نافذة لجمع ما يصلني عن القرآن الكريم
تدوينات حديثة
  • تدبر القرآن الكريم
    د. محمد أكجيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الكريم وآله وصحبه أجمعين..



    أما بعد:

    فإن الكتاب الذي لا ريب فيه، ولا نقص يطرأ عليه ويعتريه، هو القرآن العظيم كتاب الله تعالى، روح الأمة وحياتها، وعزها وهدايتها، ونبراس حضارتها، أحسن الحديث وأطيبه، وأعظمه وأحكمه.



    لم يترك صغيرة ولا كبيرة في صلاح الفرد والمجتمع إلا دل عليها، وأرشد الناس إليها، يقول تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 89] لا يعلو عن أفهام العامة، ولا يقصر عن مطالب الخاصة، يخاطب العقل ويناجي العاطفة، الأمة بدونه أمة هامدة، لا وزن لها ولا حياة ولا كرامة.



    أعظم منن الرحمان، وأكبر عطاءاته لبني الإنسان، يقول تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164] وقال سبحانه: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [العنكبوت: 51].



    لم يأذن الله بالفرح بشيء مثلما أذن بالفرح بكتابه حيث قال: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58].



    إنّه كلامُ الله رب العالمين، أحسن الكتب نظاماً، وأبلغها بياناً، وأفصحها كلاماً، وأبينها حلالاً وحراماً، تحدى العظماء وأفحم البلغاء، وأسكت الشعراء. ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]، أنزله الله رحمةً للعالمين، ومحجةً للسالكين، وحجةً على الخلق أجمعين، ومعجزةً باقية لسيد الأولين والآخرين..



    أعز الله مكانه، ورفع سلطان، من رفعه؛ رفعه الله، ومن وضعه؛ وضعه الله، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين" رواه مسلم.



    سماه الله روحا ورحمة وشفاء وهدى ونورا وفرقاناً وبرهانا.



    وَكَلَ الله إلى كل أمة حفظ كتابها، أما القرآن العظيم فتكفل الله بحفظه حيث قال سبحانه: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر:9].



    تحدى الجن والإنس أن يأتوا بمثله أو بسورة أو بآية من آياته فقال تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88].



    شد أسماع المشركين إليه، حتى لم يملك زعيمهم أن أعلن إعجابه به قائلا: "والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة[1]، وإن أسفله لمغدق[2]، وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر"؟؟!![3].



    عجب الجن لسماعه ﴿ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾ [الجن: 1، 2].



    ضمن الله ورسوله الهداية والسعادة، والنجاة من الضلالة والشقاوة، لمن تمسك بالقرآن والسنة فقال تعالى: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: 123] وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي: كتاب الله وسنتي".



    ألا وإنه لا سبيل إلى الهداية والسعادة بالقرآن الكريم، إلا بفهمه، ولا سبيل إلى فهمه إلا بتلاوته وتدبره، يقول الله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [النساء: 82].



    تدبر القرآن الكريم: هو التأمل لآياته، والتفاعل معها بقصد العظة والادكار، والطاعة والامتثال.



    تدبر القرآن الكريم: أن يقرأ المسلم الآية من كتاب الله، فينظر إلى موقعها من نفسه، وآثارها على عمله وقلبه.



    تدبر القرآن الكريم غاية من غايات إنزاله التي قال الله عنها: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].



    مدح الله تعالى المتدبرين لكتابه، فقال: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴾ [الفرقان: 73]، وذم من لا يتدبرونه فقال سبحانه: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24].



    إن من يتدبر القرآن الكريم حق تدبره، لا تكاد آية منه تسلمه إلى أخرى، من عظيم ما يستشعر فيها من عظمة الله، وعظيم ما يبصر في نفسه من التقصير في حق الله.



    فلا عجب أن قام النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة بآيةٍ واحدة يرددها، يردد قول الله تعالى: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118].



    وعلى هذا النهج القويم في تلاوة القرآن الكريم وتدبره ربى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، إذ خاطبهم يوما فقال: (مالي أراكم سكوتا؟ للجن كانوا أحسن منكم ردا). ما قرأت عليهم من مرة: ﴿ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾، إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد.



    عباد الله، إنه ما قل انتفاعنا اليوم بالقرآن الكريم إلا لأننا نمر على الآيات تلو الآيات، والعظات تلو العظات، ولا نفهم معانيها، ولا ندرك حقائقها، وكأن أمرها لا يعنينا، وكأن خطابها لا يناجينا.



    نمر على الآيات التي طالما بكى منها الباكون، وخشع لها الخاشعون، والتي لو أنزلت على جبل ﴿ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 21]. فلا ترق قلوبنا، ولا تخشع نفوسنا، ولا تدمع عيوننا.



    ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ.... ﴾ [الحديد: 16].



    فها رمضان فرصة لتجديد العهد بالقرآن، وعقد العزم على دوام الصلة به في كل وقت وآن، فما قال الله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185] ولا جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين القرآن وبين والصيام حيث قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة،..." [رواه أحمد وصححه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (984)] إلا لنتنبه إلى العلاقة بينهما، وما يحصل من عظيم النفع باقترانهما.



    ألا فلنجتهد في تلاوة القرآن الكريم وتدبره، ولنجاهد النفس على امتثال أمره واجتناب نهيه، فذلكم الفلاح والفوز والنجاح.



    الخطبة الثانية

    الحمد لله...

    من تدبر القرآن الكريم: اقشعر جلده من خشية الله، خوفا من سخطه وعقابه، ثم لان واستكان لذكر الله، طمعا في مغفرته وثوابه ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23].



    من تدبر القرآن الكريم: ازداد إيمانه، وقوي توكله على الله ويقينه ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2].



    من تدبر القرآن الكريم حيي قلبه واستنار فؤاده، قال تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122].



    من تدبر القرآن الكريم طاب قلبه وقالبه، واستقامت سريرته وعلانيته، ففي الحديث:" مثل الذي يقرأ القرآن: كالأترجة طعمها طيب، وريحها طيب".



    من تدبر القرآن الكريم: بكى من خشية الله، وخر ساجدا لعظمة الله.



    ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83].



    ﴿قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الإسراء: 107 - 109].



    ألا إنه لا سعادة لنا إلا بالقرآن، ولا فلاح لنا إلا بالقرآن، ولا عز لنا إلا بالقرآن، ولا فوز في الدنيا والآخرة إلا بالعودة إلى القرآن.



    يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [النساء: 174، 175].



    اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، وسائقنا وقائدنا ودليلنا إليك وإلى جناتك جنات النعيم.



    اللهم ذكرنا من القرآن ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، على الوجه الذي يرضيك عنا.



    اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله ويحرم حرامه ويعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه..

    [1] الطلاوة: الرونق والحسن الفائق.

    [2] المغدق: كثير الماء.

    [3] الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض (المتوفى: 544هـ) دار الفيحاء - عمان، الطبعة الثانية 1407 هـ ج / 506- 507.


    رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/73246/#ixzz6jza8NOgG
    تدبر القرآن الكريم د. محمد أكجيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الكريم وآله وصحبه أجمعين.. أما بعد: فإن الكتاب الذي لا ريب فيه، ولا نقص يطرأ عليه ويعتريه، هو القرآن العظيم كتاب الله تعالى، روح الأمة وحياتها، وعزها وهدايتها، ونبراس حضارتها، أحسن الحديث وأطيبه، وأعظمه وأحكمه. لم يترك صغيرة ولا كبيرة في صلاح الفرد والمجتمع إلا دل عليها، وأرشد الناس إليها، يقول تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 89] لا يعلو عن أفهام العامة، ولا يقصر عن مطالب الخاصة، يخاطب العقل ويناجي العاطفة، الأمة بدونه أمة هامدة، لا وزن لها ولا حياة ولا كرامة. أعظم منن الرحمان، وأكبر عطاءاته لبني الإنسان، يقول تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164] وقال سبحانه: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [العنكبوت: 51]. لم يأذن الله بالفرح بشيء مثلما أذن بالفرح بكتابه حيث قال: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58]. إنّه كلامُ الله رب العالمين، أحسن الكتب نظاماً، وأبلغها بياناً، وأفصحها كلاماً، وأبينها حلالاً وحراماً، تحدى العظماء وأفحم البلغاء، وأسكت الشعراء. ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]، أنزله الله رحمةً للعالمين، ومحجةً للسالكين، وحجةً على الخلق أجمعين، ومعجزةً باقية لسيد الأولين والآخرين.. أعز الله مكانه، ورفع سلطان، من رفعه؛ رفعه الله، ومن وضعه؛ وضعه الله، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين" رواه مسلم. سماه الله روحا ورحمة وشفاء وهدى ونورا وفرقاناً وبرهانا. وَكَلَ الله إلى كل أمة حفظ كتابها، أما القرآن العظيم فتكفل الله بحفظه حيث قال سبحانه: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر:9]. تحدى الجن والإنس أن يأتوا بمثله أو بسورة أو بآية من آياته فقال تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88]. شد أسماع المشركين إليه، حتى لم يملك زعيمهم أن أعلن إعجابه به قائلا: "والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة[1]، وإن أسفله لمغدق[2]، وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر"؟؟!![3]. عجب الجن لسماعه ﴿ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾ [الجن: 1، 2]. ضمن الله ورسوله الهداية والسعادة، والنجاة من الضلالة والشقاوة، لمن تمسك بالقرآن والسنة فقال تعالى: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: 123] وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي: كتاب الله وسنتي". ألا وإنه لا سبيل إلى الهداية والسعادة بالقرآن الكريم، إلا بفهمه، ولا سبيل إلى فهمه إلا بتلاوته وتدبره، يقول الله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [النساء: 82]. تدبر القرآن الكريم: هو التأمل لآياته، والتفاعل معها بقصد العظة والادكار، والطاعة والامتثال. تدبر القرآن الكريم: أن يقرأ المسلم الآية من كتاب الله، فينظر إلى موقعها من نفسه، وآثارها على عمله وقلبه. تدبر القرآن الكريم غاية من غايات إنزاله التي قال الله عنها: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]. مدح الله تعالى المتدبرين لكتابه، فقال: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴾ [الفرقان: 73]، وذم من لا يتدبرونه فقال سبحانه: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]. إن من يتدبر القرآن الكريم حق تدبره، لا تكاد آية منه تسلمه إلى أخرى، من عظيم ما يستشعر فيها من عظمة الله، وعظيم ما يبصر في نفسه من التقصير في حق الله. فلا عجب أن قام النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة بآيةٍ واحدة يرددها، يردد قول الله تعالى: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118]. وعلى هذا النهج القويم في تلاوة القرآن الكريم وتدبره ربى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، إذ خاطبهم يوما فقال: (مالي أراكم سكوتا؟ للجن كانوا أحسن منكم ردا). ما قرأت عليهم من مرة: ﴿ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾، إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد. عباد الله، إنه ما قل انتفاعنا اليوم بالقرآن الكريم إلا لأننا نمر على الآيات تلو الآيات، والعظات تلو العظات، ولا نفهم معانيها، ولا ندرك حقائقها، وكأن أمرها لا يعنينا، وكأن خطابها لا يناجينا. نمر على الآيات التي طالما بكى منها الباكون، وخشع لها الخاشعون، والتي لو أنزلت على جبل ﴿ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 21]. فلا ترق قلوبنا، ولا تخشع نفوسنا، ولا تدمع عيوننا. ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ.... ﴾ [الحديد: 16]. فها رمضان فرصة لتجديد العهد بالقرآن، وعقد العزم على دوام الصلة به في كل وقت وآن، فما قال الله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185] ولا جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين القرآن وبين والصيام حيث قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة،..." [رواه أحمد وصححه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (984)] إلا لنتنبه إلى العلاقة بينهما، وما يحصل من عظيم النفع باقترانهما. ألا فلنجتهد في تلاوة القرآن الكريم وتدبره، ولنجاهد النفس على امتثال أمره واجتناب نهيه، فذلكم الفلاح والفوز والنجاح. الخطبة الثانية الحمد لله... من تدبر القرآن الكريم: اقشعر جلده من خشية الله، خوفا من سخطه وعقابه، ثم لان واستكان لذكر الله، طمعا في مغفرته وثوابه ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23]. من تدبر القرآن الكريم: ازداد إيمانه، وقوي توكله على الله ويقينه ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2]. من تدبر القرآن الكريم حيي قلبه واستنار فؤاده، قال تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122]. من تدبر القرآن الكريم طاب قلبه وقالبه، واستقامت سريرته وعلانيته، ففي الحديث:" مثل الذي يقرأ القرآن: كالأترجة طعمها طيب، وريحها طيب". من تدبر القرآن الكريم: بكى من خشية الله، وخر ساجدا لعظمة الله. ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83]. ﴿قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الإسراء: 107 - 109]. ألا إنه لا سعادة لنا إلا بالقرآن، ولا فلاح لنا إلا بالقرآن، ولا عز لنا إلا بالقرآن، ولا فوز في الدنيا والآخرة إلا بالعودة إلى القرآن. يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [النساء: 174، 175]. اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، وسائقنا وقائدنا ودليلنا إليك وإلى جناتك جنات النعيم. اللهم ذكرنا من القرآن ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، على الوجه الذي يرضيك عنا. اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله ويحرم حرامه ويعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه.. [1] الطلاوة: الرونق والحسن الفائق. [2] المغدق: كثير الماء. [3] الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض (المتوفى: 544هـ) دار الفيحاء - عمان، الطبعة الثانية 1407 هـ ج / 506- 507. رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/73246/#ixzz6jza8NOgG
    تدبر القرآن الكريم
    تدبر القرآن الكريم  الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الكريم وآله وصحبه أجمعين.. أما بعد: فإن الكتاب الذي لا ريب فيه، ولا نقص يطرأ عليه ويعتريه، هو القرآن العظيم كتاب الله تعالى، روح الأمة وحياتها، وعزها وهدايتها، ونبراس حضارتها، أحسن الحديث وأطيبه، وأعظمه وأحكمه. لم يترك صغيرة ولا كبيرة في صلاح الفرد والمجتمع إلا دل عليها، وأرشد الناس إليها، يقول تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 89] لا يعلو عن أفهام العامة، ولا يقصر عن مطالب الخاصة،...
    WWW.ALUKAH.NET
    0
  • أثر تدبر القرآن
    أ. د. عبدالله بن محمد الطيار



    الحمد لله القائل: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، وأشهد ألا إله إلا الله جعل القرآن معجزة خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، الذي أوتي القرآن ومثله معه - صلى الله عليه وآله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.



    أما بعد:

    فاتقوا الله - عباد الله -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران : 102].



    عباد الله:

    لقد نزل القرآن يتحدَّى الإنس والجن في وقت قد بلغت العرب مبلغًا عظيمًا من الفصاحة والبلاغة والبيان، وصدق الله العظيم؛ ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء : 88]، بل تحداهم القرآن أن يأتوا بعشر سور، بل بسورة واحدة، فعجزوا رغم ما بلغوا من الفصاحة والبلاغة والقوة في البيان، وقد جاء في الحديث أن جبير بن مطعم بن عدي - رضي الله عنه - قال قدمت على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - المدينة: في وفد أسارى بدر، فسمعته يقرأ في المغرب بالطور، فلمَّا بلغ الآية: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ﴾ [الطور: 35 - 37]، كاد قلبي يطير.



    عباد الله:

    لقد أثَّر القرآن على عباد النصارى؛ كما قال الله - تعالى -: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83].



    وهكذا الجن الذين استمعوا إلى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يتلو القرآن؛ كما قال - تعالى -: ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾ [الجن : 1 - 2]، وقال - تعالى -: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 29].



    إن القرآن العظيم يؤثر في القلوب القاسية، ويتغلغل إلى النفوس اللاهية، يحرِّك فيها مكامن الاتعاظ والاعتبار، كيف لا؟ وهذا القرآن لو أنزل على جبل، لرأيته خاشعًا متصدعًا؛ قال - تعالى -: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر : 21]، وقال - تعالى -: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24].



    قال بعض التابعين تأمَّلتُ في قول الله - تعالى -: ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾ [النحل : 96]، فبذلتُ ما أملكُ من الدنيا لوجه الله؛ ليكون ذُخْرًا لي عنده؛ فما عند الله باق وما عندنا ينفذ، وتأملتُ في قول الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات : 13]، فاخترتُ التقوى، وأعرضتُ فيما يرى فيه الناس عزَّهم وشرفهم من مظاهر الدنيا؛ ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق : 2 - 3]، وتأملتُ في قول الله - تعالى -: ﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الزخرف : 32]، فعلمتُ أن القسمة كانت من الله في الأزل، فلِمَ أحسد؟ ولِمَ أحقد؟ ورضيتُ بقسمة الله - تعالى - وتأملتُ في قول الله - تعالى -: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ [هود : 6]، فعلمتُ أن رزقي على الله وقد ضمنه، فلِمَ يشغلني طلب الرزق عن عبادته وقد قطعتُ طمعي فيما سواه؟ وتأملتُ في قوله - تعالى -: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة : 7]، وقوله - تعالى -: ﴿ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ﴾ [الكهف : 49]، فعلمتُ أنه لا يدخل مع الإنسان في قبره إلا عمله، فإن كان صالحًا، فهو سراج له يؤانسه في قبره، ولا يتركه وحيدًا؛ فاتخذت العمل الصالح محبوبًا لا يفارقني شأن من يحبه الناس، ويطمعون في نفعه.



    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135].



    بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، فاستغفروا الله يغفر لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.



    الخطبة الثانية

    الحمد لله الذي جعل القرآن عظة وعبرة، يتزود منه الصالحون، ويتلوه الخاشعون، ويتذكر به الغافلون، وأشهد ألا إله إلا الله، أحيا بالقرآن قلوبًا، فكانت تحيي ليلها قراءة وركوعًا وسجودًا، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله أفضل من تلا القرآن، وعلَّمه وتعلَّمه - صلَّى الله عليه وسلَّم .



    أما بعد:

    فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أن أثر القرآن امتدَّ إلى الجمادات والحيوانات والملائكة في السماوات، فلقد قربت من أسيد بن حضير وهو يقرأ، حتى جالت فرسه من رؤية الملائكة، وقال له الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تلك الملائكة، دنت لصوتك، ولو أنك قرأت؛ لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى عنهم)).



    عباد الله:

    وها هو الفضيل بن عياض التَّقي العابد يتأثر بالقرآن، ويعلن توبته وكان يقطع الطريق على الناس، وقد عشق جارية وذات ليلة كان يرتقي الجدران إليها، إذ سمع تاليًا يتلو: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الحديد : 16]، فلمَّا سمعها، قال: بلى يا رب، فرجع وترك الجارية، فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها مسافرون، فقالوا: نرحل في ليلتنا، وقال: بعضهم نخشى من الفضيل، فإنه يقطع الطريق في هذا المكان، والفضيل يسمع كلامهم، فقال: أنا أسعى في الليل بالمعاصي وقوم يخافونني، ما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع وأتوب: اللهم إني تبتُ إليك، وتاب توبة صادقة، وأصبح من كبار العُبَّاد - رحمه الله رحمة واسعة، وهكذا القرآن يحول هذه القلوب العاصية إلى قلوب خاشعة عابدة، وصدق الله العظيم: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 21].



    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم صل وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم وفق ولاة أمر المسلمين عامة للحكم بكتابك، والعمل بسنة نبيك، ووفق ولاة أمرنا خاصة لكل خير، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الخير وتدلهم عليه.



    اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات؛ الأحياء منهم والأموات، اللهم اغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين؛ ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].



    عباد الله:

    إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، وأقم الصلاة.


    رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/9536/#ixzz6jzZoHxCv
    أثر تدبر القرآن أ. د. عبدالله بن محمد الطيار الحمد لله القائل: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، وأشهد ألا إله إلا الله جعل القرآن معجزة خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، الذي أوتي القرآن ومثله معه - صلى الله عليه وآله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران : 102]. عباد الله: لقد نزل القرآن يتحدَّى الإنس والجن في وقت قد بلغت العرب مبلغًا عظيمًا من الفصاحة والبلاغة والبيان، وصدق الله العظيم؛ ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء : 88]، بل تحداهم القرآن أن يأتوا بعشر سور، بل بسورة واحدة، فعجزوا رغم ما بلغوا من الفصاحة والبلاغة والقوة في البيان، وقد جاء في الحديث أن جبير بن مطعم بن عدي - رضي الله عنه - قال قدمت على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - المدينة: في وفد أسارى بدر، فسمعته يقرأ في المغرب بالطور، فلمَّا بلغ الآية: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ﴾ [الطور: 35 - 37]، كاد قلبي يطير. عباد الله: لقد أثَّر القرآن على عباد النصارى؛ كما قال الله - تعالى -: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83]. وهكذا الجن الذين استمعوا إلى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يتلو القرآن؛ كما قال - تعالى -: ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾ [الجن : 1 - 2]، وقال - تعالى -: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 29]. إن القرآن العظيم يؤثر في القلوب القاسية، ويتغلغل إلى النفوس اللاهية، يحرِّك فيها مكامن الاتعاظ والاعتبار، كيف لا؟ وهذا القرآن لو أنزل على جبل، لرأيته خاشعًا متصدعًا؛ قال - تعالى -: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر : 21]، وقال - تعالى -: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]. قال بعض التابعين تأمَّلتُ في قول الله - تعالى -: ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾ [النحل : 96]، فبذلتُ ما أملكُ من الدنيا لوجه الله؛ ليكون ذُخْرًا لي عنده؛ فما عند الله باق وما عندنا ينفذ، وتأملتُ في قول الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات : 13]، فاخترتُ التقوى، وأعرضتُ فيما يرى فيه الناس عزَّهم وشرفهم من مظاهر الدنيا؛ ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق : 2 - 3]، وتأملتُ في قول الله - تعالى -: ﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الزخرف : 32]، فعلمتُ أن القسمة كانت من الله في الأزل، فلِمَ أحسد؟ ولِمَ أحقد؟ ورضيتُ بقسمة الله - تعالى - وتأملتُ في قول الله - تعالى -: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ [هود : 6]، فعلمتُ أن رزقي على الله وقد ضمنه، فلِمَ يشغلني طلب الرزق عن عبادته وقد قطعتُ طمعي فيما سواه؟ وتأملتُ في قوله - تعالى -: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة : 7]، وقوله - تعالى -: ﴿ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ﴾ [الكهف : 49]، فعلمتُ أنه لا يدخل مع الإنسان في قبره إلا عمله، فإن كان صالحًا، فهو سراج له يؤانسه في قبره، ولا يتركه وحيدًا؛ فاتخذت العمل الصالح محبوبًا لا يفارقني شأن من يحبه الناس، ويطمعون في نفعه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، فاستغفروا الله يغفر لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله الذي جعل القرآن عظة وعبرة، يتزود منه الصالحون، ويتلوه الخاشعون، ويتذكر به الغافلون، وأشهد ألا إله إلا الله، أحيا بالقرآن قلوبًا، فكانت تحيي ليلها قراءة وركوعًا وسجودًا، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله أفضل من تلا القرآن، وعلَّمه وتعلَّمه - صلَّى الله عليه وسلَّم . أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أن أثر القرآن امتدَّ إلى الجمادات والحيوانات والملائكة في السماوات، فلقد قربت من أسيد بن حضير وهو يقرأ، حتى جالت فرسه من رؤية الملائكة، وقال له الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تلك الملائكة، دنت لصوتك، ولو أنك قرأت؛ لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى عنهم)). عباد الله: وها هو الفضيل بن عياض التَّقي العابد يتأثر بالقرآن، ويعلن توبته وكان يقطع الطريق على الناس، وقد عشق جارية وذات ليلة كان يرتقي الجدران إليها، إذ سمع تاليًا يتلو: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الحديد : 16]، فلمَّا سمعها، قال: بلى يا رب، فرجع وترك الجارية، فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها مسافرون، فقالوا: نرحل في ليلتنا، وقال: بعضهم نخشى من الفضيل، فإنه يقطع الطريق في هذا المكان، والفضيل يسمع كلامهم، فقال: أنا أسعى في الليل بالمعاصي وقوم يخافونني، ما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع وأتوب: اللهم إني تبتُ إليك، وتاب توبة صادقة، وأصبح من كبار العُبَّاد - رحمه الله رحمة واسعة، وهكذا القرآن يحول هذه القلوب العاصية إلى قلوب خاشعة عابدة، وصدق الله العظيم: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 21]. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم صل وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم وفق ولاة أمر المسلمين عامة للحكم بكتابك، والعمل بسنة نبيك، ووفق ولاة أمرنا خاصة لكل خير، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الخير وتدلهم عليه. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات؛ الأحياء منهم والأموات، اللهم اغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين؛ ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201]. عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، وأقم الصلاة. رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/9536/#ixzz6jzZoHxCv
    أثر تدبر القرآن
    الحمد لله القائل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وأشهد أن لا إله إلا الله جعل القرآن معجزة خالدة إلى أن يرث الله
    WWW.ALUKAH.NET
    0

  • معنى تدبر القرآن الكريم
    للأستاذ/ سعيد مصطفى دياب
    مَعْنَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ هو: أن تعلم أنك مخاطَب بكلام الله تعالى، فتُصْغِي له بأذن قلبك، وتتأمله بعين فؤادك، فإذا وعيت عن الله تعالى قوله، وفهمت من كلامِهِ مرادَهُ، وتَشَرَّبَ قلبُكَ معانيه، فانهض لامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، حتى يُرى القرآن في سمتك، وتصطبغ به أخلاقك، ويظهر أَثَرُه على قولِكَ وفعلِكَ.



    عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: " كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾".[1]



    قال ابن القيم رحمه الله: وَأَمَّا التَّأَمُّلُ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ تَحْدِيقُ نَاظِرِ الْقَلْبِ إِلَى مَعَانِيهِ، وَجَمْعُ الْفِكْرِ عَلَى تَدَبُّرِهِ وَتَعَقُّلِهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِإِنْزَالِهِ، لَا مُجَرَّدُ تِلَاوَتِهِ بِلَا فَهْمٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾.[2]



    وَقَالَ تَعَالَى ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾.[3]



    وَقَالَ تَعَالَى ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ﴾.[4]



    وَقَالَ تَعَالَى ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾.[5]



    وَقَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَ الْقُرْآنُ لِيُتَدَبَّرَ وَيُعْمَلَ بِهِ. فَاتَّخِذُوا تِلَاوَتَهُ عَمَلًا.



    قال ابن القيم رحمه الله: فَلَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ، فَإِنَّهَا تُطْلِعُ الْعَبْدَ عَلَى مَعَالِمِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِحَذَافِيرِهِمَا، وَعَلَى طُرُقَاتِهِمَا وَأَسْبَابِهِمَا وَغَايَاتِهِمَا وَثَمَرَاتِهِمَا، وَمَآلِ أَهْلِهِمَا، وَتَتُلُّ فِي يَدِهِ مَفَاتِيحَ كُنُوزِ السَّعَادَةِ وَالْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَتُثَبِّتُ قَوَاعِدَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ، وَتُشَيِّدُ بُنْيَانَهُ وَتُوَطِّدُ أَرْكَانَهُ، وَتُرِيهِ صُورَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي قَلْبِهِ، وَتُحْضِرُهُ بَيْنَ الْأُمَمِ، وَتُرِيهِ أَيَّامَ اللَّهِ فِيهِمْ، وَتُبَصِّرُهُ مَوَاقِعَ الْعِبَرِ، وَتُشْهِدُهُ عَدْلَ اللَّهِ وَفَضْلَهُ، وَتُعَرِّفُهُ ذَاتَهُ، وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ، وَمَا يُحِبُّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ، وَصِرَاطَهُ الْمُوصِلَ إِلَيْهِ، وَمَا لِسَالِكِيهِ بَعْدَ الْوُصُولِ وَالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَقَوَاطِعَ الطَّرِيقِ وَآفَاتِهَا، وَتُعَرِّفُهُ النَّفْسَ وَصِفَاتِهَا، وَمُفْسِدَاتِ الْأَعْمَالِ وَمُصَحِّحَاتِهَا وَتُعَرِّفُهُ طَرِيقَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَأَعْمَالَهُمْ، وَأَحْوَالَهُمْ وَسِيمَاهُمْ، وَمَرَاتِبَ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَأَقْسَامَ الْخَلْقِ وَاجْتِمَاعَهُمْ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، وَافْتِرَاقَهُمْ فِيمَا يَفْتَرِقُونَ فِيهِ.[6]



    وعن أبي الحسين بن حبيش وذكر أبا العباس بن عطاء فقال: كان له في كل يوم ختمة وفي شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث ختمات وبقي في ختمة يستنبط مودع القرآن بضع عشرة سنة فمات قبل ان يختمها.



    وقال أبو جعفر محمد بن عبد الله الفرغاني: قال أبو العباس بن عطاء: يا أبا جعفر لي من سنين كثيرة ذكرها كلَ يومٍ ختمة لا تفوتني ولي في شهر رمضان كلَ يومٍ وليلةٍ ثلاث ختماتٍ ولي ختمة منذ أربعَ عشرةَ سنةً ما بلغت النصفَ منها؛ يريد الفهم منها.[7]

    [1] سورة القلم: الآية/ 4 ، رواه أحمد- حديث رقم: 24601، بسند صحيح.

    [2] سورة ص: الآية/ 29.

    [3] سورة محمد: الآية/ 24.

    [4] سورة المؤمنون: الآية/ 68.

    [5] سورة الزخرف: الآية/ 3.

    [6] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 450).

    [7] صفة الصفوة (1/ 533).



    رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/100028/#ixzz6jzWXu25B
    معنى تدبر القرآن الكريم للأستاذ/ سعيد مصطفى دياب مَعْنَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ هو: أن تعلم أنك مخاطَب بكلام الله تعالى، فتُصْغِي له بأذن قلبك، وتتأمله بعين فؤادك، فإذا وعيت عن الله تعالى قوله، وفهمت من كلامِهِ مرادَهُ، وتَشَرَّبَ قلبُكَ معانيه، فانهض لامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، حتى يُرى القرآن في سمتك، وتصطبغ به أخلاقك، ويظهر أَثَرُه على قولِكَ وفعلِكَ. عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: " كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾".[1] قال ابن القيم رحمه الله: وَأَمَّا التَّأَمُّلُ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ تَحْدِيقُ نَاظِرِ الْقَلْبِ إِلَى مَعَانِيهِ، وَجَمْعُ الْفِكْرِ عَلَى تَدَبُّرِهِ وَتَعَقُّلِهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِإِنْزَالِهِ، لَا مُجَرَّدُ تِلَاوَتِهِ بِلَا فَهْمٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾.[2] وَقَالَ تَعَالَى ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾.[3] وَقَالَ تَعَالَى ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ﴾.[4] وَقَالَ تَعَالَى ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾.[5] وَقَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَ الْقُرْآنُ لِيُتَدَبَّرَ وَيُعْمَلَ بِهِ. فَاتَّخِذُوا تِلَاوَتَهُ عَمَلًا. قال ابن القيم رحمه الله: فَلَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ، فَإِنَّهَا تُطْلِعُ الْعَبْدَ عَلَى مَعَالِمِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِحَذَافِيرِهِمَا، وَعَلَى طُرُقَاتِهِمَا وَأَسْبَابِهِمَا وَغَايَاتِهِمَا وَثَمَرَاتِهِمَا، وَمَآلِ أَهْلِهِمَا، وَتَتُلُّ فِي يَدِهِ مَفَاتِيحَ كُنُوزِ السَّعَادَةِ وَالْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَتُثَبِّتُ قَوَاعِدَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ، وَتُشَيِّدُ بُنْيَانَهُ وَتُوَطِّدُ أَرْكَانَهُ، وَتُرِيهِ صُورَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي قَلْبِهِ، وَتُحْضِرُهُ بَيْنَ الْأُمَمِ، وَتُرِيهِ أَيَّامَ اللَّهِ فِيهِمْ، وَتُبَصِّرُهُ مَوَاقِعَ الْعِبَرِ، وَتُشْهِدُهُ عَدْلَ اللَّهِ وَفَضْلَهُ، وَتُعَرِّفُهُ ذَاتَهُ، وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ، وَمَا يُحِبُّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ، وَصِرَاطَهُ الْمُوصِلَ إِلَيْهِ، وَمَا لِسَالِكِيهِ بَعْدَ الْوُصُولِ وَالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَقَوَاطِعَ الطَّرِيقِ وَآفَاتِهَا، وَتُعَرِّفُهُ النَّفْسَ وَصِفَاتِهَا، وَمُفْسِدَاتِ الْأَعْمَالِ وَمُصَحِّحَاتِهَا وَتُعَرِّفُهُ طَرِيقَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَأَعْمَالَهُمْ، وَأَحْوَالَهُمْ وَسِيمَاهُمْ، وَمَرَاتِبَ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَأَقْسَامَ الْخَلْقِ وَاجْتِمَاعَهُمْ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، وَافْتِرَاقَهُمْ فِيمَا يَفْتَرِقُونَ فِيهِ.[6] وعن أبي الحسين بن حبيش وذكر أبا العباس بن عطاء فقال: كان له في كل يوم ختمة وفي شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث ختمات وبقي في ختمة يستنبط مودع القرآن بضع عشرة سنة فمات قبل ان يختمها. وقال أبو جعفر محمد بن عبد الله الفرغاني: قال أبو العباس بن عطاء: يا أبا جعفر لي من سنين كثيرة ذكرها كلَ يومٍ ختمة لا تفوتني ولي في شهر رمضان كلَ يومٍ وليلةٍ ثلاث ختماتٍ ولي ختمة منذ أربعَ عشرةَ سنةً ما بلغت النصفَ منها؛ يريد الفهم منها.[7] [1] سورة القلم: الآية/ 4 ، رواه أحمد- حديث رقم: 24601، بسند صحيح. [2] سورة ص: الآية/ 29. [3] سورة محمد: الآية/ 24. [4] سورة المؤمنون: الآية/ 68. [5] سورة الزخرف: الآية/ 3. [6] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 450). [7] صفة الصفوة (1/ 533). رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/100028/#ixzz6jzWXu25B
    معنى تدبر القرآن الكريم
    معنى تدبر القرآن الكريم  مَعْنَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ هو: أن تعلم أنك مخاطَب بكلام الله تعالى، فتُصْغِي له بأذن قلبك، وتتأمله بعين فؤادك، فإذا وعيت عن الله تعالى قوله، وفهمت من كلامِهِ مرادَهُ، وتَشَرَّبَ قلبُكَ معانيه، فانهض لامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، حتى يُرى القرآن في سمتك، وتصطبغ به أخلاقك، ويظهر أَثَرُه على قولِكَ وفعلِكَ. عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ،...
    WWW.ALUKAH.NET
    0
  • تربية الأهل والأولاد في القرآن الكريم
    دراسة قرآنية
    الاستاذ/ عبدالعزيز سالم شامان الرويلي

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه.



    أما بعد:

    فقد أوجبت الشريعة الإسلامية على الآباء أن يحسنوا تربية[1] أبنائهم ورعايتهم، وحرَّمت تضييعهم وتضييعَ حقوقهم، وشرعت الكثير من الأحكام لحفظ الأبناء؛ ليؤدي هذا الحفظ المعضد الذي وجب لأهله[2]، وإن الله - تعالى - أوجب على الوالد أن يقيَ أهله من النار، وما يكون ذلك إلا بالتربية الصالحة؛ قال الله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6].



    قال السعدي في تفسير هذه الآية: "فالأولاد عند والديهم موصًى بهم، فإما أن يقوموا بتلك الوصية، وإما أن يضيِّعوا؛ فيستحقوا بذلك الوعدَ والعقاب، ووقاية الأهل والأولاد بتأديبهم وتربيتهم، وإجبارهم على أمر الله"[3].



    فصاحب الهمة العالية هو الذي يقي نفسَه وأهله من العذاب؛ وذلك بترك المعاصي، وفعل الطاعات؛ فالمسلم الواجب عليه أن يُصلِحَ نفسه أولاً، ويقي نفسه شر النار وغضب الجبار، ثم يتجه ثانيًا إلى تكوين أسرته على مبادئ الدين الحنيف، ويغرس في نفوسهم أدبَ القرآن الكريم، والفضائل الإسلامية العليا[4].



    وهذا حثٌّ من الله - تعالى - للآباء على تربية أبنائهم وأهليهم تربيةً إيمانية، نابعةً من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أجل المحافظة عليهم في الدنيا من الانحرافات والفتن التي عمَّت البلادَ والعباد، وفوزهم في الآخرة برضوان الله - تعالى - وبُعْدهم عن سخطه وغضبه.



    إن مبادرة الفرد المسلم في إصلاح مجتمعه - ولا سيما ذووه المقربون - له أكبرُ الأثر في نهضته وارتقائه؛ فالقرآن الكريم لَمَّا دعا إلى علو الهمة دعا لها بشتى صورها وأشكالها، لم يجعَلْها في نطاق الأفراد فحسب؛ وإنما وسَّع دائرة الهمة والمبادرة في مجتمعه الذي يعيش فيه.



    ولا يمكن أن تكون مهمة الأسرة هي عملية الإنجاب والمحافظة على النوع البشري فحسْبُ؛ بل هي مهمة تتعدى مهمةَ الإشباع إلى مهمة الإبداع في إخراج أجيال مسلِمة صالحة، يتباهى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة.



    ولا نجد تصويرًا لأثَر الأسرة في تنشئة الطفل السليم أبلغَ في التعبير من قوله - تعالى -: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: 58]، فما أشبهَ الأسرةَ بالأرض الخصبة الطيبة التي تنبت أطفالاً ذوي طباعٍ خيِّرة نقية، وسلوكٍ نبيل، وما أشبه الأسرةَ المنهارةَ في أخلاقها وسلوكِها بالأرض الخبيثة التي لا تنبت إلا نباتًا قليلاً حجمُه ونفعُه، فتخرج أطفالها بطباعٍ قاسية وسلوك سيِّئٍ[5].



    فالتربية بصفة عامة تُعَد تنمية ورعاية لكل جوانب الإنسان؛ سواء العقلية أو النفسية أو الوجدانية أو الجسمية أو الخُلقية، وفي جانب التربية الخُلقية، ولكي يكون الخُلُق الجيد راسخًا في النفس؛ فإنه يجب تكرارُه حتى يصبح عادة؛ وذلك بالتدريب، ولا يكون ذلك إلا بالتربية[6].



    وقد ضرب لنا أنبياءُ الله أعظم مَثَل في سعيهم المستمر لتأديب أبنائهم، وعلِموا أنهم قدوة متبعة لأبنائهم ولكل البشر؛ فكانوا كبارًا بهِمَمهم، وبنَوا مجدهم بأنفسهم، وعلَّموا أولادهم ألا يفتخروا بنسب أو بعِرْق، بل معيار التفاخر هو هممهم الموصلة إلى مرضاة الله.



    قال - تعالى -: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124]، قال السعدي في تفسير هذه الآية: "أي: يقتدون بك في الهدى، ويمشون خلفك إلى سعادتِهم الأبدية، ويحصل لك الثناء الدائم، والأجر الجزيل، والتعظيم من كل أحد.



    وهذه - لعمر الله - أفضلُ درجة تنافس فيها المتنافسون، وأعلى مقام شمَّر إليه العاملون، وأكملُ حالة حصَّلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم، من كل صدِّيق متَّبع لهم، داعٍ إلى الله وإلى سبيله، فلما اغتبط إبراهيم - عليه السلام - بهذا المقام، وأدرك هذا، طلب ذلك لذريته؛ لتعلوَ درجتُه ودرجة ذريته، وهذا أيضًا من إمامته، ونصحه لعباد الله، ومحبته أن يكثُرَ فيهم المرشدون؛ فلله عظمة هذه الهمم العالية، والمقامات السامية"[7].



    فانظر إلى همة إبراهيم - عليه السلام - وعلوِّها بأن دعا الله - تعالى - وسأله أن يُخرِج من صلبه ذريةً تطيع الله - تعالى - وتعبُده، ولا يكتفي بذلك؛ بل همته أن يكونَ إمامًا يُقتدى به في الخير، وأحب أن تكونَ عبادته متصلة بعبادة أولاده وذريته، وأن يكون هداهم متعديًا إلى غيرهم بالنفع، وذلك أكثر ثوابًا وأحسن مآبًا، فلله دره ما أعظمَ همتَه!



    وحرَص إبراهيم - عليه السلام - كل الحرص على تربية أبنائه على هذا المبدأ العظيم، الذي هو التوحيد، وذلك في دعواته: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ [إبراهيم: 35]، وفي موضع آخر: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 128]، فكان هذا أسلوبَ إبراهيم - عليه السلام - في تربية أبنائه، فأول أمر هو الأهل والأولاد، فصب همتَه على إصلاحهم ودعوتهم، فكان هذا الأسلوب وتلك الوصايا الميمونة في عقِبه ونسله، فكل واحد من أبنائه كان موحِّدًا يعبد الله ويُربِّي على ذلك ولَدَه، ويحذِّرهم من الشرك بالله، ولنتأمَّل مسيرة يعقوب بن إسحاق - عليهما السلام - وهو في سياق الموت، لقد جمع أولاده الاثني عشر وراح يوصيهم: ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133]، وهكذا فإن تربية الأولاد على الإيمان بالله - تعالى - دأب المرسلين، ونهج الأنبياء، وهو النهج القويم، والصراط المستقيم.



    قال - تعالى -: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: 13 - 19].



    تبيِّن لنا هذه الآيات همةَ لقمان - عليه السلام - العالية، وكيف جعلها في ابنه، وصبَّ جلَّ همه على تربيته، فذكر له تلك الوصايا الخالدة، وهذا يبيِّن لنا العلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق، وكون تلك الوصية موجَّهةً إلى ابنه، فهي رمز لمصداقية النصيحة تلك.



    كما أن مصداقية تلك الوصايا تبدو جلية، فنحن نسمع في صدورها وبين ثناياها كلمة: ﴿ يَا بُنَيَّ ﴾، التي تحمل دلالاتٍ بعيدةً؛ فحرف النداء يثير الحس، ويوقظ الشعور، ويجلب الانتباه، وكلمة: ﴿ يَا بُنَيَّ ﴾ تصور لنا أسمى معاني الحب والرحمة والشفقة، وتَفيض بأروعِ مشاعر العطف والحنان، ولو خلا الكلام منها وأُجمِل التخصيصُ بالنداء، لَما أدت الغرضَ نفسه.



    فنجد في تصفحنا لتاريخنا العريق كثيرًا من الآباء أصحاب الهمم الرفيعة، لم يوفِّروا من الجهد شيئًا في سبيل السمو بهِمَم أبنائهم.



    فقد جاء في وصية لقمان - عليه السلام - لابنه التي يجدر بنا الوقوفُ عندها: قولُه - تعالى -: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17].



    ذكر الطبري في تفسيره لهذه الآية: "يقولُ - تعالى ذِكرُهُ - مُخْبِرًا عن قيل لقمان لابنه: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾ [لقمان: 17] بحُدُودِهَا، ﴿ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ يقولُ: وَأْمُرِ النَّاسَ بطاعةِ اللهِ، واتِّباعِ أمْرِهِ، ﴿ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ يَقُولُ: وَانْهَ النَّاسَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ، ومُوَاقعةِ مَحَارِمِهِ، ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ﴾ يقولُ: وَاصْبِرْ على ما أصابَكَ من النَّاسِ فِي ذَاتِ اللَّهِ إذا أنت أمرتَهُمْ بِالمَعْرُوفِ، ونهيتَهم عن المنكَرِ، ولا يصُدَّنَّكَ عن ذلك ما نالك مِنْهُمْ؛ ﴿ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ يقولُ: إِنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ عَزْمًا مِنْهُ" [8].



    ويبدأ لقمان - عليه السلام - بأمر ابنه، أمره بتوحيد الله بأوامر إيمانية متسلسلة مبدوءة بالصلاة، أول شعيرة من شعائر الإسلام أُمرنا بتعليمها أولادنا، وضربهم عليها وهم صغار؛ فالصلاة جامعة لكل أركان الإسلام، بدءًا من الشهادتين، وانتهاءً بحج البيت؛ فالشهادتان جزء أساسي في التحيات في الصلاة، وأما الحج، فإن المصلي يتوجه في صلاته إلى البيت الحرام، إلى الكعبة، إلى القِبلة.



    وكان ذلك دأب الأنبياء جميعهم، قال - تعالى -: ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 40].



    جاء في تفسير هذه الآية:

    أن إبراهيم - عليه السلام - كان مثابرًا على الصلاة مقيمًا لها، مع شمول دعوتِه لذريتِه أيضًا، ومن يسيرُ سيرتَهما من أولادهما؛ للإشعار بأنه المقتدى به في ذلك وذريتُه أتباعٌ له، وأنه ذكَرهم بطريق الاستطراد؛ ففي هذه الآية دعاءٌ من إبراهيم - عليه السلام - لذريته بالثبات على إقامة الصلاة، والبُعد عن عبادة الأصنام [9].



    وقال - تعالى -: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132].



    قال القرطبي في تفسير هذه الآية: "أمَره بأن يأمر أهلَه بالصلاة ويمتثلَها معهم، ويصطبر عليها ويلازمها، وهذا الخطابُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويدخل في عمومه جميعُ أمته، وأهلُ بيته على التخصيص" [10].



    فأعظم ما يسعى إليه المؤمنُ ويجعل همتَه فيه: تربيتُه لأبنائه، وأعظم ما يربِّي عليه المؤمن أبناءه إقامة الصلاة على الوجه الذي يُرضي ربَّنا - عز وجل - ويربِّيهم عليها من صِغرهم، وإقامتها، مع كل ما يتضمنه معنى الصلاة من خشوع وخضوع لله؛ حتى يلقوا بذلك مرضاة الله - تعالى.



    والله - عز وجل - ذكر لنا نماذجَ أخرى، منها قوله - تعالى -: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ﴾ [مريم: 54، 55]، وقال - تعالى -: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41].



    وهنا يبرز لنا دور الأب كقدوة، إن إبراهيم - عليه السلام - والذي قال عنه ربه - تبارك وتعالى -: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 37]، لَمَّا وفَّى بكل ما أُمِر به، أعطى القدوة لابنه الذي استجاب وأطاع؛ لأنه قد تربى على ذلك.



    فهذا هو نبي الله - تعالى - بعلوِّ همته وعزيمته، يسعى بإرادته لتحسين تربية ابنه، فيرتقي به ويكون أهلاً لأن يصبح مستخلفًا في الأرض، فها هو إبراهيم - عليه السلام - يربي ولده على أن يكون قدوة وقائدًا يقود الناس إلى الخير، ذا همة عالية، فيتبعه كل من أراد النجاة، فمع صِغَر سن ولده إلا أنه كان يجتهد في جعله أكثر تحملاً للمسؤولية والأمانة، التي لا بد أن يبلغها إن وصل إلى سن الرشد.



    ومن أهم المجالات التي لا بد للأسرة أن تكون همتُها منصبَّةً إليها في تربية أبنائها: بناءُ الأجيال المهيَّأة لقيادة الناس، ونشر الحق والتمكين في الأرض؛ وذلك انطلاقًا من قوله - تعالى -: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143].



    وهذا الدور لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تربية أصيلة مستمدَّة من كتاب الله وسنة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ويندرج تحت هذا الدور بناءُ البيت المسلم وحمايته، ومن ثم لا ينبغي أن يترك ليُهاجَمَ من قِبَل العناصر المفسدة والجائرة [11].



    ومن أهم المجالات التي لا بد من مراعاتها:

    أولاً: المجال العَقَدي:

    الأسرة هي المؤسسة التربوية الأولى التي تحمل على عاتقها تربيةَ الأبناء؛ فهي تتولى تشكيل المعتقد والقِيَم والأفكار؛ وذلك مصداقًا لقول الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((ما مِن مولُودٍ إلا يُولدُ على الفِطرةِ، فأبواهُ يُهوِّدانِهِ أو يُنصِّرانِهِ أو يُمجِّسانِهِ، كما تُنتجُ البهِيمةُ بهِيمةً جمعاء، هل تُحِسُّون فِيها مِن جدعاء؟))[12]، وفي الحديث تأكيد لدَور الوالدين في تربية الأبناء، وتحميلُهم تبِعات مسؤولية التربية، وما دامت عقيدة الأمة ومنهجها الإسلامَ، فإنه يجب أن تأخذ هذه العقيدةُ التي هي مقياس صلاح الإنسان حظًّا وافرًا داخل الأسرة، ومن المُسلَّم لدى علماء التربية: أن التربية التي يتعرض لها الإنسان في بداية نشأته مسؤولةٌ إلى حد كبير على ما يطرأ للإنسان من اعتقاد سليم أو خاطئ، وعلى الآباء تقع مسؤوليةٌ كبيرة تجاه أبنائهم[13].



    فمن الواجب على الأسرة المسلمة - ونحن في عصر اختلطت فيه المفاهيم والقِيَم لدى كثير من أبناء المسلمين - أن تعمِدَ إلى ترسيخ المفاهيم العقدية لدى أبنائها منذ السنوات الأولى، وترضعه العقيدة كما ترضعه الحليب؛ فالتربية العقائدية السليمة لها دور كبير في تربية الطفل المسلم، وإكسابه المناعة اللازمة ضد الأفكار والعقائد المنحرفة؛ ولذلك لا بد من التركيز على البناء العقائدي السليم للأبناء؛ لمنحهم الحصانةَ الكافية لمواجهة التحديات والمغريات التي يعايشونها في واقعهم.



    ثانيًا: المجال الأخلاقي:

    اهتم الإسلام بالأخلاق، واعتبرها الأساس الذي تستند إليه كلُّ المعاملات الإنسانية، وقد أثنى الله - عز وجل - وامتدح نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، وقد وجَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الآباءَ إلى ممارسة دورهم التربوي الأخلاقي؛ فالأسرة مأمورة أن تُعوِّد أبناءها السلوك الأخلاقي، وتعديل السلوك الذي يتنافى مع الأخلاق الإسلامية بالممارسات والإجراءات التي يمكن إجمالها فيما يلي:

    1- ترسيخ خُلق الأمانة في نفوس الأبناء؛ حيث إن الإنسان وحده هو المؤهَّل لحمل الأمانة، وهذه التبعة الثقيلة هي مناط التكريم الذي أعلنه اللهُ في الملأ الأعلى، وعليه أن ينهض بتلك الأمانة؛ حتى يصل إلى مقام كريم؛ وذلك مصداقًا لقوله - تعالى -: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ﴾ [الأحزاب: 72].



    2- غرس خُلق الصبر في أنفسهم؛ وذلك أسوة بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أُوذي في مكة، وهجر بيته ووطنه، وحُوصر في شِعب أبي طالب، وبيان أجر الصابرين؛ وذلك انطلاقًا من قوله - تعالى -: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].



    3- غرس خُلق الصِّدق في نفوس الأبناء؛ فالمسلم صادقٌ ظاهرًا وباطنًا، وقولاً وفعلاً، فإن الصدق أصلٌ من أصول الأخلاق، وهو المحك لمعرفة درجة الإيمان.



    ثالثًا: المجال الاجتماعي:

    تعتبر الأسرة حلقة وصلٍ بين النشء والمجتمع الكبير، ولها دور مهم في التنشئة الاجتماعية الصحيحة للأبناء؛ فالشخصية لا تولد مع الفرد، ولكنها تولد تدريجيًّا بتفاعله في المحيط الاجتماعي الذي ينشأ فيه والأسرة، ويمكن إجمالُ دَور الأسرة في هذا المجال من خلال ما يلي:

    1- تعليم الأبناء ردَّ السلام، كما ورد بالصيغة المتعارف عليها؛ لِما فيه من شيوع المحبة والتآلف في الأسرة والمجتمع ومواطن الرباط، ومصداق ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لن تدخُلُوا الجنَّة حتى تُؤمنُوا، ولن تُؤمنُوا حتى تحابُّوا، أوَلا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتُموه تحاببتُم؟ أفشُوا السَّلام بينكُم)) [14].



    2- تعويد الأبناء على آداب الاستئذان داخل البيت قبل البلوغ وبعده؛ وذلك مصداقًا لقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [النور: 58].



    3- لفت انتباههم إلى غض البصر عن المحرَّمات؛ إذ لا بد للحياة من ضوابطَ مع الفرد؛ فالإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف لا تهيج فيه الشهوات كل حين[15]؛ وذلك مصداقًا لقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30].



    4- ربط الأبناء بالصحبة الصالحة، وقد دلت نتائج الدراسات أن للصحبة أثرًا بالغًا في نمو الطفل النفسي والاجتماعي؛ فهي تؤثِّر في قِيَمه وعاداته واتجاهاته، وقد حذَّر القرآن الكريم من رفقاء السوء؛ وذلك مصداقًا لقوله: ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلاً * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا * وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلاً ﴾ [الفرقان: 25 - 28].



    رابعًا: المجال النفسي والوجداني:

    يشكِّل المجال النفسي الوجداني مساحة واسعة في نفسية الطفل، فإذا سلَّمنا بأهمية مرحلة الطفولة، فإننا نُسلِّم أيضًا بقدر الأهمية للأسرة؛ باعتبارها الوسط البيئي الذي يعيش فيه الفرد، ويكتسب من خلالها اتجاهاته الأساسيةَ التي تعتبر محددات لسلوكه، والتي يُفضل أن يتفاعل معها، وبالتالي فهي العامل البيئي الأول بلا منازع[16]، ويمكن إجمالُ دور الأسرة في هذا المجال من خلال:

    1- إرواء الحاجة إلى الحب والحنان، وقد أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على نساء قريش؛ لحنانهن على أولادهن، ومصداق ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خيرُ نساءٍ ركِبْنَ الإبِلَ صالحُ نساءِ قُرَيْشٍ؛ أَحْنَاهُ على وَلَدٍ في صغَرِه، وأرعاه على زوْجٍ في ذات يدِهِ)) [17].



    2- غرس الثقة بالنفس مبكرًا، فلا بد من تعويدهم على حمل المسؤولية، وهذا ما يستدل عليه من الهدي النبوي في حديث أنس - رضي الله عنه -: "أتى علَيَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأنا ألعبُ مع الغلمان، فسلَّم علينا، فبعثني إلى حاجَةٍ، فأبطأْتُ على أمِّي، فلمَّا جئتُ قالت: ما حبسك؟ قلتُ: بعثني رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِحَاجَةٍ، قالتْ: ما حاجتُهُ؟ قلتُ: إنَّها سرٌّ، قالتْ: لا تحدِّثنَّ بسرِّ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أحدًا"[18].



    3- تحذير الأم لأبنائها من التكبُّر والخيلاء إلا أمام صفوف الأعداء، ومصداق ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي دُجانة: ((إنها لَمِشيةٌ يُبغضها اللهُ، إلا في مثل هذا الموضع))[19].



    4- إرواء حاجة الأبناء في الملاطفة والممازحة؛ فعن أنس قال: "كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحسنَ الناسِ خُلُقًا، وكان إذا جاء قال: ((يا أبا عُمير، ما فعل النُّغير؟)) نغرٌ كان يلعبُ به، فربما حضر الصلاة وهو في بيتِنا، فيأمُرُ بالبِساطِ الذِي تحتهُ فيُكنسُ ويُنضحُ، ثُم يقُومُ ونقُومُ خلفهُ فيُصلِّي بِنا"[20].

    [1] التربية هي: تعهُّد الشيء ورعايتُه بالزيادة والتنمية والتقوية، والأخذ به في طريقة النضج والكمال، والذي تؤهِّله له طبيعته؛ انظر: كلمات في علم الأخلاق ص 39.

    [2] انظر: الأحكام الخاصة بالعلاقة بين الآباء والأبناء، ص 40.

    [3] تيسير الكريم الرحمن ص 166، وانظر: زاد المسير 6/48، والتحرير والتنوير 28/327.

    [4] انظر: التفسير الواضح 3/705.

    [5] انظر: علم النفس التربوي في الإسلام، ص 106.

    [6] انظر: كلمات في علم الأخلاق ص 39.

    [7] انظر: تيسير الكريم الرحمن ص 59.

    [8] انظر: جامع البيان 21/73.

    [9] انظر: معالم التنزيل 4/358، وأنوار التنزيل 3/93، وإرشاد العقل السليم 5/54، وتفسير الجلالين 1/336، روح المعاني 13/243.

    [10] انظر: الجامع لأحكام القرآن 11/263.

    [11] في ظلال القرآن 6/3620.

    [12] أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي ومات هل يصلى عليه، حديث (1358)، 3/219، ومسلم في كتاب القدر، باب معنى: كل مولود يولد على الفطرة، حديث (2658)، 4/2047 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه.

    [13] انظر: فلسفة التربية الإسلامية ص 129.

    [14] أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، حديث (54)، 1/74، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه.

    [15] انظر: علم النفس الاجتماعي، ص107.

    [16] انظر: التنشئة الوالدية، الأمراض النفسية، ص 7.

    [17] أخرجه البخاري في النفقات، باب حفظ المرأة زوجها في ذات يده، حديث رقم (5365)، 9/511، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل نساء قريش، حديث رقم (2527) 4/1958 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه.

    [18] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب فضائل أنس بن مالك، حديث رقم (2481) 4/1929.

    [19] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، حديث رقم (6508) 7/104، من طريق خالد بن سليمان عن عبدالله بن خالد بن سماك بن خرشة، عن أبيه، عن جده: أنَّ أبا دجانة يوم أُحُد أعلم بعصابةٍ حمراء، فنظر إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يختالُ في مِشيته بين الصَّفين، قال... فذكره، قال الهيثمي في المجمع 6/91: "رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفه".

    [20] أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الانبساط إلى الناس، حديث رقم (6129) 10/138، ومسلم في كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته وحمله، حديث رقم (2150) 3/1692 من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه.



    رابط الموضوع:
    https://www.alukah.net/social/0/48734/#ixzz6jzVayHAq
    تربية الأهل والأولاد في القرآن الكريم دراسة قرآنية الاستاذ/ عبدالعزيز سالم شامان الرويلي إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه. أما بعد: فقد أوجبت الشريعة الإسلامية على الآباء أن يحسنوا تربية[1] أبنائهم ورعايتهم، وحرَّمت تضييعهم وتضييعَ حقوقهم، وشرعت الكثير من الأحكام لحفظ الأبناء؛ ليؤدي هذا الحفظ المعضد الذي وجب لأهله[2]، وإن الله - تعالى - أوجب على الوالد أن يقيَ أهله من النار، وما يكون ذلك إلا بالتربية الصالحة؛ قال الله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]. قال السعدي في تفسير هذه الآية: "فالأولاد عند والديهم موصًى بهم، فإما أن يقوموا بتلك الوصية، وإما أن يضيِّعوا؛ فيستحقوا بذلك الوعدَ والعقاب، ووقاية الأهل والأولاد بتأديبهم وتربيتهم، وإجبارهم على أمر الله"[3]. فصاحب الهمة العالية هو الذي يقي نفسَه وأهله من العذاب؛ وذلك بترك المعاصي، وفعل الطاعات؛ فالمسلم الواجب عليه أن يُصلِحَ نفسه أولاً، ويقي نفسه شر النار وغضب الجبار، ثم يتجه ثانيًا إلى تكوين أسرته على مبادئ الدين الحنيف، ويغرس في نفوسهم أدبَ القرآن الكريم، والفضائل الإسلامية العليا[4]. وهذا حثٌّ من الله - تعالى - للآباء على تربية أبنائهم وأهليهم تربيةً إيمانية، نابعةً من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أجل المحافظة عليهم في الدنيا من الانحرافات والفتن التي عمَّت البلادَ والعباد، وفوزهم في الآخرة برضوان الله - تعالى - وبُعْدهم عن سخطه وغضبه. إن مبادرة الفرد المسلم في إصلاح مجتمعه - ولا سيما ذووه المقربون - له أكبرُ الأثر في نهضته وارتقائه؛ فالقرآن الكريم لَمَّا دعا إلى علو الهمة دعا لها بشتى صورها وأشكالها، لم يجعَلْها في نطاق الأفراد فحسب؛ وإنما وسَّع دائرة الهمة والمبادرة في مجتمعه الذي يعيش فيه. ولا يمكن أن تكون مهمة الأسرة هي عملية الإنجاب والمحافظة على النوع البشري فحسْبُ؛ بل هي مهمة تتعدى مهمةَ الإشباع إلى مهمة الإبداع في إخراج أجيال مسلِمة صالحة، يتباهى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة. ولا نجد تصويرًا لأثَر الأسرة في تنشئة الطفل السليم أبلغَ في التعبير من قوله - تعالى -: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: 58]، فما أشبهَ الأسرةَ بالأرض الخصبة الطيبة التي تنبت أطفالاً ذوي طباعٍ خيِّرة نقية، وسلوكٍ نبيل، وما أشبه الأسرةَ المنهارةَ في أخلاقها وسلوكِها بالأرض الخبيثة التي لا تنبت إلا نباتًا قليلاً حجمُه ونفعُه، فتخرج أطفالها بطباعٍ قاسية وسلوك سيِّئٍ[5]. فالتربية بصفة عامة تُعَد تنمية ورعاية لكل جوانب الإنسان؛ سواء العقلية أو النفسية أو الوجدانية أو الجسمية أو الخُلقية، وفي جانب التربية الخُلقية، ولكي يكون الخُلُق الجيد راسخًا في النفس؛ فإنه يجب تكرارُه حتى يصبح عادة؛ وذلك بالتدريب، ولا يكون ذلك إلا بالتربية[6]. وقد ضرب لنا أنبياءُ الله أعظم مَثَل في سعيهم المستمر لتأديب أبنائهم، وعلِموا أنهم قدوة متبعة لأبنائهم ولكل البشر؛ فكانوا كبارًا بهِمَمهم، وبنَوا مجدهم بأنفسهم، وعلَّموا أولادهم ألا يفتخروا بنسب أو بعِرْق، بل معيار التفاخر هو هممهم الموصلة إلى مرضاة الله. قال - تعالى -: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124]، قال السعدي في تفسير هذه الآية: "أي: يقتدون بك في الهدى، ويمشون خلفك إلى سعادتِهم الأبدية، ويحصل لك الثناء الدائم، والأجر الجزيل، والتعظيم من كل أحد. وهذه - لعمر الله - أفضلُ درجة تنافس فيها المتنافسون، وأعلى مقام شمَّر إليه العاملون، وأكملُ حالة حصَّلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم، من كل صدِّيق متَّبع لهم، داعٍ إلى الله وإلى سبيله، فلما اغتبط إبراهيم - عليه السلام - بهذا المقام، وأدرك هذا، طلب ذلك لذريته؛ لتعلوَ درجتُه ودرجة ذريته، وهذا أيضًا من إمامته، ونصحه لعباد الله، ومحبته أن يكثُرَ فيهم المرشدون؛ فلله عظمة هذه الهمم العالية، والمقامات السامية"[7]. فانظر إلى همة إبراهيم - عليه السلام - وعلوِّها بأن دعا الله - تعالى - وسأله أن يُخرِج من صلبه ذريةً تطيع الله - تعالى - وتعبُده، ولا يكتفي بذلك؛ بل همته أن يكونَ إمامًا يُقتدى به في الخير، وأحب أن تكونَ عبادته متصلة بعبادة أولاده وذريته، وأن يكون هداهم متعديًا إلى غيرهم بالنفع، وذلك أكثر ثوابًا وأحسن مآبًا، فلله دره ما أعظمَ همتَه! وحرَص إبراهيم - عليه السلام - كل الحرص على تربية أبنائه على هذا المبدأ العظيم، الذي هو التوحيد، وذلك في دعواته: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ [إبراهيم: 35]، وفي موضع آخر: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 128]، فكان هذا أسلوبَ إبراهيم - عليه السلام - في تربية أبنائه، فأول أمر هو الأهل والأولاد، فصب همتَه على إصلاحهم ودعوتهم، فكان هذا الأسلوب وتلك الوصايا الميمونة في عقِبه ونسله، فكل واحد من أبنائه كان موحِّدًا يعبد الله ويُربِّي على ذلك ولَدَه، ويحذِّرهم من الشرك بالله، ولنتأمَّل مسيرة يعقوب بن إسحاق - عليهما السلام - وهو في سياق الموت، لقد جمع أولاده الاثني عشر وراح يوصيهم: ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133]، وهكذا فإن تربية الأولاد على الإيمان بالله - تعالى - دأب المرسلين، ونهج الأنبياء، وهو النهج القويم، والصراط المستقيم. قال - تعالى -: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: 13 - 19]. تبيِّن لنا هذه الآيات همةَ لقمان - عليه السلام - العالية، وكيف جعلها في ابنه، وصبَّ جلَّ همه على تربيته، فذكر له تلك الوصايا الخالدة، وهذا يبيِّن لنا العلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق، وكون تلك الوصية موجَّهةً إلى ابنه، فهي رمز لمصداقية النصيحة تلك. كما أن مصداقية تلك الوصايا تبدو جلية، فنحن نسمع في صدورها وبين ثناياها كلمة: ﴿ يَا بُنَيَّ ﴾، التي تحمل دلالاتٍ بعيدةً؛ فحرف النداء يثير الحس، ويوقظ الشعور، ويجلب الانتباه، وكلمة: ﴿ يَا بُنَيَّ ﴾ تصور لنا أسمى معاني الحب والرحمة والشفقة، وتَفيض بأروعِ مشاعر العطف والحنان، ولو خلا الكلام منها وأُجمِل التخصيصُ بالنداء، لَما أدت الغرضَ نفسه. فنجد في تصفحنا لتاريخنا العريق كثيرًا من الآباء أصحاب الهمم الرفيعة، لم يوفِّروا من الجهد شيئًا في سبيل السمو بهِمَم أبنائهم. فقد جاء في وصية لقمان - عليه السلام - لابنه التي يجدر بنا الوقوفُ عندها: قولُه - تعالى -: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17]. ذكر الطبري في تفسيره لهذه الآية: "يقولُ - تعالى ذِكرُهُ - مُخْبِرًا عن قيل لقمان لابنه: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾ [لقمان: 17] بحُدُودِهَا، ﴿ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ يقولُ: وَأْمُرِ النَّاسَ بطاعةِ اللهِ، واتِّباعِ أمْرِهِ، ﴿ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ يَقُولُ: وَانْهَ النَّاسَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ، ومُوَاقعةِ مَحَارِمِهِ، ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ﴾ يقولُ: وَاصْبِرْ على ما أصابَكَ من النَّاسِ فِي ذَاتِ اللَّهِ إذا أنت أمرتَهُمْ بِالمَعْرُوفِ، ونهيتَهم عن المنكَرِ، ولا يصُدَّنَّكَ عن ذلك ما نالك مِنْهُمْ؛ ﴿ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ يقولُ: إِنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ عَزْمًا مِنْهُ" [8]. ويبدأ لقمان - عليه السلام - بأمر ابنه، أمره بتوحيد الله بأوامر إيمانية متسلسلة مبدوءة بالصلاة، أول شعيرة من شعائر الإسلام أُمرنا بتعليمها أولادنا، وضربهم عليها وهم صغار؛ فالصلاة جامعة لكل أركان الإسلام، بدءًا من الشهادتين، وانتهاءً بحج البيت؛ فالشهادتان جزء أساسي في التحيات في الصلاة، وأما الحج، فإن المصلي يتوجه في صلاته إلى البيت الحرام، إلى الكعبة، إلى القِبلة. وكان ذلك دأب الأنبياء جميعهم، قال - تعالى -: ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 40]. جاء في تفسير هذه الآية: أن إبراهيم - عليه السلام - كان مثابرًا على الصلاة مقيمًا لها، مع شمول دعوتِه لذريتِه أيضًا، ومن يسيرُ سيرتَهما من أولادهما؛ للإشعار بأنه المقتدى به في ذلك وذريتُه أتباعٌ له، وأنه ذكَرهم بطريق الاستطراد؛ ففي هذه الآية دعاءٌ من إبراهيم - عليه السلام - لذريته بالثبات على إقامة الصلاة، والبُعد عن عبادة الأصنام [9]. وقال - تعالى -: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132]. قال القرطبي في تفسير هذه الآية: "أمَره بأن يأمر أهلَه بالصلاة ويمتثلَها معهم، ويصطبر عليها ويلازمها، وهذا الخطابُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويدخل في عمومه جميعُ أمته، وأهلُ بيته على التخصيص" [10]. فأعظم ما يسعى إليه المؤمنُ ويجعل همتَه فيه: تربيتُه لأبنائه، وأعظم ما يربِّي عليه المؤمن أبناءه إقامة الصلاة على الوجه الذي يُرضي ربَّنا - عز وجل - ويربِّيهم عليها من صِغرهم، وإقامتها، مع كل ما يتضمنه معنى الصلاة من خشوع وخضوع لله؛ حتى يلقوا بذلك مرضاة الله - تعالى. والله - عز وجل - ذكر لنا نماذجَ أخرى، منها قوله - تعالى -: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ﴾ [مريم: 54، 55]، وقال - تعالى -: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41]. وهنا يبرز لنا دور الأب كقدوة، إن إبراهيم - عليه السلام - والذي قال عنه ربه - تبارك وتعالى -: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 37]، لَمَّا وفَّى بكل ما أُمِر به، أعطى القدوة لابنه الذي استجاب وأطاع؛ لأنه قد تربى على ذلك. فهذا هو نبي الله - تعالى - بعلوِّ همته وعزيمته، يسعى بإرادته لتحسين تربية ابنه، فيرتقي به ويكون أهلاً لأن يصبح مستخلفًا في الأرض، فها هو إبراهيم - عليه السلام - يربي ولده على أن يكون قدوة وقائدًا يقود الناس إلى الخير، ذا همة عالية، فيتبعه كل من أراد النجاة، فمع صِغَر سن ولده إلا أنه كان يجتهد في جعله أكثر تحملاً للمسؤولية والأمانة، التي لا بد أن يبلغها إن وصل إلى سن الرشد. ومن أهم المجالات التي لا بد للأسرة أن تكون همتُها منصبَّةً إليها في تربية أبنائها: بناءُ الأجيال المهيَّأة لقيادة الناس، ونشر الحق والتمكين في الأرض؛ وذلك انطلاقًا من قوله - تعالى -: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143]. وهذا الدور لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تربية أصيلة مستمدَّة من كتاب الله وسنة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ويندرج تحت هذا الدور بناءُ البيت المسلم وحمايته، ومن ثم لا ينبغي أن يترك ليُهاجَمَ من قِبَل العناصر المفسدة والجائرة [11]. ومن أهم المجالات التي لا بد من مراعاتها: أولاً: المجال العَقَدي: الأسرة هي المؤسسة التربوية الأولى التي تحمل على عاتقها تربيةَ الأبناء؛ فهي تتولى تشكيل المعتقد والقِيَم والأفكار؛ وذلك مصداقًا لقول الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((ما مِن مولُودٍ إلا يُولدُ على الفِطرةِ، فأبواهُ يُهوِّدانِهِ أو يُنصِّرانِهِ أو يُمجِّسانِهِ، كما تُنتجُ البهِيمةُ بهِيمةً جمعاء، هل تُحِسُّون فِيها مِن جدعاء؟))[12]، وفي الحديث تأكيد لدَور الوالدين في تربية الأبناء، وتحميلُهم تبِعات مسؤولية التربية، وما دامت عقيدة الأمة ومنهجها الإسلامَ، فإنه يجب أن تأخذ هذه العقيدةُ التي هي مقياس صلاح الإنسان حظًّا وافرًا داخل الأسرة، ومن المُسلَّم لدى علماء التربية: أن التربية التي يتعرض لها الإنسان في بداية نشأته مسؤولةٌ إلى حد كبير على ما يطرأ للإنسان من اعتقاد سليم أو خاطئ، وعلى الآباء تقع مسؤوليةٌ كبيرة تجاه أبنائهم[13]. فمن الواجب على الأسرة المسلمة - ونحن في عصر اختلطت فيه المفاهيم والقِيَم لدى كثير من أبناء المسلمين - أن تعمِدَ إلى ترسيخ المفاهيم العقدية لدى أبنائها منذ السنوات الأولى، وترضعه العقيدة كما ترضعه الحليب؛ فالتربية العقائدية السليمة لها دور كبير في تربية الطفل المسلم، وإكسابه المناعة اللازمة ضد الأفكار والعقائد المنحرفة؛ ولذلك لا بد من التركيز على البناء العقائدي السليم للأبناء؛ لمنحهم الحصانةَ الكافية لمواجهة التحديات والمغريات التي يعايشونها في واقعهم. ثانيًا: المجال الأخلاقي: اهتم الإسلام بالأخلاق، واعتبرها الأساس الذي تستند إليه كلُّ المعاملات الإنسانية، وقد أثنى الله - عز وجل - وامتدح نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، وقد وجَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الآباءَ إلى ممارسة دورهم التربوي الأخلاقي؛ فالأسرة مأمورة أن تُعوِّد أبناءها السلوك الأخلاقي، وتعديل السلوك الذي يتنافى مع الأخلاق الإسلامية بالممارسات والإجراءات التي يمكن إجمالها فيما يلي: 1- ترسيخ خُلق الأمانة في نفوس الأبناء؛ حيث إن الإنسان وحده هو المؤهَّل لحمل الأمانة، وهذه التبعة الثقيلة هي مناط التكريم الذي أعلنه اللهُ في الملأ الأعلى، وعليه أن ينهض بتلك الأمانة؛ حتى يصل إلى مقام كريم؛ وذلك مصداقًا لقوله - تعالى -: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ﴾ [الأحزاب: 72]. 2- غرس خُلق الصبر في أنفسهم؛ وذلك أسوة بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أُوذي في مكة، وهجر بيته ووطنه، وحُوصر في شِعب أبي طالب، وبيان أجر الصابرين؛ وذلك انطلاقًا من قوله - تعالى -: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]. 3- غرس خُلق الصِّدق في نفوس الأبناء؛ فالمسلم صادقٌ ظاهرًا وباطنًا، وقولاً وفعلاً، فإن الصدق أصلٌ من أصول الأخلاق، وهو المحك لمعرفة درجة الإيمان. ثالثًا: المجال الاجتماعي: تعتبر الأسرة حلقة وصلٍ بين النشء والمجتمع الكبير، ولها دور مهم في التنشئة الاجتماعية الصحيحة للأبناء؛ فالشخصية لا تولد مع الفرد، ولكنها تولد تدريجيًّا بتفاعله في المحيط الاجتماعي الذي ينشأ فيه والأسرة، ويمكن إجمالُ دَور الأسرة في هذا المجال من خلال ما يلي: 1- تعليم الأبناء ردَّ السلام، كما ورد بالصيغة المتعارف عليها؛ لِما فيه من شيوع المحبة والتآلف في الأسرة والمجتمع ومواطن الرباط، ومصداق ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لن تدخُلُوا الجنَّة حتى تُؤمنُوا، ولن تُؤمنُوا حتى تحابُّوا، أوَلا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتُموه تحاببتُم؟ أفشُوا السَّلام بينكُم)) [14]. 2- تعويد الأبناء على آداب الاستئذان داخل البيت قبل البلوغ وبعده؛ وذلك مصداقًا لقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [النور: 58]. 3- لفت انتباههم إلى غض البصر عن المحرَّمات؛ إذ لا بد للحياة من ضوابطَ مع الفرد؛ فالإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف لا تهيج فيه الشهوات كل حين[15]؛ وذلك مصداقًا لقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30]. 4- ربط الأبناء بالصحبة الصالحة، وقد دلت نتائج الدراسات أن للصحبة أثرًا بالغًا في نمو الطفل النفسي والاجتماعي؛ فهي تؤثِّر في قِيَمه وعاداته واتجاهاته، وقد حذَّر القرآن الكريم من رفقاء السوء؛ وذلك مصداقًا لقوله: ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلاً * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا * وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلاً ﴾ [الفرقان: 25 - 28]. رابعًا: المجال النفسي والوجداني: يشكِّل المجال النفسي الوجداني مساحة واسعة في نفسية الطفل، فإذا سلَّمنا بأهمية مرحلة الطفولة، فإننا نُسلِّم أيضًا بقدر الأهمية للأسرة؛ باعتبارها الوسط البيئي الذي يعيش فيه الفرد، ويكتسب من خلالها اتجاهاته الأساسيةَ التي تعتبر محددات لسلوكه، والتي يُفضل أن يتفاعل معها، وبالتالي فهي العامل البيئي الأول بلا منازع[16]، ويمكن إجمالُ دور الأسرة في هذا المجال من خلال: 1- إرواء الحاجة إلى الحب والحنان، وقد أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على نساء قريش؛ لحنانهن على أولادهن، ومصداق ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خيرُ نساءٍ ركِبْنَ الإبِلَ صالحُ نساءِ قُرَيْشٍ؛ أَحْنَاهُ على وَلَدٍ في صغَرِه، وأرعاه على زوْجٍ في ذات يدِهِ)) [17]. 2- غرس الثقة بالنفس مبكرًا، فلا بد من تعويدهم على حمل المسؤولية، وهذا ما يستدل عليه من الهدي النبوي في حديث أنس - رضي الله عنه -: "أتى علَيَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأنا ألعبُ مع الغلمان، فسلَّم علينا، فبعثني إلى حاجَةٍ، فأبطأْتُ على أمِّي، فلمَّا جئتُ قالت: ما حبسك؟ قلتُ: بعثني رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِحَاجَةٍ، قالتْ: ما حاجتُهُ؟ قلتُ: إنَّها سرٌّ، قالتْ: لا تحدِّثنَّ بسرِّ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أحدًا"[18]. 3- تحذير الأم لأبنائها من التكبُّر والخيلاء إلا أمام صفوف الأعداء، ومصداق ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي دُجانة: ((إنها لَمِشيةٌ يُبغضها اللهُ، إلا في مثل هذا الموضع))[19]. 4- إرواء حاجة الأبناء في الملاطفة والممازحة؛ فعن أنس قال: "كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحسنَ الناسِ خُلُقًا، وكان إذا جاء قال: ((يا أبا عُمير، ما فعل النُّغير؟)) نغرٌ كان يلعبُ به، فربما حضر الصلاة وهو في بيتِنا، فيأمُرُ بالبِساطِ الذِي تحتهُ فيُكنسُ ويُنضحُ، ثُم يقُومُ ونقُومُ خلفهُ فيُصلِّي بِنا"[20]. [1] التربية هي: تعهُّد الشيء ورعايتُه بالزيادة والتنمية والتقوية، والأخذ به في طريقة النضج والكمال، والذي تؤهِّله له طبيعته؛ انظر: كلمات في علم الأخلاق ص 39. [2] انظر: الأحكام الخاصة بالعلاقة بين الآباء والأبناء، ص 40. [3] تيسير الكريم الرحمن ص 166، وانظر: زاد المسير 6/48، والتحرير والتنوير 28/327. [4] انظر: التفسير الواضح 3/705. [5] انظر: علم النفس التربوي في الإسلام، ص 106. [6] انظر: كلمات في علم الأخلاق ص 39. [7] انظر: تيسير الكريم الرحمن ص 59. [8] انظر: جامع البيان 21/73. [9] انظر: معالم التنزيل 4/358، وأنوار التنزيل 3/93، وإرشاد العقل السليم 5/54، وتفسير الجلالين 1/336، روح المعاني 13/243. [10] انظر: الجامع لأحكام القرآن 11/263. [11] في ظلال القرآن 6/3620. [12] أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي ومات هل يصلى عليه، حديث (1358)، 3/219، ومسلم في كتاب القدر، باب معنى: كل مولود يولد على الفطرة، حديث (2658)، 4/2047 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه. [13] انظر: فلسفة التربية الإسلامية ص 129. [14] أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، حديث (54)، 1/74، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه. [15] انظر: علم النفس الاجتماعي، ص107. [16] انظر: التنشئة الوالدية، الأمراض النفسية، ص 7. [17] أخرجه البخاري في النفقات، باب حفظ المرأة زوجها في ذات يده، حديث رقم (5365)، 9/511، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل نساء قريش، حديث رقم (2527) 4/1958 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه. [18] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب فضائل أنس بن مالك، حديث رقم (2481) 4/1929. [19] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، حديث رقم (6508) 7/104، من طريق خالد بن سليمان عن عبدالله بن خالد بن سماك بن خرشة، عن أبيه، عن جده: أنَّ أبا دجانة يوم أُحُد أعلم بعصابةٍ حمراء، فنظر إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يختالُ في مِشيته بين الصَّفين، قال... فذكره، قال الهيثمي في المجمع 6/91: "رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفه". [20] أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الانبساط إلى الناس، حديث رقم (6129) 10/138، ومسلم في كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته وحمله، حديث رقم (2150) 3/1692 من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه. رابط الموضوع: https://www.alukah.net/social/0/48734/#ixzz6jzVayHAq
    تربية الأهل والأولاد في القرآن الكريم .. دراسة قرآنية
    تربية الأهل والأولاد في القرآن الكريمدراسة قرآنية  إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله
    WWW.ALUKAH.NET
    0
  • أفلا يتدبرون القرآن؟!

    عبد السلام بن إبراهيم بن محمد الحصين.


    العناصر:
    1- مقدمة.
    2- هل هو من عند الله؟
    3- في القرآن جميع العلوم النافعة.
    4- كيفية التدبر ووسائله.
    5- ثمرات التدبر
    6- صوارف التدبر.
    7- أيهما أفضل؟
    8- الاقتصاد في قراءة القرآن.
    9- من هم أهل القرآن؟
    10- بأي شيء نبدأ؟



    الحمد لله علم القرآن، وجعله في أعلا درجات البيان، وحفظه من الزيادة والنقصان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعهد بحفظ حروف كتابه؛ فلا يزال محفوظًا في الصدور والأوراق، وبحفظ معانيه فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:

    مقدمة
    فإن "القرآن في البيان والهداية كالروح في الجسد، والأثير في المادة، والكهرباء في الكون، تُعرف هذه الأشياء بمظاهرها وآثارها، ويعجز العارفون عن بيان كنهها وحقيقتها"(1)، فكذلك القرآن سر من الأسرار، أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض، وليس على العقول والأفئدة شيء ألذ من تكشف هذه الأسرار، وإزاحة الأستار، وهي لا تظهر إلا بتدبر وتفكر، وتأمل ونظر.
    قرآن مركب من "ألفاظ؛ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة، تذكُرُ الدنيا فمنها عمادها ونظامها، وتصف الآخرة فمنها جنتها وناره(2)، ومتى وعدت مِنْ كَرَمِ الله جعلتِ الثُّغورَ تضحكُ في وجوه الغيوب، وإن أوعدت بعذاب الله جعلت الألسنة ترعُدُ من حَمَى(3) القلوب"(4).
    فيه معاني أعذب وأطيب من الماء البارد الحلو للعطشان، وأرق من نسيم الجنان، هي نور يضيء للمؤمنين طريق الحياة ليصلوا إلى بر الأمان، أعظم من نور الشمس للأكوان.
    ولقد صدق من قال:

    وكتاب ربك إن في نفحاته *** مِنْ كُلِّ خيرٍ فوقَ ما يُتوقع
    نورُ الوجودِ وأُنسُ كلِّ مُرَوَّعٍ *** بِكروبِه ضاق الفضاءُ الأوسع
    والعاكفون عليه هم جلساء من *** لجلاله كُلُّ العوالم تخشع
    فادْفِن همومك في ظِلال بيانه *** تَحْلُ الحياةُ وتطمئن الأضلع
    فبكل حرف من عجائب وحيه *** نبأٌ يُبشِّر، أو نذيرٌ يقْرعُ

    قال جرير بن عبد الله البجلي: "أوصيكم بتقوى لله، وأوصيكم بالقرآن؛ فإنه نور بالليل المظلم، وهدى بالنهار، فاعملوا به على ما كان من جهد وفاقة، فإن عرض بلاء فقدِّمْ مالك دون دينك، فإن تجاوز البلاء -أي زاد، ولم يدفعه المال- فقدم مالك ونفسك دون دينك؛ فإن المخروب من خَرُب دينُه، والمسلوب من سُلِب دينُه، واعلم أنه لا فاقة بعد الجنة، ولا غنى بعد النار"(5).
    يرفع الله بهذا القرآن أقوامًا ويضع به آخرين؛ فعن نافع بن عبد الحارث أنه استناب مولاه عبدَ الرحمن بنَ أبزى على مكة لما خرج للقاء عمر في عُسفان، فقال عمر لنافع: من استخلفت على أهل الوادي؟ -يعني مكة-، قال: ابنَ أبزى، فقال عمر: ومن ابنُ أبزى؟! فَقَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا, فَقَالَ: اسْتَخْلَفْت عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟! فقال: إنه عالم بالفرائض، قارئ لكتاب الله؛ فقال عمر: إما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذا القرآن يرفع الله به أقوامًا، ويضع به آخرين))(6).
    إن أجمل حديث وأشرفه، وأحسن مجلس وأطيبه، ما كان في القرآن الكريم، كلام الله، وحديثنا اليوم عن تدبر القرآن، وهو أعظم مقصود نزل لأجله القرآن، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (29)} [سورة ص 38/29].

    هل هو من عند الله؟
    سؤال غريب حقًا، غريب أن يصدر من مسلم، على أناس مسلمين، وهل فينا من يشك في أن القرآن من عند الله؟!
    كلا، بحمد الله، ليس فينا من يشك في ذلك، ولكننا نريد أن نستخرج من القرآن ما يدل على هذه القضية دلالة قاطعة، لا يداخلها شك؛ لتكون حجة لنا أمام المنكرين، أو المتشككين، أو الطاعنين.
    إن كل سورة في القرآن، بل كل كلمة، بل كل حرف يدل على أنه من عند الله، إن المسلم تصيبه الحيرة حين يريد أن يستدل على أن هذا القرآن من عند الله! أرأيت لو أن الشمس طالعة، والجو صحو، ليس به غيم، فقال لك رجل مبصر: ما الدليل على أن النهار موجود، وأن الشمس مشرقة؟ فهل تجد حجة أعظم من أن تقول: ألا تنظر بعيني رأسك؟!
    وهكذا القرآن، وجوده دليل على من نزل من عنده، وتكلم به، قراءتك له، وتدبرك لمعانيه يكفيك لتعرف أنه من عند الله، كم قصةً قرأتها فأعجبتك، ثم لم تجد في نفسك ما يشدك لأن تقرأها مرة أخرى، ولو أنك قرأتها مرة ثانية، لم تجد ما يشدك لأن تقرأها ثالثة، أما القرآن، فلا يزداد إلا حلاوة كلما عدنا إليه، في كل قراءة تجد من اللذة والأنس ما لم تحس به قبل ذلك.
    فمن سأل هل القرآن من عند الله؟ فيكفينا أن نقول له: ألا تفكر بعقلك؟! وتنظر ببصيرتك؟! كما قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟! وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً (82)} [سورة النساء 4/82]، وقال تعالى: {أفلم يدبروا القول} أي: أفلم يتفكروا في القرآن، ويتأملوه ويتدبروه، فلو أنهم فعلوا لعلموا أنه من عند الله حقًا، وأنه لا يمكن لبشر أيًا كان أن يأتي بمثله.
    ومع هذا فإن الأدلة على أنه من عند الله كثيرة بحمد الله، ومتنوعة، ومن أعظمها في هذا الزمان ما ظهر من الأبحاث العلمية المبنية على التجارب الحسية، والتي توافقت مع القرآن وتطابقت معه.
    ولن أذكر شيئًا من هذه الأبحاث؛ فلها مجالها الخاص، ولأنها مبنية على معرفة هذه الأبحاث والاطلاع عليها، والتأكد من صحتها، ولكني سأذكر لكم شيئًا واحدًا، يستطيع أن يدركه كل عاقل، ويفهمه كل شخص يمتلك أدنى درجات التفكير، وهو: أن "تسأل التاريخ؛ كم مرةً تنكَّر الدهر لدول الإسلام، وتسلط الفجار على المسلمين، فأثخنوا فيهم القتل، وأكرهوا أممًا منهم على الكفر، وأحرقوا الكتب، وهدموا المساجد، وصنعوا ما يكفي القليلُ منه لضياع هذا القرآن كُلاً أو بعضًا، كما فُعِل بالكتب قبله"(7)، فهل ضاع شيء من القرآن؟ وهل فقد منه شيء؟ وهل فقد شيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
    بل سلوا صحف الأخبار اليومية، وطالعوا حوادث الساعة في زماننا هذا؛ كم من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تنفق في كل عام لمحو القرآن، وصد الناس عن الإسلام بالتضليل والبهتان، والخِداع والإغراء، ثم لا يظفر أهلها من وراء ذلك إلا بما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} [سورة الأنفال 8/36]، هل تعلمون أمةً أضعفُ من أمة الإسلام؟ هل تعلمون دمًا في هذا الزمان أرخصُ من دم المسلم، وأرضًا استبيحت كما استبيحت أرض المسلمين؟، وهل تعلمون قوة أرضية هي أقوى من قوة الكفار، واقتصادًا أقوى من اقتصادهم، وساسة أدهى من ساستهم؟ قد اجتمعت في أيديهم قوة السلاح، والاقتصاد، والسياسة، والكلمة والدعاية، ومع هذا كله فإنا نقول لهم بكل ثقة وثبات: حاولوا أمرين اثنين، أو أحدهما إن عجزتم عنهما معًا، ونحن نؤمِنُ لكم، ونترك ديننا لأجلكم، ونؤمن بقرآنكم الجديد:
    أول هذين الأمرين: أن يحرفوا القرآن، ويمحوه عن وجه الأرض، ولن يستطيعوا أن يفعلوا، أتدرون لماذا؟ لأن الذي يمسك القرآن أن يزول ويحرَّف، هو الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، هل يستطيعون أن يأتوا بالشمس من المغرب، وهي تخرج من المشرق؟ كلا، فكذلك لا يستطيعون أن يحرفوا القرآن، ويمحوه عن وجه الأرض، وصدق الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [سورة التوبة 9/33].
    وثاني هذين الأمرين: أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وباب التحدي مفتوح، منذ أن نَزلَ القرآن والناس يعيشون حياة بسيطة، لم ينفتح عليهم من زينة الدنيا وزخارفها وحلاوتها وقوتها، ما انفتح في هذا الزمان، إلى أن نَثَرتِ الدنيا من زينتها وبهائها وزخارفها وفتنتها ما لم يره من قبلنا، وباب التحدي مفتوح {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ؟! قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38)} [سورة يونس 10/38].
    ولعلكم سمعتم بمحاولتهم البائسة، إنها مُضحكةٌ فعلاً، إن أصغر حافظ للقرآن يستطيع أن يرد عليهم، بل إن أقل مسلم عامي لا يقرأ ولا يكتب، لا يستطيعون أن يروجوا عليه قرآنهم.
    ولكن! هل يعني هذا أن ننام، وأن نتكل على هذه العناية الإلهية، ونترك السعي لحفظ القرآن، والذود عن حياضه الشريفة؟ كلا، إنما يُحفظ القرآن ويُنصر بقوم يحبون الله ويحبهم، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.

    في القرآن جميع العلوم النافعة.
    قال مسروق: "من سره أن يعلم علم الأولين والآخرين، وعلم الدنيا والآخرة فليقرأ سورة الواقعة".
    قال الذهبي معلقًا على هذا القول: "هذا قاله مسروق على المبالغة؛ لعِظَمِ ما في السورة من جُمَلِ أمور الدارين، ومعنى قوله "فليقرأ الواقعة": أي بتدبر وتفكر وحضور، ولا يكن كمثل الحمار يحمل أسفارًا"(8).
    وقال يحيى بن عمار: "العلوم خمسة: عِلمٌ هو حياة الدين، وهو علمُ التوحيد، وعِلمٌ هو قوت الدين، وهو العِظَةُ والذكر، وعلمٌ هو دواءُ الدين، وهو الفقه، وعلمٌ هو داءُ الدين، وهو أخبار ما وقع بين السلف -يعنى من النزاع، والقتال والخصام- وعلم هو هلاك الدين، وهو الكلام"(9).
    وهذه العلوم الثلاثة كلها في القرآن الكريم؛ ففيه علم التوحيد، وعلم الوعظ والذكر، وعلم الفقه.
    قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [سورة النحل 16/89].

    كيفية التدبر ووسائله.
    لقد حثنا الله على تدبر كتابه، وتأمل ما فيه من الآيات والحجج، والحقائق والعلوم، فقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟! وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً (82)} [سورة النساء 4/82]، وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا؟! (24)} [سورة محمد 47/24]، إن التدبر في القرآن يكون في التأمل بمعانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك.
    وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} [سورة يوسف 12/2]، فالمقصود من جعله عربيًا بينًا ليحصل لنا العقل والاهتداء بفهمه وتدبره، ومن لم يفهم لم يتدبر، قال الحسن البصري: "ما أنزل الله من آية إلا وهو يحب أن يعلم فيما أنزلت، وماذا عُني بها".
    ومن أهم الوسائل التي تعين على التدبر:
    1- تفريغ القلب من الانشغال بغير الله، والتفكر في غير كتابه، فاقرأ القرآن وقلبك فارغ من كل شيء إلا من الله، ومحبته، والرغبة في فهم كلامه، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [سورة ق 50/37].
    2- الترتيل عند قراءة القرآن، وتحسين الصوت به، وتحزينه، فإنه معين على التدبر والتأمل، ولهذا يجد الإنسان من نفسه حب سماع القرآن حين يقرأ به القارئ الماهر، ذو الصوت الحسن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وقف مرة يستمع لقراءة أبي موسى، وقال إنك قد أعطيت مزمارًا من مزامير آل دواد.
    ومعرفة التجويد وضبط قراءة القرآن على شيخ متقن، من أهم الأمور التي تعين على الترتيل؛ لأن التجويد هو إعطاء الحروف حقها ومستحقها، وإنما يكون ذلك بتعلم كيفية القراءة الصحيحة.
    3- استشعار عظمة الله، وأنه يكلمك بهذا القرآن، حتى كأنك تسمعه منه الآن، قال سلْم الخواص: "قلت لنفسي: اقرئي القرآن كأنك سمعتيه من الله حين تكلم به؛ فجاءت الحلاوة"(10). أي أنه لما استشعر هذا المعنى، وحمل نفسه على التفكر بهذا الفكر أحس بحلاوة القرآن، ولهذا روي عن علي أنه قال: "إذا أردتُ أن يكلمني الله قرأت القرآن، وإذا أردت أن أكلم الله قمت إلى الصلاة".
    4- محاولة فهم معاني القرآن، بالرجوع إلى التفاسير التي تهتم ببيان المعنى، دون دخول في دقائق اللغة والإعراب، أو المسائل الفقهية، ومن أحسن هذه التفاسير تفسير ابن كثير، وتفسير ابن سعدي، وتفسير سيد قطب، وإن كان فيه بعض الأمور التي ينبغي أن يتنبه لها المسلم، لكنه جيد من حيث بيان المعنى، فهو يذكر أمورًا جليلة جملية.
    أما إن كان الإنسان لديه همة وحرص فإنه يستطيع أن يراجع كتب التفسير الأخرى التي تفيض في بيان المعاني، وتذكر كثيرًا من الفوائد الجمة.
    5- ربط القرآن بواقعك الذي تعيش فيه، وذلك بالنظر في المواعظ التي يذكرها، والقصص التي يحكيها، وكيف أن الله أهلك أممًا كثيرة لما كذبوا وأعرضوا، وأن هذا المصير ينتظر كل من أعرض عن الله، وكفر برسله، مهما كانوا في قوة وعزة.
    وأيضًا: بالعمل بالأحكام التي فيه، فمثلاً إذا قرأت قول الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36)} [سورة الإسراء 17/36]، فإنك تحمل نفسك على عدم الكلام إلا في شيء تعلمه، وتمتنع عن الكلام في أمر لا تعلمه.
    وإذا قرأت قول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [سورة ق 50/18]، انتهيت عن الكلام الباطل، وما لا نفع فيه؛ لأن كل كلمة تقولها فهي مرصودة.
    وهكذا كان الصحابة يفعلون، فعن عطاء بن السائب أن أبا عبد الرحمن السلمي قال: أخذنا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزهن إلى العشر الأخر حتى يعلموا ما فيهن، فكنا نتعلم القرآن والعمل به، وسيرث القرآن بعدنا قوم يشربونه شرب الماء، لا يجاوز تراقيهم(11).
    6- معرفة بعض الأبحاث العلمية، التي تعتمد على التجارب الحسية، والتي تسمى بالحقائق العلمية؛ ففيها فوائد جمة، وزيادة فهم لمعنى الآية، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [سورة فصلت 41/53].

    ثمرات التدبر.
    1- حصول اليقين في القلب، كما قال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ} [سورة الجاثية 20]، فمن قرأ القرآن بتدبر وتأمل حصل له اليقين التام؛ لأن القرآن كالماء العذب، والقلب كالشجرة التي لا تستطيع أن تعيش وتنمو إلا بهذا الماء، فالقلب كلما تفكر في معاني كلام الله حصل له الري والشبع، والنمو والاستقرار، والثبات والعلو، ولَمَّا علم الله حاجة القلب إلى مثل ذلك كرر هذه المعاني الشريفة في كتابه، ونوع في بيانها، وضرب لها الأمثال، وصرف فيها من أنواع القول ما يحصل به للقلوب المتدبرة حياة لا تموت معه أبدًا.
    2- زيادة الإيمان، قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)} [سورة التوبة 9/124]، وإنما ازداد المؤمنون إيمانًا بسبب فهمها، واعتقاد ما فيها، والعمل بها، والرغبة في فعل الخير، ثم مع ذلك مستبشرون، يبشر بعضهم بعضًا بهذه المنة العظيمة، من إنزال الآيات وفهمها، والعمل بها، مما يدل على أن صدورهم منشرحة، وقلوبهم مطمئنة، فيبادرون إلى العمل مع فرح واستبشار.
    أما المنافقون، ومن في قلوبهم مرض؛ فبسبب إعراضهم عن الفهم والتدبر يسأل بعضهم بعضًا أيكم زادته هذه إيمانًا؟! فلا يرون في هذه الآية زيادة إيمان، بل ربما زادتهم شكًا إلى شكهم، ومرضًا إلى مرضهم، بسبب إعراضهم عن فهمها وتدبر معانيها.
    3- حصول العلم الصحيح، ودفع الشبه عن القلب، قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (44)} [سورة فصلت 41/44]، أي هذا القرآن يهدي المؤمنين إلى العلم الصحيح، الذي يثمر لهم العلم النافع، ويدفع عنهم أمراض القلوب والأبدان، فلا يكون في قلوبهم شك ولا ريب؛ لأنهم فهموا مراد الله، وعرفوا مقصوده؛ فاندفعت عنهم الأخلاق السيئة، والأعمال القبيحة.
    4- الإعراض عن الدنيا، والتعلق بالآخرة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)} [سورة التوبة 9/38]، وقال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [سورة طـه 20/131]، قال الحسن : "يا ابن آدم: والله إن قرأت القرآن ثم آمنت به ليطولن في الدنيا حُزْنُك، وليشتدَّنَّ في الدنيا خوفُك، وليكثُرَنَّ في الدنيا بكاؤك".
    5- معرفة حقيقة الدنيا، وأنها ظل زائل، ما جمعت إلا لتفرق، وما أضحكت إلا لتبكي، وما أعطت إلا لتسلُب، كثيرها قليل، قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} [سورة يونس 10/24]
    6- الاعتصام والاجتماع في مقابل الفرقة والتشرذم، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [سورة آل عمران 3/103].
    7- الشعور بالأمن من المخاوف والعذاب والشقاء، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82)} [سورة الأنعام 6/82].
    8- حصول الرهبة والخوف، ثم الرجاء والطمأنينة، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} [سورة الزمر 39/23]، فحين نسمع آيات الوعيد والتهديد، يحصل للقلوب قشعريرة وخوف، تخشى أن يقع بها هذا الوعيد؛ فإذا سَمِعتْ آيات الوعد والترغيب حصل لها اللين والاطمئنان، وهذا من هُدى الله الذي يهدي به من يشاء.

    صوارف التدبر.
    1- القلوب اللاهية، فالقلب اللاهي هو الغافل، المنشغل بدنياه، الغارق في مطالبه الدنيوية، وهمومه المعيشية، فهؤلاء يستمعون القرآن بآذانهم، ولكنه لا يصل إلى قلوبهم؛ لانشغالها بأمور أخرى، قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3)} [سورة الأنبياء 21/2-3].
    2- الأقفال على القلوب، كما قال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25)} [سورة الأنعام 6/25]، وقال تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57)} [سورة الكهف 18/57]، وقال تعالى {أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوب أقفالها}.
    وإنما عاقبهم الله بوضع الأغلال على قلوبهم لأنهم لم يقصدوا باستماعه طلب الحق ومعرفته، والعمل به، ولأنهم كفروا به أول مرة، ولِمَا وقع في قلوبهم من حب المعاصي والتعلق بها، والركون إلى الدنيا والرضى بها، والاطمئنان إليها.
    إن من أخطر الأمور أن يتعلم المسلم العلم ثم لا يعمل به، أو يداهن في الدعوة إليه، أو يُعرِض عنه بعد ذوقه لحلاوة الإيمان، قال أبو العباس محمد بن السَّمَّاك: "كم من شيء إذا لم ينفع لم يضر، لكن العلم إذا لم ينفع يضر"(12).
    إن كل من قرأ القرآن، ولم يتذوق حلاوته، ولم يجد في قلبه إقبالاً على الطاعة، وحبًا لها، ولم يفهم مراد الله حق الفهم، فليعلم أن على قلبه أقفالاً، وأنه قد حيل بينه وبين الخير، فليتفقد نفسه، وليراجع واقعه.
    3- التنطع في إقامة الحروف، والوسوسة في إخراجها من مخارجها. قال ابن تيمية(13): "ولا يجعل همته فيما حُجِبَ به أكثرُ الناس من العلوم عن حقائق القرآن؛ إما بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها، والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك؛ فإن هذا حائل للقلوب، قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه، وكذلك شُغْلُ النطق بـ {أأنذرتهم} وضم الميم من (عليهم) ووصلها بالواو، وكسر الهاء، أو ضمها، ونحو ذلك، وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت، وكذلك تتبع وجوه الإعراب واستخراج التأويلات المستكرهة التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالبيان".
    فكل هذه الأمور مَنْ تجاوز فيها الحد فقد خرج عن المقصود منها؛ لأن المقصود هو فهم المعنى، وهي وسيلة إليه؛ فإذا انشغلنا به فقد اشغلنا عن المقصود بالوسيلة.
    لكن من الناس من إذا سمع هذا الكلام ترك تعلم التجويد بالمرة، ولم يلتفت إلى الحِلَقِ التي تُعلِّم القراءة الصحيحة، وانشغل بأمور أخرى، وإذا قرأ لا يحسن القراءة، ويلحن لحنًا جليًا يحيل المعنى، ويحتج بمثل هذا الكلام، وهذا خطأ، فالنبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من الغلو والجفاء، فالغلو هو المبالغة في تعلم المخارج وضبطها، والجفاء هو الإعراض مطلقًا عن تعلم ذلك، والتوسط والاعتدال هو تعلمها بما يعين على إقامة اللسان، وعدم الوقوع في الخطأ، ثم يجعل همته في تفهم معانيه.
    4- جعل القرآن للأحزان والمآتم، فيقرأ القارئ، والناس لاهون، وإذا أصغوا بآذانهم فإنما يدفعهم لذلك حسن الصوت، أما المعنى وتدبر ما يقرأ فلا يحصل منه شيء، ولهذا لما توفي ابن أحد العلماء سنة عشر وخمسمئة، وعمر هذا الابن سبعٌ وعشرون سنة، وكان قد تفقه وناظر في الأصول والفروع وظهر منه أشياء تدل على دينه وخيره حزِن عليه أبوه، وصبر صبرًا جميلًا، فلما دُفِن جعل يتشكر للناس، فقرأ قارئ: {يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين} فبكى هذا العالِم، وبكى الناس، وضج الموضع بالبكاء؛ فقال العالم للقارئ يا هذا: إن كان يهيج الحزن فهو نياحة, والقرآن لم ينزل للنوح بل لتسكين الأحزان(14).

    أيهما أفضل: الترتيل بتدبر مع قلة القراءة، أو السرعة مع كثرة القراءة؟
    إن المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه يرى حرصهم على التلاوة بتدبر وتأمل، وفهم وتذكر، أكثر من حرصهم على كثرة القراءة وسرعتها، والإكثار من الختمات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)} [سورة المزمل 73/1-4]. أي اقرأه بترسل وتمهل؛ لأنه يحصل بذلك التدبر والتفكر، وتحريك القلوب به.
    وهكذا كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وكانت قراءته مدًا.
    وقال ابن مسعود: "لا تهذوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدَّقَل(15)، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة".
    وقرأ علقمة على ابن مسعود، وكان حسن الصوت، فقال: رتل فداك أبي وأمي؛ فإنه زين القرآن.
    وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: دخلتْ عليَّ امرأة وأنا أقرأ سورة هود، فقالت: يا عبد الرحمن! هكذا تقرأ سورة هود؟! والله إني فيها منذ ستة أشهر وما فرغت من قراءتها.
    لكن لا يعني هذا أن المسلم لا يقرأ بسرعة في بعض الأحيان؛ لكي يضبط حفظه، أو يُنهي ورده اليومي، بل إن القراءة في حد ذاتها ولو كانت سريعة فيها أجر وثواب، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قرأ حرفًا من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولمن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف))(16).
    ولهذا قال شعبة: حدثنا أبو جمرة، قال: قلت لابن عباس: إني رجل سريع القراءة، وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين، فقال ابن عباس: لأن أقرأ سورة واحدة أعجب إلي من أن أفعل ذلك الذي تفعل، فإن كنت لا بد فاعلاً فاقرأ قراءةً تُسمِعُ أُذنيك، ويعِيها قلبُك(17).
    وعلى هذا يمكن أن نقول: إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجل وأرفع قدرًا، وثواب كثرة القراءة أكثر عددًا؛ فالأول: كمن تصدق بجوهرة عظيمة، أو أوقف أرضًا في مكان مهم ترتفع قيمة العقار فيه، والثاني كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم، أو أوقف عددًا من الأراضي كثيرة، لكنها في مكان بعيد، وقيمتها زهيدة(18).

    الاقتصاد في قراءة القرآن.
    هل يمكن أن نطالَب بالاقتصاد في قراءة القرآن، مع هذا الأجر العظيم في قراءته، وأن لك بكل حرف عشرَ حسنات، إلى أضعاف كثيرة؟!
    الجواب نجده عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ، فَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ -أي زوجة ابنه- فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا، فَتَقُولُ: نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((الْقَنِي بِهِ)) فَلَقِيتُهُ بَعْدُ فَقَالَ: ((كَيْفَ تَصُومُ؟)) قَالَ: كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: ((وَكَيْفَ تَخْتِمُ؟)) قَالَ: كُلَّ لَيْلَةٍ، قَالَ: ((صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةً، وَاقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ)) قَالَ قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ((صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْجُمُعَةِ)) -أي في الأسبوع- قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ((أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ، وَصُمْ يَوْمًا)) قَالَ قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ((صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ، صَوْمَ دَاوُدَ، صِيَامَ يَوْمٍ وَإِفْطَارَ يَوْمٍ، وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً)) رواه البخاري ومسلم.
    وفي رواية عند مسلم، قَالَ: ((وَاقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ)) قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ((فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ)) قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ((فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ)) قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ((فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ، وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا)).
    وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه, وإكرام ذي السلطان المقسط))(19)، فقوله: ((غير الغالي فيه والجافي عنه)): أي الذي سلك السبيل الوسط في التعامل مع القرآن؛ فلم يعرض عنه بالكلية، ولم يغل في قراءته والتنطع في مخارج حروفه، والانشغال بذلك عن العمل به، ولم يغل في العمل بما فيه، ويتكلف ويشدد على نفسه.
    وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزبون القرآن فيقرؤونه في كل أسبوع مرة، وكانوا يستحبون أن يُقرأ القرآن من أسبوع إلى شهر، أي لا يستعجل في قراءته فيقرأه في أقل من أسبوع، ولا يهمل فيتركه أكثر من شهر(20).
    ولهذا لما ذكر الذهبي في السير أن أبا بكر بن عياش قد مكث نحوًا من أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة، قال: وهذه عبادة يخضع لها، ولكن متابعة السنة أولى، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عبد الله بن عمرو أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، وقال: ((لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث))(21).
    وهكذا ما يروى عن عثمان بن عفان أن قرأ القرآن في ركعة؛ وكذا عدد من التابعين كانوا يختمون في كل يوم، وبعضهم ربما ختم أكثر من مرة، فهؤلاء لهم أحوال خاصة بهم، ثم إن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أولى من سنة غيره، ولا يجوز أن نعارض سنة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة غيره من الناس.
    والمقصود من الاقتصاد في القراءة ليحصل للقارئ تدبر وتفكر فيما يقرأ.

    من هم أهل القرآن؟
    عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: ((هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ))(22).
    فهل أهل القرآن هم من يحفظه فقط، أو من تعلمه وعمل به، ولو لم يحفظه؟
    يقول ابن القيم: "أهل القرآن هم العالمون به، العاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظه ولم يفهمه، ولم يعمل بما فيه، فليس من أهله، وإن أقام حروفه إقامة السهم"(23).
    ويدل على ذلك حديث أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ أَوْ خَبِيثٌ وَرِيحُهَا مُرٌّ))(24).
    لكن اصطلح المتأخرون على تسمية الحفاظ بأهل القرآن، أما من فهمه ولم يحفظه فلا يسمونه من أهل القرآن، ولهذا لو وقف شخص وقفًا على أهل القرآن، قالوا: لا يدخل فيه إلا الحافظ(25).
    لكن الصواب هو أن أهل القرآن هم العالمون به، القارئون له، العاملون بأحكامه، ولو لم يكونوا من حفاظه، كما كان الصحابة يُسمون الفقهاء بالقراء.
    ولهذا كان قوله صلى الله عليه وسلم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) يدخل فيه تعلم ألفاظه ومعانيه، وتعليم ذلك، بل المعنى هو المقصود الأول، وإنما نتعلم حروفه وألفاظه لكي نفهم معانيه، ونقيم حدوده وأحكامه.

    بأي شيء نبدأ؟
    هل يبدأ المسلم بتعلم العلم، أو يبدأ بقراءة القرآن وحفظه؟
    سأل رجلٌ عبد الله بن المبارك، فقال: يا أبا عبد الرحمن في أي شيء أجعل فضل يومي؟ في تعلم القرآن، أو في تعلم العلم؟ فقال: هل تحسن من القرآن ما تقومُ بهِ صلاتُك؟ قال: نعم، قال: عليك بالعلم.
    وقال الميموني: سألت أبا عبد الله أيهما أحب إليك أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث؟ قال: لا بالقرآن، قلت: أعلمه كلَّه، قال: إلا أن يعسُر، فتعلِّمُه منه. ثم قال لي: إذا قرأ أولًا تعود القراءة، ثم لزمها.
    ولا تعارض بين هذين الجوابين؛ فإننا نفرق بين الكبير والصغير؛ فالصغير يقدم حفظ القرآن له، لما ذكره أحمد من العلة، وأما الكبير؛ فإنه يتعلم ما يصحح به صلاته؛ لأنه هو الواجب، ثم ينتقل إلى تعلم العلم المفترض عليه، وهو أحكام الصلاة وما يتعلق بها، والصوم، والزكاة، والحج(26).
    وقال الإمام أحمد: والذي يجب على الإنسان من تعليم القرآن والعلم ما لا بد له منه في صلاته وإقامة عينه، وأقل ما يجب على الرجل من تعلم القرآن فاتحة الكتاب وسورتان.
    وقال ابن حزم في الإجماع: اتفقوا أن حفظ شيء من القرآن واجب، ولم يتفقوا على ماهية ذلك الشيء ولا كميته بما يمكن ضبط إجماع فيه، إلا أنهم اتفقوا على أنه من حفِظَ أمَّ القرآنِ ببسم الله الرحمن الرحيم وسورة أخرى معها فقد أدى فرض الحفظ, وأنه لا يلزمه أكثر من ذلك، واتفقوا على استحباب حفظ جميعه، وأن ضبط جميعه واجب على الكفاية لا متعين(27).
    وقال أحمد أيضًا: يجب على المسلم أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه ولا يفرط في ذلك، فقيل له: فكل العلم يقوم به دينه؟! قال: الفرض الذي يجب عليه في نفسه لا بد له من طلبه. قيل: مثل أي شيء؟ قال: الذي لا يسعه جهله صلاته وصيامه(28).
    وسئل ابن تيمية أيما طلب القرآن أو العلم أفضل؟
    فأجاب(29): "أما العلم الذي يجب على الإنسان عينًا كعلم ما أمر الله به وما نهى الله عنه فهو مقدم على حفظ ما لا يجب من القرآن؛ فإن طلب العلم الأول واجب وطلب الثاني مستحب والواجب مقدم على المستحب، وأما طلب حفظ القرآن؛ فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علمًا، وهو إما باطل أو قليل النفع، وهو أيضًا مقدَّمٌ في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع؛ فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن؛ فإنه أصل علوم الدين بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم، حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم من الكلام أو الجدال والخلاف، أو الفروع النادرة، أو التقليد الذي لا يحتاج إليه أو غرائب الحديث التي لا تثبت ولا ينتفع بها، وكثير من الرياضيات التي لا تقوم عليها حجة، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله، فلا بد في مثل هذه المسألة من التفصيل، والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به، فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين والله سبحانه أعلم".
    وعلى هذا فالواجب على المسلم أن يتعلم من القرآن ما يقيم به صلاته، ويتعلم من العلم ما يجب عليه، ثم بعد ذلك ينظر في نفسه وقدراته، ويستشير من يثق برأيه؛ هل ينصرف إلى العلم فيتعلم قراءة القرآن، ويضبط تلاوته، ويحرص على حفظه إن تيسر له ذلك، ويتعلم التفسير والحديث والفقه، أو أنه يشتغل بالحفظ وإقامة الحروف، ومعرفة أحكام التجويد، مع معرفة معانيه في الجملة.
    وقدرات الناس ومواهبهم في ذلك مختلفة.
    وإذا أردتم مثالاً على الفرق بين العالم، وبين حافظ القرآن فقط؛ فانظروا إلى أثر كل منهما فيمن حوله، ستجدون أن أثر العالم أعظم من أثر الحافظ فقط، ولهذا ظهر علم مالك وأبي حنيفة، والشافعي وأحمد وصاروا أئمة أعظم من ظهور أصحاب القراءات؛ كعاصم، وخلف بن هشام، وورش وقالون، والكسائي وغيرهم.
    والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

    وكتبه: عبد السلام بن إبراهيم الحصين.

    ---------------------------------------------
    (1) مقدمة رشيد رضا لإعجاز القرآن لمصطفى صادق الرافعي (19).
    (2) في الأصل صرامها.
    (3) أي شدة الحرارة فيها.
    (4) إعجاز القرآن للرافعي (30).
    (5) انظر: سير أعلام النبلاء (3/174- 175 في ترجمته رضى الله عنه)
    (6) روى القصة مسلم في صحيحه كتاب صلا المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه.
    (7) النبأ العظيم لدراز (43- 44).
    (8) سير أعلام النبلاء (4/66).
    (9) سير أعلام النبلاء (17/482).
    (10) سير أعلام النبلاء (8/179).
    (11) سير أعلام النبلاء (4/286).
    (12) السير.
    (13) مجموع الفتاوى (16/50).
    (14) الآداب الشرعية (2/294).
    (15) الدقل هو التمر اليابس، ومعناه: أن تقرأونه بسرعة كما تناثر الرطب الرديء اليابس من العذق إذا هُز.
    (16) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن، وحسنه، وذكر ابن القيم في الزاد أن الترمذي صححه، ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
    (17) انظر: زاد المعاد (1/328).
    (18) انظر: زاد المعاد (1/328).
    (19) رواه أبو داود، قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: بإسناد جيد.
    (20) انظر: مجموع الفتاوى (13/405- 407).
    (21) سير أعلام النبلاء في ترجمة أبي بكر بن عياش.
    (22) رواه ابن ماجه، وأحمد والدارمي، قال في الزوائد: إسناده صحيح.
    (23) زاد المعاد (1/327). وانظر: كلام أهل العلم على هذا الحديث، وعلى قوله صلى الله عليه وسلم ((أوتروا يا أهل القرآن)).
    (24) رواه البخاري ومسلم.
    (25) انظر: الموسوعة الفقهية (17/324).
    (26) انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (2/33).
    (27) الآداب الشرعية (2/34).
    (28) الآداب الشرعية (2/35).
    (29) مجموع الفتاوى (23/55).

    المصدر:
    http://saaid.net/bahoth/47.htm
    أفلا يتدبرون القرآن؟! عبد السلام بن إبراهيم بن محمد الحصين. العناصر: 1- مقدمة. 2- هل هو من عند الله؟ 3- في القرآن جميع العلوم النافعة. 4- كيفية التدبر ووسائله. 5- ثمرات التدبر 6- صوارف التدبر. 7- أيهما أفضل؟ 8- الاقتصاد في قراءة القرآن. 9- من هم أهل القرآن؟ 10- بأي شيء نبدأ؟ الحمد لله علم القرآن، وجعله في أعلا درجات البيان، وحفظه من الزيادة والنقصان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعهد بحفظ حروف كتابه؛ فلا يزال محفوظًا في الصدور والأوراق، وبحفظ معانيه فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد: مقدمة فإن "القرآن في البيان والهداية كالروح في الجسد، والأثير في المادة، والكهرباء في الكون، تُعرف هذه الأشياء بمظاهرها وآثارها، ويعجز العارفون عن بيان كنهها وحقيقتها"(1)، فكذلك القرآن سر من الأسرار، أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض، وليس على العقول والأفئدة شيء ألذ من تكشف هذه الأسرار، وإزاحة الأستار، وهي لا تظهر إلا بتدبر وتفكر، وتأمل ونظر. قرآن مركب من "ألفاظ؛ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة، تذكُرُ الدنيا فمنها عمادها ونظامها، وتصف الآخرة فمنها جنتها وناره(2)، ومتى وعدت مِنْ كَرَمِ الله جعلتِ الثُّغورَ تضحكُ في وجوه الغيوب، وإن أوعدت بعذاب الله جعلت الألسنة ترعُدُ من حَمَى(3) القلوب"(4). فيه معاني أعذب وأطيب من الماء البارد الحلو للعطشان، وأرق من نسيم الجنان، هي نور يضيء للمؤمنين طريق الحياة ليصلوا إلى بر الأمان، أعظم من نور الشمس للأكوان. ولقد صدق من قال: وكتاب ربك إن في نفحاته *** مِنْ كُلِّ خيرٍ فوقَ ما يُتوقع نورُ الوجودِ وأُنسُ كلِّ مُرَوَّعٍ *** بِكروبِه ضاق الفضاءُ الأوسع والعاكفون عليه هم جلساء من *** لجلاله كُلُّ العوالم تخشع فادْفِن همومك في ظِلال بيانه *** تَحْلُ الحياةُ وتطمئن الأضلع فبكل حرف من عجائب وحيه *** نبأٌ يُبشِّر، أو نذيرٌ يقْرعُ قال جرير بن عبد الله البجلي: "أوصيكم بتقوى لله، وأوصيكم بالقرآن؛ فإنه نور بالليل المظلم، وهدى بالنهار، فاعملوا به على ما كان من جهد وفاقة، فإن عرض بلاء فقدِّمْ مالك دون دينك، فإن تجاوز البلاء -أي زاد، ولم يدفعه المال- فقدم مالك ونفسك دون دينك؛ فإن المخروب من خَرُب دينُه، والمسلوب من سُلِب دينُه، واعلم أنه لا فاقة بعد الجنة، ولا غنى بعد النار"(5). يرفع الله بهذا القرآن أقوامًا ويضع به آخرين؛ فعن نافع بن عبد الحارث أنه استناب مولاه عبدَ الرحمن بنَ أبزى على مكة لما خرج للقاء عمر في عُسفان، فقال عمر لنافع: من استخلفت على أهل الوادي؟ -يعني مكة-، قال: ابنَ أبزى، فقال عمر: ومن ابنُ أبزى؟! فَقَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا, فَقَالَ: اسْتَخْلَفْت عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟! فقال: إنه عالم بالفرائض، قارئ لكتاب الله؛ فقال عمر: إما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذا القرآن يرفع الله به أقوامًا، ويضع به آخرين))(6). إن أجمل حديث وأشرفه، وأحسن مجلس وأطيبه، ما كان في القرآن الكريم، كلام الله، وحديثنا اليوم عن تدبر القرآن، وهو أعظم مقصود نزل لأجله القرآن، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (29)} [سورة ص 38/29]. هل هو من عند الله؟ سؤال غريب حقًا، غريب أن يصدر من مسلم، على أناس مسلمين، وهل فينا من يشك في أن القرآن من عند الله؟! كلا، بحمد الله، ليس فينا من يشك في ذلك، ولكننا نريد أن نستخرج من القرآن ما يدل على هذه القضية دلالة قاطعة، لا يداخلها شك؛ لتكون حجة لنا أمام المنكرين، أو المتشككين، أو الطاعنين. إن كل سورة في القرآن، بل كل كلمة، بل كل حرف يدل على أنه من عند الله، إن المسلم تصيبه الحيرة حين يريد أن يستدل على أن هذا القرآن من عند الله! أرأيت لو أن الشمس طالعة، والجو صحو، ليس به غيم، فقال لك رجل مبصر: ما الدليل على أن النهار موجود، وأن الشمس مشرقة؟ فهل تجد حجة أعظم من أن تقول: ألا تنظر بعيني رأسك؟! وهكذا القرآن، وجوده دليل على من نزل من عنده، وتكلم به، قراءتك له، وتدبرك لمعانيه يكفيك لتعرف أنه من عند الله، كم قصةً قرأتها فأعجبتك، ثم لم تجد في نفسك ما يشدك لأن تقرأها مرة أخرى، ولو أنك قرأتها مرة ثانية، لم تجد ما يشدك لأن تقرأها ثالثة، أما القرآن، فلا يزداد إلا حلاوة كلما عدنا إليه، في كل قراءة تجد من اللذة والأنس ما لم تحس به قبل ذلك. فمن سأل هل القرآن من عند الله؟ فيكفينا أن نقول له: ألا تفكر بعقلك؟! وتنظر ببصيرتك؟! كما قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟! وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً (82)} [سورة النساء 4/82]، وقال تعالى: {أفلم يدبروا القول} أي: أفلم يتفكروا في القرآن، ويتأملوه ويتدبروه، فلو أنهم فعلوا لعلموا أنه من عند الله حقًا، وأنه لا يمكن لبشر أيًا كان أن يأتي بمثله. ومع هذا فإن الأدلة على أنه من عند الله كثيرة بحمد الله، ومتنوعة، ومن أعظمها في هذا الزمان ما ظهر من الأبحاث العلمية المبنية على التجارب الحسية، والتي توافقت مع القرآن وتطابقت معه. ولن أذكر شيئًا من هذه الأبحاث؛ فلها مجالها الخاص، ولأنها مبنية على معرفة هذه الأبحاث والاطلاع عليها، والتأكد من صحتها، ولكني سأذكر لكم شيئًا واحدًا، يستطيع أن يدركه كل عاقل، ويفهمه كل شخص يمتلك أدنى درجات التفكير، وهو: أن "تسأل التاريخ؛ كم مرةً تنكَّر الدهر لدول الإسلام، وتسلط الفجار على المسلمين، فأثخنوا فيهم القتل، وأكرهوا أممًا منهم على الكفر، وأحرقوا الكتب، وهدموا المساجد، وصنعوا ما يكفي القليلُ منه لضياع هذا القرآن كُلاً أو بعضًا، كما فُعِل بالكتب قبله"(7)، فهل ضاع شيء من القرآن؟ وهل فقد منه شيء؟ وهل فقد شيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ بل سلوا صحف الأخبار اليومية، وطالعوا حوادث الساعة في زماننا هذا؛ كم من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تنفق في كل عام لمحو القرآن، وصد الناس عن الإسلام بالتضليل والبهتان، والخِداع والإغراء، ثم لا يظفر أهلها من وراء ذلك إلا بما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} [سورة الأنفال 8/36]، هل تعلمون أمةً أضعفُ من أمة الإسلام؟ هل تعلمون دمًا في هذا الزمان أرخصُ من دم المسلم، وأرضًا استبيحت كما استبيحت أرض المسلمين؟، وهل تعلمون قوة أرضية هي أقوى من قوة الكفار، واقتصادًا أقوى من اقتصادهم، وساسة أدهى من ساستهم؟ قد اجتمعت في أيديهم قوة السلاح، والاقتصاد، والسياسة، والكلمة والدعاية، ومع هذا كله فإنا نقول لهم بكل ثقة وثبات: حاولوا أمرين اثنين، أو أحدهما إن عجزتم عنهما معًا، ونحن نؤمِنُ لكم، ونترك ديننا لأجلكم، ونؤمن بقرآنكم الجديد: أول هذين الأمرين: أن يحرفوا القرآن، ويمحوه عن وجه الأرض، ولن يستطيعوا أن يفعلوا، أتدرون لماذا؟ لأن الذي يمسك القرآن أن يزول ويحرَّف، هو الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، هل يستطيعون أن يأتوا بالشمس من المغرب، وهي تخرج من المشرق؟ كلا، فكذلك لا يستطيعون أن يحرفوا القرآن، ويمحوه عن وجه الأرض، وصدق الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [سورة التوبة 9/33]. وثاني هذين الأمرين: أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وباب التحدي مفتوح، منذ أن نَزلَ القرآن والناس يعيشون حياة بسيطة، لم ينفتح عليهم من زينة الدنيا وزخارفها وحلاوتها وقوتها، ما انفتح في هذا الزمان، إلى أن نَثَرتِ الدنيا من زينتها وبهائها وزخارفها وفتنتها ما لم يره من قبلنا، وباب التحدي مفتوح {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ؟! قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38)} [سورة يونس 10/38]. ولعلكم سمعتم بمحاولتهم البائسة، إنها مُضحكةٌ فعلاً، إن أصغر حافظ للقرآن يستطيع أن يرد عليهم، بل إن أقل مسلم عامي لا يقرأ ولا يكتب، لا يستطيعون أن يروجوا عليه قرآنهم. ولكن! هل يعني هذا أن ننام، وأن نتكل على هذه العناية الإلهية، ونترك السعي لحفظ القرآن، والذود عن حياضه الشريفة؟ كلا، إنما يُحفظ القرآن ويُنصر بقوم يحبون الله ويحبهم، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم. في القرآن جميع العلوم النافعة. قال مسروق: "من سره أن يعلم علم الأولين والآخرين، وعلم الدنيا والآخرة فليقرأ سورة الواقعة". قال الذهبي معلقًا على هذا القول: "هذا قاله مسروق على المبالغة؛ لعِظَمِ ما في السورة من جُمَلِ أمور الدارين، ومعنى قوله "فليقرأ الواقعة": أي بتدبر وتفكر وحضور، ولا يكن كمثل الحمار يحمل أسفارًا"(8). وقال يحيى بن عمار: "العلوم خمسة: عِلمٌ هو حياة الدين، وهو علمُ التوحيد، وعِلمٌ هو قوت الدين، وهو العِظَةُ والذكر، وعلمٌ هو دواءُ الدين، وهو الفقه، وعلمٌ هو داءُ الدين، وهو أخبار ما وقع بين السلف -يعنى من النزاع، والقتال والخصام- وعلم هو هلاك الدين، وهو الكلام"(9). وهذه العلوم الثلاثة كلها في القرآن الكريم؛ ففيه علم التوحيد، وعلم الوعظ والذكر، وعلم الفقه. قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [سورة النحل 16/89]. كيفية التدبر ووسائله. لقد حثنا الله على تدبر كتابه، وتأمل ما فيه من الآيات والحجج، والحقائق والعلوم، فقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟! وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً (82)} [سورة النساء 4/82]، وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا؟! (24)} [سورة محمد 47/24]، إن التدبر في القرآن يكون في التأمل بمعانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك. وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} [سورة يوسف 12/2]، فالمقصود من جعله عربيًا بينًا ليحصل لنا العقل والاهتداء بفهمه وتدبره، ومن لم يفهم لم يتدبر، قال الحسن البصري: "ما أنزل الله من آية إلا وهو يحب أن يعلم فيما أنزلت، وماذا عُني بها". ومن أهم الوسائل التي تعين على التدبر: 1- تفريغ القلب من الانشغال بغير الله، والتفكر في غير كتابه، فاقرأ القرآن وقلبك فارغ من كل شيء إلا من الله، ومحبته، والرغبة في فهم كلامه، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [سورة ق 50/37]. 2- الترتيل عند قراءة القرآن، وتحسين الصوت به، وتحزينه، فإنه معين على التدبر والتأمل، ولهذا يجد الإنسان من نفسه حب سماع القرآن حين يقرأ به القارئ الماهر، ذو الصوت الحسن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وقف مرة يستمع لقراءة أبي موسى، وقال إنك قد أعطيت مزمارًا من مزامير آل دواد. ومعرفة التجويد وضبط قراءة القرآن على شيخ متقن، من أهم الأمور التي تعين على الترتيل؛ لأن التجويد هو إعطاء الحروف حقها ومستحقها، وإنما يكون ذلك بتعلم كيفية القراءة الصحيحة. 3- استشعار عظمة الله، وأنه يكلمك بهذا القرآن، حتى كأنك تسمعه منه الآن، قال سلْم الخواص: "قلت لنفسي: اقرئي القرآن كأنك سمعتيه من الله حين تكلم به؛ فجاءت الحلاوة"(10). أي أنه لما استشعر هذا المعنى، وحمل نفسه على التفكر بهذا الفكر أحس بحلاوة القرآن، ولهذا روي عن علي أنه قال: "إذا أردتُ أن يكلمني الله قرأت القرآن، وإذا أردت أن أكلم الله قمت إلى الصلاة". 4- محاولة فهم معاني القرآن، بالرجوع إلى التفاسير التي تهتم ببيان المعنى، دون دخول في دقائق اللغة والإعراب، أو المسائل الفقهية، ومن أحسن هذه التفاسير تفسير ابن كثير، وتفسير ابن سعدي، وتفسير سيد قطب، وإن كان فيه بعض الأمور التي ينبغي أن يتنبه لها المسلم، لكنه جيد من حيث بيان المعنى، فهو يذكر أمورًا جليلة جملية. أما إن كان الإنسان لديه همة وحرص فإنه يستطيع أن يراجع كتب التفسير الأخرى التي تفيض في بيان المعاني، وتذكر كثيرًا من الفوائد الجمة. 5- ربط القرآن بواقعك الذي تعيش فيه، وذلك بالنظر في المواعظ التي يذكرها، والقصص التي يحكيها، وكيف أن الله أهلك أممًا كثيرة لما كذبوا وأعرضوا، وأن هذا المصير ينتظر كل من أعرض عن الله، وكفر برسله، مهما كانوا في قوة وعزة. وأيضًا: بالعمل بالأحكام التي فيه، فمثلاً إذا قرأت قول الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36)} [سورة الإسراء 17/36]، فإنك تحمل نفسك على عدم الكلام إلا في شيء تعلمه، وتمتنع عن الكلام في أمر لا تعلمه. وإذا قرأت قول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [سورة ق 50/18]، انتهيت عن الكلام الباطل، وما لا نفع فيه؛ لأن كل كلمة تقولها فهي مرصودة. وهكذا كان الصحابة يفعلون، فعن عطاء بن السائب أن أبا عبد الرحمن السلمي قال: أخذنا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزهن إلى العشر الأخر حتى يعلموا ما فيهن، فكنا نتعلم القرآن والعمل به، وسيرث القرآن بعدنا قوم يشربونه شرب الماء، لا يجاوز تراقيهم(11). 6- معرفة بعض الأبحاث العلمية، التي تعتمد على التجارب الحسية، والتي تسمى بالحقائق العلمية؛ ففيها فوائد جمة، وزيادة فهم لمعنى الآية، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [سورة فصلت 41/53]. ثمرات التدبر. 1- حصول اليقين في القلب، كما قال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ} [سورة الجاثية 20]، فمن قرأ القرآن بتدبر وتأمل حصل له اليقين التام؛ لأن القرآن كالماء العذب، والقلب كالشجرة التي لا تستطيع أن تعيش وتنمو إلا بهذا الماء، فالقلب كلما تفكر في معاني كلام الله حصل له الري والشبع، والنمو والاستقرار، والثبات والعلو، ولَمَّا علم الله حاجة القلب إلى مثل ذلك كرر هذه المعاني الشريفة في كتابه، ونوع في بيانها، وضرب لها الأمثال، وصرف فيها من أنواع القول ما يحصل به للقلوب المتدبرة حياة لا تموت معه أبدًا. 2- زيادة الإيمان، قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)} [سورة التوبة 9/124]، وإنما ازداد المؤمنون إيمانًا بسبب فهمها، واعتقاد ما فيها، والعمل بها، والرغبة في فعل الخير، ثم مع ذلك مستبشرون، يبشر بعضهم بعضًا بهذه المنة العظيمة، من إنزال الآيات وفهمها، والعمل بها، مما يدل على أن صدورهم منشرحة، وقلوبهم مطمئنة، فيبادرون إلى العمل مع فرح واستبشار. أما المنافقون، ومن في قلوبهم مرض؛ فبسبب إعراضهم عن الفهم والتدبر يسأل بعضهم بعضًا أيكم زادته هذه إيمانًا؟! فلا يرون في هذه الآية زيادة إيمان، بل ربما زادتهم شكًا إلى شكهم، ومرضًا إلى مرضهم، بسبب إعراضهم عن فهمها وتدبر معانيها. 3- حصول العلم الصحيح، ودفع الشبه عن القلب، قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (44)} [سورة فصلت 41/44]، أي هذا القرآن يهدي المؤمنين إلى العلم الصحيح، الذي يثمر لهم العلم النافع، ويدفع عنهم أمراض القلوب والأبدان، فلا يكون في قلوبهم شك ولا ريب؛ لأنهم فهموا مراد الله، وعرفوا مقصوده؛ فاندفعت عنهم الأخلاق السيئة، والأعمال القبيحة. 4- الإعراض عن الدنيا، والتعلق بالآخرة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)} [سورة التوبة 9/38]، وقال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [سورة طـه 20/131]، قال الحسن : "يا ابن آدم: والله إن قرأت القرآن ثم آمنت به ليطولن في الدنيا حُزْنُك، وليشتدَّنَّ في الدنيا خوفُك، وليكثُرَنَّ في الدنيا بكاؤك". 5- معرفة حقيقة الدنيا، وأنها ظل زائل، ما جمعت إلا لتفرق، وما أضحكت إلا لتبكي، وما أعطت إلا لتسلُب، كثيرها قليل، قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} [سورة يونس 10/24] 6- الاعتصام والاجتماع في مقابل الفرقة والتشرذم، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [سورة آل عمران 3/103]. 7- الشعور بالأمن من المخاوف والعذاب والشقاء، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82)} [سورة الأنعام 6/82]. 8- حصول الرهبة والخوف، ثم الرجاء والطمأنينة، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} [سورة الزمر 39/23]، فحين نسمع آيات الوعيد والتهديد، يحصل للقلوب قشعريرة وخوف، تخشى أن يقع بها هذا الوعيد؛ فإذا سَمِعتْ آيات الوعد والترغيب حصل لها اللين والاطمئنان، وهذا من هُدى الله الذي يهدي به من يشاء. صوارف التدبر. 1- القلوب اللاهية، فالقلب اللاهي هو الغافل، المنشغل بدنياه، الغارق في مطالبه الدنيوية، وهمومه المعيشية، فهؤلاء يستمعون القرآن بآذانهم، ولكنه لا يصل إلى قلوبهم؛ لانشغالها بأمور أخرى، قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3)} [سورة الأنبياء 21/2-3]. 2- الأقفال على القلوب، كما قال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25)} [سورة الأنعام 6/25]، وقال تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57)} [سورة الكهف 18/57]، وقال تعالى {أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوب أقفالها}. وإنما عاقبهم الله بوضع الأغلال على قلوبهم لأنهم لم يقصدوا باستماعه طلب الحق ومعرفته، والعمل به، ولأنهم كفروا به أول مرة، ولِمَا وقع في قلوبهم من حب المعاصي والتعلق بها، والركون إلى الدنيا والرضى بها، والاطمئنان إليها. إن من أخطر الأمور أن يتعلم المسلم العلم ثم لا يعمل به، أو يداهن في الدعوة إليه، أو يُعرِض عنه بعد ذوقه لحلاوة الإيمان، قال أبو العباس محمد بن السَّمَّاك: "كم من شيء إذا لم ينفع لم يضر، لكن العلم إذا لم ينفع يضر"(12). إن كل من قرأ القرآن، ولم يتذوق حلاوته، ولم يجد في قلبه إقبالاً على الطاعة، وحبًا لها، ولم يفهم مراد الله حق الفهم، فليعلم أن على قلبه أقفالاً، وأنه قد حيل بينه وبين الخير، فليتفقد نفسه، وليراجع واقعه. 3- التنطع في إقامة الحروف، والوسوسة في إخراجها من مخارجها. قال ابن تيمية(13): "ولا يجعل همته فيما حُجِبَ به أكثرُ الناس من العلوم عن حقائق القرآن؛ إما بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها، والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك؛ فإن هذا حائل للقلوب، قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه، وكذلك شُغْلُ النطق بـ {أأنذرتهم} وضم الميم من (عليهم) ووصلها بالواو، وكسر الهاء، أو ضمها، ونحو ذلك، وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت، وكذلك تتبع وجوه الإعراب واستخراج التأويلات المستكرهة التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالبيان". فكل هذه الأمور مَنْ تجاوز فيها الحد فقد خرج عن المقصود منها؛ لأن المقصود هو فهم المعنى، وهي وسيلة إليه؛ فإذا انشغلنا به فقد اشغلنا عن المقصود بالوسيلة. لكن من الناس من إذا سمع هذا الكلام ترك تعلم التجويد بالمرة، ولم يلتفت إلى الحِلَقِ التي تُعلِّم القراءة الصحيحة، وانشغل بأمور أخرى، وإذا قرأ لا يحسن القراءة، ويلحن لحنًا جليًا يحيل المعنى، ويحتج بمثل هذا الكلام، وهذا خطأ، فالنبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من الغلو والجفاء، فالغلو هو المبالغة في تعلم المخارج وضبطها، والجفاء هو الإعراض مطلقًا عن تعلم ذلك، والتوسط والاعتدال هو تعلمها بما يعين على إقامة اللسان، وعدم الوقوع في الخطأ، ثم يجعل همته في تفهم معانيه. 4- جعل القرآن للأحزان والمآتم، فيقرأ القارئ، والناس لاهون، وإذا أصغوا بآذانهم فإنما يدفعهم لذلك حسن الصوت، أما المعنى وتدبر ما يقرأ فلا يحصل منه شيء، ولهذا لما توفي ابن أحد العلماء سنة عشر وخمسمئة، وعمر هذا الابن سبعٌ وعشرون سنة، وكان قد تفقه وناظر في الأصول والفروع وظهر منه أشياء تدل على دينه وخيره حزِن عليه أبوه، وصبر صبرًا جميلًا، فلما دُفِن جعل يتشكر للناس، فقرأ قارئ: {يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين} فبكى هذا العالِم، وبكى الناس، وضج الموضع بالبكاء؛ فقال العالم للقارئ يا هذا: إن كان يهيج الحزن فهو نياحة, والقرآن لم ينزل للنوح بل لتسكين الأحزان(14). أيهما أفضل: الترتيل بتدبر مع قلة القراءة، أو السرعة مع كثرة القراءة؟ إن المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه يرى حرصهم على التلاوة بتدبر وتأمل، وفهم وتذكر، أكثر من حرصهم على كثرة القراءة وسرعتها، والإكثار من الختمات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)} [سورة المزمل 73/1-4]. أي اقرأه بترسل وتمهل؛ لأنه يحصل بذلك التدبر والتفكر، وتحريك القلوب به. وهكذا كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وكانت قراءته مدًا. وقال ابن مسعود: "لا تهذوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدَّقَل(15)، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة". وقرأ علقمة على ابن مسعود، وكان حسن الصوت، فقال: رتل فداك أبي وأمي؛ فإنه زين القرآن. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: دخلتْ عليَّ امرأة وأنا أقرأ سورة هود، فقالت: يا عبد الرحمن! هكذا تقرأ سورة هود؟! والله إني فيها منذ ستة أشهر وما فرغت من قراءتها. لكن لا يعني هذا أن المسلم لا يقرأ بسرعة في بعض الأحيان؛ لكي يضبط حفظه، أو يُنهي ورده اليومي، بل إن القراءة في حد ذاتها ولو كانت سريعة فيها أجر وثواب، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قرأ حرفًا من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولمن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف))(16). ولهذا قال شعبة: حدثنا أبو جمرة، قال: قلت لابن عباس: إني رجل سريع القراءة، وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين، فقال ابن عباس: لأن أقرأ سورة واحدة أعجب إلي من أن أفعل ذلك الذي تفعل، فإن كنت لا بد فاعلاً فاقرأ قراءةً تُسمِعُ أُذنيك، ويعِيها قلبُك(17). وعلى هذا يمكن أن نقول: إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجل وأرفع قدرًا، وثواب كثرة القراءة أكثر عددًا؛ فالأول: كمن تصدق بجوهرة عظيمة، أو أوقف أرضًا في مكان مهم ترتفع قيمة العقار فيه، والثاني كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم، أو أوقف عددًا من الأراضي كثيرة، لكنها في مكان بعيد، وقيمتها زهيدة(18). الاقتصاد في قراءة القرآن. هل يمكن أن نطالَب بالاقتصاد في قراءة القرآن، مع هذا الأجر العظيم في قراءته، وأن لك بكل حرف عشرَ حسنات، إلى أضعاف كثيرة؟! الجواب نجده عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ، فَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ -أي زوجة ابنه- فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا، فَتَقُولُ: نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((الْقَنِي بِهِ)) فَلَقِيتُهُ بَعْدُ فَقَالَ: ((كَيْفَ تَصُومُ؟)) قَالَ: كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: ((وَكَيْفَ تَخْتِمُ؟)) قَالَ: كُلَّ لَيْلَةٍ، قَالَ: ((صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةً، وَاقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ)) قَالَ قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ((صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْجُمُعَةِ)) -أي في الأسبوع- قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ((أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ، وَصُمْ يَوْمًا)) قَالَ قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ((صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ، صَوْمَ دَاوُدَ، صِيَامَ يَوْمٍ وَإِفْطَارَ يَوْمٍ، وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً)) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية عند مسلم، قَالَ: ((وَاقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ)) قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ((فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ)) قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ((فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ)) قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ((فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ، وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا)). وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه, وإكرام ذي السلطان المقسط))(19)، فقوله: ((غير الغالي فيه والجافي عنه)): أي الذي سلك السبيل الوسط في التعامل مع القرآن؛ فلم يعرض عنه بالكلية، ولم يغل في قراءته والتنطع في مخارج حروفه، والانشغال بذلك عن العمل به، ولم يغل في العمل بما فيه، ويتكلف ويشدد على نفسه. وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزبون القرآن فيقرؤونه في كل أسبوع مرة، وكانوا يستحبون أن يُقرأ القرآن من أسبوع إلى شهر، أي لا يستعجل في قراءته فيقرأه في أقل من أسبوع، ولا يهمل فيتركه أكثر من شهر(20). ولهذا لما ذكر الذهبي في السير أن أبا بكر بن عياش قد مكث نحوًا من أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة، قال: وهذه عبادة يخضع لها، ولكن متابعة السنة أولى، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عبد الله بن عمرو أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، وقال: ((لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث))(21). وهكذا ما يروى عن عثمان بن عفان أن قرأ القرآن في ركعة؛ وكذا عدد من التابعين كانوا يختمون في كل يوم، وبعضهم ربما ختم أكثر من مرة، فهؤلاء لهم أحوال خاصة بهم، ثم إن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أولى من سنة غيره، ولا يجوز أن نعارض سنة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة غيره من الناس. والمقصود من الاقتصاد في القراءة ليحصل للقارئ تدبر وتفكر فيما يقرأ. من هم أهل القرآن؟ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: ((هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ))(22). فهل أهل القرآن هم من يحفظه فقط، أو من تعلمه وعمل به، ولو لم يحفظه؟ يقول ابن القيم: "أهل القرآن هم العالمون به، العاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظه ولم يفهمه، ولم يعمل بما فيه، فليس من أهله، وإن أقام حروفه إقامة السهم"(23). ويدل على ذلك حديث أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ أَوْ خَبِيثٌ وَرِيحُهَا مُرٌّ))(24). لكن اصطلح المتأخرون على تسمية الحفاظ بأهل القرآن، أما من فهمه ولم يحفظه فلا يسمونه من أهل القرآن، ولهذا لو وقف شخص وقفًا على أهل القرآن، قالوا: لا يدخل فيه إلا الحافظ(25). لكن الصواب هو أن أهل القرآن هم العالمون به، القارئون له، العاملون بأحكامه، ولو لم يكونوا من حفاظه، كما كان الصحابة يُسمون الفقهاء بالقراء. ولهذا كان قوله صلى الله عليه وسلم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) يدخل فيه تعلم ألفاظه ومعانيه، وتعليم ذلك، بل المعنى هو المقصود الأول، وإنما نتعلم حروفه وألفاظه لكي نفهم معانيه، ونقيم حدوده وأحكامه. بأي شيء نبدأ؟ هل يبدأ المسلم بتعلم العلم، أو يبدأ بقراءة القرآن وحفظه؟ سأل رجلٌ عبد الله بن المبارك، فقال: يا أبا عبد الرحمن في أي شيء أجعل فضل يومي؟ في تعلم القرآن، أو في تعلم العلم؟ فقال: هل تحسن من القرآن ما تقومُ بهِ صلاتُك؟ قال: نعم، قال: عليك بالعلم. وقال الميموني: سألت أبا عبد الله أيهما أحب إليك أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث؟ قال: لا بالقرآن، قلت: أعلمه كلَّه، قال: إلا أن يعسُر، فتعلِّمُه منه. ثم قال لي: إذا قرأ أولًا تعود القراءة، ثم لزمها. ولا تعارض بين هذين الجوابين؛ فإننا نفرق بين الكبير والصغير؛ فالصغير يقدم حفظ القرآن له، لما ذكره أحمد من العلة، وأما الكبير؛ فإنه يتعلم ما يصحح به صلاته؛ لأنه هو الواجب، ثم ينتقل إلى تعلم العلم المفترض عليه، وهو أحكام الصلاة وما يتعلق بها، والصوم، والزكاة، والحج(26). وقال الإمام أحمد: والذي يجب على الإنسان من تعليم القرآن والعلم ما لا بد له منه في صلاته وإقامة عينه، وأقل ما يجب على الرجل من تعلم القرآن فاتحة الكتاب وسورتان. وقال ابن حزم في الإجماع: اتفقوا أن حفظ شيء من القرآن واجب، ولم يتفقوا على ماهية ذلك الشيء ولا كميته بما يمكن ضبط إجماع فيه، إلا أنهم اتفقوا على أنه من حفِظَ أمَّ القرآنِ ببسم الله الرحمن الرحيم وسورة أخرى معها فقد أدى فرض الحفظ, وأنه لا يلزمه أكثر من ذلك، واتفقوا على استحباب حفظ جميعه، وأن ضبط جميعه واجب على الكفاية لا متعين(27). وقال أحمد أيضًا: يجب على المسلم أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه ولا يفرط في ذلك، فقيل له: فكل العلم يقوم به دينه؟! قال: الفرض الذي يجب عليه في نفسه لا بد له من طلبه. قيل: مثل أي شيء؟ قال: الذي لا يسعه جهله صلاته وصيامه(28). وسئل ابن تيمية أيما طلب القرآن أو العلم أفضل؟ فأجاب(29): "أما العلم الذي يجب على الإنسان عينًا كعلم ما أمر الله به وما نهى الله عنه فهو مقدم على حفظ ما لا يجب من القرآن؛ فإن طلب العلم الأول واجب وطلب الثاني مستحب والواجب مقدم على المستحب، وأما طلب حفظ القرآن؛ فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علمًا، وهو إما باطل أو قليل النفع، وهو أيضًا مقدَّمٌ في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع؛ فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن؛ فإنه أصل علوم الدين بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم، حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم من الكلام أو الجدال والخلاف، أو الفروع النادرة، أو التقليد الذي لا يحتاج إليه أو غرائب الحديث التي لا تثبت ولا ينتفع بها، وكثير من الرياضيات التي لا تقوم عليها حجة، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله، فلا بد في مثل هذه المسألة من التفصيل، والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به، فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين والله سبحانه أعلم". وعلى هذا فالواجب على المسلم أن يتعلم من القرآن ما يقيم به صلاته، ويتعلم من العلم ما يجب عليه، ثم بعد ذلك ينظر في نفسه وقدراته، ويستشير من يثق برأيه؛ هل ينصرف إلى العلم فيتعلم قراءة القرآن، ويضبط تلاوته، ويحرص على حفظه إن تيسر له ذلك، ويتعلم التفسير والحديث والفقه، أو أنه يشتغل بالحفظ وإقامة الحروف، ومعرفة أحكام التجويد، مع معرفة معانيه في الجملة. وقدرات الناس ومواهبهم في ذلك مختلفة. وإذا أردتم مثالاً على الفرق بين العالم، وبين حافظ القرآن فقط؛ فانظروا إلى أثر كل منهما فيمن حوله، ستجدون أن أثر العالم أعظم من أثر الحافظ فقط، ولهذا ظهر علم مالك وأبي حنيفة، والشافعي وأحمد وصاروا أئمة أعظم من ظهور أصحاب القراءات؛ كعاصم، وخلف بن هشام، وورش وقالون، والكسائي وغيرهم. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. وكتبه: عبد السلام بن إبراهيم الحصين. --------------------------------------------- (1) مقدمة رشيد رضا لإعجاز القرآن لمصطفى صادق الرافعي (19). (2) في الأصل صرامها. (3) أي شدة الحرارة فيها. (4) إعجاز القرآن للرافعي (30). (5) انظر: سير أعلام النبلاء (3/174- 175 في ترجمته رضى الله عنه) (6) روى القصة مسلم في صحيحه كتاب صلا المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه. (7) النبأ العظيم لدراز (43- 44). (8) سير أعلام النبلاء (4/66). (9) سير أعلام النبلاء (17/482). (10) سير أعلام النبلاء (8/179). (11) سير أعلام النبلاء (4/286). (12) السير. (13) مجموع الفتاوى (16/50). (14) الآداب الشرعية (2/294). (15) الدقل هو التمر اليابس، ومعناه: أن تقرأونه بسرعة كما تناثر الرطب الرديء اليابس من العذق إذا هُز. (16) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن، وحسنه، وذكر ابن القيم في الزاد أن الترمذي صححه، ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. (17) انظر: زاد المعاد (1/328). (18) انظر: زاد المعاد (1/328). (19) رواه أبو داود، قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: بإسناد جيد. (20) انظر: مجموع الفتاوى (13/405- 407). (21) سير أعلام النبلاء في ترجمة أبي بكر بن عياش. (22) رواه ابن ماجه، وأحمد والدارمي، قال في الزوائد: إسناده صحيح. (23) زاد المعاد (1/327). وانظر: كلام أهل العلم على هذا الحديث، وعلى قوله صلى الله عليه وسلم ((أوتروا يا أهل القرآن)). (24) رواه البخاري ومسلم. (25) انظر: الموسوعة الفقهية (17/324). (26) انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (2/33). (27) الآداب الشرعية (2/34). (28) الآداب الشرعية (2/35). (29) مجموع الفتاوى (23/55). المصدر: http://saaid.net/bahoth/47.htm
    0
  • (52) قصة يوسف ج17 https://www.youtube.com/watch?v=0fyh9Czf-eE
    1
    0
  • (51)

    قصة سيدنا يوسف ج16


    https://www.youtube.com/watch?v=BAHkWVnJ9Zg
    (51) قصة سيدنا يوسف ج16 https://www.youtube.com/watch?v=BAHkWVnJ9Zg
    1
    0
  • (50)

    قصة سيدنا يوسف ج15

    https://www.youtube.com/watch?v=dWD4k-IaNBc
    (50) قصة سيدنا يوسف ج15 https://www.youtube.com/watch?v=dWD4k-IaNBc
    1
    0
  • (49)
    قصة سيدنا يوسف ج14

    https://www.youtube.com/watch?v=UtjnUHAse3k
    (49) قصة سيدنا يوسف ج14 https://www.youtube.com/watch?v=UtjnUHAse3k
    1
    0
  • (48)
    قصة سيدنا يوسف ج13

    https://www.youtube.com/watch?v=j-cqE50hQcA
    (48) قصة سيدنا يوسف ج13 https://www.youtube.com/watch?v=j-cqE50hQcA
    1
    0
شاهد المزيد