مهارات الخط العربي

المحتوى القرآني
وسيط
مهتم: 2019-10-22 16:25:15
2021-02-16 21:00:51

القرآن الكريم والخط العربي *

 

بقلم/ علي عبد الله البداح

 

للقرآن الكريم أثر عظيم في نفوس المسلمين، فهو كتاب الله، أصل كل الأصول، يحفظونه ويتبركون به، يتحصنون ويتداوون بآياته، ويأخذون بأحكامه، وحرص المسلمون جميعاً على أن يكون في أجمل صورة، وأبهى حلة، وانكب الخطاطون والمجلدون والمذهبون عليه إبداعاً في إخراجه، حتى أصبح أعظم رونقاً، وأجمل شكلاً وأكثر جلالاً، وكان سبباً في تطوير وتجويد الكتابة العربية خطوطاً ونقوشاً، فصار الخط العربي أحد أهم الوحدات الزخرفية الفنية الإسلامية، ليس هذا فقط، بل امتد أثره ليشمل كل جوانب وميادين الفن الإسلامي.

 كان نزول القرآن الكريم بلهجة قريش دليلاً على سيادة هذه اللهجة بين العرب، نزل وحياً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول يبلغه إلى الصحابة فور نزوله، فيكتبه كتبة الوحي، ويتسابق الباقون بحفظه عن ظهر قلب، تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة أمين الوحي جبريل، ويسارع كتبـة الوحي بتسجيله أمامه، ومن أشهــرهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير ومعاوية وزيد بن ثابت وعامر بن فهيرة وعمرو بن العاص، وقيل إن عددهم 26 كاتباً وفي قول أخر 42.

 ارتبط المصحف بعدة أمور في حياة المسلم، يمكن لنا أن نفصلها على مستويين:

 أولهما مستوى روحي يتعلق بكلماته ودلالاتها، وثانيهما مادي يتعلق بصنعته من ورق وتجليد وخط وكتابة وزخرفة، وغير ذلك من الأعمال الفنية، وهنا يمكن لنا النظر في عدة أمور منها، المواد المستخدمة، الخطوط العربية، إعجام اللغة العربية، جمع نصوص القرآن الكريم والزخارف المصاحبة. ومن تلك الأمور نستطيع أن نحكم على تاريخ أمة الإسلام وخاصة في جوانب تمدنها وتحضرها وذلك للإرتباط الشديد بين المصحف الشريف وبين ما أنتجته يد السلم، وما تفتق عنه ذهنه وإبداعه أصالة وفناً.

كان للمصاحف – وما زال- اثر مهم على العمارة الإسلامية؛ فقد جاءت الزخارف على العمائر مماثلة لتلك التي على المصاحف، بدليل أن المصاحف المغربية تختلف زخارفها عن تلك التي كتبت وزخرفت في شرق العالم الإسلامي؛ ولذا فإننا نجد أن العمارة المغربية مختلفة عن مثيلتها في شرق العالم الإسلامي وبنفس درجة الاختلاف في زخرفة المصاحف.

علم “الكتابات العربية” علم حديث له صلة وثيقة بالدراسات الأثرية ، ويمكن النظر إلى الكتابات العربية الآثرية من كونها:
1) كتابات على مواد صلبة مثل الحجر والخشب والرخام وتسمى “نقوشاً”.

2) كتابات على مواد لينة مثل الرق والبردى والورق وتسمى “خطوطاً”. وعموماً فالبحوث في موضوع الكتابات قليلة، إلا أن آيات القرآن الكريم قد احتلت موقعاً متقدماً سواء في النقوش أو في الخطوط.

فالقرآن الكريم لم نجده فقط حبيس المصاحف والصناديق، ولكنه وجد مكتوباً على البيوت والمساجد وقطع الأثاث، وهناك مساجد نقش عليها القرآن كاملاً لتكون مصاحف ومساجد في آن واحد، وقد ظل القرآن عند المسلم آيات تُقرأ وتسمع ويؤخذ بمحتواها وينتهي عما تنهى عنه، وكان يقرأ في البيوت، وفي مداخل المنازل كنا نلاحظ دكة مخصصة لقارئ القرآن، حيث يأتي كل صباح ليقرأ بعض ما تيسر منه في ترتيب يومي دائم، كما أنه لا يجوز إغفال أن القرآن الكريم قد وجد مكتوباً أول الأمر على العسب والأكتاف واللخاف والأقتاب والرقاع وقطع الأديم والنسيج.

وعلى أي الأحوال فالدراسات عن الكتابات الأثرية الإسلامية على المواد الصلبة “النقوش” أصابت نجاحاً بينما الدراسات على المواد اللينة “الخطوط” لا تزال -رغم كثرتها- في بداية الطريق (تقريباً).

جمع نصوص القرآن الكريم

يوم اليمامة استشهد عدد غير قليل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفظة القرآن الكريم، وقد تنبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو وقتذاك من أبرز الوجوه في الدولة الإسلامية الفتية لهذا الأمر، وخشي ضياع القرآن الكريم بموت حفظته، فذهب إلى الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وطرح أمامه مخاوفه واقتراحاته، وانتهى الأمر باستدعاء زيد بن ثابت وتم تعيينه رئيساً للجنة طلب منها جمع القرآن الكريم، ونجح -زيد- في مهمته وحفظ ما تم تدوينه في دار أبي بكر، ثم نقل إلى دار عمر وبعد استشهاده أودع عند أم المؤمنين “حفصة بنت عمر”، وهكذا كان الجمع الأول، أو جمع أبي بكر، أو “الجمع البكري”.

عمر بن الخطاب خلال فترة خلافته تشدد مع الصحابة ومنعهم من الانتقال إلى الأمصار الإسلامية. إلا أن عثمان بن عفان كان ليناً معهم بعد استشهاد عمر، فانتقلوا إلى الأمصار، فالتف حولهم السكان وتكونت الأحزاب الإسلامية، وحدث تأثير آخر تمثل في أن بدأ المسلمون في كل ولاية يقرأون القرآن وفق رواية من نزل بينهم من الصحابة، فأهل الكوفة قرأوا عن عبد الله بن مسعود، وأهل البصرة تأثروا بقراءة أبي موسى الأشعري، وأهل دمشق قرأوا مثل قراءة المقداد بن الأسود بينما باقي أهل الشام كانت قراءتهم مثل أبي بن كعب، وحدث خلاف بين كل تلك القراءات.

تطور الأمر بعد غزو أرمينيا سنة 25هـ، إذ حدث خلاف بين أهل الشام وأهل العراق، فتلاعنوا وكفَّر بعضهم بعضاً، وأسرع حذيفة بن اليمان الأنصاري إلى المدينة المنورة حيث أطلع الخليفة عثمان على ما رأى وما سمع واستشار عثمان الصحابة، وتم الاتفاق على ضرورة جمع الناس على مصحف واحد، وأرسل عثمان إلى السيدة حفصة في طلب الصحف المحفوظة لديها، وتكونت لجنة برئاسة زيد بن ثابت ضمت في عضويتها سعيد بن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث، وقاموا بنسخ عدة نسخ سميت بمصاحف الإمام أو المصاحف العثمانية الأئمة، قيل إنها كانت أربعاً، وقيل خمس وقيل سبع وروى البعض أنها ست نسخ، أرسل منها أربع نسخ إلى أربع مدن هي البصرة والكوفة ومكة المكرمة، ونسخة إلى الشام، أما الخامسة فقد بقيت في المدينة المنورة طيبة الطيبة. والنسخة السادسة احتفظ بها عثمان لنفسه، وسمي عثمان بن عفان تبعاً لذلك باسم “جامع القرآن” ويعتبر مصحف عثمان أو المصحف الإمام من أكبر كنوز الفن الإسلامي.

الخطوط

 كتبت المصاحف في بداية الأمر بخطوط مربعة ذات زوايا “الخط المكي”، إلا أنها ومنذ خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كتبت بالخط الكوفي واستمرت المصاحف تكتب بهذا الخط طوال القرون الأربعة التالية، وكان من بين أسباب استخدام هذا الخط ما أمكن توليده من زخارف فيه، مما يعطي جلالاً لخطوط القرآن الكريم يتفق وقدسيته، ويمكن لنا التعرف على عدة أنواع من الخط الكوفي “بسيط بدون زخارف، مورق أي خط منقوش على أرضية بها زخارف نباتية، مزهر أي تخرج من حروفه فروع نباتيه بها أزهار، ومضفور أي تشتبك الألف واللام على هيئة ضفيرة”، وكانت الخطوط راسخة رصينة دلالة على رسوخ القرآن الكريم ورصانته.

 تطور الأمر إلى بعض الليونة “كوفي إيراني” ارتبط في أحيان كثيرة بالخطوط في المغرب والأندلس وتولد منه الخط المغربي، وهو خط يميل إلى الليونة والتدوير وأسهل في القراءة والكتابة.

 يذهب البعض إلى أن الأقلام أو الخطوط تولدت عن الخط الكوفي المربع، ولكن الحقيقة أن الخطوط التي انتهت إلى الحجاز كانت نوعين:

1) خط جاف يابس و زوايا مولد من خطوط عبرانية مستنبطة من خط آرامي مربع وقد عرفه الأنباط وكتبوا به حوادثهم.

2) خط مستدير أو لين -مقور- كان يكتب به المراسلات والأخبار اليومية، وقد وصفه ابن النديم في الفهرست “كانت الخطوط العربية أنواعاً: المدور والثلث والتئيم” ومعنى هذا أن العرب قد عرفوا الخط المستدير.

 استمر الوضع كذلك بالنسبة للمصاحف وهي أول النصوص الكتابية الأثرية الإسلامية المهمة إلى أن ظهر نوع آخر من الخطوط من اختراع وابتكار الأتابكة هو الخط النسخ.

 وبدأ المماليك بعد ذلك يكتبون بالخط الطوماري والطومار عبارة نصف ملف (درج) والملف أو الدرج يتكون من 20 جزءاً من البردي أو الورق يلصق بعضها ببعض في وضع أفقي ثم يلف على هيئة أسطوانة ويكتب عليه بخط النسخ الكبير والذي عرف باسم “خط الطومار”، اتفق على أنه الخط الحجازي اللين، وظهر منه الخط المحقق، أما الخط الثلث فقد أطلقت عليه هذه التسمية لأن حجمه يساوي ثلث حجم النسخ الكبير الذي كتب به على الطومار، ثم ظهر بعد ذلك الخط الريحاني الذي تطول فيه الألف واللازم مثل أعواد الريحان.

 والخط النسخ يكاد يكون خط جميع المصاحف المطبوعة والمنتشرة هذه الأيام وهي في أصلها مخطوطات لكبار الخطاطين مثل: الحافظ عثمان، ومصطفى نظيف المعروف باسم قدروغلي وغيرها، وقد تبارى الخطاطون في كتابة القرآن الكريم حتى تعددت الأقلام وتنوعت الخطوط وأصبح الخط فناً متميزاً.

 وعلى وجه العموم فقد ظهرت 6 أقلام في عهد الخليفة المستعصم هي ” خط النسخ -الخط المحقق- الخط الثلث- الخط الريحاني- خط التوقيع – خط الرقعة” وقد حذقها جميعاً “ياقوت الرومي” الذي عرف بالمستعصمي وقد اتخذه العثمانيون إماماً لهم في خط النسخ وأطلق عليه لقب “قبلة الكتاب” كما أن هذا اللقب قد أطلق أيضاً على الخطاط العثماني “حمد الله الأماسي” هذا ولا ننسى دور أشهر من كتبوا القرآن الكريم بالخط النسخ وعلى رأسهم “ابن مقلة” و”ابن البواب”.

الإعجام

الكتابة العربية في أول الأمر كانت بلا نقط “إعجام” ولا شكل وكانت بعض الحروف متشابهة، مثل الباء والتاء والثاء والسين والشين والصاد والضاد وغير ذلك مما هو معروف في اللغة العربية التي تتميز عن بعضها البعض بإضافة نقط فوق أو أسفل الحرف لتمييزه عن المتشابه معه، وكان العرب أقدر على كتابتها وقراءتها في شكلها المجرد من النقط بشكل صحيح، إلا أن الأمر قد اختلف بعد الفتوح الإسلامية ودخول شعوب جديدة في الإسلام واختلاط العرب بالأعاجم فقد تفشي اللحن في نطق اللغة العربية بسبب عدم تمكن هذه الشعوب من اللغة العربية وكان لا بد من وضح حد لذلك.

أولى مراحل الإعجام قام بها “أبو الأسود الدؤلي” بتكليف من “زياد بن أبيه” حيث أضاف التشكيل بالنقط إلى الحروف وبمداد لونه أحمر مخالف للون مداد الكتابة، الفتحة نقطة فوق الحرف والكسرة نقطة أسفله والضمة نقطة أمام الحرف وبين يديه، أما التنوين فكان نقطتين إحداهما فوق الأخرى.

.سورة الفاتحة بخط مصحف مصر - تصميم عبد السميع رجب سالم

 ثانية هذه المراحل قام بها “نصر بن عاصم الليثي” و”يحيى بن يعمر العدواني” حيث تم إعجام الحروف المتشابهة بإضافة نقط من نفس لون مداد الكتابة فوق الحرف أو تحته، فمثلاً أضيفت نقطة أسفل الباء ونقطتان فوق التاء وثلاث فوق الثاء تركت السين وتميزت الشين عنها بإضافة ثلاث نقط فوقها، وهكذا.

 أما المرحلة الثالثة فهي التي أتمها “الخليل بن أحمد الفراهيدي” حينما استبدل بنقط “أبي الأسود” ذات اللون الأحمر الشكل الذي نعرفه الآن: “الفتحة والكسرة والضمة والتنوين، مع استحداث الشدة والسكون والهمزة والمدة” بمداد من نفس لون الكتابة، وأصبح الإعجام بالنقط وحركات الشكل بمثابة حماية كاملة للغة العربية من اللحن والابتعاد بكلام الله عن اللبس والنطق الخاطئ أو القاصر، هذا بالإضافة إلى أن حركات الشكل استخدمت زخرفاً للخطوط نفسها مما أضفى على الكتابة البهاء والروعة فضلاً عن الجلال والوقار.

 الترقيم

 وحتى يمكن ختم قراءة القرآن الكريم في ثلاثين ليلة، قُسّم القرآن إلى ثلاثين جزءاً، وتولى الخطاطون كتابة كل جزء على حدة وأطلق على المجموع اسم “ربعة” وقسم الجزء إلى حزبين، والحزب إلى أربعة أقسام سمي كل قسم منه “مربعاً”. ولترقيم الآيات جمعوا كل خمس آياتمعاً، وأشاروا إلى ذلك في الهامش بلفظة “خمس” أو”خ”،وكل عشر آيات “عشر” أو “ع” ودلالة على خمس آيات وعشر آيات،وبعض المصاحف كتب حرف “هـ” يتكرر كل خمس آيات، في موضع فواصل الآيات رمزاً إلى رقم خمس في حساب الجمل، أما ترقيم نهايات الآيات فتم في وقت متأخر واستمر للآن.

 الزخرفة

 تزيين المصحف استمر بشكل متواصل على طول التاريخ الإسلامي، استخدمت الوحدات الهندسية والنباتية والكتابية في الزخرفة بشكل متناسق وإيقاع طروب وتكامل لوني مما يعطي للمصحف الشريف شكلاً رائعاً ووقوراً في الوقت نفسه. واتجهت الحاسة الفنية إلى مدى بعيد في زخرفة المصحف واستخدمت زخارف الأرابيسك في تجميل المصحف وتزيينه، ويطلق عليه أحياناً اسم “فن التوشيح” أو “الرقش العربي” كما استخدم بعض نقاد الفن لفظ (العَرَبسة) في وصف هذا النوع من الزخرفة.

 ونلاحظ أيضاً أن هذه الزخارف التي استخدمت في تجميل المصحف قد استخدمت في تزيين وتجميل الجدران والأسقف والقباب والعقود الإسلامية، مما يؤكد أثر المصحف الشريف في تطوير الفنون الإسلامية بميادينها المختلفة.

 بعض الفنانين قاموا بزخرفة المصحف جميعه، وبعضهم اكتفى بزخرفة صفحات كاملة منه مثل صفحات الفاتحة وأول سورة البقرة، وحول سور الإخلاص والفلق والناس، وأحياناً حول سور الشورى والإسراء ويس وسورة ق. وكان الحرص دائماً على تجميل بداية المصحف وآخره دلالة على أن المصحف تضمه دفتان آية في الجمال والجلال.

 ناهيك عن تلك الزخارف في الهوامش مثل الزهيرات والسعيفات والنجيمات والتي تدل على مواضع انتهاء الأجزاء والأحزاب والأرباع وفي مواضع السجدات إضافة إلى تلك الفواصل الزخرفية لتحديد الآيات وأرقامها أو المستطيلات الزخرفية للفصل بين السور المتعاقبة والتي تشتمل على اسم السورة ومكان نزولها وعدد آياتها.

 التجليد

 حفظ المصحف وأوراقه من التناثر والعطب أمر دفع إلى تجليد المصحف وقد تبارى المجلدون في إضافة جمال فني إلى جلدة المصحف وتزيينها الأمر الذي جعل هذه الجلود لوحات فنية سواء من الداخل أو من الخارج، وقد صنعت الجلود من الرق أو الورق أو الجلد وقد مرت عملية التجليد بعدة مراحل:

1) تقصير الجلد أي إزالة اللون الطبيعي بواسطة مادة معينة هي عبارة عن طين مجبول من تراب جذور شجر البلوط.

2) تزيين الجلد أو رقشه بالأرابسك بزخارف منوعة باستخدام طلاء الذهب أو طبعه بأختام ساخنة بورق الذهب.

3) تقوية هذه الجلود بدلكها بشمع النحل العذري وهو أمر يكسبها سطحاً براقاً قوياً ناعماً.

 ولذلك فالمصحف يصان في غلاف بنفس الجمال والجلال، ولبعض أغلفة المصاحف لسان لتعليم الصفحات ولحماية المصحف، كما لا ننسى أن بعض المصاحف لها صناديق مزخرفة ومزينة بقصد الحماية للمصحف بكامله ورقاً وغلافاً، وتعتبر هذه الصناديق ثروة فنية وهي الأخرى آية من الفن والجمال.

مجلة العربي مارس 1993

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* (https://2u.pw/T8aUc).

المحتوى القرآني
وسيط
مهتم: 2019-10-22 16:25:15
2021-02-16 21:12:36

تطور الخط العربي وعالميته *

بقلم/ د.محمد النعسان

 

Abas01
الخط العربي هو أهم الفنون التي أبدعتها الحضارة العربية الإسلامية وأكثرها انتشاراً في بلاد العرب والمسلمين على السواء، إذ هو حاضر في أنواع العمائر كما في الأواني والأثاث والملابس، إنه ليس فناً ترفيهياً أو جمالياً عارياً عن الوظيفة، وإنما هو صناعة تثير في النفس أصدق مشاعر التوقير والإجلال ويشعر المسلم بأنه عضو في الأمة الإسلامية، إذ هو قبل كل شيء أداة التعبير القرآني، وهو هندسة روحانية بآلةٍ جسدية تجمع بين تجريد المعنى ومادية الرسم، وتحيط الناظر بأطر جمالية معرفية تمزج المادي بالمجرد فيرى نفسه فيه ويعمل على تجاوز المادي بحثاً عن المجرد تمكيناً لإيمانه بالله العلي القدير وسعياً به إلى الرقي في درجات الكمال.

تعريف الخط:

 الخط علم وفن وفلسفة، وفيما يلي بعض التعريفات للخط:

ـ أفلاطون: “الخط عقال العقل”.

ـ إقليدس: “الخط هندسة روحانية، ظهرت بآلة جسمانية”.

ـ يقول إبراهيم بن محمد الشيباني: “الخط لسان اليد، وبهجة الضمير، وسفير العقول، ووحي الفكر، وسلاح المعرفة، وأنسُ الإخوان عند الفرقة، ومحادثتهم على بعد المسافة، ومستودع السر، وديوان الأمور”.

ـ ابن خلدون الخط: “رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس”.

ـ القلقشندي:” الخط هو ما نتعرف منه صور الحروف المفردة، وأوضاعها، وكيفية تركيبها خطأ”.

ـ ورد في الشافية أن الخط:” هو تصوير اللفظ برسم حروف هجائه، بقدير الابتداء والوقف”.

ـ وقيل: إن الخط “علم تعرف به أحوال الحروف في وضعها، وكيفية تركيبها في الكتابة”.

ـ قال رجل لبنيه:” يا بني تزينوا بزي الكتاب، فإن فيهم أدب الملوك، وتواضع السوقة”.

الخط العربي في الحضارة العربية الإسلامية:

أ ـ تمهيد:

إن الخط العربي نزل توقيفياً من الله تعالى، ويستندون في ذلك إلى بعض الآيات القرآنية الكريمة، قال تعالى: “وعلمَ آدمَ الأسماءَ كُلهَا ..” سورة البقرة/31. وإنه نزل مع سائر الكتابات على آدم عليه السلام، وقد كتبها آدم عليه السلام على الطين وطبخه وذلك قبل وفاته بثلاثمائة عام، فلما أصاب الأرض الطوفان، سلم، فوجد كل قوم كتابتهم فكتبوا بها.

وقيل إن النبي إدريس عليه السلام أول من خط بالقلم بعد آدم عليه السلام عندما بدأت فيه النبوة. وقيل إن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أول من وضع الكتابة العربية، وأشار القلقشندي في كتابه صبح الأعشى إلى ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سأله أبو ذر الغفاري حيث قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله كل نبي مرسل بم يرسل؟ قال:”بكتاب منزل”. قلت: يا رسول الله، أي كتاب أنزل على آدم؟ قال:”أ.ب.ت.ث.ج…الخ”. قلت يا رسول الله كم حرف قال:” تسعاً وعشرين”. قلت: يا رسول الله عددت ثمانية وعشرين. قال:” يا أبا ذر والذي بعثني بالحق نبياً ما أنزل الله تعالى على آدم إلا تسعة وعشرين حرفاً”. قلت: يا رسول الله فيها الألف ولام. فقال عليه السلام:” لام ألف حرف واحد أنزله على آدم في صحيفة واحدة”.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” عليكم بحسن الخط فإنه من مفاتيح الرزق”. وقال:” إذا كتب أحدكم بسم الله الرحمن الرحيم فليمد السين” رواه الديلمي في مسند الفردوس، والخطيب في كتابه الجامع. وقال:” إذا كتبت بسم الله الرحمن الرحيم فبيَن السين فيه” رواه ابن عساكر في تاريخه، وابن الخطيب في ترجمة ذي الرياستين. وقال: “الخط الحسن يزيد الحق وضوحاً” رواه الديلمي في مسند الفردوس.

وقال لكاتبه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:” ألِق الدواة، وحرَف القلم، وانصب الباء، وفرَق الميم، وحسَن الله، ومدَ الرحمن، وجوَد الرحيم” أخرجه القاضي عياض في الشفاء عن ابن أبي سفيان، وأخرجه في مسند الفردوس. وقال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجه:” أكرموا أولادكم بالكتابة”.

حظي الخط العربي بأهمية كبيرة في الحضارة العربية الإسلامية وظهرت الحاجة إليه منذ بداية النهوض الحضاري الذي شهدته الأمة العربية في صدر الإسلام. وقد تجلت فضيلة الكتابة والخط أن جعلها الله تعالى في أول آية افتتح بها الوحي؛ قال تعالى في كتابه العزيز:”اقرأْ وربكَ الأكرمَ الذي علمَ بالقلمِ، علمَ الإنسانَ ما لمْ يعلمْ”. فكانت أعظم شاهد لجليل قدر الكتابة، وأول سورة نزلت في القرآن الكريم تذكر القلم أضاف فيها سبحانه وتعالى تعليم الخط إلى نفسه. وامتن به على عباده وناهيك بذلك شرفاً. وأقسم الله تعالى بما يسطرون والأقسام لا يقع منه سبحانه إلا بشرف ما أبدع فقال عز وجل في معرض القسم:” ن. والقلمِ وما يسطرونَ ” سورة ن/1. وما قسمه تعالى إلا بعظيم ما أبدع فأقسم بما يسطر وما ذلك إلا الخط. وأكد ذلك فأقسم بالقلم الذي هو آلة الخط. وهذا شرف عظيم أشار إليه الشاعر بقوله:

إن افتخر الأبطال بسيفهم وعدّوه مما يكسب المجد والكرم

كفى قلم الكتاب عزاً ورفعة مدى الدهر أن الله أقسـم بالقلم

وكانت عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتابة عظيمة فحرص على تعلم المسلمين لها، وقال صلى الله عليه وسلم:” قيدوا العلم بالكتابة”.

وقد تطور الخط العربي بعد ذلك وشاع استخدامه في الأمصار وأخذ الخطاطون يجودون الكتابة ويبالغون في تحسينها.

ب ـ النشأة والتطور:

1. أصل الحروف العربية:

 تكاد تجمع معظم المصادر العربية القديمة، على أن الخط الذي كتب به العرب، قد علمه الله عز وجل لآدم عليه السلام، فكتب به الكتب المختلفة، ولكن هذا الرأي لا يقوم على أساس من العلم أو سند من التاريخ الصحيح.

 وقد بدا ما جاء في مقدمة ابن خلدون، دحضاً لذلك، إذ اعتبر ابن خلدون الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية، وقياساً على ذلك، فهو ضرورة اجتماعية اصطنعها الإنسان، ورمز بها للكلمات المسموعة.

 والكتابة كما هو معروف، تعتبر المرتبة الثانية من مراتب الدلالة اللغوية، تابعة في نموها وتطورها شأن كثير من الصناعات المعاشية لتقدم العمران والحضارة. ولهذا لسبب فإن الكتابة تنعدم مع البداوة، وتكتسب وتزدهر مع التحضر.

وقيل: إن ما وصلت إليه هذه الحروف من المكانة الفنية يعد من أكثر التطورات التاريخية عظمة، إذ أصبح الخط العربي أول الخطوط السامية تناسقاً، وأبدعها شكلاً، واستطاع عباقرة الخط فيما بعد أن يضعوا له قواعده وأصولاً روعي فيها أن تؤدي صور الحروف حسناً في النظر شبيهاً بحسن مخارج اللفظ العذب في السمع.

2. نشأة الخط العربي:

يرجع الفضل في انتقال الكتابات القديمة لمرحلة الحرف إلى الدولة الفينيقية، منذ أكثر من ثلاثين قرناً. ثم تفرعت الحروف الفينيقية إلى أربعة فروع، هي: الآرامية، واليونانية، والحميرية، والعبرية.

ثم تفرع الخط الآرامي إلى ستة فروع، وهي: التدمري، والهندي، والفارسي، والفهلوي، والعبري، المربع، والسرياني.

ثم نشأ من الخط السرياني خطان، وهما: الخط الحميري، والخط النبطي.

ثم تفرع الخط النبطي إلى الخط العربي. وهكذا أخذ العرب خطهم عن الأنباط، والأنباط عرب، كانوا يسكنون شمالي الجزيرة العربية، وكانت عاصمتهم البتراء.

وقد أثبتت النقوش الأثرية التي اكتشفها المستشرقون في سورية، أن الخط العربي قد اشتق من الخط النبطي. وهذا النقش يشتمل على ثلاثة أنواع من النقوش المكتوبة بالخط النبطي العربي:

أ ـ نقش وجد في موقع أم الجمال في سورية، أرخه ليتمان بسنة (270م) تقريباً.

ب ـ نقش وجد في صحراء النمارة، كتب على فبر امرىء القيس، تاريخه (328م).

ج ـ نقش وجد في مدينة حران جنوبي سورية، تاريخه (569م).

3. نظريتان في نشأة الخط العربي الحجازي:

 اختلف العلماء في أصل الحرف العربي اختلافات شتى، فما أصله ؟ ومن أين جاءتنا صورته ؟ هناك نظريتان في نشأة الخط العربي الحجازي، هما:

النظرية الإستشراقية:

يتفق المستشرقون مع العلماء العرب في أن الخط العربي مشتق من الخط الفينيقي الذي تولد منه الخط الآرامي والخط المسند. ولكنهم يختلفون معهم في أن الخط الآرامي قد تولد منه فرعان:

 ـ الأول: الخط السرياني.

 ـ الثاني: الخط النبطي.

ثم تولد من الأول الخط إسطرَنجيلي، ثم الكوفي، وتولد من الثاني الخط الحِيري والأنباري، ثم الحجازي النسخي ويسقطون من حسابهم الخط المسند تماماً، أي خط عرب اليمن، فلا يجعلون له أي تأثير في خط إخوانهم عرب الحجاز.

النظرية العربية:

لا تذهب هذه النظرية إلى تولد الخط الكوفي من السرياني، وعلماء العرب يقولون: إن الخط المسند اليمني خطان:

ـ الأول: الخط الجنوبي ويسمى الحميري.

ـ الثاني: الخط الشمالي ويسميه المستشرقون بالخط الصفوي، والثمودي، واللحياني، وعن الخط الصفوي تولد النبطي، وعن هذا الخط تولد الحيري والأنباري وعنه تولد الحجازي، وعن الخط الحجازي تولد الكوفي وهو أصل الخطوط الحالية.

إن الفرق بين النظريتين، أن المستشرقين يستبعدون أن يكون الخط المسند اليمني الشمالي وسيطاً في أخذ عرب الحجاز خطهم عنه بوساطة الخط الحيري، وذلك، فيما يبدو، لسببين: أحدهما أن الشبه ضعيف بين الخطين، بينما هو قوي بين الخط الكوفي والسطرنجيلي المشتق من السرياني (أو المفتوح، ويقال له الخط الثقيل، والرهاوي، الذي استنبطه بولس بن عرقا أو عنقا الرهاوي في أوائل القرن الثالث، ودام استعماله حتى المئة الرابعة عشرة).

أنواع الخطوط العربية وتطورها:

إن أشهر أنواع الخطوط العربية المعروفة والمتداولة اليوم ستة، وهي:

 الكوفي ـ والثلث ـ والنسخ ـ والفارسي ـ والرقعة ـ والديواني.

يضاف إليها نوعان آخران هما: الديواني الجلي وهو نفس الخط الديواني مضافاً إليه الشكل. وخط الإجازة وهو مزيج من خطي الثلث والنسخ، وسمي كذلك لأن الأساتذة الخطاطين كانوا يكتبون به ” الإجازة” أي الشهادة لتلاميذهم حتى يكون لهم حق ممارسة الكتابة.

وكل هذه الخطوط له أصل تفرع منه، وتاريخ طويل تطور فيه، يقول النديم في كتابه الفهرست: “الأقلام أربعة وعشرون قلماً، مخرجها كلها من أربعـة أقلام، وهي: 1. قلم الجليـل. 2. قلم الطومار. 3. قلم النصـف الثقيل. 4. قلم الثلث الكبير الثقيل. وإن مخرج هذه الأقلام الأربعة من القلم الجليل، وهو أبو الأقلام”.

وقد تميز كل خط وعُرف بأسماء الأقطار التي دخله الإسلام فكان: الخط الفارسي، والعراقي، والمصري، والمغربي، والأندلسي، ولكل منها سمات لا تكون في الآخر، لأنه اكتسب في كل من هذه البلاد خصائص محلية تميز بها.

ومن ناحية أخرى، يمكن القول بأن رسم الكتابة العربية انقسمت منذ أصولها الأولى في الحجاز إلى قسمين رئيسين هما:

ـ القسم الأول: خطوط المبسوط (المستقيم)، ويشمل الكوفي السميك المزخرف المائل (على شكل زاوية) الذي أتم مرحلة الكمال في القرن الثالث الهجري /التاسع الميلادي.

ـ القسم الثاني: خطوط المقور (المدمور)، ويستخدم في الكتابة العادية السريعة التي سبق وظهرت لها ستة أنواع في العصر العباسي، تُعرف بالأقلام الستة معتمدة خمس أو سبع نقاط مربعة، عن طريق ضغط القلم ضغطاً مائلاً على غرار أشكال معينة متراصة عمودياً هكذا بحيث تتناسب في الأضلاع الأربعة المتساوية لكل نقطة مع حجم اتساع القلم داخل حرف الألف، الذي يشكل هو الآخر نصف قطر الدائرة في الخطوط.

ـ النوع الأول: خط الثلث، إذ يمال ثلث الحرف.

ـ النوع الثاني: خط النسخ، لنسخ المخطوطات أو محوها، وقد انتشر منذ القرن التاسع الهجري/الثالث عشر الميلادي بانتشار محل الرق والجلد.

ـ النوع الثالث: خط المحقق، أي الجلي المرسوم بعناية ورشاقة وشموخ وهو أقل ميلانأً من الخط الكوفي وأكثر ابتعاداً واتساعاً.

ـ النوع الرابع: خط الريحاني، وهو شبيه بالثلثي ولكنه أكثر تداخلاً واندماجاً.

ـ النوع الخامس: خط التوقيع، وهو أشد تلاحماً وتماسكاً، وقريب من الثلثي وربما اشتق عنه أو عن الخط الرياسي (أي الوزاري) الذي كان مستعملاً في إبان حركة الترجمة الأولى في أواخر عهد الأمويين وفي عصر العباسيين وبأدناه إحدى الإشارات للطرق التي شُقت في فلسطين آنذاك قبل إدخال نظام التنقيط لطريق عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين.

ـ النوع السادس: خط الرقعة، الذي لا علاقة له بخط الرقاع القديم وهو الآن الخط اليدوي الأكثر استعمالاً، إن سر إجادة خط الرقعة هو إتقان الحروف الأربعة في كلمة (نابع) واستخراج بقية الحروف على أصولها وقياساتها، ومراعاة تناسقها ومواقعها فوق السطر أو تحته

تطور الخط العربي:

لا يوجد في العالم الآن خط يماثل الخط العربي في تراثه الذي يشعرك بأنك لم تغادر موطنك، سواء اتجهت إلى دمشق أو بغداد أو القاهرة أو إستانبول أو تونس أو قرطبة، أم اتجهت إلى شبه القارة الهندية أو اندونيسيا أو غيرها.

إن سنة الحياة هي التطور والكتابة العربية متطورة، وقد عرفنا أن أبجديتها من ابتكار الفينيقين أي الكنعانيين الذين وضعوا (22) حرفاً هي أصول الحروف اللاتينية واليونانية والعربية الحالية.

 وإذا تأملنا في الحروف اللاتينية نفسها نجدها على أشكال تعود للمثلث والمربع والدائرة، أما الحروف العربية فهي منبثقة عن أشكال انسيابية خلاقة وإبداع متطور، قابلة للتشكيل تلقائياً.

لقد انطلق المسلمون الأوائل يفتحون البلاد والأمصار وينشرون الدين الإسلامي الحنيف في كل بقاع الأرض ومعهم لغتهم العربية التي استطاعت أن تمحو كثيراً من اللغات وتحل محلها وتصبح هي اللغة التي يستخدمها أهل البلاد الأصليون، وقد استطاعت بعض اللغات الصمود والاستمرار، ولكن الخط العربي أصبح الخط الذي تكتب به هذه اللغات، فكتب به الإيرانيون لغتهم الفارسية كما كتب به السلاجقة والعثمانيون لغتهم التركية.

 لقد اعتقد البعض أن اللغة العربية قد ولدت كاملة. دون أن يعرف لها طفولة نامية ولكن ذلك كما يبدو لا يحمل من الحقيقة شيئاً، إذ أن الخط العربي قد تدرج بوضوح عن الخطوط السابقة له، متطوراً من خلال عدة لهجات مختلفة، ولكنها ذات شكل كتابي متقارب جداً، حتى ليبدو أن الفروق بينهما هي فروق فقط في التجويد.

 وتطور شكل الحرف الجمالي بسرعة بعد أن أضيف إليه الإعراب والرقش. وقد روى النديم في كتابه الفهرست أن: “أول من كتب بالعربية ثلاثة رجال من بولان (وبولان قبيلة من طي) سكنوا منطقة الأنبار، وأنهم اجتمعوا فوضعوا حروفاً مقطعة وموصولة، وهم: مرامرة بن مرة، وأسلمة بن سدرة، وعامر بن جدرة،، فأما مرامر فوضع الصور، وأما أسلم ففصل ووصل، وأما عامر فوضع الإعجام”، ثم نقل هذا العلم إلى مكة المكرمة وتعلمه من تعلمه. ثم اتخذ الخط بعد ذلك أساليباً بعضها تزييني صرف والآخر قاعدي، وأول الخطوط التزيينية كان الخط الكوفي، ومنه المضلع الهندسي والمشجر والمضفر، وهناك خطوط زخرفية أخرى كالطغرائي والديواني والفارسي أيضاَ، أما الأسلوب القاعدي فهو مزيج من الخط الكوفي والحجازي.

 وظهر بعد ذلك قلم الطومار والثلث والثلثين والنصف ثم الرقعي.

 وقد تم ظهور الخط النسخي على يد الوزير ابن مقلة وأخيه الحسن، وفي المغرب حافظ الحرف على شكله الحجازي القديم كما ابتكر العثمانيون الخط الهمايوني.

 وقد اهتم الإيرانيون بكتابة الخط العربي وبلغ من حبهم له أنهم اخترعوا خطاً خاصاً بهم يسمى “التعليق” ثم جاء الخطاط الفارسي الموهوب “مير علي” فطور التعليق بإدخال شيء من النسخ عليه وسماه “النستعليق” وقد تفننوا في كتابته وأصبح خطهم المميز الذي نسميه “الفارسي” نسبة إليهم.

 أما الخطاطون الأتراك فقد برعوا في كتابة الخط العربي وركزوا جهودهم في إجادة خطي النسخ والثلث، وبلغ الخط العربي في عهد العثمانيين ذروة الكمال والجمال. وخلف لنا الخطاطون الأتراك آثاراً خطية بالغة الروعة، وتدل على مدى تفوقهم وتربعهم على عرش هذا الفن، واحتل الخطاط مكانة بارزة في بلاد السلاطين العثمانيين، وبلغ من شدة ولعهم بالخط أن بعض سلاطينهم تعلموا فن الخط على يد أساتذته الكبار وكان منهم خطاطون متفوقون كالسلطان محمود خان الذي تتلمذ على الخطاط مصطفى راقم، والسلطان عبد الحميد الثاني الذي تتلمذ على يد الخطاط عزت ونال منه “إجازة” شهادة.

 واخترع العثمانيون خطوطاً جديدة، وهي: الديواني والديواني الجلي والرقعة، وخط الرقعة نظراً لبساطته واختزاله وسهولة كتابته أصبح الخط المتداول الذي يكتب به كل الناس ويستخدم في كتابة الرسائل والمعاملات اليومية في كل الأقٌطار العربية.

والسؤال الذي يتبادر للذهن: ما هو السر وراء اتجاه الفنان المسلم إلى الخط العربي يخترع منه أشكالاً متعددة ويستمر في تطويره وإتقانه وإجادته حتى يصل إلى هذه الدرجة من الكمال ؟

والجواب: هو أن السر يكمن في بعض أحكام الإسلام التي تتعلق بتحريم الصور والتماثيل فانصرف المسلمون عن تزيين بيوتهم ومساجدهم باللوحات المصورة فاتجه الفنان العربي المسلم إلى الخط العربي يفرغ فيه طاقاته الإبداعية ويتخذ منه مادته للتصوير والتشكيل مستغلاً إمكانيات الحرف العربي من رشاقة وانسياب لعمل لوحات غاية في الجمال والروعة، هذه اللوحات الجميلة كانت تحمل إلى جانب جمال المظهر ومتعة العين سمو المعنى وروعة الحكمة وترتفع بالإنسان إلى أعلى درجات المتعة الروحية.

 وقد طوع الفنان المسلم بعض الجمل والآيات القرآنية في تصوير أشكال كثيرة كالنبات والحيوان والآلات. فالبسملة يمكن أن تكون على شكل طائر، وجملة “لا إله إلا الله” تؤلف منظراً مكوناً من مآذن وقباب.

 وقد اكتسب الخط العربي مكانة لارتباطه بالقرآن الكريم فأبدع الخطاطون وتفننوا في كتابة المصاحف وزخرفتها وكتابة الآيات القرآنية الكريمة، وعنوا عناية خاصة بكتابة “البسملة” بسم الله الرحمن الرحيم في صور رائعة متعددة. وكان حافزهم الأول في هذا الإبداع هو إيمانهم، فهي آية من آيات القرآن الكريم تستفتح بها كل سورة من سوره، ثم إن لها تأثيراً مباشراً في سلوك المسلم اليومي فهو يرددها في كل مناسبة وعندما يباشر أعماله أو يتناول طعامه وشرابه، ويكتبها في مطلع كتبه ورسائله وعقود بيعه وشرائه، فهو يستبشر بها ويتفاءل. وقد جاء في الحديث النبوي الشريف “كل عمل لا يبدأ بسم الله فهو أبتر” أي مقطوع الخير والبركة.

تطور الخط الكوفي:

عرف العرب الأوائل الخط الكوفي نسبة إلى مدينة الكوفة التي كان منتشراً بها. وقد ساد في كتابة المصاحف واللوحات وشواهد القبور وكان ينقش على الجدران، وظل الأمر كذلك طيلة ستة قرون، ثم حل الخط النسخي محله. وعند الإطلاع على بعض الشواهد والآثار الخطية القديمة نحس مدى التطور الذي لحق بالخط الكوفي على مدى العصور.

كان العرب يكتبون الخط الكوفي بدون شكل أو تنقيط، مكتفين بقدرتهم على القراءة الصحيحة دون الحاجة إلى ذلك، ثم تغيرت الأحوال بدخول كثير من الأعاجم في الدين الإسلامي، وتفشى اللحن والتصحيف في قراءة القرآن الكريم، وبدت الحاجة ملحة لوضع ضوابط للقراءة والكتابة، فوضع “أبو الأسود الدؤلي” قواعد الشكل بوضع النقطة بلون مخالف للون الكتابة الأصلية، فالنقطة فوق الحرف ترمز للفتحة وتحته للكسرة وأمامه للضمة وترك الحرف الساكن بدون تنقيط. ثم جاء تلاميذ أبي الأسود بنفس مداد الكتابة الأصلية لأن النقط من أصل الكلمة.

وقد تطور الخط الكوفي بعد ذلك وتعددت أشكاله فمنه: المربع الهندسي، والمورق ذو الزخارف النباتية، والكوفي المجدل، والكوفي المترابط المعقد.

تطور الخط النسخي:

ظل الخط الكوفي سائداً تكتب به المصاحف واللوحات وينقش على الجدران حتى وضع الوزير ابن مقلة قواعد الخط النسخي فاستحسنه العرب لجماله وسهولة كتابته، وقد تولى ابن مقلة الوزارة ثلاث مرات ولكنه اشتهر بكتابة الخط وطغت هذه الشهرة على شهرته كوزير.

وكان إلمام ابن مقلة بالعلوم الهندسية عاملاً مهماً في قدرته على تطوير فن الخط ووضع قواعده.

وقد جاء في صبح الأعشى للقلقشندي: “ثم انتهت جودة الخط وتحريره على رأس الثلاثمائة إلى الوزير أبي علي ابن مقلة، وهو الذي هندس الحروف وأجاد تحريرها، وعنه انتشر الخط في مشارق الأرض ومغاربها”.

والخط النسخي يعتبر صورة لينة للخط الكوفي الجاف، وقد جمع أهل المغرب بينهما في كتاباتهم، وتبدو هذه الظاهرة جلية واضحة في كتابة المصاحف المغربية، ومن الرواد الأوائل الذين وضعوا قواعد الخط وضبطوا موازينه ابن البواب وياقوت المستعصمي، وقد استنبطا من خط النسخ أنواعاً عديدة من الخطوط لكل منها سماته الخاصة ومميزاته الفنية وفتحا الباب واسعاً أمام من جاء بعدهم من الخطاطين الملهمين الأفذاذ لينطلقوا بهذا الفن الجليل إلى آفاق رحبة من القيم الجمالية والوصول به إلى قمة الكمال والجمال.

جماليات الخط العربي:

 إن الخط العربي فن من الفنون الجميلة، بجميع فروعه وأنواعه، تبوأ مكاناً سامياً ممتازاً بلغ الذروة والأوج في الكمال، وتصدر جميع الفنون وتوجها، فاتخذه الفنان العربي المسلم لغة تخاطب وتعبير، خاطب بها وعبر بها عن ذوق وإحساس فني مرهف. ويكاد الخط العربي يكون الفن الذي يقابل فن التصوير عند باقي الأمم، بالنظر للعناية الفائقة التي أصابها خلال تطور العصور. وإن كان العرب قدا عنوا بالتصوير ولهم فيها بدائع ومدارس لا تنكر، ولكن هذا التصوير لم ينل العناية التي لقيها الخط العربي، وقد أصابه حظ عظيم من الارتقاء والازدهار والتجميل، وقد زخرت المدن العربية والإسلامية بآثار هذا الخط يزين المساجد والحنايا والجدران والمآذن والقباب، والمقابر، والسبل، والمحال التجارية، والأقمشة، والكتب، والقلاع، والسيوف والدروع، والمزهريات والسجاجيد والبسط، والملابس، ومنه كتابات على الزجاج، وأخرى على الحديد والنحاس، بطريقتي الدهان والحفر حتى التطعيم أو التنزيل، فنَزلوا خطوطهم على الخشب بسطور من العاج الأبيض، وعلى الحديد والنحاس بسطور من الفضة والذهب، بل إنه أخذ في زخرف الكتاب بالألوان والأزهار، وأحياناً بالطير والشجر، كما فرش لها الأرضية بالزخارف النباتية الجميلة، وخصها بالتوريق البديع في شدة انسجام، وتآلف الربط، وطواعية تنسيق ودقة، وبذلك أضحى للخطاطين حظوة مرموقة ومنزلة رفيعة عند أولي الشأن، كما تميز به الخط ذاته من مكانة سامية.

الخط العربي والهندسة:

أصبح الخط العربي وتجويده صناعة نفسية، قال أحدهم في جارية كاتبة مجودة: “كأن خطها أشكال صورتها، وكأن مدادها سواد شعرها، وكأن قرطاسها أديم وجهها، وكأن قلمها بعض أنملها، وكأن بيانها سحر مقلتيها، وكأن سكينها سيف لحاظها، وكأن مقطعها فلب عاشقها”.

 وتعتبر كتابة الخط من الفنون الصعبة التي تحتاج إلى دراسة طويلة وممارسة دائمة واهتمام بالغ، ويحتاج الخطاط لكي يحافظ على مستواه الفني إلى ممارسة الكتابة كل يوم لا يكاد يتوقف يوماً واحداً. ومما يروى عن الحافظ عثمان الخطاط التركي المعروف بأستاذيته والذي كتب المصحف عدة مرات، قوله: “لو عرضت على الخطوط المختلفة التي اكتبها في بحر الأسبوع لعرفت من بينها خطوط يوم السبت لأنها تكون أقل مرونة من خطوط بقية الأسبوع بسبب توقفي عن الكتابة يوم الجمعة”.

 وإذا تأملنا اللوحة الخطية ودرسناها نجدها تحمل إلى جانب جمال الخط سمات أساسية هي: التناظر، والانسجام، وإحكام ترتيب الكلمات، والتركيب، وحسن التوزيع.

 وقد استمر الخط عصوراً طويلة يستخدم في كتابة اللوحات الفنية التي تزين البيوت والمساجد وينقش على الجدران. حتى جاء العصر الحديث بما يحمل من نهضة صناعية وتجارية استدعت بالضرورة ألواناً من الدعاية والإعلان، فانفتح بذلك مجال تجاري كبير للخط والرسم في كتابة اللافتات للمصانع والشركات والمحلات التجارية. ووجد الخطاطون فرصة جديدة للتجديد والابتكار وابتداع أشكال جديدة من الخطوط تكون أكثر مطاوعة وأقدر على التعبير والإبهار ولفت النظار.

ولما كان الرجوع إلى المنبع الأصلي والاغتراف منه وإظهاره في ثوب جديد هو موضة هذا العصر، فقد لجأ الخطاطون إلى تراثهم الأصيل من الخطوط الكوفية الجميلة ينهلون منه ويختارون أنسب الأشكال للأعمال التجارية والإعلانية وكتابة أغلفة الكتب والمجلات ولم يجدوا أنسب من الخط الكوفي الهندسي المبسط الذي أصبح سائداً في أغلب أعمالهم لبساطته وسهولة قراءته وكتابته. فهو يرسم بالمسطرة والمثلث ولا يحتاج في كتابته إلى مهارة فائقة كبقية الخطوط، بل إن من يجيد استعمال الأدوات الهندسية ويملك حساً جمالياً يستطيع كتابة الخط الكوفي المبسط دون حاجة إلى خطاط.

 وقد ساعد ما في طبيعة الحروف العربية من انتصابات وانبساطات، وما فيها من قابلية للاستمداد والانثناء، على إمكان شغل الفراغ المتخلف بين الحروف المنتصبة، التي تكون في حد ذاتها نوعاً من التوازي الزخرفي.

 ومن محاسن الحروف العربية شدة حيويتها الناشئة من مطاوعتها واستدارتها وانبناؤها جميعاً على أصل هندسي ثابت، وقاعدة رياضية معروفة.  فقد نسب ابن مقلة جميع الحروف إلى الألف التي اتخذها مقياساً أساسياً ينسب إليه أطوال بقية الحروف، فمثلاً:

ـ الباء: تتكون هندسياً من قائم ومنبسط طولهما معاً كطول الألف.

ـ الجيم: تتكون من خط مائل ونصف دائرة قطرها بطول الألف.

ـ الدال: تتكون من خطين الأول مائل والثاني على مستوى التسطيح طولهما معاً كطول الألف.

ـ الراء: قوسي هو ربع دائرة الألف قطرها، وهكذا ..

 ولكل حرف من حروف العربية هندسة خاصة، والحروف كلها بأجزائها وكلياتها مردودة إلى نسبة ثابتة عرفت “بالنسبة الفاضلة” فعرض الألف في الكتابة بالنسبة إلى طولها (8:1) وتظل هذه النسبة مرعية مهما تفاوتت المساحات التي يكتب بها.

وتمتاز الحروف العربية ببساطة صورها إذا قيست بحروف الأمم الأخرى ولا غرو، فهي ليست أصلاً إلا خطوط مستقيمة، وأجزاء من الدائرة كما أوضحها ابن مقلة في رسالته علم الخط والقلم.

لقد ترك لنا ابن البواب قصيدته الرائية الشهيرة في إجادة التحرير وحسن الخط، كما ترك أستاذه ابن مقلة في الخط والقلم رسالته الهندسية التي تعتبر حق آية في هذا الميدان، وهي التي كانت فاتحة هندسة وزن الحروف العربية بميزان رياضي.

 واختلفت منازل الخطوط العربية، وتقدمت على بعضها بتقدم مراتبها، فقد جاء في مقدمة ابن خلدون:” وخالفت أوضاع الخط ببغداد أوضاعه بالكوفة في الميل إلى إجادة الرسوم، وجمال الرونق، وحسن الرواء، وكان الخط البغدادي معروف الرسم، وتبعه الأفريقي المعروف رسمه القديم لهذا العهد، ويقرب من أوضاع الخط المشرقي، وتحيز ملك الأندلس بالأمويين فتميزوا بأحوالهم من الحضارة والصنائع والخطوط فتميز صنف خطهم الأندلس كما هو معروف لهذا العهد”.

 أما الخط التونسي فإنه يشابه الخط المشرقي، والخط الجزائري حاد الزوايا صعب القراءة، والخط الفارسي يمتاز باستدارة وتقوسات حروفه الأخيرة، أما الخط السوداني فغليظ ثقيل.

القرآن:

 وتعود أهمية صورة الحرف العربي إلى ارتباطها بكتابة القرآن الكريم الذي انتشر بانتشار الدين الإسلامي، ويؤكد ذلك “أرنست كونل” في كتابه “فن الخط العربي” فيقول: “لقد منح العرب الدين الإسلامي اللغة والخط، وانتشر الخط العربي في الدين الإسلامي فأصبح رابطاً لجميع الشعوب العربية، رغم الحدود الحاجزة”.

 فقد أعطى العرب الخط الجميل عناية خاصة عند كتابة القرآن الكريم، منطلقين من مبدأ “الخط الجميل يزيد الحق وضوحاً”. وكما قال عبد الله بن عباس: “الخط لسان اليد”. وهكذا كان الخط الجميل موازياً في أهميته للتجويد في القرآن الكريم، وسرى في جميع البلاد الإسلامية، وأصبح الحرف العربي واسطة التعبير في جميع اللغات الهندية والفارسية والتركية.

الزخرفة:

وفي الكتابة العربية تتوفر مزية قل أن توجد في الكتابات الأخرى، وهي إمكان زخرفتها على وجوه لا تعد ولا تحصى، حتى بلغ ببعض المزخرفين أن أبدعوا أشكالاً استعصى فيها أن تتبين العنصر الكتابي الأساسي، بين تلك التوليفات الزخرفية التي ابتدعها ذهنه المبدع، ويبدو ذلك واضحاً في الكتابات العربية الكوفية الحادة، والكتابات اللينة الأخرى على حد سواء.

 والكلمة العربية هي صورة تتضمن صوتاً ومعنى وشكلاً مرئياً، يساوي كل منها الآخر ويوازيه، وعلى هذا فإن الكلمة العربية حينما استخدمت كعناصر فنية في الزخرفة الإسلامية، لم يكن القصد هو الاستفادة من شكل الكلمة الفني وحسب، وإنما قصد الفنان بذلك تركيب لوحة فنية.

 وكثيراً ما نرى في الزخرفة العربية حروفاً منفصلة أو مبهمة كانت هي في ذاتها أساساً أو موضوعاً للوحة فنية، وترجع الناقدة الألمانية “آن ماري شميل” ذلك أن العرب، قد أعطوا لكل حرف مدلولات خاصة، فالميم مثلاً كانت تعبيراً عن الضيق، والصاد هي مقلة الإنسانية، والدال صورة العاشق الذي صار دالاً من شدة الحزن، والسين هي الأسنان الجميلة، والراء صورة الهلال، وذلك يوضح لنا أن اللسان العربي نشأ عن حدوس صادقة لطبيعة الأشياء، وليس هو مجموعة من الرموز الشكلية المنفصلة عن مفاهيمها.

ولقد بدا ذلك واضحاً في الفن الحديث عند كثير من الفنانين العرب والغربيين.

صفة محاسن الخط العربي:

 الخط العربي أينما ظهر بهر. فقد كان المتفنون فيه على درجة عالية من الإبداع تنطق بذلك مصاحفهم وكتاباتهم الثلثية الثقيلة في مساجدهم وقبابهم، وفي مؤلفاتهم عن الخط.

 ذكر النويري في كتابه نهاية الأرب في فنون الأدب أنه:” سئل بعض الكتاب عن الخط، متى يستحق أن يوصف بالجودة، قال: إذا اعتدلت أقسامه، وطالت ألفه ولامه، واستقامت سطوره، وضاهى صعوده حدوره، وتفتحت عيونه، ولم تشتبه راؤه ونونه، وتساوت أطنابه، واستدارت أهدابه، وصغرت نواجذه، وانفتحت محاجره، وقام لكاتبه مقام النسبة والحلية، وخيل إليه أنه يتحرك وهو ساكن”.

استنتاجات:

 يمتاز الخط العربي عن غيره من الخطوط الأجنبية بأمور عديدة أهمها:

1ـ أنه يقبل أن يتشكل بأي شكل هندسي، ويتمشى على أي صورة بحيث لا تختلف ماهيته ولا يطرأ على جوهره تغيير أو تبديل، ولذا تجده منذ صدر الإسلام إلى الآن لا يزال يقبل ما يدخله عليه أهل هذه الصناعة (الخطاطون) الذين ينتمون إلى أصحاب الذوق السليم، من تدقيقات وتحسينات وزخارف لأنه في الحقيقة عبارة عن نقوش منظمة، وأشكال هندسية ورسوم فنية ودائرة هذه الأشياء واسعة لا حد لها ولا حصر.

2ـ أن من يمعن النظر في الخط العربي يجد بينه وبين سائر الأشياء تشابهاً وتقارباً نسبياً، يُميز ذلك من نبغ في فن الخط وصار خبيراً بأسراره وخفاياه، ومن ألطف الأدلة وأظرف البراهين على ما للخط العربي من المنزلة الرفيعة أن الشعراء كثيراً ما كانوا يشبهون محاسن المحبوب بأنواع الحروف العربية، فشبهوا الحاجب بالنون، والعين بالعين، والصدغ بالواو، والفم بالميم والصاد، والثنايا بالسين، والطرة المضفورة بالشين، وبعضهم عكس المعنى فشبه الأحرف العربية بأعضاء المحبوب.

3ـ أن الحروف العربية قد خدمها علماء العرب المسلمين خدمة جليلة بحيث لا يتطرق إليها خلل، ولا يطرأ عليها تغيير. فعلماء القراءات الأجلاء لم يكتفوا بقراءة القرآن الكريم الذي هو بلسان عربي بمجرد النظر إلى صور الحروف التي هي عربية أيضاً، وإنما وضعوا لقراءتها قواعد تحفظ اللسان من الخطأ في نطق الحروف وألقابها وصفاتها وما يفخم منها، وما يرقق، وما يدغم.

4ـ أن الله سبحانه وتعالى أودع في الحروف الهجائية العربية أسراراً عجيبة وتصرفات غريبة سواء كانت مفردة أو تراكيب، فعلى هذه الحروف، يتوقف نجاح الطلاسم وعمل السحر والسيمياء، وهذه الخصوصية غير موجودة في الحروف الأجنبية مطلقاً (بصرف النظر عن الحكم الشرعي في ذلك كله).

5ـ أن الحروف العربية صالحة لأن تدل على الأرقام الحسابية وتقوم مكانها على الوجه الأتم لأن فيها تسعة أحرف للآحاد، وتسعة أحرف للعشرات، وتسعة أحرف للمئات، وحرف واحد للألف وهذا ما يطلقون عليه حساب (أبجد) وترتيبه: أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت، ثخذ، ضظغ.

6ـ أن اللغة العربية التي تكتب بحروفها واسعة جداً، لذلك نجد أن بعض الحروف ينوب عن بعض، وتجد كثيراً من الكلمات مترادفة المعنى، كما نجد لبعض المسميات كثيراً من الأسماء، وفي هذا ما يسهل على الإنسان طريقة الشعر واتساق النثر ويجعل للكلام وقعاً حسناً وتأثيراً بليغاً.

انتشار الخط العربي:

استطاع الخط العربي في رحلته الطويلة أن ينتشر في كثير من بقاع المعمورة، فقد تلألأ في الجزيرة العربية، وتألقت زهوره في الشام، وملأت عطوره العراق، وفارس والسند وخراسان، واستطاع أن يتغلغل إلى بلاد أرمينية، والقوقاز، وآسيا الصغرى، وأفريقيا والمغرب العربي والسودان، والأندلس وجنوب فرنسة وصقلية، منتشراً كأنه جيش من العلماء الداعين لانتشار الحضارة، واضعاً آثاره الواضحة على كل مظاهر الحياة والناس.

 لقد استطاع الخط العربي في رحلته الطويلة، أن يحل مكان خطوط كثيرة، كانت موجودة في عدد من الأمصار، وأن يسيطر عليها، إما بالتغيير، أو بإلغائها تماماً، كما سادت لغة العرب على لغات محلية سابقة لها. فمن إقليم لآخر، كان الشكل الواحد من الخط العربي يأخذ أشكالاً مختلفة، دون أن تنفصل هذه الأشكال الجديدة على الشكل الأساسي الأصل. فمثلاً، نجد الخط الكوفي الأندلسي، يختلف قليلاً عن الخط الكوفي القيرواني، كما أن هذين الخطين يختلفان عن الخط الكوفي نفسه الذي انتشر في دمشق وبغداد والقوقاز.

 وقد تطورت بعض أساليب الخط وتألقت، كما تخلف بعضها، وتجمد في بلاد أخرى، وذلك بفعل الأشكال الحضارية في مدها وانحسارها، ومن خلال المتغيرات الحضارية استطاع الفنان العربي المسلم أن يطوع المادة التي يكتب بها خطوطه.

 وقد تضافرت جهود الأمم التي انضوت تحت راية الإسلام على تجويد هذا الفن الجميل، وكان المساعد الأكبر على ذلك رغبة المسلمين في تجويد كتابة المصحف الشريف الذي لا يعدله عندهم كتاب، هذا إضافة إلى اتخاذهم الخط حلية لعمارتهم خاصة المساجد.

 وقد ذكر ابن خلدون انتقال الخط للعجم، وسبقه النديم في كتابه الفهرست الذي ذكر الخط الفارسي فقال: “أن الفرس اشتقوا خط التعليق من الخط العربي القيراموز”. ولم يصل إلينا نموذج من القيراموز.

 لقد كان الفرس قبل الإسلام يكتبون بالخط الفهلوي ـ نسبة إلى فهلا ـ، فأبدل بالخط العربي بعد رسوخ الإسلام عندهم، أما اشتقاقهم لخط التعليق المذكور فقد كان نتيجة مزاوجات لأحد الأقلام العربية بانضجاع يسير ليمين اليد في حروفه، وأشهر من وضع قواعد الـ “نستعليق” المركبة من “نسخ تعليق” هو الخطاط “مير علي تبريزي”. وذكر النديم أنه كان: “للفرس سبعة أنواع من الخطوط”، منها كتابة يقال لها: “دين دفيريه”، يكتبون بها الوستاق، وكتابة أخرى تسمى: “ويش دبيريه”، وهي (360) حرفاً، يكتبون بها الفراسة والزجر وخرير الماء وطنين الآذان وإشارات العيون والإيحاء والغمز وما شاكل ذلك، وكتابة ثالثة يقال لها: “كستج”، وهي ثمانية وعشرون حرفاً، يكتب به العهود والقطائع وبها كانت نقوش خواتيم الفرس وطرز ثيابهم وفرشهم وسكة دراهمهم، وكتابة رابعة يقال لها: “نيم كشتج”، وهي ثمانية وعشرون حرفاً، يكتب بها الطب والفلسفة، وكتابة خامسة يقال لها “الشاه دبيريه”، وكانت ملوك الأعاجم يتكاتبون بها فيما بينهم دون العوام، وكتابة الرسائل على ما يجري به اللسان وليس له نقط، وكتابة تدعى “راز سهريه” كانت الملوك تكتب بها الأسرار مع من يريدون من سائر الأمم. وكتابة تدعى “راس سهريه”، يكتب بها المنطق والفلسفة.

 وممن اشتهر من خطاطيهم نجم الدين أبو بكر الراوندي، وقيل أنه كان يجيد سبعين نوعاً من الخطوط، ذكر ذلك صاحب انتشار الخط العربي.

 وقد بلغت فنون الزخرفة والرسم عندهم أوجها في القرن التاسع الهجري، وممن ذاع صيته فيها مير علي تبريزي، وسلطان علي المشهدي في هراة، وهو الذي أدخل التحسينات على الخط الفارسي المذكور، ومير عماد الحسني وغيرهم كثيرون.

 أما رئاسة تعليم الخط فقد انتقلت إلى مصر بعد خراب بغداد، وصارت إلى عفيف الدين وطبقته كما جاء في صبح الأعشى. ثم اشتهر شمس الدين بن أبي رقبة. وعنه أخذ الزفتاوي. وعنه نور الدين الوسيمي، وعنه ابن الصايغ شيخ كتاب مصر في عصره (845هـ)، وله رسالة في تعليم الخط، ثم انتهت إلى تلامذتهم حتى يومنا هذا. كما ذكرهم صاحب حكمة الإشراق.

 قال ابن خلدون: “وطما بحر العمران والحضارة في الدول الإسلامية في كل قطر، وعظم الملك، ونفقت أسواق العلوم، وانتسخت الكتب، وأجيد كتبها وتجليدها، وملئت بها القصور والخزائن الملوكية بما لا كفاء له، وتنافس أهل الأقطار في ذلك وتناغوا فيه، ثم لما انحل نظام الدولة الإسلامية وتناقصت، تناقص ذلك أجمع، ودرست معالم بغداد بدروس الخلافة ـ بغزو المغول ـ، فانتقل شأنها من الخط والكتابة بل والعلم إلى مصر والقاهرة، .. أما الشرق فبحوره زاخرة وإن كانت قد خربت بغداد والبصرة والكوفة إلا أن الله تعالى قد أحل محلها أمصاراً أعظم، وانتقل كل ذلك منها إلى عراق العجم والهند وما وراء النهر من المشرق”.

“وانتقل منها إلى غيرها من الأمصار، ونجد تعليم الخط في هذه الأمصار أبلغ وأسهل وأحسن طريقاً لاستحكام الصنعة فيها ـ كما يحكى عن مصر ـ، وإن بها معلمين منتصبين لتعليم الخط يلقون على المتعلم قوانين وأحكاماً في وضع كل حرف (وفق موازين الحروف المعروفة)، فتجتمع لدى المتعلم رتبتا العلم والحس في التعليم، وتأتي ملكته على أتم الوجوه”.

 وأما في انتقال سند تعليم الخط إلى الأمصار الشرقية والغربية. فقال: “وبعدت رسومه وأوضاعه حتى انتهت إلى المتأخرين، منهم ياقوت والولي العجمي، ووقف سند تعليم الخط عليهم، ثم انتقل ذلك إلى مصر، وخالفت طريقة العراق بعض الشيء، ولقنها العجم هناك، فصارت عند العجم مخالفة لخط أهل مصر”. ومما قيل في تجويد الخط في عصر المماليك في مصر أنه بلغ درجة عالية يشهد بذلك ما وصل إلينا من تصاوير مصاحفهم.

 ولقد أغفلت المصادر ذكر السلجوقيين الذين اشتهروا بتجويد الخطوط، وخاصة أهل تركستان حيث تركوا في مساجدهم وأضرحة عظمائهم كتابات لها شأن عظيم. وصار القدح المعلى في هذا الشأن للعثمانيين، فقد اشتهر منهم الشيخ حمد الله الأماسي (ت926هـ) الذي نهل الخط من منهله العربي الأصيل كما ذكر في ترجمته، ونشأ من تلامذته جيلاً ممتازاً من المجودين، وقد تنوعت سلسلتهم.

لغات عالمية بحروف عربية:

 من البلدان التي تكتب أحرف لغاتها بالرسم العربي: ماليزيا وجاوة ومدغشقر وإيران وأفغانستان والهند وباكستان والمقاطعات الناطقة بالأردية في كشمير وجامو، التي كانت العربية أن تكون لغتها الرسمية حين الاستقلال. وظلت تركيا تستعمل الأبجدية العربية حتى مجيء مصطفى كمال الذي أرغم الأتراك على استعمال الأبجدية اللاتينية، علماً بان الحروف اللاتينية لم تف بالمتطلبات الصوتية، وقد اضطرهم ذلك إلى تعديلها بمزيد من التنقيط والأحرف غير الضرورية.

 واستعملت روسيا الأبجدية العربية طويلاً، وتحولت هي الأخرى على اللاتينية ثم عدلت عنها إلى السلافية. واستعملت إسبانية والعبرية الأبجدية العربية وأفادتا منها كثيراً ولاسيما في الأندلس.

 ونجد اللغة العربية منتشرة أيضاً في أطراف السنغال وأقاليم من الصومال ونيجيريا وكينيا وليبيريا والحبشة وإريتريا وزنجبار وقازان والقرم وداغستان وتركستان وكرجستان وخوارزم والقوقاز وجيبوتي وأذربيجان وروسيا البيضاء ومالطة وسيام والفلبين والصين.

عالمية الخط العربي:

 يتمتع الخط العربي بإمكانيات تشكيلية لا نهائية، فحروفه مطاوعة للعقل وليد الخطاط الحاذق إلى أبعد الحدود لما تتميز به من المد والقصر والاتكاء والأرداف والإرسال والقطع والرجوع والجمع مما لا يتوفر في أي من الخطوط في اللغات الأخرى.

 وهو فن يجمع بين الليونة والصلابة في تناغم مذهل، وتتجلى فيه قوة القلم وجودة المداد المستمدة من النفحات الروحانية التي تهيمن على الخطاط المبدع في لحظة إبداع فلسفي لا تكرر نفسها. فمن ساحة الفكر المخزون يقفز نص جذاب أو حكمة مأثورة أو آية قرآنية كريمة يرافقه تخيل مبدئي لنوع الخط الذي ينبغي أن يكتب به، ومع إعمال الفكر وحث القريحة تبدأ ملامح التكوين الخطي تظهر رويداً رويداً للروح، ثم للعين، ثم تنفذ اليد الإبداع الحقيقي.

 وتمتاز الحروف العربية بأنها تكتب متصلة أكثر الأحيان، وهذا يعطي للحروف إمكانيات تشكيلية كبيرة، دون أن تخرج عن هيكلها الأساسي.

 ولذلك كانت عملية الوصل بين الحروف المتجاورة ذات قيمة مهمة في إعطاء الكتابة العربية جمالية من نوع خاص، من حيث تراصف الحروف وتراكبها وتلاحقها. كما إن المدات بين الأحرف والتي يمكن التكيف في بعض الحروف مثل:( ب، ن، ق، س، ش ) وغيرها تساعد على إعطاء الكتابة العربية تناسقاً ورشاقة عندما تكون هذه المدات متقنة وفي مواضعها الصحيحة. ويمكن أن نلاحظ أن طريقة الوصل بين الحروف تختلف من نوع إلى آخر من أنواع الخط العربي، كما في الديواني والنسخي والكوفي والفارسي، وهذا الاختلاف ناتج عن الأسس المتبعة في كتابة كل خط من هذه الخطوط، إذ نجد الزوايا والخطوط المستقيمة سائدة في أنواع الخط الكوفي، ونجد الأقواس والزوايا في كل من النسخي والثلث، بينما تكون الأقواس الرشيقة والمدات الانسيابية سائدة في الخط الديواني.

 كل ذلك يعطي للكتابة العربية تفرداً في جمالها بين الكتابات العالمية وهذا ما جعلها تدخل في صميم الفنون التشكيلية قديماً وحديثاً.

 وقد انبرى المستشرق “ريتر” أستاذ اللغات الشرقية في جامعة إستانبول في العهدين العثماني والكمالي يدافع عن الكتابة العربية وأخذ يسفه رأي من استبدل الحروف اللاتينية بها، فقد روى بقوله: “أن اللغة العربية أسهل لغات العالم وأوضحها، فمن العبث إجهاد النفس في ابتكار طريقة جديدة لتسهيل السهل وتوضيح الواضح. إن الطلبة قبل الانقلاب الأخير في تركيا كانوا يكتبون ما أمليه عليهم من المحاضرات بالحروف العربية، وبالسرعة التي اعتادوا عليها ـ لأن الكتابة العربية مختزلة من نفسها ـ أما اليوم فإن الطلاب يكتبون ما أمليه عليهم بالحروف اللاتينية، ولذلك فهم لا يفتأون يطلبون إلي أن أعيد على مسامعهم العبارات مراراً، إنهم معذورون ولا شك في ما يطلبون، لأن الكتابة اللاتينية (معقدة) لا اختزال فيها، والكتابة العربية واضحة كل الوضوح، فإذا ما فتحت أي خطاب فلن تجد صعوبة في قراءة أردأ خط به، وهذه هي طبيعة الكتابة العربية التي تتسم بالسهولة والوضوح”.

 ويقول المستشرق “باريت”: “وإن الخطاط ليتحكم في الأحرف التي يكتبها تماماً كما يتحكم الموسيقى في أحاسيسه وهو يصوغ نغماً بذاته”.

هذا من الناحية الاختزالية، أما من الناحية الجمالية فهناك إجماع على تفوق الخط العربي واحتلاله مركز الصدارة بين خطوط العالم، ويروي لنا التاريخ أن الخليفة العباسي الواثق بالله أنفذ ابن الترجمان بهدايا إلى ملك الروم فرآهم قد علقوا على باب كنيستهم كتباً بالعربية فسأل عنها فقيل له: هذه كتب المأمون بخط أحمد بن أبي خلد وقد استحسنوا صورتها فعلقوها.

وذكر الصولي في كتابه “أدب الكاتب” أن سليمان بن وهب كتب كتاباً إلى ملك الروم في أيام الخليفة العباسي المعتمد فقال ملك الروم: “ما رأيت للعرب شيئاً أحسن من هذا الشكل، وما أحسدُهم على شيء حسدي على جمال حروفهم”، وكان ملك الروم لا يقرأ الخط العربي وإنما راقه باعتداله وهندسته.

ويقول الخليفة العباسي المأمون: “لو فاخرتنا الملوك الأعاجم بأمثالها لفاخرناها بما لنا من أنواع الخط، يقرأ في كل مكان، ويترجم بكل لسان، ويوجد في كل زمان”.

إن الحروف العربية قد خدمها علماء العرب المسلمين خدمة جليلة بحيث لا يتطرق إليها خلل، ولا يطرأ عليها تغيير، فعلماء القراءات الأجلاء لم يكتفوا بقراءة القرآن الكريم الذي هو بلسان عربي بمجرد النظر إلى صور الحروف التي هي عربية أيضاً، وإنما وضعوا لقراءتها قواعد تحفظ اللسان من الخطأ في نطق الحروف وألقابها وصفاتها وما يفخم منها، وما يرقق، وما يدغم.

 وما أحسن وأدق قول العالم العربي الكندي:” لا أعلم كتابة تحتمل من تحليل حروفها وتدقيقها ما تحتمل الكتابة العربية، ويمكن فيها من السرعة ما لا يمكن في غيرها من الكتابات”.

أثر الخط العربي في الفنون الغربية:

 ولقد ظهر تأثير الخط العربي في أوربا منذ القرن الثامن الميلادي وانتشر في أماكن كثيرة منها، وبخاصة في صقلية وإيطاليا وأسبانيا وغرب فرنسة، ويبدو واضحاً في قطعة من العملة الذهبية باسم الملك “أوقا” (757ـ796م) ملك مرسية وهي تشتمل على كتابة نصها: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له”.

 وأيضاً يبدو في ربع دينار باسم الملك “غليالم” (1154ـ1166م) ملك صقلية جاء على وجهه كتابة بالخط الكوفي نصها: “الملك غليالم المستعين بالله”، وبمتحف القصر في مدينة فيينا بالنمس توجد عباءة تتويج “روجر الثاني” (1130ـ1154م) ملك صقلية ويزين حافتها شريط من الخط الكوفي.

 ويعد الفنان “جيوتو” (1276ـ1337م) من أوائل الفنانين الأوروبيين الذين استخدموا الخط العربي كعنصر زخرفي في لوحاتهم.

 كما يوجد في متحف اللوفر بباريس كراسة للفنان “بيزانلو” الإيطالي (1395ـ1455م) وبه كتابة بالخط النسخ المملوكي، ويتضح أيضاً تأثير الخط العربي في لوحة “تبجيل المجوسي” للفنان “جنتلي دافبريانو” (1370ـ1427م) إذ يزين وشاحاً يرتديه أحد شخوص اللوحة بالكتابات العربية.

 كذلك استخدم المصور الفلورنسي “فيلبوليبي” (1406ـ1469م) الكتابة العربية كزخرفة على ثياب الأشخاص التي يرسمها.

 وقد استفاد النحات الفلورنسي أيضاً “فيروكيو” (1453ـ1488م) أستاذ ليوناردو دافنشي من الخط العربي في زخرفة لوحة تبجيل الملوك المحفوظة في فلورنسا، وكذلك في تمثاله “داود” المحفوظ في البارجيلو بفلورنسا.

 وفي ألمانيا رسم المصور “هانز هولبان” (1479ـ1543م) عديداً من اللوحات التي تظهر فيها سجاجيد مزخرفة بالخط العربي والكوفي.

 وفي مستهل القرن العشرين، وحينما انتشرت التجريدية بمفهومها الجمالي البحت، بدا الحرف العربي من أجمل الصيغ الشكلية المجردة ذات التناسق التشريحي والتركيبي بالنسبة إلى إنسان لا يفقه دلالة ذلك الحرف المعنوية.

وهكذا ظهر من الفنانين التجريدين المعاصرين في أوروبا من استخدم الحرف العربي في توليف أشكاله الجمالية ذات المذاق المتفرد الخاص، كما نرى مثلاً عند “بول كلي” و”نالارد” و “وهوفر” و “توبي” مستخدمين فقط الشكل دون المحتوى المعنوي.

وفي الوطن العربي ومنذ بداية الستينات من القرن العشرين، بدأت تنمو حركة تميزت بالتنوع والخصوبة نزع فيها بعض فنانينا التشكيليين نحو استلهام أشكال الخط العربي في توليف أعمال تنوعت بين الاستغلال الإبداعي لتقوسات وتلافيف الحروف العربية في إبداع أشكال جمالية بحتة، وبين التحوير في أشكال الحروف بغية الوصول من خلال ذلك إلى شكل جمالي جديد، يتميز بمواكبة روح التصوير المعاصر وإيقاعاته الموائمة لإيقاع العصر، بجوار سهولة استخدام تلك الحروف بشكل تطبيقي.

خاتمة:

 إن الفنون الجميلة عند العرب بكافة فروعها، الفن المعماري والزخرفة وفن الخط، تلك الصناعة التي أدهشت العالم ووضعتها أمام جوهر المبدع المنطلق من الجمال الإلهي والممتزج بالقدرة البشرية كانت تلك الفنون محط إعجاب وتقدير في العالم قاطبة، ولكن اليوم وبعد ظهور أجهزة الحاسوب التي جعلت معظم الناس خطاطين، علماً بان الكثيرين منهم لا يتصلون من قريب أو بعيد بفن وعلم الخط تراجع الاهتمام بهؤلاء الفنانين المبدعين غير أنه لم ينطفئ تماماً التأثير الكبير والمكانة العظيمة للخط العربي في الفن الإسلامي، إذ كان الوازع الداخلي في الحث على ممارسته وابتكار أساليب جديدة وأنواع مترادفة تدخل جميعها في الإطار المخصص لها بقواعد الخط، حيث الجمال الأخاذ، والروحانية التي تعطي للعين حنين الكتابة، ولليد ظمأ المداد، وللقصبة مشارف من روائع الحرف والكلمة والتشكيل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* (https://2u.pw/gCtrs).

المحتوى القرآني
وسيط
مهتم: 2019-10-22 16:25:15
2021-02-18 20:47:25

المصحف الشريف والتجديد الفني للخط العربي *

 

بقلم/ عبد الغني محمد عبد الله

 

الخط القيراوني والمصحفي القديم

للقرآن الكريم أثر عظيم في نفوس المسلمين، فهو كتاب الله، أصل كل الأصول، يحفظونه ويتبركون به، يتحصنون ويتداوون بآياته، ويأخذون بأحكامه، وحرص المسلمون جميعاً على أن يكون في أجمل صورة، وأبهى حلة، وانكب الخطاطون والمجلدون والمذهبون عليه إبداعاً في إخراجه، حتى أصبح أعظم رونقاً، وأجمل شكلاً وأكثر جلالاً، وكان سبباً في تطوير وتجويد الكتابة العربية خطوطاً ونقوشاً، فصار الخط العربي أحد أهم الوحدات الزخرفية الفنية الإسلامية، ليس هذا فقط، بل امتد أثره ليشمل كل جوانب وميادين الفن الإسلامي.

كان نزول القرآن الكريم بلهجة قريش دليلاً على سيادة هذه اللهجة بين العرب، نزل وحياً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول يبلغه إلى الصحابة فور نزوله، فيكتبه كتبة الوحي، ويتسابق الباقون بحفظه عن ظهر قلب، تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة أمين الوحي جبريل، ويسارع كتبـة الوحي بتسجيله أمامه، ومن أشهــرهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير ومعاوية وزيد بن ثابت وعامر بن فهيرة وعمرو بن العاص، وقيل إن عددهم 26 كاتباً، وفي قول أخر 42.

ارتبط المصحف بعدة أمور في حياة المسلم، يمكن لنا أن نفصلها على مستويين:

أولهما مستوى روحي يتعلق بكلماته ودلالاتها، وثانيهما مادي يتعلق بصنعته من ورق وتجليد وخط وكتابة وزخرفة، وغير ذلك من الأعمال الفنية، وهنا يمكن لنا النظر في عدة أمور منها، المواد المستخدمة، الخطوط العربية، إعجام اللغة العربية، جمع نصوص القرآن الكريم والزخارف المصاحبة. ومن تلك الأمور نستطيع أن نحكم على تاريخ أمة الإسلام وخاصة في جوانب تمدنها وتحضرها وذلك للارتباط الشديد بين المصحف الشريف وبين ما أنتجته يد السلم، وما تفتق عنه ذهنه وإبداعه أصالة وفناً.

كان للمصاحف – وما زال- أثر مهم على العمارة الإسلامية؛ فقد جاءت الزخارف على العمائر مماثلة لتلك التي على المصاحف، بدليل أن المصاحف المغربية تختلف زخارفها عن تلك التي كتبت وزخرفت في شرق العالم الإسلامي؛ ولذا فإننا نجد أن العمارة المغربية مختلفة عن مثيلتها في شرق العالم الإسلامي وبنفس درجة الاختلاف في زخرفة المصاحف.

علم “الكتابات العربية” علم حديث له صلة وثيقة بالدراسات الأثرية ، ويمكن النظر إلى الكتابات العربية الأثرية من كونها:

1) كتابات على مواد صلبة مثل الحجر والخشب والرخام وتسمى “نقوشاً”.

2) كتابات على مواد لينة مثل الرق والبردى والورق وتسمى “خطوطاً”. وعموماً فالبحوث في موضوع الكتابات قليلة، إلا أن آيات القرآن الكريم قد احتلت موقعاً متقدماً سواء في النقوش أو في الخطوط.

فالقرآن الكريم لم نجده فقط حبيس المصاحف والصناديق، ولكنه وجد مكتوباً على البيوت والمساجد وقطع الأثاث، وهناك مساجد نقش عليها القرآن كاملاً لتكون مصاحف ومساجد في آن واحد، وقد ظل القرآن عند المسلم آيات تُقرأ وتسمع ويؤخذ بمحتواها وينتهي عما تنهى عنه، وكان يقرأ في البيوت، وفي مداخل المنازل كنا نلاحظ دكة مخصصة لقارئ القرآن، حيث يأتي كل صباح ليقرأ بعض ما تيسر منه في ترتيب يومي دائم، كما أنه لا يجوز إغفال أن القرآن الكريم قد وجد مكتوباً أول الأمر على العسب والأكتاف واللخاف والأقتاب والرقاع وقطع الأديم والنسيج.

وعلى أي الأحوال فالدراسات عن الكتابات الأثرية الإسلامية على المواد الصلبة “النقوش” أصابت نجاحاً بينما الدراسات على المواد اللينة “الخطوط” لا تزال -رغم كثرتها- في بداية الطريق (تقريباً).

جمع نصوص القرآن الكريم

يوم اليمامة استشهد عدد غير قليل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفظة القرآن الكريم، وقد تنبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو وقتذاك من أبرز الوجوه في الدولة الإسلامية الفتية لهذا الأمر، وخشي ضياع القرآن الكريم بموت حفظته، فذهب إلى الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وطرح أمامه مخاوفه واقتراحاته، وانتهى الأمر باستدعاء زيد بن ثابت وتم تعيينه رئيساً للجنة طلب منها جمع القرآن الكريم، ونجح -زيد- في مهمته وحفظ ما تم تدوينه في دار أبي بكر، ثم نقل إلى دار عمر وبعد استشهاده أودع عند أم المؤمنين “حفصة بنت عمر”، وهكذا كان الجمع الأول، أو جمع أبي بكر، أو “الجمع البكري”.

عمر بن الخطاب خلال فترة خلافته تشدد مع الصحابة ومنعهم من الانتقال إلى الأمصار الإسلامية. إلا أن عثمان بن عفان كان ليناً معهم بعد استشهاد عمر، فانتقلوا إلى الأمصار، فالتف حولهم السكان وتكونت الأحزاب الإسلامية، وحدث تأثير آخر تمثل في أن بدأ المسلمون في كل ولاية يقرؤون القرآن وفق رواية من نزل بينهم من الصحابة، فأهل الكوفة قرؤوا عن عبد الله بن مسعود، وأهل البصرة تأثروا بقراءة أبي موسى الأشعري، وأهل دمشق قرؤوا مثل قراءة المقداد بن الأسود بينما باقي أهل الشام كانت قراءتهم مثل أبي بن كعب، وحدث خلاف بين كل تلك القراءات.

تطور الأمر بعد غزو أرمينيا سنة 25هـ، إذ حدث خلاف بين أهل الشام وأهل العراق، فتلاعنوا وكفَّر بعضهم بعضاً، وأسرع حذيفة بن اليمان الأنصاري إلى المدينة المنورة حيث أطلع الخليفة عثمان على ما رأى وما سمع واستشار عثمان الصحابة، وتم الاتفاق على ضرورة جمع الناس على مصحف واحد، وأرسل عثمان إلى السيدة حفصة في طلب الصحف المحفوظة لديها، وتكونت لجنة برئاسة زيد بن ثابت ضمت في عضويتها سعيد بن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث، وقاموا بنسخ عدة نسخ سميت بمصاحف الإمام أو المصاحف العثمانية الأئمة، قيل إنها كانت أربعاً، وقيل خمس وقيل سبع وروى البعض أنها ست نسخ، أرسل منها أربع نسخ إلى أربع مدن هي البصرة والكوفة ومكة المكرمة، ونسخة إلى الشام، أما الخامسة فقد بقيت في المدينة المنورة طيبة الطيبة. والنسخة السادسة احتفظ بها عثمان لنفسه، وسمي عثمان بن عفان تبعاً لذلك باسم “جامع القرآن” ويعتبر مصحف عثمان أو المصحف الإمام من أكبر كنوز الفن الإسلامي.

الخطوط

كتبت المصاحف في بداية الأمر بخطوط مربعة ذات زوايا “الخط المكي”، إلا أنها ومنذ خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كتبت بالخط الكوفي واستمرت المصاحف تكتب بهذا الخط طوال القرون الأربعة التالية، وكان من بين أسباب استخدام هذا الخط ما أمكن توليده من زخارف فيه، مما يعطي جلالاً لخطوط القرآن الكريم يتفق وقدسيته، ويمكن لنا التعرف على عدة أنواع من الخط الكوفي “بسيط بدون زخارف، مورق أي خط منقوش على أرضية بها زخارف نباتية، مزهر أي تخرج من حروفه فروع نباتيه بها أزهار، ومضفور أي تشتبك الألف واللام على هيئة ضفيرة”، وكانت الخطوط راسخة رصينة دلالة على رسوخ القرآن الكريم ورصانته.

تطور الأمر إلى بعض الليونة “كوفي إيراني” ارتبط في أحيان كثيرة بالخطوط في المغرب والأندلس وتولد منه الخط المغربي، وهو خط يميل إلى الليونة والتدوير وأسهل في القراءة والكتابة.

يذهب البعض إلى أن الأقلام أو الخطوط تولدت عن الخط الكوفي المربع، ولكن الحقيقة أن الخطوط التي انتهت إلى الحجاز كانت نوعين:

1) خط جاف يابس و زوايا مولد من خطوط عبرانية مستنبطة من خط آرامي مربع وقد عرفه الأنباط وكتبوا به حوادثهم.

2) خط مستدير أو لين -مقور- كان يكتب به المراسلات والأخبار اليومية، وقد وصفه ابن النديم في الفهرست “كانت الخطوط العربية أنواعاً: المدور والثلث والتئيم” ومعنى هذا أن العرب قد عرفوا الخط المستدير.

 استمر الوضع كذلك بالنسبة للمصاحف وهي أول النصوص الكتابية الأثرية الإسلامية المهمة إلى أن ظهر نوع آخر من الخطوط من اختراع وابتكار الأتابكة هو الخط النسخ.

وبدأ المماليك بعد ذلك يكتبون بالخط الطوماري والطومار عبارة نصف ملف (درج) والملف أو الدرج يتكون من 20 جزءاً من البردي أو الورق يلصق بعضها ببعض في وضع أفقي ثم يلف على هيئة أسطوانة ويكتب عليه بخط النسخ الكبير والذي عرف باسم “خط الطومار”، اتفق على أنه الخط الحجازي اللين، وظهر منه الخط المحقق، أما الخط الثلث فقد أطلقت عليه هذه التسمية لأن حجمه يساوي ثلث حجم النسخ الكبير الذي كتب به على الطومار، ثم ظهر بعد ذلك الخط الريحاني الذي تطول فيه الألف واللازم مثل أعواد الريحان.

والخط النسخ يكاد يكون خط جميع المصاحف المطبوعة والمنتشرة هذه الأيام وهي في أصلها مخطوطات لكبار الخطاطين مثل: الحافظ عثمان، ومصطفى نظيف المعروف باسم قدروغلي وغيرها، وقد تبارى الخطاطون في كتابة القرآن الكريم حتى تعددت الأقلام وتنوعت الخطوط وأصبح الخط فناً متميزاً.

وعلى وجه العموم فقد ظهرت 6 أقلام في عهد الخليفة المستعصم هي ” خط النسخ -الخط المحقق- الخط الثلث- الخط الريحاني- خط التوقيع – خط الرقعة” وقد حذقها جميعاً “ياقوت الرومي” الذي عرف بالمستعصمي وقد اتخذه العثمانيون إماماً لهم في خط النسخ وأطلق عليه لقب “قبلة الكتاب” كما أن هذا اللقب قد أطلق أيضاً على الخطاط العثماني “حمد الله الأماسي” هذا ولا ننسى دور أشهر من كتبوا القرآن الكريم بالخط النسخ وعلى رأسهم “ابن مقلة” و”ابن البواب”.

الإعجام

الكتابة العربية في أول الأمر كانت بلا نقط “إعجام” ولا شكل وكانت بعض الحروف متشابهة، مثل الباء والتاء والثاء والسين والشين والصاد والضاد وغير ذلك مما هو معروف في اللغة العربية التي تتميز عن بعضها البعض بإضافة نقط فوق أو أسفل الحرف لتمييزه عن المتشابه معه، وكان العرب أقدر على كتابتها وقراءتها في شكلها المجرد من النقط بشكل صحيح، إلا أن الأمر قد اختلف بعد الفتوح الإسلامية ودخول شعوب جديدة في الإسلام واختلاط العرب بالأعاجم فقد تفشي اللحن في نطق اللغة العربية بسبب عدم تمكن هذه الشعوب من اللغة العربية وكان لا بد من وضح حد لذلك.

أولى مراحل الإعجام قام بها “أبو الأسود الدؤلي” بتكليف من “زياد بن أبيه” حيث أضاف التشكيل بالنقط إلى الحروف وبمداد لونه أحمر مخالف للون مداد الكتابة، الفتحة نقطة فوق الحرف والكسرة نقطة أسفله والضمة نقطة أمام الحرف وبين يديه، أما التنوين فكان نقطتين إحداهما فوق الأخرى.

ثانية هذه المراحل قام بها “نصر بن عاصم الليثي” و”يحيى بن يعمر العدواني” حيث تم إعجام الحروف المتشابهة بإضافة نقط من نفس لون مداد الكتابة فوق الحرف أو تحته، فمثلاً أضيفت نقطة أسفل الباء ونقطتان فوق التاء وثلاث فوق الثاء تركت السين وتميزت الشين عنها بإضافة ثلاث نقط فوقها، وهكذا.

 أما المرحلة الثالثة فهي التي أتمها “الخليل بن أحمد الفراهيدي” حينما استبدل بنقط “أبي الأسود” ذات اللون الأحمر الشكل الذي نعرفه الآن: “الفتحة والكسرة والضمة والتنوين، مع استحداث الشدة والسكون والهمزة والمدة” بمداد من نفس لون الكتابة، وأصبح الإعجام بالنقط وحركات الشكل بمثابة حماية كاملة للغة العربية من اللحن والابتعاد بكلام الله عن اللبس والنطق الخاطئ أو القاصر، هذا بالإضافة إلى أن حركات الشكل استخدمت زخرفاً للخطوط نفسها مما أضفى على الكتابة البهاء والروعة فضلاً عن الجلال والوقار.

الترقيم

وحتى يمكن ختم قراءة القرآن الكريم في ثلاثين ليلة، قُسّم القرآن إلى ثلاثين جزءاً، وتولى الخطاطون كتابة كل جزء على حدة وأطلق على المجموع اسم “ربعة” وقسم الجزء إلى حزبين، والحزب إلى أربعة أقسام سمي كل قسم منه “مربعاً”. ولترقيم الآيات جمعوا كل خمس آيات معاً، وأشاروا إلى ذلك في الهامش بلفظة “خمس” أو”خ”،وكل عشر آيات “عشر” أو “ع” ودلالة على خمس آيات وعشر آيات،وبعض المصاحف كتب حرف “هـ” يتكرر كل خمس آيات، في موضع فواصل الآيات رمزاً إلى رقم خمس في حساب الجمل، أما ترقيم نهايات الآيات فتم في وقت متأخر واستمر للآن.

الزخرفة

تزيين المصحف استمر بشكل متواصل على طول التاريخ الإسلامي، استخدمت الوحدات الهندسية والنباتية والكتابية في الزخرفة بشكل متناسق وإيقاع طروب وتكامل لوني مما يعطي للمصحف الشريف شكلاً رائعاً ووقوراً في الوقت نفسه. واتجهت الحاسة الفنية إلى مدى بعيد في زخرفة المصحف واستخدمت زخارف الأرابيسك في تجميل المصحف وتزيينه، ويطلق عليه أحياناً اسم “فن التوشيح” أو “الرقش العربي” كما استخدم بعض نقاد الفن لفظ (العَرَبسة) في وصف هذا النوع من الزخرفة.

ونلاحظ أيضاً أن هذه الزخارف التي استخدمت في تجميل المصحف قد استخدمت في تزيين وتجميل الجدران والأسقف والقباب والعقود الإسلامية، مما يؤكد أثر المصحف الشريف في تطوير الفنون الإسلامية بميادينها المختلفة.

بعض الفنانين قاموا بزخرفة المصحف جميعه، وبعضهم اكتفى بزخرفة صفحات كاملة منه مثل صفحات الفاتحة وأول سورة البقرة، وحول سور الإخلاص والفلق والناس، وأحياناً حول سور الشورى والإسراء ويس وسورة ق. وكان الحرص دائماً على تجميل بداية المصحف وآخره دلالة على أن المصحف تضمه دفتان آية في الجمال والجلال.

ناهيك عن تلك الزخارف في الهوامش مثل الزهيرات والسعيفات والنجيمات والتي تدل على مواضع انتهاء الأجزاء والأحزاب والأرباع وفي مواضع السجدات إضافة إلى تلك الفواصل الزخرفية لتحديد الآيات وأرقامها أو المستطيلات الزخرفية للفصل بين السور المتعاقبة والتي تشتمل على اسم السورة ومكان نزولها وعدد آياتها.

التجليد

حفظ المصحف وأوراقه من التناثر والعطب أمر دفع إلى تجليد المصحف وقد تبارى المجلدون في إضافة جمال فني إلى جلدة المصحف وتزيينها الأمر الذي جعل هذه الجلود لوحات فنية سواء من الداخل أو من الخارج، وقد صنعت الجلود من الرق أو الورق أو الجلد وقد مرت عملية التجليد بعدة مراحل:

1) تقصير الجلد أي إزالة اللون الطبيعي بواسطة مادة معينة هي عبارة عن طين مجبول من تراب جذور شجر البلوط.

2) تزيين الجلد أو رقشه بالأرابسك بزخارف منوعة باستخدام طلاء الذهب أو طبعه بأختام ساخنة بورق الذهب.

3) تقوية هذه الجلود بدلكها بشمع النحل العذري وهو أمر يكسبها سطحاً براقاً قوياً ناعماً.

ولذلك فالمصحف يصان في غلاف بنفس الجمال والجلال، ولبعض أغلفة المصاحف لسان لتعليم الصفحات ولحماية المصحف، كما لا ننسى أن بعض المصاحف لها صناديق مزخرفة ومزينة بقصد الحماية للمصحف بكامله ورقاً وغلافاً، وتعتبر هذه الصناديق ثروة فنية وهي الأخرى آية من الفن والجمال.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* موقع: (https://2u.pw/If22E).