمة معاني القرآن الكريم في الغرب، وبهذا فإن البحث يتميز بكثير من الأصالة، مما يحقق الفائدة المرجوة من ترجمته إلى العربية، إفادةً للباحثين المتخصصين بترجمة معاني القرآن الكريم وبخاصة الجانب التاريخي منه.
كما يتميز البحث الذي بين أيدينا بحسن التوثيق، ودقة تقصي المعلومة، فالباحث لا يطلق عمومات لا داعم لها من أعمال علمية سابقة، بل حرص على الاستفادة من المصادر الأصيلة التي سبقته في بحث جوانب من تاريخ ترجمة معاني القرآن الكريم في أوربا.
ويحدد هذا البحث معالم حلقة أوسع في النقاش حول ترجمة معاني القرآن الكريم في أوربا، ولا عجب فترجمة معاني القرآن الكريم في أوربا تعد من أوائل الجهود المركزة والجادة لنقل معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى وإن كان الغرض منها كما سيأتي في ثنايا البحث ليس التثقيف بل الممانعة، ومحاولة التعرف على الآخر لإقناعه بأفضلية الغرب المسيحي ومحاولة كسب أتباع جدد لهذا الدين.
وأود التنبيه هنا على جانب لم يظهر في البحث كما يجب، وهو الجانب العدائي في الترجمات الأوربية الأولى لمعاني القرآن الكريم، وقد يعذر الباحث في هذا، لأنه ركز على الجانب المادي والتاريخي في هذه الترجمات، وكما شرط في أول بحثه لم يعمد إلى قراءتها وتفنيد ما جاء فيها (5).
وتبرز في البحث الملامح التالية لهذا التاريخ:
صعوبة الحصول على النص الأصل، وهو القرآن الكريم، وتاريخ ممانعة انتقاله من الآخر وإليه.
عدم توافر معينات المترجم، وأهمها المعاجم، لذا نجد أن بعض المترجمين لجؤوا إلى الاستفادة من أشخاص يعرفون لغة القرآن الكريم إما من العرب أو المسلمين أو المستعربين، ومن هذا يظهر أن الطرف الآخر لم يكن غائباً عن المعادلة، وإن كان في مرحلة التحليل في عملية الترجمة، وأما مرحلة البناء وتشكيل النص المترجم لم يكن حضورهم ذا تأثير يذكر، ويستعاض عنهم برجال الدين النصارى في كثير من الأحيان.
المعوقات والعقبات الكثيرة التي كان على المترجم أن يمر بها ويتخطاها من أجل أن يحقق الهدف الذي يصبو إليه.
أن الأماكن التي كانت بؤراً للصدام بين الإسلام والنصرانية –إسبانيا خاصةً- كانت هي التي تم فيها أول نقل لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية، وهي لغة العلم والدين في أوربا، ولغة الطبقة المتعلمة.
دور رجال الدين النصارى الكبير في تبني مشروع نقل معاني القرآن الكريم، إذ أشرفوا على إعداد هذه الترجمات، وقاموا على شأنها.
أن الغرض الأساس من الترجمة كان تدعيم المواقف من باب معرفة العدو، وبيان أوجه الضعف في موقفه، وجوانب تفوق ثقافة المترجم عليه.
تعد هذه الترجمات بحق أحداثاً ثقافية كبيرة، تركت أثرها الباقي على الصورة التي يحملها الغرب عن الإسلام والمسلمين بقدر ما حتى يومنا هذا وبخاصة ترجمة روبرت الكيتوني.
وأخيراً أو التأكيد على التالي فيما يخص منهجي في ترجمة البحث:
حرصت على تتبع أسماء الأعلام الواردة في ثنايا البحث، وكتبتها وفقاً للطريقة التي تشتهر بها في الكتابات العربية، وأتبعها في أول موضع لورودها في البحث باسم العلم بالحرف اللاتيني بين قوسين، ليسهل تتبعه في الأوعية العلمية.
ترجمت عناوين الكتب المحال إليها في البحث، تعميماً للفائدة، ولمن أراد الاستزادة بالرجوع إليها بنفسه.
قصرت التعليق على المواضع التي رأيت ضرورة ذلك فيها، إما لتوضيح أمر، أو لوضع آخر في نصابه.
أورد بعض الصور لصفحات من الترجمات الوارد ذكرها في البحث، تقريباً لما يدور حوله النقاش إلى ذهن القارئ.
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نُشر هذا البحث ضمن أبحاث ندوة اليونسكو العالمية حول رؤية الحضارات بعضها لبعض، المنعقدة في باريس في الفترة من 13-14 ديسمبر 2001م، والمعلومات التوثيقية للبحث هي كالتالي:
The Koran and its Western translation, François Déroche in
Civilizations: How we see others, how others see us
Proceedings of the International Symposium, Paris, 13 and 14 December 2001
© UNESCO 2003
(2) المترجم: د/ وليد بن بليهش العمري، باحث متخصص في دراسات الترجمة الحديثة، وله عناية خاصة بمجال ترجمة معاني القرآن الكريم، حيث صدر له عدد من البحوث في هذا المجال.
(3) وعنوان الكتاب هو:
Catalogue of the Qur'anic Manuscripts in the BNF.
(4) Le Livre Manuscript Arabe
(5) ولمعرفة هذا الجانب من تاريخ الترجمات الأوربية انظر:
- Denffer, Ahmad von, “History of the Translation of the Meanings of the Qur'an in Germany up to the Year 2000: A Survey”, Journal of Qur'anic Research and Studies, vol. 2, issue 3, 2007.
- محمد مهر علي، ”دراسات القرآن الكريم الاستشراقية“ (بحث باللغة الإنكليزية، وعنوانه: “Orientalist Studies of the Qur'an: A Historical Survey”)، صدر ضمن أوراق ندوة القرآن الكريم في الدراسات الاستشراقية، المنعقدة في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، في الفترة من 16-18/10/1427هـ.
* مرفق:
غلاف نسخة مطبوعة من ترجمة روبرت الكيتوني اللاتينية وهي الترجمة الأوربية الأولى لمعاني القرآن الكريم، ويظهر عليها كثيراً من التعليقات (المترجم)
القرآن الكريم وترجمته في الغرب (1)
فرانسوا ديروشي
ترجمة: الدكتور وليد بن بليهش العمري (2)
تقديم بين يدي البحث
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه:
يختص صاحب البحث فرانسوا ديروش (François Déroche) – الأستاذ بجامعة السربون الفرنسية- بتاريخ الكتاب في العالم العربي عموماً، وأما تخصصه الدقيق فهو علم المخطوطات (codicology)، وعلم المخطوطات القديمة على وجه التحديد (palaeography)، وهو مشتغل بهذا الفن منذ زمن إذ أصدر كتاباً يرصد فيه المخطوطات القرآنية في المكتبة الوطنية الفرنسية عامي 1983-1985م (3)، وأصدر تباعاً عدداً من الكتب المتخصصة بعلم المخطوطات، كان من بين آخرها صدوراً كتاب بعنوان «تاريخ المخطوطات العربية» (4) عام 2004م، وله عدة دراسات وبحوث معمّقة في المخطوطات الإسلامية.
وقد أفاد كثيراً من تخصصه الدقيق هذا في إلقاء الضوء على بواكير مشروع ترجمة معاني القرآن الكريم في أوربا فقام بتتبع هذه المخطوطات في مظانها، ووقف عليها ودرسها دراسة دقيقة فاحصة، وله نظرات في استقراء هذه المخطوطات والتعرف حتى على الجانب المادي في ملامحها، استجلاءً للمعلومات التاريخية التي قد تبوح بها الأقلام التي تركت آثارها على هذه المخطوطات.
ويركز الباحث هنا على دراسة مخطوطات الترجمات الأوربية لمعاني القرآن الكريم في فترة العصور الوسطى - وهي الفترة في التاريخ الأوربي الممتدة ما بين انهيار الحضارة الرومانية، في القرن الميلادي الخامس، وحتى بداية عصر النهضة الذي يبدأ من القرن الثالث عشر – ويُلحق الباحث الترجمات المطبوعة الأولى بهذه الدراسة لغرض عملي وهو صعوبة فصل الحقبتين الزمنيتين: حقبة ما قبل الطباعة وما بعدها، وما للترجمات المطبوعة الأولى من علاقة وثيقة بالمخطوطات، لتأثر الجو العلمي السائد آنذاك بالإرث المخطوط والممارسات العلمية القائمة عليه.
إضافة إلى هذا فلم يكتفِ بدراسة هذا المخطوطات والوقوف عليها واستنباط النتائج منها بل إنه بسبب إلمامه الجيد بالتاريخ السياسي والاجتماعي في أوربا زاد على ذلك أنه أدخل البعد الاجتماعي والسياسي والتاريخي في قراءته لهذه المخطوطات، وبالتالي في إلقاء مزيد من الضوء على تاريخ ترجمة معاني القرآن الكريم في الغرب، وبهذا فإن البحث يتميز بكثير من الأصالة، مما يحقق الفائدة المرجوة من ترجمته إلى العربية، إفادةً للباحثين المتخصصين بترجمة معاني القرآن الكريم وبخاصة الجانب التاريخي منه.
كما يتميز البحث الذي بين أيدينا بحسن التوثيق، ودقة تقصي المعلومة، فالباحث لا يطلق عمومات لا داعم لها من أعمال علمية سابقة، بل حرص على الاستفادة من المصادر الأصيلة التي سبقته في بحث جوانب من تاريخ ترجمة معاني القرآن الكريم في أوربا.
ويحدد هذا البحث معالم حلقة أوسع في النقاش حول ترجمة معاني القرآن الكريم في أوربا، ولا عجب فترجمة معاني القرآن الكريم في أوربا تعد من أوائل الجهود المركزة والجادة لنقل معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى وإن كان الغرض منها كما سيأتي في ثنايا البحث ليس التثقيف بل الممانعة، ومحاولة التعرف على الآخر لإقناعه بأفضلية الغرب المسيحي ومحاولة كسب أتباع جدد لهذا الدين.
وأود التنبيه هنا على جانب لم يظهر في البحث كما يجب، وهو الجانب العدائي في الترجمات الأوربية الأولى لمعاني القرآن الكريم، وقد يعذر الباحث في هذا، لأنه ركز على الجانب المادي والتاريخي في هذه الترجمات، وكما شرط في أول بحثه لم يعمد إلى قراءتها وتفنيد ما جاء فيها (5).
وتبرز في البحث الملامح التالية لهذا التاريخ:
صعوبة الحصول على النص الأصل، وهو القرآن الكريم، وتاريخ ممانعة انتقاله من الآخر وإليه.
عدم توافر معينات المترجم، وأهمها المعاجم، لذا نجد أن بعض المترجمين لجؤوا إلى الاستفادة من أشخاص يعرفون لغة القرآن الكريم إما من العرب أو المسلمين أو المستعربين، ومن هذا يظهر أن الطرف الآخر لم يكن غائباً عن المعادلة، وإن كان في مرحلة التحليل في عملية الترجمة، وأما مرحلة البناء وتشكيل النص المترجم لم يكن حضورهم ذا تأثير يذكر، ويستعاض عنهم برجال الدين النصارى في كثير من الأحيان.
المعوقات والعقبات الكثيرة التي كان على المترجم أن يمر بها ويتخطاها من أجل أن يحقق الهدف الذي يصبو إليه.
أن الأماكن التي كانت بؤراً للصدام بين الإسلام والنصرانية –إسبانيا خاصةً- كانت هي التي تم فيها أول نقل لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية، وهي لغة العلم والدين في أوربا، ولغة الطبقة المتعلمة.
دور رجال الدين النصارى الكبير في تبني مشروع نقل معاني القرآن الكريم، إذ أشرفوا على إعداد هذه الترجمات، وقاموا على شأنها.
أن الغرض الأساس من الترجمة كان تدعيم المواقف من باب معرفة العدو، وبيان أوجه الضعف في موقفه، وجوانب تفوق ثقافة المترجم عليه.
تعد هذه الترجمات بحق أحداثاً ثقافية كبيرة، تركت أثرها الباقي على الصورة التي يحملها الغرب عن الإسلام والمسلمين بقدر ما حتى يومنا هذا وبخاصة ترجمة روبرت الكيتوني.
وأخيراً أو التأكيد على التالي فيما يخص منهجي في ترجمة البحث:
حرصت على تتبع أسماء الأعلام الواردة في ثنايا البحث، وكتبتها وفقاً للطريقة التي تشتهر بها في الكتابات العربية، وأتبعها في أول موضع لورودها في البحث باسم العلم بالحرف اللاتيني بين قوسين، ليسهل تتبعه في الأوعية العلمية.
ترجمت عناوين الكتب المحال إليها في البحث، تعميماً للفائدة، ولمن أراد الاستزادة بالرجوع إليها بنفسه.
قصرت التعليق على المواضع التي رأيت ضرورة ذلك فيها، إما لتوضيح أمر، أو لوضع آخر في نصابه.
أورد بعض الصور لصفحات من الترجمات الوارد ذكرها في البحث، تقريباً لما يدور حوله النقاش إلى ذهن القارئ.
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نُشر هذا البحث ضمن أبحاث ندوة اليونسكو العالمية حول رؤية الحضارات بعضها لبعض، المنعقدة في باريس في الفترة من 13-14 ديسمبر 2001م، والمعلومات التوثيقية للبحث هي كالتالي:
The Koran and its Western translation, François Déroche in
Civilizations: How we see others, how others see us
Proceedings of the International Symposium, Paris, 13 and 14 December 2001
© UNESCO 2003
(2) المترجم: د/ وليد بن بليهش العمري، باحث متخصص في دراسات الترجمة الحديثة، وله عناية خاصة بمجال ترجمة معاني القرآن الكريم، حيث صدر له عدد من البحوث في هذا المجال.
(3) وعنوان الكتاب هو:
Catalogue of the Qur'anic Manuscripts in the BNF.
(4) Le Livre Manuscript Arabe
(5) ولمعرفة هذا الجانب من تاريخ الترجمات الأوربية انظر:
- Denffer, Ahmad von, “History of the Translation of the Meanings of the Qur'an in Germany up to the Year 2000: A Survey”, Journal of Qur'anic Research and Studies, vol. 2, issue 3, 2007.
- محمد مهر علي، ”دراسات القرآن الكريم الاستشراقية“ (بحث باللغة الإنكليزية، وعنوانه: “Orientalist Studies of the Qur'an: A Historical Survey”)، صدر ضمن أوراق ندوة القرآن الكريم في الدراسات الاستشراقية، المنعقدة في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، في الفترة من 16-18/10/1427هـ.
* مرفق:
غلاف نسخة مطبوعة من ترجمة روبرت الكيتوني اللاتينية وهي الترجمة الأوربية الأولى لمعاني القرآن الكريم، ويظهر عليها كثيراً من التعليقات (المترجم)
(القرآن الكريم وترجمته في الغرب - 1)
القرآن الكريم وترجمته في الغرب (1)
فرانسوا ديروشي
ترجمة: الدكتور وليد بن بليهش العمري (2)
تقديم بين يدي البحث
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه:
يختص صاحب البحث فرانسوا ديروش (François Déroche) – الأستاذ بجامعة السربون الفرنسية- بتاريخ الكتاب في العالم العربي عموماً، وأما تخصصه الدقيق فهو علم المخطوطات (codicology)، وعلم المخطوطات القديمة على وجه التحديد (palaeography)، وهو مشتغل بهذا الفن منذ زمن إذ أصدر كتاباً يرصد فيه المخطوطات القرآنية في المكتبة الوطنية الفرنسية عامي 1983-1985م (3)، وأصدر تباعاً عدداً من الكتب المتخصصة بعلم المخطوطات، كان من بين آخرها صدوراً كتاب بعنوان «تاريخ المخطوطات العربية» (4) عام 2004م، وله عدة دراسات وبحوث معمّقة في المخطوطات الإسلامية.
وقد أفاد كثيراً من تخصصه الدقيق هذا في إلقاء الضوء على بواكير مشروع ترجمة معاني القرآن الكريم في أوربا فقام بتتبع هذه المخطوطات في مظانها، ووقف عليها ودرسها دراسة دقيقة فاحصة، وله نظرات في استقراء هذه المخطوطات والتعرف حتى على الجانب المادي في ملامحها، استجلاءً للمعلومات التاريخية التي قد تبوح بها الأقلام التي تركت آثارها على هذه المخطوطات.
ويركز الباحث هنا على دراسة مخطوطات الترجمات الأوربية لمعاني القرآن الكريم في فترة العصور الوسطى - وهي الفترة في التاريخ الأوربي الممتدة ما بين انهيار الحضارة الرومانية، في القرن الميلادي الخامس، وحتى بداية عصر النهضة الذي يبدأ من القرن الثالث عشر – ويُلحق الباحث الترجمات المطبوعة الأولى بهذه الدراسة لغرض عملي وهو صعوبة فصل الحقبتين الزمنيتين: حقبة ما قبل الطباعة وما بعدها، وما للترجمات المطبوعة الأولى من علاقة وثيقة بالمخطوطات، لتأثر الجو العلمي السائد آنذاك بالإرث المخطوط والممارسات العلمية القائمة عليه.
إضافة إلى هذا فلم يكتفِ بدراسة هذا المخطوطات والوقوف عليها واستنباط النتائج منها بل إنه بسبب إلمامه الجيد بالتاريخ السياسي والاجتماعي في أوربا زاد على ذلك أنه أدخل البعد الاجتماعي والسياسي والتاريخي في قراءته لهذه المخطوطات، وبالتالي في إلقاء مزيد من الضوء على تاريخ ترجمة معاني القرآن الكريم في الغرب، وبهذا فإن البحث يتميز بكثير من الأصالة، مما يحقق الفائدة المرجوة من ترجمته إلى العربية، إفادةً للباحثين المتخصصين بترجمة معاني القرآن الكريم وبخاصة الجانب التاريخي منه.
كما يتميز البحث الذي بين أيدينا بحسن التوثيق، ودقة تقصي المعلومة، فالباحث لا يطلق عمومات لا داعم لها من أعمال علمية سابقة، بل حرص على الاستفادة من المصادر الأصيلة التي سبقته في بحث جوانب من تاريخ ترجمة معاني القرآن الكريم في أوربا.
ويحدد هذا البحث معالم حلقة أوسع في النقاش حول ترجمة معاني القرآن الكريم في أوربا، ولا عجب فترجمة معاني القرآن الكريم في أوربا تعد من أوائل الجهود المركزة والجادة لنقل معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى وإن كان الغرض منها كما سيأتي في ثنايا البحث ليس التثقيف بل الممانعة، ومحاولة التعرف على الآخر لإقناعه بأفضلية الغرب المسيحي ومحاولة كسب أتباع جدد لهذا الدين.
وأود التنبيه هنا على جانب لم يظهر في البحث كما يجب، وهو الجانب العدائي في الترجمات الأوربية الأولى لمعاني القرآن الكريم، وقد يعذر الباحث في هذا، لأنه ركز على الجانب المادي والتاريخي في هذه الترجمات، وكما شرط في أول بحثه لم يعمد إلى قراءتها وتفنيد ما جاء فيها (5).
وتبرز في البحث الملامح التالية لهذا التاريخ:
صعوبة الحصول على النص الأصل، وهو القرآن الكريم، وتاريخ ممانعة انتقاله من الآخر وإليه.
عدم توافر معينات المترجم، وأهمها المعاجم، لذا نجد أن بعض المترجمين لجؤوا إلى الاستفادة من أشخاص يعرفون لغة القرآن الكريم إما من العرب أو المسلمين أو المستعربين، ومن هذا يظهر أن الطرف الآخر لم يكن غائباً عن المعادلة، وإن كان في مرحلة التحليل في عملية الترجمة، وأما مرحلة البناء وتشكيل النص المترجم لم يكن حضورهم ذا تأثير يذكر، ويستعاض عنهم برجال الدين النصارى في كثير من الأحيان.
المعوقات والعقبات الكثيرة التي كان على المترجم أن يمر بها ويتخطاها من أجل أن يحقق الهدف الذي يصبو إليه.
أن الأماكن التي كانت بؤراً للصدام بين الإسلام والنصرانية –إسبانيا خاصةً- كانت هي التي تم فيها أول نقل لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية، وهي لغة العلم والدين في أوربا، ولغة الطبقة المتعلمة.
دور رجال الدين النصارى الكبير في تبني مشروع نقل معاني القرآن الكريم، إذ أشرفوا على إعداد هذه الترجمات، وقاموا على شأنها.
أن الغرض الأساس من الترجمة كان تدعيم المواقف من باب معرفة العدو، وبيان أوجه الضعف في موقفه، وجوانب تفوق ثقافة المترجم عليه.
تعد هذه الترجمات بحق أحداثاً ثقافية كبيرة، تركت أثرها الباقي على الصورة التي يحملها الغرب عن الإسلام والمسلمين بقدر ما حتى يومنا هذا وبخاصة ترجمة روبرت الكيتوني.
وأخيراً أو التأكيد على التالي فيما يخص منهجي في ترجمة البحث:
حرصت على تتبع أسماء الأعلام الواردة في ثنايا البحث، وكتبتها وفقاً للطريقة التي تشتهر بها في الكتابات العربية، وأتبعها في أول موضع لورودها في البحث باسم العلم بالحرف اللاتيني بين قوسين، ليسهل تتبعه في الأوعية العلمية.
ترجمت عناوين الكتب المحال إليها في البحث، تعميماً للفائدة، ولمن أراد الاستزادة بالرجوع إليها بنفسه.
قصرت التعليق على المواضع التي رأيت ضرورة ذلك فيها، إما لتوضيح أمر، أو لوضع آخر في نصابه.
أورد بعض الصور لصفحات من الترجمات الوارد ذكرها في البحث، تقريباً لما يدور حوله النقاش إلى ذهن القارئ.
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نُشر هذا البحث ضمن أبحاث ندوة اليونسكو العالمية حول رؤية الحضارات بعضها لبعض، المنعقدة في باريس في الفترة من 13-14 ديسمبر 2001م، والمعلومات التوثيقية للبحث هي كالتالي:
The Koran and its Western translation, François Déroche in
Civilizations: How we see others, how others see us
Proceedings of the International Symposium, Paris, 13 and 14 December 2001
© UNESCO 2003
(2) المترجم: د/ وليد بن بليهش العمري، باحث متخصص في دراسات الترجمة الحديثة، وله عناية خاصة بمجال ترجمة معاني القرآن الكريم، حيث صدر له عدد من البحوث في هذا المجال.
(3) وعنوان الكتاب هو:
Catalogue of the Qur'anic Manuscripts in the BNF.
(4) Le Livre Manuscript Arabe
(5) ولمعرفة هذا الجانب من تاريخ الترجمات الأوربية انظر:
- Denffer, Ahmad von, “History of the Translation of the Meanings of the Qur'an in Germany up to the Year 2000: A Survey”, Journal of Qur'anic Research and Studies, vol. 2, issue 3, 2007.
- محمد مهر علي، ”دراسات القرآن الكريم الاستشراقية“ (بحث باللغة الإنكليزية، وعنوانه: “Orientalist Studies of the Qur'an: A Historical Survey”)، صدر ضمن أوراق ندوة القرآن الكريم في الدراسات الاستشراقية، المنعقدة في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، في الفترة من 16-18/10/1427هـ.
* مرفق:
غلاف نسخة مطبوعة من ترجمة روبرت الكيتوني اللاتينية وهي الترجمة الأوربية الأولى لمعاني القرآن الكريم، ويظهر عليها كثيراً من التعليقات (المترجم)