إقراء القرآن بمصر (وفيه ترجمة الشيخ عامر عثمان)
الكاتب: د. محمود الطناحي رحمه الله
من مجلة «الهلال»، مارس 1993 م.
في عدد يوليو 1992 م من «الهلال» كتبت كلمة عن «الشيخ مصطفى إسماعيل وقراء مصر»، جعلتها تحية وصلة لكتاب أستاذنا الكبير الناقد الشاعر كمال النجمي، عن الشيخ مصطفى إسماعيل رحمه الله.
والحديث عن قراءة القرآن وإقرائه بمصر، لا بد فيه من التفرقة بين «القارئ» و «المقرئ»، ومعروف أن لمصر في الفريقين تاريخاً عريضاً وأياماً زاهية.
فالقارئ: هو الذي يقرأ لنفسه وقد يسمعه غيره. والمقرئ: هو الذي يُقرئ غيره، تعليماً وتوجيهاً، وتقول اللغة: «رجل قارئ، من قوم قراء وقَرَأه - بوزن فَعَلَة - وقارئين، وأقرأ غيره يُقرئه إقراءً، ومنه قيل: فلان المقرئ». وبهذه التفرقة بين الفعل اللازم والفعل المتعدي يحسن أن نقول عن الذي يقرأ بصوت حسن في المناسبات وفي الإذاعة، كالشيخ مصطفى إسماعيل ومن إليه، قارئ، ونقول عن الذي يحفَّظ الصغار في الكتاتيب وجماعات تحفيظ القرآن: مقرئ.
على أنه قد يجتمع الفريقان في جمع التكسير، فيقال: «القُرَّاء» لمن يقرأ ولمن يُقرئ، وعلى هذا سمَّى الحافظ الذهبي كتابه: «معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار»، وابن الجزري كتابه: «غاية النهاية في اختصار طبقات القراء».
على أن «للمقرئ» في تاريخنا التراثي معنى أوسع وأشمل من مجرد تحفيظ القرآن للصغار ومن فوقهم. فالمقرئ: هو ذلك العالم الذي يعرف القراءات القرآنية: رواية ودراية، بحيث يكون قادراً على جَمْع الطرق والروايات، ومعرفة وجوه الخلاف بين القراء، والاحتجاج للقراءات وتوجيهها من لغة العرب، ويكون أيضاً متقناً لطرق الأداء - وهو ما يُعرف الآن بعلم التجويد - ووقوف القرآن: الكافي منها والتام والحسن، ثم يتلقى الناس عنه ذلك كله مشافهة وسماعاً.
وقد نبغ في كل زمان ومكان من قاموا بهذا الأمر على خير وجه، فضلاً من الله وحياطة لكتابه وحفظاً له، ولم يكن لمصر على سواها من الدول العربية والإسلامية فضل وزيادة، فهو رزق الله المقسَّم على خلقه شرقاً وغرباً، ليتم وعده {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)} [الحجر: 9]، {ولقد يسرنا القرآن للذكر} [القمر: 17]، لكن الأمر كاد يخلص لمصر في القرنين الأخيرين، فتربع قراؤها على عرش الإقراء والقراءة: رواية ودراية وجمال صوت، وصارت الرحلة إليهم من الشرق ومن الغرب، ويرجع ذلك إلى أسباب كثيرة ذكرتها في مقالتي عن «الشيخ مصطفى إسماعيل».
ويذكر التاريخ أسماء عظيمة لمعت في سماء مصر في القرنين الأخيرين، وخدمت كتاب الله إقراءً وتأليفاً. ومنهم الشيخ محمد أحمد المتولي المتوفى سنة 1313 هـ = 1895 م، والشيخ محمد مكي نصر المتوفى بعد سنة 1308 هـ، وهو صاحب أعظم كتاب في طرق الأداء وصفات الحروف ومخارجها «نهاية القول المفيد في علم التجويد»، والشيخ علي محمد الضبَّاع المتوفى سنة 1380 هـ = 1961 م.
ومن المعاصرين: الشيخ المقرئ العالم عبد الفتاح عبد الغني القاضي المتوفى سنة 1403 هـ = 1982 م، والشيخ إبراهيم علي شحاتة المقيم الآن بسمَنُّود، والشيخ أحمد عبد العزيز أحمد محمد الزيات، الأستاذ بكلية القرآن بالمدينة النبوية الآن، ويقال: إن الشيخ الزيات هو أعلى القراء الآن إسناداً (وعلو الإسناد معناه قلة
الوسائط بين القارئ الآن، وبين القارئ الأول، وهو المصطفى صلى الله عليه وسلم بما نزل به جبريل عليه السلام، عن رب العزة والجلال).
الشيخ عامر عثمان:
ويقف سيدي وشيخي الشيخ عامر السيد عثمان بين هؤلاء الكوكبة من القراء المعاصرين في مكان ضخم بارز، فهو أكثرهم إقراء للناس، واتصالًا بهم، وتأثيراً فيهم.
وقد عرفته منذ عشرين عاماً قبل وفاته حين بدأ العمل في تحقيق كتاب «لطائف الإشارات في علم القراءات» لشهاب الدين القسطلَّاني، شارح البخاري، المتوفى سنة 923 هـ، بالاشتراك مع الدكتور عبد الصبور شاهين.
وكان الشيخ يتردد على دار الكتب المصرية ومعهد المخطوطات - وكنت يومئذ أعمل به - فشدَّني إليه، ورغَّبني فيه، ودعاني إلى حلقته العامرة الممتدة على أيام الأسبوع كله، فوقفت منه على علم غزير جم، وتمثلت فيه وبه هذه الأوصاف الضافية التي تأتي في كتب التراجم والطبقات، ويظنها من لا علم عنده بتاريخ الأمة، وأحوال الرجال، من المبالغات والتهاويل التي يغص بها تاريخنا ... زعموا!
نعم رأيت في هذا الشيخ الجليل كثيراً مما كنت أقرأه في طبقات القراء والمحدثين والفقهاء والأدباء: من سعة الرواية، وكثرة الحفظ، وجمع الطرق، ودقة الضبط، وتحرير الرواية، وحسن الإتقان.
ولد شيخنا الشيخ عامر، رحمه الله، بقرية «ملامس» مركز منيا القمح، محافظة الشرقية، في 16 مايو سنة 1900 م. وحفظ القرآن الكريم بمكتب الشيخ عطية سلامة، وأئمة ولم يتجاوز التاسعة من عمره، ثم أرسله والده إلى المسجد الأحمدي بطنطا، وتلقى القرآن بقراءة الإمام نافع المدني، من فم عالم القراءات الشيخ السعودي. وقد أُوتي الشيخ عامر في صباه حظاً من حسن الصوت أهَّله لأن يكون قارئاً مرموقاً بمحافظة الشرقية، يقرأ في الليالي والمناسبات، وهو طريق جالب
للرزق الواسع والشهرة المستفيضة، ولكنه عزف عن ذلك وولى وجهه شطر القاهرة، حيث الأزهر الشريف، وأئمة القراءة والإقراء.
وفي القاهرة أخذ في القراءة والتلقي والمشافهة والعرض والسماع، فتلقى القراءات العشر الصغرى من طريق الشاطبية والدرة، على الشيخ محمد غنيم، وهو على الشيخ حسن الجريسي الكبير، وهو على العلامة المقرئ أحمد الدري التهامي، وسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، معروف.
ثم تلقى القراءات العشر الكبرى على الشيخ علي عبد الرحمن سبيع، من أول القرآن إلى قوله تعالى في سورة هود (وقال اركبوا فيها)، ثم إن الشيخ عليّاً أرسل خلف الشيخ عامر يقول له: سوف نبدأ بعد ثلاثة أيام، فقال له الشيخ عامر: كيف سنبدأ بعد ثلاثة أيام يا سيدي ونحن قد وصلنا إلى قوله تعالى: (وقال اركبوا فيها)؟ فقال له الشيخ علي: «بعدين ح تعرف»، ثم توفي الشيخ بعد ثلاثة أيام من هذا الكلام. وكان شيخنا الشيخ عامر إذا ذكر هذه القصة اغرورقت عيناه بالدموع، ويقول: «فكان معنى كلام الشيخ علي أن أيام الآخرة بالنسبة له ستبدأ بعد ثلاثة أيام»، وتوفي الشيخ علي سبيعة سنة 1927 م.
ثم إن الشيخ عامر شرع في ختمة جديدة على تلميذ الشيخ علي سبيع، وهو الشيخ همام قطب، فقرأ عليه ختمة كاملة بالقراءات العشر الكبرى، من طريق الطيَّبة بالتحرير والإتقان، وقرأ الشيخ همام على الشيخ علي سبيع المذكور، وهو على الشيخ حسن الجريسي الكبير، وهو على الشيخ محمد المتولي، وهو على الشيخ أحمد الدري التهامي، وسنده معروف.
حلقة للإقراء بالأزهر:
وهكذا عرف شيخنا الطريق ولزمه. وبعد أن رسخت قدمه في هذا العلم، رواية ودراية، اتخذ لنفسه حلقة بالجامع الأزهر سنة 1935 م للإقراء والتدريس، وكان في أثناء ذلك مكباً على مخطوطات القراءات بالمكتبة الأزهرية ودار الكتب
المصرية، يقرأ وينسخ، فظهر نبوغه ولفت إليه الأنظار، فاتصل به الشيخ علي محمد الضبَّاع، شيخ المقارئ المصرية يومئذ، واستعان في تحقيقات القراءات العشر الكبرى.
وكان رحمه الله حجة في رسم المصحف الشريف، وقد شارك في تصحيح ومراجعة كثير من المصاحف التي طبعت بمطابع الحلبي والشمرلي، والمطبعة الملكية في عهد الملك فؤاد والملك فاروق رحمهما الله.
وحين أنشئ معهد القراءات تابعاً لكلية اللغة العربية بالأزهر الشريف، سنة 1943 م كان الشيخ على رأس مشايخه وأساتذته، فتخرَّجت على يديه هذه الأجيال الكريمة من خدمة كتاب الله والعارفين بعلومه وقراءاته بمصر وخارج مصر.
ولما أنشأت مصر - غير مسبوقة - إذاعة القرآن الكريم سنة 1963 م، وقدمت من خلالها (المصحف المرتل) أشرف الشيخ على التسجيلات الأولى من هذا المشروع العظيم، وكانت بأصوات المشايخ: محمود خليل الحصري، ومصطفى إسماعيل، ومحمد صديق المنشاوي، وعبد الباسط عبد الصمد، ومحمود علي البنا رحمهم الله أجمعين.
وعلى ذكر الإذاعة فقد كان شيخنا عضواً بارزاً في لجنة اختيار القراء، وكان سيفاً بتاراً، حازماً صارماً في غربلة الأصوات وإجادتها، ولم يكن يقبل الميوعة أو تجاوز الأصول في القراءة والأداء، وطالما اشتكى منه القراء، ورموه بالتعسف والتشدد، وضغطوا عليه بوسائل شتى، ولكنه لم يلن ولم يضعف، وكذلك كان يفعل في لجنة اختيار القراء الذين ترسلهم وزارة الأوقاف المصرية إلى البلدان العربية والإسلامية في شهر رمضان. وقد حُورِب كثيراً في لجنة اختيار القراء بالإذاعة المصرية، وطُلب إقصاؤه أكثر من مرة، وكان الذي يقف وراءه مدافعاً ومنافحاً: الشَّاعر الفحل محمود حسن إسماعيل، إذ كان مستشاراً ثقافيّاً بالإذاعة المصرية، رحمهما الله تعالى.
مؤلفات الشيخ:
شُغل الشيخ رحمه الله بالإقراء أيامه كلها، فلم يجد وقتاً متسعاً للتصنيف، ولكن الله سبحانه يسَّر له أن يترك بعض الآثار العلمية في فن القراءات، حتى تكون باعثاً لمن يطالعها أن يدعو له بالمغفرة والرضوان. فمما يحضرني الآن هذه التصانيف الآتية، ولست أدَّعي فيها الحصر:
1 - فتح القدير شرح تنقيح التحرير (في تحرير أوجه القراءات العشر من طريق الطيَّبة).
2 - شرح على منظومة العلامة الشيخ إبراهيم علي شحاتة السمنُّودي، أبقاه الله، في تحرير طرق ابن كثير وشعبة. فرغ منه يوم الجمعة 25 من صفر سنة 1382 هـ.
3 - تنقيح فتح الكريم في تحرير أوجه القرآن العظيم، بالاشتراك مع الشيخ إبراهيم علي شحاته والشيخ أحمد عبد العزيز الزيات. وهو نظم منقح من منظومة فتح الكريم في تحرير أوجه القرآن العظيم، للعلامة شيخ القراء في وقته الشيخ محمد بن أحمد المتولي، المذكور قبل.
4 - كيف يُتلى القرآن، وهي رسالة موجزة محررة في تجويد القرآن: سمَّاها: إملاء ما منَّ به الرحمن على عبده عامر بن السيد عثمان في أحكام تلاوة القرآن. وقد أملاها على أحد تلاميذه الذين يحضرون مقارئه، وهو الطيب الجراح الدكتور حسنى حجازي، رحمه الله. وقد صدرت الطبعة الثانية من هذه الرسالة سنة 1390 هـ = 1970 م.
5 - تحقيق الجزء الأول من كتاب «لطائف الإشارات» الذي ذكرته من قبل. صدر عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة عام 1392، ولعل المجلس ينشط في طبع بقيته.
6 - أعان الأستاذ الدكتور شوقي ضيف في تحقيق كتاب «السبعة» لابن مجاهد، الذي نشرته دار المعارف بمصر أول مرة سنة 1392 هـ = 1972 م. وذلك بمراجعة كتابة آياته الكريمة على هجاء المصاحف المصرية المضبوطة، على ما يوافق رواية حفص عن عاصم، والمطابقة لما رواه علماء الرسم عن هجاء المصاحف التي بعث بها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار الإسلامية.
7 - وكانت آخر أعمال الشيخ مشاركته في لجنة طبع مصحف الملك فهد بن عبد العزيز، الذي صدر بالمدينة النبوية عام 1405 هـ.
فهذا ما يحضرني الآن مما تركه الشيخ من علم مسطور مكتوب. أما أبقى أثر للشيخ وأخلده وأرجحه في موازينه إن شاء الله تعالى، فهو تلك المقارئ التي جلس فيها جلوساً عاماً للناس، وقد شغلت هذه المقارئ أيامه كلها، وأشهر هذه المقارئ مقرأة الإمام الشافعي يوم الجمعة، وقد أسندت إليه مشيختها عام 1947 م وكان عدد الذين يحضرونها من القراء الرسميين أو المعتمدين من وزارة الأوقاف المصرية محدوداً جداً بجانب مختلف طوائف الناس التي كانت تحضر تلك المقرأة وغيرها من المقارئ، فكنت ترى الطبيب والمهندس والضابط والمحامي والموظف والتاجر والحرفي، والفتى الصغير، والشاب اليافع، والشيخ الفاني، مختلف الأعمار والمهن، يتحلقون حول الشيخ؛ يقرأون ويصحح، عيونهم مشدودة إلى شفتيه، وهو يروَّضهم على النطق الصحيح، يصبر على الضعيف حتى يقوى، ويرفُق بالمتعثر حتى يستقيم، لا يسأم ولا يمل، ولا زلت أذكره - رحمه الله - وهو يروَّض بعض إخواننا على ترقيق اللام من قوله تعالى: {رب إنهن أضللن} [إبراهيم: 36]، وكان عسراً على هذا الأخ أن يرقق اللام بعد الضاد، فكان شيخنا يقرأ أمامه (أضللن) على مقطعين هكذا: (أضْ) (لَلْن) ويكرر المقطعين منفردين ثم يقرأهما معاً حتى يخلص له الترقيق المراد. وكذلك لا زلت أذكره وهو يروَّضنا على الخروج من التفخيم إلى الترقيق وبالعكس، في قوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [الأنبياء: 28]، فأنت هنا تفخم الراء وإن كان قبلها كسر؛ لأنه كسر عارض للتخلص من التقاء الساكنين، ثم ترقق التاء وتعود إلى تفخيم الضاد، وهكذا كنت تقضي العجب وأنت تنظر إلى حركة فكيه وشفتيه وجريان لسانه في إعطاء كل حرف حقه ومستحقه: من الهمس والجهر والغنة والإظهار والإخفاء والإقلاب والفك والإدغام، وغير ذلك من دقائق الصوتيات، مما لا تستطيع معامل الأصوات أن تنقله بدقة إلى الطالب لأن هذا العلم - علم الأداء - قائم على التلقي والمشافهة.
ولو كان لي من الأمر شيء لأتيت بشيخ من علماء القراءات في كل قسم من أقسام اللغة العربية بجامعتنا ليعمل على تدريب الطلبة على الأداء الصحيح والنطق السليم، بجانب معامل الأصوات الحديثة. وهؤلاء المشايخ (الغلابة) لن يأخذوا من الأجر أكثر مما تستهلكه هذه المعاملة من طاقة وكهرباء، بل إني أذهب إلى أبعد من هذا في التمني: وهو أن يعين شيخ من هؤلاء القراء مشرفاً خارجيّاً مع المشرف الأكاديمي لكل رسالة علمية (ماجستير أو دكتوراه) تتصل بعلم القراءات من قريب أو بعيد.
ومن تفتن شيخنا في مجال الأداء الصوتي: أنه كان يأخذنا إلى تفرقة دقيقة لطيفة، في الوقف على الراء من قوله تعالى: {فكيف كان عذابي ونذر (16)} [القمر: 16]، وقوله عزَّ وجلّ: {كذبت ثمود بالنذر (23)} [القمر: 23]، فالراء في الآية الأولى يستحسن أن يوقف عليها بترقيق لطيف يشعر بالياء المحذوفة؛ لأن أصلها (ونُذُري) بإثبات ياء الإضافة، وقرأ بها ورش بن سعيد المصري، عن نافع المدني. ومن القراء المعاصرين الذين سمعتهم يراعون ذلك الترقيق اللطيف المشايخ: محمود خليل الحصري، ومحمود حسين منصور، ومحمد صديق المنشاوي.
أما الراء في الآية الثانية فيوقف عليها بالتفخيم الخالص؛ لأنها جمع نذير.
وأما «النبَّر» في مصطلح علم اللغة الحديث - وهو النظام المقطعي في قراءة الكلمة، فقد كان الشيخ رحمه الله آية فيه، وقد سألته عنه يوماً، فقال لي: «إن القراء لم يذكروا هذا المصطلح، ولكنه بهذه الصفة يمكن أن يُسمَّى «التخليص» أي تخليص مقطع من مقطع». وها أنا ذا أضع هذا المصطلح أمام علماء اللغة الحدثين ليروا فيه رأيهم، ولعلهم يحلونه «النبر». وقد سمعت لهذا «التلخيص» من الشيخ أمثلة كثيرة جداً، أذكر منها قوله تعالى: {فسقى لهما ثم تولى إلى الظل} [القصص: 24]، وقوله تعالى: {فقست قلوبهم} [الحديد: 16]، وقوله عزَّ وجلّ: {وساء لهم يوم القيامة حملًا (101)} [طه: 101]، فأنت لو ضغطت على الفاء في الآية الأولى صارت من الفسق لا من السقي، وإن لم تضغط على الفاء في الآية الثانية صارت من الفقس لا من القسوة. أما في الآية الثالثة فلا بد أن تخلص (ساء) من (لهم) حتى يكون من السوء لا من المساءلة، لو خطفتها خطفة واحدة. هكذا كان يعلمنا الشيخ، إلى أمثلة كثيرة لا أحصيها عدداً. لكني أذكر أن أحدهم قرأ مرة أمام الشيخ: {فلهم أجر غير ممنون (6)} [التين: 6]، وخطف (فلهم) خطفة واحدة ضاغطاً على الفاء، بحيث صارت الكلمة كأنها فعل ماض مسند إلى ضمير الجماعة، مثل: ضربهم، فقال له الشيخ: (مفلهمش) يريد رحمه الله أن يقول إنه ليس فعلًا واقعاً عليهم، وأن هذه البنية من مقطعين (ف) (لهم).
وكان الشيخ صاحب دعابة، فكان إذا قرأ أحدهم على غير الجادة يقول له مستفهماً مستنكراً: إنت جوّدت القرآن في ألمانيا؟ وقرأ بعضهم أمامه برواية خلف عن حمزة، ولم يكن متقناً للرواية، فقال له: «قُوم يا شيخ، دانا كنت باحْسِبَك خَلَف الحبايب»، وقرأ آخر أمامه وتحنن في صوته تحنناً ظاهراً في تكسر، فقال له الشيخ: «مافيش فايدة» يريد أنه يقلد صت «فايدة كامل»، فقد كان في صوته تلك السمات التي عرفت بها هذه المغنية قبل أن تشتغل بالسياسة.
وكان للشيخ حسن دقيق جداً في تقييم الأصوات والحكم عليها، وقد لا يعرف كثير من الناس أن الشيخ رحمه الله، درس علم الموسيقى بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية أل إنشائه.
وكما كانت معرفة الشيخ بمخارج الحروف وصفاتها عظيمة، كانت عنايته بالوقوف: تامها وحسنها وكافيها، عالية جداً، وكان يأخذ على بعض كبار القراء تهاونهم في تعهد الوقوف ومراعاتها، وكان يصارحهم بذلك فيغضبون.
وكان شيخنا رحمه الله يتشدد في الوقوف على رؤوس الآي: لأنها سنة، ولو تعلقت الآية بما بعدها. فإذا كانت الآية التالية مقول قول في الآية الأولى، وكان البدء بمقول القول هذا مما يوهم أن يكون إقراراً من القارئ وليس من المحكي عنه، وقف على رأس الآية الأولى اتباعاً للسنة، ثم يستأنف الآية الثانية تالياً الفعل السابق في الآية الأولى. مثال ذلك قوله تعالى في سورة الصافات: {ألا إنهم من إفكهم ليقولون (151) ولد الله وإنهم لكاذبون (152)} [الصافات: 151، 152]، يتلوها هكذا: ألا إنهم من إفكهم ليقولون. ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون. وما أكثر ما علَّمنا هذا الإمام الكبير!
ومع حرص الشيخ على كمال الأداء وحسن التجويد، فقد كان يعيب على بعض القراء المبالغة في ذلك، ويراه لوناً من التنطع والشقشقة. وللفائدة هنا فإني أذكر بأن مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي المتوفى سنة 478 هـ، قد أخذ على قراء زمانه مبالغتهم في التجويد والتقعر في إخراج الحروف، وذلك في رسالة له لطيفة مطبوعة، سمَّاها «بيان زعل العلم»، وهي رسالة نافعة، عرض فيها الذهبي لأخطاء أهل العلم.
نور القرآن:
وقد أضاء شيخنا القاهرة كلها بنور القرآن، فلم تكن مقرأة الإمام الشافعي هي المكان الوحيد الذي يجلس فيه للإقراء، فقد كان يبدأ يومه عقب صلاة الفجر بالإقراء بمسجد السيدة زينب، حيث يسكن الشيخ قريباً من المسجد الزينبي، وهناك مقارئ أخرى يحضرها الشيخ منها مقرأة بمسجد النقشبندي بجوار مستشفى أحمد ماهر بالقرب من باب الخلق، وكان موعدها يوم السبت، ومقرأة الجمعية التعاونية للبترول بشارع قصر العيني، يومي الاثنين والثلاثاء، ومقرأة يوم الأربعاء بمسجد بمنزل الحناوي بجاردن سيتي.
وقد تفرع من هذه المقارئ مقارئ أخرى، منها مقرأة الدكتور صادق بمنطقة الحلمية، بالقرب من القلعة. وهذا الدكتور صادق طبيب أطفال، وقد تلقى عن الشيخ القراءات السبع. وفي صوت هذا القارئ الطبيب صفاء وخشوع يأخذان بمجامع القلوب.
ومقرأة بمسجد يوسف الصديق بميدان الحجاز بمصر الجديدة، يقوم عليها القارئ الطبيب الدكتور عوض الأستاذ بكلية طب الأزهر، ومقرأة بمسجد مصطفى محمود بالمهندسين، يقوم عليها الحاج حسين، وهو صاحب معرض ملابس، وقد لازم الشيخ كثيراً بزاوية النقشبندي. وتلامذة الشيخ كثيرون، أذكر منهم الأديب الأستاذ عبد العزيز العناني، وهو مؤرخ للموسيقى العربية، لا تجد له في بابه نظيراً، ألبسه الله ثوب الصحة والعافية.
ومن الوزراء الذين قرأوا على الشيخ ولازموه ونوروا به مجالسهم: السادة عبد المحسن أبو النور، وتوفيق عبد الفتاح، وعبد الرحمن الشاذلي، وإبراهيم سالم. ويأتي على رأس هؤلاء جميعاً الرجل التقي النقي - ولا نزكي على الله أحداً - الدكتور إبراهيم بدران. وكان من أبر الناس بشيخنا، وقد حمله وأعد له مكاناً رحباً بالمستشفى الذي يملكه بالمهندسين، وأقام عليه من يخدمه ويتولى أمره، وخصص له سيارة تحمله إلى حيث يشاء، وذلك بعد وفاة زوجته، رحمهما الله جميعاً.
وقد أفاد من علم الشيخ نساء كثيرات، منهن السيدة سميحة أيوب، وإذا تأملت أداءها في النصوص المسرحية الفصيحة رأيت أمارات ذلك. ومنهن السيدة مفيدة عبد الرحمن، المحامية الشهيرة. ولهذه السيدة الفاضلة بالقرآن وخدمته نسب وثيق، فأبوها هو: عبد الرحمن محمد، صاحب المطبعة الكائنة بحي الصنادقية بالأزهر الشريف. وقد تخصصت هذه المطبعة في طبع المصحف الشريف منذ زمن بعيد.
تلاميذ الشيخ في كل مكان:
على أن لشيخنا الشيخ عامر أثراً آخر مباركاً، غير التصنيف والإقراء: هو هذا العون الظاهر الذي قدَّمه لهذا النفر من الجامعيين الذين اتخذوا من علم القراءات ميداناً لدراساتهم الصوتية والتاريخية، يحضرني منهم الأساتذة: عبد الفتاح إسماعيل شلبي، وأحمد علم الدين الجندي، وعبد الصبور شاهين، إلى كثير من المعيدين والمبتدئين الذين كانوا يختلفون إليه لتجلية غامض، أو كشف مبهم من هذا العلم الذي هو علم العربية بحق.
وعلى الجملة فتلاميذ الشيخ والمنتفعون بعلمه لا يحصون، داخل مصر وخارجها، وكنت أرى كثيراً من أبناء الدول العربية والإسلامية، بل من المستشرقين، يأتون إليه، ويجلسون في حلقته، ويا ليتني أحصيتهم عدداً، وقيدت أسماءهم وأسماء بلدانهم وأعمارهم، إحياء لسنن قديمة في تراثنا التاريخي، من ذكر الواردين على البلاد، والمرتحلين إلى الشيوخ.
وفي سنواته الأخيرة اختار شيخنا المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام - مستقراً ومقاماً، حيث دعي إلى هناك لمراجعة مصحف الملك فهد، وللتدريس بكلية القرآن بالجامعة الإسلامية.
وفي مساء يوم الخميس، وقبيل فجر يوم الجمعة الخامس من شوال سنة 1408 هـ الموافق للعشرين من مايو سنة 1988 م، اختار الله إلى جواره عبده وخادم كتابه: عامر السيد عثمان، وصلي عليه بالمسجد النبوي الشريف عقب صلاة الجمعة، ودُفن بالبقيع، مرحوماً مرضياً عنه إن شاء الله.
اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعفُ عنه، واجعل كل ما قدَّمه من خدمة كتابك في موازينه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً. وهيئ لهذه الأمة من يخلف هؤلاء الرجال العظام، ويقوم مقامهم، حياطة لدينك، وحفظاً لكتابك. إنك على ما تشاء قدير.
الكاتب: د. محمود الطناحي رحمه الله
من مجلة «الهلال»، مارس 1993 م.
في عدد يوليو 1992 م من «الهلال» كتبت كلمة عن «الشيخ مصطفى إسماعيل وقراء مصر»، جعلتها تحية وصلة لكتاب أستاذنا الكبير الناقد الشاعر كمال النجمي، عن الشيخ مصطفى إسماعيل رحمه الله.
والحديث عن قراءة القرآن وإقرائه بمصر، لا بد فيه من التفرقة بين «القارئ» و «المقرئ»، ومعروف أن لمصر في الفريقين تاريخاً عريضاً وأياماً زاهية.
فالقارئ: هو الذي يقرأ لنفسه وقد يسمعه غيره. والمقرئ: هو الذي يُقرئ غيره، تعليماً وتوجيهاً، وتقول اللغة: «رجل قارئ، من قوم قراء وقَرَأه - بوزن فَعَلَة - وقارئين، وأقرأ غيره يُقرئه إقراءً، ومنه قيل: فلان المقرئ». وبهذه التفرقة بين الفعل اللازم والفعل المتعدي يحسن أن نقول عن الذي يقرأ بصوت حسن في المناسبات وفي الإذاعة، كالشيخ مصطفى إسماعيل ومن إليه، قارئ، ونقول عن الذي يحفَّظ الصغار في الكتاتيب وجماعات تحفيظ القرآن: مقرئ.
على أنه قد يجتمع الفريقان في جمع التكسير، فيقال: «القُرَّاء» لمن يقرأ ولمن يُقرئ، وعلى هذا سمَّى الحافظ الذهبي كتابه: «معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار»، وابن الجزري كتابه: «غاية النهاية في اختصار طبقات القراء».
على أن «للمقرئ» في تاريخنا التراثي معنى أوسع وأشمل من مجرد تحفيظ القرآن للصغار ومن فوقهم. فالمقرئ: هو ذلك العالم الذي يعرف القراءات القرآنية: رواية ودراية، بحيث يكون قادراً على جَمْع الطرق والروايات، ومعرفة وجوه الخلاف بين القراء، والاحتجاج للقراءات وتوجيهها من لغة العرب، ويكون أيضاً متقناً لطرق الأداء - وهو ما يُعرف الآن بعلم التجويد - ووقوف القرآن: الكافي منها والتام والحسن، ثم يتلقى الناس عنه ذلك كله مشافهة وسماعاً.
وقد نبغ في كل زمان ومكان من قاموا بهذا الأمر على خير وجه، فضلاً من الله وحياطة لكتابه وحفظاً له، ولم يكن لمصر على سواها من الدول العربية والإسلامية فضل وزيادة، فهو رزق الله المقسَّم على خلقه شرقاً وغرباً، ليتم وعده {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)} [الحجر: 9]، {ولقد يسرنا القرآن للذكر} [القمر: 17]، لكن الأمر كاد يخلص لمصر في القرنين الأخيرين، فتربع قراؤها على عرش الإقراء والقراءة: رواية ودراية وجمال صوت، وصارت الرحلة إليهم من الشرق ومن الغرب، ويرجع ذلك إلى أسباب كثيرة ذكرتها في مقالتي عن «الشيخ مصطفى إسماعيل».
ويذكر التاريخ أسماء عظيمة لمعت في سماء مصر في القرنين الأخيرين، وخدمت كتاب الله إقراءً وتأليفاً. ومنهم الشيخ محمد أحمد المتولي المتوفى سنة 1313 هـ = 1895 م، والشيخ محمد مكي نصر المتوفى بعد سنة 1308 هـ، وهو صاحب أعظم كتاب في طرق الأداء وصفات الحروف ومخارجها «نهاية القول المفيد في علم التجويد»، والشيخ علي محمد الضبَّاع المتوفى سنة 1380 هـ = 1961 م.
ومن المعاصرين: الشيخ المقرئ العالم عبد الفتاح عبد الغني القاضي المتوفى سنة 1403 هـ = 1982 م، والشيخ إبراهيم علي شحاتة المقيم الآن بسمَنُّود، والشيخ أحمد عبد العزيز أحمد محمد الزيات، الأستاذ بكلية القرآن بالمدينة النبوية الآن، ويقال: إن الشيخ الزيات هو أعلى القراء الآن إسناداً (وعلو الإسناد معناه قلة
الوسائط بين القارئ الآن، وبين القارئ الأول، وهو المصطفى صلى الله عليه وسلم بما نزل به جبريل عليه السلام، عن رب العزة والجلال).
الشيخ عامر عثمان:
ويقف سيدي وشيخي الشيخ عامر السيد عثمان بين هؤلاء الكوكبة من القراء المعاصرين في مكان ضخم بارز، فهو أكثرهم إقراء للناس، واتصالًا بهم، وتأثيراً فيهم.
وقد عرفته منذ عشرين عاماً قبل وفاته حين بدأ العمل في تحقيق كتاب «لطائف الإشارات في علم القراءات» لشهاب الدين القسطلَّاني، شارح البخاري، المتوفى سنة 923 هـ، بالاشتراك مع الدكتور عبد الصبور شاهين.
وكان الشيخ يتردد على دار الكتب المصرية ومعهد المخطوطات - وكنت يومئذ أعمل به - فشدَّني إليه، ورغَّبني فيه، ودعاني إلى حلقته العامرة الممتدة على أيام الأسبوع كله، فوقفت منه على علم غزير جم، وتمثلت فيه وبه هذه الأوصاف الضافية التي تأتي في كتب التراجم والطبقات، ويظنها من لا علم عنده بتاريخ الأمة، وأحوال الرجال، من المبالغات والتهاويل التي يغص بها تاريخنا ... زعموا!
نعم رأيت في هذا الشيخ الجليل كثيراً مما كنت أقرأه في طبقات القراء والمحدثين والفقهاء والأدباء: من سعة الرواية، وكثرة الحفظ، وجمع الطرق، ودقة الضبط، وتحرير الرواية، وحسن الإتقان.
ولد شيخنا الشيخ عامر، رحمه الله، بقرية «ملامس» مركز منيا القمح، محافظة الشرقية، في 16 مايو سنة 1900 م. وحفظ القرآن الكريم بمكتب الشيخ عطية سلامة، وأئمة ولم يتجاوز التاسعة من عمره، ثم أرسله والده إلى المسجد الأحمدي بطنطا، وتلقى القرآن بقراءة الإمام نافع المدني، من فم عالم القراءات الشيخ السعودي. وقد أُوتي الشيخ عامر في صباه حظاً من حسن الصوت أهَّله لأن يكون قارئاً مرموقاً بمحافظة الشرقية، يقرأ في الليالي والمناسبات، وهو طريق جالب
للرزق الواسع والشهرة المستفيضة، ولكنه عزف عن ذلك وولى وجهه شطر القاهرة، حيث الأزهر الشريف، وأئمة القراءة والإقراء.
وفي القاهرة أخذ في القراءة والتلقي والمشافهة والعرض والسماع، فتلقى القراءات العشر الصغرى من طريق الشاطبية والدرة، على الشيخ محمد غنيم، وهو على الشيخ حسن الجريسي الكبير، وهو على العلامة المقرئ أحمد الدري التهامي، وسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، معروف.
ثم تلقى القراءات العشر الكبرى على الشيخ علي عبد الرحمن سبيع، من أول القرآن إلى قوله تعالى في سورة هود (وقال اركبوا فيها)، ثم إن الشيخ عليّاً أرسل خلف الشيخ عامر يقول له: سوف نبدأ بعد ثلاثة أيام، فقال له الشيخ عامر: كيف سنبدأ بعد ثلاثة أيام يا سيدي ونحن قد وصلنا إلى قوله تعالى: (وقال اركبوا فيها)؟ فقال له الشيخ علي: «بعدين ح تعرف»، ثم توفي الشيخ بعد ثلاثة أيام من هذا الكلام. وكان شيخنا الشيخ عامر إذا ذكر هذه القصة اغرورقت عيناه بالدموع، ويقول: «فكان معنى كلام الشيخ علي أن أيام الآخرة بالنسبة له ستبدأ بعد ثلاثة أيام»، وتوفي الشيخ علي سبيعة سنة 1927 م.
ثم إن الشيخ عامر شرع في ختمة جديدة على تلميذ الشيخ علي سبيع، وهو الشيخ همام قطب، فقرأ عليه ختمة كاملة بالقراءات العشر الكبرى، من طريق الطيَّبة بالتحرير والإتقان، وقرأ الشيخ همام على الشيخ علي سبيع المذكور، وهو على الشيخ حسن الجريسي الكبير، وهو على الشيخ محمد المتولي، وهو على الشيخ أحمد الدري التهامي، وسنده معروف.
حلقة للإقراء بالأزهر:
وهكذا عرف شيخنا الطريق ولزمه. وبعد أن رسخت قدمه في هذا العلم، رواية ودراية، اتخذ لنفسه حلقة بالجامع الأزهر سنة 1935 م للإقراء والتدريس، وكان في أثناء ذلك مكباً على مخطوطات القراءات بالمكتبة الأزهرية ودار الكتب
المصرية، يقرأ وينسخ، فظهر نبوغه ولفت إليه الأنظار، فاتصل به الشيخ علي محمد الضبَّاع، شيخ المقارئ المصرية يومئذ، واستعان في تحقيقات القراءات العشر الكبرى.
وكان رحمه الله حجة في رسم المصحف الشريف، وقد شارك في تصحيح ومراجعة كثير من المصاحف التي طبعت بمطابع الحلبي والشمرلي، والمطبعة الملكية في عهد الملك فؤاد والملك فاروق رحمهما الله.
وحين أنشئ معهد القراءات تابعاً لكلية اللغة العربية بالأزهر الشريف، سنة 1943 م كان الشيخ على رأس مشايخه وأساتذته، فتخرَّجت على يديه هذه الأجيال الكريمة من خدمة كتاب الله والعارفين بعلومه وقراءاته بمصر وخارج مصر.
ولما أنشأت مصر - غير مسبوقة - إذاعة القرآن الكريم سنة 1963 م، وقدمت من خلالها (المصحف المرتل) أشرف الشيخ على التسجيلات الأولى من هذا المشروع العظيم، وكانت بأصوات المشايخ: محمود خليل الحصري، ومصطفى إسماعيل، ومحمد صديق المنشاوي، وعبد الباسط عبد الصمد، ومحمود علي البنا رحمهم الله أجمعين.
وعلى ذكر الإذاعة فقد كان شيخنا عضواً بارزاً في لجنة اختيار القراء، وكان سيفاً بتاراً، حازماً صارماً في غربلة الأصوات وإجادتها، ولم يكن يقبل الميوعة أو تجاوز الأصول في القراءة والأداء، وطالما اشتكى منه القراء، ورموه بالتعسف والتشدد، وضغطوا عليه بوسائل شتى، ولكنه لم يلن ولم يضعف، وكذلك كان يفعل في لجنة اختيار القراء الذين ترسلهم وزارة الأوقاف المصرية إلى البلدان العربية والإسلامية في شهر رمضان. وقد حُورِب كثيراً في لجنة اختيار القراء بالإذاعة المصرية، وطُلب إقصاؤه أكثر من مرة، وكان الذي يقف وراءه مدافعاً ومنافحاً: الشَّاعر الفحل محمود حسن إسماعيل، إذ كان مستشاراً ثقافيّاً بالإذاعة المصرية، رحمهما الله تعالى.
مؤلفات الشيخ:
شُغل الشيخ رحمه الله بالإقراء أيامه كلها، فلم يجد وقتاً متسعاً للتصنيف، ولكن الله سبحانه يسَّر له أن يترك بعض الآثار العلمية في فن القراءات، حتى تكون باعثاً لمن يطالعها أن يدعو له بالمغفرة والرضوان. فمما يحضرني الآن هذه التصانيف الآتية، ولست أدَّعي فيها الحصر:
1 - فتح القدير شرح تنقيح التحرير (في تحرير أوجه القراءات العشر من طريق الطيَّبة).
2 - شرح على منظومة العلامة الشيخ إبراهيم علي شحاتة السمنُّودي، أبقاه الله، في تحرير طرق ابن كثير وشعبة. فرغ منه يوم الجمعة 25 من صفر سنة 1382 هـ.
3 - تنقيح فتح الكريم في تحرير أوجه القرآن العظيم، بالاشتراك مع الشيخ إبراهيم علي شحاته والشيخ أحمد عبد العزيز الزيات. وهو نظم منقح من منظومة فتح الكريم في تحرير أوجه القرآن العظيم، للعلامة شيخ القراء في وقته الشيخ محمد بن أحمد المتولي، المذكور قبل.
4 - كيف يُتلى القرآن، وهي رسالة موجزة محررة في تجويد القرآن: سمَّاها: إملاء ما منَّ به الرحمن على عبده عامر بن السيد عثمان في أحكام تلاوة القرآن. وقد أملاها على أحد تلاميذه الذين يحضرون مقارئه، وهو الطيب الجراح الدكتور حسنى حجازي، رحمه الله. وقد صدرت الطبعة الثانية من هذه الرسالة سنة 1390 هـ = 1970 م.
5 - تحقيق الجزء الأول من كتاب «لطائف الإشارات» الذي ذكرته من قبل. صدر عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة عام 1392، ولعل المجلس ينشط في طبع بقيته.
6 - أعان الأستاذ الدكتور شوقي ضيف في تحقيق كتاب «السبعة» لابن مجاهد، الذي نشرته دار المعارف بمصر أول مرة سنة 1392 هـ = 1972 م. وذلك بمراجعة كتابة آياته الكريمة على هجاء المصاحف المصرية المضبوطة، على ما يوافق رواية حفص عن عاصم، والمطابقة لما رواه علماء الرسم عن هجاء المصاحف التي بعث بها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار الإسلامية.
7 - وكانت آخر أعمال الشيخ مشاركته في لجنة طبع مصحف الملك فهد بن عبد العزيز، الذي صدر بالمدينة النبوية عام 1405 هـ.
فهذا ما يحضرني الآن مما تركه الشيخ من علم مسطور مكتوب. أما أبقى أثر للشيخ وأخلده وأرجحه في موازينه إن شاء الله تعالى، فهو تلك المقارئ التي جلس فيها جلوساً عاماً للناس، وقد شغلت هذه المقارئ أيامه كلها، وأشهر هذه المقارئ مقرأة الإمام الشافعي يوم الجمعة، وقد أسندت إليه مشيختها عام 1947 م وكان عدد الذين يحضرونها من القراء الرسميين أو المعتمدين من وزارة الأوقاف المصرية محدوداً جداً بجانب مختلف طوائف الناس التي كانت تحضر تلك المقرأة وغيرها من المقارئ، فكنت ترى الطبيب والمهندس والضابط والمحامي والموظف والتاجر والحرفي، والفتى الصغير، والشاب اليافع، والشيخ الفاني، مختلف الأعمار والمهن، يتحلقون حول الشيخ؛ يقرأون ويصحح، عيونهم مشدودة إلى شفتيه، وهو يروَّضهم على النطق الصحيح، يصبر على الضعيف حتى يقوى، ويرفُق بالمتعثر حتى يستقيم، لا يسأم ولا يمل، ولا زلت أذكره - رحمه الله - وهو يروَّض بعض إخواننا على ترقيق اللام من قوله تعالى: {رب إنهن أضللن} [إبراهيم: 36]، وكان عسراً على هذا الأخ أن يرقق اللام بعد الضاد، فكان شيخنا يقرأ أمامه (أضللن) على مقطعين هكذا: (أضْ) (لَلْن) ويكرر المقطعين منفردين ثم يقرأهما معاً حتى يخلص له الترقيق المراد. وكذلك لا زلت أذكره وهو يروَّضنا على الخروج من التفخيم إلى الترقيق وبالعكس، في قوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [الأنبياء: 28]، فأنت هنا تفخم الراء وإن كان قبلها كسر؛ لأنه كسر عارض للتخلص من التقاء الساكنين، ثم ترقق التاء وتعود إلى تفخيم الضاد، وهكذا كنت تقضي العجب وأنت تنظر إلى حركة فكيه وشفتيه وجريان لسانه في إعطاء كل حرف حقه ومستحقه: من الهمس والجهر والغنة والإظهار والإخفاء والإقلاب والفك والإدغام، وغير ذلك من دقائق الصوتيات، مما لا تستطيع معامل الأصوات أن تنقله بدقة إلى الطالب لأن هذا العلم - علم الأداء - قائم على التلقي والمشافهة.
ولو كان لي من الأمر شيء لأتيت بشيخ من علماء القراءات في كل قسم من أقسام اللغة العربية بجامعتنا ليعمل على تدريب الطلبة على الأداء الصحيح والنطق السليم، بجانب معامل الأصوات الحديثة. وهؤلاء المشايخ (الغلابة) لن يأخذوا من الأجر أكثر مما تستهلكه هذه المعاملة من طاقة وكهرباء، بل إني أذهب إلى أبعد من هذا في التمني: وهو أن يعين شيخ من هؤلاء القراء مشرفاً خارجيّاً مع المشرف الأكاديمي لكل رسالة علمية (ماجستير أو دكتوراه) تتصل بعلم القراءات من قريب أو بعيد.
ومن تفتن شيخنا في مجال الأداء الصوتي: أنه كان يأخذنا إلى تفرقة دقيقة لطيفة، في الوقف على الراء من قوله تعالى: {فكيف كان عذابي ونذر (16)} [القمر: 16]، وقوله عزَّ وجلّ: {كذبت ثمود بالنذر (23)} [القمر: 23]، فالراء في الآية الأولى يستحسن أن يوقف عليها بترقيق لطيف يشعر بالياء المحذوفة؛ لأن أصلها (ونُذُري) بإثبات ياء الإضافة، وقرأ بها ورش بن سعيد المصري، عن نافع المدني. ومن القراء المعاصرين الذين سمعتهم يراعون ذلك الترقيق اللطيف المشايخ: محمود خليل الحصري، ومحمود حسين منصور، ومحمد صديق المنشاوي.
أما الراء في الآية الثانية فيوقف عليها بالتفخيم الخالص؛ لأنها جمع نذير.
وأما «النبَّر» في مصطلح علم اللغة الحديث - وهو النظام المقطعي في قراءة الكلمة، فقد كان الشيخ رحمه الله آية فيه، وقد سألته عنه يوماً، فقال لي: «إن القراء لم يذكروا هذا المصطلح، ولكنه بهذه الصفة يمكن أن يُسمَّى «التخليص» أي تخليص مقطع من مقطع». وها أنا ذا أضع هذا المصطلح أمام علماء اللغة الحدثين ليروا فيه رأيهم، ولعلهم يحلونه «النبر». وقد سمعت لهذا «التلخيص» من الشيخ أمثلة كثيرة جداً، أذكر منها قوله تعالى: {فسقى لهما ثم تولى إلى الظل} [القصص: 24]، وقوله تعالى: {فقست قلوبهم} [الحديد: 16]، وقوله عزَّ وجلّ: {وساء لهم يوم القيامة حملًا (101)} [طه: 101]، فأنت لو ضغطت على الفاء في الآية الأولى صارت من الفسق لا من السقي، وإن لم تضغط على الفاء في الآية الثانية صارت من الفقس لا من القسوة. أما في الآية الثالثة فلا بد أن تخلص (ساء) من (لهم) حتى يكون من السوء لا من المساءلة، لو خطفتها خطفة واحدة. هكذا كان يعلمنا الشيخ، إلى أمثلة كثيرة لا أحصيها عدداً. لكني أذكر أن أحدهم قرأ مرة أمام الشيخ: {فلهم أجر غير ممنون (6)} [التين: 6]، وخطف (فلهم) خطفة واحدة ضاغطاً على الفاء، بحيث صارت الكلمة كأنها فعل ماض مسند إلى ضمير الجماعة، مثل: ضربهم، فقال له الشيخ: (مفلهمش) يريد رحمه الله أن يقول إنه ليس فعلًا واقعاً عليهم، وأن هذه البنية من مقطعين (ف) (لهم).
وكان الشيخ صاحب دعابة، فكان إذا قرأ أحدهم على غير الجادة يقول له مستفهماً مستنكراً: إنت جوّدت القرآن في ألمانيا؟ وقرأ بعضهم أمامه برواية خلف عن حمزة، ولم يكن متقناً للرواية، فقال له: «قُوم يا شيخ، دانا كنت باحْسِبَك خَلَف الحبايب»، وقرأ آخر أمامه وتحنن في صوته تحنناً ظاهراً في تكسر، فقال له الشيخ: «مافيش فايدة» يريد أنه يقلد صت «فايدة كامل»، فقد كان في صوته تلك السمات التي عرفت بها هذه المغنية قبل أن تشتغل بالسياسة.
وكان للشيخ حسن دقيق جداً في تقييم الأصوات والحكم عليها، وقد لا يعرف كثير من الناس أن الشيخ رحمه الله، درس علم الموسيقى بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية أل إنشائه.
وكما كانت معرفة الشيخ بمخارج الحروف وصفاتها عظيمة، كانت عنايته بالوقوف: تامها وحسنها وكافيها، عالية جداً، وكان يأخذ على بعض كبار القراء تهاونهم في تعهد الوقوف ومراعاتها، وكان يصارحهم بذلك فيغضبون.
وكان شيخنا رحمه الله يتشدد في الوقوف على رؤوس الآي: لأنها سنة، ولو تعلقت الآية بما بعدها. فإذا كانت الآية التالية مقول قول في الآية الأولى، وكان البدء بمقول القول هذا مما يوهم أن يكون إقراراً من القارئ وليس من المحكي عنه، وقف على رأس الآية الأولى اتباعاً للسنة، ثم يستأنف الآية الثانية تالياً الفعل السابق في الآية الأولى. مثال ذلك قوله تعالى في سورة الصافات: {ألا إنهم من إفكهم ليقولون (151) ولد الله وإنهم لكاذبون (152)} [الصافات: 151، 152]، يتلوها هكذا: ألا إنهم من إفكهم ليقولون. ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون. وما أكثر ما علَّمنا هذا الإمام الكبير!
ومع حرص الشيخ على كمال الأداء وحسن التجويد، فقد كان يعيب على بعض القراء المبالغة في ذلك، ويراه لوناً من التنطع والشقشقة. وللفائدة هنا فإني أذكر بأن مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي المتوفى سنة 478 هـ، قد أخذ على قراء زمانه مبالغتهم في التجويد والتقعر في إخراج الحروف، وذلك في رسالة له لطيفة مطبوعة، سمَّاها «بيان زعل العلم»، وهي رسالة نافعة، عرض فيها الذهبي لأخطاء أهل العلم.
نور القرآن:
وقد أضاء شيخنا القاهرة كلها بنور القرآن، فلم تكن مقرأة الإمام الشافعي هي المكان الوحيد الذي يجلس فيه للإقراء، فقد كان يبدأ يومه عقب صلاة الفجر بالإقراء بمسجد السيدة زينب، حيث يسكن الشيخ قريباً من المسجد الزينبي، وهناك مقارئ أخرى يحضرها الشيخ منها مقرأة بمسجد النقشبندي بجوار مستشفى أحمد ماهر بالقرب من باب الخلق، وكان موعدها يوم السبت، ومقرأة الجمعية التعاونية للبترول بشارع قصر العيني، يومي الاثنين والثلاثاء، ومقرأة يوم الأربعاء بمسجد بمنزل الحناوي بجاردن سيتي.
وقد تفرع من هذه المقارئ مقارئ أخرى، منها مقرأة الدكتور صادق بمنطقة الحلمية، بالقرب من القلعة. وهذا الدكتور صادق طبيب أطفال، وقد تلقى عن الشيخ القراءات السبع. وفي صوت هذا القارئ الطبيب صفاء وخشوع يأخذان بمجامع القلوب.
ومقرأة بمسجد يوسف الصديق بميدان الحجاز بمصر الجديدة، يقوم عليها القارئ الطبيب الدكتور عوض الأستاذ بكلية طب الأزهر، ومقرأة بمسجد مصطفى محمود بالمهندسين، يقوم عليها الحاج حسين، وهو صاحب معرض ملابس، وقد لازم الشيخ كثيراً بزاوية النقشبندي. وتلامذة الشيخ كثيرون، أذكر منهم الأديب الأستاذ عبد العزيز العناني، وهو مؤرخ للموسيقى العربية، لا تجد له في بابه نظيراً، ألبسه الله ثوب الصحة والعافية.
ومن الوزراء الذين قرأوا على الشيخ ولازموه ونوروا به مجالسهم: السادة عبد المحسن أبو النور، وتوفيق عبد الفتاح، وعبد الرحمن الشاذلي، وإبراهيم سالم. ويأتي على رأس هؤلاء جميعاً الرجل التقي النقي - ولا نزكي على الله أحداً - الدكتور إبراهيم بدران. وكان من أبر الناس بشيخنا، وقد حمله وأعد له مكاناً رحباً بالمستشفى الذي يملكه بالمهندسين، وأقام عليه من يخدمه ويتولى أمره، وخصص له سيارة تحمله إلى حيث يشاء، وذلك بعد وفاة زوجته، رحمهما الله جميعاً.
وقد أفاد من علم الشيخ نساء كثيرات، منهن السيدة سميحة أيوب، وإذا تأملت أداءها في النصوص المسرحية الفصيحة رأيت أمارات ذلك. ومنهن السيدة مفيدة عبد الرحمن، المحامية الشهيرة. ولهذه السيدة الفاضلة بالقرآن وخدمته نسب وثيق، فأبوها هو: عبد الرحمن محمد، صاحب المطبعة الكائنة بحي الصنادقية بالأزهر الشريف. وقد تخصصت هذه المطبعة في طبع المصحف الشريف منذ زمن بعيد.
تلاميذ الشيخ في كل مكان:
على أن لشيخنا الشيخ عامر أثراً آخر مباركاً، غير التصنيف والإقراء: هو هذا العون الظاهر الذي قدَّمه لهذا النفر من الجامعيين الذين اتخذوا من علم القراءات ميداناً لدراساتهم الصوتية والتاريخية، يحضرني منهم الأساتذة: عبد الفتاح إسماعيل شلبي، وأحمد علم الدين الجندي، وعبد الصبور شاهين، إلى كثير من المعيدين والمبتدئين الذين كانوا يختلفون إليه لتجلية غامض، أو كشف مبهم من هذا العلم الذي هو علم العربية بحق.
وعلى الجملة فتلاميذ الشيخ والمنتفعون بعلمه لا يحصون، داخل مصر وخارجها، وكنت أرى كثيراً من أبناء الدول العربية والإسلامية، بل من المستشرقين، يأتون إليه، ويجلسون في حلقته، ويا ليتني أحصيتهم عدداً، وقيدت أسماءهم وأسماء بلدانهم وأعمارهم، إحياء لسنن قديمة في تراثنا التاريخي، من ذكر الواردين على البلاد، والمرتحلين إلى الشيوخ.
وفي سنواته الأخيرة اختار شيخنا المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام - مستقراً ومقاماً، حيث دعي إلى هناك لمراجعة مصحف الملك فهد، وللتدريس بكلية القرآن بالجامعة الإسلامية.
وفي مساء يوم الخميس، وقبيل فجر يوم الجمعة الخامس من شوال سنة 1408 هـ الموافق للعشرين من مايو سنة 1988 م، اختار الله إلى جواره عبده وخادم كتابه: عامر السيد عثمان، وصلي عليه بالمسجد النبوي الشريف عقب صلاة الجمعة، ودُفن بالبقيع، مرحوماً مرضياً عنه إن شاء الله.
اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعفُ عنه، واجعل كل ما قدَّمه من خدمة كتابك في موازينه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً. وهيئ لهذه الأمة من يخلف هؤلاء الرجال العظام، ويقوم مقامهم، حياطة لدينك، وحفظاً لكتابك. إنك على ما تشاء قدير.
إقراء القرآن بمصر (وفيه ترجمة الشيخ عامر عثمان)
الكاتب: د. محمود الطناحي رحمه الله
من مجلة «الهلال»، مارس 1993 م.
في عدد يوليو 1992 م من «الهلال» كتبت كلمة عن «الشيخ مصطفى إسماعيل وقراء مصر»، جعلتها تحية وصلة لكتاب أستاذنا الكبير الناقد الشاعر كمال النجمي، عن الشيخ مصطفى إسماعيل رحمه الله.
والحديث عن قراءة القرآن وإقرائه بمصر، لا بد فيه من التفرقة بين «القارئ» و «المقرئ»، ومعروف أن لمصر في الفريقين تاريخاً عريضاً وأياماً زاهية.
فالقارئ: هو الذي يقرأ لنفسه وقد يسمعه غيره. والمقرئ: هو الذي يُقرئ غيره، تعليماً وتوجيهاً، وتقول اللغة: «رجل قارئ، من قوم قراء وقَرَأه - بوزن فَعَلَة - وقارئين، وأقرأ غيره يُقرئه إقراءً، ومنه قيل: فلان المقرئ». وبهذه التفرقة بين الفعل اللازم والفعل المتعدي يحسن أن نقول عن الذي يقرأ بصوت حسن في المناسبات وفي الإذاعة، كالشيخ مصطفى إسماعيل ومن إليه، قارئ، ونقول عن الذي يحفَّظ الصغار في الكتاتيب وجماعات تحفيظ القرآن: مقرئ.
على أنه قد يجتمع الفريقان في جمع التكسير، فيقال: «القُرَّاء» لمن يقرأ ولمن يُقرئ، وعلى هذا سمَّى الحافظ الذهبي كتابه: «معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار»، وابن الجزري كتابه: «غاية النهاية في اختصار طبقات القراء».
على أن «للمقرئ» في تاريخنا التراثي معنى أوسع وأشمل من مجرد تحفيظ القرآن للصغار ومن فوقهم. فالمقرئ: هو ذلك العالم الذي يعرف القراءات القرآنية: رواية ودراية، بحيث يكون قادراً على جَمْع الطرق والروايات، ومعرفة وجوه الخلاف بين القراء، والاحتجاج للقراءات وتوجيهها من لغة العرب، ويكون أيضاً متقناً لطرق الأداء - وهو ما يُعرف الآن بعلم التجويد - ووقوف القرآن: الكافي منها والتام والحسن، ثم يتلقى الناس عنه ذلك كله مشافهة وسماعاً.
وقد نبغ في كل زمان ومكان من قاموا بهذا الأمر على خير وجه، فضلاً من الله وحياطة لكتابه وحفظاً له، ولم يكن لمصر على سواها من الدول العربية والإسلامية فضل وزيادة، فهو رزق الله المقسَّم على خلقه شرقاً وغرباً، ليتم وعده {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)} [الحجر: 9]، {ولقد يسرنا القرآن للذكر} [القمر: 17]، لكن الأمر كاد يخلص لمصر في القرنين الأخيرين، فتربع قراؤها على عرش الإقراء والقراءة: رواية ودراية وجمال صوت، وصارت الرحلة إليهم من الشرق ومن الغرب، ويرجع ذلك إلى أسباب كثيرة ذكرتها في مقالتي عن «الشيخ مصطفى إسماعيل».
ويذكر التاريخ أسماء عظيمة لمعت في سماء مصر في القرنين الأخيرين، وخدمت كتاب الله إقراءً وتأليفاً. ومنهم الشيخ محمد أحمد المتولي المتوفى سنة 1313 هـ = 1895 م، والشيخ محمد مكي نصر المتوفى بعد سنة 1308 هـ، وهو صاحب أعظم كتاب في طرق الأداء وصفات الحروف ومخارجها «نهاية القول المفيد في علم التجويد»، والشيخ علي محمد الضبَّاع المتوفى سنة 1380 هـ = 1961 م.
ومن المعاصرين: الشيخ المقرئ العالم عبد الفتاح عبد الغني القاضي المتوفى سنة 1403 هـ = 1982 م، والشيخ إبراهيم علي شحاتة المقيم الآن بسمَنُّود، والشيخ أحمد عبد العزيز أحمد محمد الزيات، الأستاذ بكلية القرآن بالمدينة النبوية الآن، ويقال: إن الشيخ الزيات هو أعلى القراء الآن إسناداً (وعلو الإسناد معناه قلة
الوسائط بين القارئ الآن، وبين القارئ الأول، وهو المصطفى صلى الله عليه وسلم بما نزل به جبريل عليه السلام، عن رب العزة والجلال).
الشيخ عامر عثمان:
ويقف سيدي وشيخي الشيخ عامر السيد عثمان بين هؤلاء الكوكبة من القراء المعاصرين في مكان ضخم بارز، فهو أكثرهم إقراء للناس، واتصالًا بهم، وتأثيراً فيهم.
وقد عرفته منذ عشرين عاماً قبل وفاته حين بدأ العمل في تحقيق كتاب «لطائف الإشارات في علم القراءات» لشهاب الدين القسطلَّاني، شارح البخاري، المتوفى سنة 923 هـ، بالاشتراك مع الدكتور عبد الصبور شاهين.
وكان الشيخ يتردد على دار الكتب المصرية ومعهد المخطوطات - وكنت يومئذ أعمل به - فشدَّني إليه، ورغَّبني فيه، ودعاني إلى حلقته العامرة الممتدة على أيام الأسبوع كله، فوقفت منه على علم غزير جم، وتمثلت فيه وبه هذه الأوصاف الضافية التي تأتي في كتب التراجم والطبقات، ويظنها من لا علم عنده بتاريخ الأمة، وأحوال الرجال، من المبالغات والتهاويل التي يغص بها تاريخنا ... زعموا!
نعم رأيت في هذا الشيخ الجليل كثيراً مما كنت أقرأه في طبقات القراء والمحدثين والفقهاء والأدباء: من سعة الرواية، وكثرة الحفظ، وجمع الطرق، ودقة الضبط، وتحرير الرواية، وحسن الإتقان.
ولد شيخنا الشيخ عامر، رحمه الله، بقرية «ملامس» مركز منيا القمح، محافظة الشرقية، في 16 مايو سنة 1900 م. وحفظ القرآن الكريم بمكتب الشيخ عطية سلامة، وأئمة ولم يتجاوز التاسعة من عمره، ثم أرسله والده إلى المسجد الأحمدي بطنطا، وتلقى القرآن بقراءة الإمام نافع المدني، من فم عالم القراءات الشيخ السعودي. وقد أُوتي الشيخ عامر في صباه حظاً من حسن الصوت أهَّله لأن يكون قارئاً مرموقاً بمحافظة الشرقية، يقرأ في الليالي والمناسبات، وهو طريق جالب
للرزق الواسع والشهرة المستفيضة، ولكنه عزف عن ذلك وولى وجهه شطر القاهرة، حيث الأزهر الشريف، وأئمة القراءة والإقراء.
وفي القاهرة أخذ في القراءة والتلقي والمشافهة والعرض والسماع، فتلقى القراءات العشر الصغرى من طريق الشاطبية والدرة، على الشيخ محمد غنيم، وهو على الشيخ حسن الجريسي الكبير، وهو على العلامة المقرئ أحمد الدري التهامي، وسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، معروف.
ثم تلقى القراءات العشر الكبرى على الشيخ علي عبد الرحمن سبيع، من أول القرآن إلى قوله تعالى في سورة هود (وقال اركبوا فيها)، ثم إن الشيخ عليّاً أرسل خلف الشيخ عامر يقول له: سوف نبدأ بعد ثلاثة أيام، فقال له الشيخ عامر: كيف سنبدأ بعد ثلاثة أيام يا سيدي ونحن قد وصلنا إلى قوله تعالى: (وقال اركبوا فيها)؟ فقال له الشيخ علي: «بعدين ح تعرف»، ثم توفي الشيخ بعد ثلاثة أيام من هذا الكلام. وكان شيخنا الشيخ عامر إذا ذكر هذه القصة اغرورقت عيناه بالدموع، ويقول: «فكان معنى كلام الشيخ علي أن أيام الآخرة بالنسبة له ستبدأ بعد ثلاثة أيام»، وتوفي الشيخ علي سبيعة سنة 1927 م.
ثم إن الشيخ عامر شرع في ختمة جديدة على تلميذ الشيخ علي سبيع، وهو الشيخ همام قطب، فقرأ عليه ختمة كاملة بالقراءات العشر الكبرى، من طريق الطيَّبة بالتحرير والإتقان، وقرأ الشيخ همام على الشيخ علي سبيع المذكور، وهو على الشيخ حسن الجريسي الكبير، وهو على الشيخ محمد المتولي، وهو على الشيخ أحمد الدري التهامي، وسنده معروف.
حلقة للإقراء بالأزهر:
وهكذا عرف شيخنا الطريق ولزمه. وبعد أن رسخت قدمه في هذا العلم، رواية ودراية، اتخذ لنفسه حلقة بالجامع الأزهر سنة 1935 م للإقراء والتدريس، وكان في أثناء ذلك مكباً على مخطوطات القراءات بالمكتبة الأزهرية ودار الكتب
المصرية، يقرأ وينسخ، فظهر نبوغه ولفت إليه الأنظار، فاتصل به الشيخ علي محمد الضبَّاع، شيخ المقارئ المصرية يومئذ، واستعان في تحقيقات القراءات العشر الكبرى.
وكان رحمه الله حجة في رسم المصحف الشريف، وقد شارك في تصحيح ومراجعة كثير من المصاحف التي طبعت بمطابع الحلبي والشمرلي، والمطبعة الملكية في عهد الملك فؤاد والملك فاروق رحمهما الله.
وحين أنشئ معهد القراءات تابعاً لكلية اللغة العربية بالأزهر الشريف، سنة 1943 م كان الشيخ على رأس مشايخه وأساتذته، فتخرَّجت على يديه هذه الأجيال الكريمة من خدمة كتاب الله والعارفين بعلومه وقراءاته بمصر وخارج مصر.
ولما أنشأت مصر - غير مسبوقة - إذاعة القرآن الكريم سنة 1963 م، وقدمت من خلالها (المصحف المرتل) أشرف الشيخ على التسجيلات الأولى من هذا المشروع العظيم، وكانت بأصوات المشايخ: محمود خليل الحصري، ومصطفى إسماعيل، ومحمد صديق المنشاوي، وعبد الباسط عبد الصمد، ومحمود علي البنا رحمهم الله أجمعين.
وعلى ذكر الإذاعة فقد كان شيخنا عضواً بارزاً في لجنة اختيار القراء، وكان سيفاً بتاراً، حازماً صارماً في غربلة الأصوات وإجادتها، ولم يكن يقبل الميوعة أو تجاوز الأصول في القراءة والأداء، وطالما اشتكى منه القراء، ورموه بالتعسف والتشدد، وضغطوا عليه بوسائل شتى، ولكنه لم يلن ولم يضعف، وكذلك كان يفعل في لجنة اختيار القراء الذين ترسلهم وزارة الأوقاف المصرية إلى البلدان العربية والإسلامية في شهر رمضان. وقد حُورِب كثيراً في لجنة اختيار القراء بالإذاعة المصرية، وطُلب إقصاؤه أكثر من مرة، وكان الذي يقف وراءه مدافعاً ومنافحاً: الشَّاعر الفحل محمود حسن إسماعيل، إذ كان مستشاراً ثقافيّاً بالإذاعة المصرية، رحمهما الله تعالى.
مؤلفات الشيخ:
شُغل الشيخ رحمه الله بالإقراء أيامه كلها، فلم يجد وقتاً متسعاً للتصنيف، ولكن الله سبحانه يسَّر له أن يترك بعض الآثار العلمية في فن القراءات، حتى تكون باعثاً لمن يطالعها أن يدعو له بالمغفرة والرضوان. فمما يحضرني الآن هذه التصانيف الآتية، ولست أدَّعي فيها الحصر:
1 - فتح القدير شرح تنقيح التحرير (في تحرير أوجه القراءات العشر من طريق الطيَّبة).
2 - شرح على منظومة العلامة الشيخ إبراهيم علي شحاتة السمنُّودي، أبقاه الله، في تحرير طرق ابن كثير وشعبة. فرغ منه يوم الجمعة 25 من صفر سنة 1382 هـ.
3 - تنقيح فتح الكريم في تحرير أوجه القرآن العظيم، بالاشتراك مع الشيخ إبراهيم علي شحاته والشيخ أحمد عبد العزيز الزيات. وهو نظم منقح من منظومة فتح الكريم في تحرير أوجه القرآن العظيم، للعلامة شيخ القراء في وقته الشيخ محمد بن أحمد المتولي، المذكور قبل.
4 - كيف يُتلى القرآن، وهي رسالة موجزة محررة في تجويد القرآن: سمَّاها: إملاء ما منَّ به الرحمن على عبده عامر بن السيد عثمان في أحكام تلاوة القرآن. وقد أملاها على أحد تلاميذه الذين يحضرون مقارئه، وهو الطيب الجراح الدكتور حسنى حجازي، رحمه الله. وقد صدرت الطبعة الثانية من هذه الرسالة سنة 1390 هـ = 1970 م.
5 - تحقيق الجزء الأول من كتاب «لطائف الإشارات» الذي ذكرته من قبل. صدر عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة عام 1392، ولعل المجلس ينشط في طبع بقيته.
6 - أعان الأستاذ الدكتور شوقي ضيف في تحقيق كتاب «السبعة» لابن مجاهد، الذي نشرته دار المعارف بمصر أول مرة سنة 1392 هـ = 1972 م. وذلك بمراجعة كتابة آياته الكريمة على هجاء المصاحف المصرية المضبوطة، على ما يوافق رواية حفص عن عاصم، والمطابقة لما رواه علماء الرسم عن هجاء المصاحف التي بعث بها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار الإسلامية.
7 - وكانت آخر أعمال الشيخ مشاركته في لجنة طبع مصحف الملك فهد بن عبد العزيز، الذي صدر بالمدينة النبوية عام 1405 هـ.
فهذا ما يحضرني الآن مما تركه الشيخ من علم مسطور مكتوب. أما أبقى أثر للشيخ وأخلده وأرجحه في موازينه إن شاء الله تعالى، فهو تلك المقارئ التي جلس فيها جلوساً عاماً للناس، وقد شغلت هذه المقارئ أيامه كلها، وأشهر هذه المقارئ مقرأة الإمام الشافعي يوم الجمعة، وقد أسندت إليه مشيختها عام 1947 م وكان عدد الذين يحضرونها من القراء الرسميين أو المعتمدين من وزارة الأوقاف المصرية محدوداً جداً بجانب مختلف طوائف الناس التي كانت تحضر تلك المقرأة وغيرها من المقارئ، فكنت ترى الطبيب والمهندس والضابط والمحامي والموظف والتاجر والحرفي، والفتى الصغير، والشاب اليافع، والشيخ الفاني، مختلف الأعمار والمهن، يتحلقون حول الشيخ؛ يقرأون ويصحح، عيونهم مشدودة إلى شفتيه، وهو يروَّضهم على النطق الصحيح، يصبر على الضعيف حتى يقوى، ويرفُق بالمتعثر حتى يستقيم، لا يسأم ولا يمل، ولا زلت أذكره - رحمه الله - وهو يروَّض بعض إخواننا على ترقيق اللام من قوله تعالى: {رب إنهن أضللن} [إبراهيم: 36]، وكان عسراً على هذا الأخ أن يرقق اللام بعد الضاد، فكان شيخنا يقرأ أمامه (أضللن) على مقطعين هكذا: (أضْ) (لَلْن) ويكرر المقطعين منفردين ثم يقرأهما معاً حتى يخلص له الترقيق المراد. وكذلك لا زلت أذكره وهو يروَّضنا على الخروج من التفخيم إلى الترقيق وبالعكس، في قوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [الأنبياء: 28]، فأنت هنا تفخم الراء وإن كان قبلها كسر؛ لأنه كسر عارض للتخلص من التقاء الساكنين، ثم ترقق التاء وتعود إلى تفخيم الضاد، وهكذا كنت تقضي العجب وأنت تنظر إلى حركة فكيه وشفتيه وجريان لسانه في إعطاء كل حرف حقه ومستحقه: من الهمس والجهر والغنة والإظهار والإخفاء والإقلاب والفك والإدغام، وغير ذلك من دقائق الصوتيات، مما لا تستطيع معامل الأصوات أن تنقله بدقة إلى الطالب لأن هذا العلم - علم الأداء - قائم على التلقي والمشافهة.
ولو كان لي من الأمر شيء لأتيت بشيخ من علماء القراءات في كل قسم من أقسام اللغة العربية بجامعتنا ليعمل على تدريب الطلبة على الأداء الصحيح والنطق السليم، بجانب معامل الأصوات الحديثة. وهؤلاء المشايخ (الغلابة) لن يأخذوا من الأجر أكثر مما تستهلكه هذه المعاملة من طاقة وكهرباء، بل إني أذهب إلى أبعد من هذا في التمني: وهو أن يعين شيخ من هؤلاء القراء مشرفاً خارجيّاً مع المشرف الأكاديمي لكل رسالة علمية (ماجستير أو دكتوراه) تتصل بعلم القراءات من قريب أو بعيد.
ومن تفتن شيخنا في مجال الأداء الصوتي: أنه كان يأخذنا إلى تفرقة دقيقة لطيفة، في الوقف على الراء من قوله تعالى: {فكيف كان عذابي ونذر (16)} [القمر: 16]، وقوله عزَّ وجلّ: {كذبت ثمود بالنذر (23)} [القمر: 23]، فالراء في الآية الأولى يستحسن أن يوقف عليها بترقيق لطيف يشعر بالياء المحذوفة؛ لأن أصلها (ونُذُري) بإثبات ياء الإضافة، وقرأ بها ورش بن سعيد المصري، عن نافع المدني. ومن القراء المعاصرين الذين سمعتهم يراعون ذلك الترقيق اللطيف المشايخ: محمود خليل الحصري، ومحمود حسين منصور، ومحمد صديق المنشاوي.
أما الراء في الآية الثانية فيوقف عليها بالتفخيم الخالص؛ لأنها جمع نذير.
وأما «النبَّر» في مصطلح علم اللغة الحديث - وهو النظام المقطعي في قراءة الكلمة، فقد كان الشيخ رحمه الله آية فيه، وقد سألته عنه يوماً، فقال لي: «إن القراء لم يذكروا هذا المصطلح، ولكنه بهذه الصفة يمكن أن يُسمَّى «التخليص» أي تخليص مقطع من مقطع». وها أنا ذا أضع هذا المصطلح أمام علماء اللغة الحدثين ليروا فيه رأيهم، ولعلهم يحلونه «النبر». وقد سمعت لهذا «التلخيص» من الشيخ أمثلة كثيرة جداً، أذكر منها قوله تعالى: {فسقى لهما ثم تولى إلى الظل} [القصص: 24]، وقوله تعالى: {فقست قلوبهم} [الحديد: 16]، وقوله عزَّ وجلّ: {وساء لهم يوم القيامة حملًا (101)} [طه: 101]، فأنت لو ضغطت على الفاء في الآية الأولى صارت من الفسق لا من السقي، وإن لم تضغط على الفاء في الآية الثانية صارت من الفقس لا من القسوة. أما في الآية الثالثة فلا بد أن تخلص (ساء) من (لهم) حتى يكون من السوء لا من المساءلة، لو خطفتها خطفة واحدة. هكذا كان يعلمنا الشيخ، إلى أمثلة كثيرة لا أحصيها عدداً. لكني أذكر أن أحدهم قرأ مرة أمام الشيخ: {فلهم أجر غير ممنون (6)} [التين: 6]، وخطف (فلهم) خطفة واحدة ضاغطاً على الفاء، بحيث صارت الكلمة كأنها فعل ماض مسند إلى ضمير الجماعة، مثل: ضربهم، فقال له الشيخ: (مفلهمش) يريد رحمه الله أن يقول إنه ليس فعلًا واقعاً عليهم، وأن هذه البنية من مقطعين (ف) (لهم).
وكان الشيخ صاحب دعابة، فكان إذا قرأ أحدهم على غير الجادة يقول له مستفهماً مستنكراً: إنت جوّدت القرآن في ألمانيا؟ وقرأ بعضهم أمامه برواية خلف عن حمزة، ولم يكن متقناً للرواية، فقال له: «قُوم يا شيخ، دانا كنت باحْسِبَك خَلَف الحبايب»، وقرأ آخر أمامه وتحنن في صوته تحنناً ظاهراً في تكسر، فقال له الشيخ: «مافيش فايدة» يريد أنه يقلد صت «فايدة كامل»، فقد كان في صوته تلك السمات التي عرفت بها هذه المغنية قبل أن تشتغل بالسياسة.
وكان للشيخ حسن دقيق جداً في تقييم الأصوات والحكم عليها، وقد لا يعرف كثير من الناس أن الشيخ رحمه الله، درس علم الموسيقى بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية أل إنشائه.
وكما كانت معرفة الشيخ بمخارج الحروف وصفاتها عظيمة، كانت عنايته بالوقوف: تامها وحسنها وكافيها، عالية جداً، وكان يأخذ على بعض كبار القراء تهاونهم في تعهد الوقوف ومراعاتها، وكان يصارحهم بذلك فيغضبون.
وكان شيخنا رحمه الله يتشدد في الوقوف على رؤوس الآي: لأنها سنة، ولو تعلقت الآية بما بعدها. فإذا كانت الآية التالية مقول قول في الآية الأولى، وكان البدء بمقول القول هذا مما يوهم أن يكون إقراراً من القارئ وليس من المحكي عنه، وقف على رأس الآية الأولى اتباعاً للسنة، ثم يستأنف الآية الثانية تالياً الفعل السابق في الآية الأولى. مثال ذلك قوله تعالى في سورة الصافات: {ألا إنهم من إفكهم ليقولون (151) ولد الله وإنهم لكاذبون (152)} [الصافات: 151، 152]، يتلوها هكذا: ألا إنهم من إفكهم ليقولون. ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون. وما أكثر ما علَّمنا هذا الإمام الكبير!
ومع حرص الشيخ على كمال الأداء وحسن التجويد، فقد كان يعيب على بعض القراء المبالغة في ذلك، ويراه لوناً من التنطع والشقشقة. وللفائدة هنا فإني أذكر بأن مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي المتوفى سنة 478 هـ، قد أخذ على قراء زمانه مبالغتهم في التجويد والتقعر في إخراج الحروف، وذلك في رسالة له لطيفة مطبوعة، سمَّاها «بيان زعل العلم»، وهي رسالة نافعة، عرض فيها الذهبي لأخطاء أهل العلم.
نور القرآن:
وقد أضاء شيخنا القاهرة كلها بنور القرآن، فلم تكن مقرأة الإمام الشافعي هي المكان الوحيد الذي يجلس فيه للإقراء، فقد كان يبدأ يومه عقب صلاة الفجر بالإقراء بمسجد السيدة زينب، حيث يسكن الشيخ قريباً من المسجد الزينبي، وهناك مقارئ أخرى يحضرها الشيخ منها مقرأة بمسجد النقشبندي بجوار مستشفى أحمد ماهر بالقرب من باب الخلق، وكان موعدها يوم السبت، ومقرأة الجمعية التعاونية للبترول بشارع قصر العيني، يومي الاثنين والثلاثاء، ومقرأة يوم الأربعاء بمسجد بمنزل الحناوي بجاردن سيتي.
وقد تفرع من هذه المقارئ مقارئ أخرى، منها مقرأة الدكتور صادق بمنطقة الحلمية، بالقرب من القلعة. وهذا الدكتور صادق طبيب أطفال، وقد تلقى عن الشيخ القراءات السبع. وفي صوت هذا القارئ الطبيب صفاء وخشوع يأخذان بمجامع القلوب.
ومقرأة بمسجد يوسف الصديق بميدان الحجاز بمصر الجديدة، يقوم عليها القارئ الطبيب الدكتور عوض الأستاذ بكلية طب الأزهر، ومقرأة بمسجد مصطفى محمود بالمهندسين، يقوم عليها الحاج حسين، وهو صاحب معرض ملابس، وقد لازم الشيخ كثيراً بزاوية النقشبندي. وتلامذة الشيخ كثيرون، أذكر منهم الأديب الأستاذ عبد العزيز العناني، وهو مؤرخ للموسيقى العربية، لا تجد له في بابه نظيراً، ألبسه الله ثوب الصحة والعافية.
ومن الوزراء الذين قرأوا على الشيخ ولازموه ونوروا به مجالسهم: السادة عبد المحسن أبو النور، وتوفيق عبد الفتاح، وعبد الرحمن الشاذلي، وإبراهيم سالم. ويأتي على رأس هؤلاء جميعاً الرجل التقي النقي - ولا نزكي على الله أحداً - الدكتور إبراهيم بدران. وكان من أبر الناس بشيخنا، وقد حمله وأعد له مكاناً رحباً بالمستشفى الذي يملكه بالمهندسين، وأقام عليه من يخدمه ويتولى أمره، وخصص له سيارة تحمله إلى حيث يشاء، وذلك بعد وفاة زوجته، رحمهما الله جميعاً.
وقد أفاد من علم الشيخ نساء كثيرات، منهن السيدة سميحة أيوب، وإذا تأملت أداءها في النصوص المسرحية الفصيحة رأيت أمارات ذلك. ومنهن السيدة مفيدة عبد الرحمن، المحامية الشهيرة. ولهذه السيدة الفاضلة بالقرآن وخدمته نسب وثيق، فأبوها هو: عبد الرحمن محمد، صاحب المطبعة الكائنة بحي الصنادقية بالأزهر الشريف. وقد تخصصت هذه المطبعة في طبع المصحف الشريف منذ زمن بعيد.
تلاميذ الشيخ في كل مكان:
على أن لشيخنا الشيخ عامر أثراً آخر مباركاً، غير التصنيف والإقراء: هو هذا العون الظاهر الذي قدَّمه لهذا النفر من الجامعيين الذين اتخذوا من علم القراءات ميداناً لدراساتهم الصوتية والتاريخية، يحضرني منهم الأساتذة: عبد الفتاح إسماعيل شلبي، وأحمد علم الدين الجندي، وعبد الصبور شاهين، إلى كثير من المعيدين والمبتدئين الذين كانوا يختلفون إليه لتجلية غامض، أو كشف مبهم من هذا العلم الذي هو علم العربية بحق.
وعلى الجملة فتلاميذ الشيخ والمنتفعون بعلمه لا يحصون، داخل مصر وخارجها، وكنت أرى كثيراً من أبناء الدول العربية والإسلامية، بل من المستشرقين، يأتون إليه، ويجلسون في حلقته، ويا ليتني أحصيتهم عدداً، وقيدت أسماءهم وأسماء بلدانهم وأعمارهم، إحياء لسنن قديمة في تراثنا التاريخي، من ذكر الواردين على البلاد، والمرتحلين إلى الشيوخ.
وفي سنواته الأخيرة اختار شيخنا المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام - مستقراً ومقاماً، حيث دعي إلى هناك لمراجعة مصحف الملك فهد، وللتدريس بكلية القرآن بالجامعة الإسلامية.
وفي مساء يوم الخميس، وقبيل فجر يوم الجمعة الخامس من شوال سنة 1408 هـ الموافق للعشرين من مايو سنة 1988 م، اختار الله إلى جواره عبده وخادم كتابه: عامر السيد عثمان، وصلي عليه بالمسجد النبوي الشريف عقب صلاة الجمعة، ودُفن بالبقيع، مرحوماً مرضياً عنه إن شاء الله.
اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعفُ عنه، واجعل كل ما قدَّمه من خدمة كتابك في موازينه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً. وهيئ لهذه الأمة من يخلف هؤلاء الرجال العظام، ويقوم مقامهم، حياطة لدينك، وحفظاً لكتابك. إنك على ما تشاء قدير.