(القرآن الكريم وترجمته في الغرب - 3)


بواكير الترجمة:

وطبيعي أن الأماكن التي كانت بؤراً للصدام بين الإسلام والنصرانية هي التي تم فيها التبادل الثقافي، وأدت إسبانيا دوراً مهماً في هذا، ففي بداية الفترة التي نُعنى ببحثها هنا، لما فيها من الميزات الأخرى من حضور مسلمين يمكنهم أن يتحدثوا اللغة الإسبانية، وعدد من رجال الدين النصارى المدفوعين برغبة في التعلم والفهم، وجاءت الترجمة الأولى للقرآن التي قام بها نصارى لفائدة النصارى الآخرين جزءاً من حركة أعم، قد تكون بدأت مبكرة في النصف الثاني من القرن العاشر، ولكن تم دعمها دعماً كبيراً بالاستيلاء على طليطلة عام 1085م، ووصل عدد من المفكرين إليها من أمثال رايموند (Raymond) الذي عمل أسقفاً فيها في الفترة من 1125 إلى 1152م، وخليفته يوحنى (John) (1152-1166م)، واستغل رجال الدين هؤلاء وجود متحدثي اللغة العربية من النصارى المعروفين بالمستعربين (Mozarabs) واليهود، إذ جعلوهم يعملون في الترجمة من اللغة العربية إلى الإسبانية، ومن ثم يقوم رجل دين بالترجمة من الإسبانية إلى اللاتينية. وبدأ بحث واسع عن النصوص العربية، سواء أكانت علمية أم فلسفية، وكان هذا بباعث من فضول حقيقي لمعرفة الآخر، وفي هذه الفترة نفسها، التي كانت تسودها روح الحملات الصليبية، و على نحو أعم بالرغبة في الصدامات العسكرية، وُجِدَ أفراد قادرون على أن ينحوا منحى آخر (34)، مثلت فيه ترجمة القرآن مرحلة لا يستغنى عنها، ولكن يجب أن نفهم بوضوح أنه لم يقل أحد [من هؤلاء] بمساءلة أفضلية النصرانية على الإسلام، فكان الغرض هو إعداد العدة لإقناع الآخر وتحويله على ما هم عليه، وتنصير المسلمين من أجل خلاصهم، وهذا يعني تحقيق الهدف نفسه بوسائل أخرى: الوسيلة الثقافية في مقابل السبل العسكرية.
وإذا ما أغفلنا محاولة مبكرة لترجمة القرآن ترجمة جزئية تمت إبان عصر ألفونش الأرغوني الأول (Alfonso I of Aragon) (1104-1134م) (35)، فإن أول محاولة كبيرة هي التي بدأها مشرف دير كلني (Abbot of Cluny) الشهير ببطرس المبجّل (Peter the Venerable) (1094-1156م) (36)، ففي عام 1141م خلال رحلة قام بها إلى إسبانيا للاطمئنان على أتباع طريقة البندكتين الرهبانية (Benedictine order) في الأندلس، وخلال هذه الرحلة تكونت لديه قناعة بأهمية فهم المسلمين للتمكن من تنصيرهم، ورأى أنه يجب السماح لرجال الدين بالتعرف على دين المسلمين إذا ما أُريد لهم أن يتسلحوا بنقاش مقنع، وفي سياق الترجمة من اللغة العربية التي ذكرنا آنفاً، كان بطرس المبجل على ثقة من أنه سيجد أناساً مؤهلين لأداء مشروعه بنجاح، ونجح فعلاً في الوصول إلى عالمين وهما: الإنكليزي روبرت الكيتوني (Robert of Ketton)، وهرمان الدالماتي (Hermann the Dalmatian) أو الكارنيثي (Carnithian) الذي جاء إلى إسبانيا بحثاً عن كتاب المجسطي (Almagest) لبطليموس، وبإغرائهما نجح بطرس المبجل في استخدامهما، وتمكن علاوة على هذا من إضافة مسلم إلى الفريق، عُرف بـ "محمد"، وهذه إضافة ناجحة لأن لغة القرآن صعبة وعند المسلمين كتابات متخصصة فيها تشمل شروحاتٍ، وتفاسير، وهذه الكتابات لم تكن في متناول لا روبرت ولا هيرمان، والأبعد من هذا أنه في ذلك العصر لم تكن هناك معاجم كبيرة بل في أفضل الحالات شروحات صغيرة غير كافية، وكان من الأيسر الوصول إلى التفاسير وعن طريقها أمكن فهم ما أشكل من القرآن، ومما لا شك فيه فإن بطرس المبجل استخدم مسلماً لمساعدة المترجمين ليمكن التعامل مع هذه المشكلات.
والمخطوطة المؤرخة عام 1162م المحفوظة في مكتبة أرسينال (Arsenal Library) هي بلا شك أصل الترجمة التي بدأها بطرس المبجل -كما تؤكد دي ألفرني (37)- والنتيجة تظهر حرص روبرت الكيتوني ومساعديه على التأكيد على ترابط النص ووضوحه، حتى على حساب إدخال مواد ليست في الأصل، وتفسير بعض المواطن المشكلة (38).
وهذه الترجمة التي تشكل جزءاً من مجموع النصوص الإسلامية التي عرفت بمجموعة طليطلة (Corpus Toletanum)، أدت دوراً كبيراً في فهم أوروبا للإسلام، ليس في العصور الوسطى وحسب، بل وحتى في العصر الحديث (39). وبهيئة مقتبسات –خرجت أحياناً ضمن نصوص جدلية- نقلت هذه الترجمة إلى اللغات العامية (40)، ونشرت على نطاق واسع بعد ظهور الطباعة (41)، والأهم من هذا أنها حظيت بأن تكون الترجمة الكاملة الأولى التي قام بطابعتها ببلياندر –ورأت النور بمدينة بازل عام 1443م- رغم أنه تكبد كثيراً من مصاعب المعارضة من الجانب الفكري (الأيديولوجي) (42)، وأول ترجمة بلغة حديثة وهي التي قام بها أندريه أريفابين (Andrea Arrivanene) كانت في حقيقتها نسخة إيطالية لترجمة روبرت الكيتوني، على الرغم من مزاعم المترجم بأنها غير ذلك (43).
الهزيمة النصرانية في الأرك (Alarcos) عام 1195م أعادت إشعال جذوة المحاولات النصرانية لمعاودة الهجوم، وكان لأسقف طليطلة ردريغو خيمينيس دي رادا (Rodrigo Jimenez de Rada) دوراً هاماً في هذه المرحلة، وكان هذا الرجل العظيم [؟] ومساعده رئيس الشمامسة موريس (Maurice) من طلب ترجمة ثانية إلى أحد المستعربين النصارى، يدعى ماركو الطليطلي (Marco de Toledo)، الذي انتهى من المهمة عام 1209 أو 1210م (44)، وتختلف ترجمته عن ترجمة روبرت الكيتوني بأمانتها الكبيرة للأصل، وقيل إنها: «تتبعَّت ترتيب الكلمات في اللغة العربية، مما جعلها تبدو غير مترابطة ومشوشة» (45)، وترجمة ماركو الطليطلي التي تُتلقى أمانتها اليوم بشيء من التقدير، لم تنجح كسابقتها في مجموعة طليطلة.
ومما يؤسف له أن الترجمة التي قام بها يوحنى الشقوبي خلال الربع الثاني من القرن الخامس عشر فقدت (46)، ويوحنى الذي ربما كان يهودياً ثم تنصَّر، حاز على نسخة مكتوبة من القرآن، فوفقاً لفهرس مكتبته فإن النسخة كتبت: «بأحرف عربية قديمة جداً» (47)، وكان مقتنعاً بأن أصل المشكلة بين الإسلام والنصرانية هي قلة معرفة الآخر، مما هو واضح وجلي في كلا الجانبين، ورأى أن زمام المبادرة يجب أن يكون بيد النصارى [الذين رأى أنهم] أصحاب الحقيقة. وبعدما درس ترجمة روبرت الكيتوني دراسة نقدية خرج بنتيجة مفادها أنه يتعين عليه البدء من الصفر، ونعلم من مراسلاته الطريقة التي استفاد بها من المخطوطات، فنرى أنه اعتمد على نسخته الخاصة وعلى نسخة أخرى، ونسخة ثالثة تخص دار الرهبان الشحاذون (Mendicant Friars) بمدينة بازل، التي جلبها من أيتون (48)، ومما لا شك فيه، وهو اللغوي البارع، أنه أراد الحصول على أكبر قدر من المصادر، وأعلمه نيقولا الأكيس بوجود ثلاث نسخ أخرى: الأولى في بفاريا، والثانية في كولونيا، والثالثة في رورموند (Roermund) في لمبورغ (Limbourg) (49)، ومما يثير اهتمامي حول طريقة الشقوبي في الترجمة أنه استفاد من خبرة مختصص في الفقه من شقوبيا، وهو عيسى الجيدلي (Isâ Gidelli)، الذي جاء مع رفيق له مسلم، وقضى مدة أربعة أشهر في سافوي، نسخ فيها القرآن ومعه ترجمة إسبانية. وعلَّني أستطرد قليلاً هنا، بالتأكيد على القدر الذي سهل به عمل المترجم بتوافر الترجمات الإسبانية التي قام بها المورسكيون لأغراضهم الشخصية. وبقي من هذه الترجمات عدد منها: أولها نسخة لمقتطفات، موجودة الآن في المكتبة الوطنية الفرنسية، وقد نسخت في سالونيكا عام 1569م وقام بها شخص يدعى إبراهيم إسكويردو (Ibrâhim Isquierdo) (50)، وثانيها نسخة كاملة تعود لتاريخ 1606م، وهي جزء من مجموعة طليطلة اليوم (51)، والأخيرة تنتمي للأعجميات (aljamiados)، وهي نسخ استخدم فيها الحرف العربي لنقحرة إحدى اللغات المحلية في الأندلس، ويظهر أن أقدم نسخ هذه المجموعة تعود للقرن الخامس عشر (52). وفيما يخص ترجمة يوحنى الشقوبي اللاتينية فقد خرجت باللون الأحمر متوازية مع ترجمة إسبانية، وجاء النص العربي في الصفحة المقابلة، والعلاقة بين هذه النسخ فيما يخص أحذ بعضها عن بعض واضحة على قدر مطمئن، إلا أنه في تلك الأثناء كانت إسبانيا على وشك أن تُسترد بكاملها، واستعمل العلم باللغة العربية أداةً في تنصير المورسكيين (53)، وكان هذا هو الغرض المحدد لعمل بدرو الألكالي (Pedro de Alcalà) الذي نشر عام 1505م معجماً عربياً، وإن كان للهجة عربية بعيدة كل البعد عن لغة القرآن (54).
والمرحلة القادمة من القصة تأخذنا إلى إيطاليا وفرنسا، ليس ببعيد عن عمل يوحنى الشقوبي من حيث المدة، وفي ظروف مشابهة خرجت ترجمة لاتينية أخرى في إيطاليا برعاية من إيكيديو الفيتربي (Egidio da Viterbo) (عاش حوالي 1465-1532) (55). وتظهر كل صفحة في أربعة أعمدة تحتوي على: النص العربي، ونقحرته بالحرف اللاتيني، وترجمة لاتينية، وتعليقات، وقام بهذا العمل شخص يدعى جيوفاني كابرييللي التيروالي (Giovanni Gabriele de Terolla)، الذي أكمل العمل عام 1518م، والشخصية المعروفة، ليون الإفريقي (Leo Africanus) كانت له علاقة بهذا العمل إذ عمل محرراً مصححاً له، وهو مسلم من عائلة ذات شأن ولد في غرناطة عام 1495م، وأمسك به قرصان صقلِّي عام 1518م، وقدَّمه هدية للبابا ليون العاشر (Leon X)، وعُمِّد وعاش في روما حتى عام 1531م، إذ تمكَّن من العودة إلى تونس (56)، وهو الذي عمل مع إيكيديو الفيتربي الذي كان ملماً بالعربية خلافاً ليوحنى الشقوبي، وربما توافرت لدى رجل الدين البارز هذا المخطوطة القرآنية ذات الرقم 405 الموجودة في المكتبة الوطنية الفرنسية (57)، وهذه المخطوطة التي كانت بإيطاليا في ذلك الوقت (عام 1459م) ربما شكلت جزءاً من مكتبة إيكيديو الفيتربي، لأن فهرس مكتبته يذكر أربعة مجلدات مكتوبة إما بالعربية أو التركية (العثمانية) (58)، وعلى أي فقد وقعت النسخة بين يدي قارئ غربي مدقِّق أعاد كتابة ما سقط منها من النص العربي (59).
والترجمات التي ذكرت كان المعني بها طبقة القراء المتعلمة، فجميعها باللغة اللاتينية، وتعكس اهتمامات من أمروا بإعدادها، وانحصر بهذا تأثير هذه الترجمات في دائرة صغيرة. ولكن بظهور الطباعة خرجت ترجمات باللغات العاميَّة، بنيت على ترجمة روبرت الكيتوني وأشاعت على نطاق واسع في أوروبا المعرفة بالإسلام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(34) بطرس المبجل لم يقدم على عمله لمعرفة الآخر، بل لأهداف تسودها روح العداء، وهذا ما يظهر من عنوان الترجمة التي تبناها وهو: Lex Saracenus، أي قانون السراكيين، ومن مقدمات المترجم الموغلة في نقد الإسلام. المترجم .

(35) وهذا فصل من Dialogi in quibus impiæJudæorum opiniones . . . confutantur لبطرس الفونسي (Petrus Alphonsi )، وتظهر فيه ترجمات لبعض آيات من القرآن قام بها المؤلف. انظر (Bobzin, op. cit., pp. 44–6).

(36) See d’Alverny, op. cit.

(37) Ibid., pp. 108–9.

(38) Ibid., pp. 85–6..
ولكن في هذا نظرة متأثرة بالدراسات الاستشراقية حول ترابط النص القرآني. (المترجم).

(39) وهي مجموعة من الكتابات عن الإسلام وضده، بدأها بطرس المبجل، الذي رأى إبان فترة الحملات الصليبية، أن القتال ضد المسلمين لا يكون بالسيف وحسب، بل وبالقلم أيضاً، فقام بتشكيل لجان لترجمة عدد من الكتب الإسلامية والتعليق عليها. (المترجم).

(40) وهي vernacular، وهي اللغات الأوربية المنحدرة من اللغة اللاتينية كالإسبانية والبرتغالية والإيطالية والفرنسية، وسميت بالعامية، لأنها لم تزل في تلك العصور لهجات للغة اللاتينية، لغة الدين والعلم، التي كانت أعلى شأناً من هذه اللغات. (المترجم).

(41) ترجمة عام 1616م الألمانية التي قام بها سولومن شفيقر (S. Schweigger) أخذت من ترجمة الإيطاليى أندريه أريفابين (Arrivabene)، وكانت بدورها أساساً لترجمة هولندية مجهولة المترجم خرجت عام 1641م.

(42) ولبوبزين (Bobzin, op. cit., pp. 159–239) دراسة تاريخية موثقة بدقة لتاريخ هذه النسخة.

(43) L’Alcorano di Macometto, nel qual si contiene la dottrina, la vita, i costumi, e le leggi sue. Tradotto novamento dall’arabo in lingua italiana [قرآن محمد، مشتملاً على تعاليمه، وحياته وأخلاقه، وقوانينه: ترجمة جديدة من العربية إلى اللغة الإيطالية], 1547.
وعلاوة على دعواه في العنوان أن ترجمته كانت من العربية مباشرة، يذكر أريفابين في موضعين في مقدمته وإهدائه أنه قام بالترجمة من اللغة العربية مباشرة: «هذا قرآن محمد الذي، كما ذكرت، ترجمته من لسانه [العربي] مباشرة وحررته للطباعة» (ص iii) (‘Questo è Sig. Illustr. l’Alcorano di Macometto, il quale come ho gia detto, ho fatto dal suo idioma tradurre e dar alla stampa’).

(44) d’Alverny, op. cit., pp. 113–30.

(45) Ibid., p. 114.

(46) Cabanelas, op. cit.

(47) Ibid., p. 168 and n. 3.

(48) Ibid., p. 162.

(49) Ibid., pp. 161–2 and n. 1.

(50) Paris Manuscript, BNF Arabic MS 447; see Déroche, op. cit., p. 39.

(51) World Bibliography of Translations of the Holy Qur’an in Manuscript Form, I, pp. 163–4, No. 258/3.

(52) Ibid., p. 5, No. 4/1; see the other examples, pp. 6–22.

(53) أو moriscos، وهو الاسم الذي كان يطلق على سكان إسبانيا من المسلمين. (المترجم).

(54) P. de Alcalà, Arte para legeramente saber la lingua araviga. Vocabulista aravigo en letra castellana [طريقة في دراسة اللغة العربية بسهولة، الكلمات العربية مكتوبة بأحرف اللغة الإسبانية], Granada, 1505.

(55) لمعرفة المزيد عن إيديكو الفتربي، انظر:
G. Ernst, ‘Egidio da Viterbo’, Dizionario biografico degli Italiani, 42, pp. 341–53, Rome, Istituto della Enciclopedia italiana, 1993.

(56) See s.v. ‘Léon l’Africain’, Encyclopédie de l’Islam, new edition, Vol. V, pp. 728–9; also in O. Zhiri, L’Afrique au miroir de l’Europe: fortunes de Jean Léon l’Africain à la Renaissance [إفريقيا في مرآة أوربا: حوادث جان ليون الإفريقي إبان عصر النهضة], some details on pp. 27–50, Geneva, Droz, 1991.

(57) Déroche, op. cit., pp. 450–1.

(58) C. Astruc and J. Monfrin, ‘Livres latins et hébreux du cardinal Gilles de Viterbe’ [الكتب اللاتينية والعبرية للكاردينال إيديكو الفرتيربي], Bibliothèque d’humanisme et renaissance, 23, p. 553, 1961. In the same inventory, No. 33 is a ‘tabula alphabeti in Alcoranum in lingua spagnola’.

(59) See, for example, fo. 28, 58v, 72v, etc.

* مرفق:
ترجمة أعجمية لفاتحة الكتاب (المترجم).
(القرآن الكريم وترجمته في الغرب - 3) بواكير الترجمة: وطبيعي أن الأماكن التي كانت بؤراً للصدام بين الإسلام والنصرانية هي التي تم فيها التبادل الثقافي، وأدت إسبانيا دوراً مهماً في هذا، ففي بداية الفترة التي نُعنى ببحثها هنا، لما فيها من الميزات الأخرى من حضور مسلمين يمكنهم أن يتحدثوا اللغة الإسبانية، وعدد من رجال الدين النصارى المدفوعين برغبة في التعلم والفهم، وجاءت الترجمة الأولى للقرآن التي قام بها نصارى لفائدة النصارى الآخرين جزءاً من حركة أعم، قد تكون بدأت مبكرة في النصف الثاني من القرن العاشر، ولكن تم دعمها دعماً كبيراً بالاستيلاء على طليطلة عام 1085م، ووصل عدد من المفكرين إليها من أمثال رايموند (Raymond) الذي عمل أسقفاً فيها في الفترة من 1125 إلى 1152م، وخليفته يوحنى (John) (1152-1166م)، واستغل رجال الدين هؤلاء وجود متحدثي اللغة العربية من النصارى المعروفين بالمستعربين (Mozarabs) واليهود، إذ جعلوهم يعملون في الترجمة من اللغة العربية إلى الإسبانية، ومن ثم يقوم رجل دين بالترجمة من الإسبانية إلى اللاتينية. وبدأ بحث واسع عن النصوص العربية، سواء أكانت علمية أم فلسفية، وكان هذا بباعث من فضول حقيقي لمعرفة الآخر، وفي هذه الفترة نفسها، التي كانت تسودها روح الحملات الصليبية، و على نحو أعم بالرغبة في الصدامات العسكرية، وُجِدَ أفراد قادرون على أن ينحوا منحى آخر (34)، مثلت فيه ترجمة القرآن مرحلة لا يستغنى عنها، ولكن يجب أن نفهم بوضوح أنه لم يقل أحد [من هؤلاء] بمساءلة أفضلية النصرانية على الإسلام، فكان الغرض هو إعداد العدة لإقناع الآخر وتحويله على ما هم عليه، وتنصير المسلمين من أجل خلاصهم، وهذا يعني تحقيق الهدف نفسه بوسائل أخرى: الوسيلة الثقافية في مقابل السبل العسكرية. وإذا ما أغفلنا محاولة مبكرة لترجمة القرآن ترجمة جزئية تمت إبان عصر ألفونش الأرغوني الأول (Alfonso I of Aragon) (1104-1134م) (35)، فإن أول محاولة كبيرة هي التي بدأها مشرف دير كلني (Abbot of Cluny) الشهير ببطرس المبجّل (Peter the Venerable) (1094-1156م) (36)، ففي عام 1141م خلال رحلة قام بها إلى إسبانيا للاطمئنان على أتباع طريقة البندكتين الرهبانية (Benedictine order) في الأندلس، وخلال هذه الرحلة تكونت لديه قناعة بأهمية فهم المسلمين للتمكن من تنصيرهم، ورأى أنه يجب السماح لرجال الدين بالتعرف على دين المسلمين إذا ما أُريد لهم أن يتسلحوا بنقاش مقنع، وفي سياق الترجمة من اللغة العربية التي ذكرنا آنفاً، كان بطرس المبجل على ثقة من أنه سيجد أناساً مؤهلين لأداء مشروعه بنجاح، ونجح فعلاً في الوصول إلى عالمين وهما: الإنكليزي روبرت الكيتوني (Robert of Ketton)، وهرمان الدالماتي (Hermann the Dalmatian) أو الكارنيثي (Carnithian) الذي جاء إلى إسبانيا بحثاً عن كتاب المجسطي (Almagest) لبطليموس، وبإغرائهما نجح بطرس المبجل في استخدامهما، وتمكن علاوة على هذا من إضافة مسلم إلى الفريق، عُرف بـ "محمد"، وهذه إضافة ناجحة لأن لغة القرآن صعبة وعند المسلمين كتابات متخصصة فيها تشمل شروحاتٍ، وتفاسير، وهذه الكتابات لم تكن في متناول لا روبرت ولا هيرمان، والأبعد من هذا أنه في ذلك العصر لم تكن هناك معاجم كبيرة بل في أفضل الحالات شروحات صغيرة غير كافية، وكان من الأيسر الوصول إلى التفاسير وعن طريقها أمكن فهم ما أشكل من القرآن، ومما لا شك فيه فإن بطرس المبجل استخدم مسلماً لمساعدة المترجمين ليمكن التعامل مع هذه المشكلات. والمخطوطة المؤرخة عام 1162م المحفوظة في مكتبة أرسينال (Arsenal Library) هي بلا شك أصل الترجمة التي بدأها بطرس المبجل -كما تؤكد دي ألفرني (37)- والنتيجة تظهر حرص روبرت الكيتوني ومساعديه على التأكيد على ترابط النص ووضوحه، حتى على حساب إدخال مواد ليست في الأصل، وتفسير بعض المواطن المشكلة (38). وهذه الترجمة التي تشكل جزءاً من مجموع النصوص الإسلامية التي عرفت بمجموعة طليطلة (Corpus Toletanum)، أدت دوراً كبيراً في فهم أوروبا للإسلام، ليس في العصور الوسطى وحسب، بل وحتى في العصر الحديث (39). وبهيئة مقتبسات –خرجت أحياناً ضمن نصوص جدلية- نقلت هذه الترجمة إلى اللغات العامية (40)، ونشرت على نطاق واسع بعد ظهور الطباعة (41)، والأهم من هذا أنها حظيت بأن تكون الترجمة الكاملة الأولى التي قام بطابعتها ببلياندر –ورأت النور بمدينة بازل عام 1443م- رغم أنه تكبد كثيراً من مصاعب المعارضة من الجانب الفكري (الأيديولوجي) (42)، وأول ترجمة بلغة حديثة وهي التي قام بها أندريه أريفابين (Andrea Arrivanene) كانت في حقيقتها نسخة إيطالية لترجمة روبرت الكيتوني، على الرغم من مزاعم المترجم بأنها غير ذلك (43). الهزيمة النصرانية في الأرك (Alarcos) عام 1195م أعادت إشعال جذوة المحاولات النصرانية لمعاودة الهجوم، وكان لأسقف طليطلة ردريغو خيمينيس دي رادا (Rodrigo Jimenez de Rada) دوراً هاماً في هذه المرحلة، وكان هذا الرجل العظيم [؟] ومساعده رئيس الشمامسة موريس (Maurice) من طلب ترجمة ثانية إلى أحد المستعربين النصارى، يدعى ماركو الطليطلي (Marco de Toledo)، الذي انتهى من المهمة عام 1209 أو 1210م (44)، وتختلف ترجمته عن ترجمة روبرت الكيتوني بأمانتها الكبيرة للأصل، وقيل إنها: «تتبعَّت ترتيب الكلمات في اللغة العربية، مما جعلها تبدو غير مترابطة ومشوشة» (45)، وترجمة ماركو الطليطلي التي تُتلقى أمانتها اليوم بشيء من التقدير، لم تنجح كسابقتها في مجموعة طليطلة. ومما يؤسف له أن الترجمة التي قام بها يوحنى الشقوبي خلال الربع الثاني من القرن الخامس عشر فقدت (46)، ويوحنى الذي ربما كان يهودياً ثم تنصَّر، حاز على نسخة مكتوبة من القرآن، فوفقاً لفهرس مكتبته فإن النسخة كتبت: «بأحرف عربية قديمة جداً» (47)، وكان مقتنعاً بأن أصل المشكلة بين الإسلام والنصرانية هي قلة معرفة الآخر، مما هو واضح وجلي في كلا الجانبين، ورأى أن زمام المبادرة يجب أن يكون بيد النصارى [الذين رأى أنهم] أصحاب الحقيقة. وبعدما درس ترجمة روبرت الكيتوني دراسة نقدية خرج بنتيجة مفادها أنه يتعين عليه البدء من الصفر، ونعلم من مراسلاته الطريقة التي استفاد بها من المخطوطات، فنرى أنه اعتمد على نسخته الخاصة وعلى نسخة أخرى، ونسخة ثالثة تخص دار الرهبان الشحاذون (Mendicant Friars) بمدينة بازل، التي جلبها من أيتون (48)، ومما لا شك فيه، وهو اللغوي البارع، أنه أراد الحصول على أكبر قدر من المصادر، وأعلمه نيقولا الأكيس بوجود ثلاث نسخ أخرى: الأولى في بفاريا، والثانية في كولونيا، والثالثة في رورموند (Roermund) في لمبورغ (Limbourg) (49)، ومما يثير اهتمامي حول طريقة الشقوبي في الترجمة أنه استفاد من خبرة مختصص في الفقه من شقوبيا، وهو عيسى الجيدلي (Isâ Gidelli)، الذي جاء مع رفيق له مسلم، وقضى مدة أربعة أشهر في سافوي، نسخ فيها القرآن ومعه ترجمة إسبانية. وعلَّني أستطرد قليلاً هنا، بالتأكيد على القدر الذي سهل به عمل المترجم بتوافر الترجمات الإسبانية التي قام بها المورسكيون لأغراضهم الشخصية. وبقي من هذه الترجمات عدد منها: أولها نسخة لمقتطفات، موجودة الآن في المكتبة الوطنية الفرنسية، وقد نسخت في سالونيكا عام 1569م وقام بها شخص يدعى إبراهيم إسكويردو (Ibrâhim Isquierdo) (50)، وثانيها نسخة كاملة تعود لتاريخ 1606م، وهي جزء من مجموعة طليطلة اليوم (51)، والأخيرة تنتمي للأعجميات (aljamiados)، وهي نسخ استخدم فيها الحرف العربي لنقحرة إحدى اللغات المحلية في الأندلس، ويظهر أن أقدم نسخ هذه المجموعة تعود للقرن الخامس عشر (52). وفيما يخص ترجمة يوحنى الشقوبي اللاتينية فقد خرجت باللون الأحمر متوازية مع ترجمة إسبانية، وجاء النص العربي في الصفحة المقابلة، والعلاقة بين هذه النسخ فيما يخص أحذ بعضها عن بعض واضحة على قدر مطمئن، إلا أنه في تلك الأثناء كانت إسبانيا على وشك أن تُسترد بكاملها، واستعمل العلم باللغة العربية أداةً في تنصير المورسكيين (53)، وكان هذا هو الغرض المحدد لعمل بدرو الألكالي (Pedro de Alcalà) الذي نشر عام 1505م معجماً عربياً، وإن كان للهجة عربية بعيدة كل البعد عن لغة القرآن (54). والمرحلة القادمة من القصة تأخذنا إلى إيطاليا وفرنسا، ليس ببعيد عن عمل يوحنى الشقوبي من حيث المدة، وفي ظروف مشابهة خرجت ترجمة لاتينية أخرى في إيطاليا برعاية من إيكيديو الفيتربي (Egidio da Viterbo) (عاش حوالي 1465-1532) (55). وتظهر كل صفحة في أربعة أعمدة تحتوي على: النص العربي، ونقحرته بالحرف اللاتيني، وترجمة لاتينية، وتعليقات، وقام بهذا العمل شخص يدعى جيوفاني كابرييللي التيروالي (Giovanni Gabriele de Terolla)، الذي أكمل العمل عام 1518م، والشخصية المعروفة، ليون الإفريقي (Leo Africanus) كانت له علاقة بهذا العمل إذ عمل محرراً مصححاً له، وهو مسلم من عائلة ذات شأن ولد في غرناطة عام 1495م، وأمسك به قرصان صقلِّي عام 1518م، وقدَّمه هدية للبابا ليون العاشر (Leon X)، وعُمِّد وعاش في روما حتى عام 1531م، إذ تمكَّن من العودة إلى تونس (56)، وهو الذي عمل مع إيكيديو الفيتربي الذي كان ملماً بالعربية خلافاً ليوحنى الشقوبي، وربما توافرت لدى رجل الدين البارز هذا المخطوطة القرآنية ذات الرقم 405 الموجودة في المكتبة الوطنية الفرنسية (57)، وهذه المخطوطة التي كانت بإيطاليا في ذلك الوقت (عام 1459م) ربما شكلت جزءاً من مكتبة إيكيديو الفيتربي، لأن فهرس مكتبته يذكر أربعة مجلدات مكتوبة إما بالعربية أو التركية (العثمانية) (58)، وعلى أي فقد وقعت النسخة بين يدي قارئ غربي مدقِّق أعاد كتابة ما سقط منها من النص العربي (59). والترجمات التي ذكرت كان المعني بها طبقة القراء المتعلمة، فجميعها باللغة اللاتينية، وتعكس اهتمامات من أمروا بإعدادها، وانحصر بهذا تأثير هذه الترجمات في دائرة صغيرة. ولكن بظهور الطباعة خرجت ترجمات باللغات العاميَّة، بنيت على ترجمة روبرت الكيتوني وأشاعت على نطاق واسع في أوروبا المعرفة بالإسلام. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (34) بطرس المبجل لم يقدم على عمله لمعرفة الآخر، بل لأهداف تسودها روح العداء، وهذا ما يظهر من عنوان الترجمة التي تبناها وهو: Lex Saracenus، أي قانون السراكيين، ومن مقدمات المترجم الموغلة في نقد الإسلام. المترجم . (35) وهذا فصل من Dialogi in quibus impiæJudæorum opiniones . . . confutantur لبطرس الفونسي (Petrus Alphonsi )، وتظهر فيه ترجمات لبعض آيات من القرآن قام بها المؤلف. انظر (Bobzin, op. cit., pp. 44–6). (36) See d’Alverny, op. cit. (37) Ibid., pp. 108–9. (38) Ibid., pp. 85–6.. ولكن في هذا نظرة متأثرة بالدراسات الاستشراقية حول ترابط النص القرآني. (المترجم). (39) وهي مجموعة من الكتابات عن الإسلام وضده، بدأها بطرس المبجل، الذي رأى إبان فترة الحملات الصليبية، أن القتال ضد المسلمين لا يكون بالسيف وحسب، بل وبالقلم أيضاً، فقام بتشكيل لجان لترجمة عدد من الكتب الإسلامية والتعليق عليها. (المترجم). (40) وهي vernacular، وهي اللغات الأوربية المنحدرة من اللغة اللاتينية كالإسبانية والبرتغالية والإيطالية والفرنسية، وسميت بالعامية، لأنها لم تزل في تلك العصور لهجات للغة اللاتينية، لغة الدين والعلم، التي كانت أعلى شأناً من هذه اللغات. (المترجم). (41) ترجمة عام 1616م الألمانية التي قام بها سولومن شفيقر (S. Schweigger) أخذت من ترجمة الإيطاليى أندريه أريفابين (Arrivabene)، وكانت بدورها أساساً لترجمة هولندية مجهولة المترجم خرجت عام 1641م. (42) ولبوبزين (Bobzin, op. cit., pp. 159–239) دراسة تاريخية موثقة بدقة لتاريخ هذه النسخة. (43) L’Alcorano di Macometto, nel qual si contiene la dottrina, la vita, i costumi, e le leggi sue. Tradotto novamento dall’arabo in lingua italiana [قرآن محمد، مشتملاً على تعاليمه، وحياته وأخلاقه، وقوانينه: ترجمة جديدة من العربية إلى اللغة الإيطالية], 1547. وعلاوة على دعواه في العنوان أن ترجمته كانت من العربية مباشرة، يذكر أريفابين في موضعين في مقدمته وإهدائه أنه قام بالترجمة من اللغة العربية مباشرة: «هذا قرآن محمد الذي، كما ذكرت، ترجمته من لسانه [العربي] مباشرة وحررته للطباعة» (ص iii) (‘Questo è Sig. Illustr. l’Alcorano di Macometto, il quale come ho gia detto, ho fatto dal suo idioma tradurre e dar alla stampa’). (44) d’Alverny, op. cit., pp. 113–30. (45) Ibid., p. 114. (46) Cabanelas, op. cit. (47) Ibid., p. 168 and n. 3. (48) Ibid., p. 162. (49) Ibid., pp. 161–2 and n. 1. (50) Paris Manuscript, BNF Arabic MS 447; see Déroche, op. cit., p. 39. (51) World Bibliography of Translations of the Holy Qur’an in Manuscript Form, I, pp. 163–4, No. 258/3. (52) Ibid., p. 5, No. 4/1; see the other examples, pp. 6–22. (53) أو moriscos، وهو الاسم الذي كان يطلق على سكان إسبانيا من المسلمين. (المترجم). (54) P. de Alcalà, Arte para legeramente saber la lingua araviga. Vocabulista aravigo en letra castellana [طريقة في دراسة اللغة العربية بسهولة، الكلمات العربية مكتوبة بأحرف اللغة الإسبانية], Granada, 1505. (55) لمعرفة المزيد عن إيديكو الفتربي، انظر: G. Ernst, ‘Egidio da Viterbo’, Dizionario biografico degli Italiani, 42, pp. 341–53, Rome, Istituto della Enciclopedia italiana, 1993. (56) See s.v. ‘Léon l’Africain’, Encyclopédie de l’Islam, new edition, Vol. V, pp. 728–9; also in O. Zhiri, L’Afrique au miroir de l’Europe: fortunes de Jean Léon l’Africain à la Renaissance [إفريقيا في مرآة أوربا: حوادث جان ليون الإفريقي إبان عصر النهضة], some details on pp. 27–50, Geneva, Droz, 1991. (57) Déroche, op. cit., pp. 450–1. (58) C. Astruc and J. Monfrin, ‘Livres latins et hébreux du cardinal Gilles de Viterbe’ [الكتب اللاتينية والعبرية للكاردينال إيديكو الفرتيربي], Bibliothèque d’humanisme et renaissance, 23, p. 553, 1961. In the same inventory, No. 33 is a ‘tabula alphabeti in Alcoranum in lingua spagnola’. (59) See, for example, fo. 28, 58v, 72v, etc. * مرفق: ترجمة أعجمية لفاتحة الكتاب (المترجم).
3
1